الأحد، 1 أغسطس 2021

9 البداية والنهاية تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

 

:      9       البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

مُشْرِكٍ عَهْدًا وَلَا عَقْدًا أَبَدًا. وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ:
مَا عِلَّتِي وَأَنَا جَلْدٌ نَابِلُ وَالْقَوْسُ فِيهَا وَتَرٌ عُنَابِلُ
تَزِلُّ عَنْ صَفْحَتِهَا الْمَعَابِلُ الْمَوْتُ حَقٌّ وَالْحَيَاةُ بَاطِلُ
وَكُلُّ مَا حَمَّ الْإِلَهُ نَازِلُ بِالْمَرْءِ وَالْمَرْءُ إِلَيْهِ آيِلُ
إِنْ لَمْ أُقَاتِلْكُمْ فَأُمِّي هَابِلُ
وَقَالَ عَاصِمٌ أَيْضًا:
أَبُو سُلَيْمَانَ وَرِيشُ الْمُقْعَدِ وَضَالَةٌ مِثْلُ الْجَحِيمِ الْمُوقَدِ
إِذَا النَّوَاحِي افْتُرِشَتْ لَمْ أُرْعَدِ وَمُجْنَأٌ مِنْ جِلْدِ ثَوْرٍ أَجْرَدِ

وَمُؤْمِنٌ بِمَا عَلَى مُحَمَّدِ
وَقَالَ أَيْضًا:
أُبُو سُلَيْمَانَ وَمِثْلِي رَامَى وَكَانَ قَوْمِي مَعْشَرًا كِرَامَا
قَالَ: ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَقُتِلَ صَاحِبَاهُ، فَلَمَّا قُتِلَ عَاصِمٌ أَرَادَتْ هُذَيْلٌ أَخْذَ رَأْسِهِ ; لِيَبِيعُوهُ مِنْ سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ شُهَيْدٍ وَكَانَتْ قَدْ نَذَرَتْ حِينَ أَصَابَ ابْنَيْهَا يَوْمَ أُحُدٍ؛ لَئِنْ قَدَرَتْ عَلَى رَأْسِ عَاصِمٍ لَتَشْرَبَنَّ فِي قِحْفِهِ الْخَمْرَ، فَمَنَعَتْهُ الدَّبْرُ - هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ بَعْدَ وَصُولِ خُبَيْبٍ، وَزَيْدِ بْنِ الدَّثِنَةِ إِلَى مَكَّةَ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنْسَبُ - قَالَ: فَلَمَّا حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ قَالُوا: دَعُوهُ حَتَّى يُمْسِيَ فَتَذْهَبَ عَنْهُ فَنَأْخُذَهُ. فَبَعَثَ اللَّهُ الْوَادِيَ، فَاحْتَمَلَ عَاصِمًا فَذَهَبَ بِهِ، وَقَدْ كَانَ عَاصِمٌ قَدْ أَعْطَى اللَّهَ عَهْدًا أَنْ لَا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ، وَلَا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا ; تَنَجُّسًا، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ الدَّبْرَ مَنَعَتْهُ: يَحْفَظُ اللَّهُ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ، كَانَ عَاصِمٌ نَذَرَ أَنْ لَا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ، وَلَا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا فِي حَيَاتِهِ، فَمَنَعَهُ اللَّهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَمَا امْتَنَعَ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَمَّا خُبَيْبٌ، وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَارِقٍ فَلَانُوا وَرَقُّوا وَرَغِبُوا فِي الْحَيَاةِ، وَأَعْطَوْا بِأَيْدِيهِمْ فَأَسَرُوهُمْ، ثُمَّ خَرَجُوا بِهِمْ إِلَى مَكَّةَ لِيَبِيعُوهُمْ بِهَا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالظَّهْرَانِ انْتَزَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَارِقٍ يَدَهُ مِنَ الْقِرَانِ، ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ، وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُ الْقَوْمُ، فَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَبْرُهُ بِالظَّهْرَانِ وَأَمَّا خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ، وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ فَقَدِمُوا بِهِمَا مَكَّةَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَبَاعُوهُمَا مِنْ قُرَيْشٍ بِأَسِيرَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ كَانَا بِمَكَّةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَابْتَاعَ خُبَيْبًا، حُجَيْرُ بْنُ أَبِي إِهَابٍ التَّمِيمِيُّ حَلِيفُ بَنِي نَوْفَلٍ لِعُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَكَانَ أَبُو إِهَابٍ أَخَا الْحَارِثِ بْنِ عَامِرٍ لِأُمِّهِ ; لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ. قَالَ: وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ فَابْتَاعَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، ; لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ، فَبَعَثَهُ مَعَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ: نِسْطَاسٌ. إِلَى التَّنْعِيمِ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلَهُ، وَاجْتَمَعَ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا زَيْدُ، أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا عِنْدَنَا الْآنَ مَكَانَكَ نَضْرِبُ عُنُقَهُ، وَأَنَّكَ فِي أَهْلِكَ ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا الْآنَ فِي

مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ وَإِنِّي جَالِسٌ فِي أَهْلِي. قَالَ: يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا. قَالَ: ثُمَّ قَتَلَهُ نِسْطَاسٌ. قَالَ: وَأَمَّا خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ، فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ أَنَّهُ حُدِّثَ عَنْ مَاوِيَّةَ مَوْلَاةِ حُجَيْرِ بْنِ أَبِي إِهَابٍ، وَكَانَتْ قَدْ أَسْلَمَتْ، قَالَتْ: كَانَ خُبَيْبٌ عِنْدِي، حُبِسَ فِي بَيْتِي، فَلَقَدِ اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ يَوْمًا، وَإِنَّ فِي يَدِهِ لَقَطْفًا مِنْ عِنَبٍ مِثْلَ رَأْسِ الرَّجُلِ يَأْكُلُ مِنْهُ، وَمَا أَعْلَمُ فِي أَرْضِ اللَّهِ عِنَبًا يُؤْكَلُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَعَبْدُ اللَّهُ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ أَنَّهُمَا قَالَا: قَالَتْ: قَالَ لِي حِينَ حَضَرَهُ الْقَتْلُ: ابْعَثِي إِلَيَّ بِحَدِيدَةٍ أَتَطَهَّرُ بِهَا لِلْقَتْلِ. قَالَتْ: فَأَعْطَيْتُ غُلَامًا مِنَ الْحَيِّ الْمُوسَى، فَقُلْتُ لَهُ: ادْخُلْ بِهَا عَلَى هَذَا الرَّجُلِ الْبَيْتَ. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ إِنْ هُوَ إِلَّا أَنْ وَلَّى الْغُلَامُ بِهَا إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: مَاذَا صَنَعْتُ ؟ أَصَابَ وَاللَّهِ الرَّجُلُ ثَأْرَهُ بِقَتْلِ هَذَا الْغُلَامِ، فَيَكُونُ رَجُلًا بِرَجُلٍ. فَلَمَّا نَاوَلَهُ الْحَدِيدَةَ أَخَذَهَا مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَعَمْرُكَ مَا خَافَتْ أُمُّكَ غَدْرِي حِينَ بَعَثَتْكَ بِهَذِهِ الْحَدِيدَةِ إِلَيَّ. ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَيُقَالُ: أَنَّ الْغُلَامَ ابْنُهَا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ عَاصِمٌ: ثُمَّ خَرَجُوا بِخُبَيْبٍ حَتَّى جَاءُوا بِهِ إِلَى التَّنْعِيمِ لِيَصْلُبُوهُ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تَدَعُونِي حَتَّى أَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ فَافْعَلُوا. قَالُوا: دُونَكَ فَارْكَعْ. فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ أَتَمَّهُمَا وَأَحْسَنَهُمَا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي إِنَّمَا طَوَّلْتُ جَزَعًا مِنَ الْقَتْلِ، لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الصَّلَاةِ. قَالَ: فَكَانَ خُبَيْبٌ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ لِلْمُسْلِمِينَ.
قَالَ: ثُمَّ رَفَعُوهُ عَلَى خَشَبَةٍ، فَلَمَّا أَوْثَقُوهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا قَدْ بَلَّغْنَا رِسَالَةَ رَسُولِكَ، فَبِلِّغْهُ الْغَدَاةَ مَا يُصْنَعُ بِنَا. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ احْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بِدَدًا، وَلَا تُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا. ثُمَّ قَتَلُوهُ. وَكَانَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ يَقُولُ: حَضَرْتُهُ يَوْمَئِذٍ فِيمَنْ حَضَرَهُ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يُلْقِينِي إِلَى الْأَرْضِ فَرَقًا مِنْ دَعْوَةِ خُبَيْبٍ وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا دُعِيَ عَلَيْهِ فَاضْطَجَعَ لِجَنْبِهِ، زَلَّتْ عَنْهُ.
فَائِدَةٌ: قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَإِنَّمَا صَارَتِ الرَّكْعَتَانِ سُنَّةً - يَعْنِي عِنْدَ الْقَتْلِ - لِأَنَّهَا فُعِلَتْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقَرَّ عَلَيْهَا، وَاسْتُحْسِنَتْ مِنْ صَنِيعِهِ. قَالَ: وَقَدْ صَلَّاهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ سَاقَ بِإِسْنَادِهِ مِنْ طَرِيِقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ

عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ بَغْلًا مِنَ الطَّائِفِ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ الْمُكْرِي أَنْ يُنْزِلَهُ حَيْثُ شَاءَ، فَمَالَ بِهِ إِلَى خَرِبَةٍ، فَإِذَا بِهَا قَتْلَى كَثِيرَةٌ، فَلَمَّا هَمَّ بِقَتْلِهِ قَالَ لَهُ زَيْدٌ: دَعْنِي حَتَّى أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، لَطَالَمَا صَلَّى هَؤُلَاءِ فَلَمْ تَنْفَعْهُمْ صَلَاتُهُمْ شَيْئًا. قَالَ: فَصَلَّيْتُ ثُمَّ جَاءَ لِيَقْتُلَنِي، فَقُلْتُ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. فَإِذَا صَارِخٌ يَقُولُ: لَا تَقْتُلْهُ. فَهَابَ وَذَهَبَ يَنْظُرُ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ جَاءَ لِيَقْتُلَنِي فَقُلْتُ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. فَسَمِعَ أَيْضًا الصَّوْتَ يَقُولُ: لَا تَقْتُلْهُ. فَذَهَبَ لِيَنْظُرَ ثُمَّ جَاءَ فَقُلْتُ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. فَإِذَا أَنَا بِفَارِسٍ عَلَى فَرَسٍ، فِي يَدِهِ حَرْبَةٌ فِي رَأْسِهَا شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ، فَطَعَنَهُ بِهَا حَتَّى أَنْفَذَهُ فَوَقَعَ مَيِّتًا. ثُمَّ قَالَ: لَمَّا دَعَوْتَ اللَّهَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى كُنْتُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَلَمَّا دَعَوْتَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كُنْتُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَلَمَّا دَعَوْتَهُ فِي الثَّالِثَةِ أَتَيْتُكَ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَقَدْ صَلَّاهَا حُجْرُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْأَدْبَرِ حِينَ حُمِلَ إِلَى مُعَاوِيَةَ مِنَ الْعِرَاقِ وَمَعَهُ كِتَابُ زِيَادِ بْنِ أَبِيهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ خَرَجَ عَلَيْهِ وَأَرَادَ خَلْعَهُ، وَفِي الْكِتَابِ شَهَادَةُ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ، مِنْهُمُ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: أَوَأَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ؟ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ قَتْلِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ: وَقَدْ عَاتَبَتْ عَائِشَةُ مُعَاوِيَةَ فِي قَتْلِهِ، فَقَالَ: إِنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: دَعِينِي وَحُجْرًا، فَإِنِّي سَأَلْقَاهُ عَلَى الْجَادَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَتْ: فَأَيْنَ ذَهَبَ عَنْكَ حِلْمُ أَبِي

سُفْيَانَ ؟ قَالَ: حِينَ غَابَ عَنِّي مِثْلُكِ مِنْ قَوْمِي.
وَفِي مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: أَنَّ خُبَيْبًا، وَزَيْدَ بْنَ الدَّثِنَةِ قُتِلَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُمِعَ يَوْمَ قُتِلَا وَهُوَ يَقُولُ: " وَعَلَيْكُمَا - أَوْ عَلَيْكَ - السَّلَامُ خُبَيْبٌ قَتَلَتْهُ قُرَيْشٌ ".
وَذَكَرَ أَنَّهُمْ لَمَّا صَلَبُوا زَيْدَ بْنَ الدَّثِنَةِ رَمَوْهُ بِالنَّبْلِ لِيَفْتِنُوهُ عَنْ دِينِهِ، فَمَا زَادَهُ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا. وَذَكَرَ عُرْوَةُ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَفَعُوا خُبَيْبًا عَلَى الْخَشَبَةِ، نَادَوْهُ يُنَاشِدُونَهُ: أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا مَكَانَكَ ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ الْعَظِيمِ، مَا أُحِبُّ أَنْ يَفْدِيَنِي بِشَوْكَةٍ يُشَاكَهَا فِي قَدَمِهِ. فَضَحِكُوا مِنْهُ. وَهَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ الدَّثِنَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: زَعَمُوا أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ دَفَنَ خُبَيْبًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَنَا قَتَلْتُ خُبَيْبًا ; لِأَنِّي كُنْتُ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ أَبَا مَيْسَرَةَ أَخَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ أَخَذَ الْحَرْبَةَ

فَجَعَلَهَا فِي يَدِي، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي وَبِالْحَرْبَةِ، ثُمَّ طَعَنَهُ بِهَا حَتَّى قَتَلَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ اسْتَعْمَلَ سَعِيدَ بْنَ عَامِرِ بْنِ حِذْيَمٍ الْجُمَحِيَّ عَلَى بَعْضِ الشَّامِ فَكَانَتْ تُصِيبُهُ غَشْيَةٌ وَهُوَ بَيْنُ ظَهْرَيِ الْقَوْمِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ. وَقِيلَ: إِنَّ الرَّجُلَ مُصَابٌ. فَسَأَلَهُ عُمَرُ فِي قَدْمَةٍ قَدِمَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا سَعِيدُ، مَا هَذَا الَّذِي يُصِيبُكَ ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا بِي مِنْ بَأْسٍ، وَلَكِنِّي كُنْتُ فِيمَنْ حَضَرَ خُبَيْبَ بْنَ عَدِيٍّ حِينَ قُتِلَ وَسَمِعْتُ دَعْوَتَهُ، فَوَاللَّهِ مَا خَطَرَتْ عَلَى قَلْبِي وَأَنَا فِي مَجْلِسٍ قَطُّ إِلَّا غُشِيَ عَلَيَّ. فَزَادَتْهُ عِنْدَ عُمَرَ خَيْرًا.
وَقَدْ قَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ نَسِيجِ وَحْدِهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَقَامَ خُبَيْبٌ فِي أَيْدِيهِمْ حَتَّى انْسَلَخَتِ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ثُمَّ قَتَلُوهُ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَعَثَهُ عَيْنًا وَحْدَهُ، قَالَ: جِئْتُ إِلَى خَشَبَةِ خُبَيْبٍ فَرَقَيْتُ فِيهَا وَأَنَا أَتَخَوَّفُ الْعُيُونَ، فَأَطْلَقْتُهُ فَوَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ اقْتَحَمْتُ فَانْتَبَذْتُ قَلِيلًا، ثُمَّ الْتَفَّتُّ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَكَأَنَّمَا ابْتَلَعَتْهُ الْأَرْضُ، فَلَمْ تُذْكَرْ لِخُبَيْبٍ رِمَّةٌ حَتَّى السَّاعَةِ.
ثُمَّ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدٍ، أَوْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ أَصْحَابُ الرَّجِيعِ قَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: يَا وَيْحَ هَؤُلَاءِ الْمَفْتُونِينَ الَّذِينَ هَلَكُوا هَكَذَا، لَا هُمْ أَقَامُوا فِي أَهْلِيهِمْ وَلَا هُمْ أَدَّوْا رِسَالَةَ صَاحِبِهِمْ. فَأَنْزَلُ اللَّهُ فِيهِمْ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [ الْبَقَرَةِ: 204 ] وَمَا بَعْدَهَا. وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَصْحَابِ السَّرِيَّةِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [ الْبَقَرَةِ: 207 ]
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مِمَّا قِيلَ مِنَ الشِّعْرِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ قَوْلُ خُبَيْبٍ حِينَ أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُهَا لَهُ -:

لَقَدْ جَمَّعَ الْأَحْزَابُ حَوْلِي وَأَلَّبُوا قَبَائِلَهُمْ وَاسْتَجْمَعُوا كُلَّ مَجْمَعِ
وَكُلُّهُمْ مُبْدِي الْعَدَاوَةِ جَاهَدٌ عَلَيَّ لِأَنِّي فِي وِثَاقٍ مُضَيَّعِ
وَقَدْ جَمَّعُوا أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَقُرِّبْتُ مِنْ جِذْعٍ طَوِيلٍ مُمَنَّعِ
إِلَى اللَّهِ أَشْكُو غُرْبَتِي ثُمَّ كُرْبَتِي وَمَا أَرْصَدَ الْأَعْدَاءُ لِي عِنْدَ مَصْرَعِي
فَذَا الْعَرْشِ صَبِّرْنِي عَلَى مَا يُرَادُ بِي فَقَدْ بَضَّعُوا لَحْمِي وَقَدْ يَأِسَ مَطْمَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
وَقَدْ خَيَّرُونِي الْكُفْرَ وَالْمَوْتُ دُونَهُ وَقَدْ هَمَلَتْ عَيْنَايَ مِنْ غَيْرِ مَجْزَعِ
وَمَا بِي حِذَارُ الْمَوْتِ إِنِّي لِمَيِّتٌ وَلَكِنْ حِذَارِي جَحْمُ نَارٍ مُلَفَّعِ
فَوَاللَّهِ مَا أَرْجُو إِذَا مُتُّ مُسْلِمًا عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللَّهِ مَضْجَعِي
فَلَسْتُ بِمُبْدٍ لِلْعَدُوِّ تَخَشُّعًا وَلَا جَزَعًا إِنِّي إِلَى اللَّهِ مَرْجِعِي
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " بَيْتَانِ مِنْ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ، وَهُمَا قَوْلُهُ:
فَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي

وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَبْكِي خُبَيْبًا فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ:
مَا بَالُ عَيْنِكَ لَا تَرْقَا مَدَامِعُهَا سَحًّا عَلَى الصَّدْرِ مِثْلَ اللُّؤْلُؤِ الْقَلِقِ
عَلَى خُبَيْبٍ فَتَى الْفِتْيَانِ قَدْ عَلِمُوا لَا فَشِلٍ حِينَ تَلْقَاهُ وَلَا نَزِقِ
فَاذْهَبْ خُبَيْبُ جَزَاكَ اللَّهُ طَيِّبَةً وَجَنَّةَ الْخُلْدِ عِنْدَ الْحُورِ فِي الرُّفُقِ
مَاذَا تَقُولُونَ إِنْ قَالَ النَّبِيُّ لَكُمْ حِينَ الْمَلَائِكَةُ الْأَبْرَارُ فِي الْأُفُقِ
فِيمَ قَتَلْتُمْ شَهِيدَ اللَّهِ فِي رَجُلٍ طَاغٍ قَدَ اوْعَثَ فِي الْبُلْدَانِ وَالرُّفَقِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَرَكْنَا بَعْضَهَا ; لِأَنَّهُ أَقْذَعَ فِيهَا.
وَقَالَ حَسَّانُ يَهْجُو الَّذِينَ غَدَرُوا بِأَصْحَابِ الرَّجِيعِ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ:
إِنْ سَرَّكَ الْغَدْرُ صِرْفًا لَا مِزَاجَ لَهُ فَأْتِ الرَّجِيعَ فَسَلْ عَنْ دَارِ لِحْيَانِ

قَوْمٌ تَوَاصَوْا بِأَكْلِ الْجَارِ بَيْنَهُمُ فَالْكَلْبُ وَالْقِرْدُ وَالْإِنْسَانُ مِثْلَانِ
لَوْ يَنْطِقُ التَّيْسُ يَوْمًا قَامَ يَخْطُبُهُمْ وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِيهِمْ وَذَا شَانِ
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا يَهْجُو هُذَيْلًا وَبَنِي لِحْيَانَ عَلَى غَدْرِهِمْ بِأَصْحَابِ الرَّجِيعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ:
لَعَمْرِي لَقَدْ شَانَتْ هُذَيْلَ بْنَ مُدْرِكٍ أَحَادِيثُ كَانَتْ فِي خُبَيْبٍ، وَعَاصِمِ
أَحَادِيثُ لِحْيَانٍ صَلَوْا بِقَبِيحِهَا وَلِحْيَانُ جَرَّامُونَ شَرَّ الْجَرَائِمِ
أُنَاسٌ هُمُ مِنْ قَوْمِهِمْ فِي صَمِيمِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الزَّمْعَانِ دُبْرَ الْقَوَادِمِ
هَمُ غَدَرُوا يَوْمَ الرَّجِيعِ وَأَسْلَمَتْ أَمَانَتُهُمْ ذَا عِفَّةٍ وَمَكَارِمِ
رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ غَدْرًا وَلَمْ تَكُنْ هُذَيْلٌ تَوَقَّى مُنْكِرَاتِ الْمَحَارِمِ
فَسَوْفَ يَرَوْنَ النَّصْرَ يَوْمًا عَلَيْهِمُ بِقَتْلِ الَّذِي تَحْمِيهِ دُونَ الْحَرَائِمِ
أَبَابِيلُ دَبْرٍ شُمَّسٍ دُونَ لَحْمِهِ حَمَتْ لَحْمَ شَهَّادٍ عِظَامَ الْمَلَاحِمِ

لَعَلَّ هُذَيْلًا أَنْ يَرَوْا بِمُصَابِهِ مَصَارِعَ قَتْلَى أَوْ مَقَامًا لِمَأْتَمِ
وَنُوقِعُ فِيهَا وَقْعَةً ذَاتَ صَوْلَةٍ يُوَافِي بِهَا الرُّكْبَانُ أَهْلَ الْمَوَاسِمِ
بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ إِنَّ رَسُولَهُ رَأَى رَأْيَ ذِي حَزْمٍ بِلِحْيَانَ عَالِمِ
قُبَيِّلَةٌ لَيْسَ الْوَفَاءُ يُهِمُّهُمْ وَإِنْ ظُلِمُوا لَمْ يَدْفَعُوا كَفَّ ظَالِمِ
إِذَا النَّاسُ حَلُّوا بِالْفَضَاءِ رَأَيْتَهُمْ بِمَجْرَى مَسِيلِ الْمَاءِ بَيْنَ الْمَخَارِمِ
مَحَلُّهُمُ دَارُ الْبَوَارِ وَرَأْيُهُمْ إِذَا نَابَهُمْ أَمْرٌ كَرَأْيِ الْبَهَائِمِ
وَقَالَ حَسَّانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَيْضًا يَمْدَحُ أَصْحَابَ الرَّجِيعِ وَيُسَمِّيهِمْ فِي شِعْرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
صَلَّى الْإِلَهُ عَلَى الَّذِينَ تَتَابَعُوا يَوْمَ الرَّجِيعِ فَأُكْرِمُوا وَأُثِيبُوا
رَأْسُ السَّرِيَّةِ مَرْثَدٌ وَأَمِيرُهُمْ وَابْنُ الْبُكَيْرِ أَمَامَهُمْ وَخُبَيْبُ
وَابْنٌ لِطَارِقَ وَابْنُ دَثْنَةَ مِنْهُمُ وَافَاهُ ثَمَّ حِمَامُهُ الْمَكْتُوبُ
وَالْعَاصِمُ الْمَقْتُولُ عِنْدَ رَجِيعِهِمْ كَسَبَ الْمَعَالِيَ إِنَّهُ لَكَسُوبُ

مَنَعَ الْمَقَادَةَ أَنْ يَنَالُوا ظَهْرَهُ حَتَّى يُجَالِدَ إِنَّهُ لَنَجِيبُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُهَا لِحَسَّانَ.

سَرِيَّةُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ عَلَى إِثْرِ مَقْتَلِ خُبَيْبٍ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ وَزَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، قَالُوا: كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ قَدْ قَالَ لِنَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ: مَا أَحَدٌ يَغْتَالُ مُحَمَّدًا ؟ فَإِنَّهُ يَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ فَنُدْرِكُ ثَأْرَنَا ؟ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَنْزِلَهُ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ أَنْتَ قَوَّيْتَنِي خَرَجْتُ إِلَيْهِ حَتَّى أَغْتَالَهُ، فَإِنِّي هَادٍ بِالطَّرِيقِ خِرِّيتٌ، مَعِي خِنْجَرٌ مِثْلُ خَافِيَةِ النَّسْرِ. قَالَ: أَنْتَ صَاحِبُنَا. وَأَعْطَاهُ بَعِيرًا وَنَفَقَةً، وَقَالَ: اطْوِ أَمْرَكَ ;

فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَسْمَعَ هَذَا أَحَدٌ فَيَنْمِيَهُ إِلَى مُحَمَّدٍ. قَالَ: قَالَ الْعَرَبِيُّ: لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ. فَخَرَجَ لَيْلًا عَلَى رَاحِلَتِهِ فَسَارَ خَمْسًا، وَصَبَّحَ ظَهْرَ الْحَرَّةِ صُبْحَ سَادِسَةٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى الْمُصَلَّى، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ. فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُودُ رَاحِلَتَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَعَقَلَ رَاحِلَتَهُ، ثُمَّ أَقْبَلُ يَؤُمُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَهُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، يُحَدِّثُ فِي مَسْجِدِهِ، فَدَخَلَ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ يُرِيدُ غَدْرًا، وَاللَّهُ حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُهُ. فَوَقَفَ وَقَالَ: أَيُّكُمُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَذَهَبَ يُجْنِئُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّهُ يُسَارُّهُ، فَجَبَذَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَقَالَ: تَنَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجَذَبَ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ، فَإِذَا الْخِنْجَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا غَادِرٌ. فَأُسْقِطَ فِي يَدِ الْأَعْرَابِيِّ، وَقَالَ: دَمِي دَمِي يَا مُحَمَّدُ. وَأَخَذَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ يُلَبِّبُهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْدُقْنِي، مَا أَنْتَ وَمَا أَقْدَمَكَ ؟ فَإِنْ صَدَقْتَنِي نَفَعَكَ الصِّدْقُ، وَإِنْ كَذَبْتَنِي فَقَدْ أُطْلِعْتُ عَلَى مَا هَمَمْتَ بِهِ. قَالَ الْعَرَبِيُّ: فَأَنَا آمِنٌ ؟ قَالَ: فَأَنْتَ آمِنٌ

فَأَخْبَرَهُ بِخَبَرِ أَبِي سُفْيَانَ وَمَا جَعَلَ لَهُ، فَأَمَرَ بِهِ فَحُبِسَ عِنْدَ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ ثُمَّ دَعَا بِهِ مِنَ الْغَدِ فَقَالَ: قَدْ آمَّنْتُكَ، فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ، أَوْ خَيْرٌ لَكَ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَ: وَمَا هُوَ ؟ فَقَالَ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، مَا كُنْتُ أَفْرَقُ مِنَ الرِّجَالِ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُكَ فَذَهَبَ عَقْلِي وَضَعُفْتُ ثُمَّ اطَّلَعْتَ عَلَى مَا هَمَمْتُ بِهِ مِمَّا سَبَقْتُ بِهِ الرُّكْبَانَ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَعَرَفْتُ أَنَّكَ مَمْنُوعٌ وَأَنَّكَ عَلَى حَقٍّ، وَأَنَّ حِزْبَ أَبِي سُفْيَانَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ. فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَسَّمُ، وَأَقَامَ أَيَّامًا، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ بِذِكْرٍ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، وَلِسَلَمَةَ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ: اخْرُجَا حَتَّى تَأْتِيَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فَإِنْ أَصَبْتُمَا مِنْهُ غِرَّةً فَاقْتُلَاهُ. قَالَ عَمْرٌو: فَخَرَجْتُ أَنَا وَصَاحِبِي حَتَّى أَتَيْنَا بَطْنَ يَأْجَجَ فَقَيَّدْنَا بِعِيرَنَا، وَقَالَ لِي صَاحِبِي: يَا عَمْرُو، هَلْ لَكَ فِي أَنْ نَأْتِيَ مَكَّةَ فَنَطُوفَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا وَنَصْلِيَ رَكْعَتَيْنِ ؟ فَقُلْتُ: إِنِّي أَعْرَفُ بِمَكَّةَ مِنَ الْفَرَسِ الْأَبْلَقِ، وَإِنَّهُمْ إِنْ رَأَوْنِي عَرَفُونِي، وَأَنَا أَعْرِفُ أَهْلَ مَكَّةَ إِنَّهُمْ إِذَا

أَمْسَوْا انْفَجَعُوا بِأَفْنِيَتِهِمْ، فَأَبَى عَلَيَّ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا مَكَّةَ فَطُفْنَا أُسْبُوعًا وَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا خَرَجْتُ لَقِيَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فَعَرَفَنِي وَقَالَ: عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ ! وَأَخْبَرَ أَبَاهُ فَنَذِرَ بِنَا أَهْلُ مَكَّةَ فَقَالُوا: مَا جَاءَ عَمْرٌو فِي خَيْرٍ. وَكَانَ عَمْرٌو فَاتِكًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَحَشَدَ أَهْلُ مَكَّةَ وَتَجَمَّعُوا، وَهَرَبَ عَمْرٌو، وَسَلَمَةُ وَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِمَا، وَاشْتَدُّوا فِي الْجَبَلِ. قَالَ عَمْرٌو: فَدَخَلْتُ غَارًا فَتَغَيَّبْتُ عَنْهُمْ حَتَّى أَصْبَحْتُ، وَبَاتُوا يَطْلُبُونَنَا فِي الْجَبَلِ، وَعَمَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَرِيقَ الْمَدِينَةِ أَنْ يَهْتَدُوا لِرَاحِلَتِنَا، فَلَّمَا كَانَ الْغَدُ ضَحْوَةً، أَقْبَلَ عُثْمَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عُبَيْدٍ التَّيْمِيُّ يَخْتَلِي لِفَرَسِهِ حَشِيشًا، فَقُلْتُ لِسَلَمَةَ بْنِ أَسْلَمَ: إِذَا أَبْصَرَنَا أَشْعَرَ بِنَا أَهْلَ مَكَّةَ وَقَدِ انْفَضُّوا عَنَّا. فَلَمْ يَزَلْ يَدْنُو مِنْ بَابِ الْغَارِ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَيْنَا. قَالَ: فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَطَعَنْتُهُ طَعْنَةً تَحْتَ الثَّدْيِ بِخِنْجَرِي فَسَقَطَ وَصَاحَ، فَأَسْمَعَ أَهْلَ مَكَّةَ فَأَقْبَلُوا بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ، وَدَخَلْتُ الْغَارَ، وَقُلْتُ

لِصَاحِبِي: لَا تَتَحَرَّكْ. فَأَقْبَلُوا حَتَّى أَتَوْهُ، وَقَالُوا: مَنْ قَتَلَكَ ؟ قَالَ: عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِخَيْرٍ. وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِمَكَانِنَا، فَإِنَّهُ كَانَ بِآخِرِ رَمَقٍ فَمَاتَ، وَشُغِلُوا عَنْ طَلَبِنَا بِصَاحِبِهِمْ، فَحَمَلُوهُ، فَمَكَثْنَا لَيْلَتَيْنِ فِي مَكَانِنَا حَتَّى خَرَجْنَا، فَقَالَ صَاحِبِي: يَا عَمْرُو بْنَ أُمَيَّةَ هَلْ لَكَ فِي خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ نَنْزِلُهُ ؟ فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ هُوَ ؟ قَالَ: هُوَ ذَاكَ مَصْلُوبٌ، حَوْلَهُ الْحَرَسُ. فَقُلْتُ: أَمْهِلْنِي وَتَنَحَّ عَنِّي فَإِنْ خَشِيتَ شَيْئًا فَانْحُ إِلَى بَعِيرِكَ فَاقْعُدْ عَلَيْهِ، فَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبِرْهُ الْخَبَرَ وَدَعْنِي، فَإِنِّي عَالِمٌ بِالْمَدِينَةِ. ثُمَّ اشْتَدَدْتُ عَلَيْهِ حَتَّى وَجَدْتُهُ فَحَمَلْتُهُ عَلَى ظَهْرِي، فَمَا مَشَيْتُ بِهِ إِلَّا عِشْرِينَ ذِرَاعًا حَتَّى اسْتَيْقَظُوا، فَخَرَجُوا فِي أَثَرِي فَطَرَحْتُ الْخَشَبَةَ، فَمَا أَنْسَى وَقْعَهَا دَبْ - يَعْنِي صَوْتَهَا - ثُمَّ أَهَلْتُ عَلَيْهِ التُّرَابَ بِرِجْلِي، فَأَخَذْتُ طَرِيقَ الصَّفْرَاءِ، فَأَعْيَوْا وَرَجَعُوا، وَكُنْتُ لَا أُدْرَكُ مَعَ بَقَاءِ نَفْسٍ، فَانْطَلَقَ صَاحِبِي إِلَى الْبَعِيرِ فَرَكِبَهُ وَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، وَأَقْبَلْتُ حَتَّى أَشْرَفْتُ عَلَى الْغَمِيمِ غَمِيمِ ضَجَنَانَ فَدَخَلْتُ فِي غَارٍ مَعِي قَوْسِي وَأَسْهُمِي وَخِنْجَرِي، فَبَيْنَمَا أَنَا فِيهِ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ مِنْ بَنِي الدِّيلِ

أَعْوَرُ طَوِيلٌ، يَسُوقُ غَنَمًا وَمِعْزَى، فَدَخَلَ الْغَارَ وَقَالَ: مَنِ الرَّجُلُ ؟ فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ. فَقَالَ: وَأَنَا مِنْ بَنِي بَكْرٍ. ثُمَّ اتَّكَأَ وَرَفَعَ عَقِيرَتَهُ يَتَغَنَّى وَيَقُولُ:
فَلَسْتُ بِمُسْلِمٍ مَا دُمْتُ حَيًّا وَلَسْتُ أَدِينُ دِينَ الْمُسْلِمِينَا
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَقْتُلَكَ. فَلَمَّا نَامَ قُمْتُ إِلَيْهِ، فَقَتَلْتُهُ شَرَّ قِتَلَةٍ قَتَلْتُهَا أَحَدًا قَطُّ، ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى هَبَطْتُ، فَلَمَّا أَسْهَلْتُ فِي الطَّرِيقِ إِذَا رَجُلَانِ بَعَثَتْهُمَا قُرَيْشٌ يَتَجَسَّسَانِ الْأَخْبَارَ، فَقُلْتُ: اسْتَأْسَرَا. فَأَبَى أَحَدُهُمَا، فَرَمَيْتُهُ فَقَتَلْتُهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْآخَرُ اسْتَأْسَرَ، فَشَدَدْتُهُ وَثَاقًا، ثُمَّ أَقْبَلْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ رَآنِي صِبْيَانٌ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، وَسَمِعُوا أَشْيَاخَهُمْ يَقُولُونَ: هَذَا عَمْرٌو. فَاشْتَدَّ الصِّبْيَانُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ، وَأَتَيْتُهُ بِالرَّجُلِ قَدْ رَبَطْتُ إِبْهَامَيْهِ بِوَتَرِ قَوْسِي، فَلَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْحَكُ، ثُمَّ دَعَا لِي بِخَيْرٍ. وَكَانَ قُدُومُ سَلَمَةَ قَبْلَ قُدُومِ عَمْرٍو بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عَمْرًا لَمَّا أَهْبَطَ خُبَيْبًا لَمْ يَرَ لَهُ رِمَّةً وَلَا جَسَدًا، فَلَعَلَّهُ دُفِنَ مَكَانَ سُقُوطِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذِهِ السَّرِيَّةُ إِنَّمَا اسْتَدْرَكَهَا ابْنُ هِشَامٍ عَلَى ابْنِ إِسْحَاقَ

وَسَاقَهَا بِنَحْوٍ مِنْ سِيَاقِ الْوَاقِدِيِّ لَهَا، لَكِنْ عِنْدَهُ أَنَّ رَفِيقَ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

سَرِيَّةُ بِئْرِ مَعُونَةَ
وَقَدْ كَانَتْ فِي صَفَرٍ مِنْهَا، وَأَغْرَبَ مَكْحُولٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، حَيْثُ قَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ الْخَنْدَقِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعِينَ رَجُلًا لِحَاجَةٍ يُقَالُ لَهُمُ: الْقُرَّاءُ. فَعَرَضَ لَهُمْ حَيَّانِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ - رِعْلٌ وَذَكْوَانَ - عِنْدَ بِئْرٍ يُقَالُ لَهَا بِئْرُ مَعُونَةَ. فَقَالَ الْقَوْمُ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكُمْ أَرَدْنَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ مُجْتَازُونَ فِي حَاجَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَتَلُوهُمْ، فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ شَهْرًا فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ، وَذَاكَ بَدْءُ الْقُنُوتِ، وَمَا كُنَّا نَقْنُتُ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَبَنِي لِحْيَانَ اسْتَمَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَدُوٍّ، فَأَمَدَّهُمْ بِسَبْعِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ كُنَّا

نُسَمِّيهِمُ الْقُرَّاءَ فِي زَمَانِهِمْ، كَانُوا يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ، وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قَتَلُوهُمْ وَغَدَرُوا بِهِمْ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو فِي الصُّبْحِ عَلَى أَحْيَاءٍ مِنَ الْعَرَبِ ; عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَبَنِي لِحْيَانَ. قَالَ أَنَسٌ: فَقَرَأْنَا فِيهِمْ قُرْآنًا، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ رُفِعَ: بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ خَالَهُ - أَخًا لِأُمِّ سُلَيْمٍ - فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا، وَكَانَ رَئِيسَ الْمُشْرِكِينَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ خَيَّرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ ثَلَاثِ خِصَالٍ ; فَقَالَ: يَكُونُ لَكَ أَهْلُ السَّهْلِ وَلِي أَهْلُ الْمَدَرِ أَوْ أَكُونُ خَلِيفَتَكَ، أَوْ أَغْزُوكَ بِأَهْلِ غَطَفَانَ بِأَلْفٍ وَأَلْفٍ. فَطُعِنَ عَامِرٌ فِي بَيْتِ أُمِّ فُلَانٍ فَقَالَ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَكْرِ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ آلِ فُلَانٍ، ائْتُونِي بِفَرَسِي. فَمَاتَ عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ، فَانْطَلَقَ حَرَامٌ أَخُو أُمِّ سُلَيْمٍ وَهُوَ رَجُلٌ أَعْرَجُ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، فَقَالَ: كُونَا قَرِيبًا حَتَّى

آتِيهِمْ، فَإِنْ آمَنُونِي كُنْتُمْ قَرِيبًا، وَإِنْ قَتَلُونِي أَتَيْتُمْ أَصْحَابَكُمْ. فَقَالَ: أَتُؤَمِّنُونِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ وَأَوْمَئُوا إِلَى رَجُلٍ فَأَتَاهُ مِنْ خَلْفِهِ فَطَعَنَهُ. قَالَ هَمَّامٌ: أَحْسَبُهُ قَالَ: حَتَّى أَنْفَذَهُ بِالرُّمْحِ. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. فَلَحِقَ الرَّجُلُ، فَقُتِلُوا كُلُّهُمْ غَيْرَ الْأَعْرَجِ، وَكَانَ فِي رَأْسِ جَبَلٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْنَا، ثُمَّ كَانَ مِنَ الْمَنْسُوخِ: " إِنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا ". فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثِينَ صَبَاحًا ; عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لِحْيَانَ وَعُصَيَّةَ الَّذِينَ عَصَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا حِبَّانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ، حَدَّثَنِي

ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: لَمَّا طُعِنَ حَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ، وَكَانَ خَالَهُ، يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ قَالَ بِالدَّمِ هَكَذَا ; فَنَضَحَهُ عَلَى وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ:لَمَّا قُتِلَ الَّذِينَ بِبِئْرِ مَعُونَةَ وَأُسِرَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ قَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ: مَنْ هَذَا ؟ فَأَشَارَ إِلَى قَتِيلٍ، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ: هَذَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ. قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدَ مَا قُتِلَ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ، حَتَّى إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ وُضِعَ. فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُهُمْ، فَنَعَاهُمْ فَقَالَ: إِنَّ أَصْحَابَكُمْ قَدْ أُصِيبُوا، وَإِنَّهُمْ قَدْ سَأَلُوا رَبَّهُمْ، فَقَالُوا: رَبَّنَا أَخْبِرْ عَنَّا إِخْوَانَنَا بِمَا رَضِينَا عَنْكَ، وَرَضِيتَ عَنَّا. فَأَخْبَرَهُمْ عَنْهُمْ. وَأُصِيبَ يَوْمَئِذٍ فِيهِمْ عُرْوَةُ بْنُ أَسْمَاءَ بْنِ الصَّلْتِ فَسُمِّيَ عُرْوَةُ بِهِ وَمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو وَسُمِّيَ بِهِ مُنْذِرٌ. هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مُرْسَلًا عَنْ عُرْوَةَ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ فَسَاقَ مِنْ حَدِيثِ الْهِجْرَةِ، وَأَدْرَجَ فِي آخِرِهِ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ هَاهُنَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَشَأْنَ عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ وَإِخْبَارَ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ أَنَّهُ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَذَكَرَ أَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ جَبَّارُ بْنُ سُلْمَى الْكِلَابِيُّ قَالَ: وَلَمَّا طَعَنَهُ بِالرُّمْحِ

قَالَ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. ثُمَّ سَأَلَ جَبَّارٌ بَعْدَ ذَلِكَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فُزْتُ ؟ قَالُوا: يَعْنِي بِالْجَنَّةِ. فَقَالَ: صَدَقَ وَاللَّهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ جَبَّارٌ بَعْدَ ذَلِكَ لِذَلِكَ.
وَفِي مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يُوجَدْ جَسَدُ عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ يَرَوْنَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَارَتْهُ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي بَعْدَ أُحُدٍ بَقِيَّةَ شَوَّالٍ وَذَا الْقِعْدَةِ وَذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ، ثُمَّ بَعَثَ أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ أُحُدٍ فَحَدَّثَنِي أَبِي إِسْحَاقَ بْنُ يَسَارٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: قَدِمَ أَبُو بَرَاءٍ عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ مَلَاعِبُ الْأَسِنَّةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ وَدَعَاهُ إِلَيْهِ فَلَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يَبْعُدْ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، لَوْ بَعَثْتَ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِكَ إِلَى أَهْلِ نَجْدٍ يَدْعُونَهُمْ إِلَى أَمْرِكَ، رَجَوْتُ أَنْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِمْ أَهْلَ نَجْدٍ. فَقَالَ أَبُو بَرَاءٍ: أَنَا لَهُمْ جَارٌ. فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو أَخَا بَنِي سَاعِدَةَ الْمُعْنِقَ لِيَمُوتَ فِي أَرْبَعِينَ

رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ ; فِيهِمُ الْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ، وَحَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَعُرْوَةُ بْنُ أَسْمَاءَ بْنِ الصَّلْتِ السُّلَمِيُّ، وَنَافِعُ بْنُ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ فِي رِجَالٍ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا بِئْرَ مَعُونَةَ وَهِيَ بَيْنَ أَرْضِ بَنِي عَامِرٍ وَحَرَّةِ بَنِي سُلَيْمٍ فَلَمَّا نَزَلُوا بَعَثُوا حَرَامَ بْنَ مِلْحَانَ بِكَتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَدُوِّ اللَّهِ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، فَلَمَّا أَتَاهُ لَمْ يَنْظُرْ فِي الْكِتَابِ حَتَّى عَدَا عَلَى الرَّجُلِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ اسْتَصْرَخَ عَلَيْهِمْ بَنِي عَامِرٍ فَأَبَوْا أَنْ يُجِيبُوا إِلَى مَا دَعَاهُمْ، وَقَالُوا: لَنْ نُخْفِرَ أَبَا بَرَاءٍ وَقَدْ عَقَدَ لَهُمْ عَقْدًا وَجِوَارًا. فَاسْتَصْرَخَ عَلَيْهِمْ قَبَائِلَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ: عُصَيَّةَ وَرِعْلًا وَذَكْوَانَ وَالْقَارَةَ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَخَرَجُوا حَتَّى غَشُوا الْقَوْمَ، فَأَحَاطُوا بِهِمْ فِي رِحَالِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ أَخَذُوا أَسْيَافَهُمْ، ثُمَّ قَاتَلُوا الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، إِلَّا كَعْبَ بْنَ زَيْدٍ أَخَا بَنِي دِينَارِ بْنِ النَّجَّارِ، فَإِنَّهُمْ تَرَكُوهُ بِهِ رَمَقٌ، فَارْتُثَّ مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى، فَعَاشَ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَكَانَ فِي سَرْحِ الْقَوْمِ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَلَمْ يُنْبِئْهُمَا بِمُصَابِ الْقَوْمِ إِلَّا الطَّيْرُ تَحُومُ حَوْلَ الْعَسْكَرِ، فَقَالَا: وَاللَّهِ إِنَّ

لِهَذِهِ الطَّيْرِ لَشَأْنًا. فَأَقْبَلَا لِيَنْظُرَا، فَإِذَا الْقَوْمُ فِي دِمَائِهِمْ، وَإِذَا الْخَيْلُ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ وَاقِفَةٌ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ لِعَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ: مَاذَا تَرَى ؟ فَقَالَ: أَرَى أَنْ نَلْحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُخْبِرَهُ الْخَبَرَ. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: لَكِنِّي لَمْ أَكُنْ لِأَرْغَبَ بِنَفْسِي عَنْ مَوْطِنٍ قُتِلَ فِيهِ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَا كُنْتُ لِأُخْبِرَ عَنْهُ الرِّجَالَ. فَقَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ، وَأُخِذَ عَمْرٌو أَسِيرًا، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مِنْ مُضَرَ أُطْلَقَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَجَزَّ نَاصِيَتَهُ، وَأَعْتَقَهُ عَنْ رَقَبَةٍ كَانَتْ عَلَى أُمِّهِ، فِيمَا زَعَمَ. قَالَ: وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْقَرْقَرَةِ مِنْ صَدْرِ قَنَاةَ، أَقْبَلَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ حَتَّى نَزَلَا فِي ظِلٍّ هُوَ فِيهِ، وَكَانَ مَعَ الْعَامِرِيَّيْنِ عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِوَارٌ لَمْ يَعْلَمْهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، وَقَدْ سَأَلَهُمَا حِينَ نَزَلَا: مِمَّنْ أَنْتُمَا ؟ قَالَا: مِنْ بَنِي عَامِرٍ فَأَمْهَلَهُمَا حَتَّى إِذَا نَامَا عَدَا عَلَيْهِمَا وَقَتَلَهُمَا، وَهُوَ يَرَى أَنْ قَدْ أَصَابَ بِهِمَا ثَأْرًا مِنْ بَنِي عَامِرٍ فِيمَا أَصَابُوا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَخْبَرَهُ بِالْخَبَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ، لَأَدِيَنَّهُمَا. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ قَدْ كُنْتُ لِهَذَا كَارِهًا مُتَخَوِّفًا. فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَرَاءٍ فَشَقَّ عَلَيْهِ إِخْفَارُ عَامِرٍ إِيَّاهُ، وَمَا أَصَابَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِهِ وَجِوَارِهِ.
فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي إِخْفَارِ عَامِرٍ أَبَا بَرَاءٍ وَيُحَرِّضُ بَنِي أَبِي بَرَاءٍ عَلَى عَامِرٍ:

بَنِي أَمِّ الْبَنِينَ أَلَمْ يَرُعْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنْ ذَوَائِبِ أَهْلِ نَجْدِ تَهَكُّمُ عَامِرٍ بِأَبِي بَرَاءٍ
لِيُخْفِرَهُ وَمَا خَطَأٌ كَعَمْدِ أَلَا أَبْلِغْ رَبِيعَةَ ذَا الْمَسَاعِي
فَمَا أَحْدَثْتَ فِي الْحَدَثَانِ بَعْدِي أَبُوكَ أَبُو الْحُرُوبِ أَبُو بَرَاءٍ
وَخَالُكُ مَاجِدٌ حَكَمُ بْنُ سَعْدِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أُمُّ الْبَنِينَ أُمُّ أَبِي بَرَاءٍ، وَهِيَ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ.
قَالَ: فَحَمَلَ رَبِيعَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ مَالِكٍ عَلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ فَطَعَنَهُ فِي فَخِذِهِ، فَأَشْوَاهُ، وَوَقَعَ عَنْ فَرَسِهِ، وَقَالَ: هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ إِنْ أَمُتْ فَدَمِيَ لِعَمِّي فَلَا يُتْبَعَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَعِشْ فَسَأَرَى رَأْيِي. وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوَ سِيَاقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ مُوسَى: وَكَانَ أَمِيرُ الْقَوْمِ الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو وَقِيلَ: مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ.
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَبْكِي قَتْلَى بِئْرِ مَعُونَةَ - فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ -:

عَلَى قَتْلَى مَعُونَةَ فَاسْتَهِلِّي بِدَمْعِ الْعَيْنِ سَحًّا غَيْرَ نَزْرِ
عَلَى خَيْلِ الرَّسُولِ غَدَاةَ لَاقَوْا وَلَاقَتْهُمْ مَنَايَاهُمْ بِقَدْرِ
أَصَابَهُمُ الْفَنَاءُ بِعَقْدِ قَوْمٍ تُخُوِّنَ عَقْدُ حَبْلِهِمُ بِغَدْرِ
فَيَا لَهْفِي لِمُنْذِرِ إِذْ تَوَلَّى وَأَعْنَقَ فِي مَنِيَّتِهِ بِصَبْرِ
وَكَائِنُ قَدْ أُصِيبَ غَدَاةَ ذَاكُمْ مِنَ ابْيَضَ مَاجِدٍ مِنْ سِرِّ عَمْرِو

غَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ وَهِيَ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا سُورَةَ " الْحَشْرِ "
فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُسَمِّيهَا سُورَةَ بَنِي النَّضِيرِ. وَحَكَى الْبُخَارِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ بَنُو النَّضِيرِ بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ قَبْلَ أُحُدٍ. وَقَدْ أَسْنَدَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ " عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
وَهَكَذَا رَوَى حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الرَّقِّيِّ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ مَازِنٍ الْيَمَانِيِّ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَذَكَرَ غَزْوَةَ بَدْرٍ فِي سَابِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ، قَالَ: ثُمَّ غَزَا بَنِي النَّضِيرِ ثُمَّ غَزَا أُحُدًا فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ كَانَ الزُّهْرِيُّ يَقُولُ هِيَ قَبْلَ أُحُدٍ. قَالَ: وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى

أَنَّهَا بَعْدَهَا، وَبَعْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ أَيْضًا.
قُلْتُ: هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ كَمَا تَقَدَّمَ ; فَإِنَّهُ بَعْدَ ذِكْرِهِ بِئْرَ مَعُونَةَ، وَرُجُوعَ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، وَقَتْلَهُ ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِعَهْدِهِمَا الَّذِي مَعْهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:لَقَدْ قَتَلْتَ رَجُلَيْنِ لَأَدِيَنَّهُمَا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِكَ الْقَتِيلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ ; لِلْعَهْدِ الَّذِي كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُمَا، وَكَانَ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَيْنَ بَنِي عَامِرٍ عَهْدٌ وَحِلْفٌ، فَلَّمَا أَتَاهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، نُعِينُكَ عَلَى مَا أَحْبَبْتَ. ثُمَّ خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوا الرَّجُلَ عَلَى مُثُلِ حَالِهِ هَذِهِ - وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَنْبِ جِدَارٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ قَاعِدٌ - فَمَنْ رَجُلٌ يَعْلُو عَلَى هَذَا الْبَيْتِ، فَيُلْقِي عَلَيْهِ صَخْرَةً وَيُرِيحَنَا مِنْهُ ؟ فَانْتُدِبَ لِذَلِكَ عَمْرُو بْنُ جَحَّاشِ بْنِ كَعْبٍ فَقَالَ أَنَا لِذَلِكَ. فَصَعِدَ لِيُلْقِيَ عَلَيْهِ صَخْرَةً كَمَا قَالَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ، فَقَامَ وَخَرَجَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا اسْتَلْبَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، قَامُوا فِي طَلَبِهِ، فَلَقُوا رَجُلًا مُقْبِلًا مِنَ الْمَدِينَةِ فَسَأَلُوهُ عَنْهُ، فَقَالَ: رَأَيْتُهُ دَاخِلًا الْمَدِينَةَ. فَأَقْبَلَ

أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ بِمَا كَانَتْ يَهُودُ أَرَادَتْ مِنَ الْغَدْرِ بِهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ يَأْمُرُهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ جِوَارِهِ وَبَلَدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ النِّفَاقِ يُثَبِّتُونَهُمْ وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى الْمَقَامِ، وَيَعِدُونَهُمُ النَّصْرَ، فَقَوِيَتْ عِنْدَ ذَلِكَ نُفُوسُهُمْ، وَحَمِيَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَبَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ، وَنَابَذُوهُ بِنَقْضِ الْعُهُودِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَحَاصَرُوهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّهَيُّؤِ لِحَرْبِهِمْ وَالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ، فَحَاصَرَهُمْ سِتَّ لَيَالٍ، وَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ حِينَئِذٍ، وَتَحَصَّنُوا مِنْهُ فِي الْحُصُونِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ

النَّخِيلِ وَالتَّحْرِيقِ فِيهَا، فَنَادَوْهُ: أَنْ يَا مُحَمَّدُ قَدْ كُنْتَ تَنْهَى عَنِ الْفَسَادِ، وَتَعِيبُهُ عَلَى مَنْ صَنَعَهُ، فَمَا بَالُ قَطْعِ النَّخِيلِ وَتَحْرِيقِهَا ؟ قَالَ: وَقَدْ كَانَ رَهْطٌ مِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبِيٍّ، وَوَدِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَسُوِيدٌ، وَدَاعِسٌ قَدْ بَعَثُوا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ أَنِ اثْبُتُوا وَتَمَنَّعُوا، فَإِنَّا لَنْ نُسْلِمَكُمْ، إِنْ قُوتِلْتُمْ قَاتَلْنَا مَعَكُمْ، وَإِنْ أُخْرِجْتُمْ خَرَجْنَا مَعَكُمْ. فَتَرَبَّصُوا ذَلِكَ مِنْ نَصْرِهِمْ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يُجْلِيَهُمْ وَيَكُفَّ عَنْ دِمَائِهِمْ، عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتِ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا الْحَلْقَةَ، فَفَعَلَ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَعْطَى كُلَّ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ بَعِيرًا يَعْتَقِبُونَهُ وَسِقَاءً. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مْسَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَجِّلَهُمْ فِي الْجَلَاءِ ثَلَاثَ لَيَالٍ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ دُيُونٌ مُؤَجَّلَةٌ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ضَعُوا وَتَعَجَّلُوا. وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَاحْتَمَلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ الْإِبِلُ، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَهْدِمُ بَيْتَهُ عَنْ نِجَافِ بَابِهِ، فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ، فَيَنْطَلِقُ بِهِ، فَخَرَجُوا إِلَى خَيْبَرَ وَمِنْهُمْ مَنْ سَارَ إِلَى الشَّامِ فَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ مَنْ ذَهَبَ مِنْهُمْ إِلَى خَيْبَرَ سَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحَقِيقِ، وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ. فَلَمَّا نَزَلُوهَا دَانَ لَهُمْ أَهْلُهَا. فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ حُدِّثَ أَنَّهُمُ اسْتُقْبِلُوا بِالنِّسَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْأَمْوَالِ، مَعَهُمُ الدُّفُوفُ وَالْمَزَامِيرُ، وَالْقِيَانُ يَعْزِفْنَ خَلْفَهُمْ، بِزُهَاءٍ وَفَخْرٍ مَا رُئِيَ مِثْلُهُ لِحَيٍّ مِنَ النَّاسِ فِي زَمَانِهِمْ. قَالَ: وَخَلَّوُا الْأَمْوَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي النَّخِيلَ وَالْمَزَارِعَ - فَكَانَتْ لَهُ خَاصَّةً، يَضَعُهَا حَيْثُ يَشَاءُ، فَقَسَّمَهَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ دُونَ الْأَنْصَارِ إِلَّا أَنَّ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ وَأَبَا دُجَانَةَ ذَكَرَا فَقْرًا فَأَعْطَاهُمَا. وَأَضَافَ بَعْضُهُمْ إِلَيْهِمَا

الْحَارِثَ بْنَ الصِّمَّةِ. حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ إِلَّا رَجُلَانِ ; وَهَمَا يَامِينُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ كَعْبٍ ابْنُ عَمِّ عَمْرِو بْنِ جَحَّاشٍ، وَأَبُو سَعْدِ بْنُ وَهْبٍ فَأَحْرَزَا أَمْوَالَهُمَا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ يَامِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِيَامِينَ أَلَمْ تَرَ مَا لَقِينَا مِنِ ابْنِ عَمِّكَ، وَمَا هَمَّ بِهِ مِنْ شَأْنِي ؟ فَجَعَلَ يَامِينُ لِرَجُلٍ جُعْلًا عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَمْرَو بْنَ جَحَّاشٍ فَقَتَلَهُ، لَعَنَهُ اللَّهُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ سُورَةَ الْحَشْرِ بِكَمَالِهَا، يِذْكُرُ فِيهَا مَا أَصَابَهُمْ بِهِ مِنْ نِقْمَتِهِ وَمَا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا عَمِلَ بِهِ فِيهِمْ. ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ إِسْحَاقَ يُفَسِّرُهَا، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا بِطُولِهَا مَبْسُوطَةً فِي كِتَابِنَا " التَّفْسِيرِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ

فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ وَمَا أَفَاءَ [ الْحَشْرِ: 1 - 5 ]. سَبَّحَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُسَبِّحُ لَهُ جَمِيعُ مَخْلُوقَاتِهِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ، وَأَنَّهُ الْعَزِيزُ وَهُوَ مَنِيعُ الْجَنَابِ، فَلَا تُرَامُ عَظَمَتُهُ وَكِبْرِيَاؤُهُ، وَأَنَّهُ الْحَكِيمُ فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَ، وَجَمِيعِ مَا قَدَّرَ وَشَرَعَ، فَمِنْ ذَلِكَ تَقْدِيرُهُ وَتَدْبِيرُهُ وَتَيْسِيرُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ظَفْرِهِمْ بِأَعْدَائِهِمُ الْيَهُودِ الَّذِينَ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَجَانَبُوا رَسُولَهُ وَشَرْعَهُ، وَمَا كَانَ مِنَ السَّبَبِ الْمُفْضِي لِقِتَالِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ، حَتَّى حَاصَرَهُمُ الْمُؤَيَّدُ بِالرُّعْبِ وَالرَّهَبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَمَعَ هَذَا فَأَسَرَهُمْ بِالْمُحَاصَرَةِ بِجُنُودِهِ وَنَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ سِتَّ لَيَالٍ، فَذَهَبَ بِهِمُ الرُّعْبُ كُلَّ مَذْهَبٍ، حَتَّى صَانَعُوا وَصَالَحُوا عَلَى حَقْنِ دِمَائِهِمْ، وَأَنْ يَأْخُذُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ رِكَابُهُمْ، عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَسْتَصْحِبُونَ شَيْئًا مِنَ السِّلَاحِ ; إِهَانَةً لَهُمْ وَاحْتِقَارًا، فَجَعَلُوا يُخَرِّبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُصِبْهُمُ الْجَلَاءُ، وَهُوَ التَّسْيِيرُ وَالنَّفْيُ مِنْ جِوَارِ الرَّسُولِ مِنَ الْمَدِينَةِ لَأَصَابَهُمْ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ مِنَ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ، وَهُوَ الْقَتْلُ مَعَ مَا ادُّخِرَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ الْمُقَدَّرِ لَهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حِكْمَةَ مَا وَقَعَ مِنْ تَحْرِيقِ نَخْلِهِمْ، وَتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنْهُ لَهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ سَائِغٌ، فَقَالَ: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ وَهُوَ جَيِّدُ التَّمْرِ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا إِنَّ الْجَمِيعَ قَدْ أُذِنَ فِيهِ شَرْعًا وَقَدَرًا، فَلَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ فِيهِ

وَلَنِعْمَ مَا رَأَيْتُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ هُوَ بِفَسَادٍ، كَمَا قَالَهُ شِرَارُ الْعِبَادِ، إِنَّمَا هُوَ إِظْهَارٌ لِلْقُوَّةِ، وَإِخْزَاءٌ لِلْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ جَمِيعًا عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ،عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَعَ، وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ
وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَعَ، وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ، وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
وَهَانَ عَلَى سُرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
فَأَجَابَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَقُولُ:
أَدَامَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعٍ وَحَرَّقَ فِي نَوَاحِيهَا السَّعِيرُ

سَتَعْلَمُ أَيُّنَا مِنْهَا بِنُزْهٍ وَتَعْلَمُ أَيَّ أَرْضَيْنَا تَضِيرُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يَذْكُرُ إِجْلَاءَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَتْلَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ:
لَقَدْ خَزِيَتْ بَغَدْرَتِهَا الْحُبُورُ كَذَاكَ الدَّهْرُ ذُو صَرْفٍ يَدُورُ
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِرَبٍّ عَظِيمٍ أَمْرُهُ أَمْرٌ كَبِيرُ
وَقَدْ أُوتُوا مَعًا فَهْمًا وَعِلْمًا وَجَاءَهُمُ مِنَ اللَّهِ النَّذِيرُ
نَذِيرٌ صَادِقٌ أَدَّى كِتَابًا وَآيَاتٍ مُبَيِّنَةً تُنِيرُ
فَقَالُوا مَا أَتَيْتَ بِأَمْرِ صِدْقٍ وَأَنْتَ بِمُنْكَرٍ مِنَّا جَدِيرُ
فَقَالَ بَلَى لَقَدْ أَدَّيْتُ حَقَّا يُصَدِّقُنِي بِهِ الْفَهِمُ الْخَبِيرُ
فَمَنْ يَتْبَعْهُ يُهْدَ لِكُلِّ رُشْدٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ يُجْزَ الْكَفُورُ

فَلَمَّا أُشْرِبُوا غَدْرًا وَكُفْرًا وَجَدَّ بِهِمْ عَنِ الْحَقِّ النُّفُورُ
أَرَى اللَّهُ النَّبِيَّ بِرَأْيِ صِدْقٍ وَكَانَ اللَّهُ يَحْكُمُ لَا يَجُورُ
فَأَيَّدَهُ وَسَلَّطَهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ نَصِيرُهُ نِعْمَ النَّصِيرُ
فَغُودِرَ مِنْهُمُ كَعْبٌ صَرِيعًا فَذَلَّتْ بَعْدَ مَصْرَعِهِ النَّضِيرُ
عَلَى الْكَفَّيْنِ ثُمَّ وَقَدْ عَلَتْهُ بِأَيْدِينَا مُشَهَّرَةٌ ذُكُورُ
بِأَمْرِ مُحَمَّدٍ إِذْ دَسَّ لَيْلًا إِلَى كَعْبٍ أَخَا كَعْبٍ يَسِيرُ
فَمَاكَرَهُ فَأَنْزَلَهُ بِمَكْرٍ وَمَحْمُودٌ أَخُو ثِقَةٍ جَسُورُ
فَتِلْكَ بَنُو النَّضِيرِ بَدَارِ سُوءٍ أَبَارَهُمُ بِمَا اجْتَرَمُوا الْمُبِيرُ
غَدَاةَ أَتَاهُمُ فِي الزَّحْفِ رَهْوًا رَسُولُ اللَّهِ وَهْوَ بِهِمْ بَصِيرُ
وَغَسَّانُ الْحُمَاةُ مُؤَازِرُوهُ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَهْوَ لَهُمْ وَزِيرُ
فَقَالَ السِّلْمُ وَيْحَكُمُ فَصَدُّوا وَخَالَفَ أَمْرَهُمُ كَذِبٌ وَزُورُ
فَذَاقُوا غِبَّ أَمْرِهِمُ وَبَالًا لِكُلِّ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ بَعِيرُ

وَأُجْلُوا عَامِدِينَ لِقَيْنُقَاعٍ وَغُودِرَ مِنْهُمُ نَخْلٌ وَدُورُ
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ جَوَابَهَا لَسِمَاكٍ الْيَهُودِيِّ فَتَرَكْنَاهَا قَصْدًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مِمَّا قِيلَ فِي بَنِي النَّضِيرِ قَوْلُ ابْنِ لُقَيْمٍ الْعَبْسِيِّ وَيُقَالُ: قَالَهَا: قَيْسُ بْنُ بَحْرِ بْنِ طَرِيفٍ الْأَشْجَعِيِّ.
أَهْلِي فِدَاءٌ لِامْرِئٍ غَيْرِ هَالِكٍ أَحَلَّ الْيَهُودَ بِالْحَسِيِّ الْمُزَنَّمِ
يَقِيلُونَ فِي جَمْرِ الْغَضَاةِ وَبُدِّلُوا أُهَيْضِبَ عُودَى بِالْوَدِيِّ الْمُكَمَّمِ
فَإِنْ يَكُ ظَنِّي صَادِقًا بِمُحَمَّدٍ تَرَوْا خَيْلَهُ بَيْنَ الصَّلَا وَيَرَمْرَمِ

يَؤُمُّ بِهَا عَمْرَو بْنَ بُهْثَةَ إِنَّهُمْ عَدُوٌّ وَمَا حَيٌّ صَدِيقٌ كَمُجْرِمِ
عَلَيْهِنَّ أَبْطَالٌ مَسَاعِيرُ فِي الْوَغَى يَهُزُّونَ أَطْرَافَ الْوَشِيجِ الْمُقَوَّمِ
وَكُلَّ رَقِيقِ الشَّفْرَتَيْنِ مُهَنَّدٍ تُوُورِثْنَ مِنْ أَزْمَانِ عَادٍ وَجُرْهُمِ
فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي قُرَيْشًا رِسَالَةً فَهَلْ بَعْدَهُمْ فِي الْمَجْدِ مِنْ مُتَكَرِّمِ
بِأَنَّ أَخَاهُمْ فَاعْلَمُنَّ مُحَمَّدًا تَلِيدُ النَّدَى بَيْنَ الْحَجُونِ وَزَمْزَمِ
فَدِينُوا لَهُ بِالْحَقِّ تَجْسُمْ أُمُورُكُمْ وَتَسْمُو مِنَ الدُّنْيَا إِلَى كُلِّ مُعْظَمِ
نَبِيٌّ تَلَاقَتْهُ مِنَ اللَّهِ رَحْمَةٌ وَلَا تَسْأَلُوهُ أَمْرَ غَيْبٍ مُرَجَّمِ
فَقَدْ كَانَ فِي بَدْرٍ لَعَمْرِي عِبْرَةٌ لَكُمْ يَا قُرَيْشًا وَالْقَلِيبِ الْمُلَمَّمِ
غَدَاةَ أَتَى فِي الْخَزْرَجِيَّةِ عَامِدًا إِلَيْكُمْ مُطِيعًا لِلْعَظِيمِ الْمُكَرَّمِ
مُعَانًا بِرُوحِ الْقُدُسِ يَنْكِي عَدُوَّهُ رَسُولًا مِنَ الرَّحْمَنِ حَقًّا بِمَعْلَمِ

رَسُولًا مِنَ الرَّحْمَنِ يَتْلُو كِتَابَهُ فَلَمَّا أَنَارَ الْحَقَّ لَمْ يَتَلَعْثَمِ
أَرَى أَمْرَهُ يَزْدَادُ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ عُلُوًّا لِأَمْرٍ حَمَّهُ اللَّهُ مُحْكَمِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَعْرِفُهَا لَعَلِيٍّ:
عَرَفَتُ وَمَنْ يَعْتَدِلْ يَعْرِفِ وَأَيْقَنْتُ حَقًّا وَلَمْ أَصْدِفِ
عَنِ الْكَلِمِ الْمُحْكَمِ الْآيِ مِنْ لَدَى اللَّهِ ذِي الرَّأْفَةِ الْأَرْأَفِ
رَسَائِلُ تُدْرَسُ فِي الْمُؤْمِنِينَ بِهِنَّ اصْطَفَى أَحْمَدَ الْمُصْطَفِي
فَأَصْبَحَ أَحْمَدُ فِينَا عَزِيزًا عَزِيزَ الْمُقَامَةِ وَالْمَوْقِفِ
فَيَا أَيُّهَا الْمُوعِدُوهُ سَفَاهًا وَلَمْ يَأْتِ جَوْرًا وَلَمْ يَعْنُفِ
أَلَسْتُمْ تَخَافُونَ أَدْنَى الْعَذَابِ وَمَا آمِنُ اللَّهِ كَالْأَخْوَفِ
وَأَنْ تُصْرَعُوا تَحْتَ أَسْيَافِهِ كَمَصْرَعِ كَعْبٍ أَبِي الْأَشْرَفِ

غَدَاةَ رَأَى اللَّهُ طُغْيَانَهُ وَأَعْرَضَ كَالْجَمَلِ الْأَجْنَفِ
فَأَنْزَلَ جِبْرِيلَ فِي قَتْلِهِ بِوَحْيٍ إِلَى عَبْدِهِ مُلْطَفِ
فَدَسَّ الرَّسُولُ رَسُولًا لَهُ بِأَبْيَضَ ذِي هَبَّةٍ مُرْهَفِ
فَبَاتَتْ عُيُونٌ لَهُ مُعْوِلَاتٌ مَتَى يُنْعَ كَعْبٌ لَهَا تَذْرِفُ
وَقُلْنَ لِأَحْمَدَ ذَرْنَا قَلِيلًا فَإِنَّا مِنَ النَّوْحِ لِمَ نَشْتَفِ
فَخَلَّاهُمُ ثُمَّ قَالَ اظْعَنُوا دُحُورًا عَلَى رَغْمِ الْآنُفِ
وَأَجْلَى النَّضِيرَ إِلَى غُرْبَةٍ وَكَانُوا بِدَارٍ ذَوِي زُخْرُفِ
إِلَى أَذَرِعَاتٍ رِدَافًا وَهُمْ عَلَى كُلِّ ذِي دَبَرٍ أَعْجَفِ

وَتَرَكْنَا جَوَابَهَا أَيْضًا مِنْ سِمَاكٍ الْيَهُودِيِّ قَصْدًا.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حُكْمَ الْفَيْءِ، وَأَنَّهُ حَكَمَ بِأَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَلَّكَهَا لَهُ، فَوَضَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بَخِيلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، فَكَانَ يَعْزِلُ نَفَقَةَ أَهْلِهِ سَنَةً، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَ الْفَيْءِ، وَأَنَّهُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ عَلَى مِنْوَالِهِمْ وَطَرِيقَتِهِمْ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَارِمٌ، وَعَفَّانُ قَالَا: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَجْعَلُ لَهُ مِنْ مَالِهِ النَّخْلَاتِ، أَوْ كَمَا شَاءَ اللَّهُ، حَتَّى فُتِحَتْ عَلَيْهِ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ. قَالَ: فَجَعَلَ يَرُدُّ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ: وَإِنَّ أَهْلِي أَمَرُونِي أَنْ آتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْأَلَهُ الَّذِي

كَانَ أَهْلُهُ أَعْطُوهُ أَوْ بَعْضَهُ، وَكَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ أُمَّ أَيْمَنَ أَوْ كَمَا شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِيهِنَّ، فَجَاءَتْ أُمُّ أَيْمَنَ فَجَعَلَتِ الثَّوْبَ فِي عُنُقِي وَجَعَلَتْ تَقُولُ: كَلَّا وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَا يُعْطِيكَهُنَّ وَقَدْ أَعْطَانِيهِنَّ. أَوْ كَمَا قَالَتْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِ كَذَا وَكَذَا. وَتَقُولُ: كَلَّا وَاللَّهِ. قَالَ: وَيَقُولُ لَكِ: كَذَا وَكَذَا. وَتَقُولُ: كَلَّا وَاللَّهِ. قَالَ: وَيَقُولُ: لَكِ كَذَا وَكَذَا. حَتَّى أَعْطَاهَا - حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ - عَشَرَةَ أَمْثَالِهِ. أَوْ قَالَ: قَرِيبًا مِنْ عَشَرَةِ أَمْثَالِهِ. أَوْ كَمَا قَالَ. أَخْرَجَاهُ بِنَحْوِهِ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ مُعْتَمِرٍ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ذَامًّا لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ مَالُوا لِبَنِي النَّضِيرِ فِي الْبَاطِنِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَوَعَدُوهُمُ النَّصْرَ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، بَلْ خَذَلُوهُمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِمْ، وَغَرُّوهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ [ الْحَشْرِ: 11، 12 ] ثُمَّ ذَمَّهُمْ تَعَالَى عَلَى جُبْنِهِمْ، وَقِلَّةِ

عِلْمِهِمْ، وَخِفَّةِ عَقْلِهِمُ النَّافِعِ، ثُمَّ ضُرِبَ لَهُمْ مَثَلًا قَبِيحًا شَنِيعًا بِالشَّيْطَانِ حِينَ قَالَ لِلْإِنْسَانِ: اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [ الْحَشْرِ: 16، 17 ].

قِصَّةُ عَمْرِو بْنِ سُعْدَى الْقُرَظِيِّ حِينَ مَرَّ عَلَى دِيَارِ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَدْ صَارَتْ يَبَابًا لَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٍ.
وَقَدْ كَانَتْ بَنُو النَّضِيرِ أَشْرَفَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ حَتَّى حَدَاهُ ذَلِكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَظْهَرَ صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّوْرَاةِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا خَرَجَتْ بَنُو النَّضِيرِ مِنَ الْمَدِينَةِ أَقْبَلَ عَمْرُو بْنُ سُعْدَى فَأَطَافَ بِمَنَازِلِهِمْ فَرَأَى خَرَابَهَا، وَفَكَّرَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَوَجَدَهُمْ فِي الْكَنِيسَةِ، فَنَفَخَ فِي بُوقِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا، فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَاطَا: يَا أَبَا سَعِيدٍ، أَيْنَ كُنْتَ مُنْذُ الْيَوْمِ لَمْ نَرَكَ ؟ وَكَانَ لَا يُفَارِقُ الْكَنِيسَةَ، وَكَانَ يَتَأَلَّهُ فِي الْيَهُودِيَّةِ، قَالَ: رَأَيْتُ الْيَوْمَ عِبَرًا قَدْ عُبِّرْنَا بِهَا ; رَأَيْتُ مَنَازِلَ إِخْوَانِنَا خَالِيَةً بَعْدَ ذَلِكَ الْعِزِّ وَالْجَلَدِ، وَالشَّرَفِ الْفَاضِلِ وَالْعَقْلِ الْبَارِعِ، قَدْ تَرَكُوا أَمْوَالَهُمْ، وَمَلَكَهَا غَيْرُهُمْ، وَخَرَجُوا

خُرُوجَ ذُلٍّ، وَلَا وَالتَّوْرَاةِ مَا سُلِّطَ هَذَا عَلَى قَوْمٍ قَطُّ لِلَّهِ بِهِمْ حَاجَةٌ، وَقَدْ أَوْقَعَ قَبْلَ ذَلِكَ بِابْنِ الْأَشْرَفِ ذِي عِزِّهِمْ، ثُمَّ بَيَّتَهُ فِي بَيْتِهِ آمِنًا، وَأَوْقَعَ بِابْنِ سُنَيْنَةَ سَيِّدِهِمْ، وَأَوْقَعَ بِبَنِي قَيْنُقَاعَ فَأَجْلَاهُمْ، وَهُمْ أَهْلُ جَدِّ يَهُودَ، وَكَانُوا أَهْلَ عُدَّةٍ وَسِلَاحٍ وَنَجْدَةٍ، فَحَصَرَهُمْ، فَلَمْ يُخْرِجْ إِنْسَانٌ مِنْهُمْ رَأْسَهُ حَتَّى سَبَاهُمْ، وَكُلِّمَ فِيهِمْ، فَتَرَكَهُمْ عَلَى أَنْ أَجْلَاهُمْ مِنْ يَثْرِبَ، يَا قَوْمِ، قَدْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُمْ، فَأَطِيعُونِي وَتَعَالَوْا نَتَّبِعُ مُحَمَّدًا، فَوَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ، قَدْ بَشَّرَنَا بِهِ وَبِأَمْرِهِ ابْنُ الْهَيْبَانِ أَبُو عُمَيْرٍ، وَابْنُ حِرَاشٍ وَهُمَا أَعْلَمُ يَهُودَ، جَاءَانَا يَتَوَكَّفَانِ قُدُومَهُ، وَأَمَرَانَا بِاتِّبَاعِهِ، جَاءَانَا مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَمَرَانَا أَنْ نُقْرِئَهُ مِنْهُمَا السَّلَامَ، ثُمَّ مَاتَا عَلَى دِينِهِمَا، وَدَفَنَّاهُمَا بِحَرَّتِنَا هَذِهِ. فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ مِنْهُمْ مُتَكَلِّمٌ، ثُمَّ أَعَادَ هَذَا الْكَلَامَ وَنَحْوَهُ، وَخَوَّفَهُمْ بِالْحَرْبِ وَالسِّبَاءِ وَالْجَلَاءِ. فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَاطَا: قَدْ وَالتَّوْرَاةِ قَرَأْتُ صِفَتَهُ فِي كِتَابِ بَاطَا ; التَّوْرَاةِ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَى مُوسَى لَيْسَ فِي الْمَثَانِي الَّذِي أَحْدَثْنَا. قَالَ: فَقَالَ لَهُ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ: مَا يَمْنَعُكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنَ اتِّبَاعِهِ ؟ قَالَ: أَنْتَ. قَالَ كَعْبٌ: فَلِمَ، وَالتَّوْرَاةِ مَا حُلْتُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَطُّ ؟ قَالَ الزُّبَيْرُ: بَلْ أَنْتَ صَاحِبُ عَهْدِنَا وَعَقْدِنَا، فَإِنِ اتَّبَعْتَهُ اتَّبَعْنَاهُ، وَإِنْ أَبَيْتَ أَبَيْنَا. فَأَقْبَلَ عَمْرُو بْنُ سُعْدَى عَلَى

كَعْبٍ. فَذَكَرَ مَا تُقَاوَلَا فِي ذَلِكَ، إِلَى أَنْ قَالَ كَعْبٌ: مَا عِنْدِي فِي أَمْرِهِ إِلَّا مَا قُلْتُ: مَا تَطِيبُ نَفْسِي أَنْ أَصِيرَ تَابِعًا. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.

غَزْوَةُ بَنِي لِحْيَانَ الَّتِي صَلَّى فِيهَا صَلَاةَ الْخَوْفِ بِعُسْفَانَ
هَاهُنَا ذَكَرَهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ "، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا رَأَيْتُهُ، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ هِشَامٍ، عَنْ زِيَادٍ عَنْهُ، فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ سَنَةِ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ الْخَنْدَقِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ وَهُوَ أَشْبَهُ مِمَّا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ، قَالُوا: لَمَّا أُصِيبَ خُبَيْبٌ وَأَصْحَابُهُ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَالِبًا بِدِمَائِهِمْ ; لِيُصِيبَ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ غِرَّةً، فَسَلَكَ طَرِيقَ الشَّامِ ; لِيُرَيَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بَنِي لِحْيَانَ حَتَّى نَزَلَ

بِأَرْضِهِمْ، فَوَجَدَهُمْ قَدْ حَذِرُوا وَتَمَنَّعُوا فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَنَّا هَبَطْنَا عُسْفَانَ لَرَأَتْ قُرَيْشٍ أَنَّا قَدْ جِئْنَا مَكَّةَ. فَخَرَجَ فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ حَتَّى نَزَلَ عُسْفَانَ ثُمَّ بَعَثَ فَارِسَيْنِ حَتَّى جَاءَا كُرَاعَ الْغَمِيمِ، ثُمَّ انْصَرَفَا، فَذَكَرَ أَبُو عَيَّاشٍ الزُّرَّقِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِعُسْفَانَ صَلَاةَ الْخَوْفِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي عَيَّاشٍ قَالَ:كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُسْفَانَ فَاسْتَقْبَلَنَا الْمُشْرِكُونَ، عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَهُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظَّهْرَ، فَقَالُوا: قَدْ كَانُوا عَلَى حَالٍ لَوْ أَصَبْنَا غِرَّتَهُمْ. ثُمَّ قَالُوا: تَأْتِي عَلَيْهِمُ الْآنَ صَلَاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ. قَالَ: فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ بَيْنَ الظَّهْرِ وَالْعَصْرِ: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ [ النِّسَاءِ: 102 ] قَالَ: فَحَضَرَتْ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذُوا السِّلَاحَ، فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ فَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ بِالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ، وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا سَجَدُوا وَقَامُوا جَلَسَ الْآخَرُونَ فَسَجَدُوا فِي مَكَانِهِمْ، ثُمَّ تَقَدَّمَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ، وَجَاءَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ. قَالَ: ثُمَّ رَكَعَ فَرَكَعُوا

جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ فَرَفَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا جَلَسُوا جَلَسَ الْآخَرُونَ، فَسَجَدُوا ; ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفَ. قَالَ: فَصَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ ; مَرَّةً بِعُسْفَانَ وَمَرَّةً بِأَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ بِهِ نَحْوَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ. وَالنَّسَائِيُّ، عَنِ الْفَلَّاسِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَبُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مَنْصُورٍ بِهِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ " الصَّحِيحَيْنِ " وَلَمْ يُخْرِجْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، لَكِنْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَيْثَمَةَ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ:غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا مِنَ جُهَيْنَةَ، فَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَلَمَّا أَنْ صَلَّى الظَّهْرَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَوْ مِلْنَا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً لَاقْتَطَعْنَاهُمْ. فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَذَكَرَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَقَالُوا: إِنَّهُ سَتَأْتِيهِمْ صَلَاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَوْلَادِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ

عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ الظَّهْرَ بِنَخْلٍ، فَهَمَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، ثُمَّ قَالُوا: دَعُوهُمْ ; فَإِنَّ لَهُمْ صَلَاةً بَعْدَ هَذِهِ الصَّلَاةِ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ. قَالَ: فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الْعَصْرَ، فَصَفَّهُمْ صَفَّيْنِ ; رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَالْعَدُوُّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَبَّرَ وَكَبَّرُوا جَمِيعًا، وَرَكَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ الَّذِينَ يَلُونَهُ وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ، فَلَمَّا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ سَجَدَ الْآخَرُونَ. ثُمَّ تَقَدَّمَ هَؤُلَاءِ وَتَأَخَّرَ هَؤُلَاءِ، فَكَبَّرُوا جَمِيعًا، وَرَكَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ الَّذِينَ يَلُونَهُ وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ، فَلَمَّا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ سَجَدَ الْآخَرُونَ. وَقَدِ اسْتَشْهَدَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " بِرِوَايَةِ هِشَامٍ هَذِهِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْهُنَائِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ بَيْنَ ضَجَنَانَ وَعُسْفَانَ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ لِهَؤُلَاءِ صَلَاةً هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ - وَهِيَ الْعَصْرُ - فَاجْمَعُوا أَمْرَكُمْ، فَمِيلُوا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً. وَإِنَّ

جِبْرِيلَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْسِمَ أَصْحَابَهُ شَطْرَيْنِ، فَيُصَلِّي بِبَعْضِهِمْ، وَتَقُومُ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى وَرَاءَهُمْ وَلِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ، ثُمَّ تَأْتِي الْأُخْرَى فَيُصَلُّونَ مَعَهُ، وَيَأْخُذُ هَؤُلَاءِ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ; لِيَكُونَ لَهُمْ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَانِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قُلْتُ: إِنْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ شَهِدَ هَذَا، فَهُوَ بَعْدَ خَيْبَرَ وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ مُرْسِلَاتِ الصَّحَابِيِّ، وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمْ يُذْكَرْ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ أَمْرُ عُسْفَانَ وَلَا خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ. بَقِيَ الشَّأْنُ فِي أَنَّ غَزْوَةَ عُسْفَانَ قَبْلَ الْخَنْدَقِ أَوْ بَعْدَهَا، فَإِنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ - مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ - مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ إِنَّمَا شُرِعَتْ بَعْدَ يَوْمِ الْخَنْدَقِ ; فَإِنَّهُمْ أَخَّرُوا الصَّلَاةَ يَوْمَئِذٍ عَنْ مِيقَاتِهَا لِعُذْرِ الْقِتَالِ، وَلَوْ كَانَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ مَشْرُوعَةً إِذْ ذَاكَ، لَفَعَلُوهَا وَلَمْ يُؤَخِّرُوهَا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَغَازِي: إِنَّ غَزْوَةَ بَنِي لِحْيَانَ الَّتِي صَلَّى فِيهَا

صَلَاةَ الْخَوْفِ بُعُسْفَانَ كَانَتْ بَعْدَ بَنِي قُرَيْظَةَ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ لَقِيَتْهُ بِعُسْفَانَ فَوَقَفْتُ بِإِزَائِهِ وَتَعَرَّضْتُ لَهُ، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الظَّهْرَ أَمَامَنَا فَهَمَمْنَا أَنْ نُغِيرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَمْ يُعْزَمْ لَنَا، فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِنَا مِنَ الْهَمِّ بِهِ، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْعَصْرِ صَلَاةَ الْخَوْفِ.
قُلْتُ: وَعُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ كَانَتْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ بَعْدَ الْخَنْدَقِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ كَمَا سَيَأْتِي. وَفِي سِيَاقِ حَدِيثِ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ مَا يَقْتَضِي أَنَّ آيَةَ صَلَاةِ الْخَوْفِ نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ يَوْمَ عُسْفَانَ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةِ خَوْفٍ صَلَّاهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسَنَذْكُرُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، كَيْفِيَّةَ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَاخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِيهَا فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ شَهْرَيْ رَبِيعٍ وَبَعْضَ جُمَادَى، ثُمَّ غَزَا نَجْدًا يُرِيدُ بَنِي مُحَارِبٍ وَبَنِي ثَعْلَبَةَ مِنْ غَطْفَانَ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا ذَرٍّ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ نَخْلًا وَهِيَ غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: لِأَنَّهُمْ رَقَّعُوا فِيهَا رَايَاتِهُمْ، وَيُقَالُ: لِشَجَرَةٍ هُنَاكَ اسْمُهَا ذَاتُ الرِّقَاعِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: بِجَبَلٍ فِيهِ بُقَعٌ حُمْرٌ وَسُودٌ وَبِيضٌ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى: إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَا كَانُوا يَرْبُطُونَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ مِنَ الْخِرَقِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَقِيَ بِهَا جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ فَتَقَارَبَ النَّاسُ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ، وَقَدْ خَافَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْخَوْفِ.
وَقَدْ أَسْنَدَ ابْنُ هِشَامٍ حَدِيثَ صَلَاةِ الْخَوْفِ هَاهُنَا عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ

سَعِيدٍ التَّنُّورِيِّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، وَعَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَلَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الطُّرُقِ غَزْوَةَ نَجْدٍ وَلَا ذَاتِ الرِّقَاعِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ. وَفِي كَوْنِ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ - الَّتِي كَانَتْ بِنَجْدٍ لِقِتَالِ بَنِي مُحَارِبٍ وَبَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ غَطَفَانَ - قَبْلَ الْخَنْدَقِ نَظَرٌ. وَقَدْ ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ خَيْبَرَ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ، بِأَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ شَهِدَهَا، كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدُومُهُ إِنَّمَا كَانَ لَيَالِيَ خَيْبَرَ صُحْبَةَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، وَكَذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَدْ قَالَ:صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ نَجْدٍ صَلَاةَ الْخَوْفِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بَعْدَ الْخَنْدَقِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ إِنَّمَا أَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِتَالِ أَوَّلَ مَا أَجَازَهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّهُ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ نَجْدٍ. فَذَكَرَ صَلَاةَ الْخَوْفِ. وَقَوْلُ الْوَاقِدِيِّ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ إِلَى ذَاتِ الرِّقَاعِ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ، وَيُقَالُ: سَبْعِمِائَةٍ، مِنْ أَصْحَابِهِ لَيْلَةَ السَّبْتِ، لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ. فِيهِ نَظَرٌ، ثُمَّ لَا يَحْصُلُ بِهِ نَجَاةٌ مِنْ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ إِنَّمَا شُرِعَتْ بَعْدَ الْخَنْدَقِ ; لِأَنَّ الْخَنْدَقَ كَانَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ عَلَى الْمَشْهُورِ

وَقِيلَ: فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ. فَتَحَصَّلَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَخْلَصٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فُلَا.

قِصَّةُ غَوْرَثِ بْنِ الْحَارِثِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِأَنَّ رَجُلًا مِنَ بَنِي مُحَارِبٍ يُقَالُ لَهُ: غَوْرَثٌ. قَالَ لِقَوْمِهِ مِنْ غَطَفَانَ وَمُحَارِبٍ: أَلَا أَقْتُلَ لَكُمْ مُحَمَّدًا ؟ قَالُوا: بَلَى، وَكَيْفَ تَقْتُلُهُ ؟ قَالَ: أَفْتِكُ بِهِ. قَالَ: فَأَقْبَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ، وَسَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِجْرِهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْظُرُ إِلَى سَيْفِكَ هَذَا ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَخَذَهُ فَاسْتَلَّهُ ثُمَّ جَعَلَ يَهُزُّهُ وَيَهُمُّ، فَيَكْبِتُهُ اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَمَا تَخَافُنِي ؟ قَالَ: لَا، وَمَا أَخَافُ مِنْكَ ؟ قَالَ: أَمَا تَخَافُنِي وَفِي يَدِي السَّيْفُ ؟ قَالَ: لَا، يَمْنَعُنِي اللَّهُ مِنْكَ. ثُمَّ عَمَدَ إِلَى سَيْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [ الْمَائِدَةِ: 11 ]
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ أَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي عَمْرِو بْنِ

جَحَّاشٍ أَخِي بَنِي النَّضِيرِ وَمَا هَمَّ بِهِ. هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قِصَّةَ غَوْرَثٍ هَذَا، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ الْقَدَرِيِّ رَأْسِ الْفِرْقَةِ الضَّالَّةِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ لَا يُتَّهَمُ بِتَعَمُّدِ الْكَذِبِ فِي الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْوَى عَنْهُ؛ لِبِدْعَتِهِ وَدُعَائِهِ إِلَيْهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
فَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ هَاهُنَا طُرُقًا لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ عِدَّةِ أَمَاكِنَ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَدْرَكَتْهُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَعَلِقَ بِهَا سَيْفُهُ، قَالَ جَابِرٌ: فَنِمْنَا نَوْمَةً فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُونَا، فَأَجَبْنَاهُ، وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ؟ قُلْتُ: اللَّهُ، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ؟ قُلْتُ: اللَّهُ، فَشَامَ السَّيْفَ وَجَلَسَ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ.

وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ أَبَانٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ:أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ وَكُنَّا إِذَا أَتَيْنَا عَلَى شَجَرَةٍ ظَلِيلَةٍ تَرَكْنَاهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَسَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَلَّقٌ بِشَجَرَةٍ، فَأَخَذَ سَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَرَطَهُ، وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَخَافُنِي ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ؟ قَالَ: اللَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ. قَالَ: فَتَهَدَّدَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَغْمَدَ السَّيْفَ وَعَلَّقَهُ. قَالَ: وَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ. وَقَدْ عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، عَنْ أَبَانٍ بِهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ مُسَدَّدٌ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ: إِنَّ اسْمَ الرَّجُلِ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ.
وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَارِبَ خَصَفَةَ بِنَخْلٍ، فَرَأَوْا مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِرَّةً، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ.

حَتَّى قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ، وَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ؟ قَالَ: اللَّهُ. فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّيْفَ وَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ؟ فَقَالَ: كُنْ خَيْرَ آخِذٍ. قَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أُعَاهِدُكَ عَلَى أَنْ لَا أُقَاتِلَكَ وَلَا أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ. فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَأَتَى أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ. ثُمَّ ذَكَرَ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ هُنَا طُرُقَ صَلَاةِ الْخَوْفِ بِذَاتِ الرِّقَاعِ عَنْ صَالِحِ بْنِ خُوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ وَحَدِيثَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ بِنَجْدٍ وَمَوْضِعُ ذَلِكَ كِتَابُ " الْأَحْكَامِ ". وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قِصَّةُ الَّذِي أُصِيبَتِ امْرَأَتُهُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَمِّي صَدَقَةُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ عَقِيلِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ نَخْلٍ، فَأَصَابَ رَجُلٌ امْرَأَةَ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَافِلًا، أَتَى زَوْجُهَا وَكَانَ غَائِبًا، فَلَمَّا أُخْبِرَ الْخَبَرَ، حَلَفَ لَا يَنْتَهِي حَتَّى يُهَرِيقَ فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ دَمًا، فَخَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلًا فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا لَيْلَتَنَا ؟ فَانْتَدَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقَالَا: نَحْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَكُونَا بِفَمِ الشِّعْبِ مِنَ الْوَادِي. وَهُمَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، فَلَمَّا خَرَجَا إِلَى فَمِ الشِّعْبِ قَالَ الْأَنْصَارِيُّ لِلْمُهَاجِرِيِّ: أَيُّ اللَّيْلِ تُحِبُّ أَنْ

أَكْفِيَكَهُ ; أَوَّلَهُ أَمْ آخِرَهُ ؟ قَالَ: بَلِ اكْفِنِي أَوَّلَهُ. فَاضْطَجَعَ الْمُهَاجِرِيُّ فَنَامَ، وَقَامَ الْأَنْصَارِيُّ يُصَلِّي. قَالَ: وَأَتَى الرَّجُلُ، فَلَمَّا رَأَى شَخْصَ الرَّجُلِ، عَرَفَ أَنَّهُ رَبِيئَةُ الْقَوْمِ، فَرَمَى بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِيهِ، فَانْتَزَعَهُ وَوَضَعَهُ، وَثَبَتَ قَائِمًا. قَالَ: ثُمَّ رَمَى بِسَهْمٍ آخَرَ فَوَضَعَهُ فِيهِ. قَالَ: فَانْتَزَعَهُ، فَوَضَعَهُ وَثَبَتَ قَائِمًا. قَالَ: ثُمَّ عَادَ لَهُ بِالثَّالِثِ، فَوَضَعَهُ فِيهِ فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، ثُمَّ أَهَبَّ صَاحِبَهُ، فَقَالَ: اجْلِسْ فَقَدْ أُثْبِتُّ. قَالَ: فَوَثَبَ الرَّجُلُ، فَلَمَّا رَآهُمَا الرَّجُلُ، عَرَفَ أَنَّهُ قَدْ نَذِرَا بِهِ، فَهَرَبَ. قَالَ: وَلَمَّا رَأَى الْمُهَاجِرِيُّ مَا بِالْأَنْصَارِيِّ مِنَ الدِّمَاءِ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! أَفَلَا أَهْبَبْتَنِي أَوَّلَ مَا رَمَاكَ ؟ ! قَالَ: كُنْتُ فِي سُورَةٍ أَقْرَؤُهَا، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَقْطَعَهَا حَتَّى أُنْفِذَهَا، فَلَمَّا تَابَعَ عَلَيَّ الرَّمْيَ رَكَعْتُ فَآذَنْتُكَ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْلَا أَنْ أُضَيِّعَ ثَغْرًا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِهِ، لَقَطَعَ نَفْسِي قَبْلَ أَنْ أَقْطَعَهَا أَوْ أُنْفِذَهَا. هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي تَوْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِهِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ، عَنْ أَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ خُوَّاتٍ عَنْ أَبِيهِ حَدِيثَ صَلَاةِ الْخَوْفِ بِطُولِهِ قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَصَابَ فِي مَحَالِّهِمْ نِسْوَةً، وَكَانَ فِي السَّبْيِ جَارِيَةٌ وَضِيئَةٌ، وَكَانَ زَوْجُهَا يُحِبُّهَا، فَحَلَفَ لِيَطْلُبَنَّ مُحَمَّدًا، وَلَا يَرْجِعُ حَتَّى يُصِيبَ دَمًا أَوْ يُخَلِّصَ صَاحِبَتَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنَ السِّيَاقِ نَحْوَ مَا أَوْرَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: بَيْنَا أَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِفَرْخٍ طَائِرٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا، حَتَّى طَرَحَ نَفْسَهُ فِي يَدَيِ الَّذِي أَخَذَ فَرْخَهُ، فَرَأَيْتُ أَنَّ النَّاسَ عَجِبُوا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا الطَّائِرِ ؟ ! أَخَذْتُمْ فَرْخَهُ فَطَرَحَ نَفْسَهُ رَحْمَةً لِفَرْخِهِ، فَوَاللَّهِ لَرَبُّكُمْ أَرْحَمُ بِكُمْ مِنْ هَذَا الطَّائِرِ بِفَرْخِهِ

قِصَّةُ جَمَلِ جَابِرٍ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ نَخْلٍ، عَلَى جَمَلٍ لِي ضَعِيفٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَتِ الرِّفَاقُ تَمْضِي، وَجَعَلْتُ أَتَخَلَّفُ حَتَّى أَدْرَكَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا لَكَ يَا جَابِرُ ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبْطَأَ بِي جَمَلِي هَذَا. قَالَ: أَنِخْهُ. قَالَ: فَأَنَخْتُهُ وَأَنَاخَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: أَعْطِنِي هَذِهِ الْعَصَا مِنْ يَدِكَ أَوِ: اقْطَعْ عَصًا مِنْ شَجَرَةٍ. فَفَعَلْتُ فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَخَسَهُ بِهَا نَخَسَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: ارْكَبْ. فَرَكِبْتُ فَخَرَجَ - وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ - يُوَاهِقُ نَاقَتَهُ مُوَاهَقَةً. قَالَ: وَتَحَدَّثْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: أَتَبِيعُنِي جَمَلَكَ هَذَا يَا جَابِرُ ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلْ أَهِبُهُ لَكَ. قَالَ: لَا، وَلَكِنْ بِعْنِيهِ. قَالَ: قُلْتُ: فَسُمْنِيهِ. قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ بِدِرْهَمٍ. قَالَ: قُلْتُ: لَا، إِذًا تَغْبِنُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:

فَبِدِرْهَمَيْنِ. قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَرْفَعُ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى بَلَغَ الْأُوقِيَّةَ. قَالَ: فَقُلْتُ: أَفْقَدْ رَضِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَهُوَ لَكَ. قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ. ثُمَّ قَالَ: يَا جَابِرُ هَلْ تَزَوَجْتَ بَعْدُ ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: أَثِيِّبًا أَمْ بِكْرًا ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلْ ثِيِّبًا. قَالَ: أَفَلَا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتَلَاعِبُكَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ بَنَاتٍ لَهُ سَبْعًا، فَنَكَحْتُ امْرَأَةً جَامِعَةً، تَجْمَعُ رُءُوسَهُنَّ فَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ. قَالَ: أَصَبْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَمَا إِنَّا لَوْ قَدْ جِئْنَا صِرَارًا، أَمَرْنَا بِجَزُورٍ فَنُحِرَتْ فَأَقَمْنَا عَلَيْهَا يَوْمَنَا ذَلِكَ، وَسَمِعَتْ بِنَا فَنَفَضَتْ نَمَارِقَهَا. قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا مِنْ نَمَارِقَ. قَالَ: إِنَّهَا سَتَكُونُ، فَإِذَا أَنْتَ قَدِمْتَ فَاعْمَلْ عَمَلًا كَيِّسًا. قَالَ: فَلَمَّا جِئْنَا صِرَارًا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَزُورٍ فَنُحِرَتْ، فَأَقَمْنَا عَلَيْهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَلَمَّا أَمْسَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ وَدَخَلْنَا. قَالَ: فَحَدَّثْتُ الْمَرْأَةَ الْحَدِيثَ، وَمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: فَدُونَكَ، فَسَمْعٌ وَطَاعَةٌ. فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَخَذْتُ بِرَأْسِ الْجَمَلِ، فَأَقْبَلْتُ بِهِ حَتَّى أَنَخْتُهُ عَلَى بَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ جَلَسْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَرِيبًا مِنْهُ. قَالَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَأَى الْجَمَلَ، فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا جَمَلٌ جَاءَ بِهِ جَابِرٌ. قَالَ: فَأَيْنَ جَابِرٌ ؟ فَدُعِيتُ لَهُ. قَالَ: فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، خُذْ بِرَأْسِ جَمَلِكَ، فَهُوَ لَكَ. قَالَ: وَدَعَا بِلَالًا، فَقَالَ: اذْهَبْ

بِجَابِرٍ فَأَعْطِهِ أُوقِيَّةً قَالَ: فَذَهَبْتُ مَعَهُ، فَأَعْطَانِي أُوقِيَّةً، وَزَادَنِي شَيْئًا يَسِيرًا. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَنْمِي عِنْدِي وَيُرَى مَكَانُهُ مِنْ بَيْتِنَا، حَتَّى أُصِيبَ أَمْسِ فِيمَا أُصِيبَ لَنَا. يَعْنِي يَوْمَ الْحَرَّةِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ صَاحِبَا الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرٍ بِنَحْوِهِ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانَ أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا وَالِدَهُ وَكَلَّمَهُ، فَقَالَ لَهُ: تَمَنَّ عَلَيَّ. وَذَلِكَ أَنَّهُ شَهِيدٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَزَادَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ثُمَّ جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمُ الَّتِي اشْتَرَاهَا مِنْهُمْ، فَقَالَ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ وَالرُّوحُ لِلْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةِ الْمَطِيَّةِ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: فَلِذَلِكَ اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَابِرٍ جَمَلَهُ وَهُوَ مَطِيَّتُهُ فَأَعْطَاهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ، وَزَادَهُ مَعَ ذَلِكَ. قَالَ: فَفِيهِ تَحْقِيقٌ لِمَا كَانَ أَخْبَرَهُ

بِهِ، عَنْ أَبِيهِ. وَهَذَا الَّذِي سَلَكَهُ السُّهَيْلِيُّ هَاهُنَا إِشَارَةٌ غَرِيبَةٌ وَتَخَيُّلٌ بَدِيعٌ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَرْجَمَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ فَقَالَ: بَابُ مَا ظَهَرَ فِي غَزَاتِهِ هَذِهِ مِنْ بَرَكَاتِهِ وَآيَاتِهِ فِي جَمَلِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ عَنْ جَابِرٍ وَأَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ فِي كِمِّيَّةِ ثَمَنِ الْجَمَلِ وَكَيْفِيَّةِ مَا اشْتُرِطَ فِي الْبَيْعِ. وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ وَاسْتِقْصَاؤُهُ لَائِقٌ بِكِتَابِ الْبَيْعِ مِنَ " الْأَحْكَامِ ". وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ جَاءَ تَقْيِيدُهُ بِهَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَجَاءَ تَقْيِيدُهُ بِغَيْرِهَا، كَمَا سَيَأْتِي، وَمُسْتَبْعَدٌ تَعْدَادُ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

غَزْوَةُ بَدْرٍ الْآخِرَةِ
وَهِيَ بَدْرٌ الْمَوْعِدُ، الَّتِي تَوَاعَدُوا إِلَيْهَا مِنْ أُحُدٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ أَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ جُمَادَى الْأُولَى وَجُمَادَى الْآخِرَةِ وَرَجَبًا، ثُمَّ خَرَجَ فِي شَعْبَانَ إِلَى بِدْرٍ لِمِيعَادِ أَبِي سُفْيَانَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا وَأَقَامَ عَلَيْهِ ثَمَانِيًا يَنْتَظِرُ أَبَا سُفْيَانَ وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى نَزَلَ مَجَنَّةَ مِنْ نَاحِيَةِ الظَّهْرَانِ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: قَدْ بَلَغَ عُسْفَانَ. ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي الرُّجُوعِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّهُ لَا يُصْلِحُكُمْ إِلَّا عَامٌ خَصِيبٌ، تَرْعَوْنَ فِيهِ الشَّجَرَ، وَتَشْرَبُونَ فِيهِ اللَّبَنَ، فَإِنَّ عَامَكُمْ هَذَا عَامُ جَدْبٍ، وَإِنِّي رَاجِعٌ فَارْجِعُوا. فَرَجَعَ النَّاسُ، فَسَمَّاهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ جَيْشَ السَّوِيقِ، يَقُولُونَ: إِنَّمَا خَرَجْتُمْ تَشْرَبُونَ السَّوِيقَ. قَالَ: وَأَتَى مَخْشِيُّ بْنُ عَمْرٍو الضَّمْرِيُّ وَقَدْ كَانَ وَادَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ وَدَّانَ عَلَى بَنِي ضَمْرَةَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَجِئْتَ لِلِقَاءِ قُرَيْشٍ عَلَى هَذَا الْمَاءِ ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَخَا بَنِي ضَمْرَةَ، وَإِنْ شِئْتَ رَدَدْنَا

إِلَيْكَ مَا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ وَجَالَدْنَاكَ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ. قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، مَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْ حَاجَةٍ. ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ - يَعْنِي فِي انْتِظَارِهِمْ أَبَا سُفْيَانَ وَرُجُوعِهِ بِقُرَيْشٍ عَامَهُ ذَلِكَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ أَنْشَدَنِيهَا أَبُو زَيْدٍ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ:
وَعَدْنَا أَبَا سُفْيَانَ بَدْرًا فَلَمْ نَجِدْ لِمِيعَادِهِ صِدْقًا وَمَا كَانَ وَافِيَا فَأُقْسِمُ لَوْ لَاقَيْتَنَا فَلَقِيَتَنَا
لَأُبْتَ ذَمِيمًا وَافْتَقَدْتَ الْمَوَالِيَا تَرَكْنَا بِهِ أَوْصَالَ عُتْبَةَ وَابْنِهِ
وَعَمْرًا، أَبَا جَهْلٍ تَرَكْنَاهُ ثَاوِيَا عَصَيْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ أُفٍّ لِدِينِكُمْ
وَأَمْرِكُمُ السَّيْئِ الَّذِي كَانَ غَاوِيَا فَإِنِّي وَإِنْ عَنَّفْتُمُونِي لَقَائِلٌ
فِدًى لِرَسُولِ اللَّهِ أَهْلِي وَمَالِيَا أَطَعْنَاهُ لَمْ نَعْدِلْهُ فِينَا بِغَيْرِهِ
شِهَابًا لَنَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ هَادِيَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي ذَلِكَ:

دَعُوا فَلَجَاتِ الشَّامِ قَدْ حَالَ دُونَهَا جِلَادٌ كَأَفْوَاهِ الْمَخَاضِ الْأَوَارِكِ
بِأَيْدِي رِجَالٍ هَاجَرُوا نَحْوَ رَبِّهِمْ وَأَنْصَارِهِ حَقًّا وَأَيْدِي الْمَلَائِكِ
إِذَا سَلَكَتْ لِلْغَوْرِ مِنْ بَطْنِ عَالَجٍ فَقُولَا لَهَا لَيْسَ الطَّرِيقُ هُنَالِكِ
أَقَمْنَا عَلَى الرَّسِّ النَّزُوعِ ثَمَانِيًا بِأَرْعَنَ جَرَّارٍ عَرِيضِ الْمَبَارِكِ
بِكُلِّ كُمَيْتٍ جَوْزُهُ نِصْفُ خَلْقِهِ وَقُبٍّ طِوَالٍ مُشْرِفَاتِ الْحَوَارِكِ
تَرَى الْعَرْفَجَ الْعَامِيَّ تَذْرِي أُصُولَهُ مَنَاسِمُ أَخْفَافِ الْمَطِيِّ الرَّوَاتِكِ
فَإِنْ تَلْقَ فِي تَطْوَافِنَا وَالْتِمَاسِنَا فُرَاتَ بْنَ حَيَّانٍ يَكُنْ رَهْنَ هَالِكِ
وَإِنْ تَلْقَ قَيْسَ بْنَ امْرِئِ الْقَيْسِ بَعْدَهُ يُزَدْ فِي سَوَادِ لَوْنِهِ لَوْنُ حَالِكِ
فَأَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنِّي رِسَالَةً فَإِنَّكَ مِنْ غُرِّ الرِّجَالِ الصَّعَالِكِ

قَالَ: فَأَجَابَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - وَقَدْ أَسْلَمَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ:
أَحَسَّانُ إِنَّا يَا ابْنَ آكِلَةِ الْفَغَا وَجَدِّكَ نَغْتَالُ الْخُرُوقَ كَذَلِكِ
خَرَجْنَا وَمَا تَنْجُو الْيَعَافِيرَ بَيْنَنَا وَلَوْ وَأَلَتْ مِنَّا بِشَدٍّ مُدَارِكِ
إِذَا مَا انْبَعَثْنَا مِنْ مُنَاخٍ حَسِبْتَهُ مُدَمَّنَ أَهْلِ الْمَوْسِمِ الْمُتَعَارِكِ
أَقَمْتَ عَلَى الرَّسِّ النَّزُوعِ تُرِيدُنَا وَتَتْرُكُنَا فِي النَّخْلِ عِنْدَ الْمَدَارِكِ
عَلَى الزَّرْعِ تَمْشِي خَيْلُنَا وَرِكَابُنَا فَمَا وَطِئَتْ أَلْصَقْنَهُ بِالدَّكَادِكِ
أَقَمْنَا ثَلَاثًا بَيْنَ سَلْعٍ وَفَارِعٍ بِجُرْدِ الْجِيَادِ وَالْمَطِيِّ الرَّوَاتِكِ

حَسِبْتُمْ جِلَادَ الْقَوْمِ عِنْدَ فِنَائِكُمْ كَمَأْخَذِكُمْ بِالْعَيْنِ أَرْطَالَ آنُكِ
فَلَا تَبْعِثِ الْخَيْلَ الْجِيَادَ وَقُلْ لَهَا عَلَى نَحْوِ قَوْلِ الْمَعْصِمِ الْمُتَمَاسِكِ
سَعِدْتُمْ بِهَا وَغَيْرُكُمْ كَانَ أَهْلَهَا فَوَارِسُ مِنْ أَبْنَاءِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ
فَإِنَّكَ لَا فِي هِجْرَةٍ إِنْ ذَكَرْتَهَا وَلَا حُرُمَاتِ دِينِهَا أَنْتَ نَاسِكُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ تَرَكْنَا مِنْهَا أَبْيَاتًا لِاخْتِلَافِ قَوَافِيهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْفَرَ النَّاسَ لِمَوْعِدِ أَبِي سُفْيَانَ وَانْبَعَثَ الْمُنَافِقُونَ فِي النَّاسِ يُثَبِّطُونَهُمْ، فَسَلَّمَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ صُحْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ وَأَخَذُوا مَعَهُمْ بِضَائِعَ، وَقَالُوا: إِنْ وَجَدْنَا أَبَا سُفْيَانَ وَإِلَّا اشْتَرَيْنَا مِنْ بَضَائِعِ مَوْسِمِ بَدْرٍ. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ سِيَاقِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي خُرُوجِ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى مَجَنَّةَ وَرُجُوعِهِ، وَفِي مُقَاوَلَةِ الضَّمْرِيِّ وَعَرْضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنَابَذَةَ فَأَبَى ذَلِكَ.

قَالَ الْوَاقِدِيُّ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ وَكَانَ خُرُوجُهُ إِلَيْهَا فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْقِعْدَةِ. يَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعٍ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ، وَوَافَقَ قَوْلَ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّهَا فِي شَعْبَانَ، لَكِنْ قَالَ: فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ. وَهَذَا وَهْمٌ ; فَإِنَّ هَذِهِ تَوَاعَدُوا إِلَيْهَا مِنْ أُحُدٍ، وَقَدْ كَانَتْ أُحُدٌ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَأَقَامُوا بِبَدْرٍ مُدَّةَ الْمَوْسِمِ الَّذِي كَانَ يُعْقَدُ فِيهَا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، فَرَجَعُوا وَقَدْ رَبِحُوا مِنَ الدِّرْهَمِ دِرْهَمَيْنِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فَانْقَلَبُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [ آلِ عِمْرَانَ: 174 ]

فَصْلٌ فِي جُمَلٍ مِنَ الْحَوَادِثِ الْوَاقِعَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قُلْتُ: مِنْ رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَ فِي حُفْرَتِهِ وَالِدُهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قُلْتُ: وَفِيهِ تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ الْقُرَشِيُّ الْمَخْزُومِيُّ، وَأُمُّهُ بَرَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ رَضِيعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ارْتَضَعَا مِنْ ثُوَيْبَةَ مَوْلَاةِ أَبِي لَهَبٍ وَكَانَ إِسْلَامُ أَبِي سَلَمَةِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَالْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ

قَدِيمًا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ هَاجَرَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَّةَ، وَقَدْ وُلِدَ لَهُمَا بِالْحَبَشَةِ أَوْلَادٌ، ثُمَّ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَبِعَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا، وَمَاتَ مِنْ آثَارِ جُرْحٍ جُرِحَهُ بِأُحُدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، لَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي الِاسْتِرْجَاعِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، سَيَأْتِي فِي سِيَاقِ تَزْوِيجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمِّ سَلَمَةَ قَرِيبًا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْهَا وُلِدَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَالَ: وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ خُزَيْمَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ الْهِلَالِيَّةَ.
وَقَدْ حَكَى أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجُرْجَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ أُخْتَ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ. ثُمَّ اسْتَغْرَبَهُ وَقَالَ: لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ.

وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: أُمُّ الْمَسَاكِينِ. لِكَثْرَةِ صَدَقَاتِهَا عَلَيْهِمْ وَبِرِّهَا لَهُمْ وَإِحْسَانِهَا إِلَيْهِمْ، وَأَصْدَقَهَا ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا، وَدَخَلَ بِهَا فِي رَمَضَانَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ الطُّفَيْلِ بْنِ الْحَارِثِ فَطَلَّقَهَا.
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجُرْجَانِيِّ: ثُمَّ خَلَّفَ عَلَيْهَا أَخُوهُ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: فِي الْغَابَةِ: وَقِيلَ: كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ فَقُتِلَ عَنْهَا يَوْمَ أُحُدٍ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا مَاتَتْ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: لَمْ تَلْبَثْ عِنْدَهُ إِلَّا شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً حَتَّى تُوُفِّيَتْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ.
قُلْتُ: وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ زَوْجِهَا، أَبِي أَوْلَادِهَا أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ وَقَدْ كَانَ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَجُرِحَ يَوْمَ أُحُدٍ فَدَاوَى جُرْحَهُ

شَهْرًا حَتَّى بَرِأَ، ثُمَّ خَرَجَ فِي سَرِيَّةٍ، فَغَنِمَ مِنْهَا نَعَمًا وَمَغْنَمًا جَيِّدًا، ثُمَّ أَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ انْتَقَضَ عَلَيْهِ جُرْحَهُ، فَمَاتَ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمَّا حَلَّتْ فِي شَوَّالٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَفْسِهَا بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، وَبَعَثَ إِلَيْهَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ مِرَرًا، فَتَذْكُرُ أَنَّهَا امْرَأَةٌ غَيْرَى ; أَيْ شَدِيدَةُ الْغَيْرَةِ، وَأَنَّهَا مُصْبِيَةٌ ; أَيْ لَهَا صِبْيَانٌ يَشْغَلُونَهَا عَنْهُ، وَيَحْتَاجُونَ إِلَى مُؤْنَةٍ، تَحْتَاجُ مَعَهَا أَنْ تَعْمَلَ لَهُمْ فِي قُوتِهِمْ، فَقَالَ: أَمَّا الصِّبْيَةُ فَإِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ - أَيْ نَفَقَتُهُمْ - لَيْسَ إِلَيْكِ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ فَأَدْعُو اللَّهَ فَيُذْهِبُهَا. فَأَذِنَتْ فِي ذَلِكَ، وَقَالَتْ لِعُمَرَ آخِرَ مَا قَالَتْ لَهُ: قُمْ، فَزَوِّجِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. تَعْنِي: قَدْ رَضِيتُ وَأَذِنْتُ. فَتَوَهَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا تَقُولُ لِابْنِهَا عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ كَانَ إِذْ ذَاكَ صَغِيرًا لَا يَلِي مَثَلُهُ الْعَقْدَ، وَقَدْ جَمَعْتُ فِي ذَلِكَ جُزْءًا مُفْرَدًا بَيَّنْتُ فِيهِ الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَأَنَّ الَّذِي وَلِيَ عَقْدَهَا عَلَيْهِ ابْنُهَا سَلَمَةُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِهَا، وَسَاغَ هَذَا ; لِأَنَّ أَبَاهُ ابْنُ عَمِّهَا فَلِلِابْنِ وِلَايَةُ أُمِّهِ إِذَا كَانَ سَبَبًا لَهَا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْبُنُوَّةِ بِالْإِجْمَاعِ. وَكَذَا إِذَا كَانَ مُعْتِقًا أَوْ حَاكِمًا، فَأَمَا مَحْضُ الْبُنُوَّةِ فَلَا يَلِي بِهَا عَقْدَ النِّكَاحِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَحْدَهُ، وَخَالَفَهُ الثَّلَاثَةُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ

حَنْبَلٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَلِبَسْطِ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ يُذْكَرُ فِيهِ، وَهُوَ كِتَابُ النِّكَاحِ مِنْ " الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ:أَتَانِي أَبُو سَلَمَةَ يَوْمًا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا فَسُرِرْتُ بِهِ ; قَالَ: لَا يُصِيبُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُصِيبَةٌ، فَيَسْتَرْجِعُ عِنْدَ مُصِيبَتِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَجِرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا. إِلَّا فُعِلَ بِهِ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَحَفِظْتُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ اسْتَرْجَعْتُ، وَقُلْتُ: اللَّهُمَّ أجِرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا. ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي، قُلْتُ: مِنْ أَيْنَ لِي خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ ؟ فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتِي اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَدْبُغُ إِهَابًا لِي، فَغَسَلْتُ يَدِي مِنَ الْقَرَظِ، وَأَذِنْتُ لَهُ، فَوَضَعْتُ لَهُ وِسَادَةَ أُدُمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَقَعَدَ عَلَيْهَا، فَخَطَبَنِي إِلَى نَفْسِي، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مَقَالَتِهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بِي أَنْ لَا

تَكُونَ بِكَ الرَّغْبَةُ، وَلَكِنِّي امْرَأَةٌ فِيَّ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ ; فَأَخَافُ أَنْ تَرَى مِنِّي شَيْئًا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ بِهِ، وَأَنَا امْرَأَةٌ قَدْ دَخَلْتُ فِي السِّنِّ، وَأَنَا ذَاتُ عِيَالٍ. فَقَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنَ الْغَيْرَةِ فَسَيُذْهِبُهَا اللَّهُ عَنْكِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنَ السِّنِّ ; فَقَدْ أَصَابَنِي مِثْلَ الَّذِي أَصَابَكِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنَ الْعِيَالِ فَإِنَّمَا عِيَالُكِ عِيَالِي. فَقَالَتْ: فَقَدْ سَلَّمْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتْ: أُمُّ سَلَمَةَ: فَقَدْ أَبْدَلَنِي اللَّهُ بِأَبِي سَلَمَةَ خَيْرًا مِنْهُ ; رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّهِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.. وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ بِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبَى شَيْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ قُدَامَةَ الْجُمَحِيِّ، عَنْ أَبِيهِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي مِنْ بِدْرٍ الْمَوْعِدِ - رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَضَى ذُو الْحِجَّةِ، وَوَلِيَ تِلْكَ الْحَجَّةَ

الْمُشْرِكُونَ وَهِيَ سَنَةُ أَرْبَعٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - يَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعٍ -أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ يَهُودَ
قُلْتُ: فَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: تَعَلَّمْتُهُ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سَنَةُ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
غَزْوَةُ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ - يَعْنِي مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ - وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيَّ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَقِيَّةَ سَنَتِهِ. هَكَذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ شُيُوخِهِ، عَنْ جَمَاعَةٍ

مِنَ السَّلَفِ قَالُوا: أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْنُوَ إِلَى أَدَانِي الشَّامِ وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُفْزِعُ قَيْصَرَ. وَذُكِرَ لَهُ أَنَّ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ جَمْعًا كَثِيرًا، وَأَنَّهُمْ يَظْلِمُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ، وَكَانَ بِهَا سُوقٌ عَظِيمٌ، وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَدْنُوا مِنَ الْمَدِينَةِ فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ، فَخَرَجَ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ يَسِيرُ اللَّيْلَ، وَيَكْمُنُ النَّهَارَ وَمَعَهُ دَلِيلٌ لَهُ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ يُقَالُ لَهُ: مَذْكُورٌ. هَادٍ خِرِّيتٌ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ أَخْبَرَهُ دَلِيلُهُ بِسَوَائِمِ بَنِي تَمِيمٍ، فَسَارَ حَتَّى هَجَمَ عَلَى مَاشِيَتِهِمْ وَرِعَائِهِمْ، فَأَصَابَ مَنْ أَصَابَ، وَهَرَبَ مَنْ هَرَبَ فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَجَاءَ الْخَبَرُ أَهْلَ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ فَتَفَرَّقُوا، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَاحَتِهِمْ، فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا أَحَدًا، فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا، وَبَثَّ السَّرَايَا، ثُمَّ رَجَعُوا، وَأَخَذَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَأَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: هَرَبُوا أَمْسِ. فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمَ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ خُرُوجُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ فِي رَبِيعٍ

الْأَوَّلِ سَنَةَ خَمْسٍ.
قَالَ: وَفِيهِ تُوُفِّيَتْ أُمُّ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَابْنُهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي " جَامِعِهِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ: أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَائِبٌ، فَلَمَّا قَدِمَ صَلَّى عَلَيْهَا وَقَدْ مَضَى لِذَلِكَ شَهْرٌ. وَهَذَا مُرْسَلٌ جَيِّدٌ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، غَابَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ شَهْرًا فَمَا فَوْقَهُ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ وَهِيَ غَزْوَةُ الْأَحْزَابِ
وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا صَدْرَ سُورَةِ " الْأَحْزَابِ " فَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ( الْأَحْزَابِ: 9 - 27 )،

وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى كُلِّ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ فِي " التَّفْسِيرِ "، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَلْنَذْكُرْ هَاهُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِصَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
وَقَدْ كَانَتْ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وقَتَادَةُ، والْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، سَلَفًا وَخَلَفًا.

وَقَدْ رَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ الْأَحْزَابِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ دَاوُدَ، عَنْهُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعِ سِنِينَ وَقَبْلَ اسْتِكْمَالِ خَمْسٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا انْصَرَفُوا عَنْ أُحُدٍ وَاعَدُوا الْمُسْلِمِينَ إِلَى بَدْرٍ الْعَامَ الْقَابِلَ، فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِقُرَيْشٍ لِجَدْبِ ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمْ يَكُونُوا لِيَأْتُوا إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ شَهْرَيْنِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْخَنْدَقَ فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ صَرَّحَ الزُّهْرِيُّ بِأَنَّ الْخَنْدَقَ كَانَتْ بَعْدَ أُحُدٍ بِسَنَتَيْنِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ أُحُدًا فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ التَّارِيخِ مِنْ مُحَرَّمِ السَّنَةِ التَّالِيَةَ لِسَنَةِ الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَعُدُّوا الشُّهُورَ الْبَاقِيَةَ مِنْ سَنَةِ الْهِجْرَةِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ إِلَى آخِرِهَا، كَمَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَبِهِ قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ الْفَسَوِيُّ، وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ بَدْرًا فِي الْأُولَى، وَأُحُدًا فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ، وَبَدْرًا الْمَوْعِدَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَالْخَنْدَقَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ. وَهَذَا

مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ؛ فَإِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَعَلَ أَوَّلَ التَّارِيخِ مِنْ مُحَرَّمِ سَنَةِ الْهِجْرَةِ. وَعَنْ مَالِكٍ: مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ الْهِجْرَةِ. فَصَارَتِ الْأَقْوَالُ ثَلَاثَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ أُحُدًا فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَأَنَّ الْخَنْدَقَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ:عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَنِي. فَقَدْ أَجَابَ عَنْهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّهُ عُرِضَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي أَوَّلِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ، وَيَوْمَ الْأَحْزَابِ فِي أَوَاخِرِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ.
قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ لَمَّا عُرِضَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، كَانَ قَدِ اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةَ، الَّتِي يُجَازُ لِمِثْلِهَا الْغِلْمَانُ، فَلَا يَبْقَى عَلَى هَذَا زِيَادَةٌ عَلَيْهَا. وَلِهَذَا لَمَّا بَلَّغَ نَافِعٌ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ: إِنَّ هَذَا لَفَرْقٌ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. ثُمَّ كَتَبَ بِهِ إِلَى الْآفَاقِ. وَاعْتَمَدَ عَلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ

الْعُلَمَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا سِيَاقُ الْقِصَّةِ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ:
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ كَانَتْ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ، فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، وَمَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَبَعْضُهُمْ يُحَدِّثُ مَا لَا يُحَدِّثُ بَعْضٌ، قَالُوا: إِنَّهُ كَانَ مِنْ حَدِيثِ الْخَنْدَقِ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْيَهُودِ - مِنْهُمْ: سَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحَقِيقِ النَّضَرِيُّ، وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ النَّضَرِيُّ، وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، وَهَوْذَةُ بْنُ قَيْسٍ الْوَائِلِيُّ، وَأَبُو عَمَّارٍ الْوَائِلِيُّ، فِي نَفَرٍ مِنَ بَنِي النَّضِيرِ وَنَفَرٍ مِنْ بَنِي وَائِلٍ، وَهُمُ الَّذِينَ حَزَّبُوا الْأَحْزَابَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجُوا حَتَّى قَدِمُوا عَلَى قُرَيْشٍ مَكَّةَ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: إِنَّا سَنَكُونُ مَعَكُمْ عَلَيْهِ، حَتَّى نَسْتَأْصِلَهُ. فَقَالَتْ لَهُمْ قُرَيْشٌ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، إِنَّكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَالْعِلْمِ بِمَا أَصْبَحْنَا نَخْتَلِفُ فِيهِ نَحْنُ وَمُحَمَّدٌ، أَفَدِينُنَا خَيْرٌ أَمْ دِينُهُ ؟ قَالُوا: بَلْ دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ وَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْهُ. 5 فَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا الْآيَاتِ

( النِّسَاءِ 51 52 ). فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لِقُرَيْشٍ سَرَّهُمْ وَنَشِطُوا لِمَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ مِنْ حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاجْتَمَعُوا لِذَلِكَ وَاتَّعَدُوا لَهُ، ثُمَّ خَرَجَ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ يَهُودَ حَتَّى جَاءُوا غَطَفَانَ مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى حَرْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ مَعَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَنَّ قُرَيْشًا قَدْ تَابَعُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَاجْتَمَعُوا مَعَهُمْ فِيهِ، فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَقَائِدُهَا أَبُو سُفْيَانَ، وَخَرَجَتْ غَطَفَانُ وَقَائِدُهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ، فِي بَنِي فَزَارَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ الْمُرِّيُّ، فِي بَنِي مُرَّةَ، وَمِسْعَرُ بْنُ رُخَيْلَةَ بْنِ نُوَيْرَةَ بْنِ طَرِيفِ بْنِ سُحْمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِلَالِ بْنِ خُلَاوَةَ بْنِ أَشْجَعَ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ فِيمَنْ تَابَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَشْجَعَ.
فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَجْمَعُوا لَهُ مِنَ الْأَمْرِ، ضَرَبَ الْخَنْدَقَ عَلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ يُقَالُ إِنَّ الَّذِي أَشَارَ

بِهِ سَلْمَانُ. قَالَ الطَّبَرِيُّ وَالسُّهَيْلِيُّ: أَوَّلُ مَنْ حَفَرَ الْخَنَادِقَ مِنُوشِهْرُ بْنُ إِيرَجَ بْنِ أَفْرِيدُونَ، وَكَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَعَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْغِيبًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْأَجْرِ، وَعَمِلَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، وَتَخَلَّفَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَعْتَذِرُونَ بِالضَّعْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْسَلُّ خُفْيَةً بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلَا عِلْمِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
( النُّورِ: 62 64 ) قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَعَمِلَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ حَتَّى أَحْكَمُوهُ، وَارْتَجَزُوا فِيهِ بِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ لَهُ: جُعَيْلٌ. سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرًا، فَقَالُوا فِيمَا يَقُولُونَ:

سَمَّاهُ مِنْ بَعْدِ جُعَيْلٍ عَمْرًا وَكَانَ لِلْبَائِسِ يَوْمًا ظَهْرَا
وَكَانُوا إِذَا قَالُوا عَمْرَا. قَالَ مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَمْرَا " وَإِذَا قَالُوا: ظَهْرَا. قَالَ لَهُمْ: " ظَهْرَا "..
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ حُمَيْدٍ، سَمِعْتُ أَنَسًا، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْخَنْدَقِ، فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالْجُوعِ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَنَسٍ، نَحْوَهُ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، وَحُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ عَلَى مُتُونِهِمْ، وَيَقُولُونَ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
قَالَ: يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجِيبُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَةِ، فَبَارِكْ فِي الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ قَالَ: يُؤْتَوْنَ بِمِلْءِ كَفِّي مِنَ الشَّعِيرِ، فَيُصْنَعُ لَهُمْ بِإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيِ الْقَوْمِ وَالْقَوْمُ جِيَاعٌ، وَهِيَ بَشِعَةٌ فِي الْحَلْقِ، وَلَهَا رِيحٌ مُنْتِنٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَنْدَقِ، وَهُمْ يَحْفِرُونَ، وَنَحْنُ نَنْقُلُ التُّرَابَ عَلَى أَكْتَادِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا

عَيْشُ الْآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ التُّرَابَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى أَغْمَرَ بَطْنَهُ - أَوِ اغْبَرَّ بَطْنُهُ - يَقُولُ:
وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
إِنَّ الْأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ: " أَبَيْنَا أَبَيْنَا وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ يُحَدِّثُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ وَخَنْدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَأَيْتُهُ يَنْقُلُ مِنْ

تُرَابِ الْخَنْدَقِ حَتَّى وَارَى عَنِّي التُّرَابُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الشِّعْرِ، فَسَمِعْتُهُ يَرْتَجِزُ بِكَلِمَاتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، وَهُوَ يَنْقُلُ مِنَ التُّرَابِ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
إِنَّ الْأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
ثُمَّ يُمَدُّ صَوْتَهُ بِآخِرِهَا.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ ": أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَلْخِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ الْبَلْخِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُسَيَّبُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ فِي الْخَنْدَقِ وَقَالَ:
بِسْمِ اللَّهِ وَبِهِ هُدِينَا وَلَوْ عَبَدْنَا غَيْرَهُ شَقِينَا يَا حَبَّذَا رَبًّا وَحَبَّ دِينًا وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ، وَهُمْ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ: " اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَةِ فَأَصْلِحِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ " وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ أَحَادِيثُ بَلَغَتْنِي، فِيهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عِبْرَةٌ فِي تَصْدِيقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَحْقِيقِ نُبُوَّتِهِ، عَايَنَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ؛ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِكَانَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ اشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْخَنْدَقِ كُدْيَةٌ، فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ، فَتَفَلَ فِيهِ، ثُمَّ دَعَا بِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ، ثُمَّ نَضَحَ الْمَاءَ عَلَى تِلْكَ الْكُدْيَةِ، فَيَقُولُ مَنْ حَضَرَهَا: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْهَالَتْ حَتَّى عَادَتْ كَالْكَثِيبِ مَا تَرُدُّ فَأْسًا وَلَا مِسْحَاةً هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مُنْقَطِعًا، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ جَابِرًا فَقَالَ: إِنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ، فَعَرَضَتْ كَيْدَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَاءُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ. فَقَالَ: " أَنَا نَازِلٌ " ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ، وَلَبِثْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَذُوقُ ذَوَاقًا، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِعْوَلَ فَضَرَبَ، فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ أَوْ أَهْيَمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي إِلَى الْبَيْتِ. فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مَا كَانَ فِي ذَلِكَ صَبْرٌ، فَعِنْدَكِ شَيْءٌ ؟ قَالَتْ: عِنْدِي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ. فَذَبَحَتِ الْعَنَاقَ، وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ، حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ فِي الْبُرْمَةِ، ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْعَجِينُ قَدِ انْكَسَرَ، وَالْبُرْمَةُ بَيْنَ الْأَثَافِيِّ قَدْ كَادَتْ أَنْ تَنْضَجَ، فَقُلْتُ: طُعَيِّمٌ لِي، فَقُمْ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ. قَالَ: " كَمْ هُوَ ؟ " فَذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ: " كَثِيرٌ طَيِّبٌ، قُلْ لَهَا لَا تَنْزِعِ الْبُرْمَةَ وَلَا

الْخُبْزَ مِنَ التَّنُّورِ حَتَّى آتِيَ ". فَقَالَ: " قُومُوا " فَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ: وَيْحَكِ، جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَنْ مَعَهُمْ. قَالَتْ: هَلْ سَأَلَكَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: " ادْخُلُوا وَلَا تَضَاغَطُوا " فَجَعَلَ يَكْسِرُ الْخُبْزَ، وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ، وَيُخَمِّرُ الْبُرْمَةَ وَالتَّنُّورَ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ، وَيُقَرِّبُ إِلَى أَصْحَابِهِ، ثُمَّ يَنْزِعُ، فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَغْرِفُ حَتَّى شَبِعُوا، وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ، قَالَ: " كُلِي هَذَا وَأَهْدِي، فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ، عَنْ أَبِيهِ أَيْمَنَ الْحَبَشِيِّ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، عَنْ جَابِرٍ بِقِصَّةِ الْكُدْيَةِ وَرَبْطِ الْحَجَرِ عَلَى بَطْنِهِ الْكَرِيمِ.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ " عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ بِقِصَّةِ الْكُدْيَةِ وَالطَّعَامِ، وَطُولُهُ أَتَمُّ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيُّ؛ قَالَ فِيهِ:لَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِقْدَارِ الطَّعَامِ قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا: " قُومُوا إِلَى جَابِرٍ " فَقَامُوا، قَالَ: فَلَقِيتُ مِنَ الْحَيَاءِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَقُلْتُ: جَاءَ بِالْخَلْقِ عَلَى صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ وَعَنَاقٍ! وَدَخَلْتُ عَلَى امْرَأَتِي أَقُولُ: افْتَضَحْتِ؛ جَاءَكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بِالْخَنْدَقِ أَجْمَعِينَ. فَقَالَتْ: هَلْ كَانَ سَأَلَكَ كَمْ طَعَامُكَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ فَقَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَكَشَفَتْ عَنِّي غَمًّا شَدِيدًا. قَالَ: فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " خُذِي وَدَعِينِي مِنَ اللَّحْمِ ". وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَثْرُدُ وَيَغْرِفُ اللَّحْمَ، ثُمَّ يُخَمِّرُ هَذَا وَيُخَمِّرُ هَذَا، فَمَا زَالَ يُقَرِّبُ إِلَى النَّاسِ حَتَّى شَبِعُوا أَجْمَعِينَ، وَيَعُودُ التَّنُّورُ وَالْقِدْرُ أَمْلَأَ مَا كَانَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلِي وَأَهْدِي " فَلَمْ تَزَلْ تَأْكُلُ وَتُهْدِي يَوْمَنَا أَجْمَعَ.
وَقَدْ رَوَاهُ كَذَلِكَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، بِهِ، وَأَبْسَطَ أَيْضًا، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُمْ كَانُوا ثَمَانِمِائَةٍ أَوْ قَالَ: ثَلَاثَمِائَةٍ. وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا فِي الطَّعَامِ فَقَطْ، وَقَالَ: وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمَصًا فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي، فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمَصًا شَدِيدًا.

فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ فَذَبَحْتُهَا، وَطَحَنَتْ، فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي، وَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: لَا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَنْ مَعَهُ. فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنَّا صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ. فَصَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُورًا، فَحَيَّ هَلًا بِكُمْ " فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ، وَلَا تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُمْ حَتَّى أَجِيءَ ". فَجِئْتُ، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْدُمُ النَّاسَ، حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي فَقَالَتْ: بِكَ وَبِكَ. فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ. فَأَخْرَجَتْ لَنَا عَجِينًا، فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: " ادْعُ خَبَّازَةً فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ، وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلَا تُنْزِلُوهَا ". وَهُمْ أَلْفٌ، فَأَقْسَمَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ الشَّاعِرِ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، بِهِ نَحْوَهُ.

وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَفِي سِيَاقِهِ غَرَابَةٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:عَمِلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَنْدَقِ، وَكَانَتْ عِنْدِي شُوَيْهَةٌ غَيْرُ جِدِّ سَمِينَةٍ، قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَوْ صَنَعْنَاهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَأَمَرْتُ امْرَأَتِي فَطَحَنَتْ لَنَا شَيْئًا مِنْ شَعِيرٍ، فَصَنَعَتْ لَنَا مِنْهُ خُبْزًا، وَذَبَحْتُ تِلْكَ الشَّاةَ فَشَوَيْنَاهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَمْسَيْنَا وَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِانْصِرَافَ عَنِ الْخَنْدَقِ، قَالَ: وَكُنَّا نَعْمَلُ فِيهِ نَهَارًا، فَإِذَا أَمْسَيْنَا رَجَعْنَا إِلَى أَهَالِينَا. قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ صَنَعْتُ لَكَ شُوَيْهَةً كَانَتْ عِنْدَنَا، وَصَنَعْنَا مَعَهَا شَيْئًا مِنْ خُبْزِ هَذَا الشَّعِيرِ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَنْصَرِفَ مَعِي إِلَى مَنْزِلِي. قَالَ: وَإِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ يَنْصَرِفَ مَعِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ قَالَ: فَلَمَّا أَنْ قُلْتُ ذَلِكَ قَالَ: " نَعَمْ " ثُمَّ أَمَرَ صَارِخًا فَصَرَخَ أَنِ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: قُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. قَالَ: فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْبَلَ النَّاسُ مَعَهُ، فَجَلَسَ وَأَخْرَجْنَاهَا إِلَيْهِ. قَالَ: فَبَرَّكَ وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ أَكَلَ، وَتَوَارَدَهَا النَّاسُ، كُلَّمَا فَرَغَ قَوْمٌ قَامُوا وَجَاءَ نَاسٌ، حَتَّى صَدَرَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنْهَا وَالْعَجَبُ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ إِنَّمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْهُ، عَنْ جَابِرٍ مِثْلَهُ سَوَاءً.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ أَنَّهُ قَدْ حُدِّثَ أَنَّ ابْنَةً

لِبَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ أُخْتِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَتْ: دَعَتْنِي أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ، فَأَعْطَتْنِي حَفْنَةً مِنْ تَمْرٍ فِي ثَوْبِي، ثُمَّ قَالَتْ: أَيْ بُنَيَّةُ، اذْهَبِي إِلَى أَبِيكِ وَخَالِكِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ بِغَدَائِهِمَا. قَالَتْ: فَأَخَذْتُهَا وَانْطَلَقْتُ بِهَا فَمَرَرْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَلْتَمِسُ أَبِي وَخَالِي فَقَالَ: " تَعَالَيْ يَا بُنَيَّةُ، مَا هَذَا مَعَكِ ؟ ". قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا تَمْرٌ بَعَثَتْنِي بِهِ أُمِّي إِلَى أَبِي بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ وَخَالِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ يَتَغَدَّيَانِهِ. فَقَالَ: " هَاتِيهِ ". قَالَتْ: " فَصَبَبْتُهُ فِي كَفَّيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا مَلَأَتْهُمَا، ثُمَّ أَمَرَ بِثَوْبٍ فَبُسِطَ لَهُ، ثُمَّ دَحَا بِالتَّمْرِ عَلَيْهِ، فَتَبَدَّدَ فَوْقَ الثَّوْبِ، ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ عِنْدَهُ: " اصْرُخْ فِي أَهْلِ الْخَنْدَقِ أَنْ هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاءِ ". فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَلَيْهِ فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَجَعَلَ يَزِيدُ، حَتَّى صَدَرَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنْهُ وَإِنَّهُ لَيَسْقُطُ مِنْ أَطْرَافِ الثَّوْبِ هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ، وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، وَلَمْ يَزِدْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَحُدِّثْتُ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: ضَرَبْتُ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْخَنْدَقِ فَغَلُظَتْ عَلَيَّ صَخْرَةٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرِيبٌ مِنِّي، فَلَمَّا رَآنِي أَضْرِبُ وَرَأَى شِدَّةَ الْمَكَانِ عَلَيَّ، نَزَلَ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ مِنْ يَدِي فَضَرَبَ بِهِ ضَرْبَةً لَمَعَتْ تَحْتَ الْمِعْوَلِ بُرْقَةٌ ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ ضَرْبَةً أُخْرَى فَلَمَعَتْ تَحْتَهُ بُرْقَةٌ أُخْرَى. قَالَ: ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ الثَّالِثَةَ فَلَمَعَتْ بُرْقَةٌ أُخْرَى. قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ

وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ لَمَعَ تَحْتَ الْمِعْوَلِ وَأَنْتَ تَضْرِبُ ؟ قَالَ: " أَوَ قَدْ رَأَيْتَ ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ ؟ " قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " أَمَّا الْأُولَى، فَإِنَّ اللَّهَ فَتَحَ عَلَيَّ بِهَا الْيَمَنَ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ فَتَحَ عَلَيَّ بِهَا الشَّامَ وَالْمَغْرِبَ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ فَتَحَ عَلَيَّ بِهَا الْمَشْرِقَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ قَدْ ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي " مَغَازِيهِ " وَذَكَرَهُ أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ يُونُسَ الْكُدَيْمِيِّ، وَفِي حَدِيثِهِ نَظَرٌ، لَكِنْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي " تَارِيخِهِ " عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ بُنْدَارٍ، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَثْمَةَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جِدِّهِ، فَذَكَرَ حَدِيثًا فِيهِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَّ الْخَنْدَقَ بَيْنَ كُلِّ عَشَرَةٍ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا. قَالَ: وَاحْتَقَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فِي سَلْمَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ " قَالَ عَمْرُو بْنُ عَوْفٍ: فَكُنْتُ أَنَا وَسَلْمَانُ وَحُذَيْفَةُ وَالنُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ وَسِتَّةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، فَحَفَرْنَا

حَتَّى إِذَا بَلَغْنَا النَّدَى ظَهَرَتْ لَنَا صَخْرَةٌ بَيْضَاءُ مَرْوَةٌ، فَكَسَرَتْ حَدِيدَنَا وَشَقَّتْ عَلَيْنَا، فَذَهَبَ سَلْمَانُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ، فَأَخْبَرَهُ عَنْهَا، فَجَاءَ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ مِنْ سَلْمَانَ، فَضَرَبَ الصَّخْرَةَ ضَرْبَةً فَصَدَّعَهَا، وَبَرَقَتْ مِنْهَا بُرْقَةٌ أَضَاءَتْ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا - يَعْنِي الْمَدِينَةَ - حَتَّى كَأَنَّهَا مِصْبَاحٌ فِي جَوْفِ لَيْلٍ مُظْلِمٍ، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْبِيرَ فَتْحٍ، وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ ثُمَّ ضَرَبَهَا الثَّانِيَةَ فَكَذَلِكَ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ فَكَذَلِكَ وَذَكَرَ ذَلِكَ سَلْمَانُ وَالْمُسْلِمُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ النُّورِ، فَقَالَ: " لَقَدْ أَضَاءَ لِي مِنَ الْأُولَى قُصُورُ الْحِيرَةِ وَمَدَائِنُ كِسْرَى، كَأَنَّهَا أَنْيَابُ الْكِلَابِ، فَأَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا، وَمِنَ الثَّانِيَةِ أَضَاءَتِ الْقُصُورُ الْحُمْرُ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ، كَأَنَّهَا أَنْيَابُ الْكِلَابِ، وَأَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا، وَمِنَ الثَّالِثَةِ أَضَاءَتْ قُصُورُ صَنْعَاءَ كَأَنَّهَا أَنْيَابُ الْكِلَابِ، وَأَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا، فَأَبْشِرُوا ". وَاسْتَبْشَرَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَوْعُودٌ صَادِقٌ. قَالَ: وَلَمَّا طَلَعَتِ الْأَحْزَابُ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ يُبْصِرُ مِنْ يَثْرِبَ قُصُورَ الْحِيرَةِ وَمَدَائِنَ كِسْرَى، وَأَنَّهَا تُفْتَحُ لَكُمْ، وَأَنْتُمْ تَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَبَرَّزُوا ؟! فَنَزَلَ فِيهِمْ:

وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَلُّولٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ:لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَنْدَقِ فَخَنْدَقَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا وَجَدْنَا صَفَاةً لَا نَسْتَطِيعُ حَفْرَهَا، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقُمْنَا مَعَهُ فَلَمَّا أَتَاهَا أَخَذَ الْمِعْوَلَ، فَضَرَبَ بِهِ ضَرْبَةً وَكَبَّرَ، فَسَمِعْتُ هَدَّةً لَمْ أَسْمَعْ مِثْلَهَا قَطُّ، فَقَالَ: " فُتِحَتْ فَارِسُ " ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى فَكَبَّرَ، فَسَمِعْتُ هَدَّةً لَمْ أَسْمَعْ مِثْلَهَا قَطُّ، فَقَالَ: " فُتِحَتِ الرُّومُ " ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى فَكَبَّرَ، فَسَمِعْتُ هَدَّةً لَمْ أَسْمَعْ مِثْلَهَا قَطُّ، فَقَالَ: " جَاءَ اللَّهُ بِحِمْيَرَ أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا وَهَذَا أَيْضًا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمَ الْأَفْرِيقِيُّ فِيهِ ضَعْفٌ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ، حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ سَعِيدٍ الْعَبْدِيُّ أَنَّ

عِكْرِمَةَ حَدَّثَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:احْتَفَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَنْدَقَ، وَأَصْحَابُهُ قَدْ شَدُّوا الْحِجَارَةَ عَلَى بُطُونِهِمْ مِنَ الْجُوعِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " هَلْ دَلَلْتُمْ عَلَى رَجُلٍ يُطْعِمُنَا أَكْلَةً ؟ ". قَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ، قَالَ: " إِمَّا لَا فَتَقَدَّمْ فَدُلَّنَا عَلَيْهِ ". فَانْطَلَقُوا إِلَى بَيْتِ الرَّجُلِ، فَإِذَا هُوَ فِي الْخَنْدَقِ يُعَالِجُ نَصِيبَهُ مِنْهُ، فَأَرْسَلَتِ امْرَأَتُهُ أَنْ جِئْ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَتَانَا. فَجَاءَ الرَّجُلُ يَسْعَى وَقَالَ: بِأَبِي وَأُمِّي. وَلَهُ مَعْزَةٌ وَمَعَهَا جَدْيُهَا، فَوَثَبَ إِلَيْهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْجَدْيُ مِنْ وَرَائِهَا ". فَذَبَحَ الْجَدْيَ، وَعَمَدَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى طَحِينَةٍ لَهَا فَعَجَنَتْهَا وَخَبَزَتْ، فَأَدْرَكَتِ الْقِدْرَ، فَثَرَدَتْ قَصْعَتَهَا، فَقَرَّبَتْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُصْبُعَهُ فِيهَا، وَقَالَ: " بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهَا، اطْعَمُوا ". فَأَكَلُوا مِنْهَا حَتَّى صَدَرُوا، وَلَمْ يَأْكُلُوا مِنْهَا إِلَّا ثُلُثَهَا، وَبَقِيَ ثُلُثَاهَا، فَسَرَّحَ أُولَئِكَ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، أَنِ اذْهَبُوا وَسَرِّحُوا إِلَيْنَا بِعِدَّتِكُمْ. فَذَهَبُوا، فَجَاءَ أُولَئِكَ الْعَشَرَةُ فَأَكَلُوا مِنْهَا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ قَامَ وَدَعَا لِرَبَّةِ الْبَيْتِ، وَسَمَّتَ عَلَيْهَا وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهَا، ثُمَّ مَشَوْا إِلَى الْخَنْدَقِ فَقَالَ: " اذْهَبُوا بِنَا إِلَى سَلْمَانَ ". وَإِذَا صَخْرَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ قَدْ ضَعُفَ عَنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دَعُونِي فَأَكُونَ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَهَا " فَقَالَ: " بِسْمِ اللَّهِ ". فَضَرَبَهَا فَوَقَعَتْ فِلْقَةٌ ثُلُثُهَا، فَقَالَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ، قُصُورُ الرُّومِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ". ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى فَوَقَعَتْ فِلْقَةٌ، فَقَالَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ، قُصُورُ فَارِسَ وَرَبِّ

الْكَعْبَةِ "، فَقَالَ عِنْدَهَا الْمُنَافِقُونَ: نَحْنُ نُخَنْدِقُ عَلَى أَنْفُسِنَا، وَهُوَ يَعِدُنَا قُصُورَ فَارِسَ وَالرُّومِ.
ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبِ بْنِ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا هَوْذَةُ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أُسْتَاذٍ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ:لَمَّا كَانَ حِينَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، عَرَضَ لَنَا فِي بَعْضِ الْخَنْدَقِ صَخْرَةٌ عَظِيمَةٌ شَدِيدَةٌ، لَا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهَا أَخَذَ الْمِعْوَلَ وَقَالَ: " بِسْمِ اللَّهِ " وَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَهَا، وَقَالَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ فَقَطَعَ ثُلُثًا آخَرَ، فَقَالَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قَصْرَ الْمَدَائِنِ الْأَبْيَضَ " ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: " بِسْمِ اللَّهِ ". فَقَطَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي السَّاعَةَ وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ أَيْضًا، تَفَرَّدَ بِهِ مَيْمُونُ بْنُ أُسْتَاذٍ هَذَا، وَهُوَ بَصْرِيٌّ رَوَى عَنِ الْبَرَاءِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَنْهُ حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ وَالْجَرِيرِيُّ وَعَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ مَعِينٍ: كَانَ ثِقَةً. وَقَالَ عَلِيُّ

بْنُ الْمَدِينِيِّ: كَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ لَا يُحَدِّثُ عَنْهُ.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ السَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي سُكَيْنَةَ - رَجُلٍ مِنَ الْمُحَرَّرِينَ - عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، عَرَضَتْ لَهُمْ صَخْرَةٌ حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَفْرِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ، وَوَضَعَ رِدَاءَهُ نَاحِيَةَ الْخَنْدَقِ، وَقَالَ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( الْأَنْعَامِ: 115 ) فَنَدَرَ ثُلُثُ الْحَجَرِ، وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَائِمٌ يَنْظُرُ، فَبَرَقَ مَعَ ضَرْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرْقَةٌ ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ، وَقَالَ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَنَدَرَ الثُّلُثُ الْآخَرُ، وَبَرَقَتْ بُرْقَةٌ فَرَآهَا سَلْمَانُ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ، وَقَالَ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَنَدَرَ الثُّلُثُ الْبَاقِي، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ وَجَلَسَ، فَقَالَ سَلْمَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُكَ حِينَ ضَرَبْتَ لَا تَضْرِبُ إِلَّا كَانَتْ مَعَهَا بُرْقَةٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا سَلْمَانُ، رَأَيْتَ ذَلِكَ ؟ ". قَالَ: إِي وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " فَإِنِّي حِينَ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الْأُولَى رُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ كِسْرَى وَمَا حَوْلَهَا وَمَدَائِنُ كَثِيرَةٌ، حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنِي " فَقَالَ لَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ

يَفْتَحَهَا عَلَيْنَا وَيُغَنِّمَنَا ذَرَارِيَّهُمْ، وَنُخَرِّبَ بِأَيْدِينَا بِلَادَهُمْ، فَدَعَا بِذَلِكَ، قَالَ: " ثُمَّ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الثَّانِيَةَ، فُرِفَعَتْ لِي مَدَائِنُ قَيْصَرَ وَمَا حَوْلَهَا، حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنِي " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَهَا عَلَيْنَا وَيُغَنِّمَنَا ذَرَارِيَّهُمْ، وَنُخَرِّبَ بِأَيْدِينَا بِلَادَهُمْ. فَدَعَا، ثُمَّ قَالَ: " ثُمَّ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الثَّالِثَةَ، فَرُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ الْحَبَشَةِ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى، حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنِي " ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دَعُوُا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ، وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ " هَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مُطَوَّلًا، وَإِنَّمَا رَوَى مِنْهُ أَبُو دَاوُدَ: " دَعُوُا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ، وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ ". عَنْ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدٍ الرَّمْلِيِّ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو السَّيْبَانِيِّ، بِهِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ حِينَ فُتِحَتْ هَذِهِ الْأَمْصَارُ فِي زَمَانِ عُمَرَ وَزَمَانِ عُثْمَانَ وَمَا بَعْدَهُ: افْتَتِحُوا مَا بَدَا لَكُمْ، فَوَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، مَا افْتَتَحْتُمْ مِنْ مَدِينَةٍ وَلَا تَفْتَحُونَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، إِلَّا وَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَفَاتِيحَهَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَهَذَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا، وَقَدْ وُصِلَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ، فَوُضِعَتْ فِي يَدِي وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُنْفَرِدًا بِهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، وَسَعْدِ بْنِ عُفَيْرٍ، كِلَاهُمَا عَنِ اللَّيْثِ، بِهِ، وَعِنْدَهُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَتُلَّتْ فِي يَدِي " وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ( إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ؛ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا ).

فَصْلٌ ( مَوْقِفُ الْأَحْزَابِ بَعْدَ فَرَاغِ رَسُولِ اللَّهِ مِنَ الْخَنْدَقِ )
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخَنْدَقِ، أَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى نَزَلَتْ بِمُجْتَمَعِ الْأَسْيَالِ مِنْ رُومَةَ، بَيْنَ الْجُرُفِ وَزَغَابَةَ، فِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ أَحَابِيشِهِمْ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ، وَأَقْبَلَتْ غَطَفَانُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، حَتَّى نَزَلُوا بِذَنَبِ نَقَمَى إِلَى جَانِبِ أُحُدٍ وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، حَتَّى جَعَلُوا ظُهُورَهُمْ إِلَى سَلْعٍ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبَ هُنَالِكَ عَسْكَرَهُ، وَالْخَنْدَقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْمِ وَأَمَرَ بِالذَّرَارِيِّ وَالنِّسَاءِ فَجُعِلُوا فَوْقَ الْآطَامِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ
قُلْتُ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ قَالَتْ: ذَلِكَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ.

قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَلَمَّا نَزَلَ الْأَحْزَابُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ أَغْلَقَ بَنُو قُرَيْظَةَ حِصْنَهُمْ دُونَهُمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَخَرَجَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ النَّضَرِيُّ حَتَّى أَتَى كَعْبَ بْنَ أَسَدٍ الْقُرَظِيَّ صَاحِبَ عَقْدِهِمْ وَعَهْدِهِمْ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ كَعْبٌ أَغْلَقَ بَابَ حِصْنِهِ دُونَ حُيَيٍّ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَأَبَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ، فَنَادَاهُ: وَيْحَكَ يَا كَعْبُ ! افْتَحْ لِي. قَالَ: وَيْحَكَ يَا حُيَيُّ ! إِنَّكَ امْرُؤٌ مَشْئُومٌ، وَإِنِّي قَدْ عَاهَدْتُ مُحَمَّدًا، فَلَسْتُ بِنَاقِضٍ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَلَمْ أَرَ مِنْهُ إِلَّا وَفَاءً وَصِدْقًا. قَالَ: وَيْحَكَ! افْتَحْ لِي أُكَلِّمْكَ. قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. قَالَ: وَاللَّهِ إِنْ أَغْلَقْتَ دُونِي إِلَّا خَوْفًا عَلَى جَشِيشَتِكَ أَنْ آكُلَ مَعَكَ مِنْهَا. فَأَحْفَظَ الرَّجُلَ، فَفَتَحَ لَهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا كَعْبُ ! جِئْتُكَ بِعِزِّ الدَّهْرِ وَبَحْرٍ طَامٍ. قَالَ: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ: جِئْتُكَ بِقُرَيْشٍ عَلَى قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا، حَتَّى أَنْزَلْتُهُمْ بِمُجْتَمَعِ الْأَسْيَالِ مِنْ رُومَةَ، وَبِغَطَفَانَ عَلَى قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا حَتَّى أَنْزَلْتُهُمْ بِذَنَبِ نَقَمَى إِلَى جَانِبِ أُحُدٍ قَدْ عَاهَدُونِي وَعَاقَدُونِي عَلَى أَنْ لَا يَبْرَحُوا حَتَّى نَسْتَأْصِلَ مُحَمَّدًا وَمَنْ مَعَهُ. فَقَالَ كَعْبٌ: جِئْتَنِي وَاللَّهِ بِذُلِّ الدَّهْرِ، وَبِجَهَامٍ قَدْ هَرَاقَ مَاءَهُ، يُرْعِدُ وَيُبْرِقُ، وَلَيْسَ فِيهِ

شَيْءٌ، وَيْحَكَ يَا حُيَيُّ ! فَدَعْنِي وَمَا أَنَا عَلَيْهِ؛ فَإِنِّي لَمْ أَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ إِلَّا صِدْقًا وَوَفَاءً. وَقَدْ تَكَلَّمَ عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ الْقُرَظِيُّ فَأَحْسَنَ، فِيمَا ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ ذَكَّرَهُمْ مِيثَاقَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدَهُ، وَمُعَاقَدَتَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى نَصْرِهِ، وَقَالَ: إِذَا لَمْ تَنْصُرُوهُ فَاتْرُكُوهُ وَعَدُوَّهُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَلَمْ يَزَلْ حُيَيٌّ بِكَعْبٍ يَفْتِلُ فِي الذِّرْوَةِ وَالْغَارِبِ حَتَّى سَمَحَ لَهُ - يَعْنِي فِي نَقْضِ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي مُحَارَبَتِهِ مَعَالْأَحْزَابِ - عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ حُيَيٌّ عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ: لَئِنْ رَجَعَتْ قُرَيْشٌ وغَطَفَانُ وَلَمْ يُصِيبُوا مُحَمَّدًا؛ أَنْ أَدْخُلَ مَعَكَ فِي حِصْنِكَ حَتَّى يُصِيبَنِي مَا أَصَابَكَ. فَنَقَضَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ عَهْدَهُ، وَبَرِئَ مِمَّا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَأَمَرَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ وَبَنُو قُرَيْظَةَ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ أَنْ يَأْخُذَ لَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وغَطَفَانَ رَهَائِنَ تَكُونُ عِنْدَهُمْ. يَعْنِي لِئَلَّا يَنَالَهُمْ ضَيْمٌ إِنْ هُمْ رَجَعُوا وَلَمْ يُنَاجِزُوا مُحَمَّدًا. قَالُوا: وَتَكُونُ الرَّهَائِنُ تِسْعِينَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ. فَنَازَلَهُمْ حُيَيٌّ عَلَى ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَقَضُوا الْعَهْدَ، وَمَزَّقُوا

الصَّحِيفَةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا الْعَهْدُ، إِلَّا بَنِي سَعْيَةَ أَسَدٌ وَأَسِيدٌ وَثَعْلَبَةُ، فَإِنَّهُمْ خَرَجُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَلَمَّا انْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى الْمُسْلِمِينَ، بَعَثَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ،، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْأَوْسِ، وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، وَمَعَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَخَوَّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ: " انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فَتَنْظُرُوا أَحَقٌّ مَا بَلَغَنَا عَنْهُمْ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا فَالْحَنُوا لِي لَحْنًا أَعْرِفُهُ، وَلَا تَفُتُّوا فِي أَعْضَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى الْوَفَاءِ فَاجْهُرُوا بِهِ لِلنَّاسِ ". قَالَ: فَخَرَجُوا حَتَّى أَتَوْهُمْ.
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فَدَخَلُوا مَعَهُمْ حِصْنَهُمْ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى الْمُوَادَعَةِ وَتَجْدِيدِ الْحِلْفِ، فَقَالُوا: الْآنَ وَقَدْ كُسِرَ جَنَاحُنَا وَأَخْرَجَهُمْ ؟! يُرِيدُونَ بَنِي النَّضِيرِ، وَنَالُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ يُشَاتِمُهُمْ، فَأَغْضَبُوهُ، فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ إِنَّا وَاللَّهِ مَا جِئْنَا لِهَذَا، وَلَمَا بَيْنَنَا أَكْبَرُ مِنَ الْمُشَاتَمَةِ. ثُمَّ نَادَاهُمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: إِنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ يَا بَنِي قُرَيْظَةَ، وَأَنَا خَائِفٌ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ بَنِي النَّضِيرِ أَوْ أَمَرَّ مِنْهُ. فَقَالُوا: أَكَلْتَ أَيْرَ أَبِيكَ. فَقَالَ: غَيْرُ هَذَا مِنَ الْقَوْلِ كَانَ أَجْمَلَ بِكُمْ وَأَحْسَنَ.

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: نَالُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: مَنْ رَسُولُ اللَّهِ ؟ لَا عَهْدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَلَا عَقْدَ. فَشَاتَمَهُمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَشَاتَمُوهُ، وَكَانَ رَجُلًا فِيهِ حِدَّةٌ، فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: دَعْ عَنْكَ مُشَاتَمَتَهُمْ، لَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَرْبَى مِنَ الْمُشَاتَمَةِ. ثُمَّ أَقْبَلَ السَّعْدَانِ وَمَنْ مَعَهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالُوا: عَضَلٌ وَالْقَارَةُ. أَيْ كَغَدْرِهِمْ بِأَصْحَابِ الرَّجِيعِ، خُبَيْبٍ وَأَصْحَابِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ، أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ".
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، ثُمَّ تَقَنَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَوْبِهِ حِينَ جَاءَهُ الْخَبَرُ عَنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَاضْطَجَعَ وَمَكَثَ طَوِيلًا، فَاشْتَدَّ عَلَى النَّاسِ الْبَلَاءُ وَالْخَوْفُ حِينَ رَأَوْهُ اضْطَجَعَ، وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِهِ عَنْ بَنِي قُرَيْظَةَ خَيْرٌ، ثُمَّ إِنَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: " أَبْشِرُوا بِفَتْحِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ ". فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحُوا، دَنَا الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ رَمْيٌ بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدْ ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَعَظُمَ عِنْدَ ذَلِكَ الْبَلَاءُ، وَاشْتَدَّ الْخَوْفُ، وَأَتَاهُمْ

عَدُوُّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، حَتَّى ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ كُلَّ ظَنٍّ، وَنَجَمَ النِّفَاقُ، حَتَّى قَالَ مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: كَانَ مُحَمَّدٌ يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا الْيَوْمَ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْغَائِطِ. وَحَتَّى قَالَ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيِّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ مِنَ الْعَدُوِّ - وَذَلِكَ عَنْ مَلَأٍ مِنْ رِجَالِ قَوْمِهِ - فَأْذَنْ لَنَا أَنْ نَرْجِعَ إِلَى دَارِنَا؛ فَإِنَّهَا خَارِجٌ مِنَ الْمَدِينَةِ.
قُلْتُ: هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ( الْأَحْزَابِ: 12 - 13 ).
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي مُرَابِطًا - وَأَقَامَ الْمُشْرِكُونَ يُحَاصِرُونَهُ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ إِلَّا الرَّمِيَّا بِالنَّبْلِ، فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَى النَّاسِ الْبَلَاءُ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَمَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ - إِلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَالْحَارِثِ بْنِ عَوْفٍ الْمُرِّيِّ، وَهُمَا قَائِدَا غَطَفَانَ،فَأَعْطَاهُمَا ثُلُثَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَا بِمَنْ مَعَهُمَا عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمُ

الصُّلْحُ، حَتَّى كَتَبُوا الْكِتَابَ، وَلَمْ تَقَعِ الشَّهَادَةُ وَلَا عَزِيمَةُ الصُّلْحِ إِلَّا الْمُرَاوَضَةُ، فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، بَعَثَ إِلَى السَّعْدَيْنِ، فَذَكَرَ لَهُمَا ذَلِكَ، وَاسْتَشَارَهُمَا فِيهِ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمْرًا تُحِبُّهُ فَنَصْنَعُهُ، أَمْ شَيْئًا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ وَلَا بُدَّ لَنَا مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، أَمْ شَيْئًا تَصْنَعُهُ لَنَا. فَقَالَ: " بَلْ شَيْءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ، وَاللَّهِ مَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ الْعَرَبَ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَكَالَبُوكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ مِنْ شَوْكَتِهِمْ إِلَى أَمْرٍ مَا ". فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، لَا نَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا نَعْرِفُهُ، وَهُمْ لَا يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا تَمْرَةً وَاحِدَةً إِلَّا قِرًى أَوْ بَيْعًا، أَفَحِينَ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، وَهَدَانَا لَهُ وَأَعَزَّنَا بِكَ وَبِهِ، نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا! مَا لَنَا بِهَذَا مِنْ حَاجَةٍ، وَاللَّهِ لَا نُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنْتَ وَذَاكَ ". فَتَنَاوَلَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الصَّحِيفَةَ، فَمَحَا مَا فِيهَا مِنَ الْكِتَابِ، ثُمَّ قَالَ: لِيَجْهَدُوا عَلَيْهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مُحَاصَرِينَ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ قِتَالٌ، إِلَّا أَنَّ فَوَارِسَ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدِّ بْنِ أَبِي قَيْسٍ، أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيَّانِ، وَضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ مِرْدَاسٍ، أَحَدُ بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ، تَلَبَّسُوا لِلْقِتَالِ ثُمَّ خَرَجُوا عَلَى خَيْلِهِمْ، حَتَّى مَرُّوا بِمَنَازِلِ بَنِي كِنَانَةَ فَقَالُوا: تَهَيَّئُوا يَا بَنِي كِنَانَةَ لِلْحَرْبِ، فَسَتَعْلَمُونَ مَنِ الْفُرْسَانُ الْيَوْمَ. ثُمَّ أَقْبَلُوا تُعْنِقُ بِهِمْ

خَيْلُهُمْ، حَتَّى وَقَفُوا عَلَى الْخَنْدَقِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَمَكِيدَةٌ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَكِيدُهَا. ثُمَّ تَيَمَّمُوا مَكَانًا مِنَ الْخَنْدَقِ ضَيِّقًا، فَضَرَبُوا خَيْلَهُمْ فَاقْتَحَمَتْ مِنْهُ، فَجَالَتْ بِهِمْ فِي السَّبْخَةِ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَسَلْعٍ، وَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي نَفَرٍ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى أَخَذُوا عَلَيْهِ الثُّغْرَةَ الَّتِي أَقْحَمُوا مِنْهَا خَيْلَهُمْ، وَأَقْبَلَتِ الْفُرْسَانُ تُعْنِقُ نَحْوَهُمْ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ قَدْ قَاتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، فَلَمْ يَشْهَدْ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ، خَرَجَ مُعْلِمًا لِيُرَى مَكَانُهُ، فَلَمَّا وَقَفَ هُوَ وَخَيْلُهُ قَالَ: مَنْ يُبَارِزُ ؟ فَبَرَزَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ: يَا عَمْرُو، إِنَّكَ كُنْتَ عَاهَدْتَ اللَّهَ لَا يَدْعُوكَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى إِحْدَى خَلَّتَيْنِ إِلَّا أَخَذْتَهَا مِنْهُ. قَالَ: أَجَلْ قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ. قَالَ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى النِّزَالِ. قَالَ لَهُ: لِمَ يَا ابْنَ أَخِي، فَوَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ. قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: لَكِنِّي وَاللَّهِ أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ. فَحَمِيَ عَمْرٌو عِنْدَ ذَلِكَ، فَاقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ، فَعَقَرَهُ وَضَرَبَ وَجْهَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، فَتَنَازَلَا وَتَجَاوَلَا، فَقَتَلَهُ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَخَرَجَتْ خَيْلُهُمْ مُنْهَزِمَةً، حَتَّى اقْتَحَمَتْ مِنَ الْخَنْدَقِ هَارِبَةً.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي ذَلِكَ:
نَصَرَ الْحِجَارَةَ مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِ وَنَصَرْتُ رَبَّ مُحَمَّدٍ بِصَوَابِ

فَصَدَدْتُ حِينَ تَرَكْتُهُ مُتَجَدِّلًا
كَالْجِذْعِ بَيْنَ دَكَادِكٍ وَرَوَابِي وَعَفَفْتُ عَنْ أَثْوَابِهِ وَلَوَ انَّنِي
كُنْتُ الْمُقَطَّرَ بَزَّنِي أَثْوَابِي لَا تَحْسَبُنَّ اللَّهَ خَاذِلَ دِينِهِ
وَنَبِيِّهِ يَا مَعْشَرَ الْأَحْزَابِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يَشُكُّ فِيهَا لَعَلِيٍّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَلْقَى عِكْرِمَةُ رُمْحَهُ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ مُنْهَزِمٌ عَنْ عَمْرٍو، فَقَالَ فِي ذَلِكَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ
فَرَّ وَأَلْقَى لَنَا رُمْحَهُ لَعَلَّكَ عِكْرِمَ لَمْ تَفْعَلِ
وَوَلَّيْتَ تَعْدُو كَعَدْوِ الظَّلِي مِ مَا أَنْ تَحُورَ عَنِ الْمَعْدِلِ
وَلَمْ تُلْقِ ظَهْرَكَ مُسْتَأْنِسًا كَأَنَّ قَفَاكَ قَفَا فُرْعُلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْفَرَاعِلُ صِغَارُ الضِّبَاعِ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي مَوْضِعٍ

آخَرَ غَيْرِ " السِّيرَةِ " قَالَ: خَرَجَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ وَهُوَ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ، فَنَادَى: مَنْ يُبَارِزُ ؟ فَقَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: أَنَا لَهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ. فَقَالَ: " إِنَّهُ عَمْرٌو، اجْلِسْ ". ثُمَّ نَادَى عَمْرٌو: أَلَا رَجُلٌ يَبْرُزُ ؟ فَجَعَلَ يُؤَنِّبُهُمْ وَيَقُولُ: أَيْنَ جَنَّتُكُمُ الَّتِي تَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ دَخَلَهَا، أَفَلَا تُبْرِزُونَ إِلَيَّ رَجُلًا ؟ فَقَامَ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: " اجْلِسْ ". ثُمَّ نَادَى الثَّالِثَةَ فَقَالَ:
وَلَقَدْ بَحَحْتُ مِنَ النِّدَا ءِ بِجَمْعِكُمْ هَلْ مِنْ مُبَارِزْ
وَوَقَفْتُ إِذْ جَبُنَ الْمُشَجَّ عُ مَوْقِفَ الْقِرْنِ الْمُنَاجِزْ
وَلِذَاكَ إِنِّي لَمْ أَزَلْ مُتَسَرِّعًا قِبَلَ الْهَزَاهِزْ
إِنَّ الشَّجَاعَةَ فِي الْفَتَى وَالْجُودَ مِنْ خَيْرِ الْغَرَائِزِ
قَالَ: فَقَامَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا. فَقَالَ: " إِنَّهُ عَمْرٌو ". فَقَالَ: وَإِنْ كَانَ عَمْرًا. فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَشَى إِلَيْهِ، حَتَّى أَتَى وَهُوَ يَقُولُ:
لَا تَعْجَلَنَّ فَقَدْ أَتَا كَ مُجِيبُ صَوْتِكَ غَيْرَ عَاجِزْ
فِي نِيَّةٍ وَبَصِيرَةٍ وَالصِّدْقُ مُنْجِي كُلَّ فَائِزْ

إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أُقِي مَ عَلَيْكَ نَائِحَةَ الْجَنَائِزْ
مِنْ ضَرْبَةٍ نَجْلَاءَ يَبْ قَى ذِكْرُهَا عِنْدَ الْهَزَاهِزْ
فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: أَنَا عَلِيٌّ. قَالَ: ابْنُ عَبْدِ مَنَافٍ ؟ قَالَ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: غَيْرَكَ يَا ابْنَ أَخِي، وَمِنْ أَعْمَامِكَ مَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْكَ فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُهْرِيقَ دَمَكَ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: لَكِنِّي وَاللَّهِ لَا أَكْرَهُ أَنْ أُهْرِيقَ دَمَكَ. فَغَضِبَ، فَنَزَلَ وَسَلَّ سَيْفَهُ كَأَنَّهُ شُعْلَةُ نَارٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ نَحْوَ عَلِيٍّ مُغْضَبًا وَاسْتَقْبَلَهُ عَلِيٌّ بِدَرَقَتِهِ، فَضَرَبَهُ عَمْرٌو فِي الدَّرَقَةِ فَقَدَّهَا وَأَثْبَتَ فِيهَا السَّيْفَ، وَأَصَابَ رَأْسَهُ فَشَجَّهُ، وَضَرَبَهُ عَلِيٌّ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ فَسَقَطَ، وَثَارَ الْعَجَاجُ، وَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّكْبِيرَ فَعَرَفَ أَنَّ عَلِيًّا قَدْ قَتَلَهُ. فَثَمَّ عَلِيٌّ يَقُولُ:
أَعَلَيَّ تَقْتَحِمُ الْفَوَارِسُ هَكَذَا عَنِّي وَعَنْهُمْ أَخَّرُوا أَصْحَابِي
الْيَوْمَ تَمْنَعُنِي الْفِرَارَ حَفِيظَتِي وَمُصَمِّمٌ فِي الرَّأْسِ لَيْسَ بِنَابِي
إِلَى أَنْ قَالَ:
عَبَدَ الْحِجَارَةَ مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِ وَعَبَدْتُ رَبَّ مُحَمَّدٍ بِصَوَابِ
إِلَى آخِرِهَا. قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ عَلِيٌّ نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَجْهُهُ يَتَهَلَّلُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ هَلَّا اسْتَلَبْتَهُ دِرْعَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْعَرَبِ دِرْعٌ خَيْرٌ مِنْهَا ؟

فَقَالَ: ضَرَبْتُهُ فَاتَّقَانِي بِسَوْأَتِهِ، فَاسْتَحْيَيْتُ ابْنَ عَمِّي أَنْ أَسْلُبَهُ. قَالَ: وَخَرَجَتْ خُيُولُهُ مُنْهَزِمَةً حَتَّى اقْتَحَمَتْ مِنَالْخَنْدَقِ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ، أَنَّ عَلِيًّا طَعَنَهُ فِي تَرْقُوَتِهِ حَتَّى أَخْرَجَهَا مِنْ مَرَاقِّهِ، فَمَاتَ فِي الْخَنْدَقِ، وَبَعَثَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَرُونَ جِيفَتَهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، فَقَالَ: " هُوَ لَكُمْ، لَا نَأْكُلُ ثَمَنَ الْمَوْتَى ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ بَابٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأُعْطُوا بِجِيفَتِهِ مَالًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ادْفَعُوا إِلَيْهِمْ جِيفَتَهُ، فَإِنَّهُ خَبِيثُ الْجِيفَةِ خَبِيثُ الدِّيَةِ ". فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، هُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُتِلَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، فَبَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا بِجَسَدِهِ وَنُعْطِيَكَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا خَيْرَ فِي جَسَدِهِ وَلَا فِي ثَمَنِهِ ". وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى،

عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: غَرِيبٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، أَنَّ الْمُشْرِكِينَ إِنَّمَا بَعَثُوا يَطْلُبُونَ جَسَدَ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيِّ حِينَ قُتِلَ، وَعَرَضُوا عَلَيْهِ الدِّيَةَ فَقَالَ: إِنَّهُ خَبِيثٌ خَبِيثُ الدِّيَةِ، فَلَعَنَهُ اللَّهُ وَلَعَنَ دِيَتَهُ، فَلَا أَرَبَ لَنَا فِي دِيَتِهِ، وَلَسْنَا نَمْنَعُكُمْ أَنْ تَدْفِنُوهُ ".
وَذَكَرَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: وَخَرَجَ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ يَسْأَلُ الْمُبَارَزَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، فَضَرَبَهُ، فَشَقَّهُ بِاثْنَتَيْنِ، حَتَّى فَلَّ فِي سَيْفِهِ فَلًّا، وَانْصَرَفَ وَهُوَ يَقُولُ:
إِنِّي امْرُؤٌ أَحْمِي وَأَحْتَمِي عَنِ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى الْأُمِّي
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ نَوْفَلًا لَمَّا تَوَرَّطَ فِي الْخَنْدَقِ، رَمَاهُ النَّاسُ بِالْحِجَارَةِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: قِتْلَةٌ أَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ. فَنَزَلَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ، وَطَلَبَ الْمُشْرِكُونَ رِمَّتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثَّمَنِ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ شَيْئًا، وَمَكَّنَهُمْ مِنْ أَخْذِهِ إِلَيْهِمْ. وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ وَجْهَيْنِ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: جُعِلْتُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْأُطُمِ، وَمَعِي عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، فَجَعَلَ يُطَأْطِئُ لِي فَأَصْعَدُ عَلَى ظَهْرِهِ

، فَأَنْظُرُ. قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى أَبِي وَهُوَ يَحْمِلُ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا، فَمَا يَرْتَفِعُ لَهُ شَيْءٌ إِلَّا أَتَاهُ، فَلَمَّا أَمْسَى جَاءَنَا إِلَى الْأُطُمِ، قُلْتُ: يَا أَبَتِ، رَأَيْتُكَ الْيَوْمَ وَمَا تَصْنَعُ. قَالَ: وَرَأَيْتَنِي يَا بُنَيَّ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَحَدَّثَنِي أَبُو لَيْلَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ، أَخُو بَنِي حَارِثَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ فِي حِصْنِ بَنِي حَارِثَةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَكَانَ مِنْ أَحْرَزِ حُصُونِ الْمَدِينَةِ. قَالَ: وَكَانَتْ أُمُّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ مَعَهَا فِي الْحِصْنِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ. قَالَتْ: فَمَرَّ سَعْدٌ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ مُقَلَّصَةٌ، قَدْ خَرَجَتْ مِنْهَا ذِرَاعُهُ كُلُّهَا، وَفِي يَدِهِ حَرْبَتُهُ يَرْقَدُّ بِهَا وَيَقُولُ:
لَبِّثْ قَلِيلًا يَشْهَدِ الْهَيْجَا حَمَلْ لَا بَأْسَ بِالْمَوْتِ إِذَا حَانَ الْأَجَلْ
فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: الْحَقْ بُنَيَّ، فَقَدْ وَاللَّهِ أَخَّرْتَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّ سَعْدٍ، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ دِرْعَ سَعْدٍ كَانَتْ أَسْبَغَ مِمَّا هِيَ. قَالَتْ: وَخِفْتُ عَلَيْهِ حَيْثُ أَصَابَ السَّهْمُ مِنْهُ، فَرُمِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ بِسَهْمٍ فَقَطَعَ مِنْهُ الْأَكْحَلَ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ: رَمَاهُ حِبَّانُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الْعَرِقَةِ، أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فَلَمَّا أَصَابَهُ قَالَ: خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا ابْنُ الْعَرِقَةِ. فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: عَرَّقَ اللَّهُ وَجْهَكَ فِي النَّارِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا، فَإِنَّهُ لَا قَوْمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَ مِنْ قَوْمٍ آذَوْا رَسُولَكَ وَكَذَّبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ، اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَاجْعَلْهَا لِي شَهَادَةً، وَلَا تُمِتْنِي حَتَّى تَقَرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا أَصَابَ سَعْدًا يَوْمَئِذٍ إِلَّا أَبُو أُسَامَةَ الْجُشَمِيُّ، حَلِيفُ بَنِي مَخْزُومٍ. وَقَدْ قَالَ أَبُو أُسَامَةَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا، قَالَهُ لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ:
أَعِكْرِمُ هَلَّا لُمْتَنِي إِذْ تَقُولُ لِي فِدَاكَ بِآطَامِ الْمَدِينَةِ خَالِدُ
أَلَسْتُ الَّذِي أَلْزَمْتُ سَعْدًا مُرِشَّةً لَهَا بَيْنَ أَثْنَاءِ الْمَرَافِقِ عَانِدُ
قَضَى نَحْبَهُ مِنْهَا سُعَيْدٌ فَأَعْوَلَتْ عَلَيْهِ مَعَ الشُّمْطِ الْعَذَارَى النَّوَاهِدُ
وَأَنْتَ الَّذِي دَافَعْتَ عَنْهُ وَقَدْ دَعَا عُبَيْدَةُ جَمْعًا مِنْهُمُ إِذْ يُكَابِدُ

عَلَى حِينِ مَا هُمْ جَائِرٌ عَنْ طَرِيقِهِ
وَآخَرُ مَرْعُوبٌ عَنِ الْقَصْدِ قَاصِدُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: إِنَّ الَّذِي رَمَى سَعْدًا خَفَاجَةُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ حِبَّانَ.
قُلْتُ: وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَةَ وَلِيِّهِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ؛ فَحَكَمَ فِيهِمْ بِقُدْرَتِهِ وَتَيْسِيرِهِ، وَجَعَلَهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ ذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، فَحَكَمَ بِقَتْلِ مُقَاتِلَتِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ حَتَّى قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ، قَالَ: كَانَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي فَارِعٍ حِصْنِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَتْ: وَكَانَ حَسَّانُ مَعَنَا فِيهِ مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. قَالَتْ صَفِيَّةُ: فَمَرَّ بِنَا رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ، فَجَعَلَ يُطِيفُ بِالْحِصْنِ، وَقَدْ حَارَبَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ، وَقَطَعَتْ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَحَدٌ يَدْفَعُ عَنَّا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي نُحُورِ عَدُوِّهِمْ، لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُمْ إِلَيْنَا إِنْ

أَتَانَا آتٍ، فَقُلْتُ: يَا حَسَّانُ، إِنَّ هَذَا الْيَهُودِيَّ كَمَا تَرَى يُطِيفُ بِالْحِصْنِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُهُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى عَوْرَتِنَا مَنْ وَرَاءَنَا مِنْ يَهُودَ، وَقَدْ شُغِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، فَانْزِلْ إِلَيْهِ فَاقْتُلْهُ. قَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكِ يَا ابْنَةَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتِ مَا أَنَا بِصَاحِبِ هَذَا. قَالَتْ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ وَلَمْ أَرَ عِنْدَهُ شَيْئًا، احْتَجَزْتُ ثُمَّ أَخَذْتُ عَمُودًا، ثُمَّ نَزَلْتُ مِنَ الْحِصْنِ إِلَيْهِ، فَضَرَبْتُهُ بِالْعَمُودِ حَتَّى قَتَلْتُهُ فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهُ، رَجَعْتُ إِلَى الْحِصْنِ، فَقُلْتُ: يَا حَسَّانُ، انْزِلْ فَاسْلُبْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ سَلَبِهِ إِلَّا أَنَّهُ رَجُلٌ. قَالَ: مَا لِي بِسَلَبِهِ حَاجَةٌ يَا ابْنَةَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
حَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ حَسَّانُ جَبَانًا شَدِيدَ الْجُبْنِ.
قَالَ: وَأَنْكَرَ آخَرُونَ ذَلِكَ، وَطَعَنُوا فِي الْخَبَرِ، فَقَالُوا: هُوَ مُنْقَطِعٌ قَالُوا: وَقَدْ كَانَ يُهَاجِي الْمُشْرِكِينَ مِنَ الشُّعَرَاءِ؛ كَابْنِ الزِّبَعْرَى، وَضِرَارِ بْنِ الْخَطَّابِ، وَغَيْرِهِمَا، فَلَمْ يُعَيِّرْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِالْجُبْنِ قَالَ: وَمِمَّنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ النَّمَرِيُّ قَالُوا: وَبِتَقْدِيرِ صِحَّةِ الْخَبَرِ، لَعَلَّهُ كَانَ مُنْقَطِعًا فِي الْآطَامِ لَعِلَّةٍ عَارِضَةٍ، وَمَالَ إِلَى هَذَا السُّهَيْلِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَأَحَاطَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ حَتَّى جَعَلُوهُمْ فِي مِثْلِ

الْحِصْنِ بَيْنَ كَتَائِبِهِمْ، فَحَاصَرُوهُمْ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَأَخَذُوا بِكُلِّ نَاحِيَةٍ، حَتَّى لَا يَدْرِي الرَّجُلُ أَتَمَّ صَلَاتَهُ أَمْ لَا. قَالَ: وَوَجَّهُوا نَحْوَ مَنْزِلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتِيبَةً غَلِيظَةً، فَقَاتَلُوهُمْ يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ، فَلَمَّا حَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، دَنَتِ الْكَتِيبَةُ، فَلَمْ يَقْدِرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَنْ يُصَلُّوا الصَّلَاةَ عَلَى نَحْوِ مَا أَرَادُوا، فَانْكَفَأَتِ الْكَتِيبَةُ مَعَ اللَّيْلِ، فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَلَأَ اللَّهُ بُطُونَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ - وَفِي رِوَايَةٍ: وَقُبُورَهُمْ - نَارًا ". فَلَمَّا اشْتَدَّ الْبَلَاءُ، نَافَقَ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَتَكَلَّمُوا بِكَلَامٍ قَبِيحٍ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بِالنَّاسِ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْكَرْبِ، جَعَلَ يُبَشِّرُهُمْ وَيَقُولُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُفَرَّجَنَّ عَنْكُمْ مَا تَرَوْنَ مِنَ الشِّدَّةِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ آمِنًا، وَأَنْ يَدْفَعَ اللَّهُ إِلَيَّ مَفَاتِيحَ الْكَعْبَةِ، وَلَيُهْلِكَنَّ اللَّهُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَلَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ "
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: " مَلَأَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا؛ كَمَا شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ وَهَكَذَا رَوَاهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ

حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، بِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا ". فَنَزَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ وَتَوَضَّأْنَا لَهَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، حَدَّثَنَا هِلَالٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَاتَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدُوًّا، فَلَمْ يَفْرُغْ مِنْهُمْ حَتَّى أَخَّرَ الْعَصْرَ عَنْ وَقْتِهَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ، قَالَ: " اللَّهُمَّ مَنْ حَبَسَنَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، فَامْلَأْ بُيُوتَهُمْ نَارًا وَامْلَأْ قُبُورَهُمْ نَارًا ". وَنَحْوَ ذَلِكَ. تَفَرَّدَ بِهِ

أَحْمَدُ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ هِلَالِ بْنِ خَبَّابٍ الْعَبْدِيِّ الْكُوفِيِّ، وَهُوَ ثِقَةٌ، يُصَحِّحُ لَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى كَوْنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ، كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ. وَأَلْزَمَ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ بِهَذَا؛ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ حَرَّرْنَا ذَلِكَ نَقْلًا وَاسْتِدْلَالًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ( الْبَقَرَةِ: 238 ). وَقَدِ اسْتَدَلَّ طَائِفَةٌ بِهَذَا الصَّنِيعِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ لِعُذْرِ الْقِتَالِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَكْحُولٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أَمَرَهُمْ بِالذَّهَابِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، كَمَا سَيَأْتِي: " لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ". وَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ فِي الطَّرِيقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُصَلِّ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَاسْتَدَلَّ بِمَا ذَكَرَهُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ مَعَهُمْ فِي حِصَارِ تُسْتَرَ سَنَةَ عِشْرِينَ فِي زَمَنِ عُمَرَ، حَيْثُ صَلَّوُا الصُّبْحَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ لِعُذْرِ الْقِتَالِ وَاقْتِرَابِ فَتْحِ الْحِصْنِ.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ: هَذَا الصَّنِيعُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مَنْسُوخٌ بِشَرْعِيَّةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً إِذْ

ذَاكَ، فَلِهَذَا أَخَّرُوهَا يَوْمَئِذٍ. وَهُوَ مُشْكِلٌ، فَإِنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةً ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِعُسْفَانَ، وَقَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ، - وَهُوَ إِمَامٌ فِي الْمَغَازِي - قَبْلَ الْخَنْدَقِ، وَكَذَلِكَ ذَاتُ الرِّقَاعِ ذَكَرَهَا قَبْلَ الْخَنْدَقِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَقَعَ نِسْيَانًا. كَمَا حَكَاهُ شُرَّاحُ مُسْلِمٍ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ، فَهُوَ مُشْكِلٌ إِذْ يَبْعُدُ أَنْ يَقَعَ هَذَا مِنْ جَمْعٍ كَبِيرٍ، مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ، كَيْفَ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا يَوْمَئِذٍ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ حَتَّى صَلَّوُا الْجَمِيعَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ وَحَجَّاجٌ قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حُبِسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى ذَهَبَ هَوِيٌّ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى كُفِينَا وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ) ( الْأَحْزَابِ: 25 ). قَالَ:فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا فَأَمَرَهُ فَأَقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ أَقَامَ الْعَصْرَ فَصَلَّاهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ أَقَامَ الْمَغْرِبَ فَصَلَّاهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ أَقَامَ الْعِشَاءَ فَصَلَّاهَا كَذَلِكَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ

يُنَزَّلَ - قَالَ حَجَّاجٌ: فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ -: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ( الْبَقَرَةِ: 239 ).
وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنِ الْفَلَّاسِ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِهِ: قَالَ: شَغَلَنَا الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ. فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ شَغَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ، حَتَّى ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ. قَالَ:فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعِشَاءَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، يَعْنِي ابْنَ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، يَعْنِي ابْنَ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، يَعْنِي ابْنَ أَبِي الْمُخَارِقِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ:أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُغِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ، وَالْعِشَاءِ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى

الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ قَالَ: " مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ غَيْرُكُمْ ". تَفَرَّدَ بِهِ الْبَزَّارُ، وَقَالَ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.

فَصْلٌ فِي دُعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْأَحْزَابِ
وَكَيْفَ صَرَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ؛ اسْتِجَابَةً لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصِيَانَةً لِحَوْزَتِهِ الشَّرِيفَةِ، فَزَلْزَلَ قُلُوبَهُمْ، ثُمَّ أَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الشَّدِيدَةَ؛ فَزَلْزَلَ أَبْدَانَهُمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ - يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ -، حَدَّثَنَا رُبَيْحُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:قُلْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُهُ ؟ فَقَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ. قَالَ: " نَعَمْ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا " قَالَ: فَضَرَبَ اللَّهُ وُجُوهَ أَعْدَائِهِ بِالرِّيحِ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ بِالرِّيحِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ " عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عَامِرٍ، وَهُوَ الْعَقَدِيُّ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، عَنْ رُبَيْحِ بْنِ

عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فَذَكَرَهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى مَسْجِدَ الْأَحْزَابِ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ وَقَامَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ مَدًّا يَدْعُو عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُصَلِّ. قَالَ: ثُمَّ جَاءَ وَدَعَا عَلَيْهِمْ وَصَلَّى
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَحْزَابِ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الْأَحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ " وَفِي رِوَايَةٍ: اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ ".
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَعَزَّ جُنْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَغَلَبَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ ".
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِي مَا وَصَفَ اللَّهُ مِنَ الْخَوْفِ وَالشِّدَّةِ؛ لِتَظَاهُرِ عَدُوِّهِمْ عَلَيْهِمْ وَإِتْيَانِهِمْ إِيَّاهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ

مِنْهُمْ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودِ بْنِ عَامِرِ بْنِ أُنَيْفِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ قُنْفُذِ بْنِ هِلَالِ بْنِ خُلَاوَةَ بْنِ أَشْجَعَ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَإِنَّ قَوْمِي لَمْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي، فَمُرْنِي بِمَا شِئْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا أَنْتَ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَخَذِّلْ عَنَّا إِنِ اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ ". فَخَرَجَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَكَانَ لَهُمْ نَدِيمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: يَا بَنِي قُرَيْظَةَ، قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي إِيَّاكُمْ وَخَاصَّةَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قَالُوا: صَدَقْتَ، لَسْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ. فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ لَيْسُوا كَأَنْتُمْ، الْبَلَدُ بَلَدُكُمْ، فِيهِ أَمْوَالُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ، لَا تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تَتَحَوَّلُوا مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ قَدْ جَاءُوا لِحَرْبِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَدْ ظَاهَرْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ، وَبَلَدُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ بِغَيْرِهِ فَلَيْسُوا كَأَنْتُمْ، فَإِنْ رَأَوْا نُهْزَةً أَصَابُوهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ لَحِقُوا بِبِلَادِهِمْ وَخَلَّوْا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الرَّجُلِ بِبَلَدِكُمْ، وَلَا طَاقَةَ لَكُمْ بِهِ إِنْ خَلَا بِكُمْ، فَلَا تُقَاتِلُوا مَعَ الْقَوْمِ حَتَّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رَهْنًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ يَكُونُونَ بِأَيْدِيكُمْ؛ ثِقَةً لَكُمْ عَلَى أَنْ تُقَاتِلُوا مَعَهُمْمُحَمَّدًا حَتَّى تُنَاجِزُوهُ. قَالُوا: لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ. ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا فَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ: قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي لَكُمْ وَفِرَاقِي مُحَمَّدًا، وَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَمْرٌ قَدْ رَأَيْتُ عَلَيَّ حَقًّا أَنْ أُبَلِّغَكُمُوهُ؛ نُصْحًا لَكُمْ، فَاكْتُمُوا عَنِّي. قَالُوا: نَفْعَلُ. قَالَ: تَعْلَمُوا أَنَّ مَعْشَرَ

يَهُودَ قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ أَنَّا قَدْ نَدِمْنَا عَلَى مَا فَعَلْنَا، فَهَلْ يُرْضِيكَ أَنْ نَأْخُذَ لَكَ مِنَ الْقَبِيلَتَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ رِجَالًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَنُعْطِيَكَهُمْ فَتَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، ثُمَّ نَكُونَ مَعَكَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ حَتَّى تَسْتَأْصِلَهُمْ ؟ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَنْ نَعَمْ. فَإِنْ بَعَثَتْ إِلَيْكُمْ يَهُودُ يَلْتَمِسُونَ مِنْكُمْ رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ، فَلَا تَدْفَعُوا إِلَيْهِمْ مِنْكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا. ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى غَطَفَانَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ غَطَفَانَ إِنَّكُمْ أَصْلِي وَعَشِيرَتِي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَلَا أَرَاكُمْ تَتَّهِمُونِي، قَالُوا: صَدَقْتَ، مَا أَنْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ. قَالَ: فَاكْتُمُوا عَنِّي. قَالُوا: نَفْعَلُ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ لِقُرَيْشٍ، وَحَذَّرَهُمْ مَا حَذَّرَهُمْ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ السَّبْتِ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ، وَكَانَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَرْسَلَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَرُءُوسُ غَطَفَانَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّا لَسْنَا بِدَارِ مُقَامٍ، قَدْ هَلَكَ الْخُفُّ وَالْحَافِرُ، فَأَعِدُّوا لِلْقِتَالِ حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا وَنَفْرُغُ مِمَّا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ. فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ: إِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ السَّبْتِ، وَهُوَ يَوْمٌ لَا نَعْمَلُ فِيهِ شَيْئًا، وَقَدْ كَانَ أَحْدَثَ فِيهِ بَعْضُنَا حَدَثًا فَأَصَابَهُمْ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكُمْ، وَلَسْنَا مَعَ ذَلِكَ بِالَّذِينِ نُقَاتِلُ مَعَكُمْ مُحَمَّدًا حَتَّى تُعْطُونَا رُهُنًا مِنْ رِجَالِكُمْ يَكُونُونَ بِأَيْدِينَا؛ ثِقَةً لَنَا حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا، فَإِنَّا نَخْشَى

إِنْ ضَرَّسَتْكُمُ الْحَرْبُ، وَاشْتَدَّ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَنْ تَنْشَمِرُوا إِلَى بِلَادِكُمْ وَتَتْرُكُونَا، وَالرَّجُلَ فِي بِلَادِنَا، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِذَلِكَ مِنْهُ. فَلَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ بِمَا قَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ قَالَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ: وَاللَّهِ إِنَّ الَّذِي حَدَّثَكُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقٌّ. فَأَرْسَلُوا إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ: إِنَّا وَاللَّهِ لَا نَدْفَعُ إِلَيْكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا مِنْ رِجَالِنَا، فَإِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْقِتَالَ فَاخْرُجُوا فَقَاتِلُوا. فَقَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ حِينَ انْتَهَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ بِهَذَا: إِنَّ الَّذِي ذَكَرَ لَكُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقٌّ مَا يُرِيدُ الْقَوْمُ إِلَّا أَنْ تُقَاتِلُوا، فَإِنْ رَأَوْا فُرْصَةً انْتَهَزُوهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ انْشَمَرُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَخَلَّوْا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الرَّجُلِ فِي بَلَدِكُمْ. فَأَرْسَلُوا إِلَى قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ: إِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَاتِلُ مَعَكُمْ حَتَّى تُعْطُونَا رُهُنًا فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، وَخَذَّلَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ، وَبَعَثَ اللَّهُ الرِّيحَ فِي لَيْلَةٍ شَاتِيَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ فَجَعَلَتْ تَكْفَأُ قُدُورَهُمْ وَتَطْرَحُ أَبْنِيَتَهُمْ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ قِصَّةِ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ أَحْسَنُ مِمَّا ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَقَدْ أَوْرَدَهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ ". فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُذِيعُ مَا يَسْمَعُهُ مِنَ الْحَدِيثِ فَاتَّفَقَ أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ عِشَاءً، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ تَعَالَ، فَجَاءَ فَقَالَ: " مَا وَرَاءَكَ ؟ " فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَيْهِمْ فَيُنَاجِزُوكَ، فَقَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ: نَعَمْ، فَأَرْسِلُوا إِلَيْنَا بِالرُّهُنِ. وَقَدْ ذَكَرَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا نَقَضُوا الْعَهْدَ عَلَى يَدَيْ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، بِشَرْطِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِرَهَائِنَ تَكُونُ عِنْدَهُمْ تَوْثِقَةً، قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي مُسِرٌّ إِلَيْكَ شَيْئًا فَلَا تَذْكُرْهُ ". قَالَ: " إِنَّهُمْ قَدْ أَرْسَلُوا إِلَيَّ يَدْعُونَنِي إِلَى الصُّلْحِ وَأَرُدُّ بَنِي النَّضِيرِ إِلَى دُورِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ". فَخَرَجَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ عَامِدًا إِلَى غَطَفَانَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْحَرْبُ خَدْعَةٌ، وَعَسَى أَنْ يَصْنَعَ اللَّهُ لَنَا ". فَأَتَى نُعَيْمٌ غَطَفَانَ وَقُرَيْشًا فَأَعْلَمَهُمْ، فَبَادَرَ الْقَوْمُ وَأَرْسَلُوا إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ عِكْرِمَةَ وَجَمَاعَةً مَعَهُ، وَاتَّفَقَ ذَلِكَ لَيْلَةَ السَّبْتِ، يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا لِلْقِتَالِ مَعَهُمْ فَاعْتَلَّتِ الْيَهُودُ بِالسَّبْتِ، ثُمَّ أَيْضًا طَلَبُوا الرُّهُنَ تَوْثِقَةً، فَأَوْقَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَاخْتَلَفُوا.
قُلْتُ: وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ قُرَيْظَةُ لَمَّا يَئِسُوا مِنِ انْتِظَامِ أَمْرِهِمْ مَعَ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ بَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الصُّلْحَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ بَنِي النَّضِيرِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اخْتَلَفَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَا فَرَّقَ اللَّهُ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ، دَعَا حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، فَبَعَثَهُ إِلَيْهِمْ لِيَنْظُرَ مَا فَعَلَ الْقَوْمُ لَيْلًا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ:قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَرَأَيْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحِبْتُمُوهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا ابْنَ أَخِي. قَالَ: فَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَجْتَهِدُ. قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَدْرَكْنَاهُ مَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَلَحَمَلْنَاهُ عَلَى أَعْنَاقِنَا. قَالَ: فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَا ابْنَ أَخِي وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَنْدَقِ، وَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ: " مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ ثُمَّ يَرْجِعُ " فَشَرَطَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجْعَةَ " - أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ " - فَمَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ؛ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَشِدَّةِ الْجُوعِ وَالْبَرْدِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ دَعَانِي فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي، فَقَالَ: " يَا حُذَيْفَةُ، اذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ، فَانْظُرْ مَاذَا يَفْعَلُونَ، وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنَا ". قَالَ: فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ فِي الْقَوْمِ، وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللَّهِ تَفْعَلُ بِهِمْ مَا تَفْعَلُ، لَا تُقِرُّ لَهُمْ قِدْرًا وَلَا نَارًا وَلَا بِنَاءً، فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لِيَنْظُرِ امْرُؤٌ مَنْ جَلِيسُهُ. قَالَ حُذَيْفَةُ: فَأَخَذْتُ بِيَدِ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ إِلَى جَنْبِي فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ. ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مُقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفُّ، وَأَخْلَفَتْنَا

بَنُو قُرَيْظَةَ، وَبَلَغَنَا عَنْهُمُ الَّذِي نَكْرَهُ وَلَقِينَا مِنْ شِدَّةِ الرِّيحِ مَا تَرَوْنَ؛ مَا تَطْمَئِنُّ لَنَا قِدْرٌ، وَلَا تَقُومُ لَنَا نَارٌ، وَلَا يَسْتَمْسِكُ لَنَا بِنَاءٌ، فَارْتَحِلُوا، فَإِنِّي مُرْتَحِلٌ. ثُمَّ قَامَ إِلَى جَمَلِهِ وَهُوَ مَعْقُولٌ فَجَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فَوَثَبَ بِهِ عَلَى ثَلَاثٍ، فَوَاللَّهِ مَا أَطْلَقَ عِقَالَهُ إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ، وَلَوْلَا عَهْدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ: " لَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي " ثُمَّ شِئْتُ؛ لَقَتَلْتُهُ بِسَهْمٍ قَالَ حُذَيْفَةُ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي مِرْطٍ لِبَعْضِ نِسَائِهِ مَرَاجِلَ، فَلَمَّا رَآنِي أَدْخَلَنِي إِلَى رِجْلَيْهِ، وَطَرَحَ عَلَيَّ طَرَفَ الْمِرْطِ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ وَإِنِّي لَفِيهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، وَسَمِعَتْ غَطَفَانُ بِمَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ، فَانْشَمَرُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: لَوْ أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلْتُ مَعَهُ وَأَبْلَيْتُ. فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَنْتَ كُنْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ ؟ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ رِيحٍ شَدِيدَةٍ وَقُرٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَكُونُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ " فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ ثُمَّ الثَّانِيَةَ ثُمَّ الثَّالِثَةَ مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: " يَا حُذَيْفَةُ قُمْ فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ ". فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ

أَقُومَ، فَقَالَ: " ائْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ ". قَالَ: فَمَضَيْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ حَتَّى أَتَيْتُهُمْ، فَإِذَا أَبُو سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ قَوْسِي وَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ ". وَلَوْ رَمَيْتُهُ لَأَصَبْتُهُ، فَرَجَعْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَصَابَنِي الْبَرْدُ حِينَ رَجَعْتُ وَقُرِرْتُ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَلْبَسَنِي مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى الصُّبْحِ، فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحْتُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُمْ يَا نَوْمَانُ.
وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ وَالْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ " هَذَا الْحَدِيثَ مَبْسُوطًا مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدُّؤَلِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَخِي حُذَيْفَةَ قَالَ:ذَكَرَ حُذَيْفَةُ مَشَاهِدَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ جُلَسَاؤُهُ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا شَهِدْنَا ذَلِكَ لَكُنَّا فَعَلْنَا وَفَعَلْنَا. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَا تَمَنَّوْا

ذَلِكَ، لَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ وَنَحْنُ صَافُّونَ قُعُودٌ، وَأَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَحْزَابِ فَوْقَنَا، وَقُرَيْظَةُ الْيَهُودُ أَسْفَلَ مِنَّا، نَخَافُهُمْ عَلَى ذَرَارِيِّنَا، وَمَا أَتَتْ عَلَيْنَا لَيْلَةٌ قَطُّ أَشَدُّ ظُلْمَةً وَلَا أَشَدُّ رِيحًا مِنْهَا، فِي أَصْوَاتِ رِيحِهَا أَمْثَالُ الصَّوَاعِقِ، وَهِيَ ظُلْمَةٌ مَا يَرَى أَحَدُنَا أُصْبُعَهُ، فَجَعَلَ الْمُنَافِقُونَ يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُونَ: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ. وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ فَمَا يَسْتَأْذِنُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَذِنَ لَهُ، وَيَأْذَنُ لَهُمْ وَيَتَسَلَّلُونَ، وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ إِذِ اسْتَقْبَلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا رَجُلًا، حَتَّى أَتَى عَلَيَّ، وَمَا عَلَيَّ جُنَّةٌ مِنَ الْعَدُوِّ وَلَا مِنَ الْبَرْدِ إِلَّا مِرْطٌ لِامْرَأَتِي مَا يُجَاوِزُ رُكْبَتِي. قَالَ: فَأَتَانِي وَأَنَا جَاثٍ عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ: " مَنْ هَذَا ؟ " فَقُلْتُ: حُذَيْفَةُ. فَقَالَ: " حُذَيْفَةُ ! " فَتَقَاصَرْتُ بِالْأَرْضِ، فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. كَرَاهِيَةَ أَنْ أَقُومَ. قَالَ: " قُمْ ". فَقُمْتُ، فَقَالَ: " إِنَّهُ كَائِنٌ فِي الْقَوْمِ خَبَرٌ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ " قَالَ: وَأَنَا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ فَزَعًا وَأَشَدِّهِمْ قُرًّا. قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ احْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ " قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ فَزَعًا وَلَا قُرًّا فِي جَوْفِي إِلَّا خَرَجَ مِنْ جَوْفِي، فَمَا أَجِدُ فِيهِ شَيْئًا. قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ قَالَ: " يَا حُذَيْفَةُ، لَا تُحْدِثَنَّ فِي الْقَوْمِ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي ". قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا دَنَوْتُ مِنْ عَسْكَرِ الْقَوْمِ نَظَرْتُ فِي ضَوْءِ نَارٍ لَهُمْ تَوَقَّدُ، وَإِذَا رَجُلٌ أَدْهَمُ ضَخْمٌ يَقُولُ بِيَدَيْهِ عَلَى النَّارِ، وَيَمْسَحُ خَاصِرَتَهُ

وَيَقُولُ: الرَّحِيلَ الرَّحِيلَ. وَلَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ أَبَا سُفْيَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَانْتَزَعْتُ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي أَبْيَضَ الرِّيشِ، فَأَضَعُهُ عَلَى كَبِدِ قَوْسِي لِأَرْمِيَهُ بِهِ فِي ضَوْءِ النَّارِ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُحْدِثَنَّ فِيهِمْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي " فَأَمْسَكْتُ وَرَدَدْتُ سَهْمِي إِلَى كِنَانَتِي، ثُمَّ إِنِّي شَجَّعْتُ نَفْسِي حَتَّى دَخَلْتُ الْعَسْكَرَ فَإِذَا أَدْنَى النَّاسِ مِنِّي بَنُو عَامِرٍ، يَقُولُونَ: يَا آلَ عَامِرٍ، الرَّحِيلَ الرَّحِيلَ، لَا مُقَامَ لَكُمْ. وَإِذَا الرِّيحُ فِي عَسْكَرِهِمْ مَا تُجَاوِزَ عَسْكَرُهُمْ شِبْرًا، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْمَعُ صَوْتَ الْحِجَارَةِ فِي رِحَالِهِمْ وَفُرُشِهِمْ، الرِّيحُ تَضْرِبُهُمْ بِهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا انْتَصَفَتْ بِيَ الطَّرِيقُ أَوْ نَحْوٌ مِنْ ذَلِكَ، إِذَا أَنَا بِنَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ فَارِسًا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مُعْتَمِّينَ، فَقَالُوا: أَخْبِرْ صَاحِبَكَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ كَفَاهُ قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ فِي شَمْلَةٍ يُصَلِّي، فَوَاللَّهِ مَا عَدَا أَنْ رَجَعْتُ؛ رَاجَعَنِي الْقُرُّ وَجَعَلْتُ أُقَرْقِفُ، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، وَهُوَ يُصَلِّي، فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَأَسْبَلَ عَلَيَّ شَمْلَتَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى، فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرَ الْقَوْمِ؛ أَخْبَرْتُهُ أَنِّي تَرَكْتُهُمْ يَرْحَلُونَ. قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا يَعْنِي الْآيَاتِ كُلَّهَا إِلَى قَوْلِهِ: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ( الْأَحْزَابِ: 9 - 25 ). أَيْ صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَدُوَّهُمْ بِالرِّيحِ الَّتِي أَرْسَلَهَا عَلَيْهِمْ وَالْجُنُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمُ الَّتِي بَعَثَهَا اللَّهُ إِلَيْهِمْ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ أَيْ؛ لَمْ

يَحْتَاجُوا إِلَى مُنَازَلَتِهِمْ وَمُبَارَزَتِهِمْ، بَلْ صَرَفَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ.
لِهَذَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ ". وَفِي قَوْلِهِ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ إِشَارَةٌ إِلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ. وَهَكَذَا وَقَعَ، وَلَمْ تَرْجِعْ قُرَيْشٌ بَعْدَهَا إِلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، رَحِمَهُ اللَّهُ: فَلَمَّا انْصَرَفَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنِ الْخَنْدَقِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنَا: " لَنْ تَغْزُوَكُمْ قُرَيْشٌ بَعْدَ عَامِكُمْ هَذَا، وَلَكِنَّكُمْ تَغْزُونَهُمْ " قَالَ: فَلَمْ تَغْزُهُمْ قُرَيْشٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَانَ يَغْزُوهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ. وَهَذَا بَلَاغٌ مِنِ ابْنِ إِسْحَاقَ
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَا " وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، بِهِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَاسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ سِتَّةٌ؛ ثَلَاثَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَهُمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ - وَسَتَأْتِي وَفَاتُهُ مَبْسُوطَةً - وَأَنَسُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، وَالطُّفَيْلُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ الْجُشَمِيَّانِ السَّلَمِيَّانِ، وَكَعْبُ بْنُ زَيْدٍ النَّجَّارِيُّ، أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ. قَالَ: وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثَلَاثَةٌ، وَهُمْ: مُنَبِّهُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، أَصَابَهُ سَهْمٌ فَمَاتَ مِنْهُ بِمَكَّةَ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ؛ اقْتَحَمَ الْخَنْدَقَ بِفَرَسِهِ فَتَوَرَّطَ فِيهِ فَقُتِلَ هُنَاكَ، وَطَلَبُوا جَسَدَهُ بِثَمَنٍ كَبِيرٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ الْعَامِرِيُّ، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: قَتَلَ عَلِيٌّ يَوْمَئِذٍ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ وَابْنَهُ حِسْلَ بْنَ عَمْرٍو. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُقَالُ: عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ. وَيُقَالُ: عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ.

فَصْلٌ ( فِي غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ )
وَمَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ مِنَ الْبَأْسِ الشَّدِيدِ، مَعَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَذَلِكَ لِكُفْرِهِمْ وَنَقْضِهِمُ الْعُهُودَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُمَالَأَتِهِمُ الْأَحْزَابَ عَلَيْهِ، فَمَا أَجْدَى ذَلِكَ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالصَّفْقَةِ الْخَاسِرَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا
( الْأَحْزَابِ: 25 27 ) قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ وَنَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنَ الْغَزْوِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، يَبْدَأُ فَيُكَبِّرُ ثُمَّ يَقُولُ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ

وَحْدَهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ:وَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ عَنِ الْخَنْدَقِ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَالْمُسْلِمُونَ، وَوَضَعُوا السِّلَاحَ، فَلَمَّا كَانَتِ الظُّهْرُ أَتَى جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ - مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةٍ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا رِحَالَةٌ، عَلَيْهَا قَطِيفَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ فَقَالَ: أَوَقَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". فَقَالَ جِبْرِيلُ: مَا وَضَعَتِ الْمَلَائِكَةُ السِّلَاحَ بَعْدُ، وَمَا رَجَعْتُ الْآنَ إِلَّا مِنْ طَلَبِ الْقَوْمِ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ يَا مُحَمَّدُ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَإِنِّي عَامِدٌ إِلَيْهِمْ فَمُزَلْزِلٌ بِهِمْ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤَذِّنًا فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ: مَنْ كَانَ سَامِعًا مُطِيعًا فَلَا يُصَلِّيَنَّ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخَنْدَقِ وَوَضَعَ السِّلَاحَ وَاغْتَسَلَ، أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: قَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ، وَاللَّهِ مَا وَضَعْنَاهُ، فَاخْرُجْ إِلَيْهِمْ. قَالَ: " فَإِلَى أَيْنَ ؟ " قَالَ: هَاهُنَا وَأَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ. فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ

وَقَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الْأَحْزَابِ دَخَلَ الْمُغْتَسَلَ يَغْتَسِلُ، وَجَاءَ جِبْرِيلُ فَرَأَيْتُهُ مِنْ خَلَلِ الْبَابِ قَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ الْغُبَارُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَوَضَعْتُمْ أَسْلِحَتَكُمْ ؟ فَقَالَ: مَا وَضَعْنَا أَسْلِحَتَنَا بَعْدُ، انْهَدْ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْغُبَارِ سَاطِعًا فِي زُقَاقِ بَنِي غَنْمٍ، مَوْكِبَ جِبْرِيلَ حِينَ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءٍ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: " لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ " فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى نَأْتِيَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءٍ بِهِ.

وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خَلِّيٍّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَمَّهُ عُبَيْدَ اللَّهِ أَخْبَرَهُأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ طَلَبِ الْأَحْزَابِ، وَضَعَ عَنْهُ اللَّأْمَةَ وَاغْتَسَلَ وَاسْتَجْمَرَ، فَتَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: عَذِيرَكَ مِنْ مُحَارِبٍ، أَلَا أَرَاكَ قَدْ وَضَعْتَ اللَّأْمَةَ وَمَا وَضَعْنَاهَا بَعْدُ. قَالَ: فَوَثَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزِعًا، فَعَزَمَ عَلَى النَّاسِ أَنْ لَا يُصَلُّوا صَلَاةَ الْعَصْرِ حَتَّى يَأْتُوا بَنِي قُرَيْظَةَ. قَالَ: فَلَبِسَ النَّاسُ السِّلَاحَ، فَلَمْ يَأْتُوا بَنِي قُرَيْظَةَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَاخْتَصَمَ النَّاسُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَزَمَ عَلَيْنَا أَنْ لَا نُصَلِّيَ حَتَّى نَأْتِيَ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَإِنَّمَا نَحْنُ فِي عَزِيمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَيْسَ عَلَيْنَا إِثْمٌ. وَصَلَّى طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ احْتِسَابًا، وَتَرَكَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الصَّلَاةَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّوْهَا حِينَ جَاءُوا بَنِي قُرَيْظَةَ احْتِسَابًا، فَلَمْ يُعَنِّفْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ، عَنْ أَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ

الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَهَا، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا رَجُلٌ وَنَحْنُ فِي الْبَيْتِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزِعًا، وَقُمْتُ فِي أَثَرِهِ فَإِذَا بِدِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، فَقَالَ: " هَذَا جِبْرِيلُ أَمَرَنِي أَنْ أَذْهَبَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ: قَدْ وَضَعْتُمُ السِّلَاحَ، لَكِنَّا لَمْ نَضَعْ، طَلَبْنَا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى بَلَغْنَا حَمْرَاءَ الْأَسَدِ " وَذَلِكَ حِينَ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخَنْدَقِ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزِعًا وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: " عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تُصَلُّوا صَلَاةَ الْعَصْرِ حَتَّى تَأْتُوا بَنِي قُرَيْظَةَ ". فَغَرَبَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوهُمْ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ أَنْ تَدَعُوا الصَّلَاةَ، فَصَلَّوْا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: وَاللَّهِ إِنَّا لَفِي عَزِيمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا عَلَيْنَا مِنْ إِثْمٍ فَصَلَّتْ طَائِفَةٌ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَتَرَكَتْ طَائِفَةٌ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَلَمْ يُعَنِّفْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ بِمَجَالِسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَالَ: " هَلْ مَرَّ بِكُمْ أَحَدٌ ؟ " فَقَالُوا: مَرَّ عَلَيْنَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ، تَحْتَهُ قَطِيفَةُ دِيبَاجٍ. فَقَالَ: " ذَلِكَ جِبْرِيلُ أُرْسِلَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ لِيُزَلْزِلَهُمْ وَيَقْذِفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ " فَحَاصَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَسْتُرُوهُ بِالْجَحَفِ حَتَّى يُسْمِعَهُمْ كَلَامَهُ، فَنَادَاهُمْ: " يَا إِخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ ". فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، لَمْ تَكُنْ فَحَّاشًا. فَحَاصَرَهُمْ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ

بْنِ مُعَاذٍ، وَكَانُوا حُلَفَاءَهُ، فَحَكَمَ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ جَيِّدَةٌ، عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُصِيبِ مِنَ الصَّحَابَةِ يَوْمَئِذٍ، مَنْ هُوَ ؟ بَلِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مَأْجُورٌ وَمَعْذُورٌ، غَيْرُ مُعَنَّفٍ؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الَّذِينَ أَخَّرُوا الصَّلَاةَ يَوْمَئِذٍ عَنْ وَقْتِهَا الْمُقَدَّرِ لَهَا، حَتَّى صَلَّوْهَا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ هُمُ الْمُصِيبُونَ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ بِتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ خَاصٌّ، فَيُقَدَّمُ عَلَى عُمُومِ الْأَمْرِ بِهَا فِي وَقْتِهَا الْمُقَدَّرِ لَهَا شَرْعًا. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ فِي كِتَابِهِ " السِّيرَةِ ": وَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّا لَوْ كُنَّا هُنَاكَ، لَمْ نُصَلِّ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَلَوْ بَعْدَ أَيَّامٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ مَاشٍ عَلَى قَاعِدَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ فِي الْأَخْذِ بِالظَّاهِرِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنَ الْعُلَمَاءِ: بَلِ الَّذِينَ صَلَّوُا الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا لَمَّا أَدْرَكَتْهُمْ وَهُمْ فِي مَسِيرِهِمْ، هُمُ الْمُصِيبُونَ؛ لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّمَا هُوَ تَعْجِيلُ السَّيْرِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، لَا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ، فَعَمِلُوا بِمُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، مَعَ فَهْمِهِمْ عَنِ الشَّارِعِ مَا أَرَادَ، وَلِهَذَا لَمْ يُعَنِّفْهُمْ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا الَّتِي حُوِّلَتْ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ، كَمَا يَدَّعِيهِ أُولَئِكَ، وَأَمَّا أُولَئِكَ الَّذِينَ أَخَّرُوا، فَعُذِرُوا بِحَسَبِ مَا فَهِمُوا وَأَكْثَرُ مَا كَانُوا يُؤْمَرُونَ بِالْقَضَاءِ، وَقَدْ فَعَلُوهُ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ لِعُذْرِ الْقِتَالِ كَمَا فَهِمَهُ الْبُخَارِيُّ، حَيْثُ احْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ

الْمُتَقَدِّمِ فِي هَذَا، فَلَا إِشْكَالَ عَلَى مَنْ أَخَّرَ، وَلَا عَلَى مَنْ قَدَّمَ أَيْضًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَمَعَهُ رَايَتُهُ، وَابْتَدَرَهَا النَّاسُ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي " مَغَازِيهِ " عَنِ الزُّهْرِيِّ: فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُغْتَسَلِهِ، كَمَا يَزْعُمُونَ قَدْ رَجَّلَ أَحَدَ شِقَّيْهِ، أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَى فَرَسٍ عَلَيْهِ لَأْمَتُهُ، حَتَّى وَقَفَ بِبَابِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، أَوَقَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". فَقَالَ جِبْرِيلُ: لَكِنَّا لَمْ نَضَعْهُ مُنْذُ نَزَلَ بِكَ الْعَدُوُّ، وَمَا زِلْتُ فِي طَلَبِهِمْ حَتَّى هَزَمَهُمُ اللَّهُ. وَيَقُولُونَ: إِنَّ عَلَى وَجْهِ جِبْرِيلَ لَأَثَرَ الْغُبَارِ. فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَكَ بِقِتَالِ بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَنَا عَامِدٌ إِلَيْهِمْ بِمَنْ مَعِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ؛ لِأُزَلْزِلَ بِهِمُ الْحُصُونَ، فَاخْرُجْ بِالنَّاسِ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَثَرِ جِبْرِيلَ، فَمَرَّ عَلَى مَجْلِسِ بَنِي غَنْمٍ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالَ: " مَرَّ عَلَيْكُمْ فَارِسٌ آنِفًا ؟ " قَالُوا: مَرَّ عَلَيْنَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ عَلَى فَرَسٍ أَبْيَضَ، تَحْتَهُ نَمَطٌ أَوْ قَطِيفَةُ دِيبَاجٍ، عَلَيْهِ اللَّأْمَةُ. فَذَكَرُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " ذَاكَ جِبْرِيلُ ". وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَبِّهُ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ بِجِبْرِيلَ. فَقَالَ:

" الْحَقُونِي بِبَنِي قُرَيْظَةَ، فَصَلُّوا فِيهِمُ الْعَصْرَ ". فَقَامُوا وَمَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَانْطَلَقُوا إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَهُمْ بِالطَّرِيقِ، فَذَكَرُوا الصَّلَاةَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَكُمْ أَنْ تُصَلُّوا الْعَصْرَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ؟ ! وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ الصَّلَاةُ. فَصَلَّى مِنْهُمْ قَوْمٌ، وَأَخَّرَتْ طَائِفَةٌ الصَّلَاةَ حَتَّى صَلَّوْهَا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَ أَنْ غَابَتِ الشَّمْسُ، فَذَكَرُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ عَجَّلَ مِنْهُمُ الصَّلَاةَ وَمَنْ أَخَّرَهَا، فَذَكَرُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلًا تَلَقَّاهُ وَقَالَ: ارْجِعْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ الْيَهُودَ. وَكَانَ عَلِيٌّ قَدْ سَمِعَ مِنْهُمْ قَوْلًا سَيِّئًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ، فَكَرِهَ عَلِيٌّ أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِمَ تَأْمُرُنِي بِالرُّجُوعِ ؟ " فَكَتَمَهُ مَا سَمِعَ مِنْهُمْ فَقَالَ: " أَظُنُّكَ سَمِعْتَ لِي مِنْهُمْ أَذًى، فَامْضِ فَإِنَّ أَعْدَاءَ اللَّهِ لَوْ قَدْ رَأَوْنِي، لَمْ يَقُولُوا شَيْئًا مِمَّا سَمِعْتَ " فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِصْنِهِمْ، وَكَانُوا فِي أَعْلَاهُ، نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ نَفَرًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، حَتَّى أَسْمَعَهُمْ فَقَالَ: " أَجِيبُوا يَا مَعْشَرَ يَهُودَ يَا إِخْوَةَ الْقِرَدَةِ، قَدْ نَزَلَ بِكُمْ خِزْيُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَتَائِبِ الْمُسْلِمِينَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَرَدَّ اللَّهُ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ، حَتَّى دَخَلَ حِصْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ. وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحِصَارُ، فَصَرَخُوا بِأَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ أَبُو لُبَابَةَ: لَا آتِيهِمْ حَتَّى يَأْذَنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَدْ أَذِنْتُ لَكَ ". فَأَتَاهُمْ أَبُو لُبَابَةَ

فَبَكَوْا إِلَيْهِ وَقَالُوا: يَا أَبَا لُبَابَةَ، مَاذَا تَرَى وَمَاذَا تَأْمُرُنَا، فَإِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَنَا بِالْقِتَالِ. فَأَشَارَ أَبُو لُبَابَةَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ، وَأَمَرَّ عَلَيْهِ أَصَابِعَهُ، يُرِيهِمْ أَنَّمَا يُرَادُ بِكُمُ الْقَتْلُ. فَلَمَّا انْصَرَفَ أَبُو لُبَابَةَ سُقِطَ فِي يَدِهِ، وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَنْظُرُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُحْدِثَ لِلَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا، يَعْلَمُهَا اللَّهُ مِنْ نَفْسِي، فَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَرَبَطَ يَدَيْهِ إِلَى جِذْعٍ مِنْ جُذُوعِ الْمَسْجِدِ. وَزَعَمُوا أَنَّهُ ارْتَبَطَ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا ذُكِرَ - حِينَ رَاثَ عَلَيْهِ أَبُو لُبَابَةَ: " أَمَا فَرَغَ أَبُو لُبَابَةَ مِنْ حُلَفَائِهِ ؟ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ وَاللَّهِ انْصَرَفَ مِنْ عِنْدِ الْحِصْنِ، وَمَا نَدْرِي أَيْنَ سَلَكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَدْ حَدَثَ لِأَبِي لُبَابَةَ أَمْرٌ، مَا كَانَ عَلَيْهِ ". فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ رَأَيْتُ أَبَا لُبَابَةَ ارْتَبَطَ بِحَبْلٍ إِلَى جِذْعٍ مِنْ جُذُوعِ الْمَسْجِدِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقَدْ أَصَابَتْهُ بَعْدِي فِتْنَةٌ وَلَوْ جَاءَنِي لَاسْتَغْفَرْتُ لَهُ، وَإِذْ قَدْ فَعَلَ هَذَا فَلَنْ أُحَرِّكَهُ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيهِ مَا يَشَاءُ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ. وَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي " مَغَازِيهِ " فِي مِثْلِ سِيَاقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَمِثْلِ

رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بِئْرٍ مِنْ آبَارِ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ نَاحِيَةِ أَمْوَالِهِمْ يُقَالُ لَهَا: بِئْرُ أَنَّا. فَحَاصَرَهُمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، حَتَّى جَهَدَهُمُ الْحِصَارُ، وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَقَدْ كَانَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ دَخَلَ مَعَهُمْ حِصْنَهُمْ، حِينَ رَجَعَتْ عَنْهُمْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ؛ وَفَاءً لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ بِمَا كَانَ عَاهَدَهُ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَيْقَنُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ عَنْهُمْ حَتَّى يُنَاجِزَهُمْ، قَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، قَدْ نَزَلَ بِكُمْ مِنَ الْأَمْرِ مَا تَرَوْنَ، وَإِنِّي عَارِضٌ عَلَيْكُمْ خِلَالًا ثَلَاثًا، فَخُذُوا بِمَا شِئْتُمْ مِنْهَا. قَالُوا: وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ: نُتَابِعُ هَذَا الرَّجُلَ وَنُصَدِّقُهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ أَنَّهُ لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَأَنَّهُ لَلَّذِي تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِكُمْ، فَتَأْمَنُونَ بِهِ عَلَى دِمَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ وَنِسَائِكُمْ. قَالُوا: لَا نُفَارِقُ حُكْمَ التَّوْرَاةِ أَبَدًا، وَلَا نَسْتَبْدِلُ بِهِ غَيْرَهُ. قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ عَلَيَّ هَذِهِ، فَهَلُمَّ فَلْنَقْتُلْ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، ثُمَّ نَخْرُجْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ رِجَالًا مُصْلِتِينَ بِالسُّيُوفِ، لَمْ نَتْرُكْ وَرَاءَنَا ثَقَلًا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، فَإِنْ نَهْلِكْ نَهْلِكْ وَلَمْ نَتْرُكْ وَرَاءَنَا نَسْلًا نَخْشَى عَلَيْهِ، وَإِنْ نَظْهَرْ فَلَعَمْرِي لَنَجِدَنَّ النِّسَاءَ وَالْأَبْنَاءَ قَالُوا: أَنَقْتُلُ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينَ ؟! فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ ! قَالَ: فَإِنْ أَبَيْتُمْ عَلَيَّ هَذِهِ، فَاللَّيْلَةُ لَيْلَةُ السَّبْتِ، وَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ قَدْ أَمِنُونَا فِيهَا، فَانْزِلُوا لَعَلَّنَا نُصِيبُ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ غِرَّةً. قَالُوا: أَنُفْسِدُ سَبْتَنَا وَنُحْدِثُ فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ مَنْ كَانَ قَبْلنَا إِلَّا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ، فَأَصَابَهُ مَا لَمْ يَخْفَ عَنْكَ مِنَ الْمَسْخِ. فَقَالَ: مَا بَاتَ

رَجُلٌ مِنْكُمْ مُنْذُ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ لَيْلَةً وَاحِدَةً مِنَ الدَّهْرِ حَازِمًا. ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ - وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْأَوْسِ - نَسْتَشِيرُهُ فِي أَمْرِنَا. فَأَرْسَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ، قَامَ إِلَيْهِ الرِّجَالُ، وَجَهَشَ إِلَيْهِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يَبْكُونَ فِي وَجْهِهِ، فَرَقَّ لَهُمْ وَقَالُوا: يَا أَبَا لُبَابَةَ، أَتَرَى أَنْ نَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ مُحَمَّدٍ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ أَنَّهُ الذَّبْحُ. قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَتْ قَدَمَايَ مِنْ مَكَانِهِمَا، حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي قَدْ خُنْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ انْطَلَقَ أَبُو لُبَابَةَ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَمْ يَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ارْتَبَطَ فِي الْمَسْجِدِ إِلَى عَمُودٍ مِنْ عُمُدِهِ، وَقَالَ: لَا أَبْرَحُ مَكَانِي حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيَّ مَا صَنَعْتُ. وَعَاهَدَ اللَّهَ أَنْ لَا أَطَأَ بَنِي قُرَيْظَةَ أَبَدًا، وَلَا أُرَى فِي بَلَدٍ خُنْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِيهِ أَبَدًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ، فِيمَا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( الْأَنْفَالِ: 27 ) قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَقَامَ مُرْتَبِطًا سِتَّ لَيَالٍ، تَأْتِيهِ امْرَأَتُهُ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ فَتَحُلُّهُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ ثُمَّ يَرْتَبِطُ، حَتَّى نَزَلَتْ تَوْبَتُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( التَّوْبَةِ: 12 )

وَقَوْلُ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: إِنَّهُ مَكَثَ عِشْرِينَ لَيْلَةً مُرْتَبِطًا بِهِ، أَشْبَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ تَوْبَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ وَهُوَ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ فَجَعَلَ يَبْتَسِمُ فَسَأَلَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ، فَأَخْبَرَهَا بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَى أَبِي لُبَابَةَ، فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تُبَشِّرَهُ، فَأَذِنَ لَهَا فَخَرَجَتْ فَبَشَّرَتْهُ، فَثَارَ النَّاسُ إِلَيْهِ يُبَشِّرُونَهُ، وَأَرَادُوا أَنْ يَحِلُّوهُ مِنْ رِبَاطِهِ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَحِلُّنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ حَلَّهُ مِنْ رِبَاطِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ ثَعْلَبَةَ بْنَ سَعْيَةَ، وَأُسَيْدَ بْنَ سَعْيَةَ، وَأَسَدَ بْنَ عُبَيْدٍ - وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي هَدْلٍ، لَيْسُوا مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَلَا النَّضِيرِ - نَسَبُهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ، هُمْ بَنُو عَمِّ الْقَوْمِ، أَسْلَمُوا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا قُرَيْظَةُ عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ فِي تِلْكَ عَمْرُو بْنُ سُعْدَى الْقُرَظِيُّ، فَمَرَّ بِحَرَسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: أَنَا عَمْرُو بْنُ سُعْدَى. وَكَانَ عَمْرٌو قَدْ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي غَدْرِهِمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: لَا أَغْدِرُ بِمُحَمَّدٍ أَبَدًا.

فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ حِينَ عَرَفَهُ: اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنِي إِقَالَةَ عَثَرَاتِ الْكِرَامِ. ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ فَخَرَجَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى بَاتَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ ذَهَبَ فَلَمْ يُدْرَ أَيْنَ تَوَجَّهَ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا. فَذُكِرَ شَأْنُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ذَاكَ رَجُلٌ نَجَّاهُ اللَّهُ بِوَفَائِهِ ". وَبَعْضُ النَّاسِ يَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ أُوثِقَ بِرُمَّةٍ فِيمَنْ أُوثِقَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَأَصْبَحَتْ رُمَّتُهُ مُلْقَاةً، وَلَمْ يُدْرَ أَيْنَ ذَهَبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ تِلْكَ الْمَقَالَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا أَصْبَحُوا وَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَوَاثَبَتِ الْأَوْسُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ مَوَالِينَا دُونَ الْخَزْرَجِ، وَقَدْ فَعَلْتَ فِي مَوَالِي إِخْوَانِنَا بِالْأَمْسِ مَا قَدْ عَلِمْتَ. يَعْنُونَ عَفْوَهُ عَنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ حِينَ سَأَلَهُ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا كَلَّمَتْهُ الْأَوْسُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ ؟ ". قَالُوا: بَلَى قَالَ: " فَذَلِكَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ". وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَعَلَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي خَيْمَةٍ لِامْرَأَةٍ مِنْ أَسْلَمَ، يُقَالُ لَهَا: رُفَيْدَةُ. فِي مَسْجِدِهِ، وَكَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى، فَلَمَّا حَكَّمَهُ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، أَتَاهُ قَوْمُهُ

فَحَمَلُوهُ عَلَى حِمَارٍ قَدْ وَطَّئُوا لَهُ بِوِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ، وَكَانَ رَجُلًا جَسِيمًا جَمِيلًا، ثُمَّ أَقْبَلُوا مَعَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَقُولُونَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، أَحْسِنْ فِي مَوَالِيكَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا وَلَّاكَ ذَلِكَ لِتُحْسِنَ فِيهِمْ. فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ: قَدْ آنَ لِسَعْدٍ أَنْ لَا تَأْخُذَهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. فَرَجَعَ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ إِلَى دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَنَعَى لَهُمْ رِجَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِمْ سَعْدٌ؛ عَنْ كَلِمَتِهِ الَّتِي سَمِعَ مِنْهُ، فَلَمَّا انْتَهَى سَعْدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ ". فَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ فَيَقُولُونَ: إِنَّمَا أَرَادَ الْأَنْصَارَ. وَأَمَّا الْأَنْصَارُ فَيَقُولُونَ: قَدْ عَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ. فَقَامُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: يَا أَبَا عَمْرٍو، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَلَّاكَ أَمْرَ مَوَالِيكَ لِتَحْكُمَ فِيهِمْ. فَقَالَ سَعْدٌ: عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ، أَنَّ الْحُكْمَ فِيهِمْ لَمَا حَكَمْتُ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: وَعَلَى مَنْ هَاهُنَا ؟ فِي النَّاحِيَةِ الَّتِي فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِجْلَالًا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَعَمْ ". قَالَ سَعْدٌ: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ يُقْتَلَ الرِّجَالُ وَتُقْسَمَ الْأَمْوَالُ، وَتُسْبَى الذَّرَارِيُّ وَالنِّسَاءُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ: " لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ ".

وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ صَاحَ، وَهُمْ مُحَاصِرُو بَنِي قُرَيْظَةَ: يَا كَتِيبَةَ الْإِيمَانِ. وَتَقَدَّمَ هُوَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَذُوقَنَّ مَا ذَاقَ حَمْزَةُ أَوْ أَقْتَحِمُ حِصْنَهُمْ. فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، نَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلٍ، سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، قَالَ: نَزَلَ أَهْلُ قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ: فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَعْدٍ، فَأَتَاهُ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا قَرِيبًا مِنَ الْمَسْجِدِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ. أَوْ: خَيْرِكُمْ ". ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ ". قَالَ: تَقْتُلُ مُقَاتِلَتَهُمْ وَتَسْبِي ذُرِّيَّتَهُمْ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَضَيْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ ". وَرُبَّمَا قَالَ: " قَضَيْتَ بِحُكْمِ الْمَلِكِ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " الْمَلَكِ ". أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طُرُقٍ، عَنْ شُعْبَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُجَيْنٌ وَيُونُسُ قَالَا: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ

سَعْدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَالَ: رُمِيَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَطَعُوا أَكْحَلَهُ، فَحَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّارِ، فَانْتَفَخَتْ يَدُهُ فَنَزَفَهُ فَحَسَمَهُ أُخْرَى، فَانْتَفَخَتْ يَدُهُ فَنَزَفَهُ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُخْرِجْ نَفْسِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ. فَاسْتَمْسَكَ عِرْقُهُ، فَمَا قَطَرَ قَطْرَةً حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَحَكَمَ أَنْ تُقْتَلَ رِجَالُهُمْ، وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهِمْ؛ يَسْتَعِينُ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَصَبْتَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ ". وَكَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَتْلِهِمْ، انْفَتَقَ عِرْقُهُ فَمَاتَ. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنَ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخَنْدَقِ، وَوَضَعَ السِّلَاحَ وَاغْتَسَلَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَعَلَى رَأْسِهِ الْغُبَارُ، فَقَالَ: قَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ! فَوَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهَا، اخْرُجْ إِلَيْهِمْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَأَيْنَ ؟ ". قَالَ: هَاهُنَا. وَأَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ. قَالَ هِشَامٌ: فَأَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّهُمْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ الْحُكْمَ فِيهِمْ إِلَى سَعْدٍ، قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَتُسْبَى النِّسَاءُ وَالذُّرِّيَّةُ وَتُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ. قَالَ هِشَامٌ: قَالَ أَبِي: فَأُخْبِرْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ،عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ: حِبَّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ. رَمَاهُ فِي الْأَكْحَلِ، فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخَنْدَقِ، وَضَعَ السِّلَاحَ وَاغْتَسَلَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ يَنْفُضُ رَأْسَهُ مِنَ الْغُبَارِ، فَقَالَ: قَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ! وَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ، اخْرُجْ إِلَيْهِمْ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَأَيْنَ ؟ " فَأَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَرَدَّ الْحُكْمَ إِلَى سَعْدٍ، قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَأَنْ تُسْبَى النِّسَاءُ وَالذُّرِّيَّةُ، وَأَنْ تُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ. قَالَ هِشَامٌ: فَأَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ سَعْدًا قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ، مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَكَ وَأَخْرَجُوهُ، اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْءٌ، فَأَبْقِنِي لَهُ حَتَّى أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ، وَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ، فَافْجُرْهَا وَاجْعَلْ مَوْتِي فِيهَا. فَانْفَجَرَتْ مِنْ لَبَّتِهِ فَلَمْ يَرُعْهُمْ - وَفِي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ - إِلَّا الدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ ؟ فَإِذَا هُوَ سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمًا، فَمَاتَ

مِنْهَا وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، بِهِ.
قُلْتُ: كَانَ دَعَا أَوَّلًا بِهَذَا الدُّعَاءِ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَلِهَذَا قَالَ فِيهِ: وَلَا تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ. فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، فَلَمَّا حَكَمَ فِيهِمْ، وَأَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ أَتَمَّ قَرَارٍ، دَعَا ثَانِيًا بِهَذَا الدُّعَاءِ، فَجَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ شَهَادَةً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ وَفَاتِهِ قَرِيبًا. إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عَائِشَةَ مُطَوَّلًا جِدًّا، وَفِيهِ فَوَائِدُ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ قَالَتْ: خَرَجْتُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَقْفُو النَّاسَ فَسَمِعْتُ وَئِيدَ الْأَرْضِ وَرَائِي، فَإِذَا أَنَا بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ يَحْمِلُ مِجَنَّهُ. قَالَتْ: فَجَلَسْتُ إِلَى الْأَرْضِ فَمَرَّ سَعْدٌ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ مِنْ حَدِيدٍ قَدْ خَرَجَتْ مِنْهَا أَطْرَافُهُ، فَأَنَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أَطْرَافِ سَعْدٍ قَالَتْ: وَكَانَ سَعْدٌ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وَأَطْوَلِهِمْ، فَمَرَّ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:
لَبِّثْ قَلِيلًا يُدْرِكِ الْهَيْجَا حَمَلْ مَا أَحْسَنَ الْمَوْتَ إِذَا حَانَ الْأَجَلْ

قَالَتْ: فَقُمْتُ فَاقْتَحَمْتُ حَدِيقَةً، فَإِذَا نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ تَسْبِغَةٌ لَهُ؛ تَعْنِي الْمِغْفَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا جَاءَ بِكِ، وَاللَّهِ إِنَّكِ لَجَرِيئَةٌ، وَمَا يُؤْمِنُكِ أَنْ يَكُونَ بَلَاءٌ أَوْ يَكُونَ تَحَوُّزٌ. فَمَا زَالَ يَلُومُنِي حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنَّ الْأَرْضَ انْشَقَّتْ لِي سَاعَتَئِذٍ فَدَخَلْتُ فِيهَا فَرَفَعَ الرَّجُلُ التَّسْبِغَةَ عَنْ وَجْهِهِ، فَإِذَا هُوَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا عُمَرُ، وَيْحَكَ، إِنَّكَ قَدْ أَكْثَرْتَ مُنْذُ الْيَوْمِ، وَأَيْنَ التَّحَوُّزُ أَوِ الْفِرَارُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَالَتْ: وَيَرْمِي سَعْدًا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْعَرِقَةِ وَقَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْعَرِقَةِ، فَأَصَابَ أَكْحَلَهُ فَقَطَعَهُ، فَدَعَا اللَّهَ سَعْدٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ. قَالَتْ: وَكَانُوا حُلَفَاءَهُ وَمَوَالِيَهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَتْ: فَرَقَأَ كَلْمُهُ، وَبَعَثَ اللَّهُ الرِّيحَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا. فَلَحِقَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ بِتِهَامَةَ، وَلَحِقَ

عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ وَمَنْ مَعَهُ بِنَجْدٍ، وَرَجَعَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ فَتَحَصَّنُوا فِي صَيَاصِيهِمْ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَضُرِبَتْ عَلَى سَعْدٍ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَتْ: فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ وَإِنَّ عَلَى ثَنَايَاهُ لَنَقْعُ الْغُبَارِ، فَقَالَ: أَقَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ ؟ لَا وَاللَّهِ مَا وَضَعَتِ الْمَلَائِكَةُ السِّلَاحَ بَعْدُ، اخْرُجْ إِلَىبَنِي قُرَيْظَةَ فَقَاتِلْهُمْ. قَالَتْ: فَلَبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأْمَتَهُ، وَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالرَّحِيلِ أَنْ يَخْرُجُوا، فَمَرَّ عَلَى بَنِي غَنْمٍ، وَهُمْ جِيرَانُ الْمَسْجِدِ حَوْلَهُ فَقَالَ: " مَنْ مَرَّ بِكُمْ ؟ ". قَالُوا: مَرَّ بِنَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ وَكَانَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ تُشْبِهُ لِحْيَتُهُ وَسِنُّهُ وَوَجْهُهُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَاصَرَهُمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَلَمَّا اشْتَدَّ حَصْرُهُمْ وَاشْتَدَّ الْبَلَاءُ، قِيلَ لَهُمُ: انْزِلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَاسْتَشَارُوا أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ الذَّبْحُ، قَالُوا: نَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انْزِلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ". فَأُتِيَ بِهِ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ مِنْ لِيفٍ، قَدْ حُمِلَ عَلَيْهِ وَحَفَّ بِهِ قَوْمُهُ، فَقَالُوا: يَا أَبَا عَمْرٍو، حُلَفَاؤُكَ وَمَوَالِيكَ وَأَهْلُ النِّكَايَةِ وَمَنْ قَدْ عَلِمْتَ قَالَتْ: وَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ دُورِهِمُ الْتَفَتَ إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: قَدْ آنَ لِي أَنْ لَا أُبَالِيَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ -

قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَلَمَّا طَلَعَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ فَأَنْزِلُوهُ ". قَالَ عُمَرُ: سَيِّدُنَا اللَّهُ - قَالَ: " أَنْزِلُوهُ ". فَأَنْزَلُوهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احْكُمْ فِيهِمْ ". فَقَالَ سَعْدٌ: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، وَتُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ ". ثُمَّ دَعَا سَعْدٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ عَلَى نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا، وَإِنْ كُنْتَ قَطَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ. قَالَتْ: فَانْفَجَرَ كَلْمُهُ، وَكَانَ قَدْ بَرِئَ حَتَّى لَا يُرَى مِنْهُ إِلَّا مِثْلُ الْخُرْصِ، وَرَجَعَ إِلَى قُبَّتِهِ الَّتِي ضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحَضَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. قَالَتْ: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ بُكَاءَ عُمَرَ مِنْ بُكَاءِ أَبِي بَكْرٍ وَأَنَا فِي حُجْرَتِي، وَكَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ( الْفَتْحِ: 29 ) قَالَ عَلْقَمَةُ: فَقُلْتُ: يَا أُمَّهْ، فَكَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ ؟ قَالَتْ: كَانَتْ عَيْنُهُ لَا تَدْمَعُ عَلَى

أَحَدٍ وَلَكِنَّهُ كَانَ إِذَا وَجَدَ، فَإِنَّمَا هُوَ آخِذٌ بِلِحْيَتِهِ وَهَذَا الْحَدِيثُ إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِدُعَاءِ سَعْدٍ مَرَّتَيْنِ؛ مَرَّةً قَبْلَ حُكْمِهِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَمَرَّةً بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَسَنَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ وَفَاتِهِ وَدَفْنَهُ وَفَضْلَهُ فِي ذَلِكَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ بَعْدَ فَرَاغِنَا مِنَ الْقِصَّةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ اسْتُنْزِلُوا فَحَبَسَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ - امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ - قُلْتُ: هِيَ نُسَيْبَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ كُرْزِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ - ثُمَّ خَرَجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ فَخَنْدَقَ بِهَا خَنَادِقَ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِمْ فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ فِي تِلْكَ الْخَنَادِقِ، فَخُرِجَ بِهِمْ إِلَيْهِ أَرْسَالًا، وَفِيهِمْ عَدُوَّ اللَّهِ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ رَأْسُ الْقَوْمِ وَهُمْ سِتُّمِائَةٍ أَوْ سَبْعُمِائَةٍ، وَالْمُكَثِّرُ لَهُمْ يَقُولُ: كَانُوا مَا بَيْنَ الثَّمَانِمِائَةِ وَالتِّسْعِمِائَةِ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا رَوَاهُ اللَّيْثُ، عَنْ أَبَى الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ قَالُوا لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ وَهُمْ يُذْهَبُ بِهِمْ إِلَى

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَالًا: يَا كَعْبُ مَا تَرَاهُ يُصْنَعُ بِنَا ؟ قَالَ: أَفِي كُلِّ مَوْطِنٍ لَا تَعْقِلُونَ، أَلَا تَرَوْنَ الدَّاعِيَ لَا يَنْزِعُ، وَأَنَّهُ مَنْ ذُهِبَ بِهِ مِنْكُمْ لَا يَرْجِعُ، هُوَ وَاللَّهِ الْقَتْلُ. فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ الدَّأْبَ حَتَّى فُرِغَ مِنْهُمْ، وَأُتِيَ بِحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ لَهُ فُقَّاحِيَّةٌ، قَدْ شَقَّهَا عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ قَدْرَ أُنْمُلَةٍ؛ لِئَلَّا يُسْلَبَهَا، مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ بِحَبْلٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا لُمْتُ نَفْسِي فِي عَدَاوَتِكَ، وَلَكِنَّهُ مَنْ يَخْذُلِ اللَّهَ، يُخْذَلْ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَمْرِ اللَّهِ، كِتَابٌ وَقَدَرٌ وَمَلْحَمَةٌ كَتَبَهَا اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. ثُمَّ جَلَسَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ فَقَالَ جَبَلُ بْنُ جَوَّالٍ الثَّعْلَبِيُّ:
لَعَمْرُكَ مَا لَامَ ابْنُ أَخْطَبَ نَفْسَهُ وَلَكِنَّهُ مَنْ يَخْذُلِ اللَّهَ يُخْذَلِ
لَجَاهَدَ حَتَّى أَبْلَغَ النَّفْسَ عُذْرَهَا وَقَلْقَلَ يَبْغِي الْعِزَّ كُلَّ مُقَلْقَلِ
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قِصَّةَ الزُّبَيْرِ بْنِ بَاطَا، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، وَكَانَ قَدْ مَنَّ يَوْمَ بُعَاثٍ عَلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَجَزَّ نَاصِيَتَهُ، فَلَمَّا

كَانَ هَذَا الْيَوْمُ أَرَادَ أَنْ يُكَافِئَهُ فَجَاءَهُ فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُنِي يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؟ قَالَ: وَهَلْ يَجْهَلُ مِثْلِي مِثْلَكَ ؟ فَقَالَ لَهُ ثَابِتٌ: أُرِيدُ أَنْ أُكَافِئَكَ فَقَالَ: إِنَّ الْكَرِيمَ يَجْزِي الْكَرِيمَ. فَذَهَبَ ثَابِتٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَطْلَقَهُ؛ فَأَطْلَقَهُ لَهُ، ثُمَّ جَاءَهُ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا أَهْلَ لَهُ وَلَا وَلَدَ فَمَا يَصْنَعُ بِالْحَيَاةِ ؟ فَذَهَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَطْلَقَ لَهُ امْرَأَتَهُ وَوَلَدَهُ، فَأَطْلَقَهُمْ لَهُ، ثُمَّ جَاءَهُ، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: أَهْلُ بَيْتٍ بِالْحِجَازِ لَا مَالَ لَهُمْ، فَمَا بَقَاؤُهُمْ عَلَى ذَلِكَ ؟ فَأَتَى ثَابِتٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَطْلَقَ مَالَ الزُّبَيْرِ بْنِ بَاطَا، فَأَطْلَقَهُ لَهُ، ثُمَّ جَاءَهُ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا ثَابِتُ، مَا فَعَلَ الَّذِي كَانَ وَجْهُهُ مِرْآةً صِينِيَّةً تَتَرَاءَى فِيهَا عَذَارَى الْحَيِّ ؟ يَعْنِي كَعْبَ بْنَ أَسَدٍ. قَالَ: قُتِلَ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ سَيِّدُ الْحَاضِرِ وَالْبَادِي حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ ؟ قَالَ: قُتِلَ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ مُقَدِّمَتُنَا إِذَا شَدَدْنَا وَحَامِيَتُنَا إِذَا فَرَرْنَا؛ عَزَّالُ بْنُ شَمَوْأَلَ ؟ قَالَ: قُتِلَ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ الْمَجْلِسَانِ ؟ يَعْنِي بَنِي كَعْبِ بْنِ قُرَيْظَةَ وَبَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ قَالَ: ذَهَبُوا قُتِلُوا. قَالَ: فَإِنِّي أَسْأَلُكَ يَا ثَابِتُ بِيَدِي عِنْدَكَ إِلَّا أَلْحَقْتَنِي بِالْقَوْمِ، فَوَاللَّهِ مَا فِي الْعَيْشِ بَعْدَ هَؤُلَاءِ مِنْ خَيْرٍ، فَمَا أَنَا بِصَابِرٍ لِلَّهِ فَيْلَةَ دَلْوٍ نَاضِحٍ حَتَّى أَلْقَى الْأَحِبَّةَ. فَقَدَّمَهُ ثَابِتٌ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَوْلُهُ: أَلْقَى الْأَحِبَّةَ. قَالَ: يَلْقَاهُمْ وَاللَّهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا مُخَلَّدًا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ " فَيْلَةُ "

بِالْفَاءِ وَالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ أَسْفَلَ. وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بِالْقَافِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ النَّاضِحُ: الْبَعِيرُ الَّذِي يَسْتَقِي الْمَاءَ لِسَقْيِ النَّخْلِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ إِفْرَاغَةُ دَلْوٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ كُلِّ مَنْ أَنْبَتَ مِنْهُمْ، فَحَدَّثَنِي شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ،عَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ أَنْ يُقْتَلَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ كُلُّ مَنْ أَنْبَتَ مِنْهُمْ، وَكُنْتُ غُلَامًا، فَوَجَدُونِي لَمْ أُنْبِتْ فَخَلَّوْا سَبِيلِي. وَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ نَحْوَهُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ إِنْبَاتَ الشَّعْرِ الْخَشِنِ حَوْلَ الْفَرَجِ دَلِيلٌ

عَلَى الْبُلُوغِ بَلْ هُوَ بُلُوغٌ فِي أَصَحِّ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ صِبْيَانِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَيَكُونُ بُلُوغًا فِي حَقِّهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ يَتَأَذَّى بِذَلِكَ الْمَقْصِدِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ سَلْمَى بِنْتَ قَيْسٍ أُمَّ الْمُنْذِرِ اسْتَطْلَقَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِفَاعَةَ بْنَ سِمْوَالَ وَكَانَ قَدْ بَلَغَ فَلَاذَ بِهَا، وَكَانَ يَعْرِفُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَطْلَقَهُ لَهَا، وَكَانَتْ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ رِفَاعَةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَيُصَلِّي وَيَأْكُلُ لَحْمَ الْجَمَلِ. فَأَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ فَأَطْلَقَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمْ يُقْتَلْ مِنْ نِسَائِهِمْ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّهَا لِعِنْدِي تَحَدَّثُ مَعِي تَضْحَكُ ظَهْرًا وَبَطْنًا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُلُ رِجَالَهَا فِي السُّوقِ، إِذْ هَتَفَ هَاتِفٌ بِاسْمِهَا: أَيْنَ فُلَانَةُ ؟ قَالَتْ: أَنَا وَاللَّهِ قَالَتْ: قُلْتُ لَهَا: وَيْلَكِ مَا لَكِ ؟ قَالَتْ: أُقْتَلُ. قُلْتُ: وَلِمَ ؟ قَالَتْ: لِحَدَثٍ أَحْدَثْتُهُ. قَالَتْ: فَانْطُلِقَ بِهَا فَضُرِبَتْ عُنُقُهَا. وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: فَوَاللَّهِ مَا أَنْسَى عَجَبًا مِنْهَا؛ طِيبَ نَفْسِهَا وَكَثْرَةَ ضَحِكِهَا، وَقَدْ عَرَفَتْ أَنَّهَا تُقْتَلُ. وَهَكَذَا رَوَاهُ

الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، بِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هِيَ الَّتِي طَرَحَتِ الرَّحَا عَلَى خَلَّادِ بْنِ سُوَيْدٍ فَقَتَلَتْهُ. يَعْنِي فَقَتَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ. قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَسَمَّاهَا نُبَاتَةَ امْرَأَةَ الْحَكَمِ الْقُرَظِيِّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ أَمْوَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا أَخْرَجَ الْخُمُسَ، وَقَسَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، سَهْمَيْنِ لِلْفَرَسِ وَسَهْمًا لِرَاكِبِهِ، وَسَهْمًا لِلرَّاجِلِ، وَكَانَتِ الْخَيْلُ يَوْمَئِذٍ سِتًّا وَثَلَاثِينَ.
قَالَ: وَكَانَ أَوَّلَ فَيْءٍ وَقَعَتْ فِيهِ السُّهْمَانُ وَخُمِّسَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ بِسَبَايَا مِنَ بَنِي قُرَيْظَةَ إِلَى نَجْدٍ، فَابْتَاعَ بِهَا خَيْلًا وَسِلَاحًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اصْطَفَى مِنْ نِسَائِهِمْ رَيْحَانَةَ بِنْتَ عَمْرِو بْنِ خُنَافَةَ، إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ، وَكَانَ عَلَيْهَا، حَتَّى تُوُفِّيَ عَنْهَا وَهِيَ فِي مِلْكِهِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَامْتَنَعَتْ، ثُمَّ أَسْلَمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْلَامِهَا، وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْهَا أَنْ يُعْتِقَهَا وَيَتَزَوَّجَهَا، فَاخْتَارَتْ أَنْ تَسْتَمِرَّ عَلَى الرِّقِّ لِيَكُونَ أَسْهَلَ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى تُوُفِّيَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
ثُمَّ تَكَلَّمَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَلَى مَا نَزَلَ مِنَ الْآيَاتِ فِي قِصَّةِ الْخَنْدَقِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي تَفْسِيرِهَا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَاسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ خَلَّادُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرٍو الْخَزْرَجِيُّ، طُرِحَتْ عَلَيْهِ رَحًا فَشَدَخَتْهُ شَدْخًا شَدِيدًا، فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ لَهُ لَأَجْرَ شَهِيدَيْنِ ". قُلْتُ: كَانَ الَّذِي أَلْقَى عَلَيْهِ الرَّحَا، تِلْكَ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَمْ يُقْتَلْ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا، كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمَاتَ أَبُو سِنَانِ بْنُ مِحْصَنِ بْنِ حُرْثَانَ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَاصِرٌ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَدُفِنَ فِي مَقْبَرَتِهِمُ الْيَوْمَ.

وَفَاةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ حِبَّانَ بْنَ الْعَرِقَةِ، لَعَنَهُ اللَّهُ، رَمَاهُ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ أَكْحَلَهُ، فَحَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيًّا بِالنَّارِ، فَاسْتَمْسَكَ الْجُرْحُ، وَكَانَ سَعْدٌ قَدْ دَعَا اللَّهَ أَنْ لَا يُمِيتَهُ حَتَّى يُقِرَّ عَيْنَهُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَذَلِكَ حِينَ نَقَضُوا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ وَالذِّمَامِ، وَمَالُوا عَلَيْهِ مَعَ الْأَحْزَابِ، فَلَمَّا ذَهَبَ الْأَحْزَابُ وَانْقَشَعُوا عَنِ ال&#