29//3 - البداية والنهاية لابن كثير الحافظ
فِيهَا وَقَعَ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ مِنْهُ مَا كَانَ كَتَبَهُ لَهُ وَالِدُهُ الْمُسْتَرْشِدُ حِينَ أَسَرَهُ، الْتَزَمَ لَهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَامْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ ذَلِكَ وَقَالَ لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِلَّا السَّيْفُ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا الْخُلْفُ فَاسْتَجَاشَ السُّلْطَانُ الْعَسَاكِرَ وَاسْتَنْهَضَ الْخَلِيفَةُ الْأُمَرَاءَ وَأَرْسَلَ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي، فَجَاءَ وَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلَائِقُ، وَجَاءَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ السُّلْطَانُ دَاوُدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ فَخَطَبَ لَهُ الْخَلِيفَةُ بِبَغْدَادَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَبَايَعَهُ عَلَى الْمُلْكِ، فَتَأَكَّدَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَ السُّلْطَانِ وَالْخَلِيفَةِ جِدًّا، وَبَرَزَ الْخَلِيفَةُ إِلَى ظَاهِرِ بَغْدَادَ، وَمَشَى الْجَيْشُ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا كَانُوا يُعَامِلُونَ أَبَاهُ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ سَلْخَ شَعْبَانَ، وَخَرَجَ السُّلْطَانُ دَاوُدُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ كَثْرَةُ جُيُوشِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ حَسَّنَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يَذْهَبَ مَعَهُ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَاتَّفَقَ دُخُولُ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ إِلَى بَغْدَادَ فِي غَيْبَتِهِمْ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ رَابِعَ شَوَّالٍ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى دَارِ الْخِلَافَةِ بِمَا فِيهَا جَمِيعِهِ، ثُمَّ اسْتَخْلَصَ مِنْ نِسَاءِ الْخَلِيفَةِ وَحَظَايَاهُ الْحُلِيَّ وَالْمَصَاغَ وَالثِّيَابَ الَّتِي لِلزِّينَةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَجَمَعَ الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ وَأَبْرَزَ لَهُمْ خَطَّ الرَّاشِدِ أَنَّهُ مَتَى خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ لِقِتَالِ السُّلْطَانِ فَقَدْ خَلَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ، فَأَفْتَى مَنْ أَفْتَى مِنَ الْفُقَهَاءِ بِخَلْعِهِ، فَخُلِعَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَادِسَ عَشَرَ شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَفُتَيَا أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ
أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا وَأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَاسْتَدْعَى السُّلْطَانُ
بِعَمِّهِ الْمُقْتَفِي بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ فَبُويِعَ بِالْخِلَافَةِ، عِوَضًا
عَنِ ابْنِ أَخِيهِ الرَّاشِدِ بِاللَّهِ.
خِلَافَةُ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ
وَأُمُّهُ صَفْرَاءُ تُسَمَّى نُسَيْمَ وَيُقَالُ لَهَا: سِتُّ السَّادةِ، وَلَهُ
مِنَ الْعُمْرِ يَوْمئِذٍ أَرْبَعُونَ سَنَةً، بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ
خَلْعِ الرَّاشِدِ بِيَوْمَيْنِ وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ، يَوْمَ
الْجُمُعَةِ لِعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَلُقِّبَ بِالْمُقْتَفِي ;
لِأَنَّهُ يُقَالُ إِنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: سَيَصِلُ هَذَا الْأَمْرُ
إِلَيْكَ فَاقْتَفِ بِي. فَصَارَ إِلَيْهِ بَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ فَلُقِّبَ
بِذَلِكَ لِذَلِكَ.
فَائِدَةٌ حَسَنَةٌ يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا
وَلِيَ الْمُقْتَفِي وَالْمُسْتَرْشِدُ الْخِلَافَةَ وَكَانَا أَخَوَيْنِ،
وَكَذَلِكَ السَّفَّاحُ وَالْمَنْصُورُ وَكَذَلِكَ الْهَادِي وَالرَّشِيدُ ابْنَا
الْمَهْدِيِّ وَكَذَلِكَ الْوَاثِقُ وَالْمُتَوَكِّلُ ابْنَا الْمُعْتَصِمِ
أَخَوَانِ، وَأَمَّا ثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ فَالْأَمِينُ وَالْمَأْمُونُ
وَالْمُعْتَصِمُ بَنُو الرَّشِيدِ، وَالْمُنْتَصِرُ وَالْمُعْتَزُّ
وَالْمُعْتَمِدُ بَنُو الْمُتَوَكِّلِ، وَالْمُكْتَفِي وَالْمُقْتَدِرُ
وَالْقَاهِرُ بَنُو الْمُعْتَضِدِ، وَالرَّاضِي وَالْمُقْتَفِي وَالْمُطِيعُ بَنُو
الْمُقْتَدِرِ، وَأَمَّا أَرْبَعَةُ إِخْوَةٍ فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا فِي بَنِي
أُمَيَّةَ وَهُمُ: الْوَلِيدُ وَسُلَيْمَانُ وَيَزِيدُ وَهِشَامُ بَنُو عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ. وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْمُقْتَفِي بِالْخِلَافَةِ
اسْتَمَرَّ الرَّاشِدُ ذَاهِبًا إِلَى الْمَوْصِلِ صُحْبَةَ صَاحِبِهَا عِمَادِ
الدِّينِ زَنْكِي فَدَخَلَهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ
فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّوَيْهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمَّوَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْجُوَيْنِيُّ، رَوَى الْحَدِيثَ وَكَانَ صَدُوقًا مَشْهُورًا بِالْعِلْمِ
وَالزُّهْدِ، وَلَهُ كَرَامَاتٌ، دَخَلَ إِلَى بَغْدَادَ فَلَمَّا وَدَّعَهُمْ
أَنْشَدَهُمْ:
لَئِنْ كَانَ لِي مِنْ بَعْدُ عَوْدٌ إِلَيْكُمُ قَضَيْتُ لُبَانَاتِ الْفُؤَادِ
لَدَيْكُمُ وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى وَفِي الْغَيْبِ عِبْرَةٌ
وَحَالَ قَضَاءٌ فَالسَّلَامُ عَلَيْكُمُ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَبِيبٍ
أَبُو بَكْرٍ الْعَامِرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْخَبَّازَةِ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ وَرَحَلَ فِي طَلَبِهِ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ
وَالْحَدِيثِ، وَقَدْ شَرَحَ كِتَابَ " الشِّهَابِ "، وَكَانَ يَعِظُ
النَّاسَ عَلَى طَرِيقِ التَّصَوُّفِ، وَكَانَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِيمَنْ
تَأَدَّبَ بِهِ وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ، وَمِنْ شِعْرِهِ:
كَيْفَ احْتِيَالِي وَهَذَا فِي الْهَوَى حَالِي وَالشَّوْقُ أَمْلَكُ لِي مِنْ
عَذْلِ عُذَّالِي
وَكَيْفَ أَسْلُو وَفِي حُبِّي لَهُ شُغُلٌ يَحُولُ بَيْنَ مُهِمَّاتِي
وَأَشْغَالِي
وَقَدِ ابْتَنَى رِبَاطًا، فَكَانَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَعَبِّدِينَ
وَالزُّهَّادِ، وَلَمَّا احْتَضَرَ أَوْصَاهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ
وَالْإِخْلَاصِ ثُمَّ شَرَعَ فِي النَّزْعِ وَعَرَقَ جَبِينُهُ فَمَدَّ يَدَهُ
ثُمَّ قَالَ:
هَا قَدْ بَسَطْتُ يَدِي
إِلَيْكَ فَرُدَّهَا بِالْفَضْلِ لَا بِشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ
ثُمَّ قَالَ أَرَى الْمَشَايِخَ بَيْنَ أَيْدِيهِمُ الْأَطْبَاقُ، وَهُمْ
يَنْتَظِرُونَنِي ثُمَّ مَاتَ، وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ نِصْفَ رَمَضَانَ
وَدُفِنَ بِرِبَاطِهِ ثُمَّ غَرِقَ رِبَاطُهُ وَقَبْرُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْعَبَّاسِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّاعِدِيُّ الْفُرَاوِيُّ
كَانَ أَبُوهُ مِنْ ثَغْرِ فُرَاوَةَ وَسَكَنَ نَيْسَابُورَ فَوُلِدَ لَهُ بِهَا
مُحَمَّدٌ هَذَا، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ
الْمَشَايِخِ بِالْآفَاقِ، وَتَفَقَّهَ وَأَفْتَى وَنَاظَرَ وَوَعَظَ، وَكَانَ
ظَرِيفًا حَسَنَ الْوَجْهِ جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ كَثِيرَ التَّبَسُّمِ،
وَأَمْلَى أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ مَجْلِسٍ وَرَحَلَ إِلَيْهِ الطَّلَبَةُ مِنَ
الْآفَاقِ حَتَّى كَانَ يُقَالُ: لِلْفُرَاوِيِّ أَلْفُ رَاوٍ. وَقِيلَ: إِنَّ
ذَلِكَ كَانَ مَكْتُوبًا فِي خَاتَمِهِ، وَقَدْ أَسْمَعَ " صَحِيحَ مُسْلِمٍ
" قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً.
تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ تِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَثُرَ مَوْتُ الْفَجْأَةِ بِأَصْبَهَانَ، فَمَاتَ أُلُوفٌ مِنَ النَّاسِ
وَأُغْلِقَتْ دُورٌ كَثِيرَةٌ.
وَفِيهَا تَزَوَّجَ الْخَلِيفَةُ بِالْخَاتُونَ فَاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ
مَلِكْشَاهْ عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَحَضَرَ أَخُوهَا
السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ الْعَقْدَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الدَّوْلَةِ،
وَالْوُزَرَاءُ وَالْأُمَرَاءُ وَنُثِرَ عَلَى النَّاسِ أَنْوَاعُ النِّثَارِ.
وَفِيهَا صَامَ أَهْلُ بَغْدَادَ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَلَمْ يَرَوُا
الْهِلَالَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ مَعَ كَوْنِ السَّمَاءِ كَانَتْ
مُصْحِيَةً.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَقَعْ مِثْلُهُ.
وَفِيهَا هَرَبَ وَزِيرُ صَاحِبِ مِصْرَ وَهُوَ تَاجُ الدَّوْلَةِ بَهْرَامُ
النَّصْرَانِيُّ، وَقَدْ كَانَ تَمَكَّنَ فِي الْبِلَادِ وَأَسَاءَ السِّيرَةَ
فَتَطَلَّبَهُ الْخَلِيفَةُ الْحَافِظُ حَتَّى أَخَذَهُ فَسَجَنَهُ، ثُمَّ
أَطْلَقَهُ فَتَرَهَّبَ وَتَرَكَ الْعَمَلَ، فَاسْتَوْزَرَ بَعْدَهُ رِضْوَانَ
بْنَ الزَّنْجِيِّ، وَلَقَّبَهُ الْمَلِكَ الْأَفْضَلَ وَلَمْ يُلَقَّبْ وَزِيرٌ
بِذَلِكَ قَبْلَهُ، ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَافِظِ، فَلَمْ يَزَلْ
بِهِ
الْخَلِيفَةُ حَتَّى
قَتَلَهُ وَاشْتَغَلَ بِتَدْبِيرِ أُمُورِهِ وَحْدَهُ.
وَفِيهَا مَلَكَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي عِدَّةَ بِلَادٍ. وَفِيهَا ظَهَرَ
بِالشَّامِ سَحَابٌ أَسْوَدُ أَظْلَمَتْ لَهُ الدُّنْيَا، ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَهُ سَحَابٌ
أَحْمَرُ كَأَنَّهُ نَارٌ أَضَاءَتْ لَهُ الدُّنْيَا، ثُمَّ جَاءَتْ رِيحٌ عَاصِفٌ
أَلْقَتْ أَشْجَارًا كَثِيرَةً، ثُمَّ وَقَعَ مَطَرٌ شَدِيدٌ وَسَقَطَ بَرَدٌ
كِبَارٌ.
وَفِيهَا قَصَدَ مَلِكُ الرُّومِ بِلَادَ الشَّامِ فَأَخَذَ بِلَادًا كَثِيرَةً
مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ، وَأَطَاعَهُ أَلْيُونُ بْنُ مَلِكِ الْأَرْمَنِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو سَعْدٍ
الْخُجَنْدِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى وَالِدِهِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الْخُجَنْدِيِّ
الْأَصْبَهَانِيِّ، وَوَلِيَ التَّدْرِيسَ بِالْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ
بِبَغْدَادَ مِرَارًا، وَيُعْزَلُ عَنْهَا، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَوَعَظَ،
وَتُوُفِّيَ فِي غُرَّةِ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَارَبَ
التِّسْعِينَ.
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْحَرِيرِيُّ،
يُعْرَفُ بِابْنِ الطَّبَرِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَوَى عَنْ
أَبِي الْحَسَنِ ابْنِ زَوْجِ الْحُرَّةِ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ
الْخَطِيبُ، وَكَانَ ثَبَتًا صَحِيحَ السَّمَاعِ، كَثِيرَ الذِّكْرِ
وَالتِّلَاوَةِ، مُمَتَّعًا بِحَوَاسِّهِ وَقُوَاهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي
جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَتِسْعِينَ سَنَةً رَحِمَهُ
اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا قُتِلَ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ الْمَخْلُوعُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ
مَعَهُ الْمَلِكُ دَاوُدُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ كِبَارِ الْأُمَرَاءِ، فَقَصَدُوا
قِتَالَ مَسْعُودٍ بِأَرْضِ مَرَاغَةَ فَهَزَمَهُمْ وَبَدَّدَ شَمْلَهُمْ وَقَتَلَ
مِنْهُمْ خَلْقًا صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْهُمْ صَدَقَةُ بْنُ دُبَيْسٍ
وَوَلَّى أَخَاهُ مُحَمَّدًا مَكَانَهُ عَلَى الْحِلَّةِ وَهَرَبَ الْخَلِيفَةُ
الرَّاشِدُ الْمَخْلُوعُ فَدَخَلَ أَصْبَهَانَ فَقَتَلَهُ مَنْ كَانَ يَخْدُمُهُ
مِنَ الْخُرَاسَانِيَّةِ، وَكَانَ قَدْ بَرَأَ مِنْ وَجَعٍ أَصَابَهُ، فَقَتَلُوهُ
فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بِشَهْرَسْتَانَ ظَاهِرَ
أَصْبَهَانَ وَقَدْ كَانَ حَسَنَ اللَّوْنِ مَلِيحَ الْوَجْهِ شَدِيدَ الْقُوَّةِ
مَهِيبًا. أُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا كَسَا الْكَعْبَةَ رَجُلٌ مِنَ التُّجَّارِ يُقَالُ لَهُ رَاسَتُ
الْفَارِسِيُّ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ
تَأْتِهَا كُسْوَةٌ فِي هَذَا الْعَامِ لِاخْتِلَافِ الْمُلُوكِ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِبِلَادِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ
وَالْعِرَاقِ فَانْهَدَمَ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَمَاتَ تَحْتَ الْهَدْمِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ. وَفِيهَا كَانَ بِخُرَاسَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ
حَتَّى أَكَلُوا
الْكِلَابَ.
وَفِيهَا أَخَذَ الْمَلِكُ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي مَدِينَةَ حِمْصَ فِي
الْمُحَرَّمِ وَتَزَوَّجَ فِي رَمَضَانَ بِالسِّتِّ زُمُرُّدَ خَاتُونَ، أُمِّ
صَاحِبِ دِمَشْقَ وَهِيَ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَيْهَا الْخَاتُونِيَّةُ
الْبَرَّانِيَّةُ.
وَفِيهَا مَلَكَ صَاحِبُ الرُّومِ مَدِينَةَ بُزَاعَةَ وَهِيَ عَلَى سِتَّةِ
فَرَاسِخَ مِنْ حَلَبَ، فَجَاءَ أَهْلُهَا الَّذِينَ نَجَوْا مِنَ الْقَتْلِ
وَالسَّبْيِ يَسْتَغِيثُونَ بِالْمُسْلِمِينَ بِبَغْدَادَ، فَمُنِعَتِ الْخُطْبَةُ
بِبَغْدَادَ وَجَرَتْ فِتَنٌ طَوِيلَةٌ.
وَفِيهَا تَزَوَّجَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ سَفْرَى بِنْتَ دُبَيْسِ بْنِ
صَدَقَةَ، وَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ لِذَلِكَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: فَحَصَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَسَادٌ عَرِيضٌ طَوِيلٌ مُنْتَشِرٌ ثُمَّ
تَزَوَّجَ ابْنَةَ عَمِّهِ فَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَيْضًا.
وَفِيهَا وُلِدَ السُّلْطَانُ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ
بْنِ شَاذِيٍّ بِقَلْعَةِ تَكْرِيتَ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ نَظَرٌ
الْخَادِمُ، وَكَذَا فِي السَّنَوَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَثَابَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ
الدِّينَوَرِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي
الْخَطَّابِ الْكَلْوَذَانِيِّ، وَأَفْتَى وَدَرَّسَ وَنَاظَرَ وَكَانَ أَسْعَدُ
الْمِيهَنِيُّ يَقُولُ: مَا اعْتَرَضَ أَبُو بَكْرٍ الدِّينَوَرِيُّ عَلَى دَلِيلِ
أَحَدٍ
إِلَّا ثَلَمَهُ، وَقَدْ
تَخَرَّجَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ وَأَنْشَدَ عَنْهُ
قَوْلَهُ:
تَمَنَّيْتُ أَنْ تُمْسِيَ فَقِيهًا مُنَاظِرًا بِغَيْرِ عَنَاءٍ فَالْجُنُونُ
فُنُونُ وَلَيْسَ اكْتِسَابُ الْمَالِ دُونَ مَشَقَّةٍ
تَلَقَّيْتَهَا فَالْعِلْمُ كَيْفَ يَكُونُ
عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ هَوَازِنَ أَبُو الْمُظَفَّرِ
الْقُشَيْرِيُّ آخِرُ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ سَمِعَ أَبَاهُ وَأَبَا بَكْرٍ
الْبَيْهَقِيَّ وَغَيْرَهُمَا وَسَمِعَ مِنْهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ
الْأَنْمَاطِيُّ، وَأَجَازَ ابْنَ الْجَوْزِيِّ وَقَارَبَ التِّسْعِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ أَبُو الْحَسَنِ
الْكَرَجِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ فِي بِلَادٍ شَتَّى، وَكَانَ فَقِيهًا مُفْتِيًا،
تَفَقَّهَ بِأَبِي إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَكَانَ
أَدِيبًا شَاعِرًا فَصِيحًا، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ ; مِنْهَا الْفُصُولُ
فِي اعْتِقَادِ الْأَئِمَّةِ الْفُحُولِ، يَذْكُرُ فِيهِ مَذَاهِبَ السَّلَفِ فِي
بَابِ الِاعْتِقَادِ، وَيَحْكِي فِيهِ أَشْيَاءَ غَرِيبَةً حَسَنَةً، وَلَهُ
تَفْسِيرٌ وَكِتَابٌ فِي الْفِقْهِ وَكَانَ لَا يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ،
وَيَقُولُ: لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ، وَقَدْ كَانَ إِمَامُنَا
الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي هَذَا
الْحَائِطَ، وَقَدْ كَانَ حَسَنَ الصُّورَةِ جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ وَمِنْ
شِعْرِهِ:
تَنَاءَتْ دَارُهُ عَنِّي
وَلَكِنْ خَيَالُ جَمَالِهِ فِي الْقَلْبِ سَاكِنْ
إِذَا امْتَلَأَ الْفُؤَادُ بِهِ فَمَاذَا يَضُرُّ إِذَا خَلَتْ مِنْهُ
الْأَمَاكِنْ
تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ.
الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ مَنْصُورُ بْنُ الْمُسْتَرْشِدِ
وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ أَبِيهِ ثُمَّ خُلِعَ، فَذَهَبَ مَعَ الْعِمَادِ
زَنْكِي إِلَى أَرْضِ الْمَوْصِلِ، ثُمَّ جَمَعَ جُمُوعًا فَاقْتَتَلَ مَعَ
الْمَلِكِ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَهَزَمَهُمْ، فَذَهَبَ إِلَى
أَصْبَهَانَ فَقُتِلَ بَعْدَ مَرَضٍ أَصَابَهُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ سُمَّ، وَقِيلَ:
قَتَلَتْهُ الْبَاطِنِيَّةُ وَقِيلَ: قَتَلَهُ الْفَرَّاشُونَ الَّذِينَ كَانُوا
يَلُونَ أَمْرَهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصُّولِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
النَّاسُ يَقُولُونَ: كُلُّ سَادِسٍ يَقُومُ بِأَمْرِ النَّاسِ مِنْ أَوَّلِ
الْإِسْلَامِ لَا بُدَّ أَنْ يُخْلَعَ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَتَأَمَّلْتُ
ذَلِكَ فَرَأَيْتُهُ عَجَبًا ; قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ ثُمَّ
الْحَسَنُ فَخُلِعَ، ثُمَّ مُعَاوِيَةُ وَيَزِيدُ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ
وَمَرْوَانُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَخُلِعَ
وَقُتِلَ، ثُمَّ الْوَلِيدُ وَسُلَيْمَانُ ثُمَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَيَزِيدُ وَهِشَامٌ ثُمَّ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ فَخُلِعَ وَقُتِلَ، وَلَمْ
يَنْتَظِمْ لِبَنِي أُمَيَّةَ بَعْدَهُ أَمْرٌ حَتَّى قَامَ السَّفَّاحُ
الْعَبَّاسِيُّ ثُمَّ أَخُوهُ الْمَنْصُورُ ثُمَّ الْمَهْدِيُّ ثُمَّ الْهَادِي
ثُمَّ الرَّشِيدُ ثُمَّ الْأَمِينُ فَخُلِعَ وَقُتِلَ، ثُمَّ الْمَأْمُونُ
وَالْمُعْتَصِمُ
وَالْوَاثِقُ
وَالْمُتَوَكِّلُ وَالْمُنْتَصِرُ ثُمَّ الْمُسْتَعِينُ فَخُلِعَ وَقُتِلَ، ثُمَّ
الْمُعْتَزُّ وَالْمُهْتَدِي وَالْمُعْتَمِدُ وَالْمُعْتَضِدُ وَالْمُكْتَفِي
ثُمَّ الْمُقْتَدِرُ فَخُلِعَ ثُمَّ أُعِيدَ فَقُتِلَ، ثُمَّ الْقَاهِرُ
وَالرَّاضِي وَالْمُتَّقِي وَالْمُكْتَفِي وَالْمُطِيعُ ثُمَّ الطَّائِعُ
فَخُلِعَ، ثُمَّ الْقَادِرُ وَالْقَائِمُ وَالْمُقْتَدِي وَالْمُسْتَظْهِرُ
وَالْمُسْتَرْشِدُ ثُمَّ الرَّاشِدُ فَخُلِعَ وَقُتِلَ.
أَنُوشِرْوَانُ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَاشَانِيُّ الْفِينِيُّ
مِنْ قَرْيَةِ فِينَ مِنْ قَاشَانَ الْوَزِيرُ أَبُو نَصْرٍ وَزَرَ لِلسُّلْطَانِ
مَحْمُودٍ وَلِلْخَلِيفَةِ الْمُسْتَرْشِدِ، وَكَانَ عَاقِلًا مَهِيبًا عَظِيمَ
الْخِلْقَةِ، وَهُوَ الَّذِي أَلْزَمَ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَرِيرِيَّ بِتَكْمِيلِ
الْمَقَامَاتِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَرِيرِيَّ كَانَ
جَالِسًا ذَاتَ يَوْمٍ فِي مَسْجِدِ بَنِي حَرَامٍ مِنْ مَحَالِّ الْبَصْرَةِ
فَدَخَلَ عَلَيْهِ شَيْخٌ ذُو طِمْرَيْنِ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: أَنَا
رَجُلٌ مِنْ سَرُوجَ يُقَالُ لِي أَبُو زَيْدٍ، فَعَمِلَ الْحَرِيرِيُّ
الْمَقَامَةَ الْحَرَامِيَّةَ وَاشْتُهِرَتْ فِي النَّاسِ، فَلَمَّا طَالَعَهَا
الْوَزِيرُ أَنُوشِرْوَانُ أُعْجِبَ بِهَا، وَكَلَّفَ أَبَا مُحَمَّدٍ
الْحَرِيرِيَّ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا غَيْرَهَا فَعَمِلَ مَعَهَا تَمَامَ
خَمْسِينَ مَقَامَةً، فَهِيَ هَذِهِ الْمَشْهُورَةُ الْمُتَدَاوَلَةُ بَيْنَ
النَّاسِ، وَقَدْ كَانَ الْوَزِيرُ كَرِيمًا مُحَمَّدًا غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ
يُنْسَبُ إِلَى التَّشَيُّعِ وَقَدْ مَدَحَهُ الْحَرِيرِيُّ فَقَالَ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي وَالتَّمَنِّي تَعِلَّةٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ رَاحَةٌ لِأَخِي
الْكَرْبِ
أَتَدْرُونَ أَنِّي مُذْ تَنَاءَتْ دِيَارُكُمْ وَشَطَّ اقْتِرَابِي مِنْ
جَنَابِكُمُ الرَّحْبِ
أُكَابِدُ شَوْقًا مَا يَزَالُ أُوَارُهُ يُقَلِّبُنِي فِي اللَّيْلِ جَنْبًا
عَلَى جَنْبِ
وَأَذْكُرُ أَيَّامَ
التَّلَاقِي فَأَنْثَنِي لِتِذْكَارِهَا بَادِي الْأَسَى طَائِرَ اللُّبِّ
وَلِي حَنَّةٌ فِي كُّلِّ وَقْتٍ إِلَيْكُمُ وَلَا حَنَّةُ الصَّادِي إِلَى
الْبَارِدِ الْعَذْبِ
فَوَاللَّهِ لَوْ أَنِّي كَتَمْتُ هَوَاكُمُ لَمَا كَانَ مَكْتُومًا بِشَرْقٍ
وَلَا غَرْبِ
وَمِمَّا شَجَا قَلْبِي الْمُعَنَّى وَشَفَّهُ رِضَاكُمْ بِإِهْمِالِ الْإِجَابَةِ
عَنْ كُتْبِي
وَقَدْ كُنْتُ لَا أَخْشَى مَعَ الذَّنْبِ جَفْوَةً فَقَدْ صِرْتُ أَخْشَاهَا
وَمَا لِيَ مِنْ ذَنْبِ
وَلَمَّا سَرَى الْوَفْدُ الْعِرَاقِيُّ نَحْوَكُمْ وَأَعْوَزَنِي الْمَسْرَى
إِلَيْكُمْ مَعَ الرَّكْبِ
جَعَلْتُ كِتَابِي نَائِبِي عَنْ ضَرُورَةٍ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً تَيَمَّمَ
بِالتُّرْبِ
وَنَفَّذْتُ أَيْضًا بَضْعَةً مِنْ جَوَارِحِي لِتُنْبِئَكَمْ عَنْ شَرْحِ حَالِي
وَتَسْتَنْبِي
وَلَسْتُ أَرَى إِذْ كَارَكُمْ بَعْدَ خُبْرِكُمْ بِمَكْرُمَةٍ حَسْبِي
اهْتِزَازُكُمُ حَسْبِي
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِمَدِينَةِ جَنْزَةَ، مَاتَ بِسَبَبِهَا
مِائَتَا أَلْفٍ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا، وَصَارَ مَكَانُهَا مَاءً أَسْوَدَ
عَشَرَةَ فَرَاسِخَ فِي مِثْلِهَا، وَزُلْزِلَ أَهْلُ حَلَبَ فِي لَيْلَةٍ
وَاحِدَةٍ ثَمَانِينَ مَرَّةً
وَفِيهَا وَضَعَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ مُكُوسًا كَثِيرَةً عَنِ النَّاسِ،
وَكَثُرَتِ الْأَدْعِيَةُ لَهُ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ وَخُوَارِزْمِ
شَاهْ، فَهَزَمَهُ سَنْجَرُ، وَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَلَدُهُ فَحَزِنَ
عَلَيْهِ وَالِدُهُ حُزْنًا شَدِيدًا.
وَفِيهَا قُتِلَ صَاحِبُ دِمَشْقَ شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ تَاجِ
الْمُلُوكِ بُورِي بْنِ طُغْتِكِينَ، قَتَلَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ خَوَاصِّهِ لَيْلًا
وَهَرَبُوا مِنَ الْقَلْعَةِ، فَأُدْرِكُ اثْنَانِ فَصُلِبَا، وَأَفْلَتَ وَاحِدٌ.
وَمَلَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ كَمَالُ الدَّيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ تَاجِ الْمُلُوكِ
وَكَانَ بِبَعْلَبَكَّ قَبْلَ ذَلِكَ فَمَلَكَ بَعْدَهُ بَعْلَبَكَّ عِمَادُ
الدِّينِ زَنْكِي وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا الْأَمِيرَ نَجْمَ الدِّينِ أَيُّوبَ
وَالِدَ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَالْمَلِكِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرٍ
وَذُرِّيَّتِهِمَا.
وَفِيهَا صُرِفَ
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَنِ الْمُبَاشَرَاتِ، ثُمَّ أُعِيدُوا قَبْلَ شَهْرٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا نَظَرٌ الْخَادِمُ أَثَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
زَاهِرُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الشَّحَّامِيُّ، الْمُحَدِّثُ الْمُكْثِرُ
الرَّحَّالُ الْجَوَّالُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَأَمْلَى بِجَامِعِ نَيْسَابُورَ
أَلْفَ مَجْلِسٍ، وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ بِهِ مَرَضٌ يُكْثِرُ بِسَبَبِهِ
الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ، فَتَكَلَّمَ فِيهِ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ
وَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ يُخِلُّ بِالصَّلَوَاتِ وَقَدْ رَدَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
عَلَى السَّمْعَانِيِّ بِعُذْرِ الْمَرَضِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بَلَغَ خَمْسًا وَثَمَانِينَ سَنَةً وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِنَيْسَابُورَ فِي
رَبِيعٍ الْآخَرِ وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ يَحْيِي بْنِ يَحْيِي.
عَلِيُّ بْنُ أَفْلَحَ
أَبُو الْقَاسِمِ الْكَاتِبُ، وَقَدْ خَلَعَ عَلَيْهِ الْمُسْتَرْشِدُ وَلَقَبَّهُ
جَمَالَ الْمُلْكِ وَأَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ دُورٍ، وَكَانَتْ لَهُ دَارٌ إِلَى
جَانِبِهِنَّ فَهَدَمَهُنَّ كُلَّهُنَّ، وَاتَّخَذَ مَكَانَهُنَّ دَارًا هَائِلَةً
; طُولُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي عَرْضِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَأَطْلَقَ لَهُ
الْخَلِيفَةُ أَخْشَابًا
وَآجُرًّا وَذَهَبًا فَبَنَاهَا، وَغَرِمَ عَلَيْهَا ابْنُ أَفْلَحَ مَالًا
جَزِيلًا، وَكَتَبَ عَلَى أَبْوَابِهَا وَطِرَازَاتِهَا، أَشْعَارًا حَسَنَةً مِنْ
نَظْمِهِ وَنَظْمِ غَيْرِهِ ; فَمِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ عَلَى بَابِ الدَّارِ:
إِنْ عَجِبَ الرَّاءُونَ مِنْ ظَاهِرِي فَبَاطِنِي لَوْ عَلِمُوا أَعْجَبُ
شَيَّدَنِي مَنْ كَفُّهُ مُزْنَةٌ
يَحْمِلُ مِنْهَا الْعَارِضُ الصَّيِّبُ وَدَبَّجَتْ رَوْضَةُ أَخْلَاقِهِ
فِيَّ رِيَاضًا نُورُهَا مُذْهَبُ صَدْرٌ كَسَا صَدْرِيَ مِنْ نُورِهِ
شَمْسًا عَلَى الْأَيَّامِ لَا تَغْرُبُ
وَعَلَى الطُّرُزِ مَكْتُوبٌ:
وَمِنَ الْمُرُوءَةِ لِلْفَتَى مَا عَاشَ دَارٌ فَاخِرَهْ
فَاقْنَعْ مِنَ الدُّنْيَا بِهَا وَاعْمَلْ لِدَارِ الْآخِرَهْ
هَاتِيكَ وَافِيَةٌ بِمَا وَعَدَتْ وَهَذِي سَاحِرَهْ
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَكْتُوبٌ:
وَنَادٍ كَأَنَّ جِنَانَ الْخُلُودِ أَعَارَتْهُ مِنْ حُسْنِهَا رَوْنَقَا
وَأَعْطَتْهُ مِنْ حَادِثَاتِ الزَّمَا نِ أَنْ لَا تُلِمَّ بِهِ مَوْثِقَا
فَأَضْحَى يَتِيهُ عَلَى
كُلِّ مَا بُنِيَ مَغْرِبًا كَانَ أَوْ مَشْرِقَا
تَظَلُّ الْوُفُودُ بِهِ عُكَّفًا وَتُمْسِي الضُّيُوفُ بِهِ طُرَّقَا
بَقِيتَ لَهُ يَا جَمَالَ الْمُلُو كِ وَالْفَضْلِ مَهْمَا أَرَدْتَ الْبَقَا
وَسَالَمَهُ فِيكَ رَيْبُ الزَّمَانِ وَوُقِّيتَ مِنْهُ الَّذِي يُتَّقَى
فَمَا صَدَقَتْ هَذِهِ الْأَمَانِي بَلْ عَمَّا قَرِيبٍ - بَعْدَ نَيْلِهَا -
اتَّهَمَ الْخَلِيفَةُ ابْنَ أَفْلَحَ بِأَنَّهُ يُكَاتِبُ دُبَيْسًا، فَأَمَرَ
بِتَخْرِيبِ هَذِهِ الدَّارِ فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا جِدَارٌ، بَلْ صَارَتْ
خَرَابَةً بَعْدَ مَا كَانَ قَدْ حَسُنَ مِنْهَا الْمُقَامُ وَالْقَرَارُ،
وَهَذِهِ حِكْمَةُ اللَّهِ مَنْ يُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَتَجْرِي
بِمَشِيئَتِهِ الْأَقْدَارُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَشْيَاءَ حَسَنَةً مِنْ نَظْمِهِ
وَنَثْرِهِ فَمِنْ ذَلِكَ:
دَعِ الْهَوَى لِأُنَاسٍ يُعْرَفُونَ بِهِ قَدْ مَارَسُوا الْحُبَّ حَتَّى لَانَ
أَصْعَبُهُ
بَلَوْتَ نَفْسَكَ فِيمَا لَسْتَ تَخْبُرُهُ وَالشَّيْءُ صَعْبٌ عَلَى مَنْ لَا
يُجَرِّبُهُ
اقْنِ اصْطِبَارًا وَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ جَلَدًا فَرُبَّ مُدْرِكِ أَمْرٍ عَزَّ
مَطْلَبُهُ
أَحْنِي الضُّلُوْعَ عَلَى قَلْبٍ يُحَيِّرُنِي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَيُعْيِينِي
تَقَلُّبُهُ
تَنَاوُحُ الرِّيحِ مِنْ
نَجْدٍ يُهَيِّجُهُ وَلَامِعُ الْبَرْقِ مِنْ نُعْمَانَ يُطْرِبُهُ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
هَذِهِ الْخَيْفُ وَهَاتِيكَ مِنَى فَتَرَفَّقْ أَيُّهَا الْحَادِي بِنَا
وَاحْبِسِ الرَّكْبَ عَلَيْنَا سَاعَةً نَنْدُبِ الرَّبْعَ وَنَبْكِ الدِّمَنَا
فَلِذَا الْمَوْقِفِ أَعْدَدْنَا الْبُكَا وَلِذَا الدِّمْنِ دُمُوعِي تُقْتَنَى
زَمَنًا كَانُوا وَكُنَّا جِيْرَةً يَا أَعَادَ اللَّهُ ذَاكَ الزَّمَنَا
بَيْنُنَا يَوْمَ أُثَيْلَاتِ النَّقَا كَانَ عَنْ غَيْرِ تَرَاضٍ بَيْنَنَا
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا حَاصَرَ زَنْكِيٌّ دِمَشْقَ فَحَصَّنَهَا الْأَتَابِكُ مُعِينُ الدِّينِ
أَنَرْ مَمْلُوكُ طُغْتِكِينَ، فَاتَّفَقَ مَوْتُ مَلِكِهَا جَمَالِ الدِّينِ
مُحَمَّدِ بْنِ بُورِي بْنِ طُغْتِكِينَ، فَأَرْسَلَ مُعِينُ الدِّينِ إِلَى
أَخِيهِ مُجِيرِ الدِّينِ أَبَقَ وَهُوَ بِبَعْلَبَكَّ فَمَلَّكَهُ دِمَشْقَ
فَذَهَبَ زَنْكِيٌّ إِلَى بَعْلَبَكَّ فَأَخَذَهَا وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا نَجْمَ
الدِّينِ أَيُّوبَ.
وَفِيهَا دَخَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ عَلَى الْخَاتُونِ
فَاطِمَةَ أُخْتِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَأُغْلِقَتْ بَغْدَادُ أَيَّامًا،
وَكَانَ وَقْتًا مَشْهُودًا.
وَفِيهَا تَزَوَّجَ السُّلْطَانُ بِبِنْتِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا.
وَفِيهَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ عَلَى رَجُلٍ صَالِحٍ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ
بِمَدْرَسَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ، ثُمَّ اتَّفَقَ أَنَّ الرَّجُلَ عَطَسَ
فَأَفَاقَ وَحَضَرَتْ جِنَازَةُ رَجُلٍ آخَرَ فَصَلَّى عَلَيْهِ.
وَفِيهَا نَقَصَتِ الْمِيَاهُ مِنْ سَائِرِ الدُّنْيَا. وَفِيهَا وُلِدَ صَاحِبُ
حَمَاةَ تَقِيُّ الدِّينِ
عُمْرُ شَاهِنْشَاهْ بْنُ
أَيُّوبَ بْنِ شَاذِيٍّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْفَرَجِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْحَرْبِيُّ، أَحَدُ
الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ، حَتَّى
كَانَ يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يُرَى فِي بَعْضِ السِّنِينَ بِعَرَفَاتٍ وَلَمْ
يَحُجَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ.
عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ الْفَضْلِ
أَبُو الْقَاسِمِ الْجِيلِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى إِلِكْيَا
الْهَرَّاسِيَّ وَبَرَعَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَوَلِيَ
قَضَاءَ الْبَصْرَةِ وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا وَصَلَتِ الْبُرْدَةُ وَالْقَضِيبُ إِلَى بَغْدَادَ، وَكَانَا قَدْ أُخِذَا
مِنَ الْمُسْتَرْشِدِ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَحَفِظَهُمَا
السُّلْطَانُ سَنْجَرُ عِنْدَهُ حَتَّى رَدَّهُمَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا كَمُلَتِ الْمَدْرَسَةُ الْكَمَالِيَّةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى كَمَالِ
الدِّينِ أَبِي الْفُتُوحِ حَمْزَةَ بْنِ طَلْحَةَ صَاحِبِ الْمَخْزَنِ، وَدَرَّسَ
فِيهَا الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْخَلِّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْأَعْيَانُ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو
الْقَاسِمِ الطَّلْحِيُّ الْأَصْبِهَانِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَرَحَلَ وَكَتَبَ
وَأَمْلَى بِأَصْبَهَانَ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ مَجْلِسٍ، وَكَانَ
إِمَامًا فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ وَاللُّغَةِ، حَافِظًا
مُتْقِنًا، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ عِيدِ الْأَضْحَى، وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ،
وَلَمَّا أَرَادَ الْغَاسِلُ تَنْحِيَةَ الْخِرْقَةِ عَنْ فَرْجِهِ رَدَّهَا
بِيَدِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْبَاقِي بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ وَهْبِ بْنِ مَشْجَعَةَ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ،
سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَرَّدَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَأَمْلَى
الْحَدِيثَ فِي جَامِعِ الْقَصْرِ، وَكَانَ مُشَارِكًا فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ،
وَقَدْ أُسِرَ فِي صِغَرِهِ فِي أَيْدِي الرُّومِ، فَأَرَادُوهُ عَلَى أَنْ
يَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَتَعَلَّمَ مِنْهُمْ خَطَّ
الرُّومِ، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ خَدَمَ الْمَحَابِرَ خِدْمَتْهُ الْمَنَابِرُ،
وَمِنْ شِعْرِهِ الَّذِي أَوْرَدَهُ لَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْهُ وَسَمِعَهُ
عَنْهُ قَوْلُهُ:
احْفَظْ لِسَانَكَ لَا تَبُحْ بِثَلَاثَةٍ سِنٍّ وَمَالٍ مَا اسْتَطَعْتَ
وَمَذْهَبٍ فَعَلَى الثَّلَاثَةِ تُبْتَلَى بِثَلَاثَةٍ
بِمُكَفِّرٍ وَبِحَاسِدٍ وَمُكذِّبِ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
لِي مُدَّةٌ لَا بُدَّ أَبْلُغُهَا فَإِذَا انْقَضَتْ وَتَصَرَّمَتْ مِتُّ
لَوْ عَانَدَتْنِي الْأُسْدُ ضَارِيَةً مَا ضَرَّنِي مَا لَمْ يَجِي الْوَقْتُ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
بَغْدَادُ دَارٌ لِأَهْلِ
الْعِلْمِ طَيِّبَةٌ وَلِلْمَفَالِيسِ دَارُ الضَّنْكِ وَالضِّيقِ
ظَلَلْتُ حَيْرَانَ أَمْشِي فِي أَزِقَّتِهَا كَأَنَّنِي مُصْحَفٌ فِي بَيْتِ
زِنْدِيقِ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: بَلَغَ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثًا وَتِسْعِينَ سَنَةً
لَمْ تَتَغَيَّرْ حَوَاسُّهُ وَلَا عَقْلُهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ ثَانِيَ رَجَبٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ الْأَعْيَانُ وَالنَّاسُ وَدُفِنَ
قَرِيبًا مِنْ قَبْرِ بِشْرٍ.
يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ وَهْرَةَ
أَبُو يَعْقُوبَ الْهَمَذَانِيُّ، تَفَقَّهَ بِالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَبَرَعَ
فِي الْفِقْهِ وَالْمُنَاظَرَةِ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالتَّعَبُّدِ وَصَحِبَ
الصَّالِحِينَ، وَأَقَامَ بِالْجِبَالِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ فَوَعَظَ
بِهَا، وَحَصَلَ لَهُ قَبُولٌ، تُوفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بِبَعْضِ قُرَى
هَرَاةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ وَخُوَارِزْمِ
شَاهْ، فَاسْتَحْوَذَ خُوَارِزْمُ شَاهْ عَلَى مَرْوَ بَعْدَ هَزِيمَةِ سَنْجَرَ،
فَقُتِلَ بِهَا، وَأَسَاءَ التَّدْبِيرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفُقَهَاءِ
الْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ بِهَا، وَكَانَ جَيْشُ خُوَارِزْمَ ثَلَاثَمِائَةِ
أَلْفِ مُقَاتِلٍ.
وَفِيهَا كَمَلَ عَمَلُ شَقِّ النَّهْرَوَانِ وَخَلَعَ بِهْرُوزُ الشِّحْنَةِ
بِبَغْدَادَ عَلَى الصُّنَّاعِ جِبَابَ الْحَرِيرِ الرُّومِيِّ، وَرَكِبَ هُوَ
وَالسُّلْطَانُ مَسْعُودٌ فِي سَفِينَةٍ فِي ذَلِكَ النَّهْرِ، وَفَرِحَ
السُّلْطَانُ بِذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ صَرَفَ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ النَّهْرِ
سَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَفِيهَا حَجَّ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ طَلْحَةَ صَاحِبُ الْمَخْزَنِ وَعَادَ
فَتَزَهَّدَ وَتَرَكَ الْعَمَلَ وَلَزِمَ دَارَهُ.
وَفِيهَا عُقِدَتِ الْجُمُعَةُ بِمَسْجِدِ الْعَبَّاسِيِّينَ بِإِذْنِ
الْخَلِيفَةِ وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَظَرٌ الْخَادِمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي الْأَشْعَثِ، أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ
السَّمَرْقَنْدِيُّ الدِّمَشْقِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ
وَتَفَرَّدَ بِمَشَايِخَ، وَكَانَ سَمَاعُهُ صَحِيحًا وَأَمْلَى بِجَامِعِ
الْمَنْصُورِ مَجَالِسَ كَثِيرَةً نَحْوَ ثَلَاثِمِائَةِ مَجْلِسٍ، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
يَحْيَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الطَّرَّاحِ الْمُدِيرُ وُلِدَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَأَسْمَعَ، وَكَانَ شَيْخًا حَسَنًا
مَهِيبًا كَثِيرَ الْعِبَادَةِ وَالْخَيْرِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ مِائَةٍ وَسَبْعِ سِنِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى،
وَرَضِيَ عَنْهُ آمِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا مَلَكَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِيٌّ الْحَدِيثَةَ، وَنَقَلَ آلَ مُهَارِشٍ
مِنْهَا إِلَى الْمَوْصِلِ وَرَتَّبَ فِيهَا نُوَّابًا مِنْ جِهَتِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا تَجَهَّزَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ لِيَأْخُذَ الْمَوْصِلَ وَالشَّامَ مِنْ
عِمَادِ الدَّينِ زَنْكِيٍّ، فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ ;
فَدَفَعَ إِلَيْهِ مِنْهَا عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَأَطْلَقَ لَهُ الْبَاقِي،
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَهُ سَيْفَ الدِّينِ غَازِيًّا كَانَ لَا يَزَالُ فِي
خِدْمَةِ السُّلْطَانِ.
وَفِيهَا مَلَكَ زَنْكِيٌّ بَعْضَ بِلَادِ بَكْرٍ. وَفِيهَا حَصَرَ الْمَلِكُ
سَنْجَرُ خُوَارِزْمَ شَاهْ ثُمَّ أَخَذَ مِنْهُ مَالًا وَأَطْلَقَهُ.
وَفِيهَا وُجِدَ رَجُلٌ يَفْسُقُ بِصَبِيٍّ، فَأُلْقِيَ مِنْ رَأْسِ مَنَارَةٍ،
وَفِي لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ
زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَظَرٌ الْخَادِمُ، أَثَابَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو الْبَرَكَاتِ
الْأَنْمَاطِيُّ الْحَافِظُ سَمِعَ الْكَثِيرَ وَحَدَّثَ كَانَ ثِقَةً دَيِّنًا
وَرِعًا طَلِيقَ الْوَجْهِ سَهْلَ الْأَخْلَاقِ، تُوَفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ عَنْ
سِتٍّ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
عَلِيُّ بْنُ طِرَادِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الزَّيْنَبِيُّ
الْوَزِيرُ الْعَبَّاسِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ نَقِيبُ النُّقَبَاءِ عَلَى
الطَّائِفَتَيْنِ فِي أَيَّامِ الْمُسْتَظْهِرِ وَوزَرَ لِلْمُسْتَرْشِدِ
الْمُقْتَفِي، ثُمَّ عُزِلَ وَأُعِيدَ، وَلَمْ يَلِ الْوِزَارَةَ مِنَ
الْعَبَّاسِيِّينَ غَيْرُهُ، وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ وَأَسْمَعَ، وَتُوُفِّيَ
فِي رَمَضَانَ عَنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الزَّمَخْشَرِيُّ مَحْمُودُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ
أَبُو الْقَاسِمِ الزَّمَخْشَرِيُّ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي التَّفْسِيرِ
وَالْمُفَصَّلِ فِي النَّحْوِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ
الْمُفِيدَةِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَطَافَ الْبِلَادَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ،
وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ مُدَّةً، وَكَانَ يُظْهِرُ مَذْهَبَ الِاعْتِزَالِ،
وَيُصَرِّحُ بِذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهِ وَيُنَاظِرُ عَلَيْهِ ثُمَّ كَانَتْ
وَفَاتُهُ بِخُوَارِزْمَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ سِتٍّ
وَسَبْعِينَ سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا أَخَذَ الْعِمَادُ زَنْكِيٌّ الرُّهَا وَغَيْرَهَا مِنْ حُصُونِ
الْجَزِيرَةِ مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا
وَسَبَى نِسَاءً كَثِيرَةً، وَغَنِمَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَأَزَاحَ عَنِ
الْمُسْلِمِينَ كُرَبًا شَدِيدَةً كَثِيرَةً، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْجُيُوشِ نَظَرٌ الْخَادِمُ وَتَنَافَسَ هُوَ
وَأَمِيرُ مَكَّةَ فَنَهَبَ الْحَجِيجَ وَهُمْ يَطُوفُونَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عُمَرَ أَبُو الْوَلِيدِ
الْكَرْخِيُّ تَفَقَّهَ بِالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبِي سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي
حَتَّى صَارَ أَوْحَدَ زَمَانِهِ فَقْهًا وَصَلَاحًا، وَمَاتَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
سَعْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ أَبُو مَنْصُورٍ الرَّزَّازُ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ بِالْغَزَالِيِّ وَالشَّاشِيِّ وَالْمُتَوَلِّي
وَإِلِكْيَا الْهَرَّاسِيِّ وَأَسْعَدَ الْمِيهَنِيِّ، وَوَلِيَ تَدْرِيسَ
النِّظَامِيَّةِ وَكَانَ لَهُ سَمْتٌ حَسَنٌ وَوَقَارٌ وَسُكُونٌ وَكَانَ يَوْمُ
جِنَازَتِهِ مَشْهُودًا،
وَدُفِنَ عِنْدَ
الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ.
عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ يَحْيِي بْنِ
الْحُسَيْنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ الْقُرَشِيُّ الْعَلَوِيُّ
أَبُو الْبَرَكَاتِ الْكُوفِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ سَمِعَ الْكَثِيرَ وَكَتَبَ
كَثِيرًا وَأَقَامَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً وَكَانَ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ
بِالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَاللُّغَةِ وَالْأَدَبِ وَلَهُ
تَصَانِيفُ فِي النَّحْوِ وَكَانَ خَشِنَ الْعَيْشِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا
تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
أَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا حَصَرَ عَلِيُّ بْنُ دُبَيْسٍ أَخَاهُ مُحَمَّدًا وَلَمْ يَزَلْ
يُحَاصِرُهُ حَتَّى اقْتَلَعَ مِنْ يَدِهِ الْحِلَّةَ وَمَلَكَهَا، وَفِي رَجَبٍ
مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ بَغْدَادَ خَوْفًا مِنَ اجْتِمَاعِ
عَبَّاسٍ صَاحِبِ الرَّيِّ وَمُحَمَّدٍ شَاهْ بْنِ مَحْمُودٍ، ثُمَّ خَرَجَ
مِنْهَا فِي رَمَضَانَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ قَايْمَازُ الْأُرْجُوَانِيُّ مَمْلُوكُ
أَمِيرِ الْجُيُوشِ نَظَرٍ ; بِسَبَبِ مَا كَانَ قَدْ وَقَعَ بَيْنَ نَظَرٍ
وَأَمِيرِ مَكَّةَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
سُلَيْمَانَ أَبُو سَعْدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ وَكَانَ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ، حُلْوَ الشَّمَائِلِ مُطَّرِحًا
الْكُلْفَةَ، رُبَّمَا خَرَجَ إِلَى السُّوقِ بِقَمِيصٍ وَقَلَنْسُوَةَ، وَحَجَّ
أَحَدَ عَشَرَ حِجَّةً وَكَانَ يُمْلِي الْحَدِيثَ وَيُكْثِرُ الصَّوْمَ،
تُوُفِّيَ بِنَهَاوَنْدَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ
قَارَبَ الثَّمَانِينَ.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ
أَبُو الْحَسَنِ الْيَزْدِيُّ، تَفَقَّهَ بِأَبِي
بَكْرٍ الشَّاشِيِّ
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَأَسْمَعَهُ وَكَانَ لَهُ وَلِأَخِيهِ قَمِيصٌ وَعِمَامَةٌ،
إِذَا خَرَجَ هَذَا جَلَسَ الْآخَرُ فِي الْبَيْتِ وَكَذَا الْآخَرُ.
مَوْهُوبُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَضِرِ
أَبُو مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيُّ، شَيْخُ اللُّغَةِ فِي زَمَانِهِ، بَاشَرَ
مَشْيَخَةَ اللُّغَةِ بِالنِّظَامِيَّةِ بَعْدَ شَيْخِهِ أَبِي زَكَرِيَّا
التَّبْرِيزِيِّ مُدَّةً وَكَانَ يَؤُمُّ بِالْمُقْتَفِي، وَرُبَّمَا قَرَأَ
عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ شَيْئًا مِنَ الْكُتُبِ، وَكَانَ عَاقِلًا مُتَوَاضِعًا فِي
مَلْبَسِهِ، طَوِيلَ الصَّمْتِ، كَثِيرَ التَّفَكُّرِ، وَكَانَتْ لَهُ حَلْقَةٌ
بِجَامِعِ الْقَصْرِ أَيَّامَ الْجُمَعِ وَكَانَ فِيهِ لُكْنَةٌ، وَكَانَ يَجْلِسُ
إِلَى جَانِبِهِ الْمَغْرِبِيُّ مُعَبِّرُ الْمَنَامَاتِ، وَكَانَ فَاضِلًا
لَكِنَّهُ كَانَ كَثِيرَ النُّعَاسِ فِي مَجْلِسِهِ فَقَالَ فِيهِمَا بَعْضُ
الْأُدَبَاءِ:
بَغْدَادُ عِنْدِي ذَنْبُهَا لَنْ يُغْفَرَا وَعُيُوبُهَا مَكْشُوفَةٌ لَنْ
تُسْتَرَا كَوْنُ الْجَوَالِيقِيِّ فِيهَا مُمْلِيًا
لُغَةً وَكَوْنُ الْمَغْرِبِيِّ مُعَبَّرَا مَأْسُورُ لُكْنَتِهِ يَقُولُ
فَصَاحَةً
وَنَئُومُ يَقْظَتِهِ يُعَبِّرُ فِي الْكَرَى
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي لَيْلَةِ مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا احْتَرَقَ الْقَصْرُ الَّذِي
بَنَاهُ الْمُسْتَرْشِدُ، وَكَانَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ
الْمُقْتَفِي قَدِ انْتَقَلَ بِجَوَارِيهِ وَحَظَايَاهُ إِلَيْهِ ; لِيُقِيمَ
فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ نَامُوا حَتَّى احْتَرَقَ
عَلَيْهِمُ الْقَصْرُ ; بِسَبَبِ أَنَّ جَارِيَةً أَخَذَتْ فِي يَدِهَا شَمْعَةً
فَعَلِقَ لَهَبُهَا بِبَعْضِ الْأَخْشَابِ ; فَاحْتَرَقَ الْقَصْرُ وَسَلَّمَ
اللَّهُ الْخَلِيفَةَ وَأَهْلَهُ فَأَصْبَحَ فَتَصَدَّقَ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ
وَأَطْلَقَ خَلْقًا مِنَ الْمُحْبَسِينَ.
وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا وَقَعَ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ مَسْعُودٍ
وَاقِعٌ فَبَعْثَ الْخَلِيفَةُ إِلَى الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ فَأُغْلِقَتْ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى اصْطَلَحَا.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْمُنْتَصَفِ ذِي الْقَعْدَةِ جَلَسَ ابْنُ
الْعَبَّادِيِّ الْوَاعِظُ، فَتَكَلَّمَ وَالسُّلْطَانُ مَسْعُودٌ حَاضِرٌ،
وَكَانَ قَدْ وَضَعَ عَلَى النَّاسِ فِي الْبَيْعِ مَكْسًا فَاحِشًا فَقَالَ فِي
جُمْلَةِ وَعْظِهِ: يَا سُلْطَانَ الْعَالَمِ أَنْتَ تُطْلِقُ فِي بَعْضِ
الْأَحْيَانِ لِلْمُغَنِّي إِذَا طَرِبْتَ قَرِيبًا مِمَّا وَضَعْتَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا الْمَكْسِ، فَهَبْنِي مُغَنِّيًا وَقَدْ طَرِبْتَ
فَهَبْ لِي هَذَا الْمَكْسَ، شُكْرًا لِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكَ فَأَشَارَ
السُّلْطَانُ بِيَدِهِ أَنْ قَدْ فَعَلْتُ فَضَجَّ النَّاسُ بِالدُّعَاءِ لَهُ
وَكَتَبَ بِذَلِكَ سِجِلَّاتٍ وَنُودِيَ فِي الْبَلَدِ بِإِسْقَاطِ ذَلِكَ
الْمَكْسِ فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ
قَلَّ الْمَطَرُ جِدًّا، وَقَلَّتْ مِيَاهُ الْأَنْهَارِ، وَانْتَشَرَ جَرَادٌ
عَظِيمٌ، وَأَصَابَ النَّاسَ دَاءٌ فِي حُلُوقِهِمْ فَمَاتَ بِذَلِكَ خَلَائِقُ
كَثِيرَةٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا قُتِلَ الْمَلِكُ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِيُّ بْنُ قَسِيمِ الدَّوْلَةِ
آقْ سُنْقُرَ التُّرْكِيُّ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ وَحَلَبَ وَغَيْرِهَا مِنْ
بِلَادِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ، وَكَانَ مُحَاصِرًا قَلْعَةَ جَعْبَرَ، وَفِيهَا
سَالِمُ بْنُ مَالِكٍ الْعُقَيْلِيُّ فَبَرْطَلَ بَعْضَ مَمَالِيكِ زَنْكِيٍّ
حَتَّى قَتَلُوهُ فِي اللَّيْلَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، قَالَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ: كَانَ سَكْرَانَ فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً وَشَكْلًا، وَكَانَ
شُجَاعًا مِقْدَامًا حَازِمًا، خَضَعَتْ لَهُ مُلُوكُ الْأَطْرَافِ وَكَانَ مِنْ
أَشَدِّ النَّاسِ غَيْرَةً عَلَى نِسَاءِ الرَّعِيَّةِ، وَأَجْوَدِ الْمُلُوكِ
مُعَامَلَةً، وَأَرْفَقِهِمْ بِالْعَامَّةِ وَمَلَكَ مِنْ بَعْدِهِ بِالْمَوْصِلِ
وَلَدُهُ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيٌّ، وَبِحَلَبَ وَلَدُهُ نُورُ الدِّينِ
مَحْمُودٌ، فَاسْتَعَادَ نُورُ الدِّينِ هَذَا مَدِينَةَ الرُّهَا وَكَانَ أَبُوهُ
قَدْ فَتَحَهَا. ثُمَّ عَصَوْا فَقَهَرَهُمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ صَاحِبُ الْمَغْرِبِ جَزِيرَةَ
الْأَنْدَلُسِ بَعْدَ حُرُوبٍ طَوِيلَةٍ.
وَفِيهَا مَلَكَتِ
الْفِرِنْجُ، - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - مَدِينَةَ طَرَابُلُسَ الْغَرْبِ وَفِيهَا
اسْتَعَادَ صَاحِبُ دِمَشْقَ مَدِينَةَ بَعْلَبَكَّ، وَفِيهَا الْأَمِيرُ نَجْمُ
الدِّينِ أَيُّوبُ مِنْ جِهَةِ زَنْكِيٍّ، فَسَلَّمَهُ الْقَلْعَةَ وَأَعْطَاهُ
إِمْرَتَهُ عِنْدَهُ بِدِمَشْقَ.
وَفِيهَا قَتَلَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ حَاجِبَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ طَغَايُرْكَ
وَقَتَلَ عَبَّاسًا صَاحِبَ الرَّيِّ وَأَلْقَى رَأْسَهُ إِلَى أَصْحَابِهِ،
فَانْزَعَجَ النَّاسُ وَنَهَبُوا خِيَامَ عَبَّاسٍ هَذَا، وَقَدْ كَانَ عَبَّاسٌ
مِنَ الشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ، قَاتَلَ الْبَاطِنِيَّةَ مَعَ مَخْدُومِهِ
جَوْهَرٍ فَلَمْ يَزَلْ يَقْتُلُ مِنْهُمْ حَتَّى بَنَى مِئْذَنَةً مِنْ
رُءُوسِهِمْ بِمَدِينَةِ الرَّيِّ.
وَفِيهَا مَاتَ نَقِيبُ النُّقَبَاءِ بِبَغْدَادَ مُحَمَّدُ بْنُ طِرَادٍ
الزَّيْنَبِيُّ، فَوَلِيَ بَعْدَهُ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ الزَّيْنَبِيُّ.
وَفِيهَا سَقَطَ جِدَارٌ عَلَى ابْنَةِ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ
مَبَالِغَ النِّسَاءِ فَمَاتَتْ فَحَضَرَ جِنَازَتَهَا الْأَعْيَانُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَظَرٌ الْخَادِمُ. وَحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ نِظَامُ
الدِّينِ بْنُ جَهِيرٍ الْوَزِيرُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
زَنْكِيُّ بْنُ آقْ سُنْقُرَ، تَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ تَرْجَمَتِهِ فِي
الْحَوَادِثِ، وَقَدْ أَطْنَبَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي
" الرَّوْضَتَيْنِ " فِي تَرْجَمَتِهِ وَمَا قِيلَ فِيهِ مِنْ نَظْمٍ
وَنَثْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
سَعْدُ الْخَيْرِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ
أَبُو الْحَسَنِ الْمَغْرِبِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الْأَنْصَارِيُّ، رَحَلَ مِنَ
الْأَنْدَلُسِ إِلَى الصِّينِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ بِالْغَزَالِيِّ،
وَحَصَّلَ كُتُبًا نَفِيسَةً، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ،
وَقَدْ أَوْصَى عِنْدَ وَفَاتِهِ بِبَغْدَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ الْغَزْنَوِيُّ،
وَأَنْ يُدْفَنَ عِنْدَ قَبْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَحَضَرَ
جِنَازَتَهُ خَلَائِقُ مِنَ النَّاسِ.
شَافِعُ بْنُ عَبْدِ الرَّشِيدِ بْنِ الْقَاسِمِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجِيلِيُّ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى إِلِكْيَا
الْهَرَّاسِيِّ، وَعَلَى الْغَزَالِيِّ وَكَانَ يَسْكُنُ الْكَرْخَ، وَلَهُ
حَلْقَةٌ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ فِي الرُّوَاقِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:
وَكُنْتُ أَحْضُرُ حَلْقَتَهُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو مُحَمَّدٍ سِبْطُ أَبِي مَنْصُورٍ الزَّاهِدُ، قَرَأَ الْقِرَاءَاتِ
وَصَنَّفَ فِيهَا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ وَاقْتَنَى الْكُتُبَ
الْحَسَنَةَ وَأَمَّ فِي مَسْجِدِهِ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَعَلَّمَ
خَلْقًا الْقُرْآنَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ
قِرَاءَةً مِنْهُ وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ.
عَبَّاسٌ شِحْنَةُ الرَّيِّ
تَوَصَّلَ إِلَى أَنْ مَلَكَهَا، ثُمَّ قَتَلَهُ مَسْعُودٌ
كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ
كَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الرَّعِيَّةِ، وَقَتَلَ مِنَ
الْبَاطِنِيَّةِ خَلْقًا، وَابْتَنَى مِنْ رُءُوسِهِمْ مَنَارَةً بِالرَّيِّ،
وَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ طِرَادِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيُّ
أَبُو الْحَسَنِ نَقِيبُ النُّقَبَاءِ الْهَاشِمِيِّينَ، وَهُوَ أَخُو عَلِيِّ
بْنِ طِرَادٍ الْوَزِيرِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ مِنْ أَبِيهِ وَعَمِّهِ أَبِي نَصْرٍ
وَغَيْرِهِمَا وَقَارَبَ السَّبْعِينَ.
وَجِيهُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو بَكْرٍ الشَّحَّامِيُّ أَخُو زَاهِرٍ وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ مِنَ
الْحَدِيثِ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِهِ، وَكَانَ شَيْخًا حَسَنَ الْوَجْهِ
سَرِيعَ الدَّمْعَةِ كَثِيرَ الذَّكَرِ، صَحِيحَ السَّمَاعِ صَدُوقَ اللَّهْجَةِ.
تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا مَلَكَتِ الْفِرِنْجُ عِدَّةَ حُصُونٍ مِنْ جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ،
وَفِيهَا مَلَكَ نُورُ الدِّينِ بْنُ مَحْمُودٍ زَنْكِيٌّ عِدَّةَ حُصُونٍ مِنْ
أَيْدِي الْفِرِنْجِ بِالسَّوَاحِلِ وَغَيْرِهَا، وَفِيهَا خُطِبَ
لِلْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ الْمُقْتَفِي،
وَفِيهَا وَلِيَ عَوْنُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ هُبَيْرَةَ كِتَابَةَ دِيوَانِ
الزِّمَامِ، وَوَلِيَ زَعِيمُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ صَدْرِيَّةَ
الْمَخْزَنِ الْمَعْمُورِ، وَفِيهَا اشْتَدَّ الْغَلَاءُ بِإِفْرِيقِيَّةَ
فَهَلَكَ بِسَبَبِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ حَتَّى خَلَتِ الْمَنَازِلُ وَأَقْفَرَتِ
الْمَعَاقِلُ.
وَفِيهَا تَزَوَّجَ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيٌّ بِنْتَ صَاحِبِ مَارْدِينَ حُسَامِ
الدِّينِ تَمُرْتَاشَ بْنِ أُرْتُقَ بَعْدَ أَنْ حَاصَرَهُ فَصَالَحَهُ عَلَى
ذَلِكَ، فَحُمِلَتْ إِلَيْهِ إِلَى الْمَوْصِلِ بَعْدَ سَنَتَيْنِ، وَهُوَ مَرِيضٌ
قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ، فَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ، فَوَلِيَ
بَعْدَهُ أَخُوهُ قُطْبُ بْنُ مَوْدُودٍ فَتَزَوَّجَهَا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي صَفَرٍ رَأَى رَجُلٌ فِي الْمَنَامِ قَائِلًا
يَقُولُ لَهُ: مَنْ زَارَ قَبْرَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ غُفِرَ لَهُ، قَالَ:
فَلَمْ يَبْقَ خَاصٌّ وَلَا عَامٌّ إِلَّا زَارَهُ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:
وَعَقَدْتُ يَوْمَئِذٍ مَجْلِسًا فَاجْتَمَعَ فِيهِ أُلُوفٌ مِنَ النَّاسِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَسْعَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ
الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ
أَبُو مَنْصُورٍ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَكَانَ خَيِّرًا دَيِّنًا صَالِحًا
مُمَتَّعًا بِحَوَاسِّهِ وَقُوَاهُ إِلَى حِينِ الْوَفَاةِ، وَقَدْ جَاوَزَ
الْمِائَةَ بِنَحْوٍ مِنْ سَبْعِ سِنِينَ.
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفِ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ اللَّخْمِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الرُّشَاطِيُّ
الْحَافِظُ
مُصَنِّفُ كِتَابِ " اقْتِبَاسِ الْأَنْوَارِ وَالْتِمَاسِ الْأَزْهَارِ
" فِي أَنْسَابِ الصَّحَابَةِ وَرُوَاةِ الْآثَارِ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ
الْمُصَنَّفَاتِ الْكِبَارِ، قُتِلَ شَهِيدًا صَبِيحَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
الْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى بِالْمَرِيَّةِ.
نَصْرُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْقَوِيِّ
أَبُو الْفَتْحِ اللَّاذِقِيُّ الْمِصِّيصِيُّ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ
بِالشَّيْخِ نَصْرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيِّ بِصُورَ، وَسَمِعَ بِهَا
مِنْهُ وَمِنْ أَبِي بَكْرٍ الْخَطِيبِ، وَسَمِعَ بِبَغْدَادَ وَالْأَنْبَارِ
وَكَانَ أَحَدَ مَشَايِخِ الشَّامِ فَقِيهًا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ بِأَرْبَعِ
سِنِينَ.
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ
أَبُو السَّعَادَاتِ ابْنُ الشَّجَرِيِّ النَّحْوِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ
النُّحَاةِ قَالَ: مَا
سَمِعْتُ بَيْتًا فِي الذَّمِّ أَبْلَغَ مِنْ قَوْلِ مَسْكَوَيْهِ:
وَمَا أَنَا إِلَّا الْمِسْكُ قَدْ ضَاعَ عِنْدَكُمْ يَضِيعُ وَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ
يَضُوعُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا اسْتَغَاثَ مُجِيرُ الدِّينِ بْنُ أَتَابِكِ دِمَشْقَ بِالْمَلِكِ نُورِ
الدِّينِ صَاحِبِ حَلَبَ عَلَى الْفِرِنْجِ فَرَكِبَ سَرِيعًا فَالْتَقَى مَعَهُمْ
بِأَرْضِ بُصْرَى فَهَزَمَهُمْ وَرَجَعَ فَنَزَلَ عَلَى الْكِسْوَةِ وَخَرَجَ
مَلِكُ دِمَشْقَ مُجِيرُ الدِّينِ أَبَقُ فَخَدَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ وَشَاهَدَ
الدَّمَاشِقَةُ حُرْمَةَ نُورِ الدِّينِ.
وَفِيهَا مَلَكَتِ الْفِرِنْجُ الْمَهْدِيَّةَ وَهَرَبَ مِنْهَا صَاحِبُهَا
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ
بْنِ مَنْصُورِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ بُلُكِّينَ بْنِ زِيرِيٍّ بِأَهْلِهِ وَمَا
خَفَّ مِنْ أَمْوَالِهِ فَتَمَزَّقَ فِي الْبِلَادِ، وَأَكَلَتْهُمُ الْأَقْطَارُ،
وَكَانَ آخِرَ مُلُوكِ بَنِي بَادِيسَ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ مُلْكِهِمْ فِي سَنَةِ
خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائةٍ، فَدَخَلَ الْفِرِنْجُ إِلَيْهَا
وَخَزَائِنُهَا مَشْحُونَةٌ بِالْحَوَاصِلِ وَالْأَمْوَالِ وَالْعُدَدِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا حَاصَرَتِ الْفِرِنْجُ - وَهُمْ فِي سَبْعِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ،
وَمَعَهُمْ مَلِكُ الْأَلْمَانِ فِي خَلْقٍ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ - دِمَشْقَ وَعَلَيْهَا مُجِيرُ الدِّينِ أَبَقُ وَأَتَابِكُهُ مَعِينُ
الدِّينِ، وَهُوَ مُدَبِّرُ الْمَمْلَكَةِ وَذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ سَادِسَ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُهَا فِي مِائَةِ أَلْفٍ
وَثَلَاثِينَ أَلْفًا فَاقْتَتَلُوا مَعَهُمْ قِتَالًا عَظِيمًا وَقُتِلَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ نَحْوٌ مِنَ الْمِائَتَيْنِ، وَمِنَ الْفِرِنْجِ
خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصَوْنَ وَاسْتَمَرَّتِ الْحَرْبُ مُدَّةً، وَأُخْرِجَ
مُصْحَفُ عُثْمَانَ إِلَى وَسَطِ صَحْنِ الْجَامِعِ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلَهُ
يَدْعُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَالنِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ مُكَشَّفِي
الرُّءُوسِ يَدْعُونَ وَيَتَبَاكُونَ، وَالرَّمَادُ مَفْرُوشٌ فِي الْبَلَدِ
فَاسْتَغَاثَ أَبَقُ بِالْمَلِكِ نُورِ
الدِّينِ مَحْمُودٍ
صَاحِبِ حَلَبَ وَبِأَخِيهِ سَيْفِ الدِّينِ غَازِيٍّ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ،
فَقَصَدَاهُ سَرِيعًا فِي نَحْوٍ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا بِمَنِ انْضَافَ
إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ فَلَمَّا سَمِعَتِ الْفِرِنْجُ -
قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - بِقُدُومِ الْجَيْشِ تَحَوَّلُوا عَنِ الْبَلَدِ
فَلَحِقَهُمُ الْجَيْشُ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا
وَقَتَلُوا فِيمَنْ قَتَلُوا مَعَهُمْ قِسِّيسًا اسْمُهُ إِلْيَاسُ، وَهُوَ
الَّذِي أَغْرَاهُمْ بِدِمَشْقَ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ افْتَرَى مَنَامًا عَنِ
الْمَسِيحِ أَنَّهُ وَعَدَهُ فَتْحَ دِمَشْقَ فَقُتِلَ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَدْ
كَادُوا يَأْخُذُونَ الْبَلَدَ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ، وَحَمَاهَا بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [
الْبَقَرَةِ: 251 ] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ
يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [ الْحَجِّ: 40 ] وَمَدِينَةُ دِمَشْقَ
لَا سَبِيلَ لِلْأَعْدَاءِ مِنَ الْكَفَرَةِ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهَا الْمَحَلَّةُ
الَّتِي أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا
مَعْقِلُ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْمَلَاحِمِ وَالْفِتَنِ، وَبِهَا يَنْزِلُ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ، وَقَدْ كَانَ الْفِرِنْجُ قَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ
دِمَشْقَ وَمِمَّنْ قَتَلُوا: الْفَقِيهُ الْكَبِيرُ الْمُلَقَّبُ حُجَّةَ
الدِّينِ شَيْخُ الْمَالِكِيَّةِ بِهَا أَبُو الْحَجَّاجِ يُوسُفُ بْنُ دُونَاسَ
الْفِنْدَلَاوِيُّ بِأَرْضِ النَّيْرَبِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ،
وَقَدْ صَالَحَ مُعِينُ الدِّينِ الْفِرِنْجَ عَنْ دِمَشْقَ بِبَانِيَاسَ
فَرَحَلُوا عَنْهَا وَتَسَلَّمُوا بَانِيَاسَ.
وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَأُمَرَائِهِ فَفَارَقُوهُ،
وَقَصَدُوا بَغْدَادَ فَاقْتَتَلُوا مَعَ الْعَامَّةِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا
كَثِيرًا مِنَ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا قُبَالَةَ التَّاجِ
فَقَبَّلُوا الْأَرْضَ
وَاعْتَذَرُوا إِلَى الْخَلِيفَةِ مِمَّا وَقَعَ، وَسَارُوا نَحْوَ النَّهْرَوَانِ
فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ وَنَهَبُوا أَهْلَهَا ; فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ
بِالْعِرَاقِ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الدَّامَغَانِيُّ بَعْدَ وَفَاةِ الزَّيْنَبِيِّ.
وَفِيهَا مَلَكَ سُورِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ مَلِكُ الْغُورِ مَدِينَةَ غَزْنَةَ،
فَذَهَبَ صَاحِبُهَا بَهْرَامُ شَاهْ بْنُ مَسْعُودٍ مِنْ أَوْلَادِ سُبُكْتِكِينَ
إِلَى الْهِنْدِ، فَاسْتَجَاشَ مَلِكَهَا، فَجَاءَ بِجُيُوشٍ عَظِيمَةٍ
فَاقْتَلَعَ غَزْنَةَ مِنْ يَدِ سُورِيٍّ وَأَخَذَهُ أَسِيرًا فَصَلَبَهُ، وَقَدْ
كَانَ كَرِيمًا جَوَادًا كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَبْهَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْغَنَوِيُّ
الرَّقِّيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ بِالشَّاشِيِّ وَالْغَزَالِيِّ
وَكَتَبَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ مُصَنَّفَاتِهِ، وَقَرَأَهَا عَلَيْهِ وَصَحِبَهُ
كَثِيرًا، وَكَانَ مَهِيبًا كَثِيرَ الصَّمْتِ بَهِيَّ السَّمْتِ، تُوُفِّيَ فِي
ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
شَاهِنْشَاهْ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ شَاذِيٍّ،
اسْتُشْهِدَ مَعَ نُورِ الدِّينِ، وَهُوَ وَالِدُ السِّتِّ عَذْرَاءَ وَاقِفَةِ
الْعَذْرَاوِيَّةِ وَتَقِيِّ الدِّينِ عَمَرَ وَاقِفِ التَّقْوِيَةِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ.
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الزَّيْنَبِيُّ
أَبُو الْقَاسِمِ الْأَكْمَلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ نُورُ الْهُدَى بْنُ أَبِي
الْحَسَنِ نِظَامُ الْحَضْرَتَيْنِ، ابْنُ نَقِيبِ النُّقَبَاءِ أَبِي الْقَاسِمِ
ابْنِ الْقَاضِي أَبِي تَمَّامٍ الْعَبَّاسِيُّ قَاضِي الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ
وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ فَقِيهًا رَئِيسًا
وَقُورًا، حَسَنَ الْهَيْئَةِ وَالسَّمْتِ قَلِيلَ الْكَلَامِ سَافَرَ مَعَ
الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَجَرَتْ لَهُ فُصُولٌ، ثُمَّ عَادَ
إِلَى بَغْدَادَ فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ السِّتِّينَ
وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً.
أَبُو الْحَجَّاجِ يُوسُفُ بْنُ دُونَاسَ الْفِنْدَلَاوِيُّ
شَيْخُ الْمَالِكِيَّةِ بِدِمَشْقَ، قُتِلَ يَوْمَ السَّبْتِ سَادِسَ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ - قَرِيبًا مِنَ الرَّبْوَةِ فِي أَرْضِ النَّيْرَبِ - هُوَ
وَالشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْحَلْحُولِيُّ أَحَدُ الزُّهَّادِ، قُتِلَا
مَعًا، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْقَاضِي عِيَاضِ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيَاضِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ مُوسَى بْنِ عِيَاضِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيَاضٍ الْيَحْصُبِيِّ
السَّبْتِيِّ، قَاضِيهَا أَحَدُ مَشَايِخِ الْعُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَصَاحِبُ
الْمُصَنَّفَاتِ الْكَثِيرَةِ الْمُفِيدَةِ مِنْهَا " الشِّفَا " وَ
" شَرْحُ مُسْلِمٍ " وَ " مَشَارِقُ الْأَنْوَارِ " وَغَيْرُ
ذَلِكَ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ وَكَانَ إِمَامًا فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ كَالْفِقْهِ
وَاللُّغَةِ وَالْحَدِيثِ وَالْأَدَبِ وَأَيَّامِ النَّاسِ، وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ
وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي جُمَادَى
الْآخِرَةِ وَقِيلَ: فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِمَدِينَةِ سَبْتَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا غَزَا الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ صَاحِبُ حَلَبَ
بِلَادَ الْفِرِنْجِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ
قَتَلَ الْبِرِنْسُ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ، وَفَتَحَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ
قِلَاعِهِمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَكَانَ قَدِ اسْتَنْجَدَ
بِمُعِينِ الدِّينِ بْنِ أَتَابِكِ دِمَشْقَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِفَرِيقٍ مِنْ
جَيْشِهِ صُحْبَةَ الْأَمِيرِ مُجَاهِدِ الدِّينِ بْنِ بُزَّانَ بْنِ مَامِينَ
نَائِبِ صَرْخَدَ فَأَبْلَوْا بَلَاءً حَسَنًا، وَقَدْ قَالَ الشُّعَرَاءُ فِي
هَذِهِ الْغَزْوَةِ أَشْعَارًا
كَثِيرَةً، مِنْهُمُ
ابْنُ الْقَيْسَرَانِيِّ وَغَيْرُهُ وَقَدْ سَرَدَهَا أَبُو شَامَةَ فِي "
الرَّوْضَتَيْنِ ".
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثَ رَبِيعٍ الْآخَرِ اسْتَوْزَرَ لِلْخِلَافَةِ
أَبُو الْمُظَفَّرِ يَحْيَى بْنُ هُبَيْرَةَ، وَلُقِّبَ عَوْنُ الدِّينِ وَخُلِعَ
عَلَيْهِ.
وَفِي رَجَبٍ قَصَدَ مَلِكْشَاهْ بْنُ مَحْمُودٍ بَغْدَادَ وَمَعَهُ خَلْقٌ مِنَ
الْأُمَرَاءِ ; وَمَعَهُ عَلِيُّ بْنُ دُبَيْسٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ
وَغَيْرُهُمْ، وَطَلَبُوا مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يُخْطَبَ لَهُ فَامْتَنَعَ مِنْ
ذَلِكَ، وَتَكَرَّرَتِ الْمُكَاتَبَاتُ، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى
السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ يَسْتَحِثُّهُ فِي الْقُدُومِ فَتَمَادَى عَلَيْهِ،
وَضَاقَ النِّطَاقُ وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ، وَكَتَبَ الْمَلِكُ
سَنْجَرُ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ مَسْعُودٍ يَسْتَحِثُّهُ إِنْ لَمْ يُسْرِعِ
الْمَشْيَ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَمَا جَاءَ إِلَّا فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ،
فَانْقَشَعَتْ تِلْكَ الشُّرُورُ كُلُّهَا، وَتَبَدَّلَتْ سُرُورًا أَجْمَعُهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالًا شَدِيدًا، وَتَمَوَّجَتِ
الْأَرْضُ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَتَقَطَّعَ جَبَلٌ بِحُلْوَانَ وَانْهَدَمَ
الرِّبَاطُ الْبِهْرُوزِيُّ، وَهَلَكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ بِالْبِرْسَامِ، لَا
يَتَكَلَّمُ الْمَرْضَى حَتَّى يَمُوتُوا.
وَفِيهَا مَاتَ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيُّ بْنُ زَنْكِيٍّ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ
وَمَلَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ قُطْبُ الدِّينِ مَوْدُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ وَتَزَوَّجَ
بِامْرَأَةِ أَخِيهِ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، الْخَاتُونِ بِنْتِ تَمُرْتَاشَ
بْنِ إِيلِغَازِي بْنِ أُرْتُقَ صَاحِبِ مَارِدِينَ، فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا
كُلُّهُمْ مَلَكُوا الْمَوْصِلَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْخَاتُونُ تَضَعُ خِمَارَهَا
بِحَضْرَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ مَلِكًا.
وَفِيهَا سَارَ نُورُ
الدِّينِ إِلَى سِنْجَارَ فَفَتَحَهَا فَجَهَّزَ إِلَيْهِ أَخُوهُ قُطْبُ الدِّينِ
مَوْدُودٌ جَيْشًا لِيَرُدَّهُ عَنْهَا، ثُمَّ اصْطَلَحَا فَعَوَّضَهُ مِنْهَا
الرَّحْبَةَ وَحِمْصَ وَاسْتَمَرَّتْ سِنْجَارُ لِقُطْبِ الدِّينِ، وَعَادَ نُورُ
الدِّينِ إِلَى بَلَدِهِ، وَغَزَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْفِرِنْجَ فَقَتَلَ
مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرَ الْبِرِنْسَ صَاحِبَ أَنْطَاكِيَةَ فَمَدَحَهُ
الشُّعَرَاءُ ; مِنْهُمُ الْفَتْحُ الْقَيْسَرَانِيُّ بِقَصِيدَةٍ طَنَّانَةٍ
يَقُولُ فِي أَوَّلِهَا:
هَذِي الْعَزَائِمُ لَا مَا تَدَّعِي الْقُضُبُ وَذِي الْمَكَارِمُ لَا مَا
قَالَتِ الْكُتُبُ وَهَذِهِ الْهِمَمُ اللَّاتِي مَتَى خُطِبَتْ
تَعَثَّرَتْ خَلْفَهَا الْأَشْعَارُ وَالْخُطَبُ صَافَحْتَ يَا ابْنَ عِمَادِ
الدِّينِ ذُرْوَتَهَا
بِرَاحَةٍ لِلْمَسَاعِي دُونَهَا تَعَبُ مَا زَالَ جَدُّكَ يَبْنِي كُلَّ
شَاهِقَةٍ
حَتَّى بَنَى قُبَّةً أَوْتَادُهُا الشُّهُبُ
وَفِيهَا فَتَحَ نُورُ الدِّينِ حِصْنَ أَفَامِيَةَ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ حَمَاةَ
وَفِيهَا مَاتَ صَاحِبُ مِصْرَ الْحَافِظُ لِدِينِ اللَّهِ عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ
أَبِي الْقَاسِمِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَنْصِرِ فَقَامَ، بِالْأَمْرِ مِنْ
بَعْدِهِ وَلَدُهُ الظَّافِرُ إِسْمَاعِيلُ، وَقَدْ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ
الْأَفْضَلِ بْنِ أَمِيرِ الْجُيُوشِ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى الْحَافِظِ وَخَطَبَ
بِمِصْرَ لِلْقَائِمِ آخِرَ الزَّمَانِ، وَأَذَّنَ بِحَيٍّ عَلَى خَيْرِ
الْعَمَلِ، وَلِلْحَافِظِ وُضِعَ طَبْلُ الْقُولَنْجِ الَّذِي إِذَا ضَرَبَهُ مَنْ
بِهِ الْقُولَنْجُ يَخْرُجُ مِنْهُ الْقُولَنْجُ وَالرِّيحُ الَّذِي بِهِ.
وَخَرَجَ بِالْحَجِيجِ
الْأَمِيرُ نَظَرٌ الْخَادِمُ فَمَرِضَ بِالْكُوفَةِ، فَرَجَعَ وَاسْتَخْلَفَ
عَلَيْهِمْ مَوْلَاهُ قَايْمَازَ وَحِينَ وُصُولِهِ إِلَى بَغْدَادَ تُوُفِّيَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ أَيَّامٍ وَطَمِعَتِ الْعَرَبُ فِي الْحَجِيجِ فَوَقَفُوا
لَهُمْ فِي الطَّرِيقِ وَهُمْ رَاجِعُونَ، فَضَعُفَ قَايْمَازُ عَنْ
مُقَاوَمَتِهِمْ فَأَخَذَ لِنَفْسِهِ أَمَانًا وَهَرَبَ وَأَسْلَمَ إِلَيْهِمُ
الْحَجِيجَ، فَقَتَلُوا أَكْثَرَهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَ النَّاسِ، وَقَلَّ مَنْ
سَلِمَ مِمَّنْ نَجَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا مَاتَ مُعِينُ الدِّينِ أَنُرُ أَتَابِكُ الْعَسَاكِرِ بِدِمَشْقَ،
وَكَانَ أَحَدَ مَمَالِيكِ طُغْتِكِينَ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَابِكَ
الْمُلُوكِ بِ دِمَشْقَ وَهُوَ وَالِدُ السِّتِّ عِصْمَةِ الدِّينِ خَاتُونَ
زَوْجَةِ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ، وَهُوَ وَاقِفُ الْمَدْرَسَةِ الْمُعِينِيَّةِ
دَاخِلَ بَابِ الْفَرَجِ، وَقَبْرُهُ فِي قُبَّةٍ قِبْلِيَّ الشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ بِمَحَلَّةِ الْعُوَيْنَةِ عِنْدَ دَارِ الْبِطِّيخِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
وَلَمَّا مَاتَ مُعِينُ الدِّينِ قَوِيَتْ شَوْكَةُ الْوَزِيرِ الرَّئِيسِ
مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ عَلِيِّ بْنِ الصُّوفِيِّ وَأَخِيهِ زَيْنِ الدَّوْلَةِ
حَيْدَرَةَ، وَوَقَعَتْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَلِكِ مُجِيرِ الدِّينِ أَبَقَ
وَحْشَةٌ اقْتَضَتْ أَنَّهُمَا حَشَدَا مِنَ الْعَامَّةِ وَالْغَوْغَاءِ مَا
يُقَاوِمُهُ، فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ خَلْقٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ ثُمَّ وَقَعَ
الصُّلْحُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ أَبُو نَصْرٍ الْوَزِيرُ
لِلْمُسْتَرْشِدِ
وَالسُّلْطَانُ
مَحْمُودٌ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْوُزَرَاءِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْأَرْجَانِيُّ
قَاضِي تُسْتَرَ، رَوَى الْحَدِيثَ وَكَانَ لَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ يَبْتَكِرُ
مَعَانِيَ حَسَنَةً، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَلَمَّا بَلَوْتُ النَّاسَ أَطْلُبُ مِنْهُمُ أَخَا ثِقَةٍ عِنْدَ اعْتِرَاضِ
الشَّدائِدِ تَطَمَّعْتُ فِي حَالَيْ رَخَاءٍ وَشِدَّةٍ
وَنَادَيْتُ فِي الْأَحْيَاءِ هَلْ مِنْ مُسَاعِدِ فَلَمْ أَرَ فِيمَا سَاءَنِي
غَيْرَ شَامِتٍ
وَلَمْ أَرَ فِيمَا سَرَّنِي غَيْرَ حَاسِدٍ تَمَتَّعْتُمَا يَا نَاظِرَيَّ
بِنَظْرَةٍ
وَأَوْرَدْتُمَا قَلْبِي أَمَرَّ الْمَوَارِدِ أَعَيْنَيَّ كُفَّا عَنْ فُؤَادِي
فَإِنَّهُ
مِنَ الْبَغْيِ سَعْيُ اثْنَيْنِ فِي قَتْلِ وَاحِدِ
عِيسَى بْنُ هِبَةِ اللَّهِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّقَّاشُ،
سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ ظَرِيفًا خَفِيفَ الرُّوحِ، لَهُ نَوَادِرُ
حَسَنَةٌ، قَدْ رَأَى النَّاسَ، وَعَاشَرَ الْأَكْيَاسَ، وَكَانَ يَحْضُرُ
مَجْلِسِي وَيُكَاتِبُنِي وَأُكَاتِبُهُ، كَتَبْتُ إِلَيْهِ
مَرَّةً، فَعَظَّمْتُهُ
فِي الْكِتَابَةِ، فَكَتَبَ إِلَيَّ
قَدْ زِدْتِنِي فِي الْخِطَابِ حَتَّى خَشِيْتُ نَقْصًا مِنَ الزِّيَادَهْ
فَاجْعَلْ خِطَابِي خِطَابَ مِثْلِي وَلَا تُغَيِّرْ عَلَيَّ عَادَهْ
وَلَهُ
إِذَا وَجَدَ الشَّيْخُ فِي نَفْسِهِ نَشَاطًا فَذَلِكَ مَوْتٌ خَفِي
أَلَسْتَ تَرَى أَنَّ ضَوْءَ السِّرَاجِ لَهُ لَهَبٌ قَبْلَ أَنْ يَنْطَفِي
غَازِيُّ بْنُ آقْ سُنْقُرَ
الْمَلِكُ سَيْفُ الدِّينِ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ وَهُوَ أَخُو نُورِ الدِّينِ
مَحْمُودٍ صَاحِبِ حَلَبَ ثُمَّ دِمَشْقَ فِيمَا بَعْدُ، وَقَدْ كَانَ سَيْفُ
الدِّينِ هَذَا مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً، وَأَجْوَدِهِمْ
سَرِيرَةً، وَأَصْبَحِهِمْ صُورَةً، شُجَاعًا كَرِيمًا، يَذْبَحُ كُلَّ يَوْمٍ
لِجَيْشِهِ مِائَةً مِنَ الْغَنَمِ، وَلِمَمَالِيكِهِ ثَلَاثِينَ رَأْسًا، وَفِي
يَوْمِ الْعِيدِ أَلْفَ رَأْسٍ سِوَى الْبَقَرِ وَالدَّجَاجِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ
حُمِلَ عَلَى رَأْسِهِ سَنْجَقٌ مِنْ مَلُوكِ الْأَطْرَافِ، وَأَمَرَ الْجُنْدَ
أَنْ لَا يَرْكَبُوا إِلَّا بِسَيْفٍ وَدَبُّوسٍ، وَبَنَى مَدْرَسَةً
بِالْمَوْصِلِ، وَرِبَاطًا لِلصُّوفِيَّةِ، وَامْتَدَحَهُ الْحَيْصَ بَيْصَ
فَأَعْطَاهُ أَلْفَ دِينَارٍ عَيْنًا، وَخِلْعَةً.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ
بِالْحُمَّى فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ دُفِنَ فِي
مَدْرَسَتِهِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ أَرْبَعُونَ سَنَةً،
وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ بَعْدَ أَبِيهِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَخَمْسِينَ يَوْمًا،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
نَظَرٌ الْخَادِمُ، أَمِيرُ الْحَاجِّ
مُدَّةَ عِشْرِينَ سَنَةً وَأَكْثَرَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَقَرَأَ عَلَى ابْنِ
الزَّاغُونِيِّ، وَكَانَ يُحِبُّ الْعِلْمَ وَالصَّدَقَةَ وَالْبِرَّ، وَكَانَ
الْحَاجُّ مَعَهُ فِي غَايَةِ الدَّعَةِ وَالْأَمْنِ، وَذَلِكَ لِشَجَاعَتِهِ
وَوَجَاهَتِهِ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ.
تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ،
وَدُفِنَ بِالرُّصَافَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائَةٍ
فِيهَا فَتَحَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ حِصْنَ أَفَامِيَةَ، وَهُوَ مِنْ أَحْصَنِ
الْقِلَاعِ وَأَوْسَعِ الْبِقَاعِ وَقِيلَ: فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَفِيهَا قَصَدَ دِمَشْقَ فَلَمْ يَتَسَنَّ لَهُ أَخْذُهَا، فَخَلَعَ عَلَى
مَلِكِهَا مُجِيرِ الدِّينِ أَبَقَ، وَعَلَى وَزِيرِهِ الرَّئِيسِ ابْنِ الصُّوفِيِّ،
وَتَقَرَّرَ الْحَالُ عَلَى الْخُطْبَةِ لَهُ بِهَا بَعْدَ الْخَلِيفَةِ
وَالسُّلْطَانِ، وَكَذَلِكَ السِّكَّةِ.
وَفِيهَا فَتَحَ نُورُ الدِّينِ حِصْنَ عِزَازٍ، وَأَسَرَ مَلِكَهَا ابْنَ
جُوسْلِينَ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ كَافَّةً، ثُمَّ أَسَرَ بَعْدَهُ
وَالِدَهُ جُوسْلِينَ الْمَلِكَ الْإِفْرِنْجِيَّ، فَكَانَتِ الْفَرْحَةُ
أَعَظَمَ، وَفَتَحَ بَعْدَ أَسْرِهِ مِنْ بِلَادِهِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ
الْحُصُونِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ
وَالْعِصْمَةُ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ حَضَرَ يُوسُفُ الدِّمَشْقِيُّ تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ،
وَخُلِعَ عَلَيْهِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْأَعْيَانُ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ، بَلْ بِمَرْسُومِ السُّلْطَانِ، وَابْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ
مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَزِمَ بَيْتَهُ وَلَمْ يَعُدْ إِلَى الْمَدْرَسَةِ
بِالْكُلِّيَّةِ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ الشَّيْخُ
أَبُو النَّجِيبِ
بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ وَمَرْسُومِ السُّلْطَانِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ بِالْيَمَنِ مَطَرٌ
كُلُّهُ دَمٌ، حَتَّى صَبَغَ ثِيَابَ النَّاسِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ ذِي النُّونِ
ابْنِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، أَبُو الْمَفَاخِرِ
النَّيْسَابُورِيُّ، قَدِمَ بَغْدَادَ فَوَعَظَ، وَجَعَلَ يَنَالُ مِنَ
الْأَشْعَرِيَّةِ فَأَحَبَّهُ الْحَنَابِلَةُ، ثُمَّ اخْتَبَرُوهُ، فَإِذَا هُوَ
مُعْتَزِلِيٌّ، فَفَتَرَ سُوقُهُ، وَجَرَتْ بِسَبَبِهِ فِتْنَةٌ بِبَغْدَادَ،
وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ شَيْئًا مِنْ شِعْرِهِ، مِنْ ذَلِكَ.
مَاتَ الْكِرَامُ وَمَرُّوا وَانْقَضُّوا وَمَضَوْا وَمَاتَ مِنْ بَعْدِهِمْ
تِلْكَ الْكَرَامَاتُ وَخَلَّفُونِيَ فِي قَوْمٍ ذَوِي سَفَهٍ
لَوْ أَبْصَرُوا طَيْفَ ضَيْفٍ فِي الْكَرَى مَاتُوا
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْحَنْبَلِيُّ
الْقَاضِي بَهَاءُ الدِّينِ، كَانَ يَعْرِفُ مَذْهَبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ
وَأَحْمَدَ، وَيُنَاظِرُ عَنْهُمَا، وَدُفِنَ مَعَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ بِقُبُورِ
الشُّهَدَاءِ.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي نَصْرِ بْنِ عُمَرَ أَبُو الْمَعَالِي الْجِيلِيُّ
كَانَ فَقِيهًا صَالِحًا
دَيِّنًا مُتَعَبِّدًا
فَقِيرًا، لَيْسَ لَهُ بَيْتٌ يَسْكُنُهُ، وَإِنَّمَا يَبِيتُ بِالْمَسَاجِدِ
الْمَهْجُورَةِ، وَقَدْ خَرَجَ مَعَ الْحَجِيجِ، فَأَقَامَ بِفَيْدَ، فَكَانَ
أَهْلُهَا يُثْنُونَ عَلَيْهِ خَيْرًا.
الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ
الْمَالِكِيُّ، شَارِحُ " التِّرْمِذِيِّ "، كَانَ فَقِيهًا عَالِمًا،
وَزَاهِدًا عَابِدًا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ بَعْدَ اشْتِغَالِهِ فِي الْفِقْهِ،
وَصَحِبَ الْغَزَالِيَّ، وَأَخَذَ عَنْهُ، وَكَانَ يَتَّهِمُهُ بِرَأْيِ
الْفَلَاسِفَةِ، وَيَقُولُ: دَخَلَ فِي أَجْوَافِهِمْ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا.
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا أَغَارَ جَيْشُ السُّلْطَانِ عَلَى بِلَادِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ،
فَقَتَلُوا خَلْقًا وَرَجَعُوا سَالِمِينَ.
وَفِيهَا حَاصَرَ نُورُ الدِّينِ دِمَشْقَ شَهْرًا، ثُمَّ رَحَلَ عَنْهَا إِلَى
دَارِيَّا، وَكَانَ الصُّلْحُ عَلَى يَدَيِ الْبُرْهَانِ الْبَلْخِيِّ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
وَفِيهَا اقْتَتَلَ الْفِرِنْجُ وَجَيْشُ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ فَانْهَزَمَ
الْمُسْلِمُونَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ، وَلَمَّا وَقَعَ هَذَا الْأَمْرُ شَقَّ عَلَى الْمَلِكِ نُورِ
الدِّينِ وَهَجَرَ اللَّذَّةَ وَالتَّرَفُّهَ حَتَّى يَأْخُذَ بِالثَّأْرِ،
وَأَغْرَى بِهِمْ جَمَاعَةً مِنَ التُّرْكُمَانِ، فَتَرَصَّدُوا لِمَلِكِهِمْ
جُوسْلِينَ الْإِفْرِنْجِيِّ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَسَرُوهُ فِي بَعْضِ
مُتَصَيِّدَاتِهِ، فَأَرْسَلَ نُورُ الدِّينِ، فَكَبَسَ التُّرْكُمَانَ وَأَخَذَ
مِنْهُمْ جُوسْلِينَ أَسِيرًا، وَكَانَ مِنْ أَعْتَى الْكَفَرَةِ، وَأَعْظَمِ
الْفَجَرَةِ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فَأَوْقَفَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي أَذَلِّ حَالٍ،
ثُمَّ سَجَنَهُ، وَسَارَ نُورُ الدِّينِ إِلَى بِلَادِهِ فَأَخَذَهَا كُلَّهَا
بِمَا فِيهَا.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ جَلَسَ ابْنُ الْعَبَّادِيِّ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ
وَتَكَلَّمَ، وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ، فَكَادَتِ الْحَنَابِلَةُ
يُثِيرُونَ فِتْنَةً ذَلِكَ الْيَوْمَ ; لِكَوْنِهِ غَيْرَ حَنْبَلِيٍّ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ
فِيهَا قَايْمَازُ الْأُرْجُوَانِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ الْبَلْخِيُّ
شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ بِدِمَشْقَ، دَرَسَ بِالْبَلْخِيَّةِ، ثُمَّ
بِالْخَاتُونِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَكَانَ عَالِمًا عَامِلًا، وَرِعًا
زَاهِدًا، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ
ابْنُ أَخِيهِ مَلِكْشَاهْ بْنُ مَحْمُودٍ، ثُمَّ جَاءَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ
فَأَخَذَ الْمُلْكَ، وَاسْتَقَرَّ لَهُ، وَقَتَلَ الْأَمِيرَ خَاصَّ بِكْ،
وَأَخَذَ أَمْوَالَهُ، وَأَلْقَاهُ لِلْكِلَابِ فَاخْتَبَطَتْ بَغْدَادُ
وَاضْطَرَبَتِ الْأُمُورُ، وَتَغَيَّرَتِ الْقَوَاعِدُ، وَبَلَغَ الْخَلِيفَةَ
أَنَّ وَاسِطًا قَدْ تَخَبَّطَتْ أَيْضًا، فَرَكِبَ إِلَيْهَا فِي الْجَيْشِ فِي
أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَأَصْلَحَ شَأْنَهَا، وَكَرَّ عَلَى الْكُوفَةِ
وَالْحِلَّةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا ; فَزُيِّنَتْ
لَهُ الْبَلَدُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا مَلَكَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ صَاحِبُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ بِجَايَةَ،
وَهِيَ بِلَادُ بَنِي حَمَّادٍ، فَكَانَ آخِرَ مُلُوكِهِمْ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ حَمَّادٍ، ثُمَّ بَعَثَ جَيْشًا إِلَى صِنْهَاجَةَ فَحَاصَرَهَا،
وَأَخَذَ أَمْوَالَهَا.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ وَبَيْنَ
الْفِرِنْجِ، فَكَسَرَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا اقْتَتَلَ سَنْجَرُ وَمَلِكُ الْغُورِ عَلَاءُ الدِّينِ الْحُسَيْنُ بْنُ
الْحُسَيْنِ أَوَّلُ
مُلُوكِهِمْ، فَكَسَرَهُ
سَنْجَرُ وَأَسَرَهُ، فَلَمَّا أَحْضَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لَهُ: مَاذَا
كُنْتَ تَصْنَعُ بِي لَوْ أَسَرْتَنِي ؟ فَأَخْرَجَ قَيْدًا مِنْ فِضَّةٍ وَقَالَ:
كُنْتُ أُقَيِّدُكَ بِهَذَا. فَعَفَا عَنْهُ وَأَطْلَقَهُ إِلَى بِلَادِهِ،
فَسَارَ إِلَى غَزْنَةَ فَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا بَهْرَامْ شَاهْ
السُّبُكْتُكِينِيِّ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا أَخَاهُ سَيْفَ الدِّينِ فَغَدَرَ
بِهِ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَسَلَّمُوهُ إِلَى بَهْرَامْ شَاهْ فَصَلَبَهُ، وَمَاتَ
بَهْرَامْ شَاهْ قَرِيبًا، فَسَارَ إِلَيْهَا عَلَاءُ الدِّينِ فَهَرَبَ خُسْرُو
بْنُ بَهْرَامْ شَاهْ عَنْهَا، فَدَخَلَهَا عَلَاءُ الدِّينِ فَنَهْبَهَا
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا بَشَرًا كَثِيرًا، وَسَخَّرَ
أَهْلَهَا، فَحَمَلُوا تُرَابًا فِي مَخَالٍ إِلَى مَحَلَّةٍ هُنَاكَ بَعِيدَةٍ
عَنِ الْبَلَدِ، فَعَمَّرَ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ قَلْعَةً مَعْرُوفَةً إِلَى
الْآنِ، وَبِذَلِكَ انْقَضَتْ دَوْلَةُ بَنِي سُبُكْتُكِينَ عَنْ بِلَادِ غَزْنَةَ
وَغَيْرِهَا. وَقَدْ كَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِهِمْ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانُوا مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ، وَأَكْثَرِهِمْ جِهَادًا
فِي الْكَفَرَةِ، وَأَكْثَرِهِمْ أَمْوَالًا وَنِسَاءً وَعَدَدًا وَعُدَدًا، قَدْ
كَسَرُوا الْأَصْنَامَ، وَأَبَادُوا الْكُفَّارَ، وَجَمَعُوا مِنَ الْأَمْوَالِ
مَا لَمْ يَجْمَعْ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُلُوكِ، مَعَ أَنَّ بِلَادَهُمْ مِنْ
أَطْيَبِ الْبِلَادِ وَأَكْثَرِهَا رِيفًا وَمِيَاهًا فَفَنِيَ جَمِيعُهُ، وَزَالَ
عَنْهُمْ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ
وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ
تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ آلِ عِمْرَانَ:
26 ] ثُمَّ مَلَكَ الْغُورَ وَالْهِنْدَ وَخُرَاسَانَ، وَاتَّسَعَتْ مَمَالِكُهُمْ
وَعَظُمَ سُلْطَانُهُمْ.
وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " أَنَّ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ بَاضَ دِيكٌ بَيْضَةً
وَاحِدَةً، ثُمَّ بَاضَ
بَازٌ بَيْضَتَيْنِ، وَبَاضَتْ نَعَامَةٌ لَيْسَ لَهَا ذَكَرٌ، وَهَذَا شَيْءٌ
عَجِيبٌ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْمُظَفَّرُ بْنُ أَرْدَشِيرَ، أَبُو مَنْصُورٍ الْعَبَّادِيُّ
الْوَاعِظُ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ فَأَمْلَى بِهَا وَوَعَظَ،
وَكَانَ يَكْتُبُ مَا يَعِظُ النَّاسَ بِهِ، فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ
مُجَلَّدَاتٌ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَا تَكَادُ تَجِدُ فِي الْمُجَلَّدِ
خَمْسَ كَلِمَاتٍ جَيِّدَةٍ. وَتَكَلَّمَ فِيهِ، وَأَطَالَ الْحَطَّ عَلَيْهِ،
وَاسْتَحْسَنَ مِنْ كَلَامِهِ قَوْلَهُ: وَقَدْ سَقَطَ مَطَرٌ وَهُوَ يَعِظُ
النَّاسَ، فَفَرَّ النَّاسُ إِلَى مَا تَحْتَ الْجُدْرَانِ، فَقَالَ: لَا
تَفِرُّوا مِنْ رَشَّاشِ مَاءِ رَحْمَةٍ، قَطَرَ مِنْ سَحَابِ نِعْمَةٍ، وَلَكِنْ
فِرُّوا مِنْ شَرَارِ نَارٍ اقْتُدِحَ مِنْ زِنَادِ الْغَضَبِ. تُوُفِّيَ وَقَدْ
جَاوَزَ الْخَمْسِينَ بِقَلِيلٍ.
مَسْعُودٌ السُّلْطَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ
بْنِ دَاوُدَ بْنِ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ التُّرْكِيُّ السَّلْجُوقِيُّ
صَاحِبُ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا، حَصَلَ لَهُ مِنَ التَّمَكُّنِ وَالسَّعَادَةِ
شَيْءٌ كَثِيرٌ لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهِ، وَجَرَتْ لَهُ خُطُوبٌ كَثِيرَةٌ،
وَحُرُوبٌ طَوِيلَةٌ،
وَقَدْ أَسَرَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْحُرُوبِ الْخَلِيفَةَ الْمُسْتَرْشِدَ، كَمَا
تَقَدَّمَ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ سَلْخَ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ.
يَعْقُوبُ الْخَطَّاطُ الْكَاتِبُ
تُوُفِّيَ بِالنِّظَامِيَّةِ، فَجَاءَ دِيوَانُ الْحَشَرِيَّةِ ; لِيَأْخُذُوا
مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، فَمَنَعَهُمُ الْفُقَهَاءُ، فَجَرَتْ فِتْنَةٌ
عَظِيمَةٌ، آلَ الْحَالُ إِلَى عَزْلِ مُدَرِّسِهَا الشَّيْخِ أَبِي النَّجِيبِ،
وَضَرْبِهِ بِالدِّيوَانِ تَعْزِيرًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا وَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ وَبَيْنَ الْأَتْرَاكِ
بِبِلَادِ بَلْخٍ فَقَتَلُوا مِنْ جَيْشِهِ خَلْقًا كَثِيرًا جِدًّا ; بِحَيْثُ
بَقِيَتِ الْقَتْلَى مِثْلَ التِّلَالِ الْعَظِيمَةِ، وَأَسَرُوا السُّلْطَانَ
سَنْجَرَ، وَقَتَلُوا مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ صَبْرًا، وَلَمَّا
اسْتَحْضَرُوهُ قَبَّلُوا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالُوا: نَحْنُ
عَبِيدُكَ، وَكَانُوا عِدَّةً مِنَ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ
شَهْرَيْنِ ثُمَّ جَاءُوا مَعَهُ، فَدَخَلُوا مَرْوَ وَهِيَ كُرْسِيُّ مَمْلَكَةِ
خُرَاسَانَ فَسَأَلَهُ بَعْضُهُمْ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ إِقْطَاعًا، فَقَالَ:
هَذَا لَا يُمْكِنُ ; هَذِهِ كُرْسِيُّ الْمَمْلَكَةِ. فَضَحِكُوا مِنْهُ
وَأَضْرَطَ بِهِ بَعْضُهُمْ، فَنَزَلَ عَنْ سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ، وَدَخَلَ
خَانِقَاهُ، وَصَارَ فَقِيرًا مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِهَا، وَتَابَ عَنِ الْمُلْكِ،
وَاسْتَحْوَذَ أُولَئِكَ الْأَتْرَاكُ عَلَى الْبِلَادِ فَنَهَبُوهَا،
وَتَرَكُوهَا قَاعًا صَفْصَفًا، وَأَقَامُوا سُلَيْمَانَ شَاهْ مَلِكًا، فَلَمْ
تَطُلْ مُدَّتُهُ حَتَّى عَزَلُوهُ، وَوَلَّوُا ابْنَ أُخْتِ سَنْجَرَ الْخَاقَانِ
مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ كُوخَانَ، وَتَفَرَّقَتِ الْأُمُورُ وَاسْتَحْوَذَ
كُلُّ إِنْسَانٍ عَلَى نَاحِيَةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَمَالِكِ، وَصَارَتِ الدَّوْلَةُ
دُوَلًا.
وَفِيهَا كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ الْعَرَبِ
بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ. وَفِيهَا أَخَذَتِ الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ عَسْقَلَانَ مِنَ
السَّوَاحِلِ. وَفِيهَا خَرَجَ الْخَلِيفَةُ إِلَى وَاسِطٍ فِي جَحْفَلٍ
فَأَصْلَحَ شَأْنَهَا وَعَادَ إِلَى بَغْدَادَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا
قَايْمَازُ الْأُرْجُوَانِيُّ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ
الشَّاعِرَيْنِ الْقَرِينَيْنِ الْمُشَبَّهَيْنِ فِي الزَّمَانِ الْأَخِيرِ
بِالْفَرَزْدَقِ وَجَرِيرٍ، وَهُمَا
أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُنِيرٍ الْجَوْنِيُّ بِحَلَبَ
وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ صَغِيرٍ الْقَيْسَرَانِيُّ
الْحَلَبِيُّ بِدِمَشْقَ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَعَلِيُّ بْنُ السَّلَارِ الْمُلَقَّبِ بِالْعَادِلِ، وَزِيرِ الظَّافِرِ صَاحِبِ
مِصْرَ، وَهُوَ بَانِي الْمَدْرَسَةِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ لِلشَّافِعِيَّةِ ;
لِلْحَافِظِ أَبِي طَاهِرٍ السَّلَفِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ كَانَ
الْعَادِلُ هَذَا ضِدَّ اسْمِهِ ; كَانَ ظَلُومًا غَشُومًا حَطُومًا، وَقَدْ
تَرْجَمَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا رَكِبَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَى تَكْرِيتَ
فَحَاصَرَ قَلْعَتَهَا، وَالْتَقَى جَمْعًا هُنَالِكَ مِنَ الْأَتْرَاكِ
وَالتُّرْكُمَانِ، فَأَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ، وَهَزَمَهُمْ لَهُ، وَأَعْلَى
كَلِمَتَهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا.
وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ مِصْرَ قَدْ قُتِلَ خَلِيفَتُهَا الظَّافِرُ،
وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا صَبِيٌّ صَغِيرٌ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ، قَدْ
وَلَّوْهُ عَلَيْهِمْ وَلَقَّبُوُهُ الْفَائِزَ، فَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ عَهْدًا
لِلْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ عَلَى الْبِلَادِ
الشَّامِيَّةِ وَالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَرْسَلَهُ إِلَيْهَا.
وَفِيهَا هَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِيهَا نَارٌ، فَخَافَ
النَّاسُ أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ، وَزُلْزِلَتِ الْأَرْضُ، وَتَغَيَّرَ مَاءُ
دِجْلَةَ إِلَى الْحُمْرَةِ. وَظَهَرَ بِأَرْضِ وَاسِطٍ مِنَ الْأَرْضِ دَمٌ لَا
يُعْرَفُ سَبَبُهُ. وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ الْمَلِكَ سَنْجَرَ فِي أَسْرِ
التُّرْكِ، فِي غَايَةِ الذُّلِّ وَالْإِهَانَةِ، وَأَنَّهُ يَبْكِي عَلَى نَفْسِهِ
فِي كُلِّ وَقْتٍ.
وَفِيهَا انْتَزَعَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ دِمَشْقَ
مِنْ يَدِ مَلِكِهَا مُجِيرِ الدِّينِ أَبَقِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بُورِي بْنِ
طُغْتِكِينَ، وَذَلِكَ لِسُوءِ سِيرَتِهِ وَضَعْفِ دَوْلَتِهِ، وَمُحَاصَرَةِ
الْعَامَّةِ لَهُ فِي الْقَلْعَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ، مَعَ الرَّئِيسِ مُؤَيَّدِ
الدَّوْلَةِ الْمُسَيَّبِ
بْنِ الصُّوفِيِّ،
وَتَغَلُّبِ الْخَادِمِ عَطَاءٍ عَلَى الْمَمْلَكَةِ مَعَ ظُلْمِهِ وَغَشْمِهِ،
فَكَانَ النَّاسُ يَدْعُونَ اللَّهَ لَيْلًا وَنَهَارًا أَنْ يُبَدِّلَهُمْ
بِالْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ، وَاتَّفَقَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْفِرِنْجَ أَخَذُوا
عَسْقَلَانَ فَتَحَرَّقَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُمْكِنُهُ
الْوُصُولُ إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّ دِمَشْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَيَخْشَى أَنْ
يُحَاصِرَ دِمَشْقَ بِعَسْفٍ ; فَيَنْبَعِثَ مَلِكُهَا إِلَى الْفِرِنْجِ
فَيُنْجِدُونَهُ كَمَا جَرَى غَيْرَ مَرَّةٍ ; لِأَنَّ الْفِرِنْجَ لَا يُرِيدُونَ
أَنْ يَمْلِكَ نُورُ الدِّينِ دِمَشْقَ ; لِأَنَّهُ يَقْوَى بِهَا عَلَيْهِمْ
وَلَا يُطِيقُونَهُ، فَأَرْسَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْأَمِيرَ أَسَدَ الدِّينِ
شِيرَكُوهْ فِي أَلْفِ فَارِسٍ فِي صِفَةِ طَلَبِ الصُّلْحِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ
إِلَيْهِ مُجِيرُ الدِّينِ، وَلَا خَرَجَ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ،
فَكَتَبَ إِلَى نُورِ الدِّينِ بِذَلِكَ، فَرَكِبَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ فِي
جَيْشِهِ، فَنَزَلَ عُيُونَ الْفَاسْرَيَا مِنْ أَرْضِ دِمَشْقَ ثُمَّ انْتَقَلَ
إِلَى قَرِيبٍ مِنَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ، فَفَتَحَهَا قَهْرًا وَدَخَلَ
الْبَلَدَ بَعْدَ حِصَارِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَ دُخُولُهُ يَوْمَ الْأَحَدِ
عَاشِرَ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَتَحَصَّنَ مُجِيرُ الدِّينِ فِي
الْقَلْعَةِ فَأَنْزَلَهُ مِنْهَا، وَعَوَّضَهُ مَدِينَةَ حِمْصَ وَدَخَلَ نُورُ
الدِّينِ الْقَلْعَةَ، وَاسْتَقَرَّتْ يَدُهُ عَلَى دِمَشْقَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ،
فَنَادَى فِي الْبَلَدِ بِالْأَمَانِ، وَأَنَّهُ يُبَشِّرُ النَّاسَ بِالْخَيْرِ،
فَرُفِعَ عَنْهُمُ الْمُكُوسُ، وَقُرِئَتِ التَّوَاقِيعُ بِذَلِكَ عَلَى
الْمَنَابِرِ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ وَأَكْثَرُوا الدُّعَاءَ لَهُ، وَكَتَبَ
مُلُوكُ الْفِرِنْجِ إِلَيْهِ يُهَنِّئُونَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ، وَيَخْضَعُونَ
لَهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الرَّئِيسُ مُؤَيَّدُ الدَّوْلَةِ الْمُسَيَّبُ بْنُ الصُّوفِيِّ، وَزِيرُ
دِمَشْقَ لِمُجِيرِ الدِّينِ
وَقَدْ ثَارَ عَلَى الْمَلِكِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَيَسْتَفْحِلُ أَمْرُهُ، ثُمَّ
يَقَعُ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا، كَمَا تَقَدَّمَ.
عَطَاءٌ الْخَادِمُ
أَحَدُ أُمَرَاءِ دِمَشْقَ وَقَدْ تَغَلَّبَ عَلَى الْأُمُورِ أَيَّامَ مُجِيرِ
الدِّينِ، وَكَانَ يَنُوبُ بِبَعْلَبَكَّ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَكَانَ
ظَالِمًا، غَاشِمًا وَهُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ مَسْجِدُ عَطَاءٍ خَارِجَ
بَابِ شَرْقِيٍّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
خَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ
إِلَى دَقُوقَا فَحَاصَرَهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا فَسَأَلُوهُ أَنْ
يَرْحَلَ عَنْهُمْ ; فَإِنَّ أَهْلَهَا قَدْ هَلَكُوا بَيْنَ الْجَيْشَيْنِ،
فَأَجَابَهُمْ، وَرَحَلَ عَنْهُمْ، وَعَادَ إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ شَهْرَيْنِ
وَنِصْفٍ، ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ الْحِلَّةِ وَالْكُوفَةِ، وَالْجَيْشُ بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ شَاهْ: أَنَا وَلِيُّ عَهْدِ سَنْجَرَ، فَإِنْ
قَرَّرْتَ لِي ذَلِكَ وَإِلَّا فَأَنَا كَأَحَدِ الْأُمَرَاءِ. فَوَعْدَهُ
خَيْرًا، وَكَانَ يَحْمِلُ الْغَاشِيَةَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ عَلَى
كَاهِلِهِ، فَمَهَّدَ الْأُمُورَ وَوَطَّدَهَا، وَسَلَّمَ عَلَى مَشْهَدِ عَلِيٍّ
إِشَارَةً بِأُصْبُعَيْهِ وَكَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى دُخُولِ الْمَشْهَدِ،
فَنَهَاهُ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ كَأَنَّهُ خَافَ عَلَيْهِ مِنْ
غَائِلَةِ الرَّوَافِضِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا افْتَتَحَ نُورُ الدِّينِ بَعْلَبَكَّ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ ; وَذَلِكَ
أَنَّ نَجْمَ الدِّينِ كَانَ نَائِبًا عَلَى الْبَلَدِ وَالْقَلْعَةِ، فَسَلَّمَهُ
إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: الضَّحَّاكُ الْبِقَاعِيُّ. فَكَاتَبَ نَجْمُ الدِّينِ
لِنُورِ الدِّينِ، وَلَمْ يَزَلْ نُورُ الدِّينِ يَتَلَطَّفُ حَتَّى أَخَذَ
الْقَلْعَةَ أَيْضًا، وَاسْتَدْعَى بِنَجْمِ الدِّينِ إِلَيْهِ إِلَى دِمَشْقَ
فَأَقْطَعُهُ إِقْطَاعًا، وَأَكْرَمَهُ مِنْ أَجْلِ أَخِيهِ أَسَدِ الدِّينِ ;
فَإِنَّهُ كَانَتْ لَهُ الْيَدُ الطُّولَى فِي فَتْحِ دِمَشْقَ لِلْمَلِكِ
الْعَادِلِ نُورِ الدِّينِ، وَجَعَلَ الْأَمِيرَ شَمْسَ الدَّوْلَةِ تُورَانْشَاهْ
بْنَ نَجْمِ الدِّينِ شِحْنَةَ دِمَشْقَ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ جَعَلَ أَخَاهُ
صَلَاحَ الدِّينِ يُوسُفَ هُوَ الشِّحْنَةَ، وَجَعَلَهُ مِنْ خَوَاصِّهِ لَا
يُفَارِقُهُ حَضَرًا وَلَا سَفَرًا ; لِأَنَّهُ
كَانَ حَسَنَ الشَّكْلِ،
حَسَنَ اللَّعِبِ بِالْكُرَةِ، وَكَانَ نُورُ الدِّينِ يُحِبُّ لَعِبَ الْكُرَةِ ;
لِتَمْرِينِ الْخَيْلِ وَتَعْلِيمِهَا الْكَرَّ وَالْفَرَّ، وَفِي شِحْنَكِيَّةِ
صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ يَقُولُ عَرْقَلَةُ الشَّاعِرُ:
رُوَيْدَكُمْ يَا لُصُوصَ الشَّآمِ فَإِنِّي لَكُمْ نَاصِحٌ فِي مَقَالِ
فَإِيَّاكُمُ وَسَمِيَّ النَّبِ
يِّ يُوسُفَ رَبِّ الْحِجَا وَالْجَمَالِ فَذَاكَ مُقَطِّعُ أَيْدِي النِّسَاءِ
وَهَذَا مُقَطِّعُ أَيْدِي الرِّجَالِ
وَقَدْ مَلَكَ أَخَاهُ تُورَانْشَاهْ هَذَا بِلَادَ الْيَمَنِ فِيمَا بَعْدَ
ذَلِكَ، وَكَانَ يُلَقَّبُ شَمْسَ الدَّوْلَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرِ
ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ الْحَافِظُ، أَبُو الْفَضْلِ
الْبَغْدَادِيُّ. وُلِدَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ
وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَتَفَرَّدَ بِمَشَايِخَ،
وَكَانَ حَافِظًا، ضَابِطًا، مُكْثِرًا، مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، كَثِيرَ
الذِّكْرِ، سَرِيعَ الدَّمْعَةِ. وَقَدْ تَخْرَّجَ بِهِ جَمَاعَةٌ ; مِنْهُمُ
الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، سَمِعَ بِقِرَاءَتِهِ "
مُسْنَدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ "، وَغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْكِبَارِ،
وَكَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ كَثِيرًا، وَقَدْ رَدَّ عَلَى أَبِي سَعْدٍ
السَّمْعَانِيِّ فِي قَوْلِهِ فِي مُحَمَّدِ بْنِ نَاصِرٍ: يُحِبُّ أَنْ يَقَعَ
فِي النَّاسِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَالْكَلَامُ فِي الْجَرْحِ
وَالتَّعْدِيلِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَإِنَّمَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ
يُحِبُّ أَنْ يَتَعَصَّبَ عَلَى أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ نَعُوذُ
بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ
الْقَصْدِ وَالتَّعَصُّبِ. وَكَانَتْ وَفَاةُ مُحَمَّدِ بْنِ نَاصِرٍ لَيْلَةَ
الثُّلَاثَاءِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ
ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مَرَّاتٍ، وَدُفِنَ بِبَابِ
حَرْبٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُجَلِّي بْنُ جُمَيْعِ بْنِ نَجَا، أَبُو الْمَعَالِي الْمَخْزُومِيُّ
الْأَرْسُوفِيُّ
ثُمَّ الْمِصْرِيُّ قَاضِيهَا، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، مُصَنِّفُ "
الذَّخَائِرِ " فِي الْمَذْهَبِ، وَفِيهَا غَرَائِبُ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ مِنَ
الْكُتُبِ الْمُفِيدَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ شَاهْ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ مَلِكْشَاهْ بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ السَّلْجُوقِيُّ إِلَى بَغْدَادَ
وَعَلَى رَأْسِهِ الشَّمْسِيَّةُ، فَتَلَقَّاهُ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ
وَأَدْخَلَهُ عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَحَلَّفَهُ عَلَى
الطَّاعَةِ وَصَفَاءِ النِّيَّةِ وَالْمُنَاصَحَةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَخَلَعَ
عَلَيْهِ خُلَعَ الْمُلُوكِ، وَتَقَرَّرَ أَنَّ لِلْخَلِيفَةِ الْعِرَاقَ
وَلِسُلَيْمَانَ شَاهْ مَا يَفْتَحُهُ مِنْ خُرَاسَانَ ثُمَّ خُطِبَ لَهُ
بِبَغْدَادَ بَعْدَ الْمَلِكِ سَنْجَرَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ فَاقْتَتَلَ هُوَ وَالسُّلْطَانُ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ
مَلِكْشَاهْ، فَهَزَمَهُ مُحَمَّدٌ وَهَزَمَ عَسْكَرَهُ، فَذَهَبَ هَارِبًا
فَتَلَقَّاهُ نَائِبُ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ صَاحِبُ
الْمَوْصِلِ فَأَسَرَهُ وَحَبَسَهُ بِقَلْعَةِ الْمَوْصِلِ وَأَكْرَمَهُ مُدَّةَ
حَبْسِهِ وَخَدَمَهُ، وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ الِاتِّفَاقَاتِ.
وَفِيهَا مَلَكَتِ الْفِرِنْجُ الْمَهْدِيَّةَ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ بَعْدَ
حِصَارٍ شَدِيدٍ. وَفِيهَا فَتَحَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ
قَلْعَةَ تَلِّ حَارِمٍ وَاقْتَلَعَهَا مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ، وَكَانَتْ مِنْ
أَحْصَنِ الْقِلَاعِ وَأَمْنَعِ الْبِقَاعِ وَذَلِكَ بَعْدَ قِتَالٍ عَظِيمٍ
وَوَقْعَةٍ هَائِلَةٍ كَانَتْ مِنْ أَكبَرِ الْفُتُوحَاتِ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ
الشُّعَرَاءُ عِنْدَ ذَلِكَ. وَفِيهَا هَرَبَ الْمَلِكُ سَنْجَرُ مِنَ الْأَسْرِ
وَعَادَ إِلَى مُلْكِهِ بِمَرْوَ، وَكَانَ لَهُ فِي أَيْدِيهِمْ نَحْوٌ مِنْ
خَمْسِ سِنِينَ. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ أَوْلَادَهُ عَلَى
بِلَادِهِ ; اسْتَنَابَ كُلَّ وَاحِدٍ فِي بَلَدٍ كَبِيرٍ.
ذِكْرُ حِصَارِ بَغْدَادَ
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ مُحَمَّدَ بْنَ مَحْمُودِ بْنِ مَلِكْشَاهْ
أَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَفِي يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَخْطُبَ لَهُ
بِبَغْدَادَ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَسَارَ مِنْ هَمَذَانَ إِلَى
بَغْدَادَ لِيُحَاصِرَهَا، فَانْجَفَلَ النَّاسُ، وَحَصَّنَ الْخَلِيفَةُ
الْبَلَدَ، وَجَاءَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ فَحَصَرَ بَغْدَادَ وَوَقَفَ تُجَاهَ
التَّاجِ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ فِي جَحْفَلٍ عَظِيمٍ، وَرَمَوْا نَحْوَهُ
بِالنُّشَّابِ، وَقَاتَلَتِ الْعَامَّةُ قِتَالًا عَظِيمًا بِالنِّفْطِ
وَغَيْرِهِ، وَاسْتَمَرَّ الْقِتَالُ إِلَى مُدَّةٍ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ
إِذْ بَلَغَ السُّلْطَانُ أَنَّ أَخَاهُ قَدْ خَلَفَهُ فِي هَمَذَانَ فَانْشَمَرَ
عَنْ بَغْدَادَ رَاحِلًا إِلَى هَمَذَانَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ
اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَتَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ
فِي الْبِلَادِ، وَأَصَابَ النَّاسَ بَعْدَ هَذَا الْقِتَالِ مَرَضٌ شَدِيدٌ،
وَمَوْتٌ ذَرِيعٌ، وَاحْتَرَقَتْ مَحَالُّ كَثِيرَةٌ مِنْ بَغْدَادَ وَاسْتَمَرَّ
ذَلِكَ فِيهَا مُدَّةَ شَهْرَيْنِ.
وَفِيهَا أُطْلِقَ أَبُو الْبَدْرِ بْنُ الْوَزِيرِ بْنِ هُبَيْرَةَ مِنْ قَلْعَةِ
تَكْرِيتَ وَكَانَ لَهُ فِيهَا، مُعْتَقَلًا، ثَلَاثَ سِنِينَ، فَتَلَقَّاهُ
النَّاسُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ، فَكَانَ مِنْ
جُمْلَتِهِمُ الْأَبْلَهُ الشَّاعِرُ، أَنْشَدَ الْوَزِيرَ قَصِيدَةً يَقُولُ فِي
أَوَّلِهَا:
بِأَيِّ لِسَانٍ لِلْوُشَاةِ أُلَامُ وَقَدْ عَلِمُوا أَنِّي سَهِرْتُ وَنَامُوا
إِلَى أَنْ قَالَ
وَيَسْتَكْثِرُونَ الْوَصْلَ لِي مِنْكَ لَيْلَةً وَقَدْ مَرَّ عَامٌ بِالصُّدُودِ
وَعَامُ
فَطَرِبَ الْخَلِيفَةُ عِنْدَ ذَلِكَ. وَخَلَعَ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ وَأَطْلَقَ
لَهُ خَمْسِينَ دِينَارًا، وَحَجَّ بِالنَّاسِ قَايْمَازُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ أَبُو الْحَسَنِ الْغَزْنَوِيُّ
الْوَاعِظُ، كَانَ لَهُ قَبُولٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَامَّةِ، وَبَنَتْ لَهُ
الْخَاتُونُ زَوْجَةُ الْمُسْتَظْهِرِ رِبَاطًا بِبَابِ الْأَزَجِّ، وَوَقَفَتْ عَلَيْهِ
أَوْقَافًا كَثِيرَةً، فَحَصَلَ لَهُ جَاهٌ عَرِيضٌ وَزَارَهُ السُّلْطَانُ.
وَكَانَ حَسَنَ الْإِيرَادِ مَلِيحَ الْوَعْظِ، يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ خَلْقٌ
كَثِيرٌ، وَجَمٌّ غَفِيرٌ مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ. وَقَدِ اسْتَمْلَحَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ أَشْيَاءَ مِنْ وَعْظِهِ، قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَوْمًا يَقُولُ:
حُزْمَةُ حُزْنٍ خَيْرٌ مِنْ أَعْدَالِ أَعْمَالِ. ثُمَّ أَنْشَدَ
كَمْ حَسْرَةٍ لِي فِي الْحَشَا مِنْ وَلَدٍ إِذَا نَشَا أَمَّلْتُ فِيهِ رُشْدَهُ
فَمَا نَشَا كَمَا أَشَا
قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَوْمًا يُنْشِدُ
يَحْسُدُنِي قَوْمِي عَلَى صَنْعَتِي لِأَنَّنِي فِي صَنْعَتِي فَارِسُ
سَهِرْتُ فِي لَيْلِي وَاسْتَنْعَسُوا وَهَلْ يَسْتَوِي السَّاهِرُ وَالنَّاعِسُ
قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ:
تُوَلُّونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَيَسُبُّونَ نَبِيَّكُمْ فِي يَوْمِ
عِيدِهِمْ وَيُصْبِحُونَ يَجْلِسُونَ إِلَى جَانِبِكُمْ ؟ ! ثُمَّ يَقُولُ: أَلَا
هَلْ بَلَّغْتُ ؟ قَالَ: وَكَانَ يَتَشَيَّعُ، ثُمَّ سُعِيَ فِي مَنْعِهِ مِنَ
الْوَعْظِ، ثُمَّ أُذِنَ لَهُ، وَلَكِنْ ظَهَرَ لِلنَّاسِ ابْنُ الْعَبَّادِيِّ،
فَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَمِيلُونَ إِلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ
مَسْعُودٌ يُعَظِّمُهُ وَيَحْضُرُ مَجْلِسَهُ، فَلَمَّا مَاتَ السُّلْطَانُ
مَسْعُودٌ ذُلَّ الْغَزْنَوِيُّ بَعْدَهُ، وَأُهِينَ إِهَانَةً بَالِغَةً،
فَمَرِضَ وَمَاتَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:
وَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَعْرَقُ فِي نَزْعِهِ ثُمَّ يَفِيقُ وَهُوَ يَقُولُ:
رِضًى وَتَسْلِيمٌ. وَلَمَّا مَاتَ دُفِنَ فِي رِبَاطِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ.
مَحْمُودُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ قَادُوسَ، أَبُو الْفَتْحِ الدِّمْيَاطِيُّ
كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَهُوَ شَيْخُ الْقَاضِي
الْفَاضِلِ وَكَانَ يُسَمِّيهِ ذَا الْبَلَاغَتَيْنِ، وَذَكَرَهُ الْعِمَادُ
الْكَاتِبُ فِي " الْخَرِيدَةِ " وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَمِنْ شِعْرِهِ
فِيمَنْ يُكَرِّرُ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ
وَفَاتِرُ النِّيَّةِ عِنِّينِهَا مَعْ كَثْرَةِ الرَّعْدَةِ وَالْهِزَّهْ
يُكَبِّرُ سَبْعِينَ فِي مَرَّةٍ كَأَنَّهُ صَلَّى عَلَى حَمْزَهْ
الشَّيْخُ أَبُو
الْبَيَانِ
نَبَا بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْحَوْرَانِيِّ، الْفَقِيهُ
الزَّاهِدُ الْعَابِدُ الْفَاضِلُ الْخَاشِعُ، قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ، قَرَأَ
الْقُرْآنَ وَكِتَابَ " التَّنْبِيهِ " عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ،
وَكَانَ حَسَنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللُّغَةِ، كَثِيرَ الْمُطَالَعَةِ، وَلَهُ
كَلَامٌ يُؤْثَرُ عَنْهُ، وَرَأَيْتُ لَهُ كِتَابًا بِخَطِّهِ فِيهِ النَّظَائِمُ
الَّتِي لَهُ، يَقُولُهَا أَصْحَابُهُ وَأَتْبَاعُهُ بِلَهْجَةٍ غَرِيبَةٍ، وَقَدْ
كَانَ مِنْ نَشْأَتِهِ إِلَى أَنْ تُوَفِّيَ عَلَى طَرِيقَةٍ صَالِحَةٍ، وَقَدْ
زَارَهُ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ فِي رِبَاطِهِ دَاخِلَ دَرْبِ الْحَجَرِ،
وَوَقَفَ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ
الثَّالِثِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ
بَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي "
طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ " رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
سَعِيدٍ الْفَارِسِيُّ الْحَافِظُ، تَفَقَّهَ بِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَسَمِعَ
الْكَثِيرَ عَلَى جَدِّهِ لِأُمِّهِ أَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيِّ، وَرَحَلَ
إِلَى الْبِلَادِ وَأَسْمَعَ الْكَثِيرَ، وَصَنَّفَ " الْمُفْهِمَ فِي
غَرِيبِ مُسْلِمٍ " وَغَيْرِهِ، وَوَلِيَ خَطَابَةَ نَيْسَابُورَ وَكَانَ
فَاضِلًا بَارِعًا ديِّنًا حَافِظًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَمُحَمَّدُ شَاهْ بْنُ مَحْمُودٍ مُحَاصِرٌ
بَغْدَادَ وَالْعَامَّةُ وَالْجُنْدُ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَفِي
يُقَاتِلُونَ أَشَدَّ الْقِتَالِ، وَالْجُمُعَةُ لَا تُقَامُ لِعُذْرِ الْقِتَالِ،
وَالْفِتْنَةُ كَبِيرَةٌ، ثُمَّ يَسَّرَ اللَّهُ بِذَهَابِ السُّلْطَانِ، كَمَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَقَدْ بَسَطَ ذَلِكَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَطَوَّلَ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِالشَّامِ، هَلَكَ بِسَبَبِهَا خَلْقٌ
كَثِيرٌ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ، وَتَهَدَّمَ أَكْثَرُ حَلَبَ وَحَمَاةُ
وَشَيْزَرُ وَحِمْصُ وَكَفْرُ طَابَ وَحِصْنُ الْأَكْرَادِ وَاللَّاذِقِيَّةُ
وَالْمَعَرَّةُ وَأَفَامِيَةُ وَأَنْطَاكِيَةُ وَطَرَابُلُسُ. قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: وَأَمَّا شَيْزَرُ فَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهَا إِلَّا امْرَأَةٌ
وَخَادِمٌ لَهَا، وَهَلَكَ الْبَاقُونَ، وَأَمَّا كَفْرُ طَابَ فَلَمْ يَسْلَمْ
مِنْهَا أَحَدٌ وَأَمَّا أَفَامِيَةُ فَسَاخَتْ قَلْعَتُهَا، وَتَلُّ جَرَّانَ
انْقَسَمَ نِصْفَيْنِ، فَأَبْدَى نَوَاوِيسَ وَبُيُوتًا كَثِيرَةً فِي وَسَطِهِ.
قَالَ: وَهَلَكَ مِنْ مَدَائِنِ الْإِفْرِنْجِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَتَهَدَّمَ
أَسْوَارُ أَكْثَرِ مُدُنِ الشَّامِ مِنْ ذَلِكَ ; حَتَّى إِنَّ مَكْتَبًا
بِحَمَاةَ انْهَدَمَ عَلَى الصِّبْيَانِ فَهَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ، فَلَمْ يَجِئْ
أَحَدٌ يَسْأَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْفَصْلَ الشَّيْخُ
أَبُو شَامَةَ فِي كِتَابِ " الرَّوْضَتَيْنِ " مُسْتَقْصًى، وَذَكَرَ
مَا قَالَهُ الشُّعَرَاءُ فِي ذَلِكَ.
وَفِيهَا مَلَكَ
السُّلْطَانُ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ حِصْنَ شَيْزَرَ بَعْدَ حِصَارٍ، وَأَخَذَ
مَدِينَةَ بَعْلَبَكَّ وَكَانَ بِهَا الضَّحَّاكُ الْبِقَاعِيُّ، وَقَدْ قِيلَ:
إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةِ خَمْسِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا مَرِضَ نُورُ الدِّينِ فَمَرِضَ الشَّامُ بِمَرَضِهِ ثُمَّ عُوفِيَ
فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَاسْتَوْلَى أَخُوهُ قُطْبُ
الدِّينِ مَوْدُودٌ عَلَى جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ.
وَفِيهَا عَمِلَ الْخَلِيفَةُ بَابًا لِلْكَعْبَةِ مُصَفَّحًا بِالذَّهَبِ،
وَأَخَذَ بَابَهَا الْأَوَّلَ فَجَعْلَهُ لِنَفْسِهِ تَابُوتًا. وَفِيهَا
أَغَارَتِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ عَلَى حُجَّاجِ خُرَاسَانَ فَلَمْ يُبْقُوا
مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ لَا زَاهِدٍ وَلَا عَالِمٍ. وَفِيهَا كَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ
بِخُرَاسَانَ حَتَّى أَكَلُوا الْحَشَرَاتِ، وَذَبَحَ إِنْسَانٌ رَجُلًا
عَلَوِيًّا فَطَبَخَهُ وَبَاعَهُ فِي السُّوقِ، فَحِينَ ظَهَرَ عَلَيْهِ قُتِلَ.
وَذَكَرَ أَبُو شَامَةَ أَنَّ فَتْحَ بَانِيَاسَ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى
يَدِ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ كَانَ مُعِينُ الدِّينِ
سَلَّمَهَا إِلَى الْفِرِنْجِ صُلْحًا عَنْ دِمَشْقَ فَعَوَّضَهُمْ بِهَا،
وَقَتَلَ مَلِكِهَا وَغَنِمَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَفِيهَا
قَدِمَ الشَّيْخُ أَبُو الْوَقْتِ عَبْدُ الْأَوَّلِ بْنُ عِيسَى بْنِ شُعَيْبٍ
السِّجْزِيُّ، فَسُمِّعَ عَلَيْهِ " الْبُخَارِيُّ " فِي دَارِ
الْوَزِيرِ بِبَغْدَادَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ قَايْمَازُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، أَبُو اللَّيْثِ النَّسَفِيُّ، مِنْ أَهْلِ
سَمَرْقَنْدَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ وَوَعَظَ، وَكَانَ حَسَنَ السَّمْتِ،
قَدِمَ
بَغْدَادَ فَوَعَظَ،
ثُمَّ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ فَقَتَلَهُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
أَحْمَدُ بْنُ بَخْتِيَارَ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو الْعَبَّاسِ، الْمَنْدَائِيُّ الْوَاسِطِيُّ
قَاضِيهَا، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ بِالْأَدَبِ
وَاللُّغَةِ، وَصَنَّفَ كُتُبًا فِي التَّارِيخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ ثِقَةً
صَدُوقًا، تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالنِّظَامِيَّةِ.
السُّلْطَانُ سَنْجَرُ
ابْنُ مَلِكْشَاهْ بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ مِيكَائِيلَ بْنِ
سَلْجُوقَ، أَبُو الْحَارِثِ ; وَاسْمُهُ أَحْمَدُ، وَلُقِّبَ بِسَنْجَرَ،
مَوْلِدُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَقَامَ
فِي الْمُلْكِ نَيِّفًا وَسِتِّينَ سَنَةً ; مِنْ ذَلِكَ اسْتِقْلَالًا إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ
سَنَةً، وَقَدْ أَسَرَهُ الْغُزُّ نَحْوًا مِنْ خَمْسِ سِنِينَ، ثُمَّ هَرَبَ
مِنْهُمْ فَعَادَ إِلَى مُلْكِهِ بِمَرْوَ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ فِي قُبَّةٍ بَنَاهَا سَمَّاهَا: دَارَ
الْآخِرَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّطِيفِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَبُو بَكْرٍ الْخُجَنْدِيُّ الْفَقِيهُ
الشَّافِعِيُّ، وَلِيَ تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ يُنَاظِرُ
حَسَنًا وَيَعِظُ النَّاسَ وَحَوْلَهُ السُّيُوفُ مُسَلَّلَةٌ. قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: وَلَمْ يَكُنْ مَاهِرًا فِي الْوَعْظِ، حَالُهُ أَشْبَهُ
بِالْوُزَرَاءِ مِنَ
الْعُلَمَاءِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ السَّلَاطِينَ حَتَّى كَانُوا يُصْدِرُونَ عَنْ
رَأْيِهِ، تُوُفِّيَ بِأَصْبَهَانَ فَجْأَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَلِّ، أَبُو الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْبَقَاءِ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ، وَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّاشِيِّ، وَدَرَّسَ وَأَفْتَى، وَتُوُفِّيَ فِي
مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَتُوُفِّيَ أَخُوهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحُسَيْنِ
بْنُ الْخَلِّ الشَّاعِرُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا.
يَحْيَى بْنُ عِيسَى
بْنُ إِدْرِيسَ، أَبُو الْبَرَكَاتِ الْأَنْبَارِيُّ الْوَاعِظُ، قَرَأَ
الْقُرْآنَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَتَفَقَّهَ وَوَعَظَ النَّاسَ عَلَى طَرِيقَةِ
الصَّالِحِينَ، وَكَانَ يَبْكِي مِنْ أَوَّلِ صُعُودِهِ إِلَى حِينِ نُزُولِهِ،
وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا وَرِعًا آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ نَاهِيًا عَنِ
الْمُنْكَرِ، وَرُزِقَ أَوْلَادًا صَالِحِينَ سَمَّاهُمْ بِأَسْمَاءِ الْخُلَفَاءِ
الْأَرْبَعَةِ ; أَبُو بَكْرٍ، وَعُمْرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَحَفَّظَهُمُ
الْقُرْآنَ كُلَّهُمْ، وَخَتَّمَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ
يَصُومَانِ الدَّهْرَ، وَيَقُومَانِ اللَّيْلَ، وَلَا يُفْطِرَانِ إِلَّا بَعْدَ
الْعَشَاءِ، وَكَانَتْ لَهُ كَرَامَاتٌ وَمَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ. وَلَمَّا مَاتَ
قَالَتْ زَوْجَتُهُ: اللَّهُمَّ لَا تُحْيِنِي بَعْدَهُ. فَمَاتَتْ بَعْدَهُ
بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَتْ مِنَ الصَّالِحَاتِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ
تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَثُرَ فَسَادُ التُّرْكُمَانِ مِنْ أَصْحَابِ بُرْجُمَ الْإِيوَائِيِّ،
فَجُهِّزَ إِلَيْهِمْ مَنْكُورُسُ الْمُسْتَرْشِدِيُّ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ،
فَالْتَقَوْا مَعَهُمْ فَهَزَمَهُمْ أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَجَاءُوا بِالْأُسَارَى
وَالرُّءُوسِ إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْغُزِّ وَبَيْنَ الْمَلِكِ
مَحْمُودٍ، فَكَسَرُوهُ وَقَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ خَلْقًا
كَثِيرًا وَنَهَبُوا الْبِلَادَ، وَأَقَامُوا بِمَرْوَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ طَلَبُوهُ
إِلَيْهِمْ فَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَرْسَلَ وَلَدَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ
فَأَكْرَمُوهُ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِمْ فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَعَظَّمُوهُ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ بِمَرْوَ بَيْنَ فَقِيهِ الشَّافِعِيَّةِ
الْمُؤَيَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَبَيْنَ نَقِيبِ الْعَلَوِيِّينَ بِهَا أَبِي
الْقَاسِمِ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ،
وَاحْتَرَقَتِ الْمَسَاجِدُ وَالْمَدَارِسُ وَالْأَسْوَاقُ، وَانْهَزَمَ
الْمُؤَيَّدُ الشَّافِعِيُّ إِلَى بَعْضِ الْقِلَاعِ.
وَفِيهَا وُلِدَ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ
الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَفِيهَا خَرَجَ الْمُقْتَفِي نَحْوَ
الْأَنْبَارِ مُتَصَيِّدًا وَعَبَرَ الْفُرَاتَ وَزَارَ الْحُسَيْنَ، وَمَضَى
إِلَى وَاسِطٍ وَعَادَ إِلَى بَغْدَادَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْوَزِيرُ.
وَفِيهَا كَسَرَ جَيْشُ مِصْرَ الْفِرِنْجَ بِأَرْضِ عَسْقَلَانَ كَسْرَةً
فَظِيعَةً صُحْبَةَ الْمَلِكِ
الصَّالِحِ أَبِي
الْغَارَاتِ، فَارِسِ الدِّينِ طَلَائِعِ بْنِ رُزِّيكَ وَامْتَدَحَهُ
الشُّعَرَاءُ.
وَفِيهَا قَدِمَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ مِنْ حَلَبَ إِلَى دِمَشْقَ وَقَدْ
شُفِيَ مِنَ الْمَرَضِ فَفَرِحَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَخَرَجَ إِلَى قِتَالِ
الْفِرِنْجِ، فَانْهَزَمَ جَيْشُهُ، فَبَقِيَ هُوَ وَشِرْذِمَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ
فِي لُجَّةِ الْعَدُوِّ، فَرَمَوْهُمْ بِالسِّهَامِ الْكَثِيرَةِ، ثُمَّ خَافُوا
أَنْ يَكُونَ وُقُوفُهُ فِي هَذِهِ الشِّرْذِمَةِ الْقَلِيلَةِ، خَدِيعَةً
لِمَجِيءِ كَمِينٍ إِلَيْهِمْ، فَفَرُّوا مُنْهَزِمِينَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا قَايْمَازُ الْأُرْجُوَانِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ الْأَوَّلِ بْنُ عِيسَى
بْنِ شُعَيْبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ، أَبُو الْوَقْتِ السِّجْزِيُّ
الصُّوفِيُّ الْهَرَوِيُّ، رَاوِي " الْبُخَارِيِّ " وَ " مُسْنَدِ
الدَّارِمِيِّ "، وَ " الْمُنْتَخِبِ مِنْ مُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ
حُمَيْدٍ "، قَدِمَ بَغْدَادَ فَسَمِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ هَذِهِ الْكُتُبَ،
وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْمَشَايِخِ وَأَحْسَنِهِمْ سَمْتًا، وَأَصْبَرِهِمْ عَلَى
قِرَاءَةِ الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ التَّكْرِيتِيُّ الصُّوفِيُّ، قَالَ:
أَسْنَدْتُهُ إِلَيَّ فَمَاتَ، فَكَانَ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ يَا لَيْتَ
قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [
يس: 26: 27 ]
نَصْرُ بْنُ مَنْصُورِ
بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ الْعَطَّارُ، أَبُو
الْقَاسِمِ الْحَرَّانِيُّ، كَانَ كَثِيرَ الْمَالِ، يَعْمَلُ مِنْ صَدَقَاتِهِ
الْمَعْرُوفَ الْكَثِيرَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ
الْحَسَنَةِ، وَيُكْثِرُ
تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ، وَيُحَافِظُ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَةِ،
وَرُوِيَتْ لَهُ مَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ، وَقَارَبَ الثَّمَانِينَ.
يَحْيَى بْنُ سَلَامَةَ
بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ، أَبُو الْفَضْلِ الشَّافِعِيُّ، الْحَصْكَفِيُّ
; نِسْبَةً إِلَى حِصْنِ كَيْفَا كَانَ إِمَامًا فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِنَ
الْفِقْهِ وَالْأَدَبِ، نَاظِمًا نَاثِرًا، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُنْسَبُ إِلَى
الْغُلُوِّ فِي التَّشَيُّعِ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قِطْعَةً
مِنْ نَظْمِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي جُمْلَةِ قَصِيدَةٍ لَهُ
تَقَاسَمُوا يَوْمَ الْوَدَاعِ كَبِدِي فَلَيْسَ لِي مُنْذُ تَوَلَّوْا كَبِدُ
عَلَى الْجُفُونِ رَحَلُوا وَفِي الْحَشَا
تَقَيَّلُوا وَمَاءَ عَيْنِي وَرَدُوا فَأَدْمُعِي مَسْفُوحَةٌ وَكَبِدِي
مَقْرُوحَةٌ وِغُلَّتُي لَا تَبْرُدُ وَصَبْوَتِي دَائِمُةٌ وَمُقْلَتِي
دَامِيَةٌ وَنَوْمُهَا مُشَرَّدُ تَيَّمَنِي مِنْهُمْ غَزَالٌ أَغْيَدُ
يَا حَبَّذَا ذَاكَ الْغَزَالُ الْأَغْيَدُ حُسَامُهُ مُجَرَّدٌ وَصَرْحُهُ
مُمَرَّدٌ وَخَدُّهُ مُوَرَّدُ وَصُدْغُهُ فَوْقَ احْمِرَارِ خَدِّهِ
مُبَلْبَلٌ مُعَقْرَبٌ مُجَعَّدُ كَأَنَّمَا نَكْهَتُهُ وَرِيقُهُ
مِسْكٌ وَخَمْرٌ وَالثَّنَايَا بَرَدُ يُقْعِدُهُ عِنْدَ الْقِيَامِ رِدْفُهُ
وَفِي الْحَشَا مِنْهُ الْمُقِيمُ الْمُقْعِدُ لَهُ قِوَامٌ كَقَضِيبِ بَانَةٍ
يَهْتَزُّ قَصْدًا لَيْسَ فِيهِ أَوَدُ
وَهِيَ طَوِيلَةٌ جِدًّا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ هَذَا التَّغَزُّلِ إِلَى مَدْحِ
أَهْلِ الْبَيْتِ وَالْأَئِمَّةِ
الِاثْنَيْ عَشْرَ،
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَنَفَعَنَا بِهِمْ، حَيْثُ يَقُولُ:
وَسَائِلِي عَنْ حُبِّ أَهْلِ الْبَيْتِ هَلْ أُقِرُّ إِعْلَانًا بِهِ أَمْ
أَجْحَدُ
هَيْهَاتَ مَمْزُوجٌ بِلَحْمِي وَدَمِي حُبُّهُمْ وَهْوَ الْهُدَى وَالرَّشَدُ
حَيْدَرَةُ وَالْحَسَنَانِ بَعْدَهُ ثُمَّ عَلِيٌّ وَابْنُهُ مُحَمَّدُ
وَجَعْفَرُ الصَّادِقُ وَابْنُ جَعْفَرٍ مُوسَى وَيَتْلُوهُ عَلِيُّ السَّيِّدُ
أَعْنِي الرِّضَا ثُمَّ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ ثُمَّ عَلِيٌّ وَابْنُهُ الْمُسَدَّدُ
وَالْحَسَنُ التَّالِي وَيَتْلُو تِلْوَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمُفْتَقَدُ
فَإِنَّهُمْ أَئِمَّتِي وَسَادَتِي وَإِنْ لَحَانِي مَعْشَرٌ وَفَنَّدُوا
أَئِمَّةٌ أَكْرِمْ بِهِمْ أَئِمَّةً أَسْمَاؤُهُمْ مَسْرُودَةٌ تَطَّرِدُ
هُمْ حُجَجُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَهُمْ إِلَيْهِ مَنْهَجٌ وَمَقْصِدُ
قَوْمٌ لَهُمْ فَضْلٌ وَمَجْدٌ بَاذِخٌ يَعْرِفُهُ الْمُشْرِكُ وَالْمُوَحِّدُ
قَوْمٌ لَهُمْ فِي كُلِّ أَرْضٍ مَشْهَدُ لَا بَلْ لَهُمْ فِي كُلِّ قَلْبٍ
مَشْهَدُ
قَوْمٌ مِنًى وَالْمَشْعَرَانِ لَهُمْ وَالْمَرْوَتَانِ لَهُمْ وَالْمَسْجِدُ
قَوْمٌ لَهُمْ مَكَّةُ وَالْأَبْطَحُ وَالْ خَيْفُ وَجَمْعٌ وَالْبَقِيعُ
الْغَرْقَدُ
ثُمَّ ذَكَرَ مَقْتَلَ الْحُسَيْنِ بِالطَّفِّ إِلَى أَنْ قَالَ:
يَا أَهْلَ بَيْتِ الْمُصْطَفَى يَا عِدَّتِي وَمَنْ عَلَى حُبِّهِمْ أَعْتَمِدُ
أَنْتُمْ إِلَى اللَّهِ غَدًا وَسِيْلَتِي وَكَيْفَ أَخْشَى وَبِكُمْ أَعْتَضِدُ
وَلِيُّكُمْ فِي الْخُلْدِ حَيٌّ خَالِدُ وَالضِّدُّ فِي نَارٍ لَظًى مُخَلَّدُ
وَلَسْتُ أَهْوَاكُمْ
بِبُغْضِ غَيْرِكُمْ إِنِّي إِذًا أَشْقَى بِكُمْ لَا أَسْعَدُ
فَلَا يَظُنُّ رَافِضِيُّ أَنَّنِي وَافَقْتُهُ أَوْ خَارِجِيٌّ مُفْسِدُ
مُحَمَّدٌ وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ أَفْضَلُ خَلْقِ اللَّهِ فِيمَا أَجِدُ
هُمْ أَسَّسُوا قَوَاعِدَ الدِّينِ لَنَا وَهُمْ بَنَوا أَرْكَانَهُ وَشَيَّدوُا
وَمَنْ يَخُنْ أَحْمَدَ فِي أَصْحَابِهِ فَخَصْمُهُ يَوْمَ الْمَعَادِ أَحْمَدُ
هَذَا اعْتِقَادِي فَالْزَمُوهُ تَفْلَحُوا هَذَا طَرِيقِي فَاسْلُكُوهُ
تَهْتَدُوا
وَالشَّافِعِيُّ مَذْهَبِي مَذْهَبُهُ لِأَنَّهُ فِي قَوْلِهِ مُؤَيَّدُ
أَتْبَعُهُ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مَعًا فَلْيَتَّبِعْنِي الطَّالِبُ
الْمُسْتَرْشِدُ
إِنِّي بِإِذْنِ اللَّهِ نَاجٍ سَابِقُ إِذَا وَنَى الظَّالِمُ وَالْمُقْتَصِدُ
وَلَهُ أَيْضًا:
إِذَا قَلَّ مَالِي لَمْ تَجِدْنِيَ ضَارِعًا كَثِيرَ الْأَسَى مُغْرًى بِعَضِّ
الْأَنَامِلِ
وَلَا بَطِرًا إِنْ جَدَّدَ اللَّهُ نِعْمَةً وَلَوْ أَنَّ مَا أُوتِي جَمِيعُ
الْأَنَامِ لِي
تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
بِمَيَّافَارِقِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا مَرِضَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي مَرَضًا شَدِيدًا، ثُمَّ عُوفِيَ مِنْهُ
فَزُيِّنَتْ لَهُ بَغْدَادُ أَيَّامًا، وَتَصَدَّقَ بِصَدَقَاتٍ عَظِيمَةٍ
كَثِيرَةٍ. وَفِيهَا اسْتَعَادَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ مَدِينَةَ الْمَهْدِيَّةِ مِنْ
أَيْدِي الْفِرِنْجِ، وَقَدْ كَانُوا أَخَذُوهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي سَنَةِ
ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ، وَقَاتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ حَتَّى
صَارَتْ عِظَامُ الْقَتْلَى هُنَاكَ كَالتَّلِّ الْعَظِيمِ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي صَفَرٍ سَقَطَ بَرَدٌ بِالْعِرَاقِ كِبَارٌ، زِنَةُ الْبَرَدَةِ قَرِيبٌ
مِنْ خَمْسَةِ أَرْطَالٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ تِسْعَةُ أَرْطَالٍ
بِالْبَغْدَادِيِّ، فَهَلَكَ بِذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْغَلَّاتِ، وَخَرَجَ
الْخَلِيفَةُ إِلَى وَاسِطٍ فَاجْتَازَ بِسُوقِهَا وَرَأَى جَامِعَهَا، وَسَقَطَ
عَنْ فَرَسِهِ فَشُجَّ جَبِينُهُ، ثُمَّ عُوفِيَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً، فَغَرِقَتْ
بِسَبَبِ ذَلِكَ مَحَالُّ كَثِيرَةٌ مِنْ بَغْدَادَ حَتَّى صَارَ أَكْثَرُ
الدُّورِ بِهَا تُلُولًا، وَغَرِقَتْ تُرْبَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَتَخَسَّفَتْ
هُنَالِكَ الْقُبُورُ، وَطَفَتِ الْمَوْتَى عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، قَالَهُ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَثُرَ الْمَرَضُ وَالْمَوْتُ، وَفِيهَا أَقْبَلَ مَلِكُ
الرُّومِ فِي جَحَافِلَ قَاصِدًا بِلَادَ الشَّامِ فَرَدَّهُ اللَّهُ خَائِبًا
خَاسِرًا ; وَذَلِكَ لِضِيقِ حَالِهِمْ مِنَ الْمِيرَةِ، وَأَسَرَ
الْمُسْلِمُونَ ابْنَ
أُخْتِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ قَايْمَازُ الْأُرْجُوَانِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مَعَالِيِّ
بْنِ بَرَكَةَ الْحَرْبِيُّ، تَفَقَّهَ بِأَبِي الْخَطَّابِ الْكَلْوَذَانِيِّ،
وَبَرَعَ فِي النَّظَرِ، وَدَرَسَ وَأَفْتَى، ثُمَّ صَارَ شَافِعِيًّا، ثُمَّ
عَادَ حَنْبَلِيًّا، وَوَعَظَ بِبَغْدَادَ، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ;
دَخَلَتْ بِهِ دَابَّتُهُ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ، فَدَخَلَ قَرَبُوسُ سَرْجِهِ فِي
صَدْرِهِ.
السُّلْطَانُ مُحَمَّدُ شَاهْ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ،
بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ
لَمَّا رَجَعَ مِنْ مُحَاصَرَةِ بَغْدَادَ إِلَى هَمَذَانَ أَصَابَهُ مَرَضُ
السُّلِّ، فَلَمْ يُنْجَعْ مِنْهُ، بَلْ تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَبْلَ وَفَاتِهِ بِأَيَّامٍ أَمَرَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ جَمِيعُ
مَا يَمْلِكُهُ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَنْظَرَةِ، فَرَكِبَ
الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ وَأُحْضِرَتْ أَمْوَالُهُ كُلُّهَا، وَمَمَالِيكُهُ حَتَّى
جَوَارِيِهِ وَحَظَايَاهُ، فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ: هَذِهِ الْعَسَاكِرُ لَا
يَدْفَعُونَ عَنِّي مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلَا يَزِيدُونَ فِي عُمْرِي لَحْظَةً،
ثُمَّ تَأَسَّفَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَفِي،
وَأَهْلِ بَغْدَادَ وَحِصَارِهِمْ وَأَذِيَّتِهِمْ،
ثُمَّ فَرَّقَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ تِلْكَ الْحَوَاصِلِ وَالْأَمْوَالِ، وَتُوُفِّيَ عَنْ وَلَدٍ صَغِيرٍ، وَاجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ وَالْأُمَرَاءُ عَلَى عَمِّهِ سُلَيْمَانَ شَاهْ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ وَكَانَ مَسْجُونًا بِالْمَوْصِلِ فَأُفْرِجَ عَنْهُ، وَانْعَقَدَتِ السَّلْطَنَةُ لَهُ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ، سِوَى بَغْدَادَ وَالْعِرَاقِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ
وَأُمُّهُ نُسَيْمُ، الْمَدْعُوَّةُ: سِتَّ السَّادَةِ، سَمْرَاءُ مِنْ خِيَارِ
الْجَوَارِي، مَرِضَ بِالتَّرَاقِي، وَقِيلَ: بِدُمَّلٍ خَرَجَ فِي حَلْقِهِ.
فَمَاتَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ ثَانِيَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
عَنْ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً، إِلَّا ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَتْ
خِلَافَتُهُ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ
يَوْمًا، وَدُفِنَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى التُّرَبِ، وَقَدْ
كَانَ شَهْمًا شُجَاعًا مِقْدَامًا، يُبَاشِرُ الْأُمُورَ بِنَفْسِهِ، وَيُشَاهِدُ
الْحُرُوبَ وَيَبْذُلُ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ لِأَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ،
وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَبَدَّ بِالْعِرَاقِ مُنْفَرِدًا عَنِ السَّلَاطِينِ،
مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ الدَّيْلَمِ إِلَى أَيَّامِهِ، وَتَمَكَّنَ فِي
الْخِلَافَةِ وَحَكَمَ عَلَى الْعَسْكَرِ وَالْأُمَرَاءِ، وَقَدْ وَافَقَ أَبَاهُ
فِي أَشْيَاءَ ; مِنْ ذَلِكَ مَرَضُهُ بِالتَّرَاقِي، وَمَوْتُهُ فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَتَقَدَّمَ مَوْتُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ شَاهْ قَبْلَهُ
بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَظْهِرُ مَاتَ قَبْلَهُ مُحَمَّدٌ
بِثَلَاثَةٍ، وَبَعْدَ غَرَقِ بَغْدَادَ بِسَنَةٍ مَاتَ الْقَائِمُ، وَكَذَلِكَ
هَذَا. قَالَ عَفِيفٌ النَّاسِخُ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ قَائِلًا
يَقُولُ: إِذَا
اجْتَمَعَتْ ثَلَاثُ خَاءَاتٍ مَاتَ الْمُقْتَفِي. يَعْنِي: خَمْسًا وَخَمْسِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ.
خِلَافَةُ الْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ، أَبِي الْمُظَفَّرِ يُوسُفَ بْنِ
الْمُقْتَفِي
لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ، كَمَا ذَكَرْنَا، بُويِعَ لَهُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ
الْأَحَدِ ثَانِيَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، بَايَعَهُ أَشْرَافُ
بَنِي الْعَبَّاسِ، ثُمَّ الْوَزِيرُ وَالْقُضَاةُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ
وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا،
وَكَانَ وَلِيَّ عَهْدِ أَبِيهِ مِنْ مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ، ثُمَّ عَمِلَ عَزَاءَ
أَبِيهِ، وَلَمَّا خُطِبَ لَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ نُثِرَتِ الدَّرَاهِمُ
وَالدَّنَانِيرُ عَلَى النَّاسِ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ بَعْدَ أَبِيهِ،
وَأَقَرَّ الْوَزِيرَ ابْنَ هُبَيْرَةَ عَلَى مَنْصِبِهِ وَوَعَدَهُ بِذَلِكَ
إِلَى الْمَمَاتِ، وَعَزَلَ قَاضِيَ الْقُضَاةِ ابْنَ الدَّامَغَانِيِّ، وَوَلَّى
مَكَانَهُ أَبَا جَعْفَرٍ عَبْدَ الْوَاحِدِ الثَّقَفِيَّ، وَكَانَ شَيْخًا
كَبِيرًا، لَهُ سَمَاعٌ بِالْحَدِيثِ، وَبَاشَرَ الْحُكْمَ بِالْكُوفَةِ مُدَّةً،
فَتُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَوَلِيَ مَكَانَهُ
ابْنُهُ جَعْفَرٌ.
وَفِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اتَّفَقَ الْأَتْرَاكُ بِبَابِ هَمَذَانَ
عَلَى خَلْعِ سُلَيْمَانَ شَاهْ، وَخَطَبُوا لَأَرْسَلَانَ بْنِ طُغْرُلَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
الْفَائِزُ بِنَصْرِ اللَّهِ الْفَاطِمِيُّ
صَاحِبُ مِصْرَ، وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ عِيسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ الظَّافِرُ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي صَفَرٍ وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ إِحْدَى عَشْرَةَ
سَنَةً، وَمُدَّةُ
وِلَايَتِهِ مِنْ ذَلِكَ سِتُّ سِنِينَ وَشَهْرَانِ، وَكَانَ مُدَبِّرَ دَوْلَتِهِ
أَبُو الْغَارَاتِ، ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ الْعَاضِدُ آخِرُ خُلَفَائِهِمْ، وَهُوَ
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ الْحَافِظِ، وَلَمْ يَكُنْ
أَبُوهُ خَلِيفَةً، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزَ الِاحْتِلَامَ، فَقَامَ
بِتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ الْمَلِكُ الصَّالِحُ طَلَائِعُ بْنُ رُزِّيكَ
الْوَزِيرُ، أَخَذَ لَهُ الْبَيْعَةَ وَزَوَّجَهُ بِابْنَتِهِ، وَجَهَّزَهَا
بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ عُمِّرَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا الْعَاضِدِ، وَرَأَتْ
زَوَالَ دَوْلَةِ الْفَاطِمِيِّينَ عَلَى يَدِ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ
بْنِ أَيُّوبَ بْنِ شَاذِيٍّ، فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، كَمَا سَيَأْتِي
مُفَصَّلًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ السُّلْطَانِ الْكَبِيرِ صَاحِبِ غَزْنَةَ
خُسْرُوشَاهْ بْنُ بَهْرَامْ شَاهْ
بْنِ مَسْعُودِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ
سُبُكْتُكِينَ، مِنْ بَيْتِ مُلْكٍ وَرِيَاسَةٍ بَاذِخَةٍ، يَرِثُونَهَا كَابِرًا
عَنْ كَابِرٍ، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُلُوكِ وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً، يُحِبُّ
الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ مَلِكْشَاهْ، فَسَارَ إِلَيْهِ عَلَاءُ الدِّينِ
الْحُسَيْنُ مَلِكُ الْغُورِ فَحَاصَرَ غَزْنَةَ مُدَّةً فَلَمْ يَقْدِرْ
عَلَيْهَا، فَرَجَعَ خَائِبًا.
وَفِيهَا مَاتَ مَلِكْشَاهْ بْنُ السُّلْطَانِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
مَلِكْشَاهْ
بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ السَّلْجُوقِيُّ، بِأَصْبَهَانَ مَسْمُومًا، يُقَالُ: إِنَّ
الْوَزِيرَ عَوْنَ الدِّينِ بْنَ هُبَيْرَةَ دَسَّ إِلَيْهِ مَنْ سَقَاهُ
إِيَّاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهَا مَاتَ
أَمِيرُ الْحَاجِّ
قَايِمَازُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُرْجُوَانِيُّ
سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ وَهُوَ يَلْعَبُ بِالْكُرَةِ بِمَيْدَانِ الْخَلِيفَةِ،
فَسَالَ دِمَاغُهُ مِنْ أُذُنِهِ، فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَقَدْ كَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ، فَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَحَضَرَ
جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. مَاتَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِيهَا الْأَمِيرُ أَرَغَشُ مُقْطَعُ الْكُوفَةِ. وَحَجَّ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ شِيرَكُوهْ بْنُ شَاذِيٍّ، مُقَدَّمُ عَسَاكِرِ
الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ بْنِ زَنْكِيٍّ، وَتَصَدَّقَ بِأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ.
وَفِيهَا اسْتَعْفَى الْقَاضِي زَكِيُّ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْقُرَشِيُّ مِنَ الْقَضَاءِ بِدِمَشْقَ، فَأَعْفَاهُ
الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ، وَوَلَّى مَكَانَهُ الْقَاضِي كَمَالَ الدَّيْنِ
مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الشَّهْرُزُورِيَّ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ
وَأَكْثَرِهِمْ صَدَقَةً، وَلَهُ صَدَقَاتٌ جَارِيَةٌ بَعْدَهُ، وَكَانَ عَالِمًا،
بَارِعًا، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ الشُّبَّاكُ الْكَمَالِيُّ الَّذِي يَجْلِسُ فِيهِ
الْحُكَّامُ فِي الْجَامِعِ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْأَمِيرُ مُجَاهِدُ الدِّينِ
بُزَّانُ بْنُ مَامِينَ الْكُرْدِيُّ، أَحَدُ مُقَدَّمِي جَيْشِ الشَّامِ قَبْلَ
الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ وَبَعْدَهُ، وَقَدْ نَابَ فِي مَدِينَةِ صَرْخَدَ
مُدَّةً، وَكَانَ شَهْمًا، شُجَاعًا، كَثِيرَ الْبِرِّ وَالصَّدَقَاتِ
وَالصِّلَاتِ، وَهُوَ وَاقِفُ الْمُدَرِّسَةِ الْمُجَاهِدِيَّةِ بِالْقُرْبِ مِنَ
النُّورِيَّةِ، وَلَهُ الْمَدْرَسَةُ الْمُجَاهِدِيَّةُ الَّتِي دَاخِلَ بَابِ
الْفَرَادِيسِ الْبَرَّانِيِّ، وَبِهَا
قَبْرُهُ، وَلَهُ
السَّبْعُ الْمُجَاهِدِيُّ دَاخِلَ بَابِ الزِّيَادَةِ مِنَ الْجَامِعِ
بِمَقْصُورَةِ الْخَضِرِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدَارِهِ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، فَحُمِلَ إِلَى الْجَامِعِ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أُعِيدَ إِلَى
مَدْرَسَتِهِ، وَدُفِنَ بِهَا دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ
عَلَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ عَدِيُّ بْنُ مُسَافِرِ
بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُوسَى بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مَرْوَانَ
الْهَكَّارِيُّ، شَيْخُ الطَّائِفَةِ الْعَدَوِيَّةِ، أَصْلُهُ مِنَ الْبِقَاعِ
غَرْبِيَّ دِمَشْقَ مِنْ قَرْيَةِ بَيْتِ فَارٍ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ
فَاجْتَمَعَ فِيهَا بِالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ، وَالشَّيْخِ حَمَّادٍ
الدَّبَّاسِ، وَالشَّيْخِ عَقِيلٍ الْمَنْبِجِيِّ، وَأَبِي الْوَفَاءِ
الْحُلْوَانِيِّ، وَأَبِي النَّجِيبِ السُّهْرَوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ
انْفَرَدَ عَنِ النَّاسِ وَتَخَلَّى بِجَبَلِ الْهَكَّارِيَّةِ وَبَنَى لَهُ
هُنَالِكَ زَاوِيَةً، وَاعْتَقَدَ فِيهِ أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ اعْتِقَادًا
بَلِيغًا، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَغْلُو فِيهِ غُلُوًّا كَبِيرًا مُنْكَرًا.
ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِزَاوِيَتِهِ وَلَهُ سَبْعُونَ
سَنَةً.
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ، أَبُو جَعْفَرٍ الثَّقَفِيُّ، قَاضِي قُضَاةِ
بَغْدَادَ وَلِيَهَا بَعْدَ أَبِي الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيِّ فِي أَوَّلِ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَدْ كَانَ قَاضِيًا بِالْكُوفَةِ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ
نَاهَزَ الثَّمَانِينَ،
وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ جَعْفَرٌ.
الْفَائِزُ صَاحِبُ مِصْرَ، تَقَدَّمَ فِي الْحَوَادِثِ.
قَايِمَازُ الْأُرْجُوَانِيُّ، تَقَدَّمَ أَيْضًا.
الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ
أَحْمَدَ الْمُسْتَظْهِرُ، تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ عِنْدَ وَفَاتِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى
بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْدِيُّ، وُلِدَ
بِمَدِينَةِ زُبَيْدٍ بِالْيَمَنِ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَقِدَمَ بَغْدَادَ سَنَةَ
تِسْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَوَعَظَ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالنَّحْوِ
وَالْأَدَبِ، وَكَانَ صَبُورًا عَلَى الْفَقْرِ لَا يَشْكُو حَالَهُ إِلَى أَحَدٍ
وَكَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ صَالِحَةٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا قُتِلَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ شَاهْ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ
وَكَانَ عِنْدَهُ تَهَوُّرٌ وَقِلَّةُ مُبَالَاةٍ بِالدِّينِ، يُدْمِنُ شُرْبَ
الْخَمْرِ حَتَّى فِي رَمَضَانَ، فَثَارَ عَلَيْهِ مُدَبِّرُ مَمْلَكَتِهِ
كُرْدَبَازُو الْخَادِمُ فَقَتَلَهُ، وَبَايَعَ بَعْدَهُ السُّلْطَانَ أَرْسَلَانَ
شَاهْ بْنَ طُغْرُلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ.
وَفِيهَا قُتِلَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ فَارِسُ الدِّينِ أَبُو الْغَارَاتِ
طَلَائِعُ بْنُ رُزِّيكَ الْأَرْمَنِيُّ، وَزِيرُ الْعَاضِدِ صَاحِبِ مِصْرَ،
وَوَالِدِ زَوْجَتِهِ، وَكَانَ قَدْ حَجَرَ عَلَى الْعَاضِدِ لِصِغَرِهِ
وَاسْتَحْوَذَ عَلَى الْأُمُورِ، فَقَتَلَتْهُ الْحَاشِيَةُ، وَوَزَرَ بَعْدَهُ
وَلَدُهُرُزِّيكُ، وَلُقِّبَ بِالْعَادِلِ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ الصَّالِحُ
كَرِيمًا أَدِيبًا، يُحِبُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، كَانَ مِنْ
خِيَارِ الْمُلُوكِ وَالْوُزَرَاءِ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الشُّعَرَاءِ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ أَوَّلًا مُتَوَلِّيًا بِمُنْيَةِ بَنِي خَصِيبٍ،
ثُمَّ آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ وَزَرَ لِلْفَائِزِ، وَذَهَبَتْ لَهُ
وِزَارَةُ عَبَّاسٍ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ لَمَّا هَلَكَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ قَامَ فِي الْوِزَارَةِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ الْعَادِلُ رُزِّيكُ
بْنُ طَلَائِعَ فَلَمْ يَزَلْ
فِيهَا حَتَّى
انْتَزَعَهَا شَاوَرُ، كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ: وَالصَّالِحُ هَذَا هُوَ بَانِي
الْجَامِعِ عِنْدَ بَابِ زُوَيْلَةَ ظَاهِرَ الْقَاهِرَةِ. قَالَ: وَمِنَ
الْعَجَائِبِ أَنَّهُ وَلِيَ الْوِزَارَةَ فِي تَاسِعَ عَشَرَ شَهْرٍ، وَقُتِلَ
مِنْ تَاسِعَ عَشَرَ شَهْرٍ، وَنُقِلَ مِنْ دَارِ الْوِزَارَةِ إِلَى الْقَرَافَةِ
فِي تَاسِعَ عَشَرَ شَهْرٍ آخَرَ، وَزَالَتْ دَوْلَتُهُمْ فِي تَاسِعَ عَشَرَ
شَهْرٍ آخَرَ. قَالَ: وَمِنْ شِعْرِهِ مَا رَوَاهُ عَنْهُ الْوَاعِظُ زَيْنُ
الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ نَجَا الْحَنْبَلِيُّ، وَهُوَ قَوْلُهُ
مَشِيبُكَ قَدْ نَضَا صِبْغَ الشَّبَابِ وَحَلَّ الْبَازُ فِي وَكْرِ الْغُرَابِ
تَنَامُ وَمُقْلَةُ الْحَدَثَانِ يَقْظَى
وَمَا نَابَ النَّوَائِبَ عَنْكَ نَابِ وَكَيْفَ بَقَاءُ عُمْرِكَ وَهْوَ كَنْزٌ
وَقَدْ أَنْفَقْتَ مِنْهُ بِلَا حِسَابِ
وَقَوْلُهُ:
كَمْ ذَا يُرِينَا الدَّهْرُ مِنْ أَحْدَاثِهِ عِبَرًا وَفِينَا الصَّدُّ
وَالْإِعْرَاضُ
نَنْسَى الْمَمَاتَ وَلَيْسَ يَجْرِي ذِكْرُهُ فِينَا فَتُذْكِرُنَا بِهِ
الْأَمْرَاضُ
وَمِنْ شِعْرِهِ الْجَيِّدِ أَيْضًا قَوْلُهُ:
أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَدُومَ لَنَا الدَّهْرُ وَيَخْدِمُنَا فِي مُلْكِنَا
الْعِزُّ وَالنَّصْرُ
عَلِمْنَا بِأَنَّ الْمَالَ تَفْنَى أُلُوفُهُ وَيَبْقَى لَنَا مِنْ بَعْدِهِ
الْأَجْرُ وَالذِّكْرُ
خَلَطْنَا النَّدَى بِالْبَأْسِ حَتَّى كَأَنَّنَا سَحَابٌ لَدَيْهِ الْبَرْقُ
وَالرَّعْدُ وَالْقَطْرُ
وَلَهُ أَيْضًا، وَهُوَ مِمَّا نَظَمَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثِ لَيَالٍ:
نَحْنُ فِي غَفْلَةٍ
وَنَوْمٍ وَلِلْمَوْ تِ عُيُونٌ يَقْظَانَةٌ لَا تَنَامُ
قَدْ رَحَلْنَا إِلَى الْحِمَامِ سِنِينًا لَيْتَ شِعْرِي مَتَى يَكُونُ
الْحِمَامُ
ثُمَّ قَتَلَهُ غِلْمَانُ الْعَاضِدِ فِي النَّهَارِ غِيلَةً وَلَهُ إِحْدَى
وَسِتُّونَ سَنَةً، وَخَلَعَ عَلَى وَلَدِهِ الْعَادِلِ بِالْوِزَارَةِ، وَرَثَاهُ
عُمَارَةُ الْيَمَنِيُّ بِقَصَائِدَ حِسَانٍ، وَيَوْمَ نُقِلَ إِلَى تُرْبَتِهِ
بِالْقَرَافَةِ سَارَ الْعَاضِدُ مَعَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى قَبْرِهِ فِي
التَّابُوتِ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: فَعَمِلَ الْفَقِيهُ عُمَارَةُ فِي ذَلِكَ
قَصِيدَةً طَوِيلَةً أَجَادَ فِيهَا، فَمِنْ ذَلِكَ فِي صِفَةِ التَّابُوتِ
قَوْلُهُ:
وَكَأَنَّهُ تَابُوتُ مُوسى أُودِعَتْ فِي جَانِبَيْهِ سَكِينَةٌ وَوَقَارُ
وَفِيهَا أَوْقَعَتْ بَنُو خَفَاجَةَ بِأَهْلِ الْكُوفَةِ وَقْعَةً عَظِيمَةً،
فَقَتَلُوا خَلْقًا، مِنْهُمُ الْأَمِيرُ قَيْصَرُ وَجَرَحُوا أَمِيرَ الْحَاجِّ
أَرْغَشَ جِرَاحَاتٍ، فَنَهَضَ إِلَيْهِمْ وَزِيرُ الْخِلَافَةِ عَوْنُ الدِّينِ
بْنُ هُبَيْرَةَ فِي جَيْشٍ، فَتَبِعَهُمْ حَتَّى أَوْغَلَ فِي الْبَرِّيَّةِ،
فَبَعَثُوا يَطْلُبُونَ الْعَفْوَ.
وَفِيهَا وَلِيَ مَكَّةَ الشَّرِيفُ عِيسَى بْنُ قَاسِمِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ،
وَقِيلَ: قَاسِمُ بْنُ فُلَيْتَةَ بْنِ قَاسِمِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَنْجِدُ بِإِزَالَةِ الدَّكَاكِينِ الَّتِي
تُضَيِّقُ الطُّرُقَاتِ، وَأَنْ لَا يَجْلِسَ أَحَدٌ مِنَ الْبَاعَةِ فِي عَرْصَةِ
الطُّرُقَاتِ ; لِئَلَّا يَضُرَّ ذَلِكَ بِالْمَارَّةِ. وَفِيهَا وَقَعَ رُخْصٌ
عَظِيمٌ بِبَغْدَادَ جِدًّا.
وَفِيهَا فُتِحَتِ الْمَدْرَسَةُ الَّتِي بَنَاهَا ابْنُ الشَّمْحَلِ فِي
الْمَأْمُونِيَّةِ، وَدَرَّسَ فِيهَا أَبُو
حَكِيمٍ إِبْرَاهِيمُ
بْنُ دِينَارٍ النَّهْرَوَانِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وَقَدْ تُوُفِّيَ مِنْ آخِرِ
هَذِهِ السَّنَةِ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ فِيهَا أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ،
وَقَدْ كَانَ عِنْدَهُ مُعِيدًا، وَنَزَلَ لَهُ عَنْ تَدْرِيسٍ آخَرَ بِبَابِ
الْأَزَجِّ عِنْدَ مَوْتِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
حَمْزَةُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ طَلْحَةَ
أَبُو الْفُتُوحِ الْحَاجِبُ، كَانَ خِصِّيصًا عِنْدَ الْمُسْتَرْشِدِ
وَالْمُقْتَفِي أَيْضًا، وَقَدْ بَنَى مَدْرَسَةً إِلَى جَانِبِ دَارِهِ، وَحَجَّ
فَرَجَعَ مُتَزَهِّدًا، فَلَزِمَ بَيْتَهُ مُعَظَّمًا نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ
سَنَةً، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَدِ امْتَدَحَهُ بَعْضُهُمْ
فَقَالَ:
يَا عَضُدَ الْإِسْلَامِ يَا مَنْ سَمَتْ إِلَى الْعُلَا هِمَّتُهُ الْفَاخِرهْ
كَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا فَلَمْ تَرْضَهَا
مُلْكًا فَأَخْلَدْتَ إِلَى الْآَخِرَهْ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا دَخَلَتِ الْكُرْجُ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلُوا خَلْقًا مِنَ
الرِّجَالِ وَأَسَرُوا مِنَ الذَّرَارِيِّ أُمَمًا ; فَاجْتَمَعَ لِحَرْبِهِمْ
مُلُوكُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ ; إِيلْدِكْزُ صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ وَابْنُ
سَكْمَانَ صَاحِبُ خِلَاطَ وَابْنُ آقْ سُنْقُرَ صَاحِبُ مَرَاغَةَ وَسَارُوا
إِلَى بِلَادِهِمْ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ فَنَهَبُوهَا، وَأَسَرُوا
ذَرَارِيَهِمْ، وَالْتَقَوْا مَعَهُمْ فَكَسَرُوهُمْ كَسْرَةً ذَرِيعَةً فَظِيعَةً
مُنْكَرَةً، مَكَثُوا يَقْتُلُونَ فِيهِمْ وَيَأْسِرُونَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
وَفِي رَجَبٍ أُعِيدَ يُوسُفُ الدِّمَشْقِيُّ إِلَى تَدْرِيسِ النِّظَامِيَّةِ
بَعْدَ عَزْلِ ابْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ بِسَبَبِ أَنَّ امْرَأَةً ادَّعَتْ أَنَّهُ
تَزَوَّجَهَا فَأَنْكَرَ، ثُمَّ اعْتَرَفَ، فَعُزِلَ عَنِ التَّدْرِيسِ.
وَفِيهَا كَمَلَتِ الْمَدْرَسَةُ الَّتِي بَنَاهَا الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ
بِبَابِ الْبَصْرَةِ وَرَتَّبَ فِيهَا مُدَرِّسًا وَفَقِيهًا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ
أَمِيرُ الْكُوفَةِ أَرْغَشُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
شُجَاعٌ
شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ بِمَشْهَدِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَانَ جَيِّدَ الْكَلَامِ
فِي النَّظَرِ، أَخَذَ عَنْهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَدُفِنَ عِنْدَ الْمَشْهَدِ.
صَدَقَةُ بْنُ وَزِيرٍ
الْوَاسِطِيُّ
دَخَلَ بَغْدَادَ وَوَعَظَ بِهَا وَأَظْهَرَ تَقَشُّفًا، وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى
التَّشَيُّعِ وَعِلْمِ الْكَلَامِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ رَاجَ عَلَى الْعَوَامِّ
وَبَعْضِ الْأُمَرَاءِ، وَحَصَلَ لَهُ فُتُوحٌ كَثِيرَةٌ، ابْتَنَى مِنْهُ
رِبَاطًا وَدُفِنَ فِيهِ، سَامَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
زُمُرُّدُ خَاتُونَ
بِنْتُ جَاوْلِي أُخْتُ الْمَلِكِ دُقَاقِ بْنِ تُتُشَ لِأُمِّهِ، وَهِيَ
بَانِيَةُ الْخَاتُونِيَّةِ ظَاهِرَ دِمَشْقَ عِنْدَ قَرْيَةِ صَنْعَاءَ بِمَكَانٍ
يُقَالُ لَهُ: تَلُّ الثَّعَالِبِ. غَرْبِيَّ دِمَشْقَ عَلَى جَانِبِ الشَّرْقِ
الْقِبْلِيِّ بِصَنْعَاءِ الشَّامِ وَهِيَ قَرْيَةٌ مَعْرُوفَةٌ قَدِيمًا،
وَأَوْقَفَتْهَا عَلَى الشَّيْخِ بُرْهَانِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْبَلْخِيِّ الْحَنَفِيِّ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَكَانَتْ زَوْجَةَ الْمَلِكِ
بُورِي بْنِ طُغْتِكِينَ، فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنَيْهِ شَمْسَ الْمُلُوكِ
إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورَ، وَقَدْ مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ وَسَارَ سِيرَتَهُ،
وَمَالَأَ الْفِرِنْجَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهَمَّ بِتَسْلِيمِ الْبَلَدِ
وَالْأَمْوَالِ إِلَيْهِمْ، فَقَتَلُوهُ وَتَمَلَّكَ أَخُوهُ وَذَلِكَ بَعْدَ
مُرَاجَعَتِهَا وَمُسَاعَدَتِهَا، وَقَدْ كَانَتْ قَرَأَتِ الْقُرْآنَ، وَسَمِعَتِ
الْحَدِيثَ، وَكَانَتْ حَنَفِيَّةَ الْمَذْهَبِ تُحِبُّ الْعُلَمَاءَ
وَالصَّالِحِينَ، وَقَدْ تَزَوَّجَهَا الْأَتَابِكِيُّ زَنْكِيٌّ صَاحِبُ حَلَبَ ;
طَمَعًا فِي أَنْ يَأْخُذَ بِسَبَبِهَا دِمَشْقَ فَلَمْ يَظْفَرْ بِذَلِكَ، بَلْ
ذَهَبَتْ إِلَيْهِ إِلَى حَلَبَ ثُمَّ عَادَتْ إِلَى دِمَشْقَ بَعْدَ وَفَاتِهِ،
وَقَدْ دَخَلَتْ بَغْدَادَ وَسَارَتْ مِنْ هُنَاكَ إِلَى
الْحِجَازِ، وَجَاوَرَتْ بِمَكَّةَ سَنَةً، ثُمَّ جَاءَتْ فَأَقَامَتْ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ حَتَّى مَاتَتْ بِهَا، وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ كَانَتْ كَثِيرَةَ الْبِرِّ وَالصَّدَقَاتِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ. قَالَ السِّبْطُ: وَلَمْ تَمُتْ حَتَّى قَلَّ مَا بِيَدِهَا، فَكَانَتْ تُغَرْبِلُ الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ وَتَتَقَوَّتُ بِأُجْرَتِهِ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ وَحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا مَاتَ صَاحِبُ الْمَغْرِبِ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ عَلِيٍّ تِلْمِيذُ
ابْنِ التُّومَرْتِ وَخَلِيفَتُهُ مِنْ بَعْدِهِ فِي الْمُلْكِ بِمَدِينَةِ سَلَا،
حَضَرَهُ ابْنُهُ يُوسُفُ، وَحَمَلَهُ إِلَى مُرَّاكِشَ فِي صِفَةِ أَنَّهُ
مَرِيضٌ، فَلَمَّا وَصَلَهَا أَظْهَرَ مَوْتَهُ، فَعَزَّاهُ النَّاسُ وَبَايَعُوهُ
عَلَى الْمُلْكِ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَقَّبُوهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ
كَانَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ هَذَا حَازِمًا، شُجَاعًا، جَوَادًا، مُعَظِّمًا
لِلشَّرِيعَةِ، وَكَانَ مَنْ لَا يُحَافِظُ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي زَمَانِهِ
يُقْتَلُ، وَلَكِنْ كَانَ سَفَّاكًا لِلدِّمَاءِ، حَتَّى عَلَى الذَّنْبِ
الصَّغِيرِ، فَاللَّهُ يَحْكُمُ فِيهِ بِمَا يَشَاءُ.
وَفِيهَا قُتِلَ الْمَلِكُ سَيْفُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلَاءِ الدِّينِ
الْغُورِيُّ، قَتَلَهُ الْغُزُّ، وَكَانَ عَادِلًا.
وَفِيهَا كَبَسَتِ الْفِرِنْجُ نُورَ الدِّينِ وَجَيْشَهُ، فَانْهَزَمَ
الْمُسْلِمُونَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَنَهَضَ الْمَلِكُ نُورُ
الدِّينِ فَرَكِبَ فَرَسَهُ وَالشِّبْحَةُ فِي رِجْلِهِ، فَنَزَلَ رَجُلٌ
كُرْدِيٌّ فَقَطَعَهَا حَتَّى سَارَ السُّلْطَانُ نُورُ الدِّينِ فَنَجَا،
وَأَدْرَكَتِ الْفِرِنْجُ الْكُرْدِيَّ فَقَتَلُوهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَحْسَنَ
نُورُ الدِّينِ إِلَى ذُرِّيَّتِهِ، وَكَانَ لَا يَنْسَى ذَلِكَ لَهُ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِإِجْلَاءِ بَنِي أَسَدٍ عَنِ الْحِلَّةِ وَقَتَلَ
مَنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ لِإِفْسَادِهِمْ وَمُكَاتَبَتِهِمُ
السُّلْطَانَ مُحَمَّدَ شَاهْ، وَتَحْرِيضِهِمْ لَهُ عَلَى حِصَارِ بَغْدَادَ
فَقَتَلَ مِنْ بَنِي
أَسَدٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَخَرَجَ الْبَاقُونَ مِنْهَا، وَتَسَلَّمَ نُوَّابُ
الْخَلِيفَةِ الْحِلَّةَ الْمَزِيدِيَّةَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ الْأَمِيرُ أَرْغَشُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
السُّلْطَانُ الْكَبِيرُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ عَلِيٍّ
الْقَيْسِيُّ الْكُوفِيُّ
تِلْمِيذُ ابْنِ التُّومَرْتِ، كَانَ أَبُوهُ يَعْمَلُ فِي الطِّينِ فَاعِلًا،
فَحِينَ وَقَعَ نَظَرُ ابْنِ التُّومَرْتِ عَلَيْهِ أَحَبَّهُ، وَتَفَرَّسَ فِيهِ
أَنَّهُ سَعِيدٌ، فَاسْتَصْحَبَهُ فَعَظُمَ شَأْنُهُ، وَالْتَفَّتْ عَلَيْهِ
الْعَسَاكِرُ الَّتِي جَمَعَهَا ابْنُ التُّومَرْتِ مِنَ الْمَصَامِدَةِ
وَغَيْرِهِمْ، وَحَارَبُوا صَاحِبَ مُرَّاكِشَ عَلِيَّ بْنَ يُوسُفَ بْنِ
تَاشْفِينَ، مَلِكَ الْمُلَثَّمِينَ، فَاسْتَحْوَذَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ عَلَى
وَهْرَانَ وَتِلِمْسَانَ وَفَاسَ وَسَلَا وَسَبْتَةَ، ثُمَّ حَاصَرَ مُرَّاكِشَ
أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، فَافْتَتَحَهَا فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ، وَتَمَهَّدَتْ لَهُ الْمَمَالِكُ، وَصَفَا لَهُ الْوَقْتُ.
وَكَانَ عَاقِلًا، حَازِمًا، وَقُورًا، شَكِلًا، حَسَنًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَلَهُ فِي الْمُلْكِ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً،
وَكَانَ يُسَمِّي نَفْسَهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
طَلْحَةُ بْنُ عَلِيِّ
بْنِ طِرَادٍ، أَبُو أَحْمَدَ الزَّيْنِيُّ، نَقِيبُ النُّقَبَاءِ، مَاتَ
فَجْأَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَوَلِيَ النِّقَابَةَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ أَبُو
الْحَسَنِ عَلِيٌّ، وَكَانَ أَمْرَدَ فَعُزِلَ وَصُودِرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ
ابْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ
الْأَنْبَارِيِّ، كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ بِبَغْدَادَ، كَانَ شَيْخًا، حَسَنًا،
ظَرِيفًا، وَانْفَرَدَ بِصَنَاعَةِ
الْإِنْشَاءِ، وَبَعَثَ
رَسُولًا إِلَى الْمَلِكِ سَنْجَرَ وَغَيْرِهِ، وَخَدَمَ الْمُلُوكَ
وَالْخُلَفَاءَ، وَقَارَبَ التِّسْعِينَ. وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
يَا مَنْ هَجَرْتَ فَمَا تُبَالِي هَلْ تَرْجِعُ دَوْلَةُ الْوِصَالِ مَا أَطْمَعُ
يَا عَذَابَ قَلْبِي
أَنْ يَنْعَمَ فِي هَوَاكَ بَالِي الطَّرْفُ كَمَا عَهِدْتِ بَاكٍ
وَالْجِسْمُ كَمَا تَرَيْنَ بَالٍ مَا ضَرَّكِ أَنْ تُعَلِّلِينِي
فِي الْوَصْلِ بِمَوْعِدٍ مُحَالِ أَهْوَاكِ وَأَنْتِ حَظُّ غَيْرِي
يَا قَاتِلَتِي فَمَا احْتِيَالِي أَيَّامُ عَنَائِي فِيكِ سُودٌ
مَا أَشْبَهَهُنَّ بِاللَّيَالِي الْعُذَّلُ فِيكِ يَعْذِلُونِي
عَنْ حُبِّكِ مَا لَهُمْ وَمَا لِي يَا مُلْزِمِي السُّلُوَّ عَنْهَا
الصَّبُّ أَنَا وَأَنْتَ سَالِي وَالْقَوْلُ بِتَرْكِهَا صَوَابٌ
مَا أَحْسَنَهُ لَوِ اسْتَوَى لِي طَلَّقْتُ تَجَلُّدِي ثَلَاثًا
وَالصَّبْوَةُ بَعْدُ فِي خَيَالِي
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ شَاوَرُ بْنُ مُجِيرِ الدِّينِ، أَبُو شُجَاعٍ السَّعْدِيُّ
الْمُلَقَّبُ بِأَمِيرِ الْجُيُوشِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ وَزِيرُ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَ آلِ رُزِّيكَ، لَمَّا قُتِلَ النَّاصِرُ رُزِّيكُ بْنُ
طَلَائِعَ وَقَامَ فِي الْوِزَارَةِ بَعْدَهُ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ فِيهَا،
فَثَارَ عَلَيْهِ أَمِيرٌ يُقَالُ لَهُ: الضِّرْغَامُ بْنُ سَوَّارٍ، وَجَمَعَ
لَهُ جُمُوعًا كَثِيرَةً، وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ، وَقَتَلَ وَلَدَيْهِ طَيًّا
وَسُلَيْمَانَ، وَأَسَرَ الثَّالِثَ وَهُوَ الْكَامِلُ بْنُ شَاوَرَ، فَسَجَنَهُ
وَلَمْ يَقْتُلْهُ ; لِيَدٍ كَانَتْ لِأَبِيهِ عِنْدَهُ، وَاسْتُوزِرَ ضِرْغَامٌ
بَعْدَهُ وَلُقَّبَ بِالْمَنْصُورِ، فَخَرَجَ شَاوَرُ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ هَارِبًا مِنَ الْعَاضِدِ وَضِرْغَامٍ، مُلْتَجِئًا إِلَى نُورِ
الدِّينِ مَحْمُودٍ، فَأَمَرَ لَهُ نُورُ الدِّينِ بِجَوْسَقِ الْمَيْدَانِ
الْأَخْضَرِ، وَأَحْسَنَ ضِيَافَتَهُ وَكَرَامَتَهُ، وَطَلَبَ مِنْهُ شَاوَرُ
عَسْكَرًا يَكُونُونَ مَعَهُ ; لِيَفْتَحَ بِهِمُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ،
وَيَكُونَ لِنُورِ الدِّينِ ثُلُثُ مُغَلِّهَا، فَأَرْسَلَ مَعَهُ جَيْشًا
عَلَيْهِ أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ بْنُ شَاذِيٍّ، فَلَمَّا دَخَلُوا بِلَادَ
مِصْرَ خَرَجَ إِلَيْهِمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ بِهَا، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ
الْقِتَالِ، فَهَزَمَهُمْ أَسَدُ الدِّينِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا، وَقَتَلَ
ضِرْغَامَ بْنَ سَوَّارٍ، وَطِيفَ بِرَأْسِهِ فِي الْبِلَادِ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ
شَاوَرَ فِي الْوِزَارَةِ، وَتَمَهَّدَ حَالُهُ، ثُمَّ اصْطَلَحَ الْعَاضِدُ
وَشَاوَرُ عَلَى أَسَدِ الدِّينِ، وَرَجَعَ
شَاوَرُ عَمًّا كَانَ
عَاهَدَ عَلَيْهِ نُورَ الدِّينِ، وَأَمَرَ أَسَدَ الدِّينِ بِالرُّجُوعِ، فَلَمْ
يَقْبَلْ مِنْهُ، وَعَاثَ فِي الْبِلَادِ، وَأَخَذَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً،
وَافْتَتَحَ بُلْدَانًا كَثِيرَةً مِنَ الشَّرْقِيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَاسْتَغَاثَ
شَاوَرُ عَلَيْهِمْ بِمَلِكِ الْفِرِنْجِ الَّذِي بِعَسْقَلَانَ، وَاسْمُهُ
مُرِّيٌّ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ فَتَحَوَّلَ أَسَدُ الدِّينِ
إِلَى بِلْبِيسَ وَقَدْ حَصَّنَهَا وَشَحَنَهَا بِالْعُدَدِ وَالْآلَاتِ، وَغَيْرِ
ذَلِكَ، فَحَصَرُوهُ فِيهَا ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَامْتَنَعَ أَسَدُ الدِّينِ
وَأَصْحَابُهُ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ جَاءَتِ
الْأَخْبَارُ بِأَنَّ الْمَلِكَ نُورَ الدِّينِ قَدِ اغْتَنَمَ غَيْبَةَ
الْفِرِنْجِ فَسَارَ بِالْعَسَاكِرِ إِلَى بِلَادِهِمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا
كَثِيرًا، وَفَتَحَ حَارِمًا وَقَتَلَ مِنَ الْفِرِنْجِ خَلْقًا، وَسَارَ إِلَى
بَانِيَاسَ فَضَعُفَ أَمْرُ الْفِرِنْجِ بِدِيَارِ مِصْرَ عِنْدَ ذَلِكَ،
وَطَلَبُوا مِنْ أَسَدِ الدِّينِ الْمُصَالَحَةَ فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ،
وَقَبَضَ مِنْ شَاوَرَ سِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَخَرَجَ أَسَدُ الدِّينِ
وَجَيْشُهُ فَسَارُوا إِلَى الشَّامِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا.
وَقْعَةُ حَارِمٍ
كَانَ فَتْحُ حَارِمٍ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ نُورَ
الدِّينِ اسْتَغَاثَ بِعَسَاكِرِ الْمُسْلِمِينَ - فَجَاءُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ
عَمِيقٍ - لِيَأْخُذَ ثَأْرَهُ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَالْتَقَى مَعَهُمْ بِتَلِّ
حَارِمٍ فَكَسَرَهُمْ كَسْرَةً عَظِيمَةً، وَأَسَرَ الْبِرِنْسَ صَاحِبَ
أَنْطَاكِيَةَ وَالْقُومَصَ صَاحِبَ طَرَابُلُسَ وَالدُّوكَ مُقَدَّمَ الرُّومِ،
وَابْنَ جُوسْلِينَ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَقِيلَ: عِشْرِينَ
أَلْفًا.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ
مِنْهَا فَتَحَ نُورُ الدِّينِ مَدِينَةَ بَانِيَاسَ وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ
فَتْحُهُ لَهَا فِي سَنَةِ سِتِّينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ مَعَهُ أَخُوهُ
نَصْرُ الدِّينِ أَمِيرُ أَمِيرَانَ، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فِي إِحْدَى عَيْنَيْهِ
فَأَذْهَبَهَا، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ: لَوْ نَظَرْتَ إِلَى مَا
أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ مِنَ الْأَجْرِ فِي الْآخِرَةِ لَأَحْبَبْتَ أَنْ تَذْهَبَ
الْأُخْرَى. وَقَالَ لِابْنِ مُعِينِ الدِّينِ أَنُرَ: إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ
بَرَدَتْ جَلْدَةُ وَالِدِكَ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ ; لِأَنَّهُ كَانَ سَلَّمَهَا
إِلَى الْفِرِنْجِ، صُلْحًا عَنْ دِمَشْقَ.
وَفِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ احْتَرَقَ قَصْرُ جَيْرُونَ
حَرِيقًا عَظِيمًا، فَحَضَرَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْأُمَرَاءُ ; مِنْهُمْ
أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَسَعَى سَعْيًا عَظِيمًا فِي إِطْفَاءِ هَذِهِ النَّارِ وَصَوْنِ حَوْزَةِ
الْجَامِعِ مِنْهَا، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، وَأَثَابَهُ دَارَ الْقَرَارِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
جَمَالُ الدِّينِ
وَزِيرُ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، أَبُو
جَعْفَرٍ الْأَصْبَهَانِيُّ الْمُلَقَّبُ بِالْجَوَادِ وَزِيرُ قُطْبِ الدِّينِ
مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ كَانَ كَثِيرَ الْمَعْرُوفِ وَالصَّدَقَاتِ، وَقَدْ
أَثَّرَ آثَارًا حَسَنَةً بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ; مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ سَاقَ
عَيْنًا إِلَى عَرَفَاتٍ، وَعَمِلَ هُنَاكَ مَصَانِعَ، وَبَنَى مَسْجِدَ عَرَفَاتٍ
وَدَرَّجَهُ وَأَكْمَلَ أَبْوَابَ
الْحَرَمِ، وَبَنَى
مَسْجِدَ الْخَيْفِ، وَبَنَى الْحِجْرَ، وَزَخْرَفَ الْكَعْبَةَ وَذَهَّبَهَا،
وَعَمِلَهَا بِالرُّخَامِ، وَبَنَى عَلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ سُورًا،
وَبَنَى جِسْرًا عَلَى دِجْلَةَ عِنْدَ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ بِالْحَجَرِ
الْمَنْحُوتِ، وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ، وَبَنَى الرُّبُطَ الْكَثِيرَةَ،
وَكَانَ يَتَصَدَّقُ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى بَابِهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَيَفْتَدِي
مِنَ الْأُسَارَى فِي كُلِّ سَنَةٍ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَلَا تَزَالُ
صَدَقَاتُهُ وَافِدَةً إِلَى الْفُقَهَاءِ وَالْفُقَرَاءِ ; حَيْثُ كَانُوا مِنْ
بَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَقَدْ حُبِسَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ
وَخَمْسِينَ، فَذَكَرَ ابْنُ السَّاعِي فِي " تَارِيخِهِ " عَنْ شَخْصٍ
كَانَ مَعَهُ فِي السِّجْنِ أَنَّهُ نَزَلَ إِلَيْهِ طَائِرٌ أَبْيَضُ قَبْلَ
مَوْتِهِ فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ وَهُوَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى
تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ طَارَ عَنْهُ، وَدُفِنَ فِي
رِبَاطٍ بَنَاهُ لِنَفْسِهِ بِالْمَوْصِلِ، وَقَدْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَسَدِ
الدِّينِ شِيرَكُوهْ بْنِ شَاذِيٍّ مُؤَاخَاةٌ وَعَهْدٌ، أَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلَ
الْآخَرِ أَنْ يَحْمِلَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَاسْتَأْجَرَ لَهُ
أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ رِجَالًا فَنَقَلُوهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَا
مَرُّوا بِهِ عَلَى بَلْدَةٍ إِلَّا صَلَّوْا عَلَيْهِ، وَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ، وَأَثْنَوْا
خَيْرًا، فَصَلَّوا عَلَيْهِ بِالْمَوْصِلِ وَتَكْرِيتَ وَبَغْدَادَ وَالْحِلَّةِ
وَالْكُوفَةِ وَفَيْدَ وَمَكَّةَ، وَطِيفَ بِهِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ نُقِلَ
إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فَدُفِنَ بِرِبَاطٍ بَنَاهُ شَرْقِيَّ
الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَابْنُ السَّاعِي: لَيْسَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَرَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَبَرِهِ سِوَى خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا. قَالَ ابْنُ السَّاعِي: وَلَمَّا
صَلَّوْا عَلَيْهِ بِالْحِلَّةِ صَعِدَ شَابٌّ نَشْزًا فَأَنْشَدَ يَقُولُ:
سَرَى نَعْشُهُ فَوْقَ الرِّقَابِ وَطَالَمَا سَرَى جُودُهُ فَوْقَ الرِّكَابِ
وَنَائِلُهْ يَمُرُّ عَلَى الْوَادِي فَتُثْنِي رِمَالُهُ
عَلَيْهِ وَبِالنَّادِي فَتُثْنِي أَرَامِلُهْ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا بَعْدَ الْخَمْسِينَ:
ابْنُ الْخَازِنِ
الْكَاتِبُ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ، أَبُو الْفَضْلِ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْخَازِنِ، الْكَاتِبُ الْبَغْدَادِيُّ الشَّاعِرُ، كَانَ
يَكْتُبُ جَيِّدًا فَائِقًا، اعْتَنَى بِكِتَابَةِ الْخَتَمَاتِ، وَأَكْثَرَ
ابْنُهُ أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ اللَّهِ مِنْ كِتَابَةِ الْمَقَامَاتِ، وَجَمَعَ
لِأَبِيهِ دِيوَانَ شِعْرٍ أَوْرَدَ مِنْهُ ابْنُ خَلِّكَانَ قِطْعَةً كَبِيرَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
سِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا وَقَعَتْ بِأَصْبَهَانَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ بِسَبَبِ الْمَذَاهِبِ، دَامَتْ أَيَّامًا وَقُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ
كَثِيرٌ. وَفِيهَا كَانَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِبَغْدَادَ فَاحْتَرَقَتْ مَحَالُّ
كَثِيرَةٌ جِدًّا وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
وَلَدَتِ امْرَأَةٌ بِبَغْدَادَ أَرْبَعَ بَنَاتٍ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأَمِيرُ أَرْغَشُ الْكَبِيرُ، أَثَابَهُ
اللَّهُ
مِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عُمَرُ بْنُ بَهْلَيْقَا
الطَّحَّانُ الَّذِي جَدَّدَ جَامِعَ الْعُقَيْبَةِ بِبَغْدَادَ وَاسْتَأْذَنَ
الْخَلِيفَةَ فِي إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِيهِ فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ
قَدِ اشْتَرَى مَا حَوْلَهُ مِنَ الْقُبُورِ فَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَيْهِ وَنَبَشَ
الْمَوْتَى مِنْهَا فَقَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ نَبَشَهُ مَنْ قَبَرِهِ بَعْدَ
دَفْنَهِ جَزَاءً وِفَاقًا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَرَّانِيُّ
كَانَ آخِرَ مَنْ بَقِيَ
مِنَ الشُّهُودِ الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيِّ وَقَدْ
سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ لَطِيفًا ظَرِيفًا جَمَعَ كِتَابًا سَمَّاهُ "
رَوْضَةَ الْأُدَبَاءِ " فِيهِ نُتَفٌ حَسَنَةٌ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:
زُرْتُهُ يَوْمًا فَأَطَلْتُ الْجُلُوسَ عِنْدَهُ فَقُلْتُ أَقْوَمُ فَقَدْ
ثَقَّلْتُ فَأَنْشَدَنِي
لَئِنْ سَمَّيْتَ إِبْرَامًا وَثُقْلًا زِيَارَاتٍ رَفَعْتَ بِهِنَّ قَدْرِي فَمَا
أَبْرَمْتَ إِلَّا حَبْلَ وُدِّي
وَلَا ثَقَّلْتَ إِلَّا ظَهْرَ شُكْرِي
مَرْجَانُ الْخَادِمُ
كَانَ يَقْرَأُ الْقِرَاءَاتِ وَتَفَقَّهَ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَكَانَ
يَتَعَصَّبُ عَلَى الْحَنَابِلَةِ وَيَكْرَهُهُمْ وَيُعَادِي الْوَزِيرَ ابْنَ
هُبَيْرَةَ وَابْنَ الْجَوْزِيِّ مُعَادَاةً شَدِيدَةً وَيَقُولُ لِابْنِ
الْجَوْزِيِّ: مَقْصُودِي قَلْعُ مَذْهَبِكُمْ. وَلَمَّا مَاتَ ابْنُ هُبَيْرَةَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَوِيَ عَلَى ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَخَافَهُ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَرِحَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
فَرَحًا شَدِيدًا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا
ابْنُ التِّلْمِيذِ
الطَّبِيبُ الْحَاذِقُ الْمَاهِرُ اسْمُهُ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ صَاعِدٍ كَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ
مُوَسَّعًا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَلَهُ عِنْدَ النَّاسِ وَجَاهَةٌ كَبِيرَةٌ،
وَقَدْ تُوُفِّيَ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - عَلَى دِينِهِ وَدُفِنَ بِالْبَيْعَةِ
الْعَتِيقَةِ لَا رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْ كَانَ مَاتَ نَصْرَانِيًّا ; فَإِنَّهُ
كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ثُمَّ مَاتَ عَلَى دِينِهِ
الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ
يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هُبَيْرَةَ أَبُو الْمُظَفَّرِ الْوَزِيرُ
لِلْخِلَافَةِ
الْمُعَظَّمَةِ مُصَنِّفُ
كِتَابِ " الْإِفْصَاحِ "، قَرَأَ الْقِرَاءَاتِ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ
وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْعَرُوضِ،
وَتَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَصَنَّفَ كُتُبًا جَيِّدَةً
مُفِيدَةً ; مِنْ ذَلِكَ " الْإِفْصَاحُ "، فِي مُجَلَّدَاتٍ يَشْرَحُ
فِيهِ الْحَدِيثَ وَيَتَكَلَّمُ عَلَى مَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ وَكَانَ عَلَى
مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ، وَقَدْ كَانَ فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ،
ثُمَّ تَعَرَّضَ لِلْخِدْمَةِ إِلَى أَنْ وَزَرَ لِلْمُقْتَفِي ثُمَّ لِابْنِهِ الْمُسْتَنْجِدِ،
وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْوُزَرَاءِ وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً وَأَبْعَدِهِمْ عَنِ
الظُّلْمِ، وَكَانَ لَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ وَكَانَ الْمُقْتَفِي يَقُولُ: مَا
وَزَرَ لِبَنِي الْعَبَّاسِ مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ ابْنُهُ الْمُسْتَنْجِدُ وَكَانَ
مُعْجَبًا بِهِ قَالَ مَرْجَانُ الْخَادِمُ سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
الْمُسْتَنْجِدَ يُنْشِدُ لِابْنِ هُبَيْرَةَ وَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ
شِعْرِهِ:
صَفَتْ نِعْمَتَانِ خَصَّتَاكَ وَعَمَّتَا فَذِكْرُهُمَا حَتَّى الْقِيَامَةِ
يُذْكَرُ
وُجُودُكَ وَالدُّنْيَا إِلَيْكَ فَقِيْرَةٌ وَجُودُكَ وُالْمَعْرُوفُ فِي
النَّاسِ يُنْكَرُ
فَلَوْ رَامَ يَا يَحْيَى مَكَانَكَ جَعْفَرٌ وَيَحْيَى لَكَفَّا عَنْهُ يَحْيَى
وَجَعْفَرُ
وَلَمْ أَرَ مَنْ يَنْوِي لَكَ السُّوءَ يَا أَبَا الْ مُظَفَّرِ إِلَّا كُنْتَ
أَنْتَ الْمُظَفَّرُ
وَقَدْ كَانَ يُبَالِغُ فِي إِقَامَةِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ وَحَسْمِ
مَادَّةِ الْمُلُوكِ السَّلْجُوقِيَّةِ عَنْهُمْ بِكُلِّ مُمْكِنٍ حَتَّى
اسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ فِي الْعِرَاقِ كُلِّهِ، لَيْسَ لِلْمُلُوكِ مَعَهُمْ
حُكْمٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَكَانَ يَعْقِدُ فِي دَارِهِ لِلْعُلَمَاءِ مَجْلِسًا لِلْمُنَاظَرَةِ ;
يَبْحَثُونَ فِيهِ وَيَتَنَاظَرُونَ عِنْدَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ ;
وَيَسْتَفِيدُ مِنْهُمْ
وَيَسْتَفِيدُونَ مِنْهُ ; فَاتَّفَقَ يَوْمًا أَنَّهُ كَلَّمَ رَجُلًا مِنَ الْفُقَهَاءِ
كَلِمَةً فِيهَا بَشَاعَةٌ قَالَ: لَهُ يَا حِمَارُ، ثُمَّ نَدِمَ فَقَالَ:
أُرِيدُ أَنْ تَقُولَ لِي كَمَا قُلْتُ لَكَ. فَتَمَنَّعَ ذَلِكَ الْفَقِيهُ
فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَتَيْ دِينَارٍ. مَاتَ فَجْأَةً وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَمَّهُ
طَبِيبٌ فَسُمَّ ذَلِكَ الطَّبِيبُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَ الطَّبِيبُ
يَقُولُ: سَمَمْتُهُ فَسُمِمْتُ، مَاتَ يَوْمَ الْأَحَدِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ
جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَسِتِّينَ سَنَةً
وَغَسَّلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ جِدًّا،
وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ وَتَبَاكَى النَّاسُ عَلَيْهِ، وَدُفِنَ بِالْمَدْرَسَةِ
الَّتِي أَنْشَأَهَا بِبَابِ الْبَصْرَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ رَثَاهُ
الشُّعَرَاءُ بِمَرَاثٍ كَثِيرَةٍ
وَأَبُو الْقَاسِمِ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِكْرِمَةَ
الْبَزْرِيُّ الْجَزَرِيُّ، شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ بِهَا وَكَانَ يُلَقَّبُ
زَيْنَ الدِّينِ جَمَالَ الْإِسْلَامِ، دَخَلَ بَغْدَادَ فَأَخَذَ بِهَا عَنْ
إِلِكْيَا الْهَرَّاسِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَالشَّاشِيِّ صَاحِبِ الْمُسْتَظْهِرِيِّ،
وَجَمَعَ كِتَابًا عَلَى الْمُهَذَّبِ وَذَكَرَ فِيهِ إِشْكَالَاتِ مَا سِوَاهُ،
وَأَسْمَاءَ رِجَالِهِ وَلُغَتَهُ، وَهُوَ فِي مُجَلَّدٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ
خَلِّكَانَ، وَرَحَلَتْ إِلَيْهِ الطَّلَبَةُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَكَانَ
أَحْفَظَ النَّاسِ فِي وَقْتِهِ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا فَتَحَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ حِصْنَ الْمُنَيْطِرَةِ
وَقَتَلَ عِنْدَهُ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْفِرِنْجِ، وَغَنِمَ أَمْوَالًا
جَزِيلَةً.
وَفِيهَا هَرَبَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ الْوَزِيرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ مِنَ السِّجْنِ
وَمَعَهُ مَمْلُوكٌ تُرْكِيٌّ، فَنُودِيَ عَلَيْهِ فِي الْبَلَدِ: مَنْ رَدَّهُ
فَلَهُ مِائَةُ دِينَارٍ، وَمَنْ وُجِدَ عِنْدَهُ هُدِمَتْ دَارُهُ وَصُلِبَ عَلَى
بَابِهَا وَذُبِحَتْ أَوْلَادُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَلَّهُمْ رَجُلٌ مِنَ
الْأَعْرَابِ عَلَيْهِ، فَأُخِذَ مِنْ بُسْتَانٍ فَضُرِبَ ضَرْبًا شَدِيدًا
مُنْكَرًا وَأُعِيدَ إِلَى السِّجْنِ وَضُيِّقَ عَلَيْهِ.
وَفِيهَا أَظْهَرَ الرَّوَافِضُ سَبَّ الصَّحَابَةِ وَتَظَاهَرُوا بِأَشْيَاءَ
مُنْكَرَةٍ وَلَمْ يَكُونُوا يَتَمَكَّنُونَ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ
الْمُتَقَدِّمَةِ خَوْفًا مِنِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، وَوَقَعَ بَيْنَ الْعَوَامِّ
كَلَامٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَرْغَشُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ
ابْنِ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ رُسْتُمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيُّ،
كَانَ مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ الْبَكَّائِينَ، قَالَ: حَضَرْتُ يَوْمًا
مَجْلِسَ ابْنِ
مَاشَاذَهْ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ، فَرَأَيْتُ رَبَّ الْعِزَّةِ فِي
هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَهُوَ يَقُولُ لِي: وَقَفْتَ عَلَى مُبْتَدِعٍ وَسَمِعْتَ
كَلَامَهُ ؟ لَأَحْرِمَنَّكَ النَّظَرَ فِي الدُّنْيَا، فَأَصْبَحَ لَا يُبْصِرُ
وَعَيْنَاهُ مَفْتُوحَتَانِ كَأَنَّهُ بَصِيرٌ
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْحُسَيْنِ
بْنِ الْجَبَّابِ الْأَغْلَبِيُّ السَّعْدِيُّ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي
الْبَصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْجَلِيسِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُجَالِسُ
صَاحِبَ مِصْرَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْعِمَادُ فِي " الْخَرِيدَةِ " وَقَالَ:
كَانَ لَهُ فَضْلٌ مَشْهُورٌ وَشِعْرٌ مَأْثُورٌ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَمِنْ عَجَبٍ أَنَّ السُّيُوفَ لَدَيْهِمُ تَحِيضُ دِمَاءً وَالسُّيُوفُ ذُكُورُ
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنَّهَا فِي أَكُفِّهِمْ
تَأَجَّجُ نَارًا وَالْأَكُفُّ بُحُورُ
الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلِيُّ
عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ أَبِي صَالِحٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجِيلِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ
سَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ فَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ
عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْمُخَرِّمِيِّ الْحَنْبَلِيِّ، وَقَدْ كَانَ بَنَى مَدْرَسَةً
فَفَوَّضَهَا إِلَى الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ، فَكَانَ يَتَكَلَّمُ عَلَى
النَّاسِ بِهَا وَيَعِظُهُمْ، وَانْتَفَعَ بِهِ النَّاسُ انْتِفَاعًا كَثِيرًا
وَكَانَ لَهُ سَمْتٌ حَسَنٌ وَصَمْتٌ، عَنْ غَيْرِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفِيهِ زُهْدٌ
كَثِيرٌ وَلَهُ أَحْوَالٌ صَالِحَةٌ وَمُكَاشَفَاتٌ، وَلِأَتْبَاعِهِ وَأَصْحَابِهِ فِيهِ مَقَالَاتٌ وَيَذْكُرُونَ عَنْهُ أَقْوَالًا وَأَفْعَالًا وَمُكَاشَفَاتٍ أَكْثَرُهَا مُغَالَاةٌ، وَقَدْ كَانَ صَالِحًا وَرِعًا، وَقَدْ صَنَّفَ كِتَابَ الْغَنِيَّةِ وَفُتُوحِ الْغَيْبِ، وَفِيهِمَا أَشْيَاءُ حَسَنَةٌ، وَذَكَرَ فِيهِمَا أَحَادِيثَ ضَعِيفَةً وَمَوْضُوعَةً، وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمَشَايِخِ الْكِبَارِ، قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ. كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ ثَامِنَ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا أَقْبَلَتِ الْفِرِنْجُ فِي جَحَافِلَ كَثِيرَةٍ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
وَسَاعَدَهُمُ الْمِصْرِيُّونَ، فَتَصَرَّفُوا فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، فَبَلَغَ
ذَلِكَ أَسَدَ الدِّينِ شِيرَكُوهْ، بْنَ شَاذِيٍّ فَاسْتَأْذَنَ الْمَلِكَ نُورَ
الدِّينِ فِي الْعَوْدِ إِلَيْهَا - وَكَانَ كَثِيرَ الْحَنَقِ عَلَى الْوَزِيرِ
شَاوَرَ - فَأَذِنَ لَهُ، فَسَارَ إِلَيْهَا فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَمَعَهُ ابْنُ
أَخِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي النُّفُوسِ
أَنَّهُ سَيَمْلِكُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عَرْقَلَةُ
الْمُسَمَّى بِحَسَّانَ الشَّاعِرُ:
أَقُولُ وَالْأَتْرَاكُ قَدْ أَزْمَعَتْ مِصْرَ إِلَى حَرْبِ الْأَعَارِيبِ رَبِّ
كَمَا مَلَّكْتَهَا يَوسُفَ الصِّ
دِّيقَ مِنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبِ يَمْلِكُهَا فِي عَصْرِنَا يُوسُفُ الصَّ
ادِقُ مِنْ أَوْلَادِ أَيُّوبِ مَنْ لَمْ يَزَلْ ضَرَّابَ هَامِ الْعِدَا
حَقًّا وَضَرَّابَ الْعَرَاقِيبِ
وَلَمَّا بَلَغَ الْوَزِيرَ شَاوَرَ قَدُومُ أَسَدِ الدِّينِ وَالْجَيْشُ مَعَهُ
بَعَثَ إِلَى الْفِرِنْجِ فَجَاءُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ إِلَيْهِ وَبَلَغَ أَسَدَ
الدِّينِ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِمْ - وَإِنَّمَا مَعَهُ أَلْفَا فَارِسٍ -
فَاسْتَشَارَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ فَكُلُّهُمْ أَشَارَ عَلَيْهِ
بِالرُّجُوعِ إِلَى نُورِ الدِّينِ لِكَثْرَةِ الْفِرِنْجِ، إِلَّا أَمِيرًا
وَاحِدًا يُقَالُ لَهُ: شَرَفُ الدِّينِ بُزْغُشُ ; فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ
خَافَ الْقَتْلَ
وَالْأَسْرَ فَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عِنْدَ زَوْجَتِهِ، وَمَنْ أَكَلَ
أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُسَلِّمْ بِلَادَهُمْ إِلَى الْعَدُوِّ، وَقَالَ
مِثْلَ ذَلِكَ ابْنُ أَخِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ، فَعَزَمَ
اللَّهُ لَهُمْ فَسَارُوا نَحْوَ الْفِرِنْجِ، فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَإِيَّاهُمْ
قِتَالًا عَظِيمًا، فَقَتَلُوا مِنَ الْفِرِنْجِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً
وَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
فَتْحُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ عَلَى يَدَيْ أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ
ثُمَّ سَارَ أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ بَعْدَ كَسْرِ الْفِرِنْجِ
وَالْمِصْرِيِّينَ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَمَلَكَهَا وَجَبَى أَمْوَالَهَا،
وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا ابْنَ أَخِيهِ صَلَاحَ الدِّينِ يُوسُفَ وَعَادَ إِلَى
الصَّعِيدِ فَمَلَكَهُ، وَجَمَعَ مِنْهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا، فَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ وَالْمِصْرِيِّينَ اجْتَمَعُوا
عَلَى حِصَارِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ لِيَنْتَزِعُوهَا مِنْ يَدِ
صَلَاحِ الدِّينِ، وَذَلِكَ فِي غَيْبَةِ عَمِّهِ فِي الصَّعِيدِ وَامْتَنَعَ
بِهَا صَلَاحُ الدِّينِ وَمَنْ مَعَهُ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَلَكِنْ ضَاقَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَقْوَاتُ وَضَاقَ عَلَيْهِمُ الْحَالُ جِدًّا، فَسَارَ إِلَيْهِمْ
أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ - أَيَّدَهُ اللَّهُ - فَصَالَحَهُ شَاوَرُ الْوَزِيرُ
عَنِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فَأَجَابَهُ، إِلَى ذَلِكَ
وَخَرَجَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْهَا وَسَلَّمَهَا إِلَى الْمِصْرِيِّينَ وَعَادَ
إِلَى الشَّامِ فِي مُنْتَصَفِ شَوَّالٍ، وَذِي الْقَعْدَةِ وَقَرَّرَ شَاوَرُ
للْفِرِنْجِ عَلَى مِصْرَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَنْ
يَكُونَ لَهُمْ شِحْنَةٌ بِالْقَاهِرَةِ، وَعَادَ الْفِرِنْجُ إِلَى بِلَادِهِمْ
بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ قَدْ عَقَّبَهُمْ
فِي بِلَادِهِمْ، وَافْتَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً مِنْ بِلَادِهِمْ، وَقَتَلَ
خَلْقًا مِنْ رِجَالِهِمْ، وَأَسَرَ أُمَمًا مِنْ
نِسَائِهِمْ
وَأَطْفَالِهِمْ، وَغَنِمَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ أَمْتِعَتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَكَانَ مَعَهُ أَخُوهُ قُطْبُ الدِّينِ مَوْدُودٌ
فَأَطْلَقَ لَهُ الرَّقَّةَ، فَسَارَ فَتَسَلَّمَهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا كَانَ قُدُومُ الْعِمَادِ
الْكَاتِبِ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى دِمَشْقَ وَهُوَ أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، صَاحِبُ " الْفَتْحِ الْقُدْسِيِّ " وَ
" الْبَرْقِ الشَّامِيِّ " وَ " الْخَرِيدَةِ " وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ، فَأَنْزَلَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ كَمَالُ الدَّيْنِ
الشَّهْرُزُورِيُّ بِالْمَدْرَسَةِ النُّورِيَّةِ الشَّافِعِيَّةِ دَاخِلَ بَابِ
الْفَرَجِ، فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ لِسُكْنَاهُ بِهَا، فَيُقَالُ لَهَا:
الْعِمَادِيَّةُ، ثُمَّ وَلِيَ تَدْرِيسَهَا فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسِتِّينَ بَعْدَ
الشَّيْخِ الْفَقِيهِ ابْنِ عَبْدٍ، وَأَوَّلُ مَنْ جَاءَ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ
نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ ; كَانَتْ لَهُ بِهِ مَعْرِفَةٌ مِنْ تَكْرِيتَ،
فَامْتَدَحَهُ الْعِمَادُ بِقَصِيدَةٍ ذَكَرَهَا الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو
شَامَةَ، وَكَانَ أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ وَصَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بِمِصْرَ
فَبَشَّرَهُ فِيهَا بِوِلَايَةِ صَلَاحِ الدِّينِ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ
حَيْثُ يَقُولُ:
وَيَسْتَقِرُّ بِمِصْرَ يُوسُفٌ وَبِهِ تَقَرُّ بَعْدَ التَّنَائِي عَيْنُ
يَعْقُوبِ وَيَلْتَقِي يُوسُفٌ فِيهَا بِإِخْوَتِهِ
وَاللَّهُ يَجْمَعُهُمْ مِنْ غَيرْ تَثْرِيبِ
ثُمَّ وَلِيَ الْعِمَادُ كِتَابَةَ الْإِنْشَاءِ لِلْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَرْغَشُ أَمِيرُ الْحَاجِّ سِنِينَ مُتَعَدِّدَةً،
كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْعَسَاكِرِ، خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ لِقِتَالِ شُمْلَةَ
التُّرْكُمَانِيِّ فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ فَمَاتَ
أَبُو الْمَعَالِي
الْكَاتِبُ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَمْدُونَ صَاحِبُ
التَّذْكِرَةِ الْحَمْدُونِيَّةِ وَقَدْ وَلِيَ دِيوَانَ الزِّمَامِ مُدَّةً
تُوُفِّيَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ قُرَيْشٍ
الرَّشِيدُ الصَّدَفِيُّ
كَانَ يَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيِ الْعَبَّادِيِّ عَلَى الْكُرْسِيِّ، كَانَتْ لَهُ
شَيْبَةٌ وَسَمْتٌ وَوَقَارٌ وَكَانَ يُدْمِنُ حُضُورَ السَّمَاعَاتِ، فَاتَّفَقَ
أَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ يَرْقُصُ فِي بَعْضِ السَّمَاعَاتِ، سَامَحَهُ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا وَصَلَ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْبَلَدِيِّ مِنْ
وَاسِطٍ إِلَى بَغْدَادَ فَخَرَجَ الْجَيْشُ لِتَلَقِّيهِ وَالنَّقِيبَانِ
وَالْقَاضِي وَمَشَى النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى الدِّيوَانِ فَجَلَسَ فِي
دَسْتِ الْوِزَارةِ وَقُرِئَ عُهْدُهُ وَلُقِّبَ بِالْوَزِيرِ شَرَفِ الدِّينِ
جَلَالِ الْإِسْلَامِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ سَيِّدِ الْوُزَرَاءِ صَدْرِ الشَّرْقِ
وَالْغَرْبِ.
وَفِيهَا أَفْسَدَتْ خَفَاجَةُ فِي الْبِلَادِ وَنَهَبُوا الْقُرَى فَخَرَجَ
إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ بَغْدَادَ فَهَرَبُوا فِي الْبَرَارِي فَانْحَسَرَ
الْجَيْشُ عَنْهُمْ خَوْفًا مِنَ الْعَطَشِ فَكَرُّوا عَلَى الْجَيْشِ فَقَتَلُوا
مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرُوا آخَرِينَ وَكَانَ قَدْ أَسَرَ الْجَيْشُ مِنْهُمْ خَلْقًا
فَصُلِبُوا عَلَى الْأَسْوَارِ.
وَفِي شَوَّالٍ وَصَلَتِ امْرَأَةُ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ
زَنْكِيٍّ إِلَى بَغْدَادَ تُرِيدُ الْحَجَّ مِنْ هُنَاكَ وَهِيَ السِّتُّ
عِصْمَتُ الدِّينِ خَاتُونُ بِنْتُ مُعِينِ الدِّينِ أَنُرَ، فَتَلَقَّاهَا
الْجَيْشُ وَمَعَهُمْ صَنْدَلٌ الْخَادِمُ وَحُمِلَتْ لَهَا الْإِقَامَاتُ
وَأُكْرِمَتْ غَايَةَ الْإِكْرَامِ.
وَفِيهَا مَاتَ قَاضِي قُضَاةِ بَغْدَادَ جَعْفَرُ بْنُ الثَّقَفِيِّ، فَشَغَرَ
الْبَلَدُ عَنْ حَاكِمٍ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا حَتَّى وَلِيَ رَوْحُ بْنُ
الْحَدِيثِيِّ قَاضِي الْقُضَاةِ فِي رَابِعِ رَجَبٍ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ
فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ
أَبُو الْبَرَكَاتِ الثَّقَفِيُّ، قَاضِي الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ بَعْدَ أَبِيهِ،
وُلِدَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا
الْعَامِ وَسَبَبُ وَفَاتِهِ أَنَّهُ طُلِبَ مِنْهُ مَالٌ وَكَلَّمَهُ الْوَزِيرُ
ابْنُ الْبَلَدِيِّ كَلَامًا خَشِنًا فَخَافَ، فَرَمَى الدَّمَ وَمَاتَ، رَحِمَهُ
اللَّهُ
أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ
عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ
رَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ، فَسَمِعَ بِهَا وَذَيَّلَ عَلَى تَارِيخِهَا لِلْخَطِيبِ
الْبَغْدَادِيِّ، وَقَدْ نَاقَشَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ،
وَذَكَرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَصَّبُ عَلَى أَهْلِ مَذْهَبِهِ، وَيَطْعَنُ
فِي جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ يُتَرْجِمُ بِعِبَارَةٍ عَامِّيَّةٍ مِثْلَ
قَوْلِهِ عَنْ بَعْضِ الشِّيخَاتِ: إِنَّهَا كَانَتْ عَفِيفَةً. وَعَنِ الشَّاعِرِ
الْمَشْهُورِ بِحَيْصَ بَيْصَ إِنَّهُ كَانَتْ لَهُ أُخْتٌ يُقَالُ لَهَا: دَخَلَ
خَرَجَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ
عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَمُّوَيْهِ أَبُو النَّجِيبِ
السُّهْرَوَرْدِيُّ،
كَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ وَأَفْتَى وَدَرَّسَ بِالنِّظَامِيَّةِ، وَابْتَنَى
لِنَفْسِهِ مَدْرَسَةً وَرِبَاطًا وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ مُتَصَوِّفًا يَعِظُ
النَّاسَ وَدُفِنَ بِمَدْرَسَتِهِ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ
بْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ أَبُو الْفَتْحِ الرَّازِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْعَلَاءِ
الْعَالِمِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ، وَكَانَ مِنَ الْفُحُولِ فِي
الْمُنَاظَرَةِ وَلَهُ طَرِيقَةٌ فِي الْخِلَافِ وَالْجَدَلِ يُقَالُ لَهَا:
التَّعْلِيقَةُ الْعَالَمِيَّةُ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ وَرَدَ
بَغْدَادَ وَحَضَرَ مَجْلِسِي، وَقَالَ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ: كَانَ
يُدْمِنُ شُرْبَ الْخَمْرِ، وَكَانَ يَقُولُ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا أَطْيَبُ مِنْ
كِتَابٍ أُطَالِعُهُ وَبَاطِيَةٍ مِنَ الْخَمْرٍ أَشْرَبُ مِنْهَا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ثُمَّ بَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّهُ أَقْلَعَ عَنْ شُرْبِ
الْخَمْرِ وَالْمُنَاظَرَةِ وَأَقْبَلَ عَلَى التَّنَسُّكِ وَالْخَيْرِ رَحِمَهُ
اللَّهُ.
يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ بُنْدَارٍ الدِّمَشْقِيُّ، مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ تَفَقَّهَ
عَلَى أَسْعَدَ الْمِيهَنِيِّ وَبَرَعَ فِي الْمُنَاظَرَةِ، وَكَانَ يَتَعَصَّبُ
لِلْأَشْعَرِيَّةِ، وَقَدْ بَعَثَ رَسُولًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى شُمْلَةَ
التُّرْكُمَانِيِّ، فَمَاتَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق