16 البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
بِاللَّهِ شَيْئًا
". وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: " فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا
أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا
فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ " [ الْقَمَرِ: 10 - 12 ].
أَحَادِيثَ الِاسْتِسْقَاءِ، عَنْ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا
لِذَلِكَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ قَرِيبًا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَأَلَهُ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لَهُمْ ; لِمَا
بِهِمْ مِنَ الْجَدْبِ وَالْجُوعِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ
اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا ". فَمَا نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ حَتَّى
رُئِيَ الْمَطَرُ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ الْكَرِيمَةِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ
وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَاسْتَحْضَرَ مَنِ اسْتَحْضَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ، قَوْلَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ فِيهِ:
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالَ الْيَتَامَى عِصْمَةً
لِلْأَرَامِلِ يَلُوذُ بِهِ الْهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ
فُهُمْ عِنْدَهُ فِي نِعْمَةٍ وَفَوَاضِلِ
وَكَذَلِكَ اسْتَسْقَى فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ لِلْجَدْبِ وَالْعَطَشِ، فَيُجَابُ
كَمَا يُرِيدُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ الْمَائِيَّةِ، لَا أَزْيَدَ وَلَا
أَنْقَصَ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْمُعْجِزَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا مَاءُ
رَحْمَةٍ وَنِعْمَةٍ، وَمَاءُ الطُّوفَانِ مَاءُ غَضَبٍ وَنِقْمَةٍ، وَأَيْضًا
فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ يَسْتَسْقِي
بِالْعَبَّاسِ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسْقَوْنَ،
وَكَذَلِكَ مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ فِي غَالِبِ الْأَزْمَانِ وَالْبُلْدَانِ
يَسْتَسْقُونَ فَيُجَابُونَ فَيُسْقَوْنَ، وَلَا يُخَيَّبُونَ غَالِبًا وَلَا
يَشْقَوْنَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ:
وَلَبِثَ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، فَبَلَغَ
جَمِيعُ مَنْ آمَنَ بِهِ رِجَالًا وَنِسَاءً، الَّذِينَ رَكِبُوا مَعَهُ
سَفِينَتَهُ، دُونَ مِائَةِ نَفْسٍ، وَآمَنَ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي مُدَّةِ عِشْرِينَ سَنَةً النَّاسُ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَدَانَتْ
لَهُ جَبَابِرَةُ الْأَرْضِ وَمُلُوكُهَا، وَخَافَتْ زَوَالَ مُلْكِهِمْ،
كَكِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَسْلَمَ النَّجَاشِيُّ وَالْأَقْيَالُ ; رَغْبَةً فِي
دِينِ اللَّهِ، وَالْتَزَمَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنْ عُظَمَاءِ الْأَرْضِ
الْجِزْيَةَ وَالْإِتَاوَةَ عَنْ صَغَارٍ ; أَهْلُ نَجْرَانَ وَهَجَرُ، وَأَيْلَةُ
وَأَكَيْدَرُ دُومَةَ، فَذَلُّوا لَهُ مُنْقَادِينَ ; لِمَا أَيَّدَهُ اللَّهُ
بِهِ مِنَ الرُّعْبِ الَّذِي يَسِيرُ بَيْنَ يَدَيْهِ شَهْرًا، وَفَتَحَ
الْفُتُوحَ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ
يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا " [ النَّصْرِ: 1، 2 ].
قُلْتُ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ فَتَحَ
اللَّهُ لَهُ الْمَدِينَةَ وَخَيْبَرَ وَمَكَّةَ وَأَكْثَرَ الْيَمَنِ
وَحَضْرَمَوْتَ، وَتُوُفِّيَ عَنْ مِائَةِ أَلْفِ صَحَابِيٍّ أَوْ يَزِيدُونَ،
وَقَدْ كَتَبَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ الْكَرِيمَةِ إِلَى سَائِرِ مُلُوكِ الْأَرْضِ
يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ وَمِنْهُمْ مَنْ
تَوَقَّفَ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَانَعَ وَدَارَى عَنْ نَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ
تَكَبَّرَ فَخَابَ وَخَسِرَ، كَمَا فَعَلَ كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ حِينَ عَتَا
وَبَغَى وَتَكَبَّرَ، فَمُزِّقَ مُلْكُهُ، وَتَفَرَّقَ جُنْدُهُ شَذَرَ مَذَرَ،
ثُمَّ فَتَحَ خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ - أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ
عُثْمَانُ التَّالِي عَلَى الْأَثَرِ - مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، مِنَ
الْبَحْرِ
الْغَرْبِيِّ إِلَى الْبَحْرِ الشَّرْقِيِّ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا ". وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ". وَكَذَلِكَ وَقَعَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، فَقَدِ اسْتَوْسَقَتِ الْمَمَالِكُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَى مُلْكِ قَيْصَرَ وَحَوَاصِلِهِ إِلَّا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَجَمِيعِ مَمَالِكِ كِسْرَى وَبِلَادِ الْمَشْرِقِ، وَإِلَى أَقْصَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ، إِلَى أَنْ قُتِلَ عُثْمَانُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَبَّحَ قَاتِلِيهِ، فَكَمَا عَمَّتْ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ النِّقْمَةُ بِدَعْوَةِ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا رَأَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّمَادِي فِي الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ وَالْفُجُورِ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ ; غَضَبًا لِلَّهِ وَلِدِينِهِ وَرِسَالَتِهِ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، وَغَضِبَ لِغَضَبِهِ، وَانْتَقَمَ مِنْهُمْ بِسَبَبِهِ، كَذَلِكَ عَمَّتْ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ النِّعْمَةُ بِبَرَكَةِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعْوَتِهِ، فَآمَنَ مَنْ آمَنَ مِنَ النَّاسِ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ " [ الْأَنْبِيَاءِ: 107 ]. وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ " ".
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ
عَمَّارٍ فِي كِتَابِ " الْمَبْعَثِ ": حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النُّعْمَانِيُّ، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي
سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: " وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ " قَالَ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَرُسُلِهِ تَمَّتْ لَهُ الرَّحْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ
يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ عُوفِيَ مِنْ تَعْجِيلِ مَا كَانَ يُصِيبُ
الْأُمَمَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ الْعَذَابِ وَالْفِتَنِ وَالْقَذْفِ وَالْخَسْفِ.
وَقَالَ تَعَالَى: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ " [ إِبْرَاهِيمَ: 28 ].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ النِّعْمَةُ مُحَمَّدٌ، وَالَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ كُفْرًا هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ. يَعْنِي: وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَذَّبَ
بِهِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ
مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ " [ هُودٍ: 17 ].
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ نُوحًا، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى فَقَالَ " إِنَّهُ كَانَ
عَبْدًا شَكُورًا " [ الْإِسْرَاءِ: 3 ]. قُلْنَا: وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَائِهِ فَقَالَ:
" بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ " [ التَّوْبَةِ: 128 ]. قَالَ:
وَقَدْ خَاطَبَ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ بِأَسْمَائِهِمْ، يَا نُوحُ، يَا
إِبْرَاهِيمُ، يَا مُوسَى، يَا دَاوُدُ، يَا يَحْيَى، يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ.
وَقَالَ مُخَاطِبًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ " " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ " " يَا
أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ " " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ " وَذَلِكَ
قَائِمٌ مَقَامَ الْكُنْيَةِ بِصِفَةِ الشَّرَفِ، وَلَمَّا نَسَبَ الْمُشْرِكُونَ
أَنْبِيَاءَهُمْ إِلَى السَّفَهِ، وَالْجُنُونِ، كُلٌّ أَجَابَ عَنْ نَفْسِهِ ;
قَالَ نُوحٌ " يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ " [ الْأَعْرَافِ: 61 ]
. وَكَذَا قَالَ هُودٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ: " وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا " [ الْإِسْرَاءِ: 101 ]. قَالَ مُوسَى: " لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا " [ الْإِسْرَاءِ: 102 ]. إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ. وَأَمَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى جَوَابَهُمْ عَنْهُ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا قَالَ: " وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ " [ الْحِجْرِ: 6 - 8 ]. وَقَالَ تَعَالَى: " وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا " [ الْفُرْقَانِ: 5، 6 ]. " أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ " [ الطُّورِ: 30، 31 ]. وَقَالَ تَعَالَى: " وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ " [ الْحَاقَّةِ: 41 - 43 ]. " وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ " [ الْقَلَمِ: 51، 52 ]. وَقَالَ تَعَالَى: " ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَّى خُلُقٍ عَظِيمٍ " [ الْقَلَمِ: 1 - 4 ]. وَقَالَ تَعَالَى: " وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ " [ النَّحْلِ: 103 ].
الْقَوْلُ فِيمَا أُوتِيَ
هُودٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَهْلَكَ قَوْمَهُ
بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ، وَقَدْ كَانَتْ رِيحَ غَضَبٍ، وَنَصَرَ اللَّهُ تَعَالَى
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبَا يَوْمَ الْأَحْزَابِ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا
لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا " [
الْأَحْزَابِ: 9 ].
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ ( ح ) وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْعُثْمَانِيُّ، أَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا
أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ
أَبِي هِنْدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ
الْأَحْزَابِ انْطَلَقَتِ الْجَنُوبُ إِلَى الشَّمَالِ فَقَالَتِ: انْطَلِقِي
بِنَا نَنْصُرْ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَتِ الشَّمَالُ لِلْجَنُوبِ: إِنَّ الْحُرَّةَ لَا تَسْرِي بِاللَّيْلِ.
فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الصَّبَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: " فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا " وَيَشْهَدُ لَهُ الْحَدِيثُ
الْمُتَقَدِّمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ
قَالَ: نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ. " وَسَيَأْتِي
التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ فِي مُعْجِزَةِ سُلَيْمَانَ بِتَسْخِيرِ الرِّيحِ لَهُ.
الْقَوْلُ فِيمَا أُوتِيَ صَالِحٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَخْرَجَ اللَّهُ لِصَالِحٍ نَاقَةً
مِنَ الصَّخْرَةِ
جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ
آيَةً وَحُجَّةً عَلَى قَوْمِهِ، وَجَعَلَ لَهَا شِرْبَ يَوْمٍ وَلَهُمْ شِرْبَ
يَوْمٍ مَعْلُومٍ. قُلْنَا: وَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ، بَلْ أَبْلَغَ ; لِأَنَّ نَاقَةَ صَالِحٍ لَمْ
تُكَلِّمْهُ وَلَمْ تَشْهَدْ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَمُحَمَّدٌ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِدَ لَهُ الْبَعِيرُ النَّادُّ
بِالرِّسَالَةِ، وَشَكَى إِلَيْهِ مَا يَلْقَى مِنْ أَهْلِهِ، مِنْ أَنَّهُمْ
يُجِيعُونَهُ وَيُدْئِبُونَهُ، ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ بِذَلِكَ، كَمَا قَدَّمْنَا
فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ بِطُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ وَعَزْوِهِ بِمَا أَغْنَى
عَنْ إِعَادَتِهِ هَا هُنَا وَهُوَ فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَالْمَسَانِيدِ،
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعَ ذَلِكَ حَدِيثَ الْغَزَالَةِ، وَحَدِيثَ الضَّبِّ،
وَشَهَادَتَهُمَا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ، كَمَا
تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ وَالْكَلَامُ فِيهِ، وَثَبَتَ الْحَدِيثُ فِي
الصَّحِيحِ بِتَسْلِيمِ الْحَجَرِ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وَكَذَلِكَ
سَلَامُ الْأَشْجَارِ وَالْأَحْجَارِ وَالْمَدَرِ عَلَيْهِ حِينَ بُعِثَ صَلَوَاتُ
اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
الْقَوْلُ فِيمَا أُوتِيَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ أَبُو الْمَعَالِي بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ،
رَحِمَهُ اللَّهُ وَبَلَّ بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ: وَأَمَّا خُمُودُ النَّارِ
لِإِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَدْ خَمَدَتْ لِنَبِيِّنَا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارُ فَارِسَ وَلَمْ تَخْمُدْ قَبْلَ ذَلِكَ
بِأَلْفِ عَامٍ، لِمَوْلِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَهُ
وَبَيْنَ بِعْثَتِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَخَمَدَتْ نَارُ إِبْرَاهِيمَ
لِمُبَاشَرَتِهِ لَهَا، وَخَمَدَتْ نَارُ فَارِسَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَسَافَةُ أَشْهُرٍ. كَذَا، وَهَذَا
الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ
خُمُودِ نَارِ فَارِسَ
لَيْلَةَ مَوْلِدِهِ الْكَرِيمِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ بِأَسَانِيدِهِ وَطُرُقِهِ فِي
أَوَّلِ السِّيرَةِ عِنْدَ ذَكَرِ الْمَوْلِدِ الْمُطَهَّرِ الْمُشَرَّفِ
الْمُكَرَّمِ، بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَمَقْنَعٌ.
ثُمَّ قَالَ شَيْخُنَا: مَعَ أَنَّهُ قَدْ أُلْقِيَ بَعْضُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي
النَّارِ فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ بِبَرَكَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، مِنْهُمْ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ. قَالَ: تَنَبَّأَ
الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ الْعَنْسِيُّ بِالْيَمَنِ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي
مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ فَقَالَ لَهُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ
اللَّهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ: مَا
أَسْمَعُ. فَأَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا أَسْمَعُ. فَأَمَرَ بِنَارٍ عَظِيمَةٍ
فَأُجِّجَتْ، وَطُرِحَ فِيهَا أَبُو مُسْلِمٍ فَلَمْ تَضُرَّهُ. فَقِيلَ لَهُ:
لَئِنْ تَرَكْتَ هَذَا فِي بِلَادِكَ أَفْسَدَهَا عَلَيْكَ. فَأَمَرَهُ
بِالرَّحِيلِ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ وَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَامَ إِلَى سَارِيَةٍ
مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ يُصَلِّي، فَبَصُرَ بِهِ عُمَرُ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ
الرَّجُلُ ؟ قَالَ: مِنَ الْيَمَنِ. قَالَ: مَا فَعَلَ عَدُوُّ اللَّهِ
بِصَاحِبِنَا الَّذِي حَرَقَهُ بِالنَّارِ فَلَمْ تَضُرَّهُ ؟ قَالَ: ذَاكَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ ثُوَبٍ. قَالَ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ أَنْتَ هُوَ ؟ قَالَ:
اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: فَاعْتَنَقَهُ ثُمَّ بَكَى، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ حَتَّى
أَجْلَسَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَقَالَ: الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَمَّ يُمِتْنِي حَتَّى أَرَانِي فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بِإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ
الرَّحْمَنِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهَذَا السِّيَاقُ الَّذِي أَوْرَدَهُ
شَيْخُنَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ قَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ أَبُو
الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي تَرْجَمَةِ أَبِي مُسْلِمٍ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثُوَبٍ فِي " تَارِيخِهِ "
مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ نَجْدَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ الْحِمْصِيِّ، حَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ، أَنَّ الْأَسْوَدَ بْنَ قَيْسِ بْنِ ذِي الْخِمَارِ الْعَنْسِيَّ تَنَبَّأَ بِالْيَمَنِ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ فَأَتَى بِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ: مَا أَسْمَعُ. قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ: مَا أَسْمَعُ. قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَرَدَّدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِرَارًا، ثُمَّ أَمَرَ بِنَارٍ عَظِيمَةٍ فَأُجِّجَتْ فَأَلْقَى أَبَا مُسْلِمٍ فِيهَا فَلَمْ تَضُرَّهُ، فَقِيلَ لِلْأَسْوَدِ: انْفِهِ عَنْكَ وَإِلَّا أَفْسَدَ عَلَيْكَ مَنِ اتَّبَعَكَ. فَأَمَرَهُ، فَارْتَحَلَ أَبُو مُسْلِمٍ، فَأَتَى الْمَدِينَةَ وَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَنَاخَ أَبُو مُسْلِمٍ رَاحِلَتَهُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَامَ يُصَلِّي إِلَى سَارِيَةٍ، وَبَصُرَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَاهُ فَقَالَ: مِمَّنِ الرَّجُلُ ؟ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ. قَالَ: مَا فَعَلَ الرَّجُلُ الَّذِي حَرَقَهُ الْكَذَّابُ بِالنَّارِ ؟ قَالَ: ذَاكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثُوَبٍ. قَالَ: فَأَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَنْتَ هُوَ ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: فَاعْتَنَقَهُ وَبَكَى، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ حَتَّى أَجْلَسَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمَّ يُمِتْنِي حَتَّى أَرَانِي فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بِإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ. قَالَ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ
عَيَّاشٍ: فَأَنَا أَدْرَكْتُ رِجَالًا مِنَ الْأَمْدَادِ الَّذِينَ يُمَدُّونَ
إِلَيْنَا مِنَ الْيَمَنِ ; مِنْ خَوْلَانَ، رُبَّمَا تَمَازَحُوا فَيَقُولُ
الْخَوْلَانِيُّونَ لِلْعَنْسِيِّينَ: صَاحِبُكُمُ الْكَذَّابُ حَرَقَ صَاحِبَنَا
بِالنَّارِ فَلَمْ تَضُرَّهُ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ دُحَيْمٍ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا
الْوَلِيدُ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ
أَبِي وَحْشِيَّةَ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ خَوْلَانَ أَسْلَمَ، فَأَرَادَهُ قَوْمُهُ
عَلَى الْكُفْرِ، فَأَلْقَوْهُ فِي نَارٍ فَلَمْ يَحْتَرِقْ مِنْهُ إِلَّا
أُنْمُلَةٌ لَمْ يَكُنْ فِيمَا مَضَى يُصِيبُهَا الْوُضُوءُ، فَقَدِمَ عَلَى أَبِي
بَكْرٍ فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي قَالَ: أَنْتَ أَحَقُّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ:
إِنَّكَ أُلْقِيتَ فِي النَّارِ فَلَمْ تَحْتَرِقْ. فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، ثُمَّ
خَرَجَ إِلَى الشَّامِ فَكَانُوا يُشَبِّهُونَهُ بِإِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ
السَّلَامُ.
وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ
بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ تُحَقِّقُ أَنَّهُ إِنَّمَا نَالَ ذَلِكَ بِبَرَكَةِ
مُتَابَعَتِهِ الشَّرِيعَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ الْمُطَهَّرَةَ الْمُقَدَّسَةَ،
كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ
تَأْكُلَ مَوَاضِعَ السُّجُودِ ". وَقَدْ نَزَلَ أَبُو مُسْلِمٍ بِدَارَيَّا
مِنْ غَرْبِيِّ دِمَشْقَ، وَكَانَ لَا يَسْبِقُهُ أَحَدٌ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْجَامِعِ بِدِمَشْقَ وَقْتَ الصُّبْحِ، وَكَانَ يُغَازِي فِي بِلَادِ الرُّومِ،
وَلَهُ أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَبْرُهُ مَشْهُورٌ
بِدَارَيَّا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَقَامُهُ الَّذِي كَانَ يَكُونُ فِيهِ،
فَإِنَّ الْحَافِظَ ابْنَ عَسَاكِرَ رَجَّحَ أَنَّهُ مَاتَ بِبِلَادِ الرُّومِ،
فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَقِيلَ: فِي أَيَّامِ ابْنِهِ
يَزِيدَ، بَعْدَ
السِّتِّينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ وَقَعَ لِأَحْمَدَ بْنَ أَبِي
الْحِوَارِيِّ مَعَ شَيْخِهِ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ قِصَّةٌ تُشْبِهُ
هَذَا، كَمَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي "
تَارِيخِهِ " فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحِوَارِيِّ مِنْ غَيْرِ
وَجْهٍ: أَنَّهُ جَاءَ إِلَى أُسْتَاذِهِ أَبِي سُلَيْمَانَ يُعْلِمُهُ أَنَّ
التَّنُّورَ قَدْ سَجَرُوهُ، وَأَهْلُهُ يَنْتَظِرُونَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ،
فَوَجَدَهُ يُكَلِّمُ النَّاسَ وَهُمْ حَوْلَهُ، فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ،
فَاشْتَغَلَ عَنْهُ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَعْلَمُهُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ،
ثُمَّ أَعْلَمُهُ مَعَ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَوْلَهُ، فَقَالَ لَهُ وَهُوَ
مُغْضَبٌ: اذْهَبْ فَاجْلِسْ فِيهِ. ثُمَّ تَشَاغَلَ بِالْحَدِيثِ مَعَ أُولَئِكَ
الَّذِينَ حَوْلَهُ، وَذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحِوَارِيِّ إِلَى
التَّنُّورِ، فَجَلَسَ فِيهِ وَهُوَ يَتَضَرَّمُ نَارًا، فَكَانَ عَلَيْهِ بَرْدًا
وَسَلَامًا، وَمَا زَالَ فِيهِ حَتَّى اسْتَيْقَظَ أَبُو سُلَيْمَانَ مِنْ
كَلَامِهِ، فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: قُومُوا بِنَا إِلَى أَحْمَدَ بْنِ أَبِي
الْحِوَارِيِّ، فَإِنِّي أَظُنُّهُ قَدْ ذَهَبَ إِلَى التَّنُّورِ فَجَلَسَ فِيهِ
امْتِثَالًا لِمَا أَمَرْتُهُ بِهِ، فَذَهَبُوا فَوَجَدُوهُ جَالِسًا فِيهِ،
فَأَخَذَ بِيَدِهِ الشَّيْخُ أَبُو سُلَيْمَانَ وَأَخْرَجَهُ مِنْهُ، رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِمَا، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْمَعَالِي: وَأَمَّا إِلْقَاؤُهُ - يَعْنِي
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ الْمَنْجَنِيقِ، فَقَدْ وَقَعَ فِي
حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ فِي وَقْعَةِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، وَأَنَّ
أَصْحَابَ مُسَيْلِمَةَ انْتَهَوْا إِلَى حَائِطٍ حَفِيرٍ فَتَحَصَّنُوا بِهِ
وَأَغْلَقُوا
الْبَابَ، فَقَالَ
الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ: ضَعُونِي عَلَى تُرْسٍ، وَاحْمِلُونِي عَلَى رُءُوسِ
الرِّمَاحِ، ثُمَّ أَلْقُونِي مِنْ أَعْلَاهَا دَاخِلَ الْبَابِ. فَفَعَلُوا
ذَلِكَ وَأَلْقَوْهُ عَلَيْهِمْ، فَوَقَعَ وَقَامَ وَقَاتَلَ الْمُشْرِكِينَ
حَتَّى قَتَلَ عَشَرَةً أَوْ أَكْثَرَ، وَفَتَحَ الْبَابَ لِلْمُسْلِمِينَ،
فَكَانَ سَبَبَ هَلَاكِ الْمُشْرِكِينَ وَقَتْلِ مُسَيْلِمَةَ.
قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي أَيَّامِ الصِّدِّيقِ حِينَ
بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ لِقِتَالِ مُسَيْلِمَةَ وَبَنِي حَنِيفَةَ،
وَكَانُوا فِي قَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، وَكَانَ
الْمُسْلِمُونَ بِضْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، فَلَمَّا الْتَقَوْا جَعَلَ كَثِيرٌ مِنَ
الْأَعْرَابِ يَفِرُّونَ، فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ: أَخْلِصْنَا
يَا خَالِدُ. فَمَيَّزَهُمْ عَنْهُمْ، فَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ
قَرِيبًا مِنْ أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَصَمَّمُوا الْحَمْلَةَ وَجَعَلُوا
يَتَذَامَرُونَ وَيَقُولُونَ: يَا أَصْحَابَ سُورَةِ " الْبَقَرَةِ "
بَطَلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ. فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَلْجَأُوهُمْ
إِلَى حَدِيقَةٍ هُنَالِكَ - وَتُسَمَّى حَدِيقَةُ الْمَوْتِ - فَتَحَصَّنُوا
بِهَا، فَحَصَرُوهُمْ فِيهَا، فَفَعَلَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ أَخُو أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ، وَكَانَ الْأَكْبَرَ، مَا ذُكِرَ مِنْ رَفْعِهِ عَلَى تُرْسِهِ فَوْقَ
الرِّمَاحِ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنْ أَعْلَى سُورِهَا، ثُمَّ أَلْقَى نَفْسَهُ
عَلَيْهِمْ وَنَهَضَ سَرِيعًا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَزَلْ يُقَاتِلُهُمْ وَحْدَهُ
وَيُقَاتِلُونَهُ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنْ فَتْحِ بَابِ الْحَدِيقَةِ، وَدَخَلَ
الْمُسْلِمُونَ يُكَبِّرُونَ وَانْتَهَوْا إِلَى قَصْرِ مُسَيْلِمَةَ وَهُوَ
وَاقِفٌ خَارِجَهُ عِنْدَ ثُلْمَةِ جِدَارٍ، كَأَنَّهُ جَمَلٌ أَوْرَقَ، أَيْ مِنْ
سُمْرَتِهِ، فَابْتَدَرَهُ وَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْأَسْوَدُ قَاتِلُ حَمْزَةَ
بِحَرْبَتِهِ، وَأَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ
الْأَنْصَارِيُّ - وَهُوَ
الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ شَيْخُنَا هَذَا أَبُو الْمَعَالِي بْنُ
الزَّمْلَكَانِيِّ - فَسَبَقَهُ وَحْشِيٌّ فَأَرْسَلَ الْحَرْبَةَ عَلَيْهِ مِنْ
بُعْدٍ فَأَنْفَذَهَا مِنْهُ، وَجَاءَ إِلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ فَعَلَاهُ
بِسَيْفِهِ فَقَتَلَهُ، لَكِنْ صَرَخَتْ جَارِيَةٌ مِنْ فَوْقِ الْقَصْرِ تَنْدُبُ
مُسَيْلِمَةَ، فَقَالَتْ: وَاأَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَاهْ، قَتَلَهُ الْعَبْدُ
الْأَسْوَدُ. وَيُقَالُ: إِنَّ عُمُرَ مَسَيْلِمَةَ، لَعَنَهُ اللَّهُ، يَوْمَ
قُتِلَ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. فَهُوَ مِمَّنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ
عَمَلُهُ، قَبَّحَهُ اللَّهُ. وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ
بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَأَمَّا الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ
إِبْرَاهِيمَ خُصَّ بِالْخُلَّةِ مَعَ النُّبُوَّةِ. قِيلَ: فَقَدِ اتَّخَذَ
اللَّهُ مُحَمَّدًا خَلِيلًا وَحَبِيبًا، وَالْحَبِيبُ أَلْطَفُ مِنَ الْخَلِيلِ.
ثُمَّ سَاقَ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي
الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا
خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ
اللَّهِ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ وَالثَّوْرِيِّ، عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ وَعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ
الْجُشَمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا
خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّهُ أَخِي وَصَاحِبِي،
وَقَدِ اتَّخَذَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، صَاحِبَكُمْ، خَلِيلًا. هَذَا لَفْظُ
مُسْلِمٍ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مُنْفَرِدًا بِهِ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، كَمَا سَأَذْكُرُهُ. وَأَصْلُ الْحَدِيثِ
فِي "
الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، كَمَا سُقْتُ ذَلِكَ فِي فَضَائِلِ
الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ أَوْرَدْنَاهُ هُنَالِكَ مِنْ
رِوَايَةِ أَنَسٍ، وَالْبَرَاءِ، وَجَابِرٍ، وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبِي
سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ،
وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ
إِنَّمَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ كَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: عَهْدِي بِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَبْلَ وَفَاتِهِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ
إِلَّا لَهُ خَلِيلٌ مِنْ أُمَّتِهِ، وَإِنَّ خَلِيلِي أَبُو بَكْرٍ، وَإِنَّ
اللَّهَ اتَّخَذَ صَاحِبَكُمْ خَلِيلًا. وَهَذَا الْإِسْنَادُ ضَعِيفٌ.
وَمِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ
خَلِيلٌ، وَخَلِيلِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ، وَخَلِيلُ صَاحِبِكُمُ
الرَّحْمَنُ. وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ الضِّحَاكِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
عَيَّاشٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ
بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ
خَلِيلًا، وَمَنْزِلِي وَمَنْزِلُ إِبْرَاهِيمَ فِي الْجَنَّةِ تُجَاهَيْنِ،
وَالْعَبَّاسُ بَيْنَنَا مُؤْمِنٌ بَيْنَ خَلِيلَيْنِ. غَرِيبٌ وَفِي إِسْنَادِهِ
نَظَرٌ. انْتَهَى مَا أَوْرَدَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي " صَحِيحِهِ ": حَدَّثَنَا أَبُو
بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا: حَدَّثَنَا
زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا
زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الْحَارِثِ،حَدَّثَنِي جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ
وَهُوَ يَقُولُ: إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يَكُونَ لِي
مِنْكُمْ خَلِيلٌ ; فَإِنَّ اللَّهَ قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا
لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا
تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا
اتِّخَاذُهُ حَبِيبًا فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِإِسْنَادِهِ أَبُو نُعَيْمٍ.
وَقَدْ قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ فِي كِتَابِهِ " الْمَبْعَثِ ":
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ الْحَضْرَمِيُّ وَعُثْمَانُ بْنُ عَلَاقٍ
الْقُرَشِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا عُرْوَةُ بْنُ رُوَيْمٍ اللَّخْمِيُّ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:إِنَّ اللَّهَ أَدْرَكَ
بِيَ الْأَجَلَ الْمَرْقُومَ، وَأَخَذَنِي الْمُقْرُبَةَ، وَاحْتَضَرَنِي
احْتِضَارًا، فَنَحْنُ الْآخِرُونَ، وَنَحْنُ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
وَأَنَا قَائِلٌ قَوْلًا غَيْرَ فَخْرٍ: إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ، وَمُوسَى
صَفِّيُّ اللَّهِ، وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ، وَأَنَا سَيِّدُ
وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ مَعِي لِوَاءَ الْحَمْدِ، تَحْتَهُ كُلُّ نَبِيٍّ
وَصِدِّيقٍ وَشَهِيدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تُفْتَحُ لَهُ
أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَأَجَارَنِي اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ ثَلَاثٍ ; أَنْ لَا
يُهْلِكَكُمْ بِسَنَةٍ، وَأَنْ لَا يَسْتَبِيحَكُمْ عَدُوٌّ، وَأَنْ لَا
تَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلَالَةٍ.
وَأَمَّا الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ
فَتَكَلَّمَ عَلَى مَقَامِ الْخُلَّةِ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ إِلَى أَنْ قَالَ:
وَيُقَالُ الْخَلِيلُ الَّذِي يَعْبُدُ رَبَّهُ عَلَى الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ،
مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [ التَّوْبَةِ: 114 ]. مِنْ
كَثْرَةِ مَا يَقُولُ: أَوْهِ. وَالْحَبِيبُ الَّذِي يَعْبُدُ رَبَّهُ عَلَى
الرُّؤْيَةِ وَالْمَحَبَّةِ. وَيُقَالُ: الْخَلِيلُ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ
انْتِظَارُ الْعَطَاءِ، وَالْحَبِيبُ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ انْتِظَارُ
اللِّقَاءِ. وَيُقَالُ: الْخَلِيلُ الَّذِي يَصِلُ بِالْوَاسِطَةِ. مِنْ قَوْلِهِ:
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ
مِنَ الْمُوقِنِينَ [ الْأَنْعَامِ: 75 ]. وَالْحَبِيبُ الَّذِي يَصِلُ بِهِ
إِلَيْهِ. مِنْ قَوْلِهِ: فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [ النَّجْمِ: 9
]. وَقَالَ الْخَلِيلُ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ
الدِّينِ [ الشُّعَرَاءِ: 82 ]. وَقَالَ اللَّهُ لِلْحَبِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ
وَمَا تَأَخَّرَ [ الْفَتْحِ: 2 ]. وَقَالَ الْخَلِيلُ: وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ
يُبْعَثُونَ [ الشُّعَرَاءِ: 87 ]. وَقَالَ اللَّهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ [ التَّحْرِيمِ: 8 ]. وَقَالَ الْخَلِيلُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ:
حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَقَالَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ: يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ الْأَنْفَالِ:
64 ]. وَقَالَ الْخَلِيلُ: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [
الصَّافَّاتِ: 99 ]. وَقَالَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [
الضُّحَى: 7 ]. وَقَالَ
الْخَلِيلُ: وَاجْعَلْ
لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [ الشُّعَرَاءِ: 84 ]. وَقَالَ اللَّهُ
لِمُحَمَّدٍ: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [ الشَّرْحِ: 4 ]. وَقَالَ الْخَلِيلُ:
وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [ إِبْرَاهِيمِ: 35 ]. وَقَالَ
اللَّهُ لِلْحَبِيبِ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ
أَهْلَ الْبَيْتِ [ الْأَحْزَابِ: 33 ]. وَقَالَ الْخَلِيلُ: وَاجْعَلْنِي مِنْ
وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [ الشُّعَرَاءِ: 85 ]. وَقَالَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ:
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [ الْكَوْثَرِ: 1 ]. وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أُخَرَ،
وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنِّي
سَأَقُومُ مَقَامًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ
حَتَّى أَبُوهُمْ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ
مِنْهُ، إِذْ هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ بَعْدَهُ، وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْ
إِبْرَاهِيمَ بَعْدَهُ لَذَكَرَهُ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، حُجِبَ عَنْ نَمْرُودَ بِحُجُبٍ ثَلَاثَةٍ. قِيلَ: فَقَدْ كَانَ
كَذَلِكَ، وَحُجِبَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ
أَرَادُوا قَتْلَهُ بِخَمْسَةِ حُجُبٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَمْرِهِ:
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا
فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ [ يس: 9 ]. فَهَذِهِ ثَلَاثٌ، ثُمَّ
قَالَ: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا [ الْإِسْرَاءِ: 45 ]. ثُمَّ قَالَ:
فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ [ يس: 8 ]. فَهَذِهِ خَمْسَةُ
حُجُبٍ. وَقَدْ ذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَامِدٍ،
وَمَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَخَذَ مِنَ الْآخَرِ ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَرِيبٌ، وَالْحُجُبُ الَّتِي ذَكَرَهَا لِإِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا أَدْرِي مَا هِيَ، كَيْفَ وَقَدْ أَلْقَاهُ فِي النَّارِ الَّتِي نَجَّاهُ اللَّهُ مِنْهَا ؟ ! وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْحُجُبِ الْمُسْتَدِلِّ عَلَيْهَا بِهَذِهِ الْآيَاتِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا جَمِيعَهَا مَعْنَوِيَّةٌ لَا حِسِّيَّةٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ، لَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَخْلُصُ إِلَى قُلُوبِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [ فُصِّلَتْ: 5 ]. وَقَدْ حَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ " وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي السِّيرَةِ وَفِي " التَّفْسِيرِ " أَنَّ أُمَّ جَمِيلٍ امْرَأَةَ أَبِي لَهَبٍ لَمَّا نَزَلَتِ السُّورَةُ فِي ذَمِّهَا وَذَمِّ زَوْجِهَا، وَدُخُولِهِمَا النَّارَ، وَخَسَارِهِمَا، جَاءَتْ بِفِهْرٍ، وَهُوَ الْحَجَرُ الْكَبِيرُ الْمُسْتَطِيلُ ; لَتَرْجُمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْتَهَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَتْ لِأَبِي بَكْرٍ: أَيْنَ صَاحِبُكَ ؟ فَقَالَ: وَمَا لَهُ ؟ فَقَالَتْ: إِنَّهُ هَجَانِي. فَقَالَ: وَمَا هَجَاكِ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَأَضْرِبَنَّهُ بِهَذَا الْفِهْرِ. ثُمَّ رَجَعَتْ وَهِيَ تَقُولُ: مُذَمَّمًا أَبَيْنَا وَدِينَهُ قَلَيْنَا. وَكَذَلِكَ حُجِبَ وَمُنِعَ أَبِي جَهْلٍ حِينَ هَمَّ أَنْ يَطَأَ بِرِجْلِهِ رَأْسَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَرَأَى خَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلًا عَظِيمًا، وَأَجْنِحَةَ الْمَلَائِكَةِ دُونَهُ، فَرَجَعَ الْقَهْقَرَى وَهُوَ يَتَّقِي بِيَدَيْهِ، فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: مَا لَكَ ؟ وَيَحَكَ ! فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا رَأَى، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَقْدَمَ لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا ". وَكَذَلِكَ لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ
الْهِجْرَةِ وَقَدْ
أَرْصَدُوا عَلَى مَدْرَجَتِهِ وَطَرِيقِهِ وَحَوَالَيْ بَيْتِهِ رِجَالًا
يَحْرُسُونَهُ ; لِئَلَّا يَخْرُجَ، وَمَتَى عَايَنُوهُ قَتَلُوهُ، فَأَمَرَ
عَلِيًّا فَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ جُلُوسٌ،
فَجَعَلَ يَرُشُّ عَلَى رَأْسِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ تُرَابًا وَيَقُولُ:
شَاهَتِ الْوُجُوهُ ". ثُمَّ خَرَجَ وَلَمْ يَرَوْهُ حَتَّى صَارَ هُوَ
وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. إِلَى غَارِ ثَوْرٍ، كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي
السِّيرَةِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَنْكَبُوتَ سَدَّ عَلَى بَابِ
الْغَارِ ; لِيُعَمِّيَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَكَانَهُ.
وَفِي " الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ
نَظَرَ أَحَدُهُمْ إِلَى مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرْنَا. فَقَالَ: " يَا
أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا ؟ ". وَقَدْ
قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ:
نَسْجُ دَاوُدَ مَا حَمَى صَاحِبَ الْغَا رِ وَكَانَ الْفَخَارُ لِلْعَنْكَبُوتِ
وَكَذَلِكَ حُجِبَ وَمُنِعَ مِنْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشَمٍ حِينَ
اتَّبَعَهُمْ، بِسُقُوطِ قَوَائِمِ فَرَسِهِ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى أَخَذَ مِنْهُ
أَمَانًا، كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُهُ فِي الْهِجْرَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ حَامِدٍ فِي كِتَابِهِ فِي مُقَابَلَةِ إِضْجَاعِ إِبْرَاهِيمَ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَدَهُ لِلذَّبْحِ مُسْتَسْلِمًا لِأَمْرِ اللَّهِ
تَعَالَى، بَذْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ
لِلْقَتْلِ يَوْمَ أُحُدٍ وَغَيْرَهُ حَتَّى نَالَ مِنْهُ الْعَدُوُّ مَا نَالُوا
; مِنْ هَشْمِ رَأَسِهِ، وَكَسْرِ ثَنِيَّتِهِ الْيُمْنَى السُّفْلَى،
كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُ
ذَلِكَ فِي السِّيرَةِ.
ثُمَّ قَالَ: قَالُوا: كَانَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَلْقَاهُ
قَوْمُهُ فِي النَّارِ فَجَعَلَهَا اللَّهُ بَرْدًا وَسَلَامًا. قُلْنَا: وَقَدْ
أُوتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ بِخَيْبَرَ سَمَّتْهُ الْخَيْبَرِيَّةُ، فَصُيِّرَ ذَلِكَ
السُّمُّ فِي جَوْفِهِ بَرْدًا وَسَلَامًا إِلَى مُنْتَهَى أَجَلِهِ، وَالسُّمُّ
يَحْرِقُ - إِذْ لَا يَسْتَقِرُّ فِي الْجَوْفِ - كَمَا تَحْرِقُ النَّارُ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ فِي فَتْحِ خَيْبَرَ. وَيُؤَيِّدُ
مَا قَالَهُ أَنَّ بِشْرَ بْنَ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ مَاتَ سَرِيعًا مِنْ
تِلْكَ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ، وَأَخْبَرَ ذِرَاعُهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أُودِعَ فِيهِ مِنَ السُّمِّ، وَكَانَ قَدْ
نَهَشَ مِنْهُ نَهْشَةً، وَكَانَ السُّمُّ فِيهِ أَكْثَرَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا
يَفْهَمُونَ أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، يُحِبُّ الذِّرَاعَ،
فَلَمْ يَضُرَّهُ السُّمُّ الَّذِي حَصَلَ فِي بَاطِنِهِ بِإِذْنِ اللَّهِ، عَزَّ
وَجَلَّ، حَتَّى انْقَضَى أَجَلُهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَذَكَرَ
أَنَّهُ وَجَدَ حِينَئِذٍ مِنْ أَلَمِ ذَلِكَ السُّمِّ الَّذِي كَانَ فِي تِلْكَ
الْأَكْلَةِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي
تَرْجَمَةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيِّ فَاتِحِ بِلَادِ الشَّامِ
أَنَّهُ أُتِيَ بِسُمٍّ فَتَحَسَّاهُ بِحَضْرَةِ الْأَعْدَاءِ ; لِيُرْهِبَهُمْ
بِذَلِكَ، فَلَمْ يَرَ بَأْسًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَصَمَ نَمْرُودَ
بِبُرْهَانِ نُبُوَّتِهِ فَبَهَتَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَبُهِتَ الَّذِي
كَفَرَ [ الْبَقَرَةِ: 258 ]. قِيلَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَتَاهُ الْمُكَذِّبُ بِالْبَعْثِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ بِعَظْمٍ بَالٍ فَفَرَكَهُ
وَقَالَ: مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [ يس: 78 ]. فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى الْبُرْهَانَ السَّاطِعَ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [ يس: 79: ] فَانْصَرَفَ مَبْهُوتًا
بِبُرْهَانِ
نُبُوَّتِهِ. قُلْتُ: وَهَذَا أَقْطَعُ لِلْحُجَّةِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالُهُ عَلَى الْمَعَادِ بِالْبَدَاءَةِ، فَالَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِمْ، كَمَا قَالَ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [ يس: 81 ]. أَيْ يُعِيدُهُمْ كَمَا بَدَأَهُمْ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [ الْأَحْقَافِ: 33 ]. وَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [ الرُّومِ: 27 ]. هَذَا وَأَمْرُ الْمَعَادِ نَظَرِيٌّ لَا فِطْرِيٌّ، ضَرُورِيٌّ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، فَأَمَّا الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ فَإِنَّهُ مُعَانِدٌ مُكَابِرٌ، فَإِنَّ وُجُودَ الصَّانِعِ مَذْكُورٌ فِي الْفِطَرِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مَفْطُورٌ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا مَنْ تَغَيَّرَتْ فِطْرَتُهُ، فَيَصِيرُ نَظَرِيًّا عِنْدَهُ، وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ يَجْعَلُ وُجُودَ الصَّانِعِ مِنْ بَابِ النَّظَرِ لَا الضَّرُورِيَّاتِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَدَعْوَاهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُمِيتُ لَا يَقْبَلُهُ عَقْلٌ وَلَا سَمْعٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يُكَذِّبُهُ بِعَقْلِهِ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا أَلْزَمَهُ إِبْرَاهِيمُ بِالْإِتْيَانِ بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ إِنْ كَانَ كَمَا ادَّعَى: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [ الْبَقَرَةِ: 258 ]. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْكُرَ مَعَ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَلَّطَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الْمُعَانِدِ لَمَّا بَارَزَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَتَلَهُ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ ; طَعَنَهُ بِحَرْبَةٍ فَأَصَابَ تَرْقُوَتَهُ فَتَدَأْدَأَ عَنْ فَرَسِهِ مِرَارًا، فَقَالُوا لَهُ: وَيَحَكَ مَا لَكَ ؟ ! فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ بِي لَمَا لَوْ كَانَ بِأَهْلِ ذِي الْمَجَازِ لَمَاتُوا أَجْمَعِينَ، أَلَمْ يَقُلْ: " بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ ؟ " وَاللَّهِ لَوْ بَصَقَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي. وَكَانَ أُبَيٌّ هَذَا،
لَعَنَهُ اللَّهُ، قَدْ
أَعَدَّ فَرَسًا وَحَرْبَةً لِيَقْتُلَ بِهَا عَلَيْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
". فَكَانَ كَذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، كَسَرَ أَصْنَامَ قَوْمِهِ غَضَبًا لِلَّهِ. قِيلَ:فَإِنَّ مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَسَرَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ صَنَمًا
نُصِبَتْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَأَشَارَ إِلَيْهِنَّ فَتَسَاقَطْنَ. ثُمَّ رُوِيَ
مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ،عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ
وَحَوْلَ الْبَيْتِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا قَدْ أَلْزَقَهَا الشَّيْطَانُ
بِالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ، فَكَانَ كُلَّمَا دَنَا مِنْهَا بِمِخْصَرَتِهِ
تَهْوِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهَا، وَيَقُولُ: " جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ
الْبَاطِلُ، إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ". فَتَسَاقَطُ لِوُجُوهِهَا،
ثُمَّ أَمَرَ بِهِنَّ فَأُخْرِجْنَ إِلَى الْمَسِيلِ، وَهَذَا أَظْهَرُ وَأَجْلَى
مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي أَوَّلِ دُخُولِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ بِأَسَانِيدِهِ
وَطُرُقِهِ مِنَ الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا، بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَقَدْ ذَكَرَ
غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السِّيَرِ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَسَاقَطَتْ أَيْضًا
لَيْلَةَ مَوْلِدِهِ الْكَرِيمِ، وَهَذَا أَبْلَغُ وَأَقْوَى فِي الْمُعْجِزِ مِنْ
مُبَاشَرَةِ كَسْرِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ نَارَ فَارِسَ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا
خَمَدَتْ أَيْضًا لَيْلَتَئِذٍ، وَلَمْ تَخْمُدْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَلْفِ عَامٍ،
وَأَنَّهُ سَقَطَ مِنْ شُرُفَاتِ قَصْرِ كِسْرَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةً،
مُؤْذِنَةً بِزَوَالِ دَوْلَتِهِمُ الْكَافِرَةِ بَعْدَ هَلَاكِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ
مِنْ
مُلُوكِهِمْ فِي أَقْصَرِ
مُدَّةٍ، وَكَانَ لَهُمْ فِي الْمُلْكِ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ سَنَةٍ.
وَأَمَّا إِحْيَاءُ الطُّيُورِ الْأَرْبَعَةِ لِإِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، فَلَمْ يَذْكُرْهُ أَبُو نُعَيْمٍ وَلَا ابْنُ حَامِدٍ، وَسَيَأْتِي
فِي إِحْيَاءِ الْمَوْتَى عَلَى يَدِ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَا وَقَعَ
مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مِنْ هَذَا النَّمَطِ مَا هُوَ مِثْلُ
ذَلِكَ وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ إِذَا
انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ ; مِنْ إِحْيَاءِ أَمْوَاتٍ بِدَعَوَاتٍ مِنْ أَمَتِّهِ،
وَحَنِينِ الْجِذْعِ، وَتَسْلِيمِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ وَالْمَدَرِ عَلَيْهِ،
وَتَكْلِيمِ الذِّرَاعِ لَهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ
مِنَ الْمُوقِنِينَ [ الْأَنْعَامِ: 75 ]. وَالْآيَاتُ بَعْدَهَا، فَقَدْ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ
مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [ الْإِسْرَاءِ: 1 ]. وَقَدْ
ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ حَامِدٍ فِيمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ بَعْدُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا
فِي أَحَادِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، وَمِنَ " التَّفْسِيرِ
" مَا شَاهَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ
أُسْرِيَ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
وَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ مَا عَايَنَ مِنَ
الْآيَاتِ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَسِدْرَةِ الْمُنْتَهَى،
وَجَنَّةِ الْمَأْوَى، وَالنَّارِ الَّتِي هِيَ بِئْسَ الْمَصِيرُ وَالْمَثْوَى.
وَقَالَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ فِي حَدِيثِ الْمَنَامِ -
وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَغَيْرُهُمَا -:
فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ وَعَرَفْتُ ".
وَذَكَرَ ابْنُ حَامِدٍ فِي مُقَابَلَةِ ابْتِلَاءِ اللَّهِ يَعْقُوبَ، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، بِفَقْدِ وَلَدِهِ
يُوسُفَ، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَصَبْرِهِ وَاسْتِعَانَتِهِ رَبَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، مَوْتَ
إِبْرَاهِيمَ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَبْرَهُ
عَلَيْهِ، وَقَوْلَهُ: تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ
إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ
". قُلْتُ: وَقَدْ مَاتَتْ بَنَاتُهُ الثَّلَاثَةُ ; رُقَيَّةُ وَأُمُّ
كُلْثُومٍ، وَزَيْنَبُ، وَقُتِلَ عَمُّهُ حَمْزَةُ أَسَدُ اللَّهِ وَأَسَدُ
رَسُولِهِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ.
وَذَكَرَ فِي مُقَابَلَةِ حُسْنِ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَا ذَكَرَ مِنْ
جَمَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَهَابَتِهِ
وَحَلَاوَتِهِ شَكْلًا وَنُطْقًا وَهَدْيًا، وَدَلًّا وَسَمْتًا، كَمَا تَقَدَّمَ
فِي شَمَائِلِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَتِ
الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ: لَوْ رَأَيْتَهُ لَرَأَيْتَ الشَّمْسَ طَالِعَةً.
وَذَكَرَ فِي مُقَابَلَةِ مَا ابْتُلِيَ بِهِ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ
الْفُرْقَةِ وَالْغُرْبَةِ، هِجْرَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمُفَارَقَتَهُ وَطَنَهُ وَأَهْلَهُ
وَأَصْحَابَهُ الَّذِينَ كَانُوا بِهَا.
الْقَوْلُ فِيمَا أُوتِيَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ الْآيَاتِ
الْبَيِّنَاتِ.
وَأَعْظَمُهُنَّ تِسْعُ آيَاتٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [ الْإِسْرَاءِ: 101 ].
وَقَدْ شَرَحْنَاهَا فِي " التَّفْسِيرِ " وَحَكَيْنَا قَوْلَ السَّلَفِ فِيهَا، وَاخْتِلَافَهُمْ فِيهَا، وَأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهَا هِيَ الْعَصَا فِي انْقِلَابِهَا حَيَّةً تَسْعَى، وَالْيَدُ إِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِ دِرْعِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا تُضِيءُ كَقِطْعَةِ قَمَرٍ يَتَلَأْلَأُ إِضَاءَةً، وَدُعَاؤُهُ عَلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ حِينَ كَذَّبُوهُ فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ، كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ " وَكَذَلِكَ أَخَذَهُمُ اللَّهُ بِالسِّنِينَ، وَهِيَ نَقْصُ الْحُبُوبِ، وَبِالْجَدْبِ، وَهُوَ نَقْصُ الثِّمَارِ، وَبِالْمَوْتِ الذَّرِيعِ، وَهُوَ نَقْصُ الْأَنْفُسِ، وَهُوَ الطُّوفَانُ فِي قَوْلٍ، وَمِنْهَا فَلْقُ الْبَحْرِ لِإِنْجَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِغْرَاقِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَمِنْهَا تَظْلِيلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التِّيهِ بِالْغَمَامِ، وَإِنْزَالُ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى عَلَيْهِمْ، وَاسْتِسْقَاؤُهُ لَهُمْ، فَجَعَلَ اللَّهُ مَاءَهُمْ يَخْرُجُ مِنْ حَجَرٍ يُحْمَلُ مَعَهُمْ عَلَى دَابَّةٍ، لَهُ أَرْبَعَةُ وُجُوهٍ، إِذَا ضَرَبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ يَخْرُجُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ثَلَاثَةُ أَعْيُنٍ، لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ، ثُمَّ يَضْرِبُهُ فَيُقْلِعُ، وَقَتَلَ كُلَّ مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ مِنْهُمْ ثُمَّ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقِصَّةُ الْبَقَرَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ، كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ " وَفِي قِصَّةِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ كِتَابِنَا هَذَا فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
أَمَّا الْعَصَا فَقَالَ
شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ: وَأَمَّا حَيَاةُ عَصَا مُوسَى،
فَقَدْ سَبَّحَ الْحَصَا فِي كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ جَمَادٌ، وَالْحَدِيثُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ
مَشْهُورٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا
ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ،
وَفِيهِ: أَنَّهُنَّ سَبَّحْنَ فِي كَفِّ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرَ، ثُمَّ
عُثْمَانَ، كَمَا سَبَّحْنَ فِي كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: " هَذِهِ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ".
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ إِلَى بَكْرِ بْنِ خُنَيْسٍ،
عَنْ رَجُلٍ سَمَّاهُ قَالَ: كَانَ بِيَدِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ
سُبْحَةٌ يُسَبِّحُ بِهَا. قَالَ: فَنَامَ وَالسُّبْحَةُ فِي يَدِهِ. قَالَ:
فَاسْتَدَارَتِ السُّبْحَةُ فَالْتَفَّتْ عَلَى ذِرَاعِهِ، وَجَعَلَتْ تُسَبِّحُ،
فَالْتَفَتَ أَبُو مُسْلِمٍ وَالسُّبْحَةُ تَدُورُ فِي ذِرَاعِهِ وَهِيَ تَقُولُ:
سُبْحَانَكَ يَا مُنْبِتَ النَّبَاتِ، وَيَا دَائِمَ الثَّبَاتِ. فَقَالَ:
هَلُمِّي يَا أُمَّ مُسْلِمٍ، وَانْظُرِي إِلَى أَعْجَبِ الْأَعَاجِيبِ. قَالَ:
فَجَاءَتْ أُمُّ مُسْلِمٍ وَالسُّبْحَةُ تَدُورُ وَتُسَبِّحُ، فَلَمَّا جَلَسَتْ
سَكَتَتْ.
وَأَصَحُّ مِنْ هَذَا كُلِّهُ وَأَصْرَحُ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ قَالَ:كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ.
قَالَ شَيْخُنَا:
وَكَذَلِكَ قَدْ سَلَّمَتْ عَلَيْهِ الْأَحْجَارُ. قُلْتُ: وَهَذَا قَدْ رَوَاهُ
مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي لِأَعَرِفُ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ
بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لِأَعْرِفُهُ الْآنَ. قَالَ بَعْضُهُمْ:
هُوَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكُوفِيُّ،
حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي ثَوْرٍ عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ
أَبِي يَزِيدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
قَالَكُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فِي
بَعْضِ نَوَاحِيهَا، فَمَا اسْتَقْبَلَهُ جَبَلٌ وَلَا شَجَرٌ إِلَّا قَالَ:
السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ أَبُو
نُعَيْمٍ فِي " الدَّلَائِلِ " مِنْ حَدِيثِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي
عُمَارَةَ الْخَيْوَانِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ لَا يَمُرُّ عَلَى حَجَرٍ وَلَا
شَجَرٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ. وَقَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الْمَبْعَثِ أَنَّهُ
لَمَّا أَوْحَى إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَوَّلَ مَا أَوْحَى إِلَيْهِ، فَرَجْعَ لَا
يَمُرُّ بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ وَلَا مَدَرٍ وَلَا شَيْءٍ إِلَّا قَالَ: السَّلَامُ
عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: وَأَقْبَلَتِ الشَّجَرَةُ عَلَيْهِ
بِدُعَائِهِ. وَذَكَرَ اجْتِمَاعَ تَيْنِكَ الشَّجَرَتَيْنِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ
مِنْ وَرَائِهِمَا ثُمَّ رُجُوعَهُمَا إِلَى مَنَابِتِهِمَا، وَكِلَا
الْحَدِيثَيْنِ فِي " الصَّحِيحِ "
وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ
مِنْ ذَلِكَ حُلُولُ حَيَاةٍ فِيهِمَا، إِذْ قَدْ تَكُونَانِ سَاقَهُمَا سَائِقٌ،
وَلَكِنْ فِي قَوْلِهِ: " انْقَادَا عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ " مَا
يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ شُعُورٍ مِنْهُمَا لِمُخَاطَبَتِهِ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ
امْتِثَالِهِمَا مَا أَمَرَهُمَا بِهِ. قَالَ:وَأَمَرَ عِذْقًا مِنْ نَخْلَةٍ أَنْ
يَنْزِلَ فَنَزَلَ إِلَيْهِ يَنْقُزُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ
فَقَالَ: " أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ " فَشَهِدَ بِذَلِكَ
ثَلَاثًا ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَانِهِ. وَهَذَا أَلْيَقُ وَأَظْهَرُ فِي
الْمُطَابَقَةِ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلَكِنْ هَذَا السِّيَاقُ فِيهِ
غَرَابَةٌ.
وَالَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ وَالْبُخَارِيُّ فِي " التَّارِيخِ " مِنْ رِوَايَةِ
أَبِي ظَبْيَانَ حُصَيْنِ بْنِ جُنْدَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ
أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
بِمَ أَعْرِفُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ: " أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ
هَذَا الْعِذْقَ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟
" قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَدَعَا الْعِذْقَ، فَجَعَلَ الْعِذْقُ يَنْزِلُ
مِنَ النَّخْلَةِ حَتَّى سَقَطَ فِي الْأَرْضِ، فَجَعَلَ يَنْقُزُ حَتَّى أَتَى
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: "
ارْجِعْ ". فَرَجَعَ حَتَّى عَادَ إِلَى مَكَانِهِ، فَقَالَ: أَشْهَدُ
أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. وَآمَنَ بِهِ. هَذَا لَفْظُ الْبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ
ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الَّذِي شَهِدَ بِالرِّسَالَةِ هُوَ الْأَعْرَابِيُّ، وَكَانَ
رَجُلًا مِنْ بَنِي عَامِرٍ.
وَلَكِنْ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمِ
بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي يَقُولُ
أَصْحَابُكَ ؟ قَالَ:
وَحَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْذَاقٌ وَشَجَرٌ.
فَقَالَ: " هَلْ لَكَ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً ؟ " قَالَ: نَعَمْ. فَدَعَا
غُصْنًا مِنْهَا فَأَقْبَلَ يَخُدُّ الْأَرْضَ حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ
وَجَعَلَ يَسْجُدُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَرَجَعَ. قَالَ: فَرَجَعَ
الْعَامِرِيُّ وَهُوَ يَقُولُ: يَا آلَ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَاللَّهِ لَا
أُكَذِّبُهُ بِشَيْءٍ يَقُولُهُ أَبَدًا.
وَتَقَدَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ "
مُتَفَرِّدًا بِهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا رَجُلًا إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ: هَلْ مِنْ شَاهِدٍ
عَلَى مَا تَقُولُ ؟ قَالَ: " هَذِهِ الشَّجَرَةُ ". فَدَعَاهَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ عَلَى شَاطِئِ الْوَادِي، فَأَقْبَلَتْ
تَخُدُّ الْأَرْضَ خَدًّا، فَقَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاسْتَشْهَدَهَا ثَلَاثًا،
فَشَهِدَتْ أَنَّهُ كَمَا قَالَ، ثُمَّ إِنَّهَا رَجَعَتْ إِلَى مَنْبَتِهَا،
وَرَجَعَ الْأَعْرَابِيُّ إِلَى قَوْمِهِ وَقَالَ: إِنْ يَتَّبِعُونِي أَتَيْتُكَ
بِهِمْ وَإِلَّا رَجَعْتُ إِلَيْكَ وَكُنْتُ مَعَكَ.
قَالَ: وَأَمَّا حَنِينُ الْجِذْعِ الَّذِي كَانَ يَخْطُبُ إِلَيْهِ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعُمِلَ لَهُ الْمِنْبَرُ، فَلَمَّا رَقِيَ
عَلَيْهِ وَخَطَبَ، حَنَّ الْجِذْعُ إِلَيْهِ حَنِينَ الْعِشَارِ وَالنَّاسُ
يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ بِمَشْهَدِ الْخَلْقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَمْ يَزَلْ
يَئِنُّ وَيَحِنُّ حَتَّى نَزَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَاعْتَنَقَهُ وَسَكَّنَهُ وَخَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ غُصْنًا
طَرِيًّا أَوْ يُغْرَسَ فِي الْجَنَّةِ يَأْكُلُ مِنْهُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ،
فَاخْتَارَ الْغَرْسَ فِي الْجَنَّةِ، وَسَكَنَ عِنْدَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ حَدِيثٌ
مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ، قَدْ رَوَاهُ مِنَ الصَّحَابَةِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مُتَوَاتِرٌ،
وَكَانَ بِحُضُورِ الْخَلَائِقِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ تَوَاتُرِ حَدِيثِ
الْجِذْعِ هُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى
هَذَا الْحَدِيثَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْهُمْ أَعْدَادٌ مِنَ التَّابِعِينَ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ آخَرُونَ عَنْهُمْ، لَا يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا تَخْيِيرُ الْجِذْعِ كَمَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا فَلَيْسَ بِمُتَوَاتِرٍ، بَلْ وَلَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ، وَقَدْ أَوْرَدْتُهُ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَذُكِرَ فِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ "، " وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ "، وَعَنْ أَنَسٍ مِنْ خَمْسِ طُرُقٍ إِلَيْهِ، صَحَّحَ التِّرْمِذِيُّ إِحْدَاهَا، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ أُخْرَى، وَأَحْمَدُ ثَالِثَةً، وَالْبَزَّارُ رَابِعَةً، وَأَبُو نُعَيْمٍ خَامِسَةً، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبَدِ اللَّهِ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْهُ، وَالْبَزَّارُ مِنْ ثَالِثَةٍ وَرَابِعَةٍ، وَأَحْمَدُ مِنْ خَامِسَةٍ وَسَادِسَةٍ، وَهَذِهِ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي " مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ " عَلَى شَرْطِ " الصَّحِيحَيْنِ " وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ " وَ " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي " مُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ " بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْجَوَارِبِيِّ، عَنْ قَبِيصَةَ، عَنْ حِبَّانَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَاخْتَارَ الْجِذْعُ الْآخِرَةَ، وَغَارَ حَتَّى ذَهَبَ، فَلَمْ يُعْرَفْ. وَهَذَا غَرِيبٌ إِسْنَادًا وَمَتْنًا.
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ
رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَقَدَّمْتُ الْأَحَادِيثَ بِبَسْطِ
أَسَانِيدِهَا وَتَحْرِيرِ أَلْفَاظِهَا وَعَزْوِهَا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ عَنْ
إِعَادَتِهِ هَا هُنَا، وَمَنْ تَدَبَّرَهَا حَصَلَ لَهُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضُ بْنُ مُوسَى السَّبْتِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي كِتَابِهِ
" الشِّفَا ": وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ مُنْتَشِرٌ مُتَوَاتِرٌ
خَرَّجَهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ. وَرَوَاهُ مِنَ الصَّحَابَةِ بِضْعَةَ عَشْرَ،
مِنْهُمْ أُبَيٌّ، وَجَابِرٌ، وَأَنَسٌ وَبُرَيْدَةُ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وَابْنُ
عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرٍ وَالْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ
وَأُمُّ سَلَمَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
قَالَ شَيْخُنَا: فَهَذِهِ جَمَادَاتٌ وَنَبَاتَاتٌ، وَقَدْ حَنَّتْ وَتَكَلَّمَتْ
وَفِي ذَلِكَ مَا يُقَابِلُ انْقِلَابَ الْعَصَا حَيَّةً.
قُلْتُ: وَسَنُشِيرُ إِلَى هَذَا عِنْدَ ذِكْرِ مُعْجِزَاتِ عِيسَى، عَلَيْهِ
السَّلَامُ فِي إِحْيَائِهِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ،
كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ أَبِي
الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ سَوَّادٍ قَالَ: قَالَ لِيَ الشَّافِعِيُّ: مَا أَعْطَى اللَّهُ
نَبِيًّا مَا أَعْطَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُلْتُ
أَعْطَى عِيسَى إِحْيَاءَ الْمَوْتَى. فَقَالَ: أَعْطَى مُحَمَّدًا الْجِذْعَ
الَّذِي كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جَنْبِهِ
حَتَّى هُيِّئَ لَهُ
الْمِنْبَرُ، فَلَمَّا هُيِّئَ لَهُ حَنَّ الْجِذْعُ حَتَّى سَمِعَ صَوْتَهُ،
فَهَذَا أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى الشَّافِعِيِّ،
رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ مِمَّا كُنْتُ أَسْمَعُ شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا
الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ، رَحِمَهُ اللَّهُ يَذْكُرُهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ،
رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: فَهَذَا أَكْبَرُ مِنْ
ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجِذْعَ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْحَيَاةِ، وَمَعَ هَذَا حَصَلَ لَهُ
شُعُورٌ وَوَجْدٌ لَمَّا تَحَوَّلَ عَنْهُ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَأَنَّ وَحَنَّ
حَنِينَ الْعِشَارِ حَتَّى نَزَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْتَضَنَهُ وَسَكَّنَهُ حَتَّى سَكَنَ. قَالَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ: فَهَذَا الْجِذْعُ حَنَّ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ أَحَقُّ أَنْ
يَحِنُّوا إِلَيْهِ. وَأَمَّا عَوْدُ الْحَيَاةِ إِلَى جَسَدٍ كَانَتْ فِيهِ بِإِذْنِ
اللَّهِ فَعَظِيمٌ، وَهَذَا أَعْجَبُ وَأَعْظَمُ مِنْهُ إِيجَادُ حَيَاةٍ
وَشُعُورٍ فِي مَحَلٍّ لَيْسَ مَأْلُوفًا لِذَلِكَ، لَمْ تَكُنْ فِيهِ قَبْلُ
بِالْكُلِّيَّةِ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
تَنْبِيهٌ: وَقَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِوَاءٌ يُحْمَلُ مَعَهُ فِي الْحَرْبِ يَخْفِقُ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِ
مَسِيرَةَ شَهْرٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَتْ لَهُ عَنَزَةٌ تُحْمَلُ بَيْنَ
يَدَيْهِ، فَإِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ وَلَا حَائِلَ رُكِزَتْ
بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ لَهُ قَضِيبٌ يَتَوَكَّأُ عَلَيْهِ إِذَا مَشَى، وَهُوَ
الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ سَطِيحٌ فِي قَوْلِهِ لِابْنِ أَخِيهِ عَبْدِ الْمَسِيحِ
بْنِ بُقَيْلَةَ: يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ، إِذَا كَثُرَتِ التِّلَاوَهْ، وَظَهْرَ
صَاحِبُ الْهِرَاوَهْ، وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَهْ، فَلَيْسَتِ الشَّامُ
لِسَطِيحٍ شَامًا. وَلِهَذَا كَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ إِحْيَاءِ
عَصَا مُوسَى وَجَعْلِهَا حَيَّةً أَلْيَقَ ; إِذْ هِيَ مُسَاوِيَةٌ لِذَلِكَ،
وَهَذِهِ مُتَعَدِّدَةٌ كَثِيرَةٌ فِي مَحَالٍّ
مُتَفَرِّقَةٍ، بِخِلَافِ
عَصَا مُوسَى، فَإِنَّهَا وَإِنْ تَعَدَّدَ جَعْلُهَا حَيَّةً، فَهِيَ ذَاتٌ
وَاحِدَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ نُنَبِّهُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ
إِحْيَاءِ الْمَوْتَى عَلَى يَدِ عِيسَى ; لِأَنَّ هَذِهِ أَعْجَبُ وَأَكْبَرُ
وَأَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَأَمَّا أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا، فَقَدْ
تَقَدَّمَ حُصُولُ الْكَلَامِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، فَيَشْهَدُ لَهُ: " فَنُودِيتُ: أَنْ يَا مُحَمَّدُ،
قَدْ كَمَّلْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي ". وَسِيَاقُ بَقِيَّةِ
الْقِصَّةِ يُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ حَكَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْإِجْمَاعَ
عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ رَأَيْتُ فِي كَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ نَقْلَ خِلَافٍ
فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الرُّؤْيَةُ فَفِيهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ،
وَنَصَرَهَا مِنَ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ
خُزَيْمَةَ الْمَشْهُورُ بِإِمَامِ الْأَئِمَّةِ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ الْقَاضِي
عِيَاضٌ وَالشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ، وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
تَصْدِيقُ الرُّؤْيَةِ، وَجَاءَ عَنْهُ تَقْيِيدُهَا بِالْفُؤَادِ، وَكِلَاهُمَا
فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ ". وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ
عَائِشَةَ إِنْكَارُ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْإِسْرَاءِ عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي ذَرٍ وَعَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ،
أَنَّ الْمَرْئِيَّ فِي الْمَرَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ
" النَّجْمِ " إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَفِي
" صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي ذَرٍ قَالَ: قُلْتُ:يَا رَسُولَ
اللَّهِ، هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ ؟ فَقَالَ: " نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ ؟ ".
وَفِي رِوَايَةٍ: " رَأَيْتُ نُورًا ". وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ
ذَلِكَ فِي الْإِسْرَاءِ
فِي السِّيرَةِ وَفِي " التَّفْسِيرِ " فِي أَوَّلِ سُورَةِ "
بَنِي إِسْرَائِيلَ " وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ شَيْخُنَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ
بِالْمُعْجِزَاتِ الْمُوسَوِيَّةِ - عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ -.
وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّمَ مُوسَى وَهُوَ بِطُورِ سَيْنَاءَ،
وَسَأَلَ الرُّؤْيَةَ فَمُنِعَهَا، وَكَلَّمَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَهُوَ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى حِينَ رُفِعَ
لِمُسْتَوًى يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ، وَحَصَلَتْ لَهُ الرُّؤْيَةُ
فِي قَوْلِ طَائِفَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَامِدٍ قَدْ طَرَقَ هَذَا فِي كِتَابِهِ
وَأَجَادَ وَأَفَادَ.
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ
مَحَبَّةً مِنِّي [ طه: 39 ]. وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ
اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ آلِ عِمْرَانَ: 31 ].
وَأَمَّا الْيَدُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ بُرْهَانًا وَحُجَّةً لِمُوسَى عَلَى
فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ صَيْرُورَةِ الْعَصَا
حَيَّةً: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ
وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ [ الْقَصَصِ: 32 ]. وَقَالَ فِي سُورَةِ " طه
": آيَةً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى [ طه: 22، 23 ].
فَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ مُحَمَّدًا انْشِقَاقَ الْقَمَرِ بِإِشَارَتِهِ إِلَيْهِ
فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةً مِنْ وَرَاءِ جَبَلِ حِرَاءٍ، وَأُخْرَى أَمَامَهُ، كَمَا
تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ بِالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ مَعَ قَوْلِهِ
تَعَالَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً
يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [ الْقَمَرِ: 1، 2 ].
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا
أَجَلُّ وَأَعْظَمُ وَأَبْهَرُ فِي الْمُعْجِزَاتِ، وَأَشْهَرُ وَأَعْظَمُ
وَأَعَمُّ وَأَظْهَرُ وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ
فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ تَوْبَتِهِ:وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ فِلْقَةُ قَمَرٍ.
وَذَلِكَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ".
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: قَالُوا: فَإِنَّ مُوسَى أُعْطِيَ الْيَدَ الْبَيْضَاءَ.
قُلْنَا لَهُمْ: فَقَدْ أُعْطِيَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا
هُوَ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ، نُورًا كَانَ يُضِيءُ عَنْ يَمِينِهِ حَيْثُمَا
جَلَسَ، وَعَنْ يَسَارِهِ حَيْثُمَا جَلَسَ وَقَامَ، يَرَاهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ
وَقَدْ بَقِيَ ذَلِكَ النُّورُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ
يُرَى النُّورُ السَّاطِعُ مِنْ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ؟ هَذَا لَفْظُهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ
هَذَا النُّورِ غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي السِّيرَةِ عِنْدَ إِسْلَامِ
الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدَّوْسِيِّ، أَنَّهُ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً تَكُونُ لَهُ عَوْنًا عَلَى إِسْلَامِ قَوْمِهِ،
فَدَعَا لَهُ وَذَهَبَ إِلَى قَوْمِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ
ثَنِيَّةٍ هُنَاكَ، فَسَطَعَ نُورٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَالْمِصْبَاحِ، فَقَالَ:
اللَّهُمَّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَهُ مُثْلَةً.
فَتَحَوَّلَ النُّورُ إِلَى طَرَفِ سَوْطِهِ فَجَعَلُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ
كَالْمِصْبَاحِ، فَهَدَاهُمُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ بِبَرَكَةِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِدُعَائِهِ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ: "
اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ ". وَكَانَ يُقَالُ لِلطُّفَيْلِ:
ذُو النُّورِ لِذَلِكَ. وَذَكَرْنَا أَيْضًا حَدِيثَ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ
وَعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ فِي خُرُوجِهِمَا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَأَضَاءَ لَهُمَا طَرَفُ عَصَا
أَحَدِهِمَا، فَلَمَّا افْتَرَقَا أَضَاءَ
لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا طَرَفُ عَصَاهُ، وَذَلِكَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "
وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ فِي كِتَابِ " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ
": حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ،
عَنْ ثَابِتِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ وَأُسَيْدَ
بْنَ حُضَيْرٍ خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ حِنْدِسٍ، فَأَضَاءَتْ عَصَا أَحَدِهِمَا مِثْلَ
السِّرَاجِ وَجَعَلَا يَمْشِيَانِ بِضَوْئِهَا، فَلَمَّا تَفَرَّقَا إِلَى
مَنْزِلِهِمَا أَضَاءَتْ عَصَا ذَا وَعَصَا ذَا.
ثُمَّ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ
مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَعَنْ يَعْقُوبَ بْنِ حُمَيْدٍ
الْمَدَنِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ يَزِيدَ
الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ
عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سِرْنَا فِي سَفَرٍ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ دُحْمُسَةٍ،
فَأَضَاءَتْ أَصَابِعِي حَتَّى جَمَعُوا عَلَيْهَا ظَهْرَهُمْ وَمَا هَلَكَ
مِنْهُمْ، وَإِنَّ أَصَابِعِي لَتُنِيرُ.
وَرَوَى هَاشِمُ بْنُ عَمَّارٍ فِي " الْمَبْعَثِ ": حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْأَعْلَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَكْرِيُّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ
الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ الضُّبَعِيُّ قَالَ: كَانَ مُطَرِّفُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَبْدُو، فَيَدْخُلُ كُلَّ جُمُعَةٍ، فَرُبَّمَا نُوِّرَ لَهُ
فِي سَوْطِهِ، فَأَدْلَجَ
ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ
عَلَى فَرَسِهِ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الْمَقَابِرِ هُوِّمَ بِهِ، قَالَ:
فَرَأَيْتُ صَاحِبَ كُلِّ قَبْرٍ جَالِسًا عَلَى قَبْرِهِ، قَالُوا: هَذَا
مُطَرِّفٌ يَأْتِي الْجُمُعَةَ. فَقُلْتُ لَهُمْ: وَتَعْلَمُونَ عِنْدَكُمْ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَنَعْلَمُ مَا يَقُولُ فِيهِ الطَّيْرُ. قُلْتُ:
وَمَا يَقُولُ فِيهِ الطَّيْرُ ؟ قَالُوا: يَقُولُ: سَلَامٌ سَلَامٌ مِنْ يَوْمٍ
صَالِحٍ.
وَأَمَّا دُعَاؤُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالطُّوفَانِ وَهُوَ الْمَوْتُ الذَّرِيعُ
فِي قَوْلٍ، وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْقَحْطِ وَالْجَدْبِ، فَإِنَّمَا
كَانَ ذَلِكَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى مُتَابَعَتِهِ وَيُقْلِعُونَ عَنْ
مُخَالَفَتِهِ، فَمَا زَادَهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا. قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا
وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا
السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ [
الزُّخْرُفِ: 48، 49 ]. وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ
لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ
الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ
مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ
عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ
عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ
مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ
هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ
فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا
عَنْهَا غَافِلِينَ [ الْأَعْرَافِ: 132 - 136 ]. وَقَدْ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قُرَيْشٍ حِينَ تَمَادَوْا عَلَى
مُخَالَفَتِهِ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ، فَقَحَطُوا حَتَّى أَكَلُوا كُلَّ
شَيْءٍ، وَكَانَ
أَحَدُهُمْ يَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ مِثْلَ الدُّخَّانِ مِنَ الْجُوعِ.
وَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي
السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [ الدُّخَانِ: 10 ] بِذَلِكَ، كَمَا رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ عَنْهُ فِي غَيْرِمَا مَوْضِعٍ مِنْ " صَحِيحِهِ " ثُمَّ
تَوَسَّلُوا إِلَيْهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، بِقَرَابَتِهِمْ
مِنْهُ مَعَ أَنَّهُ بُعِثَ بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ، فَدَعَا لَهُمْ
فَأَقْلَعَ عَنْهُمْ وَرُفِعَ عَنْهُمْ، وَأُحْيُوا بَعْدَمَا كَانُوا أَشْرَفُوا
عَلَى الْهَلَكَةِ.
وَأَمَّا فَلْقُ الْبَحْرِ لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ أَمَرَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - حِينَ تَرَاءَى الْجَمْعَانِ - أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ
فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، فَإِنَّهُ مُعْجِزَةٌ
عَظِيمَةٌ بَاهِرَةٌ، وَحُجَّةٌ قَاطِعَةٌ قَاهِرَةٌ. وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي
" التَّفْسِيرِ " وَفِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا،
وَفِي إِشَارَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ إِلَى
قَمَرِ السَّمَاءِ، فَانْشَقَّ فِلْقَتَيْنِ وَفْقَ مَا سَأَلَتْهُ قُرَيْشٌ
وَهُمْ مَعَهُ جُلُوسٌ، فِي لَيْلَةِ الْبَدْرِ، أَعْظَمُ آيَةٍ، وَأَيْمَنُ
دَلَالَةٍ، وَأَوْضَحُ حُجَّةٍ، وَأَبْهَرُ بِرِهَانٍ عَلَى نُبُوَّتِهِ
وَوَجَاهَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُنْقَلْ مُعْجِزَةٌ عَنْ نَبِيٍّ
مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْآيَاتِ الْحِسِّيَّاتِ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا، كَمَا
قَرَّرْنَا ذَلِكَ بِأَدِلَّتِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ فِي " التَّفْسِيرِ
" وَفِي أَوَّلِ الْبَعْثَةِ، وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ حَبْسِ الشَّمْسِ
قَلِيلًا لِيُوشَعَ بْنِ نُونٍ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنَ الْفَتْحِ لَيْلَةَ
السَّبْتِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ، مَعَ مَا يُنَاسِبُ ذِكْرَهُ
عِنْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ مَسِيرِ
الْعَلَاءِ بْنِ
الْحَضْرَمِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيِّ، وَأَبِي مُسْلِمٍ
الْخَوْلَانِيِّ، وَسَائِرِ الْجُيُوشِ التى كَانَتْ مَعَهُمْ عَلَى تَيَّارِ
الْمَاءِ، وَمِنْهَا دِجْلَةُ وَهِيَ جَارِيَةٌ عَجَاجَةٌ تَقْذِفُ بِالْخَشَبِ
مِنْ شِدَّةِ جَرْيِهَا، وَتَقَدَّمَ تَقْرِيرُ أَنَّ هَذَا أَعْجَبُ مِنْ فَلْقِ
الْبَحْرِ لِمُوسَى مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: قَالُوا: فَإِنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ضَرَبَ
بِعَصَاهُ الْبَحْرَ، فَانْفَلَقَ فَكَانَ ذَلِكَ آيَةً لِمُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ. قُلْنَا: فَقَدْ أُوتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِثْلَهَا. قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا خَرَجْنَا
إِلَى خَيْبَرَ، فَإِذَا نَحْنُ بَوَادٍ يَشْخَبُ، وَقَدَّرْنَاهُ فَإِذَا هُوَ
أَرْبَعَ عَشْرَةَ قَامَةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْعَدُوُّ مِنْ
وَرَائِنَا وَالْوَادِي مِنْ أَمَامِنَا. كَمَا قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا
لَمُدْرَكُونَ [ الشُّعَرَاءِ: 61 ]. فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنَّكَ جَعَلْتَ لِكُلِّ
مُرْسَلٍ دَلَالَةً، فَأَرِنِي قُدْرَتَكَ ". فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَبَرَتِ الْخَيْلُ لَا تُبْدِي
حَوَافِرَهَا، وَالْإِبِلُ لَا تُبْدِي أَخْفَافَهَا، فَكَانَ ذَلِكَ فَتْحًا.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ بِلَا إِسْنَادٍ لَا أَعْرِفُهُ فِي شَيْءٍ مِنَ
الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَا حَسَنٍ، بَلْ وَلَا ضَعِيفٍ،
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا تَظْلِيلُهُ بِالْغَمَامِ فِي التِّيهِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ حَدِيثِ
الْغَمَامَةِ الَّتِي رَآهَا بَحِيرَى تُظِلُّهُ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ
ابْنُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، صُحْبَةَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ قَاصِدٌ
الشَّامَ فِي تِجَارَةٍ، وَهَذَا أَبْهَرُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَانَ وَهُوَ
قَبْلَ أَنْ
يُوحَى إِلَيْهِ،
وَكَانَتِ الْغَمَامَةُ تُظِلُّهُ وَحْدَهُ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ، فَهَذَا
أَشَدُّ فِي الِاعْتِنَاءِ، وَأَظْهَرُ مِنْ غَمَامٍ يُظِلُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَغَيْرَهُمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَظْلِيلِ الْغَمَامِ إِنَّمَا
كَانَ لِاحْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي
الدَّلَائِلِ حِينَ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَدْعُوَ لَهُمْ لِيُسْقَوْا لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْجُوعِ وَالْجَهْدِ
وَالْقَحْطِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: " اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ
اسْقِنَا ". قَالَ أَنَسٌ: وَلَا وَاللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ
سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةٍ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلَا
دَارٍ، فَأُنْشِأَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا
تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَا
وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا، وَلَمَّا سَأَلُوهُ أَنْ يَسْتَصْحِيَ
لَهُمْ، رَفَعَ يَدَهُ وَقَالَ: " اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا
". فَمَا جَعَلَ يُشِيرُ بِيَدَيْهِ إِلَى نَاحِيَةٍ إِلَّا انْجَابَ
السَّحَابُ، حَتَّى صَارَتِ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْإِكْلِيلِ، يُمْطَرُ مَا
حَوْلَهَا وَلَا تُمْطَرُ. فَهَذَا تَظْلِيلُ غَمَامٍ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ آكُدُ
مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْفَعُ مِنْهُ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ
وَهُوَ يُشِيرُ أَبْلَغُ فِي الْمُعْجِزِ وَأَظْهَرُ فِي الِاعْتِنَاءِ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَأَمَّا إِنْزَالُ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى عَلَيْهِمْ فَقَدْ كَثَّرَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فِي غَيْرِمَا
مَوْطِنٍ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مِنْ إِطْعَامِهِ
الْجَمَّ الْغَفِيرَ مِنَ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ، كَمَا أَطْعَمَ يَوْمَ
الْخَنْدَقِ مِنْ شُوَيْهَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَصَاعِهِ الشَّعِيرِ
أَزْيَدَ مِنْ أَلْفِ نَفْسٍ جَائِعَةٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ
دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَأَطْعَمَ
مِنْ جَفْنَةٍ فِئَامًا
مِنَ النَّاسِ، وَكَانَتْ تُمَدُّ مِنَ السَّمَاءِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
هَذَا الْقَبِيلِ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ وَابْنُ
حَامِدٍ أَيْضًا هَا هُنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَنِّ وَالسَّلْوَى إِنَّمَا
هُوَ رِزْقٌ رُزِقُوهُ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ مِنْهُمْ وَلَا تَعَبٍ، ثُمَّ أَوْرَدَ
فِي مُقَابَلَتِهِ حَدِيثَ تَحْلِيلِ الْمَغَانِمِ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ
قَبْلَنَا، وَحَدِيثَ جَابِرٍ فِي سَرِيَّةِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَجُوعِهِمْ حَتَّى
أَكَلُوا الْخَبَطَ، فَحَسَرَ الْبَحْرُ لَهُمْ عَنْ دَابَّةٍ تُسَمَّى
الْعَنْبَرَ، فَأَكَلُوا مِنْهَا ثَلَاثِينَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ حَتَّى
سَمِنُوا وَتَكَسَّرَتْ عُكَنُ بُطُونِهِمْ. وَالْحَدِيثُ فِي " الصَّحِيحِ "
كَمَا تَقَدَّمَ.
وَسَيَأْتِي عِنْدَ ذِكْرِ الْمَائِدَةِ فِي مُعْجِزَاتِ الْمَسِيحِ ابْنِ
مَرْيَمَ قِصَّةُ أَبِي مُوسَى الْخَوْلَانِيِّ، أَنَّهُ خَرَجَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ
كَثِيرَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْحَجِّ وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَحْمِلُوا
زَادًا وَلَا مَزَادًا، فَكَانُوا إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ،
فَيُؤْتَوْنَ بِطَعَامٍ وَشَرَابٍ وَعَلَفٍ يَكْفِيهِمْ وَيَكْفِي دَوَابَّهُمْ
غَدَاءً وَعَشَاءً، مُدَّةَ ذَهَابِهِمْ وَإِيَابِهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا
اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ
عَلِمَ كُلُ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ: 60 ]. فَقَدْ ذَكَرْنَا
بَسْطَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي "
التَّفْسِيرِ ". وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي وَضْعِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فِي ذَلِكَ الْإِنَاءِ
الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يَتَّسِعْ لِبَسْطِهَا فِيهِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْبُعُ
مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ أَمْثَالَ
الْعُيُونِ، وَكَذَلِكَ
كَثَّرَ الْمَاءَ فِي غَيْرِ مَا مَوْطِنٍ، كَمَزَادَتَيْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ،
وَيَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدِ اسْتَسْقَى اللَّهَ
لِأَصْحَابِهِ فِي الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا، فَأُجِيبَ طِبْقَ السُّؤَالِ
وَوَفْقَ الْحَاجَةِ لَا أَزْيَدَ وَلَا أَنْقَصَ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي
الْمُعْجِزِ. وَنَبْعُ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ مِنْ نَفْسِ يَدِهِ -
عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ - أَعْظَمُ مِنْ نَبْعِ
الْمَاءِ مِنَ الْحَجَرِ، فَإِنَّهُ مَحَلٌّ لِذَلِكَ.
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ: فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ مُوسَى كَانَ يَضْرِبُ
بِعَصَاهُ الْحَجَرَ فَيَنْفَجِرُ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا فِي التِّيهِ،
قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٌ مَشْرَبَهُمْ. قِيلَ: كَانَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ وَأَعْجَبُ، فَإِنَّ نَبْعَ الْمَاءِ مِنَ الْحَجْرِ
مَشْهُورٌ فِي الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ نَبْعُ الْمَاءِ
مِنْ بَيْنِ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ وَالدَّمِ، فَكَانَ يُفْرِّجُ بَيْنَ
أَصَابِعِهِ فِي مِخْضَبٍ، فَيَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ الْمَاءُ، فَيَشْرَبُونَ
وَيُسْقَوْنَ مَاءً جَارِيًا عَذْبًا، يَرْوِي الْعَدَدَ الْكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ
وَالْخَيْلِ وَالْإِبِلِ.
ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَنْطَبٍ،
حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنِي
أَبِي قَالَ:كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَأَصَابَ النَّاسَ مَخْمَصَةٌ فَدَعَا بِرَكْوَةٍ فَوُضِعَتْ
بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ فِيهَا، ثُمَّ مَجَّ فِيهَا وَتَكَلَّمَ
بِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ، ثُمَّ أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِيهَا،
فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ أَصَابِعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَتَفَجَّرُ مِنْهَا يَنَابِيعُ الْمَاءِ، ثُمَّ أَمَرَ
النَّاسَ فَسَقَوْا
وَشَرِبُوا وَمَلَأُوا قِرَبَهُمْ وَإِدَاوَاتِهِمْ.
وَأَمَّا قِصَّةُ إِحْيَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا بِسَبَبِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ
وَقِصَّةِ الْبَقَرَةِ، فَسَيَأْتِي مَا يُشَابِهُهُمَا مِنْ إِحْيَاءِ
حَيَوَانَاتٍ وَأُنَاسٍ عِنْدَ ذِكْرِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى عَلَى يَدِ عِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو
نُعَيْمٍ هَا هُنَا أَشْيَاءَ أُخَرَ تَرَكْنَاهَا اخْتِصَارًا وَاقْتِصَادًا.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ فِي كِتَابِهِ " الْمَبْعَثِ ": بَابٌ
فِيمَا أُعْطِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا
أُعْطِيَ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ
مُدْرِكٍ، أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ حَسَّانَ التَّمِيمِيُّ، أَنَّ مُوسَى،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، أُعْطِيَ آيَةً مِنْ كُنُوزِ الْعَرْشِ ; رَبِّ لَا تُولِجِ
الشَّيْطَانَ فِي قَلْبِي، وَأَعِذْنِي مِنْهُ وَمِنْ كُلِّ سُوءٍ، فَإِنَّ لَكَ
الْأَيْدَ وَالسُّلْطَانَ وَالْمُلْكَ وَالْمَلَكُوتَ، دَهْرَ الدَّاهِرِينَ،
وَأَبَدَ الْآبِدِينَ، آمِينَ آمِينَ. قَالَ: وَأُعْطِيَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَتَيْنِ مِنْ كُنُوزِ الْعَرْشِ آخِرَ سُورَةِ "
الْبَقَرَةِ ": آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى آخِرِهَا [ الْبَقَرَةِ: 285، 286 ].
قِصَّةُ حَبْسِ الشَّمْسِ عَلَى يُوشَعَ بْنِ نُونِ بْنِ أَفْرَايِيمَ بْنِ
يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ،
عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَقَدْ كَانَ نَبِيَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَهُوَ الَّذِي خَرَجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ التِّيهِ، وَدَخَلَ بِهِمْ
بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ حِصَارٍ وَمُقَاتَلَةٍ، وَكَانَ الْفَتْحُ قَدْ
يُنْجَزُ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَكَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ
وَيَدْخُلُ عَلَيْهِمُ السَّبْتَ فَلَا يَتَمَكَّنُونَ مَعَهُ مِنَ الْقِتَالِ،
فَنَظَرَ إِلَى الشَّمْسِ فَقَالَ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ. ثُمَّ
قَالَ: اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيَّ. فَحَبَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
حَتَّى فَتَحَ الْبَلَدَ ثُمَّ غَرَبَتْ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي
قِصَّةٍ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي " صَحِيحِ
مُسْلِمٍ " مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
" غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَدَنَا مِنَ الْقَرْيَةِ حِينَ صَلَّى
الْعَصْرَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ: أَنْتِ مَأْمُورَةٌ
وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيَّ شَيْئًا ". فَحُبِسَتْ
عَلَيْهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ. الْحَدِيثَ بِطُولِهِ.
وَهَذَا النَّبِيُّ هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ ; بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ
هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَيْرَيْنَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الشَّمْسَ لَمْ تُحْبَسْ
لِبَشَرٍ إِلَّا لِيُوشَعَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَيَالِيَ سَارَ إِلَى بَيْتِ
الْمَقْدِسِ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ
الْبُخَارِيِّ. إِذَا عُلِمَ هَذَا فَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ فِلْقَتَيْنِ، حَتَّى
صَارَتْ فِرْقَةٌ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَلِ - أَعْنِي حِرَاءَ - وَأُخْرَى مِنْ
دُونِهِ، أَعْظَمُ فِي الْمُعْجِزِ مِنْ حَبْسِ الشَّمْسِ قَلِيلًا وَقَدْ
قَدَّمْنَا فِي الدَّلَائِلِ حَدِيثَ رَدِّ الشَّمْسِ بَعْدَ غُرُوبِهَا،
وَذَكَرْنَا مَا قِيلَ فِيهِ مِنَ الْمَقَالَاتِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ أَبُو الْمَعَالِي بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ:
وَأَمَّا حَبْسُ الشَّمْسِ لِيُوشَعَ فِي قِتَالِ الْجَبَّارِينَ، فَقَدِ انْشَقَّ
الْقَمَرُ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْشِقَاقُ
الْقَمَرِ فِلْقَتَيْنِ أَبْلَغُ مِنْ حَبْسِ الشَّمْسِ عَنْ مَسِيرِهَا،
وَصَحَّتِ الْأَحَادِيثُ وَتَوَاتَرَتْ بِانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَأَنَّهُ كَانَ
فِرْقَةٌ خَلْفَ الْجَبَلِ وَفِرْقَةٌ أَمَامَهُ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اشْهَدُوا ". وَأَنَّ
قُرَيْشًا قَالُوا هَذَا سَحَرَ أَبْصَارَنَا، فَوَرَدَتِ الْمُسَافِرُونَ وَأَخْبَرُوا أَنَّهُمْ رَأَوْهُ مُفْتَرِقًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [ الْقَمَرِ: 1، 2 ]. قَالَ: وَقَدْ حُبِسَتِ الشَّمْسُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ ; إِحْدَاهُمَا مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَقَالَ: رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. وَسَمَّاهُمْ وَعَدَّلَهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَهُوَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوحَى إِلَيْهِ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلِيٌّ صَلَّى الْعَصْرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ فِي طَاعَتِكَ وَطَاعَةِ نَبِيِّكَ، فَارْدُدْ عَلَيْهِ الشَّمْسَ ". فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّمْسَ حَتَّى رُئِيَتْ، فَقَامَ عَلِيٌّ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ غَرَبَتْ، وَالثَّانِيَةُ صَبِيحَةَ الْإِسْرَاءِ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ قُرَيْشًا عَنْ مَسْرَاهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَسَأَلُوهُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَجَلَّاهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى نَظَرَ إِلَيْهِ وَوَصَفَهُ لَهُمْ، وَسَأَلُوهُ عَنْ عِيرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ: " إِنَّهَا تَصِلُ إِلَيْكُمْ مَعَ شُرُوقِ الشَّمْسِ ". فَتَأَخَّرَتْ، فَحَبَسَ اللَّهُ الشَّمْسَ عَنِ الطُّلُوعِ حَتَّى جَاءَتِ الْعِيرُ. رَوَى ذَلِكَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ فِي زِيَادَاتِهِ عَلَى " السِّيرَةِ ". أَمَّا حَدِيثُ رَدِّ الشَّمْسِ بِسَبَبِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ مِنْ طَرِيقِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، وَهُوَ أَشْهَرُهَا، وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَلِيٍّ نَفْسِهِ، وَهُوَ مُسْتَنْكَرٌ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَقَدْ مَالَ إِلَى الْقَوْلِ بِتَقْوِيَتِهِ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ الْحَافِظُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ، وَالْقَاضِي عِيَاضٌ، وَكَذَا صَحَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ
الرَّافِضَةِ كَابْنِ
الْمُطَهَّرِ وَذَوِيِهِ، وَرَدَّهُ وَحَكَمَ بِضِعْفِهِ آخَرُونَ مِنْ كِبَارِ
حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَنُقَّادِهِمْ، كَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ،
وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ يَعْقُوبَ الْجُوزْجَانِيِّ، وَحَكَاهُ عَنْ شَيْخِهِ
مُحَمَّدٍ وَيَعْلَى ابْنَيْ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيَّيْنِ، وَكَأَبِي بَكْرٍ
مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ الْبُخَارِيِّ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ زَنْجَوَيْهِ أَحَدِ
الْحُفَّاظِ، وَالْحَافِظِ الْكَبِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَسَاكِرَ،
وَذَكَرَهُ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي
كِتَابِ " الْمَوْضُوعَاتِ " وَكَذَلِكَ صَرَّحَ بِوَضْعِهِ شَيْخَايَ
الْحَافِظَانِ الْكَبِيرَانِ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ، وَأَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الذَّهَبِيُّ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ فِي
زِيَادَاتِهِ عَلَى " السِّيرَةِ " مِنْ تَأَخُّرِ طُلُوعِ الشَّمْسِ
عَنْ إِبَّانِ طُلُوعِهَا، فَلَمْ يُرَ لِغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ السِّيَرِ،
عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ، وَأَكْثَرُ مَا فِي
الْبَابِ أَنَّ الرَّاوِيَ رَأَى تَأْخِيرَ طُلُوعِهَا وَلَمْ يُشَاهِدْ حَبْسَهَا
عَنْ وَقْتِهِ.
وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُطَهَّرِ فِي كِتَابِهِ "
الْمِنْهَاجِ " أَنَّهَا رُدَّتْ لِعَلِيٍّ مَرَّتَيْنِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
الْمُتَقَدِّمَ كَمَا ذُكِرَ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلَمَّا
أَرَادَ أَنْ يَعْبُرَ الْفُرَاتَ بِبَابِلَ، اشْتَغَلَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ
بِسَبَبِ دَوَابِّهِمْ، وَصَلَّى لِنَفْسِهِ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ
الْعَصْرَ، وَفَاتَ كَثِيرًا مِنْهُمْ، فَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ، فَسَأَلَ
اللَّهَ رَدَّ الشَّمْسِ فَرُدَّتْ. قَالَ: وَنَظَّمَهُ الْحِمْيَرِيُّ فَقَالَ:
رُدَّتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ لَمَّا فَاتَهُ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَقَدْ دَنَتْ
لِلْمَغْرِبِ حَتَّى تَبَلَّجَ نُورُهَا فِي وَقْتِهَا
لِلْعَصْرِ ثُمَّ هَوَتْ هُوِيَّ الْكَوْكَبِ وَعَلَيْهِ قَدْ رُدَّتْ بِبَابِلَ
مَرَّةً
أُخْرَى وَمَا رُدَّتْ لِخَلْقٍ مُغْرِبِ
وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ
بَعْدَ مُوسَى إِدْرِيسَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ
الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ وَآخَرِينَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّسَبِ قَبْلَ نُوحٍ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي عَمُودِ نَسَبِهِ إِلَى آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ:
الْقَوْلُ فِيمَا أُعْطِيَ إِدْرِيسُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الرِّفْعَةِ
الَّتِي نَوَّهَ اللَّهُ بِذِكْرِهَا فَقَالَ: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا
قَالَ: وَالْقَوْلُ فِيهِ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أُعْطِي أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
رَفَعَ ذِكْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَالَ: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
[ الشَّرْحِ: 4 ]. فَلَيْسَ خَطِيبٌ وَلَا شَفِيعٌ وَلَا صَاحِبُ صَلَاةٍ إِلَّا
يُنَادِي بِهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَقَرَنَ اللَّهُ اسْمَهُ بِاسْمِهِ فِي مَشَارِقِ
الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَذَلِكَ مِفْتَاحًا لِلصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، ثُمَّ
أَوْرَدَ حَدِيثَ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ،عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
قَوْلِهِ: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ قَالَ: " قَالَ جِبْرِيلُ: قَالَ
اللَّهُ: إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ ". وَرَوَاهُ ابْنُ
جَرِيرٍ وَابْنِ أَبِي
حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ دَرَّاجٍ.
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْغِطْرِيفِيُّ،
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الْجَوْنِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ
بْنِ بَهْرَامَ الْهِيتِيُّ، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ عُثْمَانَ
بْنِ عَطَاءٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا فَرَغْتُ مِمَّا أَمَرَنِي
اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ أَمْرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَلْتُ: يَا رَبِّ
إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا قَدْ كَرَّمْتَهُ ; جَعَلْتَ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَمُوسَى كِلِيمًا، وَسَخَّرْتَ لِدَاوُدَ الْجِبَالَ،
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ وَالشَّيَاطِينِ، وَأَحْيَيْتَ لِعِيسَى الْمَوْتَى،
فَمَا جَعَلْتَ لِي ؟ قَالَ: أَوْ لَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتُكَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ
كُلِّهِ، أَنْ لَا أُذْكَرَ إِلَّا ذُكِرْتَ مَعِي، وَجَعَلْتُ صُدُورَ أُمَّتِكَ
أَنَاجِيلَ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ ظَاهِرًا، وَلَمْ أُعْطِهَا أُمَّةً،
وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كَلِمَةً مِنْ كُنُوزِ عَرْشِي: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ
إِلَّا بِاللَّهِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ فِيهِ غَرَابَةٌ، وَلَكِنْ أَوْرَدَ لَهُ
شَاهِدًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْقَاسِمِ ابْنِ بِنْتِ مَنِيعٍ الْبَغَوِيِّ، عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الزَّهْرَانِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ
عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ فِي كِتَابِ " دَلَائِلِ
النُّبُوَّةِ " بِسِيَاقٍ آخَرَ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا
هِشَامُ بْنُ عُمَرَ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ،
حَدَّثَنَا
شُعَيْبُ بْنُ رُزَيْقٍ،
أَنَّهُ سَمِعَ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
حَدِيثِ لَيْلَةِ أُسَرِيَ بِهِ، قَالَ:فَأَرَانِي اللَّهُ مِنْ آيَاتِهِ
فَوَجَدْتُ رِيحًا طَيِّبَةً فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ: هَذِهِ
الْجَنَّةُ تَقُولُ: يَا رَبِّ ائْتِنِي بِأَهْلِي. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، لَكِ مَا وَعَدْتُكِ، كُلُّ مُؤْمِنٍ
وَمُؤْمِنَةٍ لَمْ يَتَّخِذْ مِنْ دُونِي أَنْدَادًا، وَمَنْ أَقْرَضَنِي
جَزَيْتُهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيَّ كَفَيْتُهُ، وَمَنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ،
وَلَا يَنْقُصُ نَفَقَتِي، وَلَا يَنْقُصُ مَا يَتَمَنَّى، لَكِ مَا وَعَدْتُكِ،
فَنَعِمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ أَنْتِ. قَالَتْ: رَضِيتُ. فَلَمَّا انْتَهَيْنَا
إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى خَرَرْتُ سَاجِدًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَقُلْتُ: يَا
رَبِّ، اتَّخَذْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَكَلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيمًا،
وَآتَيْتَ دَاوُدَ زَبُورًا، وَآتَيْتَ سُلَيْمَانَ مُلْكًا عَظِيمًا. قَالَ:
فَإِنِّي قَدْ رَفَعْتُ لَكَ ذِكْرَكَ؛ تُذْكَرُ مَعِي إِذَا ذُكِرْتُ، وَلَا
تَجُوزُ لِأُمَّتِكَ خُطْبَةٌ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّكَ رَسُولِي، وَجَعَلْتُ
قُلُوبَ أُمَّتِكَ أَنَاجِيلَ، وَآتَيْتُكَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ
تَحْتِ عَرْشِي.
ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثَ
الْإِسْرَاءِ بِطُولِهِ، كَمَا سُقْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جَرِيرٍ فِي " التَّفْسِيرِ ". وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ فِي سِيَاقِهِ: ثُمَّ لَقِيَ أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَأَثْنَوْا عَلَى رَبِّهِمْ، عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، وَأَعْطَانِي مُلْكًا عَظِيمًا، وَجَعَلَنِي أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ يُؤْتَمُّ بِي، وَأَنْقَذَنِي مِنَ النَّارِ، وَجَعَلَهَا عَلَيَّ بَرْدًا وَسَلَامًا. ثُمَّ إِنَّ مُوسَى أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَلَّمَنِي تَكْلِيمًا، وَاصْطَفَانِي بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ، وَقَرَّبَنِي نَجِيًّا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ التَّوْرَاةَ، وَجَعَلَ هَلَاكَ فِرْعَوْنَ عَلَى يَدَيَّ، وَنَجَاةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى يَدَيَّ. ثُمَّ إِنَّ دَاوُدَ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنِي مَلِكًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ الزَّبُورَ، وَأَلَانَ لِيَ الْحَدِيدَ، وَسَخَّرَ لِيَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ مَعِي وَالطَّيْرَ، وَآتَانِيَ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ. ثُمَّ إِنَّ سُلَيْمَانَ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَخَّرَ لِيَ الرِّيَاحَ وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ، وَسَخَّرَ لِيَ الشَّيَاطِينَ يَعْمَلُونَ لِي مَا شِئْتُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجَفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ، وَعَلَّمَنِي مَنْطِقَ الطَّيْرِ، وَأَسَالَ لِي عَيْنَ الْقِطْرِ، وَأَعْطَانِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي. ثُمَّ إِنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَلَّمَنِي التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَجَعَلَنِي أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ، وَرَفَعَنِي وَطَهَّرَنِي مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَأَعَاذَنِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْنَا سَبِيلٌ. ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ فَقَالَ: " كُلُّكُمْ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ، وَأَنَا مُثْنٍ عَلَى رَبِّي ; الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَنِي رَحْمَةً
لِلْعَالَمِينَ،
وَكَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ الْفُرْقَانَ فِيهِ
بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ، وَجَعَلَ أُمَّتَيْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ،
وَجَعَلَ أُمَّتِي أُمَّةً وَسَطًا، وَجَعَلَ أُمَّتِي هُمُ الْأَوَّلِينَ وَهُمُ
الْآخِرِينَ، وَشَرَحَ لِي صَدْرِي، وَوَضَعَ عَنِّي وِزْرِي، وَرَفَعَ لِي
ذِكْرِي، وَجَعَلَنِي فَاتِحًا وَخَاتَمًا ". فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: بِهَذَا
فَضَلَكُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ أَوْرَدَ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ فِيمَا رَوَاهُ
الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَرْفُوعًا
فِي قَوْلِ آدَمَ: يَا رَبِّ، أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ لَمَّا غَفَرْتَ لِي.
فَقَالَ اللَّهُ: وَمَا أَدْرَاكَ وَلَمْ أَخْلُقْهُ بَعْدُ ؟ فَقَالَ: لِأَنِّي
رَأَيْتُ مَكْتُوبًا مَعَ اسْمِكَ عَلَى سَاقِ الْعَرْشِ: لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. فَعَرَفْتُ أَنَّكَ لَمْ تَكُنْ تُضِيفُ إِلَى
اسْمِكَ إِلَّا أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيْكَ، فَقَالَ اللَّهُ: صَدَقْتَ يَا آدَمُ،
وَلَوْلَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُكَ ". وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: رَفَعَ
اللَّهُ ذِكْرَهُ، وَنَوَّهَ بِاسْمِهِ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَكَذَلِكَ
يَرْفَعُ قَدْرَهُ وَيُقِيمُهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ، وَيَرْغَبُ إِلَيْهِ الْخَلْقُ
كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ، كَمَا وَرَدَ فِي " صَحِيحِ
مُسْلِمٍ " فِيمَا سَلَفَ، وَسَيَأْتِي أَيْضًا.
فَأَمَّا التَّنْوِيهُ
بِذِكْرِهِ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَالْقُرُونِ السَّالِفَةِ، فَفِي "
صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا بَعَثَ
اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ
وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَتَّبِعَنَّهُ وَلَيَنْصُرَنَّهُ،
وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى أُمَّتِهِ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ ; لَئِنْ
بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَتَّبِعُنَّهُ. وَقَدْ
بَشَّرَتْ بِوُجُودِهِ الْأَنْبِيَاءُ حَتَّى كَانَ آخِرَ مَنْ بَشَّرَ بِهِ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ خَاتَمُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَذَلِكَ
بَشَّرَتْ بِهِ الْأَحْبَارُ وَالرُّهْبَانُ وَالْكُهَّانُ، كَمَا قَدَّمْنَا
ذَلِكَ مَبْسُوطًا، وَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ رُفِعَ مِنْ سَمَاءٍ
إِلَى سَمَاءٍ حَتَّى سَلَّمَ عَلَى إِدْرِيسَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ فِي
السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، ثُمَّ جَاوَزَهُ إِلَى الْخَامِسَةِ، ثُمَّ إِلَى
السَّادِسَةِ، فَسَلَّمَ عَلَى مُوسَى بِهَا، ثُمَّ جَاوَزَهُ إِلَى السَّابِعَةِ
فَسَلَّمَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ بِهَا عِنْدَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ،
ثُمَّ جَاوَزَ ذَلِكَ الْمَقَامَ، فَرُفِعَ لِمُسْتَوًى يُسْمَعُ فِيهِ صَرِيفُ
الْأَقْلَامِ، وَجَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَرَأَى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ
وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكُبْرَى، وَصَلَّى بِالْأَنْبِيَاءِ،
وَشَيَّعَهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ رِضْوَانُ
خَازِنُ الْجِنَانِ، وَمَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، فَهَذَا هُوَ الشَّرَفُ،
وَهَذِهِ هِيَ الرِّفْعَةُ، وَهَذَا هُوَ التَّكْرِيمُ وَالتَّنْوِيهُ وَالْإِشْهَارُ
وَالتَّقْدِيمُ وَالْعُلُوُّ وَالْعَظَمَةُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ أَجْمَعِينَ.
وَأَمَّا رَفْعُ ذِكْرِهِ فِي الْآخِرِينَ، فَإِنَّ دِينَهُ بَاقٍ نَاسِخٌ لِكُلِّ
دِينٍ، وَلَا يُنْسَخُ هُوَ أَبَدَ الْآبِدِينَ، وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ إِلَى
يَوْمِ الدِّينِ، وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِهِ ظَاهِرِينَ عَلَى
الْحَقِّ، لَا
يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ،
وَالنِّدَاءُ بِالْأَذَانِ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ عَلَى كُلِّ مَكَانٍ
مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. وَهَكَذَا كُلُّ خَطِيبٍ يَخْطُبُ لَا بُدَّ
أَنْ يَذْكُرَهُ فِي خُطْبَتِهِ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ حَسَّانَ.
أَغَرُّ عَلَيْهِ لِلنُّبُوَةِ خَاتَمٌ مِنَ اللَّهِ مَشْهُودٌ يَلُوحُ وَيَشْهَدُ
وَضَمَّ الْإِلَهُ اسْمَ النَّبِيِّ إِلَى اسْمِهِ
إِذَا قَالَ فِي الْخَمْسِ الْمُؤَذِّنُ أَشْهَدُ وَشَقَّ لَهُ مِنَ اسْمِهِ
لِيُجِلَّهُ
فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ
وَقَالَ الصَّرْصَرِيُّ، وَهُوَ حَسَّانُ وَقْتِهِ:
لَا يَصِحُّ الْأَذَانُ فِي الْفَرْضِ إِلَّا بِاسْمِهِ الْعَذْبِ فِي الْفَمِ
الْمَرْضِيِّ
وَقَالَ أَيْضًا:
أَلَمْ تَرَ أَنَّا لَا يَصِحُّ أَذَانُنَا وَلَا فَرْضُنَا إِنْ لَمْ نُكَرِّرْهُ
فِيهِمَا
الْقَوْلُ فِيمَا أُوتِيَ دَاوُدُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ
أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ
وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ ص: 17 - 19 ].
وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [ سَبَأٍ: 10، 11 ]. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي قِصَّتِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي " التَّفْسِيرِ " طِيبَ صَوْتِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ سَخَّرَ لَهُ الطَّيْرَ تُسَبِّحُ مَعَهُ، وَكَانَتِ الْجِبَالُ أَيْضًا تُجِيبُهُ وَتُسَبِّحُ مَعَهُ، وَكَانَ سَرِيعَ الْقِرَاءَةِ ; كَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسْرَجُ فَيَقْرَأُ الزَّبُورَ بِمِقْدَارِ مَا يَفْرَغُ مِنْ شَأْنِهَا ثُمَّ يَرْكَبُ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ كَسْبِ يَدِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَنَ الصَّوْتِ طَيِّبَهُ ; بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ. قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَغْرِبِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فَمَا سَمِعْتُ صَوْتًا أَطْيَبَ مِنْ صَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ يَقْرَأُ تَرْتِيلًا كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، بِذَلِكَ. وَأَمَّا تَسْبِيحُ الطَّيْرِ مَعَ دَاوُدَ، فَتَسْبِيحُ الْجِبَالِ الصُّمِّ الْجَمَادِ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أَنِ الْحَصَا سَبَّحَ فِي كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ حَامِدٍ: وَهَذَا حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ. وَكَانَتِ الْأَحْجَارُ وَالْأَشْجَارُ وَالْمَدَرُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ
"، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:لَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ
وَهُوَ يُؤْكَلُ. يَعْنِي بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَكَلَّمَهُ ذِرَاعُ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ، وَأَعْلَمَهُ بِمَا
فِيهِ مِنَ السُّمِّ، وَشَهِدَتْ بِنُبُوَّتِهِ الْحَيَوَانَاتُ الْإِنْسِيَّةُ
وَالْوَحْشِيَّةُ، وَالْجَمَادَاتُ أَيْضًا، كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ
كُلِّهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ صُدُورَ التَّسْبِيحِ مِنَ الْحَصَا الصِّغَارِ
الصُّمِّ الَّتِي لَا تَجَاوِيفَ فِيهَا أَعْجَبُ مِنْ صُدُورِ ذَلِكَ مِنَ
الْجِبَالِ، لِمَا فِيهَا مِنَ التَّجَاوِيفِ وَالْكُهُوفِ، فَإِنَّهَا وَمَا
شَاكَلَهَا تُرَدِّدُ صَدَى الْأَصْوَاتِ الْعَالِيَةِ غَالِبًا، كَمَا كَانَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ إِذَا خَطَبَ - وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ -
بِالْحَرَمِ الشَّرِيفِ، تُجَاوِبُهُ الْجِبَالُ ; أَبُو قُبَيْسٍ وَزُرْزُرٌ،
وَلَكِنْ مِنْ غَيْرِ تَسْبِيحٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاتِ دَاوُدَ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَعَ هَذَا فَتَسْبِيحُ الْحَصَا فِي كَفِّ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ
أَعْجَبُ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فَإِنْ قِيلَ: سُخِّرَتْ لَهُ الطَّيْرُ. فَقَدْ
سُخِّرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الطَّيْرِ
الْبَهَائِمُ الْعَظِيمَةُ ; الْإِبِلُ فَمَا دُونَهَا، وَمَا هُوَ أَعْسَرُ
وَأَصْعَبُ مِنَ الطَّيْرِ ; السِّبَاعُ الْعَادِيَّةُ الضَّارِيَةُ،
تَتَهَيَّبُهُ وَتَنْقَادُ إِلَى طَاعَتِهِ ; كَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ الَّذِي
سَجَدَ لَهُ، وَالذِّئْبِ الَّذِي نَطَقَ بِنُبُوَّتِهِ وَالتَّصْدِيقِ
بِدَعْوَتِهِ وَرِسَالَتِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَسَانِيدُ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَأَمَّا أَكْلُ دَاوُدَ
مِنْ كَسْبِ يَدِهِ، فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِهِ أَيْضًا، كَمَا كَانَ يَرْعَى غَنَمًا لِأَهْلِ
مَكَّةَ عَلَى قَرَارِيطَ، وَقَالَ: " مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَى
الْغَنَمَ ". وَخَرَجَ إِلَى الشَّامِ فِي تِجَارَةٍ لِخَدِيجَةَ
مُضَارَبَةً، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ
يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ
فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ
جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا
مَسْحُورًا انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا
يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي
الْأَسْوَاقِ [ الْفَرْقَانِ: 7 - 20 ]. أَيْ لِلتَّكَسُّبِ وَالتِّجَارَةِ
طَلَبًا لِلرِّبْحِ الْحَلَالِ. ثُمَّ لَمَّا شَرَعَ اللَّهُ لَهُ الْجِهَادَ بِالْمَدِينَةِ،
كَانَ يَأْكُلُ مِمَّا أَبَاحَ لَهُ مِنَ الْمَغَانِمِ الَّتِي لَمْ تُبَحْ
لِنَبِيٍّ قَبْلَهُ، وَمِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ
الْكُفَّارِ الَّتِي أُبِيحَتْ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ. كَمَا جَاءَ فِي "
الْمُسْنَدِ " وَ " التِّرْمِذِيِّ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بُعِثْتُ
بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا
شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ
وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ
مِنْهُمْ.
وَأَمَّا إِلَانَةُ الْحَدِيدِ لِدَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَدْ كَانَ مِنَ
الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ ; كَانَ الْحَدِيدُ يَلِينُ فِي يَدَيْهِ مِنْ
غَيْرِ نَارٍ، كَمَا يَلِينُ الْعَجِينُ فِي يَدِهِ، فَكَانَ
يَصْنَعُ مِنْهُ هَذِهِ
الدُّرُوعَ الدَّاوُدِيَّةَ، وَهِيَ الزَّرَّدِيَّاتُ السَّابِغَاتُ، وَأَمَرَهُ
اللَّهُ تَعَالَى بِكَيْفِيَّةِ عَمَلِهَا: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [ سَبَأٍ: 11
]. أَيْ أَلَّا تُدِقَّ الْمِسْمَارَ فَيَقْلَقَ، وَلَا تُغْلِّظْهُ فَيَفْصِمَ،
كَمَا جَاءَ فِي الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ
لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ [
الْأَنْبِيَاءِ: 80 ]. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ:
نَسْجُ دَاوُدَ مَا حَمَى صَاحِبَ الْغَا رِ وَكَانَ الْفَخَارُ لِلْعَنْكَبُوتِ
وَالْمَقْصُودُ الْمُعْجِزُ فِي إِلَانَةِ الْحَدِيدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي
السِّيرَةِ عِنْدَ ذِكْرِ حَفْرِ الْخَنْدَقِ عَامَ الْأَحْزَابِ فِي سَنَةِ
أَرْبَعٍ - وَقِيلَ: خَمْسٍ - أَنَّهُمْ عَرَضَتْ لَهُمْ كُدْيَةٌ، وَهِيَ
الصَّخْرَةُ فِي الْأَرْضِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى كَسْرِهَا وَلَا شَيْءَ
مِنْهَا، فَقَامَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَقَدْ رَبَطَ حَجَرًا عَلَى بَطْنِهِ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ، فَضَرَبَهَا ثَلَاثَ
ضَرَبَاتٍ، لَمَعَتِ الْأُولَى حَتَّى أَضَاءَتْ لَهُ مِنْهَا قُصُورُ الشَّامِ
وَبِالثَّانِيَةِ قُصُورُ فَارِسَ، وَبِالثَّالِثَةِ قُصُورُ صَنْعَاءَ، ثُمَّ
انْثَالَتِ الصَّخْرَةُ كَأَنَّهَا كَثِيبٌ أَهْيَلُ مِنَ الرَّمْلِ، وَلَا شَكَّ
أَنَّ لِينَ الصُّخُورِ الَّتِي لَا تَنْفَعِلُ وَلَا بِالنَّارِ أَعْجَبُ مِنْ
لِينِ الْحَدِيدِ الَّذِي إِذَا حَمِيَ لَانَ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
فَلَوْ أَنَّ مَا
عَالَجْتُ لِينَ فُؤَادِهَا بِنَفْسِي لَلَانَ الْجَدْلُ وَالْجَنْدَلُ الصَّخْرُ
فَلَوْ أَنَّ شَيْئًا أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الصَّخْرِ لَذَكَرَهُ هَذَا
الشَّاعِرُ الْمُبَالِغُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً الْآيَةَ [
الْبَقَرَةِ: 74 ]. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ
حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ [ الْإِسْرَاءِ: 50، 51 ]،
فَذَاكَ التَّرَقِّي لِمَعْنًى آخَرَ ذُكِرَ فِي " التَّفْسِيرِ "
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْحَدِيدَ أَشَدُّ امْتِنَاعًا فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ
مِنَ الْحَجَرِ مَا لَمْ يُعَالَجْ، فَإِذَا عُولِجَ انْفَعَلَ الْحَدِيدُ وَلَا
يَنْفَعِلُ الْحَجَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ لَيَّنَ اللَّهُ لِدَاوُدَ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، الْحَدِيدَ حَتَّى سَرَدَ مِنْهُ الدُّرُوعَ السَّوَابِغَ.
قِيلَ: لُيِّنَتْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِجَارَةَ
وَصُمُّ الصُّخُورِ، فَعَادَتْ لَهُ غَارًا اسْتَتَرَ بِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
يَوْمَ أُحُدٍ ; مَالَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْجَبَلِ لِيُخْفِيَ شَخْصَهُ عَنْهُمْ،
فَلَيَّنَ اللَّهُ لَهُ الْجَبَلَ حَتَّى أَدْخَلَ فِيهِ رَأْسَهُ، وَهَذَا
أَعْجَبُ ; لِأَنَّ الْحَدِيدَ تُلَيِّنُهُ النَّارُ، وَلَمْ نَرَ النَّارَ
تُلَيِّنُ الْحَجَرَ. قَالَ: وَذَلِكَ بَعْدُ ظَاهِرٌ بَاقٍ يَرَاهُ النَّاسُ.
قَالَ: وَكَذَلِكَ فِي بَعْضِ شِعَابِ مَكَّةَ حَجَرٌ مِنْ جَبَلٍ أَصَمَّ،
اسْتَرْوَحَ فِي صَلَاتِهِ إِلَيْهِ، فَلَانَ الْحَجَرُ لَهُ حَتَّى أَثَّرَ فِيهِ
بِذِرَاعَيْهِ وَسَاعِدَيْهِ،
وَذَلِكَ مَشْهُورٌ
يَقْصِدُهُ الْحُجَّاجُ وَيَرَوْنَهُ، وَعَادَتِ الصَّخْرَةُ لَيْلَةَ أُسَرِيَ
بِهِ كَهَيْئَةِ الْعَجِينِ، فَرَبَطَ بِهَا دَابَّتَهُ الْبَرَّاقَ، يَلْمَسُهُ
النَّاسُ، إِلَى يَوْمِنَا هَذَا بَاقٍ.
وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ وَبَعْضِ شِعَابِ مَكَّةَ
غَرِيبٌ جِدًّا، وَلَعَلَّهُ قَدْ أَسْنَدَهُ هُوَ فِيمَا سَلَفَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ
بِمَعْرُوفٍ فِي السِّيَرِ الْمَشْهُورَةِ، وَأَمَّا رَبْطُ الدَّابَّةِ فِي
الْحَجَرِ فَصَحِيحٌ، وَالَّذِي رَبَطَهَا جِبْرِيلُ كَمَا هُوَ فِي "
صَحِيحِ مُسْلِمٍ " رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ ص:
20 ]. فَقَدْ كَانَتِ الْحِكْمَةُ الَّتِي أُوتِيَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشِّرْعَةُ الَّتِي شُرِعَتْ لَهُ أَكْمَلَ مِنْ كُلِّ
حِكْمَةٍ وَشِرْعَةٍ كَانَتْ لِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ جَمَعَ لَهُ
مَحَاسِنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَفَضَّلَهُ، وَأَكْمَلَ لَهُ وَآتَاهُ مَا لَمْ
يُؤْتِ أَحَدًا قَبْلَهُ، وَقَدْ قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ:
" أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَاخْتُصِرَتْ لِيَ الْحِكْمَةُ اخْتِصَارًا
". وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَرَبَ أَفْصَحُ الْأُمَمِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْصَحَهُمْ نُطْقًا، وَأَجْمَعَ لِكُلِّ
خُلُقٍ جَمِيلٍ مُطْلَقًا.
الْقَوْلُ فِيمَا أُوتِيَ
سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَسَخَّرَنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً
حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ
مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ
حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ ص: 36 - 40 ]. وَقَالَ
تَعَالَى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ
الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ وَمِنَ
الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا
لَهُمْ حَافِظِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 81، 82 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَلِسُلَيْمَانَ
الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ
الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ
يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ
لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ
رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [
سَبَأٍ: 12، 13 ]. وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي قِصَّتِهِ، وَفِي "
التَّفْسِيرِ " أَيْضًا.
وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ
وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ "
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ،أَنَّ
سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ
خِلَالًا ثَلَاثًا ; سَأَلَ اللَّهُ حُكْمًا يُوَافِقُ حُكْمَهُ، وَمُلْكًا لَا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَأْتِي هَذَا الْمَسْجِدَ
أَحَدٌ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.
أَمَّا تَسْخِيرُ الرِّيحِ لِسُلَيْمَانَ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي
شَأْنِ الْأَحْزَابِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا
لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [ الْأَحْزَابِ: 9 ].
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ،
عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " نُصِرْتُ بِالصَّبَا
وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُّورِ ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ مَسْعُودِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ
شَهْرٍ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا
قَصَدَ قِتَالَ قَوْمٍ مِنَ الْكَفَّارِ، أَلْقَى اللَّهُ الرُّعْبَ فِي
قُلُوبِهِمْ مِنْهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِمْ بِشَهْرٍ، وَلَوْ كَانَ مَسِيرُهُ
شَهْرًا، فَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ بَلْ
هَذَا أَبْلَغُ فِي التَّمْكِينِ، وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَالظَّفَرِ،
وَسُخِّرَتْ
لَهُ الرِّيَاحُ تَسُوقُ
السَّحَابَ لِإِنْزَالِ الْمَطَرِ الَّذِي امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ حِينَ اسْتَسْقَى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ فِي غَيْرِ مَا
مَوْطِنٍ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ
سُلَيْمَانَ سُخِّرَتْ لَهُ الرِّيحُ فَسَارَتْ بِهِ فِي بِلَادِ اللَّهِ، وَكَانَ
غُدُوُّهَا شَهْرًا وَرَوَاحُهَا شَهْرًا. قِيلَ: مَا أُعْطِيَ مُحَمَّدٌ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ ; لِأَنَّهُ سَارَ فِي لَيْلَةٍ
وَاحِدَةٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَعُرِجَ بِهِ
فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فِي أَقَلِّ مِنْ
ثُلُثِ لَيْلَةٍ، فَدَخَلَ السَّمَاوَاتِ سَمَاءً سَمَاءً، وَرَأَى عَجَائِبَهَا،
وَوَقَفَ عَلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ أَعْمَالُ أَمَتِّهِ،
وَصَلَّى بِالْأَنْبِيَاءِ وَبِمَلَائِكَةِ السَّمَاوَاتِ، وَاخْتَرَقَ الْحُجُبَ،
وَهَذَا كُلُّهُ فِي لَيْلَةٍ، فَأَيُّمَا أَكْبَرُ وَأَعْجَبُ ؟ !.
وَأَمَّا تَسْخِيرُ الشَّيَاطِينِ بَيْنَ يَدَيْهِ تَعْمَلُ مَا يَشَاءُ مِنْ
مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجَفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ، فَقَدْ
أَنْزَلَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ لِنُصْرَةِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ مَا مَوْطِنٍ ; يَوْمَ
أُحُدٍ وَبَدْرٍ وَيَوْمَ الْأَحْزَابِ وَيَوْمَ حَنِينٍ، كَمَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُنَا ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي مَوَاضِعِهِ. وَذَلِكَ أَعْظَمُ وَأَبْهَرُ
وَأَجَلُّ وَأَعْلَى مِنْ تَسْخِيرِ الشَّيَاطِينِ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ
حَامِدٍ فِي كِتَابِهِ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ
الْبَارِحَةَ - أَوْ كَلِمَةً
نَحْوَهَا - لِيَقْطَعَ
عَلَيَّ الصَّلَاةَ فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ
إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا
إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ". قَالَ رَوْحٌ:
فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا. لَفَظُ الْبُخَارِيِّ.
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ نَحْوُهُ، قَالَ: " ثُمَّ أَرَدْتُ
أَخْذَهُ، وَاللَّهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مُوَثَّقًا
يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ".
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ،أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ يُصَلِّي صَلَاةَ
الصُّبْحِ وَهُوَ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ،
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ: " لَوْ رَأَيْتُمُونِي وَإِبْلِيسَ،
فَأَهْوَيْتُ بِيَدِي فَمَا زِلْتُ أَخْنُقُهُ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لُعَابِهِ
بَيْنَ إِصْبَعَيَّ هَاتَيْنِ - الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا - وَلَوْلَا
دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مَرْبُوطًا بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي
الْمَسْجِدِ يَتَلَاعَبُ بِهِ صِبْيَانُ الْمَدِينَةِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَالْمَسَانِيدِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ
فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتِ
الشَّيَاطِينُ، وَفِي رِوَايَةٍ " مَرَدَةُ الْجِنِّ ". فَهَذَا مِنْ
بَرَكَةِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ
صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ
وَقِيَامِهِ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ إِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ مِنْ
مُعْجِزَاتِ الْمَسِيحِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، دُعَاءُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَيْرِ مَا وَاحِدٍ مِمَّنْ
بِهِ لَمَمٌ مِنَ الْجِنِّ فَشُفِيَ وَفَارَقَهُمْ ; خَوْفًا مِنْهُ، وَمَهَابَةً
لَهُ، وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ
بَعَثَ اللَّهُ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، فَآمَنُوا بِهِ
وَصَدَّقُوهُ، وَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى دِينِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَذَّرُوهُمْ مُخَالَفَتَهُ ; لِأَنَّهُ
كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَآمَنَتْ طَوَائِفُ مِنَ الْجِنِّ
كَثِيرَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَوَفَدَتْ إِلَيْهِ مِنْهُمْ وُفُودٌ كَثِيرَةٌ،
وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ " الرَّحْمَنِ " وَخَبَّرَهُمْ بِمَا
لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ مَنِ الْجِنَانِ، وَمَا لِمَنْ كَفَرَ مِنَ النِّيرَانِ،
وَشَرَعَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ وَمَا يُطْعِمُونَ دَوَابَّهُمْ، فَدَلَّ عَلَى
أَنَّهُ بَيَّنَ لَهُمْ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْبَرُ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ هَا هُنَا حَدِيثَ الْغُولِ الَّتِي كَانَتْ
تَسْرِقُ التَّمْرَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَيُرِيدُونَ إِحْضَارَهَا إِلَيْهِ فَتَمْتَنِعُ كُلَّ الِامْتِنَاعِ
; خَوْفًا مِنَ الْمُثُولِ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ افْتَدَتْ مِنْهُمْ
بِتَعْلِيمِهِمْ قِرَاءَةَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ الَّتِي لَا يَقْرَبُ قَارِئَهَا
الشَّيْطَانُ، وَقَدْ سُقْنَا ذَلِكَ بِطُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ عِنْدَ تَفْسِيرِ
آيَةِ الْكُرْسِيِّ مِنْ كِتَابِنَا " التَّفْسِيرِ " وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ. وَالْغُولُ هِيَ الْجِنُّ الْمُتَبَدِّي بِاللَّيْلِ فِي صُورَةٍ
مُرْعِبَةٍ.
وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ هَا هُنَا حِمَايَةَ جِبْرِيلَ لَهُ، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، غَيْرَ مَا مَرَّةٍ مِنْ أَبِي جَهْلٍ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي
السِّيرَةِ، وَذَكَرَ مُقَاتَلَةَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَنْ يَمِينِهِ
وَشِمَالِهِ
يَوْمَ أُحُدٍ.
وَأَمَّا مَا جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى لِسُلَيْمَانَ مِنَ النُّبُوَّةِ
وَالْمُلْكِ كَمَا كَانَ أَبُوهُ مِنْ قَبْلِهِ، فَقَدْ خَيَّرَ اللَّهُ عَبْدَهُ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا نَبِيًّا
أَوْ عَبْدًا رَسُولًا فَاسْتَشَارَ جِبْرِيلَ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ
وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَاضَعَ، فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا. وَقَدْ
رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ
مَنْصِبَ الرِّسَالَةِ أَعْلَى، وَقَدْ عُرِضَتْ عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنُوزَ الْأَرْضِ فَأَبَاهَا، قَالَ: " وَلَوْ شِئْتُ
لَأَجْرَى اللَّهُ مَعِي جِبَالَ الْأَرْضِ ذَهَبًا، وَلَكِنْ أَجُوعُ يَوْمًا
وَأَشْبَعُ يَوْمًا ". وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ بِأَدِلَّتِهِ
وَأَسَانِيدِهِ فِي " التَّفْسِيرِ " وَفِي السِّيرَةِ أَيْضًا،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ هَا هُنَا طَرَفًا مِنْهَا ; مِنْ
حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ
وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنًا أَنَا نَائِمٌ إِذْ جِيءَ
بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَجُعِلَتْ فِي يَدِي. وَمِنْ حَدِيثِ
الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقَدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا:
" أُوتِيتُ
مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ
الدُّنْيَا عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ جَاءَنِي بِهِ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ
مِنْ سُنْدُسٍ ". وَمِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ
مَرْفُوعًا:عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا
فَقُلْتُ: لَا يَا رَبِّ، وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا، فَإِذَا
جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ وَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ
وَشَكَرْتُكَ.
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فَإِنْ قِيلَ: سُلَيْمَانُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ
يَفْهَمُ كَلَامَ الطَّيْرِ وَالنَّمْلَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَالَ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ الْآيَةَ [ النَّمْلِ: 16 ].
وَقَالَ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا
أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ
وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا الْآيَةَ
[ النَّمْلِ: 18، 19 ]. قِيلَ: قَدْ أُعْطِيَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ مِنْهُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لِكَلَامِ
الْبَهَائِمِ وَالسِّبَاعِ وَحَنِينِ الْجِذْعِ وَرُغَاءِ الْبَعِيرِ وَكَلَامِ
الشَّجَرِ وَتَسْبِيحِ الْحَصَا وَالْحَجْرِ، وَدُعَائِهِ إِيَّاهُ
وَاسْتِجَابَتِهِ لِأَمْرِهِ، وَإِقْرَارِ الذِّئْبِ بِنُبُوَّتِهِ، وَتَسْخِيرِ
الطَّيْرِ لِطَاعَتِهِ، وَكَلَامِ الظَّبْيَةِ وَشَكْوَاهَا إِلَيْهِ، وَكَلَامِ
الضَّبِّ وَإِقْرَارِهِ بِنُبُوَّتِهِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ. كُلُّ ذَلِكَ قَدْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْفُصُولِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ. انْتَهَى
كَلَامُهُ.
قُلْتُ: وَكَذَلِكَ أَخْبَرَهُ
ذِرَاعُ الشَّاةِ بِمَا فِيهِ مِنَ السُّمِّ، وَكَانَ ذَلِكَ بِإِقْرَارِ مَنْ
وَضَعَهُ فِيهِ مِنَ الْيَهُودِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ السَّحَابَةَ
لَتَسْتَهِلُّ بِنَصْرِكَ يَا عَمْرُو بْنَ سَالِمٍ - يَعْنِي الْخُزَاعِيَّ -
حِينَ أَنْشَدَهُ تِلْكَ الْقَصِيدَةَ يَسْتَعْدِيهِ فِيهَا عَلَى بَنِي بَكْرٍ
الَّذِينَ نَقَضُوا صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ فَتْحِ مَكَّةَ،
كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا كَانَ
يُسَلِّمُ عَلِيَّ بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ.
فَهَذَا إِنْ كَانَ كَلَامًا مِمَّا يَلِيقُ بِحَالِهِ، فَفَهِمَ عَنْهُ
الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ هَذَا
الْقَبِيلِ وَأَبْلَغُ ; لِأَنَّهُ جَمَادٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطَّيْرِ
وَالنَّمْلِ ; لِأَنَّهُمَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ، وَإِنْ
كَانَ سَلَامًا نُطْقِيًّا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَهُوَ أَعْجَبُ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ أَيْضًا، كَمَاقَالَ عَلِيٌّ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ شِعَابِ مَكَّةَ، فَمَا مَرَّ بِحَجَرٍ
وَلَا شَجَرٍ وَلَا مَدَرٍ إِلَّا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ. فَهَذَا النُّطْقُ سَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَعَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى
الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُوَيْدٍ الْجُذُوعِيُّ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أُذَيْنَةَ الطَّائِيُّ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ،
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ بِخَيْبَرَ حِمَارٌ أَسْوَدُ، فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ:
" مَنْ أَنْتَ ؟ " فَقَالَ: أَنَا عَمْرُو بْنُ فُلَانٍ، كُنَّا
سَبْعَةَ إِخْوَةٍ، كُلُّنَا رَكِبَنَا الْأَنْبِيَاءُ وَأَنَا أَصْغَرُهُمْ،
وَكُنْتُ لَكَ، فَمَلَكَنِي رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَكُنْتُ إِذَا ذَكَرْتُكَ
كَبَوْتُ بِهِ فَيُوجِعُنِي ضَرْبًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " فَأَنْتَ يَعْفُورٌ ". وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ نَكَارَةٌ
شَدِيدَةٌ، وَلَا نَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِهِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ
الصَّحِيحَةِ الَّتِي فِيهَا غُنْيَةٌ عَنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ
الصِّيغَةِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى نَكَارَتِهِ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِيهِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْقَوْلُ فِيمَا أُوتِيَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَيُسَمَّى الْمَسِيحُ ; فَقِيلَ: لِمَسْحِهِ الْأَرْضَ. وَقِيلَ: لِمَسْحِ
قَدَمِهِ. وَقِيلَ: لِخُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَمْسُوحًا بِالدِّهَانِ. وَقِيلَ:
لِمَسْحِ جِبْرِيلَ لَهُ بِالْبَرَكَةِ. وَقِيلَ: لِمَسْحِ اللَّهِ الذُّنُوبَ
عَنْهُ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَمْسَحُ أَحَدًا إِلَّا بَرِئَ. حَكَاهَا
كُلُّهَا الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَمِنْ خَصَائِصِهِ
أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَخْلُوقٌ بِالْكَلِمَةِ مِنْ أُنْثَى بِلَا
ذَكَرٍ، كَمَا خُلِقَتْ حَوَّاءُ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَكَمَا خُلِقَ آدَمُ
لَا مِنْ ذَكَرٍ وَلَا مِنْ أُنْثَى، وَإِنَّمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ
تُرَابٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ عِيسَى
بِالْكَلِمَةِ وَبِنَفْخِ جِبْرِيلَ فِي فَرْجِ مَرْيَمَ، فَخَلَقَ اللَّهُ
مِنْهَا عِيسَى.
وَمِنْ خَصَائِصِهِ وَأُمِّهِ أَنَّ إِبْلِيسَ، لَعَنَهُ اللَّهُ، حِينَ وُلِدَ
ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ كَمَا جَاءَ فِي " الصَّحِيحِ
". وَمِنْ خَصَائِصِهِ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَهُوَ حَيٌّ الْآنَ بِجَسَدِهِ
فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا. وَسَيَنْزِلُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى
الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ الشَّرْقِيَّةِ بِدِمَشْقَ، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ
قِسْطًا وَعَدْلًا، كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا، وَيَحْكُمُ بِهَذِهِ
الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، ثُمَّ يَمُوتُ وَيُدْفَنُ بِالْحُجْرَةِ
النَّبَوِيَّةِ، كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي
قِصَّتِهِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا.
وَقَالَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى: وَأَمَّا مُعْجِزَاتُ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَمِنْهَا إِحْيَاءُ
الْمَوْتَى، وَلِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ
كَثِيرٌ، وَإِحْيَاءُ الْجَمَادِ أَبْلَغُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ
كَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذِّرَاعَ الْمَسْمُومَةَ،
وَهَذَا الْإِحْيَاءُ أَبْلَغُ مِنْ إِحْيَاءِ الْإِنْسَانِ الْمَيِّتِ مِنْ
وُجُوهٍ ; أَحَدُهَا، أَنَّهُ إِحْيَاءُ جُزْءٍ مِنَ الْحَيَوَانِ دُونَ بُقِّيةِ
بَدَنِهِ، وَهَذَا مُعْجِزٌ لَوْ كَانَ مُتَّصِلًا بِالْبَدَنِ. الثَّانِي:
أَنَّهُ أَحْيَاهُ وَحْدَهُ مُنْفَصِلًا عَنْ بَقِيَّةِ أَجْزَاءِ ذَلِكَ
الْحَيَوَانِ مَعَ مَوْتِ الْبَقِيَّةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ أَعَادَ عَلَيْهِ
الْحَيَاةَ
مَعَ الْإِدْرَاكِ
وَالْعَقْلِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْحَيَوَانُ يَعْقِلُ فِي حَيَاتِهِ فَصَارَ
جُزْؤُهُ حَيًّا يَعْقِلُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ أَقْدَرَهُ اللَّهُ عَلَى
النُّطْقِ وَالْكَلَامِ وَلَمْ يَكُنِ الْحَيَوَانُ الَّذِي هُوَ جُزْؤُهُ مِمَّا
يَتَكَلَّمُ، وَفِي هَذَا مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ حَيَاةِ الطُّيُورِ الَّتِي
أَحْيَاهَا اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قُلْتُ: وَفِي حُلُولِ الْحَيَاةِ وَالْإِدْرَاكِ وَالْعَقْلِ فِي الْحَجَرِ
الَّذِي كَانَ يُخَاطِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ، كَمَا رُوِيَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنَ
الْمُعْجِزِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ إِحْيَاءِ الْحَيَوَانِ فِي الْجُمْلَةِ ;
لِأَنَّهُ كَانَ مَحَلًّا لِلْحَيَاةِ فِي وَقْتٍ، بِخِلَافِ هَذَا حَيْثُ لَا
حَيَاةَ لَهُ بِالْكُلِّيَّةِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ تَسْلِيمُ الْأَحْجَارِ
وَالْمَدَرُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْأَشْجَارُ وَالْأَغْصَانُ وَشَهَادَتُهَا
بِالرِّسَالَةِ، وَحَنِينُ الْجِذْعِ إِلَيْهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ
عَلَيْهِ. قَالَ شَيْخُنَا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ جَمَعَ ابْنُ أَبِي
الدُّنْيَا كِتَابًا فِيمَنْ عَاشَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَذَكَرَ مِنْهَا كَثِيرًا،
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْنَا
عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُوَ مَرِيضٌ يَعْقِلُ، فَلَمْ نَبْرَحْ حَتَّى
قُبِضَ، فَبَسَطْنَا عَلَيْهِ ثَوْبَهُ وَسَجَّيْنَاهُ، وَلَهُ أَمٌّ عَجُوزٌ
كَبِيرَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهَا بَعْضُنَا، وَقَالَ: يَا هَذِهِ
احْتَسِبِي مُصِيبَتَكِ عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالَتْ: وَمَا ذَاكَ ؟ أَمَاتَ ابْنِي
؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَتْ: أَحَقٌّ مَا تَقُولُونَ ؟ ! قُلْنَا: نَعَمْ.
فَمَدَّتْ يَدَيْهَا
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى
فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي أَسْلَمْتُ وَهَاجَرْتُ إِلَى
رَسُولِكَ ; رَجَاءَ أَنْ تُغِيثَنِي عِنْدَ كُلِّ شِدَّةٍ وَرَخَاءٍ، فَلَا
تُحَمِّلْنِي هَذِهِ الْمُصِيبَةَ الْيَوْمَ. قَالَ: فَكَشَفَ الرَّجُلُ عَنْ
وَجْهِهِ وَقَعَدَ، وَمَا بَرِحْنَا حَتَّى أَكَلْنَا مَعَهُ.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ قَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا فِي دَلَائِلِ
النُّبُوَّةِ، وَفِي ذِكْرِ مُعْجِزِ الطُّوفَانِ مَعَ قِصَّةِ الْعَلَاءِ بْنِ
الْحَضْرَمِيِّ، وَهَذَا السِّيَاقُ الَّذِي أَوْرَدَهُ شَيْخُنَا ذَكَرَ بَعْضَهُ
بِالْمَعْنَى، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالْحَافِظُ
أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ بَشِيرٍ
الْمُرِّيِّ - أَحَدِ زُهَّادِ الْبَصْرَةِ وَعُبَّادِهَا وَفِي حَدِيثِهِ لِينٌ -
عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ. وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ: أَنَّ
أُمَّهُ كَانَتْ عَجُوزًا عَمْيَاءَ. ثُمَّ سَاقَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ
عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ أَنَسٍ، كَمَا
تَقَدَّمَ، وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ، وَفِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِحَضْرَةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ
ثِقَاتٌ، وَلَكِنْ فِيهِ انْقِطَاعٌ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ وَأَنَسٍ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةٌ أُخْرَى.
قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي سَبْرَةَ النَّخَعِيِّ قَالَ:
أَقْبَلُ رَجُلٌ مِنَ الْيَمَنِ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ نَفَقَ
حِمَارُهُ، فَقَامَ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ:
اللَّهُمَّ إِنِّي جِئْتُ
مِنَ الدَّثِينَةِ
مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِكَ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ
تُحْيِي الْمَوْتَى وَتَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، لَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ
عَلَيَّ الْيَوْمَ مِنَّةً، أَطْلُبُ إِلَيْكَ الْيَوْمَ أَنْ تَبْعَثَ حِمَارِي.
فَقَامَ الْحِمَارُ يَنْفُضُ أُذُنَيْهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ
صَحِيحٌ. وَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ كَرَامَةً لِصَاحِبِ الشَّرِيعَةِ. قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ،
وَغَيْرُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ،
عَنِ الشَّعْبِيِّ. وَكَأَنَّهُ عِنْدَ إِسْمَاعِيلَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: كَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ فَذَكَرَهُ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَأَنَا رَأَيْتُ الْحِمَارَ بِيعَ
أَوْ يُبَاعُ فِي الْكُنَاسَةِ. يَعْنِي بِالْكُوفَةِ، وَقَدْ أَوْرَدَهَا ابْنُ
أَبِي الدُّنْيَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ قَوْمِهِ فِي ذَلِكَ:
وَمِنَّا الَّذِي أَحْيَا الْإِلَهُ حِمَارَهُ وَقَدْ مَاتَ مِنْهُ كُلُّ عُضْوٍ
وَمَفْصِلِ
وَأَمَّا قِصَّةُ زَيْدِ بْنِ خَارِجَةَ وَكَلَامُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ،
وَشَهَادَتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ بِالصِّدْقِ، فَمَشْهُورَةٌ مَرْوِيَّةٌ مِنْ وُجُوهٍ
كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " التَّارِيخِ الْكَبِيرِ
": زَيْدُ بْنُ خَارِجَةَ الْخَزْرَجِيُّ الْأَنْصَارِيُّ شَهِدَ بَدْرًا،
وَتُوُفِّيَ زَمَنَ عُثْمَانَ، وَهُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " وَالْبَيْهَقِيُّ فِي "
دَلَائِلِهِ " وَصَحَّحَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ طَرِيقِ
الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَارِجَةَ الْأَنْصَارِيَّ، ثُمَّ
مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، تُوُفِّيَ زَمَنَ عُثْمَانَ بْنَ
عَفَّانَ فَسُجِّيَ فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ سَمِعُوا جَلْجَلَةً فِي
صَدْرِهِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: أَحْمَدُ أَحْمَدُ فِي الْكِتَابِ
الْأَوَّلِ، صَدَقَ صَدَقَ أَبُو بَكْرٍ الضَّعِيفُ فِي نَفْسِهِ، الْقَوِيُّ فِي
أَمْرِ اللَّهِ، فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، صَدَقَ صَدَقَ، عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ، فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، صَدَقَ صَدَقَ،
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ، مَضَتْ أَرْبَعٌ وَبَقِيَتْ
ثِنْتَانِ، أَتَتِ الْفِتَنُ وَأَكَلَ الشَّدِيدُ الضَّعِيفُ، وَقَامَتِ
السَّاعَةُ، وَسَيَأْتِيكُمْ عَنْ جَيْشِكُمْ خَبَرُ بِئْرِ أَرِيسَ، وَمَا بِئْرُ
أَرِيسَ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: ثُمَّ
هَلَكَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي خَطْمَةَ فَسُجِّيَ بِثَوْبِهِ، فَسُمِعَ جَلْجَلَةٌ فِي
صَدْرِهِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أَخَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ
صَدَقَ صَدَقَ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ
وَجْهٍ آخَرَ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا وَأَطْوَلَ، وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ.
قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ فِي التَّكَلُّمِ بَعْدَ الْمَوْتِ، عَنْ جَمَاعَةٍ
بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: قَدْ ذَكَرْتُ فِي قِصَّةِ شَاةِ جَابِرٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَكْلِ
الْأَلْفِ مِنْهَا وَمِنْ قَلِيلِ شَعِيرٍ، مَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ أَوْرَدَ
الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْمَعْرُوفُ بِ " شَكَّرَ "
فِي كِتَابِهِ "
الْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ " بِسَنَدِهِ، كَمَا سَبَقَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ عِظَامَهَا، ثُمَّ دَعَا
اللَّهَ تَعَالَى فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ فَتَرَكَهَا فِي مَنْزِلِهِمْ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَمِنْ مُعْجِزَاتِ عِيسَى الْإِبْرَاءُ مِنَ الْجُنُونِ، وَقَدْ
أَبْرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يَعْنِي مِنْ ذَلِكَ.
هَذَا آخَرُ مَا وَجَدْتُهُ مِمَّا حَكَيْنَاهُ عَنْهُ. فَأَمَّا إِبْرَاءُ عِيسَى
مِنَ الْجُنُونِ، فَمَا أَعْرِفُ فِيهِ نَقْلًا خَاصًّا، وَإِنَّمَا كَانَ
يُبَرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَالظَّاهِرُ: وَمِنْ جَمِيعِ الْعَاهَاتِ
وَالْأَمْرَاضِ الْمُزْمِنَةِ.
وَأَمَّا إِبْرَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ
الْجُنُونِ، فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ
غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ،أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا
صَغِيرٍ بِهِ لَمَمٌ، مَا رَأَيْتُ لَمَمًا أَشَدَّ مِنْهُ، فَقَالَتْ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، ابْنِي هَذَا كَمَا تَرَى أَصَابَهُ بَلَاءٌ، وَأَصَابَنَا
مِنْهُ بَلَاءٌ، يُؤْخَذُ فِي الْيَوْمِ مَا أَدْرِي كَمْ مَرَّةً. فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَاوِلِينِيهِ ".
فَرَفَعَتْهُ إِلَيْهِ فَجَعَلَتْهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاسِطَةِ الرَّحْلِ، ثُمَّ
فَغَرَ فَاهُ وَنَفَثَ فِيهِ ثَلَاثًا، وَقَالَ: " بِسْمِ اللَّهِ، أَنَا
عَبْدُ اللَّهِ، اخْسَأْ عَدُوَّ اللَّهِ ". ثُمَّ نَاوَلَهَا إِيَّاهُ.
فَذَكَرَتْ أَنَّهُ بَرَأَ مِنْ سَاعَتِهِ وَمَا رَابَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ
ذَلِكَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ فَرْقَدٍ
السَّبَخِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً
جَاءَتْ بِوَلَدِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بِهِ لَمَمًا، وَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ عِنْدَ
طَعَامِنَا فَيُفْسِدُ عَلَيْنَا طَعَامَنَا. قَالَ: فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرَهُ، وَدَعَا لَهُ، فَثَعَّ ثَعَّةً،
فَخَرَجَ مِنْهُ مِثْلُ الْجَرْوِ الْأَسْوَدِ يَسْعَى. غَرِيبٌ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ، وَفَرْقَدٌ فِيهِ كَلَامٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ زُهَّادِ الْبَصْرَةِ،
لَكِنْ مَا تَقَدَّمَ لَهُ شَاهِدٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْقِصَّةُ وَاحِدَةً.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ فَرْقَدٍ أَيْضًا، عَنْ سَعِيدٍ،عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ
فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ
هَذَا الْخَبِيثَ قَدْ غَلَبَنِي. فَقَالَ لَهَا: " إِنْ تَصْبِرِي عَلَى مَا
أَنْتَ عَلَيْهِ تَجِيئِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ عَلَيْكِ ذُنُوبٌ، وَلَا
حِسَابٌ ". فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَصْبِرَنَّ حَتَّى
أَلْقَى اللَّهَ. ثُمَّ قَالَتْ: إِنِّي أَخَافُ الْخَبِيثَ أَنْ يُجَرِّدَنِي.
فَدَعَا لَهَا، وَكَانَتْ إِذَا خَشِيَتْ أَنْ يَأْتِيَهَا تَأْتِي أَسْتَارَ
الْكَعْبَةِ فَتَعَلَّقُ بِهَا، وَتَقُولُ لَهُ: اخْسَأْ. فَيَذْهَبُ عَنْهَا.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فَرْقَدًا قَدْ حَفِظَ، فَإِنَّ هَذَا لَهُ شَاهَدٌ
فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ
أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ لِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا
أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ
أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: هَذِهِ السَّوْدَاءُ، أَتَتْ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ
وَأَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي. قَالَ: " إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ
الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ ". قَالَتْ:
لَا، بَلْ أَصْبِرُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ. قَالَ: فَدَعَا لَهَا
فَكَانَتْ لَا تَنْكَشِفُ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ رَأَى أُمَّ زُفَرَ تِلْكَ،
امْرَأَةٌ طَوِيلَةٌ سَوْدَاءُ، عَلَى سِتْرِ الْكَعْبَةِ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ
بْنُ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِهِ " الْغَابَةِ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ
" أَنَّ أُمَّ زُفَرَ هَذِهِ كَانَتْ مَاشِطَةً لِخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ،
وَأَنَّهَا عُمِّرَتْ حَتَّى رَآهَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، رَحِمَهُمَا
اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا إِبْرَاءُ عِيسَى الْأَكْمَهَ، وَهُوَ الَّذِي يُولَدُ أَعْمَى، وَقِيلَ:
هُوَ الَّذِي لَا يُبْصِرُ فِي النَّهَارِ وَيُبْصِرُ فِي اللَّيْلِ، وَقِيلَ
غَيْرُ ذَلِكَ، كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ "
وَالْأَبْرَصُ الَّذِي بِهِ بَهَقٌ، فَقَدْ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ عَيْنَ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ إِلَى
مَوْضِعِهَا بَعْدَ مَا سَالَتْ عَلَى خَدِّهِ، فَأَخَذَهَا فِي " يَدِهِ
الْكَرِيمَةِ " وَأَعَادَهَا إِلَى مَقَرِّهَا فَاسْتَمَرَّتْ بِجِمَالِهَا
وَبَصَرِهَا، وَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَصَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ
يَسَارٍ فِي " السِّيرَةِ " وَغَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ بَسَطْنَاهُ ثَمَّ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَقَدْ دَخَلَ بَعْضُ وَلَدِهِ، وَهُوَ
عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ
قَتَادَةَ، عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَسَأَلَ عَنْهُ فَأَنْشَأَ
يَقُولُ:
أَنَا ابْنُ الَّذِي سَالَتْ عَلَى الْخَدِّ عَيْنُهُ فَرُدَّتْ بِكَفِّ
الْمُصْطَفَى أَحْسَنَ الرَّدِّ
فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ لِأَوَّلِ أَمْرِهَا فَيَا حُسْنَ مَا عَيْنٍ وَيَا
حُسْنَ مَا خَدِّ
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ:
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ
أَبْوَالَا
ثُمَّ أَجَازَهُ فَأَحْسَنَ جَائِزَتَهُ. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ
عَيْنَيْهِ أُصِيبَتَا مَعًا حَتَّى سَالَتَا عَلَى خَدَّيْهِ، فَرَدَّهُمَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَانِهِمَا.
وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ.
قِصَّةُ الْأَعْمَى الَّذِي رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ بِدُعَاءِ الرَّسُولِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، قَالَا:
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدِينِيُّ، سَمِعْتُ عُمَارَةَ بْنَ
خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ يُحَدِّثُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّ رَجُلًا
ضَرِيرًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي. فَقَالَ إِنْ شِئْتَ أَخَّرْتُ
ذَلِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ لِآخِرَتِكَ، وَإِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ
لَكَ " قَالَ: لَا،
بَلِ ادْعُ اللَّهَ لِي. قَالَ: فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَأَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَأَنْ
يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ
إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيِّ
الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي
هَذِهِ فَتُقْضَى. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ: اللَّهُمَّ
فَشَفِّعْهُ فِيَّ. قَالَ: فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَبَرَأَ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ
غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي جَعْفَرٍ الْخَطْمِيِّ. وَقَدْ
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ بِسَنَدِهِ، إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ
الْخَطْمِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ عَمِّهِ
عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، قَالَ عُثْمَانُ: فَوَاللَّهِ مَا
تَفَرَّقْنَا وَلَا طَالَ الْحَدِيثُ بِنَا حَتَّى دَخَلَ الرَّجُلُ كَأَنْ لَمْ
يَكُنْ بِهِ ضُرٌّ قَطُّ.
قِصَّةٌ أُخْرَى
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي
سَلَامَانَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أُمِّهِ أَنَّ خَالَهَا
حَبِيبَ بْنَ فُوَيْكٍ،
حَدَّثَهَاأَنَّ أَبَاهُ خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَعَيْنَاهُ مُبْيَضَّتَانِ لَا يُبْصِرُ بِهِمَا شَيْئًا أَصْلًا،
فَقَالَ لَهُ: " مَا أَصَابَكَ ؟ " قَالَ: كُنْتُ أَمْرِي جَمَلًا لِي
فَوَقَعَتْ رِجْلِي عَلَى بَيْضِ حَيَّةٍ، فَأُصِيبَ بَصَرِي. فَنَفَثَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَيْنَيْهِ فَأَبْصَرَ، فَرَأَيْتُهُ
وَإِنَّهُ لَيُدْخِلُ الْخَيْطُ فِي الْإِبْرَةِ، وَإِنَّهُ لَابْنُ ثَمَانِينَ
سَنَةً، وَإِنَّ عَيْنَيْهِ لَمُبْيَضَّتَانِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كَذَا فِي
كِتَابِهِ، وَغَيْرُهُ يَقُولُ: حَبِيبُ بْنُ مُدْرِكٍ.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَفَثَ فِي عَيْنَيْ عَلِيٍّ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَهُوَ أَرْمَدُ فَبَرَأَ
مِنْ سَاعَتِهِ، ثُمَّ لَمْ تَرَمَدْ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَمَسَحَ رِجْلَ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ، وَقَدِ انْكَسَرَتْ رِجْلُهُ لَيْلَةَ قَتَلَ أَبَا رَافِعٍ
تَاجِرَ أَهْلِ الْحِجَازِ الْخَيْبَرِيَّ، فَبَرَأَ مِنْ سَاعَتِهِ أَيْضًا.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ يَدَ
مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ، وَكَانَتْ قَدِ احْتَرَقَتْ بِالنَّارِ فَبَرَأَ مِنْ
سَاعَتِهِ، وَمَسَحَ رِجْلَ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَقَدْ أُصِيبَتْ يَوْمَ
خَيْبَرَ، فَبَرَأَتْ مِنْ سَاعَتِهَا، وَدَعَا لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنْ
يُشْفَى مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ فَشُفِيَ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّأَنَّ عَمَّهُ
أَبَا طَالِبٍ مَرِضَ، فَسَأَلَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ يَدْعُوَ لَهُ
رَبَّهُ أَنْ يُعَافِيَهُ فَدَعَا لَهُ فَشُفِيَ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ. وَكَمْ
لَهُ مِنْ مِثْلِهَا وَعَلَى مَسْلَكِهَا ; مِنْ إِبْرَاءِ آلَامٍ، وَإِزَالَةِ
أَسْقَامٍ، مِمَّا يَطُولُ شَرْحُهُ وَبَسْطُهُ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ إِبْرَاءُ الْأَعْمَى بَعْدَ
الدُّعَاءِ عَلَيْهِ بِالْعَمَى أَيْضًا، كَمَا رَوَاهُ الْحَافِظُ بْنُ عَسَاكِرَ
مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْأَعْرَابِيِّ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ، حَدَّثَنَا
عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ
أَبِي مُسْلِمٍ، أَنَّ امْرَأَةً خَبَّبَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، فَدَعَا
عَلَيْهَا فَذَهَبَ بَصَرُهَا، فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ، إِنِّي
كُنْتُ فَعَلْتُ وَفَعَلْتُ، وَإِنِّي لَا أَعُودُ لِمِثْلِهَا. فَقَالَ:
اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ صَادِقَةً فَارْدُدْ عَلَيْهَا بَصَرَهَا. فَأَبْصَرَتْ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ وَاقَدٍ، حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ،
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ قَالَ: كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ
إِذَا دَخَلَ مَنْزِلَهُ سَلَّمَ فَإِذَا بَلَغَ وَسَطَ الدَّارِ كَبَّرَ
وَكَبَّرَتِ امْرَأَتُهُ، فَإِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ كَبَّرَ وَكَبَّرَتِ
امْرَأَتُهُ. قَالَ: فَيَدْخُلُ فَيَنْزِعُ رِدَاءَهُ وَحِذَاءَهُ وَتَأْتِيهِ
بِطَعَامٍ فَيَأْكُلُ، فَجَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَكَبَّرَ فَلَمْ تُجِبْهُ، ثُمَّ
جَاءَ إِلَى بَابِ الْبَيْتِ، فَكَبَّرَ وَسَلَّمَ فَلَمْ تُجِبْهُ، وَإِذَا
الْبَيْتُ لَيْسَ فِيهِ سِرَاجٌ، وَإِذَا هِيَ جَالِسَةٌ بِيَدِهَا عُودٌ فِي الْأَرْضِ
تَنْكُتُ بِهِ، فَقَالَ
لَهَا: مَا لَكِ ؟
فَقَالَتِ: النَّاسُ بِخَيْرٍ وَأَنْتَ أَبُو مُسْلِمٍ، لَوْ أَتَيْتَ مُعَاوِيَةَ
فَيَأْمُرُ لَنَا بِخَادِمٍ وَيُعْطِيكَ شَيْئًا تَعِيشُ بِهِ. فَقَالَ:
اللَّهُمَّ مَنْ أَفْسَدَ عَلَيَّ أَهْلِي فَأَعْمِ بَصَرَهُ. قَالَ: وَكَانَتْ
أَتَتْهَا امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: أَنْتِ امْرَأَةُ أَبِي مُسْلِمٍ، لَوْ كَلَّمْتِ
زَوْجَكِ لِيُكَلِّمَ مُعَاوِيَةَ لِيَخْدِمَكُمْ وَيُعْطِيَكُمْ. قَالَ:
فَبَيْنَمَا هَذِهِ الْمَرْأَةُ فِي مَنْزِلِهَا وَالسِّرَاجِ يُزْهِرُ، إِذْ
أَنْكَرَتْ بَصَرَهَا، فَقَالَتْ: سِرَاجُكُمْ طُفِئَ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَتْ:
إِنَّا لِلَّهِ، أُذْهِبَ بَصَرِي. فَأَقْبَلَتْ كَمَا هِيَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ،
فَلَمْ تَزَلْ تُنَاشِدُهُ اللَّهَ وَتَطْلُبُ إِلَيْهِ، فَدَعَا اللَّهَ فَرَدَّ
بَصَرَهَا، وَرَجَعَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى حَالِهَا الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا قِصَّةُ الْمَائِدَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِذْ قَالَ
الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ
يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ
قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ
الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ
عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا
وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ
اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي
أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [ الْمَائِدَةِ:
112 - 115 ]. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " التَّفْسِيرِ " بَسْطَ ذَلِكَ
وَاخْتِلَافَ الْمُفَسِّرِينَ فِيهَا ; هَلْ نَزَلَتْ أَمْ لَا، عَلَى قَوْلَيْنِ،
وَالْمَشْهُورُ عَنِ
الْجُمْهُورِ أَنَّهَا نَزَلَتْ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا كَانَ عَلَيْهَا مِنَ الطَّعَامِ
عَلَى أَقْوَالِ، وَذَكَرَ أَهْلُ التَّارِيخِ أَنَّ مُوسَى بْنَ نُصَيْرٍ الَّذِي
فَتَحَ الْبِلَادَ الْمَغْرِبِيَّةَ أَيَّامَ بَنِي أُمَيَّةَ وَجَدَ
الْمَائِدَةَ، وَلَكِنْ قِيلَ: إِنَّهَا مَائِدَةُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ
مُرَصَّعَةٌ بِالْجَوَاهِرِ، وَهِيَ مِنْ ذَهَبٍ، فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَى
الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ حَتَّى مَاتَ،
فَتَسَلَّمَهَا أَخُوهُ سُلَيْمَانُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا مَائِدَةُ عِيسَى. لَكِنْ
يَبْعُدُ هَذَا أَنَّ النَّصَارَى لَا يَعْرِفُونَ الْمَائِدَةَ، كَمَا قَالَهُ
غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمَائِدَةَ سَوَاءٌ كَانَتْ قَدْ نَزَلَتْ أَمْ لَمْ
تَنْزِلْ، فَقَدْ كَانَتْ مَوَائِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تُمَدُّ مِنَ السَّمَاءِ، وَكَانُوا يَسْمَعُونَ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ
وَهُوَ يُؤْكَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَمْ قَدْ أَشْبَعَ مِنْ طَعَامٍ يَسِيرٍ
أُلُوفًا وَمِئَاتٍ وَعَشَرَاتٍ بَعْدَ عَشَرَاتٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ
عَلَيْهِ مَا تَعَاقَبَتِ الْأَوْقَاتُ، وَمَا دَامَتِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ.
هَذَا أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ قَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي
تَرْجَمَتِهِ مِنْ " تَارِيخِهِ " أَمْرًا عَجِيبًا وَشَأْنًا غَرِيبًا،
حَيْثُ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ نَجِيحٍ الْمَلْطِيِّ، عَنِ
الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: أَتَى أَبَا مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيَّ نَفَرٌ مِنْ
قَوْمِهِ فَقَالُوا: يَا أَبَا مُسْلِمٍ، أَمَا
تَشْتَاقُ إِلَى الْحَجِّ
؟ قَالَ: بَلَى، لَوْ أَصَبْتُ لِي أَصْحَابًا. قَالَ فَقَالُوا: نَحْنُ
أَصْحَابُكَ. قَالَ: لَسْتُمْ لِي بِأَصْحَابٍ، إِنَّمَا أَصْحَابِي قَوْمٌ لَا
يُرِيدُونَ الزَّادَ وَلَا الْمَزَادَ. فَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَكَيْفَ
يُسَافِرُ قَوْمٌ بِلَا زَادٍ وَلَا مَزَادٍ ؟ ! قَالَ لَهُمْ: أَلَا تَرَوْنَ
إِلَى الطَّيْرِ تَغْدُو وَتَرُوحُ بِلَا زَادٍ وَلَا مَزَادٍ، وَاللَّهُ
يَرْزُقُهَا، وَهِيَ لَا تَبِيعُ وَلَا تَشْتَرِي، وَلَا تَحْرُثُ وَلَا تَزْرَعُ،
وَاللَّهُ يَرْزُقُهَا ؟ قَالَ: فَقَالُوا: فَإِنَّا نُسَافِرُ مَعَكَ. قَالَ:
تَهَيَّئُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ: فَغَدَوْا مِنْ غُوطَةِ
دِمَشْقَ، لَيْسَ مَعَهُمْ زَادٌ وَلَا مَزَادٌ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى
الْمَنْزِلِ قَالُوا: يَا أَبَا مُسْلِمٍ، طَعَامٌ لَنَا وَعَلَفٌ لِدَوَابِّنَا.
قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ: نَعَمْ. فَتَنَحَّى غَيْرَ بَعِيدٍ، فَتَسَنَّمَ مَسْجِدَ
أَحْجَارٍ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ:
إِلَهِي، قَدْ تَعْلَمُ مَا أَخْرَجَنِي مِنْ مَنْزِلِي، وَإِنَّمَا خَرَجْتُ
زَائِرًا لَكَ، وَقَدْ رَأَيْتُ الْبَخِيلَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ تَنْزِلُ بِهِ
الْعِصَابَةُ مِنَ النَّاسِ فَيُوسِعُهُمْ قِرًى، وَإِنَّا أَضْيَافُكَ
وَزُوَّارُكَ، فَأَطْعِمْنَا وَاسْقِنَا، وَاعَلِفْ دَوَابَّنَا. قَالَ: فَأُتِيَ
بِسُفْرَةٍ مُدَّتْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَجِيءَ بِجَفْنَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ
تَبْخَرُ، وَجِيءَ بِقُلَّتَيْنِ مِنْ مَاءٍ، وَجِيءَ بِالْعَلَفِ لَا يَدْرُونَ
مَنْ يَأْتِي بِهِ، فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ حَالُهُمْ مُنْذُ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِ
أَهَالِيهِمْ حَتَّى رَجَعُوا، لَا يَتَكَلَّفُونَ زَادًا وَلَا مَزَادًا.
فَهَذِهِ حَالُ وَلِيٍّ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، نَزَلَ عَلَيْهِ وَعَلَى
أَصْحَابِهِ كُلَّ يَوْمٍ مَائِدَةٌ مَرَّتَيْنِ، مَعَ مَا يُضَافُ إِلَيْهَا مِنَ
الْمَاءِ وَالْعَلُوفَةِ لِدَوَابِّ أَصْحَابِهِ، وَهَذَا اعْتِنَاءٌ عَظِيمٌ،
وَإِنَّمَا نَالَ ذَلِكَ بِبَرَكَةِ مُتَابَعَتِهِ لِهَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ،
عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ: 49 ]. فَهَذَا سَهْلٌ يَسِيرٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، بَلْ وَعَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَقَدْ قَالَ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ وَالصِّدِّيقُ لَذَيْنِكَ الْفَتَيَيْنِ الْمَحْبُوسَيْنِ مَعَهُ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي الْآيَةَ [ يُوسُفَ: 37 ]. وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَخْبَارِ الْمَاضِيَةِ طِبْقَ مَا وَقَعَ، وَعَنِ الْأَخْبَارِ الْحَاضِرَةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ أَكْلِ الْأَرَضَةِ لِتِلْكَ الصَّحِيفَةِ الظَّالِمَةِ الَّتِي كَانَتْ بُطُونُ قُرَيْشٍ قَدْ تَمَالَأَتْ عَلَى مُقَاطَعَةِ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَتَبُوا بِذَلِكَ صَحِيفَةً وَعَلَّقُوهَا فِي سَقْفِ الْكَعْبَةِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ الْأَرَضَةَ، فَأَكَلَتْهَا إِلَّا مَوَاضِعِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَكَلَتِ اسْمَ اللَّهِ مِنْهَا تَنْزِيهًا لَهَا أَنْ تَكُونَ مَعَ الَّذِي فِيهَا مِنَ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ. فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ وَهُمْ بِالشِّعْبِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَبُو طَالِبٍ، وَقَالَ لَهُمْ عَمَّا أَخْبَرَهُ بِهِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلَّا فَسَلِّمُوهُ إِلَيْنَا. فَقَالُوا: نَعَمْ. فَأَنْزَلُوا الصَّحِيفَةَ، فَوَجَدُوهَا كَمَا أَخْبَرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، فَأَقْلَعَتْ بُطُونُ قُرَيْشٍ عَمَّا كَانُوا تَمَالَئُوا عَلَيْهِ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَهَدَى اللَّهُ بِذَلِكَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَمْ لَهُ مِثْلُهَا، كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُهُ وَبَيَانُهُ
فِي مَوَاضِعَ مِنَ
السِّيرَةِ وَغَيْرِهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي يَوْمِ بَدْرٍ لَمَّا طَلَبَ مِنَ الْعَبَّاسِ عَمَّهُ فِدَاءً ادَّعَى
أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: " فَأَيْنَ الْمَالُ الَّذِي
دَفَنْتَهُ أَنْتَ وَأُمُّ الْفَضْلِ تَحْتَ أُسْكُفَّةِ الْبَابِ، وَقُلْتَ
لَهَا: إِنْ قُتِلْتُ فَهُوَ لِلصِّبْيَةِ ؟ " فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ غَيْرِي وَغَيْرُ
أُمِّ الْفَضْلِ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْبَرَ بِمَوْتِ النَّجَاشِيِّ
يَوْمَ مَاتَ وَهُوَ بِالْحَبَشَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَأَخْبَرَ عَنْ قَتْلِ
الْأُمَرَاءِ يَوْمَ مُؤْتَةَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ،
وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ، وَأَخْبَرَ عَنِ الْكِتَابِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ
حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ مَعَ سَارَّةَ مَوْلَاةِ بَنِي عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، وَأَرْسَلَ فِي طَلَبِهَا عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ،
فَوَجَدُوهَا قَدْ جَعَلَتْهُ فِي عِقَاصِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: فِي حُجْزَتِهَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، وَقَالَ لِأَمِيرَيْ كِسْرَى
اللَّذَيْنِ بَعَثَ بِهِمَا نَائِبُ الْيَمَنِ لِكِسْرَى ; لِيَسْتَعْلِمَا أَمْرَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ رَبِّي قَدْ
قَتَلَ اللَّيْلَةَ رَبَّكُمَا ". فَأَرَّخَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَإِذَا
كِسْرَى قَدْ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَدَهُ فَقَتَلَهُ، فَأَسْلَمَا
وَأَسْلَمَ بَاذَامُ نَائِبُ الْيَمَنِ، وَكَانَ سَبَبَ مُلْكِ الْيَمَنِ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا إِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْغُيُوبِ
الْمُسْتَقْبَلَةِ فَكَثِيرَةٌ جِدًّا - كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ،
وَسَيَأْتِي فِي أَثْنَاءِ التَّوَارِيخِ - فَيَقَعُ ذَلِكَ طِبْقَ مَا قَالَ
سَوَاءً بِسَوَاءٍ.
وَذَكَرَ ابْنُ حَامِدٍ فِي مُقَابَلَةِ سِيَاحَةِ عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ، كَثْرَةَ
جِهَادِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي مُقَابَلَةِ زُهْدِ عِيسَى، عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، زَهَادَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ كُنُوزِ الْأَرْضِ حِينَ عُرِضَتْ عَلَيْهِ فَأَبَاهَا، وَقَالَ:
" أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا ". وَأَنَّهُ كَانَ لَهُ ثَلَاثَ
عَشْرَةَ زَوْجَةً يَمْضِي عَلَيْهِنَّ الشَّهْرُ وَالشَّهْرَانِ لَا تُوقَدُ
عِنْدَهُنَّ نَارٌ وَلَا مِصْبَاحٌ، إِنَّمَا هُوَ الْأَسْوَدَانِ ; التَّمْرُ
وَالْمَاءُ، وَرُبَّمَا رَبَطَ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنَ الْجُوعِ، وَمَا
شَبِعُوا مِنْ خُبْزِ بُرٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا، وَكَانَ فِرَاشُهُ مِنْ
أَدَمٍ حَشْوُهُ لِيفٌ، وَرُبَّمَا اعْتَقَلَ الشَّاةَ لِيَحْلِبَهَا، وَرَقَّعَ
ثَوْبَهُ، وَخَصَفَ نَعْلَهُ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ
وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَمَاتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ
مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ عَلَى طَعَامٍ اشْتَرَاهُ لِأَهْلِهِ، هَذَا وَكَمْ
آثَرَ بِآلَافٍ مُؤَلَّفَةٍ وَالْإِبِلِ وَالشَّاءِ وَالْغَنَائِمِ وَالْهَدَايَا
عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ وَالْأَرَامِلِ
وَالْأَيْتَامِ وَالْأَسْرَى وَالْمَسَاكِينِ.
وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُقَابَلَةِ تَبْشِيرِ الْمَلَائِكَةِ لِمَرْيَمَ
الصِّدِّيقَةِ بِمَوْلِدِ عِيسَى، مَا بُشِّرَتْ بِهِ آمِنَةُ أُمُّ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ فِي مَنَامِهَا،
وَمَا قِيلَ لَهَا: إِنَّكِ قَدْ حَمَلْتِ بِسَيِّدِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَسَمِّيهِ
مُحَمَّدًا. وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي الْمَوْلِدِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ
أَوْرَدَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ هَا هُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا مُطَوَّلًا
بِالْمَوْلِدِ أَحْبَبْنَا أَنْ نَسُوقَهُ لِيَكُونَ الْخِتَامَ نَظِيرَ
الِافْتِتَاحِ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ.
فَقَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ
بْنِ
الصَّبَاحِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَابِلِيُّ، أَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُمَرَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانَ مِنْ دَلَالَاتِ حَمْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ كُلَّ دَابَّةٍ كَانَتْ لِقُرَيْشٍ نَطَقَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَقَالَتْ: حُمِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ أَمَانُ الدُّنْيَا وَسِرَاجُ أَهْلِهَا. وَلَمْ تَبْقَ كَاهِنَةٌ فِي قُرَيْشٍ وَلَا قَبِيلَةٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ إِلَّا حُجِبَتْ عَنْ صَاحِبَتِهَا، وَانْتُزِعَ عِلْمُ الْكَهَنَةِ مِنْهَا، وَلَمْ يَبْقَ سَرِيرُ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا إِلَّا أَصْبَحَ مَنْكُوسًا، وَالْمَلِكُ مُخَرَّسًا لَا يَنْطِقُ يَوْمَهُ ذَلِكَ، وَمَرَّتْ وُحُوشُ الْمَشْرِقِ إِلَى وُحُوشِ الْمَغْرِبِ بِالْبِشَارَاتِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْبِحَارِ يُبَشِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهِ، وَفِي كُلِّ شَهْرٍ مِنْ شُهُورِهِ نِدَاءٌ فِي الْأَرْضِ وَنِدَاءٌ فِي السَّمَاوَاتِ ; أَنْ أَبْشِرُوا فَقَدْ آنَ لِأَبِي الْقَاسِمِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْأَرْضِ مَيْمُونًا مُبَارَكًا. قَالَ: وَبَقِيَ فِي بَطْنِ أَمِّهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَهَلَكَ أَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: إِلَهَنَا وَسَيِّدَنَا، بَقِيَ نَبِيُّكَ هَذَا يَتِيمًا. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: أَنَا لَهُ وَلِيٌّ وَحَافِظٌ
وَنَصِيرٌ، فَتَبَرَّكُوا بِمَوْلِدِهِ، فَمَوْلِدُهُ مَيْمُونٌ مُبَارَكٌ، وَفَتَحَ اللَّهُ لِمَوْلِدِهِ أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَجَنَّاتِهِ، وَكَانَتْ آمِنَةُ تُحَدِّثُ عَنْ نَفْسِهَا وَتَقُولُ: أَتَانِي آتٍ حِينَ مَرَّ بِي مِنْ حَمْلِهِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَوَكَزَنِي بِرِجْلِهِ فِي الْمَنَامِ، وَقَالَ: يَا آمِنَةُ، إِنَّكِ حَمَلْتِ بِخَيْرِ الْعَالَمِينَ طُرًّا، فَإِذَا وَلِدْتِيهِ فَسَمِّيهِ مُحَمَّدًا، وَاكْتُمِي شَأْنَكِ. قَالَ: وَكَانَتْ تُحَدِّثُ عَنْ نَفْسِهَا وَتَقُولُ: لَقَدْ أَخَذَنِي مَا يَأْخُذُ النِّسَاءَ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِي أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ؛ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى، وَإِنِّي لِوَحِيدَةٌ فِي الْمَنْزِلِ، وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ فِي طَوَافِهِ. قَالَتْ: فَسَمِعْتُ وَجْبَةً شَدِيدَةً، وَأَمْرًا عَظِيمًا، فَهَالَنِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، فَرَأَيْتُ كَأَنَّ جَنَاحَ طَيْرٍ أَبْيَضَ قَدْ مُسِحَ عَلَى فُؤَادِي، فَذَهَبَ كُلُّ رُعْبٍ وَكُلُّ فَزَعٍ وَوَجَعٍ كُنْتُ أَجِدُ، ثُمَّ الْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِشَرْبَةٍ بَيْضَاءَ ظَنَنْتُهَا لَبَنًا، وَكُنْتُ عَطْشَى، فَتَنَاوَلْتُهَا فَشَرِبْتُهَا، فَأَضَاءَ مِنِّي نُورٌ عَالٍ، ثُمَّ رَأَيْتُ نِسْوَةً كَالنَّخْلِ الطِّوَالِ، كَأَنَّهُنَّ مِنْ بَنَاتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يُحْدِقْنَ بِي، فَبَيْنَا أَنَا أَعْجَبُ وَأَقُولُ: وَا غَوْثَاهْ، مِنْ أَيْنَ عَلِمْنَ بِي ؟ وَاشْتَدَّ بِيَ الْأَمْرُ، وَأَنَا أَسْمَعُ الْوَجْبَةَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ أَعْظَمَ وَأَهْوَلَ، وَإِذَا أَنَا بِدِيبَاجٍ أَبْيَضَ قَدْ مُدَّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَإِذَا قَائِلٌ يَقُولُ: خُذُوهُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ. قَالَتْ: رَأَيْتُ رِجَالًا قَدْ وَقَفُوا فِي الْهَوَاءِ، بِأَيْدِيهِمْ أَبَارِيقُ فِضَّةٍ، وَأَنَا يَرْشَحُ مِنِّي عَرَقٌ كَالْجُمَانِ، أَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ الْأَذْفَرِ، وَأَنَا أَقُولُ: يَا لَيْتَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ قَدْ دَخَلَ عَلَيَّ، وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَنِّي نَاءٍ.
قَالَتْ: وَرَأَيْتُ قِطْعَةً مِنَ الطَّيْرِ قَدْ أَقْبَلَتْ مِنْ حَيْثُ لَا أَشْعُرُ حَتَّى غَطَّتْ حُجْرَتِي، مَنَاقِيرُهَا مِنَ الزُّمُرُّدِ، وَأَجْنِحَتُهَا مِنَ الْيَوَاقِيتِ، فَكَشَفَ اللَّهُ لِي عَنْ بِصَرِي، فَأَبْصَرْتُ مِنْ سَاعَتِي مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَرَأَيْتُ ثَلَاثَةَ أَعْلَامٍ مَضْرُوبَاتٍ ; عَلَمٌ بِالْمَشْرِقِ، وَعَلَمٌ بِالْمَغْرِبِ، وَعَلَمٌ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَأَخَذَنِي الْمَخَاضُ، وَاشْتَدَّ بِيَ الطَّلْقُ جِدًّا، فَكُنْتُ كَأَنِّي مُسْتَنِدَةٌ إِلَى أَرْكَانِ النِّسَاءِ، وَكَثُرْنَ عَلَيَّ حَتَّى كَأَنَّ الْأَيْدِيَ مَعِي فِي الْبَيْتِ، وَأَنَا لَا أَرَى شَيْئًا، فَوَلَدْتُ مُحَمَّدًا، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ بَطْنِي دُرْتُ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَنَا بِهِ سَاجِدٌ وَقَدْ رَفَعَ أُصْبُعَيْهِ كَالْمُتَضَرِّعِ الْمُبْتَهِلِ، ثُمَّ رَأَيْتُ سَحَابَةً بَيْضَاءَ قَدْ أَقْبَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ تَنْزِلُ حَتَّى غَشِيَتْهُ، فَغُيِّبَ عَنْ عَيْنِي، فَسَمِعْتُ مُنَادِيًا يُنَادِي ; يَقُولُ: طُوفُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرْقَ الْأَرْضِ وَغَرْبَهَا، وَأَدْخِلُوهُ الْبِحَارَ كُلَّهَا ; لِيَعْرِفُوهُ بِاسْمِهِ وَنَعْتِهِ وَصُورَتِهِ، وَيَعْلَمُوا أَنَّهُ سُمِّيَ الْمَاحِي ; لَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنَ الشِّرْكِ إِلَّا مُحِيَ بِهِ فِي زَمَنِهِ. قَالَتْ: ثُمَّ تَجَلَّتْ عَنْهُ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ، فَإِذَا أَنَا بِهِ مُدْرَجًا فِي ثَوْبِ صُوفٍ أَبْيَضَ، أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَتَحْتَهُ حَرِيرَةٌ خَضْرَاءُ، وَقَدْ قَبَضَ مُحَمَّدٌ ثَلَاثَةَ مَفَاتِيحَ مِنَ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ الْأَبْيَضِ، وَإِذَا قَائِلٌ يَقُولُ: قَبَضَ مُحَمَّدٌ عَلَى مَفَاتِيحِ النَّصْرِ، وَمَفَاتِيحِ الرِّيحِ، وَمَفَاتِيحِ النُّبُوَّةِ هَكَذَا أَوْرَدَهُ وَسَكْتَ
عَلَيْهِ، وَهُوَ غَرِيبٌ
جِدًّا.
وَقَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ بْنِ
يَحْيَى بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عُمَرَ الْأَنْصَارِيُّ الصَّرْصَرِيُّ، الْمَادِحُ،
الْمَاهِرُ، الْحَافِظُ لِلْأَحَادِيثِ وَاللُّغَةِ، ذُو الْمَحَبَّةِ
الصَّادِقَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلِذَلِكَ
يُشَبَّهُ فِي عَصْرِهِ بِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي
دِيوَانِهِ الْمَكْتُوبِ عَنْهُ فِي مَدِيحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ، بَصِيرَ الْبَصِيرَةِ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَغْدَادَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ،
قَتَلَهُ التَّتَارُ فِي كَائِنَةِ بَغْدَادَ، كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي
مَوْضِعِهِ، فِي كِتَابِنَا هَذَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ
الثِّقَةُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. قَالَ فِي قَصِيدَتِهِ مِنْ حَرْفِ الْحَاءِ
الْمُهْمَلَةِ مِنْ دِيوَانِهِ:
مُحَمَّدٌ الْمَبْعُوثُ لِلنَّاسِ رَحْمَةً يُشَيِّدُ مَا أَوْهَى الضَّلَالُ
وَيُصْلِحُ لَئِنْ سَبَّحَتْ صُمُّ الْجِبَالِ مُجِيبَةً
لِدَاوُدَ أَوْ لَانَ الْحَدِيدُ الْمُصَفَّحُ فَإِنَّ الصُّخُورَ الصُّمَّ
لَانَتْ بِكَفِّهِ
وَإِنَّ الْحَصَا فِي كَفِّهِ لَيُسَبِّحُ وَإِنْ كَانَ مُوسَى أَنَبَعَ الْمَاءَ
بِالْعَصَا
فَمِنْ كَفِّهِ قَدْ أَصْبَحَ الْمَاءُ يَطْفَحُ وَإِنْ كَانَتِ الرِّيحُ
الرَّخَاءُ مُطِيعَةً
سُلَيْمَانَ لَا تَأْلُو تَرُوحُ وَتَسْرَحُ فَإِنَّ الصَّبَا كَانَتْ لِنَصْرِ
نَبِيِّنَا
وَرُعْبٌ عَلَى شَهْرٍ بِهِ الْخَصْمُ يَكْلَحُ
وَإِنْ أُوتِيَ الْمُلْكَ
الْعَظِيمَ وَسُخِّرَتْ
لَهُ الْجِنُّ تَسْعَى فِي رِضَاهُ وَتَكْدَحُ فَإِنَّ مَفَاتِيحَ الْكُنُوزِ
بِأَسْرِهَا
أَتَتْهُ فَرَدَّ الزَّاهِدُ الْمُتَرَجِّحُ وَإِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ أُعْطِيَ
خُلَّةً
وَمُوسَى بِتَكْلِيمٍ عَلَى الطُّورِ يُمْنَحُ فَهَذَا حَبِيبٌ بَلْ خَلِيلٌ
مُكَلَّمٌ
وَخُصِّصَ بِالرُّؤْيَا وَبِالْحَقِّ أَشْرَحُ وَخُصِّصَ بِالْحَوْضِ الْعَظِيمِ
وَبِاللِّوَا
وَيَشْفَعُ لِلْعَاصِينَ وَالنَّارُ تَلْفَحُ وَبِالْمَقْعَدِ الْأَعْلَى
الْمُقَرَّبِ نَالَهُ
عَطَاءٌ لِعَيْنَيْهِ أَقَرُّ وَأَفْرَحُ وَبِالرُّتْبَةِ الْعُلْيَا الْوَسِيلَةُ
دُونَهَا
مَرَاتِبُ أَرْبَابِ الْمَوَاهِبِ تَلْمَحُ وَلَهْوَ إِلَى الْجَنَّاتِ أَوَّلُ
دَاخِلٍ
لَهُ بَابُهَا قَبْلَ الْخَلَائِقِ يُفْتَحُ
وَهَذَا آخِرُ مَا يَسَّرَ اللَّهُ جَمْعَهُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبَاتِ
الَّتِي وَقَعَتْ إِلَى زَمَانِنَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ،
وَاللَّهُ الْهَادِي، وَإِذَا فَرَغْنَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، مِنْ إِيرَادِ
الْحَادِثَاتِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى زَمَانِنَا،
نُتْبِعُ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ الْوَاقِعَةِ فِي آخِرِ
الزَّمَانِ، ثُمَّ نَسُوقُ بَعْدَ ذَلِكَ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ، ثُمَّ نَذْكُرُ
الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ، ثُمَّ مَا يَقَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَهْوَالِ
وَمَا فِيهِ مِنَ الْعَظَمَةِ، وَنَذْكُرُ الْحَوْضَ وَالْمِيزَانَ وَالصِّرَاطَ،
ثُمَّ نَذْكُرُ صِفَةَ النَّارِ، ثُمَّ صِفَةَ الْجَنَّةِ.
بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كِتَابُ تَارِيخِ الْإِسْلَامِ الْأَوَّلِ مِنَ الْحَوَادِثِ الْوَاقِعَةِ فِي
الزَّمَانِ، وَوَفَيَاتِ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ
سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ
تَقَدَّمَ مَا كَانَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا مِنْ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَذَلِكَ الثَّانِي
عَشَرَ مِنْهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ بِمَا
فِيهِ كِفَايَةٌ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
خِلَافَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَا كَانَ فِي
أَيَّامِهِ مِنَ الْحَوَادِثِ وَالْأُمُورِ.
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَذَلِكَ ضُحًى، فَاشْتَغَلَ النَّاسُ بِأَمْرِ
بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، ثُمَّ فِي
الْمَسْجِدِ الْبَيْعَةُ الْعَامَّةُ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ
وَصَبِيحَةَ الثُّلَاثَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِطُولِهِ، ثُمَّ أَخَذُوا فِي
غَسْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْفِينِهِ،
وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا، بَقِيَّةَ
يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ، وَدَفَنُوهُ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ
ذَلِكَ مُبَرْهَنًا فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ،
حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ فِي
السَّقِيفَةِ وَكَانَ الْغَدُ، جَلَسَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَامَ
عُمَرُ فَتَكَلَّمَ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ
بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ قُلْتُ لَكُمْ
بِالْأَمْسِ مَقَالَةً مَا كَانَتْ مِمَّا وَجَدْتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا
كَانَتْ عَهْدًا عَهِدَهُ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَلَكِنِّي قَدْ كُنْتُ أَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيُدَبِّرُ أَمْرَنَا - يَقُولُ: يَكُونُ آخِرَنَا - وَإِنَّ
اللَّهَ قَدْ أَبْقَى فِيكُمْ كِتَابَهُ الَّذِي بِهِ
هَدَى رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ هَدَاكُمُ اللَّهُ
لِمَا كَانَ هَدَاهُ لَهُ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَمَعَ أَمْرَكُمْ عَلَى
خَيْرِكُمْ ; صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ، فَقُومُوا فَبَايِعُوهُ. فَبَايَعَ
النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ بَيْعَةَ الْعَامَّةِ بَعْدَ بَيْعَةِ السَّقِيفَةِ، ثُمَّ
تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ
أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنِّي قَدْ وُلِّيتُ
عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ
أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي، الصِّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ،
وَالضَّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيٌّ عِنْدِي حَتَّى أُرِيحَ عَلَيْهِ حَقَّهُ، إِنْ
شَاءَ اللَّهُ، وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ، إِنْ
شَاءَ اللَّهُ، لَا يَدْعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا ضَرَبَهُمُ
اللَّهُ بِالذُّلِّ، وَلَا تَشِيعُ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ إِلَّا عَمَّهُمُ
اللَّهُ بِالْبَلَاءِ، أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِذَا
عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ، قُومُوا إِلَى
صَلَاتِكُمْ يَرْحَمْكُمُ اللَّهُ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، عَلَى بَيْعَةِ
الصِّدِّيقِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، حَتَّى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَرْضَاهُمَا،
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ حَيْثُ قَالَ: أَنْبَأَنَا
أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَافِظُ
الْإِسْفَرَايِينِيُّ، ثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ،
ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَا:
ثَنَا بُنْدَارُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا أَبُو هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، ثَنَا
وُهَيْبٌ، ثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدَ، ثَنَا أَبُو نَضْرَةَ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ فِي دَارِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَفِيهِمْ
أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.
قَالَ: فَقَامَ خَطِيبُ
الْأَنْصَارِ فَقَالَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَخَلِيفَتَهُ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ، وَنَحْنُ كُنَّا أَنْصَارَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَحْنُ أَنْصَارُ خَلِيفَتِهِ، كَمَا كُنَّا أَنْصَارَهُ.
قَالَ: فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: صَدَقَ قَائِلُكُمْ، وَلَوْ
قُلْتُمْ غَيْرَ هَذَا لَمْ نُتَابِعْكُمْ. فَأَخَذَ بِيَدِ أَبِي بَكْرٍ،
وَقَالَ: هَذَا صَاحِبُكُمْ فَبَايِعُوهُ. فَبَايَعَهُ عُمَرُ، وَبَايَعَهُ
الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، قَالَ: فَصَعِدَ أَبُو بَكْرٍ الْمِنْبَرَ،
فَنَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ، فَلَمْ يَرَ الزُّبَيْرَ. قَالَ: فَدَعَا
بِالزُّبَيْرِ فَجَاءَ، قَالَ: قُلْتُ: ابْنُ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِوَارِيُّهُ، أَرَدْتَ أَنْ تَشُقَّ عَصَا
الْمُسْلِمِينَ ؟ ! قَالَ: لَا تَثْرِيبَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ. فَقَامَ
فَبَايَعَهُ، ثُمَّ نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَلَمْ يَرِ عَلِيًّا، فَدَعَا
بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَجَاءَ فَقَالَ: قُلْتَ: ابْنُ عَمِّ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَتَنُهُ عَلَى ابْنَتِهِ، أَرَدْتَ
أَنْ تَشُقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ ؟ ! قَالَ: لَا تَثْرِيبَ يَا خَلِيفَةَ
رَسُولِ اللَّهِ. فَبَايَعَهُ. هَذَا أَوْ مَعْنَاهُ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ: سَمِعْتُ ابْنَ خُزَيْمَةَ
يَقُولُ: جَاءَنِي مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، فَسَأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ،
فَكَتَبْتُهُ لَهُ فِي رُقْعَةٍ وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ
يُسَاوِي بَدَنَةً. فَقُلْتُ: يَسْوَى بَدَنَةً ؟ ! بَلْ هَذَا يَسْوَى بَدْرَةً.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ الثِّقَةِ، عَنْ وُهَيْبٍ مُخْتَصَرًا.
وَأَخْرَجَهُ
الْحَاكِمُ فِي "
مُسْتَدْرَكِهِ " مِنْ طَرِيقِ عَفَّانَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ وُهَيْبٍ
مُطَوَّلًا كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْمَحَامِلِيِّ،
عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ، عَنِ
الْحَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ فِي
مُبَايَعَةِ عَلَيٍّ وَالزُّبَيْرِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَوْمَئِذٍ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي " مَغَازِيهِ " عَنْ سَعْدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي أَبِي، أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ
كَانَ مَعَ عُمَرَ، وَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ كَسَرَ سَيْفَ الزُّبَيْرِ،
ثُمَّ خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ، وَاعْتَذَرَ إِلَى النَّاسِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا
كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى الْإِمَارَةِ يَوْمًا وَلَا لَيْلَةً، وَلَا سَأَلْتُهَا
اللَّهَ فِي سِرٍّ وَلَا عَلَانِيَةٍ. فَقَبِلَ الْمُهَاجِرُونَ مَقَالَتَهُ،
وَقَالَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ: مَا غَضِبْنَا إِلَّا لِأَنَّنَا أُخِّرْنَا عَنِ
الْمَشُورَةِ، وَإِنَّا نَرَى أَبَا بَكْرٍ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا بَعْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّهُ لَصَاحِبُ الْغَارِ، وَإِنَّا
لَنَعَرِفُ شَرَفَهُ وَخَيْرَهُ، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ بِالنَّاسِ وَهُوَ حَيٌّ، وَهَذَا
اللَّائِقُ بَعَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآثَارُ
; مِنْ شُهُودِهِ مَعَهُ الصَّلَوَاتِ، وَخُرُوجِهِ مَعَهُ إِلَى ذِي الْقَصَّةِ
بَعْدَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا
سَنُورِدُهُ، وَبَذْلِهِ لَهُ النَّصِيحَةَ وَالْمَشُورَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَأَمَّا مَا يَأْتِي مِنْ مُبَايَعَتِهِ إِيَّاهُ بَعْدَ مَوْتِ فَاطِمَةَ -
وَقَدْ مَاتَتْ بَعْدَ أَبِيهَا، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بِسِتَّةِ
أَشْهُرٍ - فَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا بَيْعَةٌ ثَانِيَةٌ أَزَالَتْ مَا
كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْ
وَحْشَةٍ بِسَبَبِ الْكَلَامِ فِي الْمِيرَاثِ، وَمَنْعِهِ إِيَّاهُمْ ذَلِكَ
بِالنَّصِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ:
لَا نُورَثُ، مَا تَرَكَنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ ". كَمَا تَقَدَّمَ إِيرَادُ
أَسَانِيدِهِ وَأَلْفَاظِهِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَدْ كَتَبْنَا هَذِهِ
الطُّرُقَ مُسْتَقْصَاةً فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَفْرَدْنَاهُ فِي سِيرَةِ
الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَا أَسْنَدَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنَ
الْأَحْكَامِ مُبَوَّبَةً عَلَى أَبْوَابِ الْعِلْمِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ التَّمِيمِيُّ عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ: نَادَى مُنَادِي أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْغَدِ مِنْ
مُتَوَفَّى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِيَتِمَّ بَعْثُ
أُسَامَةَ، أَلَا لَا يَبْقَيَنَّ بِالْمَدِينَةِ أَحَدٌ مِنْ جُنْدِ أُسَامَةَ
إِلَّا خَرَجَ إِلَى عَسْكَرِهِ بِالْجُرْفِ. وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فِي النَّاسِ،
فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا
مِثْلُكُمْ، وَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلَّكُمْ سَتُكَلِّفُونَنِي مَا كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطِيقُ، إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ، وَعَصَمَهُ مِنَ الْآفَاتِ، وَإِنَّمَا
أَنَا مُتَّبِعٌ وَلَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ، فَإِنِ اسْتَقَمْتُ فَتَابِعُونِي، وَإِنْ
زِغْتُ فَقَوِّمُونِي، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قُبِضَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلِمَةٍ ;
ضَرْبَةِ سَوْطٍ فَمَا دُونَهَا، وَإِنَّ لِي شَيْطَانًا يَعْتَرِينِي، فَإِذَا
أَتَانِي فَاجْتَنِبُونِي، لَا أُؤَثِّرُ فِي أَشْعَارِكُمْ وَأَبْشَارِكُمْ،
وَإِنَّكُمْ تَغْدُونَ وَتَرُوحُونَ فِي أَجَلٍ قَدْ غُيِّبَ عَنْكُمْ عِلْمُهُ،
وَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا
يَمْضِيَ إِلَّا وَأَنْتُمْ فِي عَمَلٍ صَالِحٍ فَافْعَلُوا، وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَسَابِقُوا فِي مَهْلِ آجَالِكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُسْلِمَكُمْ آجَالُكُمْ إِلَى انْقِطَاعِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ قَوْمًا نَسُوا آجَالَهُمْ وَجَعَلُوا أَعْمَالَهُمْ لِغَيْرِهِمْ، فَإِيَّاكُمْ أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ، الْجِدَّ الْجِدَّ، النَّجَاءَ النَّجَاءَ، الْوَحَا الْوَحَا، فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ طَالِبًا حَثِيثًا، وَأَجَلًا مَرُّهُ سَرِيعٌ، احْذَرُوا الْمَوْتَ، وَاعْتَبِرُوا بِالْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْإِخْوَانِ، وَلَا تَغْبِطُوا الْأَحْيَاءَ إِلَّا بِمَا تَغْبِطُونَ بِهِ الْأَمْوَاتَ. قَالَ: وَقَامَ أَيْضًا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، لَا يَقْبَلُ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهَهُ، فَأَرِيدُوا اللَّهَ بِأَعْمَالِكُمْ، فَأَيَّمَا أَخْلَصْتُمْ لِلَّهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَطَاعَةً أَتَيْتُمُوهَا، وَحَظًّا ظَفِرْتُمْ بِهِ، وَضَرَائِبَ أَدَّيْتُمُوهَا، وَسَلَفًا قَدَّمْتُمُوهُ مِنْ أَيَّامٍ فَانِيَةٍ لِأُخْرَى بَاقِيَةٍ لِحِينِ فَقْرِكُمْ وَحَاجَتِكُمْ، اعْتَبَرُوا عِبَادَ اللَّهِ بِمَنْ مَاتَ مِنْكُمْ، وَتَفَكَّرُوا فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَيْنَ كَانُوا أَمْسِ ؟ وَأَيْنَ هُمُ الْيَوْمَ ؟ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ ؟ أَيْنَ الَّذِينَ كَانَ لَهُمْ ذِكْرُ الْقِتَالِ وَالْغَلَبَةِ فِي مَوَاطِنِ الْحُرُوبِ ؟ ! قَدْ تَضَعْضَعَ بِهِمُ الدَّهْرُ، وَصَارُوا رَمِيمًا، قَدْ تُرِكَتْ عَلَيْهِمُ الْقَالَاتُ، الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثَيْنِ، وَالْخِبِّيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ، وَأَيْنَ الْمُلُوكُ الَّذِينَ أَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا ؟ ! قَدْ بَعُدُوا وَنُسِيَ ذِكْرُهُمْ، وَصَارُوا كَلَا
شَيْءٍ إِلَّا أَنَّ
اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، قَدْ أَبْقَى عَلَيْهِمُ التَّبِعَاتِ، وَقَطَعَ عَنْهُمُ
الشَّهَوَاتِ، وَمَضَوْا وَالْأَعْمَالُ أَعْمَالُهُمْ، وَالدُّنْيَا دُنْيَا
غَيْرِهِمْ، وَبَقِينَا خَلَفًا بَعْدَهُمْ، فَإِنْ نَحْنُ اعْتَبَرْنَا بِهِمْ
نَجَوْنَا، وَإِنِ اغْتَرَرْنَا بِهِمْ كُنَّا مَثَلَهُمْ، أَيْنَ الْوِضَاءُ
الْحَسَنَةُ وُجُوهُهُمْ، الْمُعْجَبُونَ بِشَبَابِهِمْ ؟ ! صَارُوا تُرَابًا،
وَصَارَ مَا فَرَّطُوا فِيهِ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ، أَيْنَ الَّذِينَ بَنَوُا
الْمَدَائِنَ وَحَصَّنُوهَا بِالْحَوَائِطِ، وَجَعَلُوا فِيهَا الْأَعَاجِيبَ ؟ !
قَدْ تَرَكُوهَا لِمَنْ خَلْفَهُمْ، فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ خَاوِيَةً، وَهُمْ فِي
ظُلُمَاتِ الْقُبُورِ، هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ
رِكْزًا ؟ أَيْنَ مَنْ تَعْرِفُونَ مِنْ آبَائِكُمْ وَإِخْوَانِكُمْ ؟ ! قَدِ
انْتَهَتْ بِهِمْ آجَالُهُمْ، فَوَرَدُوا عَلَى مَا قَدَّمُوا فَحَلُّوا عَلَيْهِ،
وَأَقَامُوا لِلشِّقْوَةِ أَوِ السَّعَادَةِ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، أَلَا إِنَّ
اللَّهَ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ سَبَبٌ
يُعْطِيهِ بِهِ خَيْرًا، وَلَا يَصْرِفُ بِهِ عَنْهُ سُوءًا، إِلَّا بِطَاعَتِهِ
وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ عَبِيدٌ مَدِينُونَ، وَأَنَّ مَا
عِنْدَهُ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، أَمَا إِنَّهُ لَا خَيْرَ بِخَيْرٍ
بَعْدَهُ النَّارُ، وَلَا شَرَّ بَشَرٍ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ.
فَصْلٌ فِي تَنْفِيذِهِ جَيْشَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ
الَّذِينَ كَانُوا قَدْ أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْمَسِيرِ إِلَى تُخُومِ الْبَلْقَاءِ مِنَ الشَّامِ،
حَيْثُ قُتِلَ زَيْدُ
بْنُ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٌ وَابْنُ رَوَاحَةَ فَيُغِيرُوا عَلَى تِلْكَ
الْأَرَاضِي، فَخَرَجُوا إِلَى الْجُرْفِ فَخَيَّمُوا بِهِ، وَكَانَ فِيهِمْ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - وَيُقَالُ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. فَاسْتَثْنَاهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ ; لِلصَّلَاةِ -
فَلَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامُوا
هُنَالِكَ، فَلَمَّا مَاتَ عَظُمَ الْخُطَبُ وَاشْتَدَّ الْحَالُ وَنَجَمَ
النِّفَاقُ بِالْمَدِينَةِ، وَارْتَدَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ
حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَامْتَنَعَ آخَرُونَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ إِلَى
الصِّدِّيقِ، وَلَمْ تَبْقَ الْجُمُعَةُ تُقَامُ فِي بَلَدٍ سِوَى مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ جُوَاثَا مِنَ الْبَحْرَيْنِ أَوَّلَ قَرْيَةٍ
أَقَامَتِ الْجُمُعَةَ بَعْدَ رُجُوعِ النَّاسِ إِلَى الْحَقِّ، كَمَا فِي "
صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ
كَانَتْ ثَقِيفٌ بِالطَّائِفِ ثَبَتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، لَمْ يَفِرُّوا وَلَا
ارْتَدُّوا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ أَشَارَ كَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ عَلَى الصِّدِّيقِ أَنْ لَا يُنْفِذَ جَيْشَ أُسَامَةَ لِاحْتِيَاجِهِ
إِلَيْهِ فِيمَا هُوَ أَهَمُّ الْآنَ مِمَّا جُهِّزَ بِسَبَبِهِ فِي حَالِ
السَّلَامَةِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَشَارَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ،
فَامْتَنَعَ الصِّدِّيقُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَبَى أَشَدَّ الْإِبَاءِ إِلَّا أَنْ
يُنْفِذَ جَيْشَ أُسَامَةَ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَحُلُّ عُقْدَةً عَقَدَهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ أَنَّ الطَّيْرَ
تَخَطَفُنَا، وَالسِّبَاعَ مِنْ حَوْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَوْ أَنَّ الْكِلَابَ
جَرَّتْ بِأَرْجُلِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، لَأُجَهِّزَنَّ جَيْشَ أُسَامَةَ.
فَجَهَّزَهُ وَأَمَرَ الْحَرَسَ يَكُونُونَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ
خُرُوجُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ أَكْبَرِ الْمَصَالِحِ،
وَالْحَالَةُ تِلْكَ،
فَسَارُوا لَا يَمُرُّونَ بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ إِلَّا أُرْعِبُوا
مِنْهُمْ، وَقَالُوا: مَا خَرَجَ هَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمٍ إِلَّا وَبِهِمْ مَنَعَةٌ
شَدِيدَةٌ. فَغَابُوا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَيُقَالُ: سَبْعِينَ يَوْمًا. ثُمَّ
آبُوا سَالِمِينَ غَانِمِينَ، ثُمَّ رَجَعُوا فَجَهَّزَهُمْ حِينَئِذٍ مَعَ
الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ أَخْرَجَهُمْ لِقِتَالِ الْمُرْتَدَّةِ، وَمَانِعِي
الزَّكَاةِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
قَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا
بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ، وَجَمَعَ الْأَنْصَارَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي افْتَرَقُوا
فِيهِ قَالَ: لِيَتِمَّ بَعْثُ أُسَامَةَ. وَقَدِ ارْتَدَتِ الْعَرَبُ إِمَّا
عَامَّةً وَإِمَّا خَاصَّةً فِي كُلِّ قَبِيلَةٍ، وَنَجَمَ النِّفَاقُ
وَاشْرَأَبَّتِ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَالْمُسْلِمُونَ
كَالْغَنَمِ الْمَطِيرَةِ فِي اللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ ; لِفَقْدِ نَبِيِّهِمْ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِلَّتِهِمْ، وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ،
فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ جُلُّ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعَرَبُ عَلَى
مَا تَرَى قَدِ انْتَقَضَتْ بِكَ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تُفَرِّقَ عَنْكَ
جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي بَكْرٍ بِيَدِهِ، لَوْ
ظَنَنْتُ أَنَّ السِّبَاعَ تَخْطَفُنِي لَأَنْفَذْتُ بَعْثَ أُسَامَةَ كَمَا
أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ لَمْ
يَبْقَ فِي الْقُرَى غَيْرِي لَأَنْفَذْتُهُ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ هِشَامِ
بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ
وَعَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَتِ الْعَرَبُ قَاطِبَةً
وَاشْرَأَبَّ النِّفَاقُ،
وَاللَّهِ لَقَدْ نَزَلَ بِأَبِي مَا لَوْ نَزَلَ بِالْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ
لَهَاضَهَا، وَصَارَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَأَنَّهُمْ مِعْزًى مَطِيرَةٌ فِي حِفْشٍ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ بِأَرْضٍ
مُسْبِعَةٍ، فَوَاللَّهِ مَا اخْتَلَفُوا فِي نُقْطَةٍ إِلَّا طَارَ أَبِي
بِحَظِّهَا وَعَنَائِهَا وَفَضْلِهَا. ثُمَّ ذَكَرَتْ عُمَرَ فَقَالَتْ: مَنْ
رَأَى عُمَرَ عَلِمَ أَنَّهُ خُلِقَ غِنًى لِلْإِسْلَامِ، كَانَ وَاللَّهِ
أَحْوَزِيًّا نَسِيجَ وَحْدِهِ، قَدْ أَعَدَّ لِلْأُمُورِ أَقْرَانَهَا.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْحَافِظُ، أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبِ، ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ عَلِيٍّ الْمَيْمُونِيُّ، ثَنَا الْفِرْيَابِيُّ، ثَنَا عَبَّادُ بْنُ
كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَوْلَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتُخْلِفَ
مَا عُبِدَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ، فَقِيلَ
لَهُ: مَهْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَّهَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فِي سَبْعِمِائَةٍ إِلَى
الشَّامِ، فَلَمَّا نَزَلَ بِذِي خَشَبٍ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ،
فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ
أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالُوا: يَا أَبَا بَكْرٍ، رُدَّ هَؤُلَاءِ،
تُوَجِّهُ هَؤُلَاءِ إِلَى الرُّومِ وَقَدِ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ حَوْلَ
الْمَدِينَةِ ؟ ! فَقَالَ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَوْ جَرَّتِ الْكِلَابُ
بِأَرْجُلِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا
رَدَدْتُ جَيْشًا وَجَّهَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا
حَلَلْتُ لِوَاءً عَقَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَوَجَّهَ أُسَامَةَ فَجَعَلَ لَا يَمُرُّ بِقَبِيلٍ يُرِيدُونَ الِارْتِدَادَ
إِلَّا قَالُوا: لَوْلَا أَنَّ لِهَؤُلَاءِ قُوَّةً مَا خَرَجَ مِثْلُ هَؤُلَاءِ
مِنْ عِنْدِهِمْ، وَلَكِنْ نَدَعُهُمْ حَتَّى يَلْقَوُا الرُّومَ. فَلَقُوا
الرُّومَ فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ، وَرَجَعُوا سَالِمِينَ، فَثَبَتُوا عَلَى
الْإِسْلَامِ. عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ هَذَا أَظُنُّهُ الرَّمْلِيَّ ; لِرِوَايَةِ
الْفِرْيَابِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ مُتَقَارِبُ الْحَدِيثِ، فَأَمَّا الْبَصْرِيُّ
الثَّقَفِيُّ فَمَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ وَأَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِهِمَا،
عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا صَمَّمَ عَلَى تَجْهِيزِ
جَيْشِ أُسَامَةَ قَالَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ لِعُمَرَ: قُلْ لَهُ فَلْيُؤَمِّرْ
عَلَيْنَا غَيْرَ أُسَامَةَ. فَذَكَرَ لَهُ عُمَرُ ذَلِكَ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ
أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ،
أَأُؤَمِّرُ غَيْرَ أَمِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟
! ثُمَّ نَهَضَ بِنَفْسِهِ إِلَى الْجُرْفِ فَاسْتَعْرَضَ جَيْشَ أُسَامَةَ
وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ، وَسَارَ مَعَهُمْ مَاشِيًا، وَأُسَامَةُ رَاكِبًا،
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَقُودُ بِرَاحِلَةِ الصِّدِّيقِ، فَقَالَ
أُسَامَةُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ
أَنْزِلَ. فَقَالَ: وَاللَّهَ لَسْتَ بِنَازِلٍ وَلَسْتُ بِرَاكِبٍ. ثُمَّ
اسْتَطْلَقَ الصِّدِّيقُ مِنْ أُسَامَةَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - وَكَانَ
مُكْتَتَبًا فِي جَيْشِهِ - فَأَطْلَقَهُ لَهُ، فَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ لَا
يَلْقَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ.
مَقْتَلُ الْأَسْوَدِ
الْعَنْسِيِّ الْمُتَنَبِّئِ الْكَذَّابِ لَعَنَهُ اللَّهُ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شَيْبَةَ
النُّمَيْرِيُّ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ - يَعْنِي الْمَدَائِنِيَّ - عَنْ
أَبِي مَعْشَرٍ وَيَزِيدَ بْنِ عِيَاضِ بْنِ جُعْدُبَةَ وَغَسَّانَ بْنِ عَبْدِ
الْحَمِيدِ وَجُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ، عَنْ مَشْيَخَتِهِمْ، قَالُوا: أَمْضَى
أَبُو بَكْرٍ جَيْشَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي آخِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَأَتَى
مَقْتَلُ الْأَسْوَدِ فِي آخِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَعْدَ مَخْرِجِ أُسَامَةَ،
فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ فَتْحٍ أَتَى أَبَا بَكْرٍ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ.
صِفَةُ خُرُوجِهِ وَتَمْلِيكِهِ وَمَقْتَلِهِ.
قَدْ أَسْلَفْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَمَنَ كَانَتْ قَدِيمًا لِحِمْيَرَ،
وَكَانَتْ مُلُوكُهُمْ يُسَمَّوْنَ التَّبَابِعَةَ، وَتَكَلَّمْنَا فِي أَيَّامِ
الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى طَرَفٍ صَالِحٍ مِنْ هَذَا، ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ الْحَبَشَةِ
بَعَثَ أَمِيرَيْنِ مِنْ قُوَّادِهِ، وَهُمَا أَبَرْهَةُ الْأَشْرَمُ وَأَرْيَاطُ،
فَتَمَلَّكَا لَهُ الْيَمَنَ مِنْ حِمْيَرَ، وَصَارَ مُلْكُهَا لِلْحَبَشَةِ،
ثُمَّ اخْتَلَفَ هَذَانَ الْأَمِيرَانِ، فَقُتِلَ أَرْيَاطُ وَاسْتَقَلَّ
أَبَرْهَةُ بِالنِّيَابَةِ، وَبَنَى كَنِيسَةً سَمَّاهَا الْقُلَّيْسَ ; لِارْتِفَاعِهَا، وَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ حَجَّ الْعَرَبِ إِلَيْهَا دُونَ الْكَعْبَةِ، فَجَاءَ بَعْضُ قُرَيْشٍ فَأَحْدَثَ فِي هَذِهِ الْكَنِيسَةِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ حَلَفَ لَيُخَرِّبَنَّ بَيْتَ مَكَّةَ، فَسَارَ إِلَيْهِ وَمَعَهُ الْجُنُودُ وَالْفِيلُ مَحْمُودٌ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، فَرَجَعَ أَبَرْهَةُ بِبَعْضِ مَنْ بَقِيَ مِنْ جَيْشِهِ فِي أَسْوَأِ حَالٍ وَشَرِّ خَيْبَةٍ، وَمَا زَالَ تَسْقُطُ أَعْضَاؤُهُ أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى صَنْعَاءَ انْصَدَعَ صَدْرُهُ فَمَاتَ، فَقَامَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ يَكْسُومُ بْنُ أَبْرَهَةَ ثُمَّ أَخُوهُ مَسْرُوقُ بْنُ أَبَرْهَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ اسْتَمَرَّ مُلْكُ الْيَمَنِ بِأَيْدِي الْحَبَشَةِ سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ ثَارَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ الْحِمْيَرِيُّ، فَذَهَبَ إِلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ يَسْتَنْصِرُهُ عَلَيْهِمْ، فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ ; لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الِاجْتِمَاعِ فِي دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَسَارَ إِلَى كِسْرَى مَلِكِ الْفُرْسِ، فَاسْتَغَاثَ بِهِ، وَلَهُ مَعَهُ مَوَاقِفُ وَمَقَامَاتٌ فِي الْكَلَامِ تَقَدَّمَ بَسْطُ بَعْضِهَا، ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى أَنْ بَعَثَ مَعَهُ مِمَّنْ بِالسُّجُونِ طَائِفَةً تَقَدَّمَهُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: وَهْرِزُ، فَاسْتَنْقَذَ مُلْكَ الْيَمَنِ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَكَسَرَ مَسْرُوقَ بْنَ أَبَرْهَةَ وَقَتَلَهُ، وَدَخَلُوا إِلَى صَنْعَاءَ وَقَرَّرُوا سَيْفَ بْنَ ذِي يَزَنَ فِي الْمُلْكِ عَلَى عَادَةِ آبَائِهِ، وَجَاءَتِ الْعَرَبُ تُهَنِّئُهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، غَيْرَ أَنَّ لِكِسْرَى نُوَّابًا عَلَى الْبِلَادِ، فَاسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا أَقَامَ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كَتَبَ كُتُبَهُ إِلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَكَتَبَ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ
إِلَى كِسْرَى مَلِكِ الْفُرْسِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ الْفُرْسِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ. إِلَى آخِرِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ الْكِتَابُ قَالَ: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: هَذَا كِتَابٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ. فَلَمَّا فَتَحَ الْكِتَابَ فَوَجَدَهُ قَدْ بَدَأَ بِاسْمِهِ قَبْلَ اسْمِ كِسْرَى غَضِبَ كِسْرَى عِنْدَ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَأَخَذَ الْكِتَابَ فَمَزَّقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَهُ، وَكَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ عَلَى الْيَمَنِ، وَكَانَ اسْمُهُ بَاذَامَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا فَابْعَثْ مِنْ قِبَلِكَ أَمِيرَيْنِ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَابْعَثْهُ إِلَيَّ فِي جَامِعَةٍ. فَلَمَّا جَاءَ الْكِتَابُ إِلَى بَاذَامَ، بَعَثَ مِنْ عِنْدِهِ أَمِيرَيْنِ عَاقِلَيْنِ، وَقَالَ: اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَانْظُرَا مَا هُوَ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَخُذَاهُ فِي جَامِعَةٍ حَتَّى تَذْهَبَا بِهِ إِلَى كِسْرَى، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَارْجِعَا إِلَيَّ فَأَخْبِرَانِي مَا هُوَ، حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ. فَقَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَجَدَاهُ عَلَى أَسَدِّ الْأَحْوَالِ وَأَرْشَدِهَا، وَرَأَيَا مِنْهُ أُمُورًا عَجِيبَةً يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَمَكَثَا عِنْدَهُ شَهْرًا بَعْدَمَا أَبْلَغَاهُ مَا جَاءَا لَهُ، ثُمَّ تَقَاضَاهُ الْجَوَابَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمَا: " ارْجِعَا إِلَى صَاحِبِكُمَا فَأَخْبِرَاهُ أَنَّ رَبِّي قَدْ قَتَلَ اللَّيْلَةَ رَبَّهُ ". فَأَرَّخَا ذَلِكَ عِنْدَهُمَا، ثُمَّ رَجَعَا سَرِيعًا إِلَى الْيَمَنِ، فَأَخْبَرَا بَاذَامَ بِمَا قَالَ لَهُمَا، فَقَالَ: أَحْصُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَإِنْ ظَهَرَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ فَهُوَ نَبِيٌّ. فَجَاءَتِ الْكُتُبُ مِنْ عِنْدِ مَلِكِهِمْ أَنَّهُ قَدْ قُتِلَ كِسْرَى فِي لَيْلَةِ كَذَا وَكَذَا، لِتِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَهُ بَنُوهُ، وَلِهَذَا قَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَكِسْرَى إِذْ تَقَاسَمَهُ بَنُوهُ بِأَسْيَافٍ كَمَا اقْتَسَمَ اللِّحَامُ
تَمَخَّضَتِ الْمَنُونُ لَهُ بِيَوْمٍ
أَنَى وَلِكُلِّ حَامِلَةٍ تَمَامُ
وَقَامَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ يَزْدَجِرْدُ، وَكَتَبَ إِلَى بَاذَامَ
أَنْ خُذْ لِيَ الْبَيْعَةَ مِمَّنْ قِبَلَكَ، وَاعْمِدْ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ
فَلَا تُهِجْهُ وَأَكْرِمْهُ، فَدَخَلَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِ بَاذَامَ
وَذَوِيهِ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ مِمَّنْ بِالْيَمَنِ، وَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْلَامِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِيَابَةِ الْيَمَنِ
بِكَمَالِهَا، فَلَمْ يَعْزِلْهُ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ، فَلَمَّا مَاتَ اسْتَنَابَ
ابْنَهُ شَهْرَ بْنَ بَاذَامَ عَلَى صَنْعَاءَ وَبَعْضَ الْمَخَالِيفِ، وَبَعَثَ
طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ نُوَّابًا عَلَى مَخَالِيفَ أُخَرَ، فَبَعَثَ أَوَّلًا
فِي سَنَةِ عَشْرٍ عَلِيًّا وَخَالِدًا، ثُمَّ أَرْسَلَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى
الْأَشْعَرِيَّ، وَفَرَّقَ عِمَالَةَ الْيَمَنِ بَيْنَ جَمَاعَةٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ، فَمِنْهُمْ ; شَهْرُ بْنُ بَاذَامَ، وَعَامِرُ بْنُ شَهْرٍ
الْهَمْدَانِيُّ عَلَى هَمْدَانَ، وَأَبُو مُوسَى عَلَى مَأْرِبَ، وَخَالِدُ بْنُ
سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَلَى مَا بَيْنَ نَجْرَانَ وَرِمَعٍ وَزَبِيدٍ، وَيَعْلَى
بْنُ أُمَيَّةَ عَلَى الْجَنَدِ، وَالطَّاهِرُ بْنُ أَبِي هَالَةَ عَلَى عَكٍّ
وَالْأَشْعَرِيِّينَ، وَعَمْرُو بْنُ حَزْمٍ عَلَى نَجْرَانَ، وَعَلَى بِلَادِ
حَضْرَمَوْتَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ، وَعَلَى السَّكَاسِكِ
عُكَّاشَةُ بْنُ ثَوْرِ
بْنِ أَصْغَرَ، وَعَلَى السَّكُونِ وَبَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ كِنْدَةَ، وَبَعَثَ
مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ مُعَلِّمًا لِأَهْلِ الْبَلَدَيْنِ ; الْيَمَنِ
وَحَضْرَمَوْتَ، يَتَنَقَّلُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ. ذَكَرَهُ سَيْفُ بْنُ
عُمَرَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي سَنَةِ عَشْرٍ فِي آخِرِ حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ نَجَمَ
هَذَا اللَّعِينُ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ
خُرُوجُ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ.
وَاسْمُهُ عَبْهَلَةُ بْنُ كَعْبِ بْنِ غَوْثٍ، مِنْ بَلَدٍ يُقَالُ لَهَا: كَهْفُ
خُبَّانَ. فِي سَبْعِمِائَةِ مُقَاتِلٍ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّهَا الْمَوْرُودُونَ عَلَيْنَا،
أَمْسِكُوا عَلَيْنَا مَا أَخَذْتُمْ مِنْ أَرْضِنَا، وَوَفِّرُوا مَا جَمَعْتُمْ،
فَنَحْنُ أَوْلَى بِهِ، وَأَنْتُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ رَكِبَ
فَتَوَجَّهَ إِلَى نَجْرَانَ فَأَخَذَهَا بَعْدَ عَشْرِ لَيَالٍ مِنْ مَخْرَجِهِ،
ثُمَّ قَصَدَ إِلَى صَنْعَاءَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ شَهْرُ بْنُ بَاذَامَ
فَتَقَاتَلَا، فَغَلَبَهُ الْأَسْوَدُ وَقَتَلَهُ، وَكَسَرَ جَيْشَهَ مِنَ
الْأَبْنَاءِ، وَاحْتَلَّ بَلْدَةَ صَنْعَاءَ لِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً مِنْ
مَخْرَجِهِ، فَفَرَّ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ مِنْ هُنَالِكَ، وَاجْتَازَ بِأَبِي
مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، فَذَهَبَا إِلَى حَضْرَمَوْتَ، وَانْحَازَ عُمَّالُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّاهِرِ، وَرَجَعَ
عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ
الْعَاصِ إِلَى
الْمَدِينَةِ، وَاسْتَوْثَقَتِ الْيَمَنُ بِكَمَالِهَا لِلْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ،
وَجَعَلَ أَمْرُهُ يَسْتَطِيرُ اسْتِطَارَةَ الشَّرَارَةِ، وَكَانَ جَيْشُهُ
يَوْمَ لَقِيَ شَهْرًا سَبْعَمِائَةِ فَارِسٍ، وَأُمَرَاؤُهُ قَيْسُ بْنُ عَبْدِ
يَغُوثَ الْمُرَادِيُّ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَيَزِيدُ بْنُ مُخَزَّمٍ،
وَيَزِيدُ بْنُ حُصَيْنٍ الْحَارِثِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ الْأَفْكَلِ الْأَزْدِيُّ،
وَاشْتَدَّ مُلْكُهُ، وَاسْتَغْلَظَ أَمْرُهُ، وَارْتَدَّ خَلْقٌ مِنْ أَهْلِ
الْيَمَنِ، وَعَامَلَهُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ هُنَاكَ بِالتَّقِيَّةِ، وَكَانَ
خَلِيفَتُهُ عَلَى مَذْحِجٍ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يكَرِبَ، وَأَسْنَدَ أَمْرَ
الْجُنْدِ إِلَى قَيْسِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، وَأَسْنَدَ أَمْرَ الْأَبْنَاءِ
إِلَى فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ وَدَاذَوَيْهِ، وَتَزَوَّجَ امْرَأَةَ شَهْرِ بْنِ
بَاذَامَ، وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ، وَاسْمُهَا آزَاذُ،
وَكَانَتِ امْرَأَةً حَسْنَاءَ جَمِيلَةً، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُؤْمِنَةٌ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنَ
الصَّالِحَاتِ.
قَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ التَّمِيمِيُّ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابَهُ حِينَ بَلَغَهُ خَبَرُ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ
مَعَ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: وَبَرُ بْنُ يُحَنِّسَ الدَّيْلَمِيُّ. يَأْمُرُ
الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُنَاكَ بِمُقَاتَلَةِ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ
وَمُصَاوَلَتِهِ، وَقَامَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِهَذَا الْكِتَابِ أَتَمَّ
الْقِيَامِ، وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ السَّكُونِ يُقَالُ لَهَا: رَمْلَةُ. فَحَدِبَتْ عَلَيْهِ السَّكُونُ ; لِصِهْرِهِ فِيهِمْ، وَقَامُوا مَعَهُ فِي ذَلِكَ، وَبَلَّغُوا هَذَا الْكِتَابَ إِلَى عُمَّالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنَ النَّاسِ، وَاتَّفَقَ اجْتِمَاعُهُمْ بِقَيْسِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ أَمِيرِ الْجُنْدِ، وَكَانَ قَدْ تَغْضَّبَ عَلَيْهِ الْأَسْوَدُ وَاسْتَخَفَّ بِهِ، وَهَمَّ بِقَتْلِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ أَمْرُ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ قَدْ ضَعُفَ عِنْدَهُ أَيْضًا، وَكَذَا دَاوَذَيْهِ، فَلَمَّا أَعْلَمْ وَبَرُ بْنُ يُحَنِّسَ وَالْمُسْلِمُونَ قَيْسَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ، وَهُوَ قَيْسُ بْنُ مَكْشُوحٍ، كَانَ كَأَنَّمَا نَزَلُوا عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى الْفَتْكِ بِالْأَسْوَدِ، وَتَوَافَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ وَتَعَاقَدُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَيْقَنَ ذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ اطَّلَعَ شَيْطَانُ الْأَسْوَدِ لِلْأَسْوَدِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَدَعَا قَيْسَ بْنَ مَشْكُوحٍ فَقَالَ لَهُ: يَا قَيْسُ، مَا يَقُولُ هَذَا ؟ قَالَ: وَمَا يَقُولُ ؟ قَالَ: يَقُولُ: عَمَدْتَ إِلَى قَيْسٍ فَأَكْرَمْتَهُ حَتَّى إِذَا دَخَلَ مِنْكَ كُلَّ مَدْخَلٍ، وَصَارَ فِي الْعِزِّ مِثْلَكَ، مَالَ مَيْلَ عَدُوِّكَ، وَحَاوَلَ مَلْكَكَ، وَأَضْمَرَ عَلَى الْغَدْرِ، إِنَّهُ يَقُولُ: يَا أَسْوَدُ يَا أَسْوَدُ، يَا سَوْآهْ يَا سَوْآهْ، قَطِّفْ قُنَّتَهُ، وَخُذْ مِنْ قَيْسٍ أَعْلَاهُ، وَإِلَّا سَلَبَكَ وَقَطَفَ قُنَّتَكَ، فَقَالَ قَيْسٌ: - وَحَلَفَ لَهُ فَكَذَبَ -: وَذِي الْخِمَارِ لَأَنْتَ أَعْظَمُ فِي نَفْسِي وَأَجَلُّ عِنْدِي مِنْ أَنْ أُحَدِّثَ بِكَ نَفْسِي. فَقَالَ لَهُ الْأَسْوَدُ: مَا إِخَالُكَ تُكَذِّبُ الْمَلَكَ، فَقَدْ صَدَقَ الْمَلَكُ وَعَرَفَ الْآنَ أَنَّكَ تَائِبٌ ; لِمَا
اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْكَ. ثُمَّ خَرَجَ قَيْسٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَجَاءَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَيْرُوزَ وَدَاوَذَيْهِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا قَالَ لَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: إِنَّا كُلُّنَا عَلَى حَذَرٍ، فَمَا الرَّأْيُ ؟ فَبَيْنَمَا هُمْ يَشْتَوِرُونَ إِذْ جَاءَهُمْ رَسُولُهُ فَأَحْضَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَلَمْ أُشَرِّفْكُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَمَاذَا يَبْلُغُنِي عَنْكُمْ ؟ فَقَالُوا: أَقِلْنَا مَرَّتَنَا هَذِهِ. فَقَالَ: لَا يَبْلُغُنِي عَنْكُمْ فَأَقْتُلَكُمْ. قَالَ: فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ نَكَدْ وَهُوَ فِي ارْتِيَابٍ مِنْ أَمْرِنَا، وَنَحْنُ عَلَى خَطَرٍ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ فِي ذَلِكَ إِذْ جَاءَتْنَا كُتُبٌ مِنْ عَامِرِ بْنِ شَهْرٍ أَمِيرِ هَمْدَانَ، وَذِي ظُلَيْمٍ، وَذِي كَلَاعٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أُمَرَاءِ الْيَمَنِ، يَبْذُلُونَ لَنَا الطَّاعَةَ وَالنَّصْرَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَسْوَدِ، وَذَلِكَ حِينَ جَاءَهُمْ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحُثُّهُمْ عَلَى مُصَاوَلَةِ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ، فَكَتَبْنَا إِلَيْهِمْ أَنْ لَا يُحْدِثُوا شَيْئًا حَتَّى نُبْرِمَ الْأَمْرَ. قَالَ قَيْسٌ: فَدَخَلْتُ عَلَى امْرَأَتِهِ آزَاذَ، فَقُلْتُ: يَا ابْنَةَ عَمِّي، قَدْ عَرَفْتِ بَلَاءَ هَذَا الرَّجُلِ عِنْدَ قَوْمِكِ، قَتَلَ زَوْجَكِ، وَطَأْطَأَ فِي قَوْمِكِ الْقَتْلَ، وَفَضَحَ النِّسَاءَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مُمَالَأَةٌ عَلَيْهِ ؟ قَالَتْ: عَلَى أَيِّ أَمْرِهِ ؟ قُلْتُ: إِخْرَاجِهِ. قَالَتْ: أَوْ قَتْلِهِ ؟ قُلْتُ: أَوْ قَتْلِهِ. قَالَتْ: نَعَمْ، وَاللَّهِ مَا خَلْقَ اللَّهُ شَخْصًا هُوَ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْهُ، فَمَا يَقُومُ لِلَّهِ عَلَى حَقٍّ، وَلَا يَنْتَهِي لَهُ عَنْ حُرْمَةٍ، فَإِذَا عَزَمْتُمْ فَأَعْلِمُونِي أُخْبِرْكُمْ بِمَا فِي هَذَا الْأَمْرِ. قَالَ: فَأَخْرُجُ فَإِذَا فَيْرُوزُ وَدَاوَذَيْهِ يَنْتَظِرَانِي يُرِيدُونَ أَنْ يُنَاهِضُوهُ. فَمَا اسْتَقَرَّ اجْتِمَاعُهُ بِهِمَا حَتَّى بَعَثَ إِلَيْهِ الْأَسْوَدُ، فَدَخَلَ فِي عَشَرَةٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ أُخْبِرْكَ بِالْحَقِّ وَتُخْبِرْنِي بِالْكِذَابَةِ ؟ إِنَّهُ
يَقُولُ: يَا سَوْآهْ يَا سَوْآهْ، إِنْ لَمْ تَقْطَعْ مِنْ قَيْسٍ يَدَهُ يَقْطَعْ رَقَبَتَكَ الْعُلْيَا. حَتَّى ظَنَّ قَيْسٌ أَنَّهُ قَاتِلُهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ أَهْلِكَ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَتْلِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَوْتَاتٍ أُمُوتُهَا كُلَّ يَوْمٍ. فَرَقَّ لَهُ وَأَمَرَهُ بِالِانْصِرَافِ، فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ: اعْمَلُوا عَمَلَكُمْ. فَبَيْنَمَا هُمْ وُقُوفٌ بِالْبَابِ يَشْتَوِرُونَ إِذْ خَرَجَ الْأَسْوَدُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ جَمَعَ لَهُ مِائَةً مَا بَيْنَ بَقَرَةٍ وَبَعِيرٍ، فَقَامَ وَخَطَّ خَطًّا وَأُقِيمَتْ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَامَ دُونَهَا، فَنَحَرَهَا غَيْرَ مُحَبَّسَةٍ وَلَا مُعَلَّقَةٍ، مَا يَقْتَحِمُ الْخَطَّ مِنْهَا شَيْءٌ، فَجَالَتْ إِلَى أَنْ زَهَقَتْ أَرْوَاحُهَا. قَالَ قَيْسٌ: فَمَا رَأَيْتُ أَمْرًا كَانَ أَفْظَعَ مِنْهُ، وَلَا يَوْمًا أَوْحَشَ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ الْأَسْوَدُ: أَحَقٌّ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ يَا فَيْرُوزُ ؟ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْحَرَكَ فَأُتْبِعَكَ هَذِهِ الْبَهِيمَةَ. وَبَوَّأَ لَهُ الْحَرْبَةَ. فَقَالَ لَهُ فَيْرُوزُ: اخْتَرْتَنَا لِصِهْرِكَ، وَفَضَّلْتَنَا عَلَى الْأَبْنَاءِ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ نَبِيًّا مَا بِعْنَا نَصِيبَنَا مِنْكَ بِشَيْءٍ، فَكَيْفَ وَقَدِ اجْتَمَعَ لَنَا بِكَ أَمْرُ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا ؟ فَلَا تَقْبَلْ عَلَيْنَا أَمْثَالَ مَا يَبْلُغُكَ، فَإِنَّا بِحَيْثُ تُحِبُّ، فَرَضِيَ عَنْهُ وَأَمَرَهُ بِقَسْمِ لُحُومِ تِلْكَ الْأَنْعَامِ، فَفَرَّقَهَا فَيْرُوزُ فِي أَهْلِ صَنْعَاءَ، ثُمَّ أَسْرَعَ اللِّحَاقَ بِهِ، فَإِذَا رَجُلٌ يُحَرِّضُهُ عَلَى فَيْرُوزَ وَيَسْعَى إِلَيْهِ فِيهِ، فَاسْتَمَعَ لَهُ فَيْرُوزُ، فَإِذَا الْأَسْوَدُ يَقُولُ: أَنَا قَاتِلُهُ غَدًا وَأَصْحَابِهِ، فَاغْدُ عَلَيَّ بِهِ. ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا فَيْرُوزُ، فَقَالَ: مَهْ. فَأَخْبَرَهُ فَيْرُوزُ بِمَا صَنَعَ مِنْ قَسْمِ ذَلِكَ اللَّحْمِ، فَدَخَلَ الْأَسْوَدُ دَارَهُ، وَرَجَعَ فَيْرُوزُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَأَعْلَمَهُمْ بِمَا سَمِعَ وَبِمَا قَالَ وَقِيلَ لَهُ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يُعَاوِدُوا الْمَرْأَةَ فِي أَمْرِهِ، فَدَخَلَ أَحَدُهُمْ - وَهُوَ
فَيْرُوزُ - إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الدَّارِ بَيْتٌ إِلَّا وَالْحَرَسُ مُحِيطُونَ بِهِ، غَيْرَ هَذَا الْبَيْتِ، فَإِنَّ ظَهْرَهُ إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا مِنَ الطَّرِيقِ، فَإِذَا أَمْسَيْتُمْ فَانْقُبُوا عَلَيْهِ مِنْ دُونِ الْحَرَسِ، وَلَيْسَ مِنْ دُونِ قَتْلِهِ شَيْءٌ، وَإِنِّي سَأَضَعُ فِي الْبَيْتِ سِرَاجًا وَسِلَاحًا. فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا تَلَقَّاهُ الْأَسْوَدُ فَقَالَ لَهُ: مَا أَدْخَلَكَ عَلَى أَهْلِي ؟ وَوَجَأَ رَأْسَهُ، وَكَانَ الْأَسْوَدُ شَدِيدًا، فَصَاحَتِ الْمَرْأَةُ فَأَدْهَشَتْهُ عَنْهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَتَلَهُ، وَقَالَتِ: ابْنُ عَمِّي جَاءَنِي زَائِرًا. فَقَالَ: اسْكُتِي لَا أَبَا لَكِ، قَدْ وَهَبْتُهُ لَكِ. فَخَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: النِّجَاءَ النِّجَاءَ. وَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، فَحَارُوا مَاذَا يَصْنَعُونَ ؟ فَبَعَثَتِ الْمَرْأَةُ إِلَيْهِمْ تَقُولُ لَهُمْ: لَا تَنْثَنُوا عَمَّا كُنْتُمْ عَازِمِينَ عَلَيْهِ. فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَيْرُوزُ الدَّيْلَمِيُّ فَاسْتَثْبَتَ مِنْهَا الْخَبَرَ، وَدَخَلُوا إِلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ فَنَقَبُوا مِنْ دَاخِلِهِ بَطَائِنَ ; لِيَهُونَ عَلَيْهِمُ النَّقْبُ مِنْ خَارِجٍ، ثُمَّ جَلَسَ عِنْدَهَا جَهْرَةً كَالزَّائِرِ، فَدَخَلَ الْأَسْوَدُ فَقَالَ: وَمَا هَذَا ؟ فَقَالَتْ: إِنَّهُ أَخِي مَنِ الرَّضَاعَةِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي. فَنَهَرَهُ وَأَخْرَجَهُ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ نَقَبُوا ذَلِكَ الْبَيْتَ فَدَخَلُوا فَوَجَدُوا فِيهِ سِرَاجًا تَحْتَ جَفْنَةٍ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ فَيْرُوزُ الدَّيْلَمِيُّ وَالْأَسْوَدُ نَائِمٌ عَلَى فِرَاشٍ مِنْ حَرِيرٍ، قَدْ غَرِقَ رَأْسُهُ فِي جَسَدِهِ، وَهُوَ سَكْرَانُ يَغُطُّ، وَالْمَرْأَةُ جَالِسَةٌ عِنْدَهُ، فَلَمَّا قَامَ فَيْرُوزُ عَلَى الْبَابِ أَجْلَسَهُ شَيْطَانُهُ وَتَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِهِ - وَهُوَ نَائِمٌ مَعَ ذَلِكَ يَغُطُّ - فَقَالَ: مَا لِي وَمَا لَكَ يَا فَيْرُوزُ ؟ فَخَشِيَ إِنْ رَجَعَ أَنْ يَهْلِكَ وَتَهْلِكَ الْمَرْأَةُ، فَعَاجَلَهُ وَخَالَطَهُ، وَهُوَ مِثْلُ الْجَمَلِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِهِ فَدَقَّ عُنُقَهُ، وَوَضَعَ رُكْبَتَيْهِ فِي ظَهْرِهِ حَتَّى قَتَلَهُ، ثُمَّ قَامَ لِيَخْرُجَ إِلَى أَصْحَابِهِ لِيُخْبِرَهُمْ، فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ بِذَيْلِهِ
وَقَالَتْ: أَيْنَ
تَذْهَبُ عَنْ حُرْمَتِكُمْ ؟ فَظَنَّتْ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ، فَقَالَ:
أَخْرُجُ لِأُعْلِمَهُمْ بِقَتْلِهِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ لِيَحْتَزُّوا رَأْسَهُ،
فَحَرَّكَهُ شَيْطَانُهُ فَاضْطَرَبَ، فَلَمْ يَضْبُطُوا أَمْرَهُ حَتَّى جَلَسَ
اثْنَانِ عَلَى ظَهْرِهِ، وَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ بِشِعْرِهِ، وَجَعَلَ يُبَرْبِرُ
بِلِسَانِهِ، فَاحْتَزَّ الْآخَرُ رَقَبَتَهُ، فَخَارَ كَأَشَدِّ خُوَارِ ثَوْرٍ
سُمِعَ قَطُّ، فَابْتَدَرَ الْحَرَسُ إِلَى الْمَقْصُورَةِ، فَقَالُوا: مَا هَذَا
؟ ! مَا هَذَا ؟ ! فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: النَّبِيُّ يُوحَى إِلَيْهِ.
فَرَجَعُوا، وَجَلَسَ قَيْسٌ وَدَاذَوَيْهِ وَفَيْرُوزُ يَأْتَمِرُونَ كَيْفَ
يُعْلِمُونَ أَشْيَاعَهُمْ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الصَّبَاحُ
يُنَادُونَ بِشِعَارِهِمُ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا
كَانَ الصَّبَاحُ قَامَ أَحَدُهُمْ، وَهُوَ قَيْسٌ، عَلَى سُورِ الْحِصْنِ
فَنَادَى بِشِعَارِهِمْ، فَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ وَالْكَافِرُونَ حَوْلَ الْحِصْنِ،
فَنَادَى قَيْسٌ - وَيُقَالُ: وَبَرُ بْنُ يُحَنِّسَ - بِالْأَذَانِ: أَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَّ عَبْهَلَةَ كَذَّابٌ. وَأَلْقَى
إِلَيْهِمْ رَأْسَهُ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَتَبِعَهُمُ النَّاسُ
يَأْخُذُونَهُمْ وَيَرْصُدُونَهُمْ فِي كُلِّ طَرِيقٍ يَأْسِرُونَهُمْ، وَظَهَرَ
الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ، وَتَرَاجَعَ نُوَّابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَعْمَالِهِمْ، وَتَنَازَعَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ فِي
الْإِمَارَةَ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ،
وَكَتَبُوا بِالْخَبَرِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَقَدْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى الْخَبَرِ مِنْ لَيْلَتِهِ.
كَمَا قَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ التَّمِيمِيُّ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ
الشَّنَوِيِّ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَتَى
الْخَبَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّمَاءِ
اللَّيْلَةَ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا الْعَنْسِيُّ لِيُبَشِّرَنَا، فَقَالَ: "
قُتِلَ الْعَنْسِيُّ الْبَارِحَةَ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مُبَارَكٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ
مُبَارَكِينَ ".
قِيلَ: وَمَنْ ؟ قَالَ: " فَيْرُوزُ، فَازَ فَيْرُوزُ ". وَقَدْ قِيلَ:
إِنَّ مُدَّةَ مُلْكِهِ مُنْذُ ظَهَرَ إِلَى أَنْ قُتِلَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ.
وَيُقَالُ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنِ الْمُسْتَنِيرِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الضِّحَاكِ،
عَنْ فَيْرُوزَ قَالَ: قَتَلْنَا الْأَسْوَدَ وَعَادَ أَمْرُنَا كَمَا كَانَ،
إِلَّا أَنَّا أَرْسَلْنَا إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فَتَرَاضَيْنَا عَلَيْهِ،
فَكَانَ يُصَلِّي بِنَا فِي صَنْعَاءَ، فَوَاللَّهِ مَا صَلَّى بِنَا إِلَّا
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى أَتَانَا الْخَبَرُ بِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْتَقَضَتِ الْأُمُورُ، وَأَنْكَرَنَا كَثِيرًا
مِمَّا كُنَّا نَعْرِفُ، وَاضْطَرَبَتِ الْأَرْضُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ خَبَرَ الْعَنْسِيِّ جَاءَ إِلَى الصِّدِّيقِ فِي
أَوَاخِرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَعْدَ مَا جَهَّزَ جَيْشَ أُسَامَةَ، وَقِيلَ: بَلْ
جَاءَتِ الْبِشَارَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ صَبِيحَةَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمْ يَجِئْهُمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِهِمْ
وَاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِمْ وَتَأْلِيفِ مَا بَيْنَهُمْ وَالتَّمَسُّكِ بِدِينِ
الْإِسْلَامِ إِلَّا الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسَيَأْتِي إِرْسَالُهُ
إِلَيْهِمْ مَنْ يُمَهِّدُ الْأُمُورَ الَّتِي اضْطَرَبَتْ فِي بِلَادِهِمْ
وَيُقَوِّي أَيْدِيَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُثَبِّتُ أَرْكَانَ دَعَائِمِ
الْإِسْلَامِ فِيهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
فَصْلٌ فِي تَصَدِّي
الصِّدِّيقِ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ.
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
تُوُفِّيَ ارْتَدَتْ أَحْيَاءٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَنَجَمَ النِّفَاقُ
بِالْمَدِينَةِ، وَانْحَازَ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ بَنُو حَنِيفَةَ
وَخَلْقٌ كَثِيرٌ بِالْيَمَامَةِ، وَالْتَفَتَ عَلَى طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيِّ
بَنُو أَسَدٍ وَطَيِّئٌ، وَبَشَرٌ كَثِيرٌ أَيْضًا، وَادَّعَى النُّبُوَّةَ
أَيْضًا كَمَا ادَّعَاهَا مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ
وَاشْتَدَّتِ الْحَالُ، وَنَفَّذَ الصِّدِّيقُ جَيْشَ أُسَامَةَ، فَقَلَّ
الْجُنْدُ عِنْدَ الصِّدِّيقِ، فَطَمِعَتْ كَثِيرٌ مِنَ الْأَعْرَابِ فِي
الْمَدِينَةِ، وَرَامُوا أَنْ يَهْجُمُوا عَلَيْهَا، فَجَعَلَ الصِّدِّيقُ عَلَى
أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ حُرَّاسًا يَبِيتُونَ بِالْجُيُوشِ حَوْلَهَا ; فَمِنْ
أُمَرَاءِ الْحَرَسِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ،
وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَجَعَلَتْ وُفُودُ
الْعَرَبِ تَقْدَمُ الْمَدِينَةَ، يُقِرُّونَ بِالصَّلَاةِ وَيَمْتَنِعُونَ مِنْ
أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَمِنْهُمْ مَنِ امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِهَا إِلَى الصِّدِّيقِ،
وَذَكَرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ
إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [ التَّوْبَةِ: 103 ]. قَالُوا: فَلَسْنَا نَدْفَعُ
زَكَاتَنَا إِلَّا إِلَى مَنْ صَلَاتُهُ سَكَنٌ لَنَا. وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:
أَطَعْنَا رَسُولَ
اللَّهِ إِذْ كَانَ بَيْنَنَا فَوَاعَجَبًا مَا بَالُ مُلْكِ أَبِي بَكْرِ
وَقَدْ تَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ مَعَ الصِّدِّيقِ فِي أَنْ يَتْرُكَهُمْ وَمَا هُمْ
عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِ الزَّكَاةِ وَيَتَأَلَّفَهُمْ حَتَّى يَتَمَكَّنَ
الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ يُزَكُّونَ، فَامْتَنَعَ
الصِّدِّيقُ مِنْ ذَلِكَ وَأَبَاهُ.
وَقَدْ رَوَى الْجَمَاعَةُ فِي كُتُبِهِمْ سِوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: عَلَامَ
تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا
مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا " ؟ فَقَالَ أَبُو
بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِنَاقًا - وَفِي رِوَايَةٍ: عِقَالًا -
كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى مَنْعِهَا، إِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ
لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. قَالَ عُمَرُ: فَمَا
هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ،
فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.
قُلْتُ: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [ التَّوْبَةِ: 5 ]. وَثَبَتَ فِي
" الصَّحِيحِ ":أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ،
وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ،
وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ":بُنِي الْإِسْلَامُ
عَلَى خَمْسٍ ; شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا
رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ
الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقٍ، عَنْ شَبَابَةَ بْنِ
سَوَّارٍ، ثَنَا عِيسَى بْنُ يَزِيدَ الْمَدِينِيُّ، حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ
كَيْسَانَ قَالَ: لَمَّا كَانَتِ الرِّدَّةُ قَامَ أَبُو بَكْرٍ فِي النَّاسِ،
فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
هَدَى فَكَفَى، وَأَعْطَى فَأَغْنَى، إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعِلْمُ شَرِيدٌ، وَالْإِسْلَامُ غَرِيبٌ طَرِيدٌ،
قَدْ رَثَّ حَبْلُهُ، وَخَلُقَ عَهْدُهُ، وَضَلَّ أَهْلُهُ مِنْهُ، وَمَقَتَ
اللَّهُ أَهْلَ الْكِتَابِ فَلَا يُعْطِيهِمْ خَيْرًا لِخَيْرٍ عِنْدَهُمْ، وَلَا
يَصْرِفُ عَنْهُمْ شَرًّا لِشَرٍّ عِنْدَهُمْ، قَدْ غَيَّرُوا كِتَابَهُمْ،
وَأَلْحَقُوا فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَالْعَرَبُ الْأُمِّيُّونَ صِفْرٌ مِنَ
اللَّهِ لَا يَعْبُدُونَهُ وَلَا يَدْعُونَهُ، فَأَجْهَدَهُمْ عَيْشًا،
وَأَضَلَّهُمْ دِينًا، فِي ظَلَفٍ مِنَ الْأَرْضِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ السَّحَابِ،
فَجَمَعَهُمُ اللَّهُ بِمُحَمَّدٍ وَجَعَلَهُمُ الْأُمَّةَ الْوُسْطَى، نَصَرَهُمْ
بِمَنِ اتَّبَعَهُمْ، وَنَصَرَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ، حَتَّى قَبَضَ اللَّهُ
نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَكِبَ مِنْهُمُ الشَّيْطَانُ مَرْكَبَهُ
الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ بِأَيْدِيهِمْ، وَبَغَى هَلَكَتَهُمْ وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ
أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى
عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [
آلِ عِمْرَانَ: 144 ]
. إِنَّ مَنْ حَوْلَكُمْ
مِنَ الْعَرَبِ مَنَعُوا شَاتَهُمْ وَبَعِيرَهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا فِي دِينِهِمْ
- وَإِنْ رَجَعُوا إِلَيْهِ - أَزْهَدَ مِنْهُمْ يَوْمَهُمْ هَذَا، وَلَمْ تَكُونُوا
فِي دِينِكُمْ أَقْوَى مِنْكُمْ يَوْمَكُمْ هَذَا، عَلَى مَا قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ
بَرَكَةِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ وَكَلَكُمْ إِلَى
الْمَوْلَى الْكَافِي، الَّذِي وَجَدَهُ ضَالًّا فَهَدَاهُ، وَعَائِلًا
فَأَغْنَاهُ وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ
مِنْهَا [ آلِ عِمْرَانَ: 103 ]. وَاللَّهِ لَا أَدْعُ أَنْ أُقَاتِلَ عَلَى
أَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يُنْجِزَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَيُوفِيَ لَنَا عَهْدَهُ،
وَيُقْتَلَ مَنْ قُتِلَ مِنَّا شَهِيدًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَيُبْقِيَ مَنْ
بَقِيَ مِنَّا خَلِيفَتَهُ وَوَرَثَتَهُ فِي أَرْضِهِ، قَضَاءُ اللَّهِ الْحَقُّ،
وَقَوْلُهُ الَّذِي لَا خُلْفَ لَهُ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [ النُّورِ:
55 ]. ثُمَّ نَزَلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ
بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ الْآيَةَ [ الْمَائِدَةِ: 54 ]. قَالُوا:
الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ فِي قِتَالِهِمُ الْمُرْتَدِّينَ
وَمَانِعِي الزَّكَاةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ عِنْدَ وَفَاةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خَلَا أَهْلُ الْمَسْجِدَيْنِ ;
مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَارْتَدَّتْ أَسَدٌ وَغَطَفَانُ، وَعَلَيْهِمْ طُلَيْحَةُ
بْنُ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيُّ الْكَاهِنُ، وَارْتَدَّتْ كِنْدَةُ وَمَنْ يَلِيهَا،
وَعَلَيْهِمُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ، وَارْتَدَّتْ مَذْحِجٌ وَمَنْ
يَلِيهَا، وَعَلَيْهِمُ الْأَسْوَدُ بْنُ كَعْبٍ الْعَنْسِيُّ
الْكَاهِنُ وَارْتَدَّتْ
رَبِيعَةُ مَعَ الْمَعْرُورِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَكَانَتْ بَنُو
حَنِيفَةَ مُقِيمَةً عَلَى أَمْرِهَا مَعَ مُسَيْلِمَةَ بْنِ حَبِيبٍ الْكَذَّابِ،
وَارْتَدَّتْ سُلَيْمٌ مَعَ الْفُجَاءَةِ، وَاسْمُهُ أَنَسُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلَ،
وَارْتَدَّتْ بَنُو تَمِيمٍ مَعَ سَجَاحِ الْكَاهِنَةِ.
وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: اجْتَمَعَتْ أَسَدٌ وَغَطَفَانُ وَطَيِّئٌ
عَلَى طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيِّ، وَبَعَثُوا وُفُودًا إِلَى الْمَدِينَةِ،
فَنَزَلُوا عَلَى وُجُوهِ النَّاسِ، فَأَنْزَلُوهُمْ إِلَّا الْعَبَّاسَ،
فَحَمَلُوا بِهِمْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ عَلَى أَنْ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَلَا
يُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَعَزَمَ اللَّهُ لِأَبِي بَكْرٍ عَلَى الْحَقِّ، وَقَالَ:
لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا لَجَاهَدْتُهُمْ. فَرَدَّهُمْ فَرَجَعُوا إِلَى
عَشَائِرِهِمْ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِقِلَّةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَطَمَّعُوهُمْ
فِيهَا، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ الْحَرَسَ عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ،
وَأَلْزَمَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِحُضُورِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: إِنَّ الْأَرْضَ
كَافِرَةٌ، وَقَدْ رَأَى وَفْدُهُمْ مِنْكُمْ قِلَّةً، وَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ
لَيْلًا تُؤْتَوْنَ أَمْ نَهَارًا، وَأَدْنَاهُمْ مِنْكُمْ عَلَى بَرِيدٍ، وَقَدْ
كَانَ الْقَوْمُ يُؤَمِّلُونَ أَنْ نَقْبَلَ مِنْهُمْ وَنُوَادِعَهُمْ، وَقَدْ
أَبَيْنَا عَلَيْهِمْ فَاسْتَعِدُّوا وَأَعِدُّوا. فَمَا لَبِثُوا إِلَّا ثَلَاثًا
حَتَّى طَرَقُوا الْمَدِينَةَ غَارَةً، وَخَلَّفُوا نِصْفَهُمْ بِذِي حُسًى
لِيَكُونُوا رِدْءًا لَهُمْ، وَأَرْسَلَ الْحَرَسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ
يُخْبِرُونَهُ بِالْغَارَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ أَنِ الْزَمُوا مَكَانَكُمْ،
وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فِي أَهْلِ الْمَسْجِدِ عَلَى النَّوَاضِحِ إِلَيْهِمْ،
فَانْقَشَعَ الْعَدُوُّ، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِبِلِهِمْ، حَتَّى
بَلَغُوا ذَا
حُسًى، فَخَرَجَ
عَلَيْهِمُ الرِّدْءُ، فَالْتَقَوْا مَعَ الْجَمِيعِ فَكَانَ الْفَتْحُ، وَقَدْ
قَالَ الْخُطَيْلُ بْنُ أَوْسٍ - وَيُقَالُ: الْحُطَيْئَةُ - فِي ذَلِكَ:
أَطَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ وَسَطَنَا فَيَالَعِبَادِ اللَّهِ مَا
لِأَبِي بَكْرِ
يُوَرِّثُنَا بَكْرًا إِذَا كَانَ بَعْدَهُ وَتِلْكَ لَعَمْرُ اللَّهِ قَاصِمَةُ
الظَّهْرِ
فَهَلَّا رَدَدْتُمْ وَفْدَنَا بِزَمَانِهِ وَهَلَّا خَشِيتُمْ حِسَّ رَاغِيَةِ
الْبَكْرِ
وَإِنَّ الَّذِي سَالُوكُمُ فَمَنَعْتُمُ لَكَالتَّمْرِ أَوْ أَحْلَى إِلَيَّ مِنَ
التَّمْرِ
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ رَكِبَ الصِّدِّيقُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ
وَأُمَرَاءَ الْأَنْقَابِ إِلَى مَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْأَعْرَابِ
الَّذِينَ أَغَارُوا عَلَيْهَا، فَلَمَّا تَوَاجَهَ هُوَ وَأَعْدَاؤُهُ مِنْ بَنِي
عَبْسٍ، وَبَنِي مُرَّةَ، وَذُبْيَانَ، وَمَنْ نَاصَبَ مَعَهُمْ مِنْ بَنِي
كِنَانَةَ، وَأَمَدَّهُمْ طُلَيْحَةَ بِابْنِهِ حِبَالٍ، فَلَمَّا تَوَاجَهَ
الْقَوْمُ كَانُوا قَدْ صَنَعُوا مَكِيدَةً، وَهِيَ أَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى
أَنْحَاءٍ فَنَفَخُوهَا ثُمَّ أَرْسَلُوهَا مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ، فَلَمَّا
رَأَتْهَا إِبِلُ أَصْحَابِ الصِّدِّيقِ نَفَرَتْ وَذَهَبَتْ كُلَّ مَذْهَبٍ،
فَلَمْ يَمْلِكُوا مِنْ أَمْرِهَا شَيْئًا إِلَى اللَّيْلِ، حَتَّى رَجَعَتْ إِلَى
الْمَدِينَةِ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ الْخُطَيْلُ بْنُ أَوْسٍ:
فِدًى لِبَنِي ذُبْيَانَ رَحْلِي وَنَاقَتِي عَشِيَّةَ يُحْذَى بِالرِّمَاحِ أَبُو
بَكْرِ
وَلَكِنْ يُدَهْدَى بِالرِّجَالِ فَهِبْنَهُ إِلَى قَدَرٍ مَا إِنْ تُقِيمُ وَلَا
تَسْرِي
وَلِلَّهِ أَجْنَادٌ تُذَاقُ مَذَاقَهُ لِتُحْسَبَ فِيمَا عُدَّ مِنْ عَجَبِ
الدَّهْرِ
أَطَعْنَا رَسُولَ
اللَّهِ مَا كَانَ بَيْنَنَا فَيَالَعِبَادِ اللَّهِ مَا لِأَبِي بَكْرِ
فَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ ظَنَّ الْقَوْمُ بِالْمُسْلِمِينَ الْوَهَنَ،
وَبَعَثُوا إِلَى عَشَائِرِهِمْ مِنْ نَوَاحِي أَخَرَ، فَاجْتَمَعُوا، وَبَاتَ
أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَائِمًا لَيْلَهُ يَتَهَيَّأُ يُعَبِّئُ
النَّاسَ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَى تَعْبِئَةٍ مِنْ آخَرِ اللَّيْلِ، وَعَلَى
مَيْمَنَتِهِ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ أَخُوهُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَعَلَى السَّاقَةِ أَخُوهُمَا سُوَيْدُ بْنُ مُقَرِّنٍ،
فَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ إِلَّا وَهُمْ وَالْعَدُوُّ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَمَا
سَمِعُوا لِلْمُسْلِمِينَ حِسًّا وَلَا هَمْسًا، حَتَّى وَضَعُوا فِيهِمُ
السُّيُوفَ، فَمَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ حَتَّى وَلَّوْهُمُ الْأَدْبَارَ،
وَغَلَبُوهُمْ عَلَى عَامَّةِ ظَهْرِهِمْ، وَقُتِلَ حِبَالٌ، وَاتَّبَعَهُمْ أَبُو
بَكْرٍ حَتَّى نَزَلَ بِذِي الْقَصَّةِ، وَكَانَ أَوَّلَ الْفَتْحِ، وَذَلَّ بِهَا
الْمُشْرِكُونَ، وَعَزَّ بِهَا الْمُسْلِمُونَ، وَوَثَبَ بَنُو ذُبْيَانَ وَعَبْسٌ
عَلَى مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلُوهُمْ، وَفَعَلَ مَنْ وَرَاءَهُمْ
كَفِعْلِهِمْ، فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ لَيَقْتُلَنَّ فِي كُلِّ قَبِيلَةٍ بِمَنْ
قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَزِيَادَةً، فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ زِيَادُ بْنُ
حَنْظَلَةَ التَّمِيمِيُّ:
غَدَاةَ سَعَى أَبُو بَكْرٍ إِلَيْهِمْ كَمَا يَسْعَى لِمَوْتَتِهِ جُلَالُ
أَرَاحَ عَلَى نَوَاهِقِهَا عَلِيًّا وَمَجَّ لَهُنَّ مُهْجَتَهُ حِبَالُ
وَقَالَ أَيْضًا:
أَقَمْنَا لَهُمْ عُرْضَ الشِّمَالِ فَكُبْكِبُوا كَكَبْكَبَةِ الْغُزَّى
أَنَاخُوا عَلَى الْوَفْرِ
فَمَا صَبَرُوا لِلْحَرْبِ عِنْدَ قِيَامِهَا صَبِيحَةَ يَسْمُو بِالرِّجَالِ
أَبُو بَكْرِ
طَرَقْنَا بَنِي عَبْسٍ
بِأَدْنَى نِبَاجِهَا وَذُبْيَانَ نَهْنَهْنَا بِقَاصِمَةِ الظَّهْرِ
فَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى نَصْرِ الْإِسْلَامِ
وَأَهْلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَزَّ الْمُسْلِمُونَ فِي كُلِّ قَبِيلَةٍ، وَذَلَّ
الْكُفَّارُ فِي كُلِّ قَبِيلَةٍ، وَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى الْمَدِينَةِ
مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، سَالِمًا غَانِمًا، وَطَرَقَتِ الْمَدِينَةُ فِي اللَّيْلِ
صَدَقَاتُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَصَفْوَانَ، وَالزِّبْرِقَانِ، إِحْدَاهَا فِي
أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَالثَّانِيَةُ فِي أَوْسَطِهِ، وَالثَّالِثَةُ فِي آخِرِهِ،
وَقَدِمَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بَشِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْأَنْقَابِ،
فَكَانَ الَّذِي بَشَّرَ بِصَفْوَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَالَّذِي
بَشَّرَ بِالزِّبْرِقَانِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَالَّذِي بَشَّرَ
بِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَيُقَالُ: أَبُو
قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ
سِتِّينَ لَيْلَةً مِنْ مُتَوَفَّى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَدِمَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِلَيَالٍ،
فَاسْتَخْلَفَهُ أَبُو بَكْرٍ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُرِيحُوا
ظَهْرَهُمْ، ثُمَّ رَكِبَ أَبُو بَكْرٍ فِي الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فِي
الْوَقْعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِلَى ذِي الْقَصَّةِ، فَقَالَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ:
لَوْ رَجَعْتَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَرْسَلْتَ رَجُلًا، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا
أَفْعَلُ، وَلَأُوَاسِيَنَّكُمْ بِنَفْسِي. فَخَرَجَ فِي تَعْبِئَتِهِ إِلَى ذِي
حُسًى وَذِي الْقَصَّةِ، وَالنُّعْمَانُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَسُوَيْدٌ بَنُو مُقَرِّنٍ
عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، حَتَّى نَزَلَ عَلَى أَهْلِ الرَّبْذَةِ
بِالْأَبْرَقِ، وَهُنَاكَ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي عَبْسٍ وَذُبْيَانَ، وَطَائِفَةٌ
مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، فَاقْتَتَلُوا فَهَزَمَ اللَّهُ الْحَارِثَ وَعَوْفًا،
فَأُخِذَ الْحُطَيْئَةُ أَسِيرًا، فَطَارَتْ بَنُو عَبْسٍ وَبَنُو بَكْرٍ،
وَأَقَامَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى الْأَبْرَقِ أَيَّامًا، وَقَدْ غَلَبَ بَنُو
ذُبْيَانَ عَلَى الْبِلَادِ، فَقَالَ: حَرَامٌ عَلَى بَنِي ذُبْيَانَ أَنْ
يَتَمَلَّكُوا هَذِهِ الْبِلَادَ إِذْ غَنَّمَنَاهَا اللَّهُ، وَحَمَى الْأَبْرَقَ
بِخُيُولِ
الْمُسْلِمِينَ، وَأَرْعَى سَائِرَ بِلَادِ الرَّبْذَةِ. وَلَمَّا فَرَّتْ عَبْسٌ
وَذُبْيَانُ صَارُوا إِلَى مُؤَازَرَةِ طُلَيْحَةَ وَهُوَ نَازِلٌ عَلَى
بُزَاخَةَ، وَقَدْ قَالَ فِي يَوْمِ الْأَبْرَقِ زِيَادُ بْنُ حَنْظَلَةَ:
وَيَوْمٍ بِالْأَبَارِقِ قَدْ شَهِدْنَا عَلَى ذُبْيَانَ يَلْتَهِبُ الْتِهَابَا
أَتَيْنَاهُمْ بِدَاهِيَةٍ نَسُوفٍ مَعَ الصِّدِّيقِ إِذْ تَرَكَ الْعِتَابَا
ثُمَّ رَجَعَ الصِّدِّيقُ إِلَى الْمَدِينَةِ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا سَالِمًا
غَانِمًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
ذِكْرُ خُرُوجِهِ إِلَى ذِي الْقَصَّةِ حِينَ عَقَدَ أَلْوِيَةَ الْأُمَرَاءِ
الْأَحَدَ عَشَرَ عَلَى مَا سَيَأْتِي
وَذَلِكَ بَعْدَ مَا جَمَّ جَيْشُ أُسَامَةَ وَاسْتَرَاحُوا، رَكِبَ الصِّدِّيقُ
أَيْضًا فِي الْجُيُوشِ الْإِسْلَامِيَّةِ شَاهِرًا سَيْفَهُ مَسْلُولًا، مَنَ
الْمَدِينَةِ إِلَى ذِي الْقَصَّةِ، وَهِيَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى مَرْحَلَةٍ،
وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَقُودُ بِرَاحِلَةِ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا، كَمَا سَيَأْتِي، فَسَأَلَهُ الصَّحَابَةُ، مِنْهُمْ عَلِيٌّ
وَغَيْرُهُ، وَأَلَحُّوا عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَنْ
يَبْعَثَ لِقِتَالِ الْأَعْرَابِ غَيْرَهُ مِمَّنْ يُؤَمِّرُهُ مِنَ الشُّجْعَانِ
الْأَبْطَالِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَعَقَدَ لَهُمُ الْأَلْوِيَةَ
الْأَحَدَ عَشَرَ لِأَحَدَ عَشَرَ أَمِيرًا، عَلَى مَا سَنُفَصِّلُهُ قَرِيبًا
إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُوسَى
الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا بَرَزَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى ذِي الْقَصَّةِ
وَاسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ، أَخَذَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِزِمَامِهَا
وَقَالَ: إِلَى أَيْنَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ؟ أَقُولُ لَكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ " شِمْ سَيَفَكَ، وَلَا تَفْجَعْنَا بِنَفْسِكَ
". وَارْجِعْ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ فُجِعْنَا بِكَ لَا
يَكُونُ لِلْإِسْلَامِ نِظَامٌ أَبَدًا. فَرَجَعَ. هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ
طَرِيقِ مَالِكٍ.
وَقَدْ رَوَاهُ زَكَرِيَّا السَّاجِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ
مُوسَى بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ
الزُّهْرِيِّ أَيْضًا، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجَ أَبِي شَاهِرًا سَيْفَهُ رَاكِبًا عَلَى
رَاحِلَتِهِ إِلَى وَادِي الْقَصَّةِ، فَجَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
فَأَخَذَ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَقُولُ لَكَ مَا قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ: " شِمْ سَيَفَكَ،
وَلَا تَفْجَعْنَا بِنَفْسِكَ ". فَوَاللَّهِ لَئِنْ أُصِبْنَا بِكَ لَا
يَكُونُ لِلْإِسْلَامِ نِظَامٌ أَبَدًا. فَرَجَعَ وَأَمْضَى الْجَيْشَ.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدٍ: لَمَّا
اسْتَرَاحَ أُسَامَةُ
وَجُنْدُهُ، وَقَدْ جَاءَتْ صَدَقَاتٌ كَثِيرَةٌ تَفْضُلُ عَنْهُمْ، قَطَعَ أَبُو
بَكْرٍ الْبُعُوثَ، وَعَقَدَ الْأَلْوِيَةَ، فَعَقَدَ أَحَدَ عَشَرَ لِوَاءً ;
عَقَدَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَأَمَرَهُ بِطُلَيْحَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ،
فَإِذَا فَرَغَ سَارَ إِلَى مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةٍ بِالْبِطَاحِ إِنْ أَقَامَ
لَهُ، وَلِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَأَمَرَهُ بِمُسَيْلِمَةَ، وَبَعَثَ
شُرَحْبِيلَ ابْنَ حَسَنَةَ فِي أَثَرِهِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، ثُمَّ
إِلَى بَنِي قُضَاعَةَ. وَلِلْمُهَاجِرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، وَأَمَرَهُ
بِجُنُودِ الْعَنْسِيِّ، وَمَعُونَةِ الْأَبْنَاءِ عَلَى قَيْسِ بْنِ مَكْشُوحٍ -
قُلْتُ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ نَزَعَ يَدَهُ مِنَ الطَّاعَةِ، عَلَى مَا
سَيَأْتِي - قَالَ: وَلِخَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ إِلَى مَشَارِفِ
الشَّامِ. وَلِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إِلَى جِمَاعِ قُضَاعَةَ وَوَدِيعَةَ
وَالْحَارِثِ. وَلِحُذَيْفَةَ بْنِ مِحْصَنٍ الْغَطَفَانِيِّ، وَأَمَرَهُ بِأَهْلِ
دَبَا. وَلِعَرْفَجَةَ بْنِ هَرْثَمَةَ وَأَمَرَهُ بِمَهْرَةَ. وَلِطَرِيفَةَ بْنِ
حَاجِزٍ، وَأَمَرَهُ بِبَنِي سُلَيْمٍ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ هَوَازِنَ.
وَلِسُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، وَأَمَرَهُ بِتِهَامَةِ الْيَمَنِ. وَلِلْعَلَاءِ
بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَأَمَرَهُ بِالْبَحْرَيْنِ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَدْ كَتَبَ لِكُلِّ أَمِيرٍ كِتَابَ عَهْدِهِ عَلَى حِدَتِهِ، فَفَصَلَ كُلُّ
أَمِيرٍ بِجُنْدِهِ مِنْ ذِي الْقَصَّةِ، وَرَجَعَ الصِّدِّيقُ إِلَى
الْمَدِينَةِ، وَقَدْ كَتَبَ مَعَهُمُ الصِّدِّيقُ كِتَابًا إِلَى الْمُرْتَدَّةِ،
وَهَذِهِ نُسْخَتُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ أَبِي بَكْرٍ
خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَنْ بَلَغَهُ
كِتَابِي هَذَا مِنْ عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ، أَقَامَ عَلَى إِسْلَامِهِ أَوْ رَجَعَ
عَنْهُ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَلَمْ يَرْجِعْ بَعْدَ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالَةِ وَالْهَوَى، فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكُمُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، نُقِرُّ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَنُكَفِّرُ مَنْ أَبَى ذَلِكَ وَنُجَاهِدُهُ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى خَلْقِهِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ، فَهَدَى اللَّهُ بِالْحَقِّ مَنْ أَجَابَ إِلَيْهِ، وَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَدْبَرَ عَنْهُ، حَتَّى صَارَ إِلَى الْإِسْلَامِ طَوْعًا وَكَرْهًا، ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ نَفَذَ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَنَصَحَ لِأُمَّتِهِ، وَقَضَى الَّذِي عَلَيْهِ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ بَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ، وَلِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ فَقَالَ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [ الزُّمَرِ: 30 ]. وَقَالَ: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 34 ]. وَقَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [ آلِ عِمْرَانَ: 144 ]. فَمَنْ كَانَ إِنَّمَا يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَلَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، حَافِظٌ لِأَمْرِهِ، مُنْتَقِمٌ مِنْ عَدُّوِهِ، وَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَحَظِّكُمْ وَنَصِيبِكُمْ مِنَ اللَّهِ، وَمَا جَاءَكُمْ بِهِ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ تَهْتَدُوا بِهُدَاهُ، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِدِينِ اللَّهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ ضَالٌّ، وَكُلَّ مَنْ لَمْ يُعَافِهِ
مُبْتَلًى، وَكُلَّ مَنْ لَمْ يُعِنْهُ اللَّهُ مَخْذُولٌ، وَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ كَانَ مُهْتَدِيًا، وَمَنْ أَضَلَّهُ كَانَ ضَالًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [ الْكَهْفِ: 17 ]. وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا عَمَلٌ حَتَّى يُقِرَّ بِهِ، وَلَمْ يُقْبَلْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، وَقَدْ بَلَغَنِي رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ أَقَرَّ بِالْإِسْلَامِ، وَعَمِلَ بِهِ ; اغْتِرَارًا بِاللَّهِ وَجَهْلًا بِأَمْرِهِ، وَإِجَابَةً لِلشَّيْطَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [ الْكَهْفِ: 50 ]. وَقَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [ فَاطِرٍ: 6 ]. وَإِنِّي بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ فُلَانًا فِي جَيْشٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَالتَّابِعَيْنِ بِإِحْسَانٍ، وَأَمَرْتُهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا الْإِيمَانَ بِاللَّهِ، وَلَا يَقْتُلُهُ حَتَّى يَدْعُوَهُ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ أَجَابَ وَأَقَرَّ وَعَمِلَ صَالَحَا، قَبِلَ مِنْهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَبَى، حَارَبَهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، ثُمَّ لَا يُبْقِي عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَحْرِقَهُمْ بِالنَّارِ وَأَنْ يَقْتُلَهُمْ كُلَّ قِتْلَةٍ، وَأَنْ يَسْبِيَ النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ، وَلَا يَقْبَلَ مَنْ أَحَدٍ غَيْرَ الْإِسْلَامِ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَمَنْ تَرَكَهُ فَلَنْ يُعْجِزَ اللَّهَ، وَقَدْ أَمَرْتُ رَسُولِي أَنْ يَقْرَأَ كِتَابَهُ فِي كُلِّ مَجْمَعٍ لَكُمْ، وَالدَّاعِيَةُ الْأَذَانُ، فَإِذَا أَذَّنَ الْمُسْلِمُونَ فَكُفُّوا عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُؤَذِّنُوا عَاجِلُوهُمْ، وَإِنْ أَذَّنُوا فَسَلُوهُمْ مَا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ أَبَوْا
عَاجِلُوهُمْ، وَإِنْ
أَقَرُّوا قَبِلَ مِنْهُمْ وَحَمَلَهُمْ عَلَى مَا يَنْبَغِي لَهُمْ. رَوَاهُ
سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ.
فَصْلٌ فِي مَسِيرَةِ الْأُمَرَاءَ مِنْ ذِي الْقَصَّةِ عَلَى مَا عُوهِدُوا
عَلَيْهِ.
وَكَانَ سَيِّدَ الْأُمَرَاءِ وَرَأْسَ الشُّحْعَانِ الصَّنَادِيدِ أَبُو
سُلَيْمَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ.
رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ، أَنَّ أَبَا
بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لَمَّا عَقَدَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ
الرِّدَّةِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: نِعْمَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَخُو الْعَشِيرَةِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ،
سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، سَلَّهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى الْكُفَّارِ
وَالْمُنَافِقِينَ.
وَلَمَّا تَوَجَّهَ خَالِدٌ مِنْ ذِي الْقَصَّةِ وَفَارَقَهُ الصِّدِّيقُ،
وَاعَدَهُ أَنَّهُ سَيَلْقَاهُ مِنْ نَاحِيَةِ خَيْبَرَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ
الْأُمَرَاءِ، وَأَظْهَرُوا ذَلِكَ لِيُرْعِبُوا الْأَعْرَابَ، وَأَمَرَهُ أَنْ
يَذْهَبَ
أَوَّلًا إِلَى طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيِّ، ثُمَّ يَذْهَبَ بَعْدَهُ إِلَى بَنِي تَمِيمٍ، وَكَانَ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ فِي قَوْمِهِ بَنِي أَسَدٍ، وَفِي غَطَفَانَ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِمْ بَنُو عَبْسٍ وَذُبْيَانُ، وَبَعَثَ إِلَى بَنِي جَدِيلَةَ وَالْغَوْثِ وَطَيِّئٍ يَسْتَدْعِيهِمْ إِلَيْهِ، فَبَعَثُوا أَقْوَامًا مِنْهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، لِيَلْحَقُوا عَلَى أَثَرِهِمْ سَرِيعًا، وَكَانَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ قَدْ قَدِمَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ بِصَدَقَاتِ قَوْمِهِمَا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتَقَوَّى بِهَا أَبُو بَكْرٍ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَلَمْ يَزَلْ لِعَدِيِّ وَالزِّبْرِقَانِ بِذَلِكَ الشَّرَفُ عَلَى قَوْمِهِمَا وَمَنْ سِوَاهُمَا، وَكَانَ الصِّدِّيقُ قَدْ بَعَثَ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ قَبْلَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَقَالَ لَهُ: أَدْرِكْ قَوْمَكُ لَا يَلْحَقُوا بِطُلَيْحَةَ فَيَكُونَ دَمَارُهُمْ. فَذَهَبَ عَدِيٌّ إِلَى قَوْمِهِ بَنِي طَيِّئٍ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُبَايِعُوا الصِّدِّيقَ، وَأَنْ يُرَاجِعُوا أَمْرَ اللَّهِ، فَقَالُوا: لَا نُبَايِعُ أَبَا الْفَصِيلِ أَبَدًا، يَعْنُونَ أَبَا بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لِيَأْتِيَنَّكُمْ جَيْشٌ، فَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّهُ أَبُو الْفَحْلِ الْأَكْبَرِ. وَلَمْ يَزَلْ عَدِيٌّ يَفْتِلُ لَهُمْ فِي الذِّرْوَةِ وَالْغَارِبِ حَتَّى لَانُوا، وَجَاءَ خَالِدٌ فِي الْجُنُودِ، وَعَلَى مُقَدِّمَةِ الْأَنْصَارِ الَّذِينَ مَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ ثَابِتَ بْنَ أَقْرَمَ وَعُكَّاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ طَلِيعَةً، فَتَلَقَّاهُمَا طُلَيْحَةُ وَأَخُوهُ سَلَمَةُ فِيمَنْ مَعَهُمَا، فَلَمَّا وَجَدَا ثَابِتًا وَعُكَّاشَةَ تَبَارَزُوا، فَقَتَلَ عُكَّاشَةُ حِبَالَ بْنَ طُلَيْحَةَ - وَقِيلَ: بَلْ كَانَ قَتَلَ حِبَالًا قَبْلَ ذَلِكَ - وَأَخَذَ مَا مَعَهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ طُلَيْحَةُ فَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ هُوَ وَأَخُوهُ سَلَمَةُ ثَابِتَ بْنَ أَقْرَمَ، وَجَاءَ خَالِدٌ بِمَنْ مَعَهُ فَوَجَدُوهُمَا صَرِيعَيْنِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمَا فَدُفِنَا بِدِمَائِهِمَا فِي ثَوْبَيْهِمَا. وَقَدْ قَالَ طُلَيْحَةُ فِي ذَلِكَ:
عَشِيَّةَ غَادَرْتُ
ابْنَ أَقْرَمَ ثَاوِيًا وَعُكَّاشَةَ الْغَنْمِيَّ تَحْتَ مَجَالِ أَقَمْتُ لَهُ
صَدْرَ الْحَمَالَةِ إِنَّهَا
مُعَوَّدَةٌ قَبْلَ الْكُمَاةِ نِزَالِ فَيَوْمًا تَرَاهَا فِي الْجُلَالِ
مَصُونَةً
وَيَوْمًا تَرَاهَا فِي ظِلَالِ عَوَالِي وَإِنْ تَكُ أَذْوَادٌ أُصِبْنَ
وَنِسْوَةٌ
فَلَمْ يَذْهَبُوا فِرْغًا بِقَتْلِ حِبَالِ
وَمَالَ خَالِدٌ إِلَى بَنِي طَيِّئٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ
فَقَالَ: أَنْظِرْنِي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ; فَإِنَّهُمْ قَدِ اسْتَنْظَرُونِي
حَتَّى يَبْعَثُوا إِلَى مَنْ تَعَجَّلَ مِنْهُمْ إِلَى طُلَيْحَةَ حَتَّى
يَرْجِعُوا إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَخْشَوْنَ إِنْ تَابَعُوكَ أَنْ يَقْتُلَ
طُلَيْحَةُ مَنْ سَارَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ
يُعْجِّلَهُمْ إِلَى النَّارِ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ثَلَاثٍ جَاءَهُ عَدِيٌّ فِي
خَمْسِمِائَةِ مُقَاتِلٍ مِمَّنْ رَاجَعَ الْحَقَّ، فَانْضَافُوا إِلَى جَيْشِ
خَالِدٍ، وَقَصَدَ خَالِدٌ بَنِي جَدِيلَةَ، فَقَالَ لَهُ عَدِيٌّ: أَجِّلْنِي
أَيَّامًا حَتَّى آتِيَهُمْ، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُنْقِذَهُمْ كَمَا أَنْقَذَ
طَيِّئًا، فَأَتَاهُمْ عَدِيٌّ فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى بَايَعُوهُ، فَجَاءَ
خَالِدًا بِإِسْلَامِهِمْ، وَلَحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ أَلْفُ رَاكِبٍ،
فَكَانَ عَدِيٌّ خَيْرَ مَوْلُودٍ وَأَعْظَمَهُ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهِ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ. قَالُوا: ثُمَّ سَارَ خَالِدٌ حَتَّى نَزَلَ بِأَجَأٍ وَسَلْمَى،
وَعَبَّأَ جَيْشَهُ هُنَالِكَ، وَالْتَقَى مَعَ طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيِّ بِمَكَانٍ
يُقَالُ لَهُ: بُزَاخَةُ. وَوَقَفَتْ أَحْيَاءٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْأَعْرَابِ
يَنْظُرُونَ عَلَى مَنْ تَكُونُ الدَّائِرَةُ، وَجَاءَ طُلَيْحَةُ فِيمَنْ مَعَهُ
مِنْ قَوْمِهِ وَمَنِ الْتَفَّ مَعَهُمْ وَانْضَافَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ حَضَرَ
مَعَهُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فِي سَبْعِمِائَةٍ مِنْ قَوْمِهِ
بَنِي فَزَارَةَ، وَاصْطَفَّ
النَّاسُ، وَجَلَسَ طُلَيْحَةُ مُلْتَفًّا فِي كِسَاءٍ لَهُ يَتَنَبَّأُ لَهُمْ،
يَنْظُرُ مَا يُوحَى إِلَيْهِ فِيمَا يَزْعُمُ، وَجَعَلَ عُيَيْنَةُ يُقَاتِلُ مَا
يُقَاتِلُ، حَتَّى إِذَا ضَجِرَ مِنَ الْقِتَالِ يَجِيءُ إِلَى طُلَيْحَةَ وَهُوَ
مُلْتَفٌّ فِي كِسَائِهِ فَيَقُولُ: أَجَاءَكَ جِبْرِيلُ ؟ فَيَقُولُ: لَا.
فَيَرْجِعُ فَيُقَاتِلُ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَيَرُدُّ
عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ قَالَ لَهُ: هَلْ
جَاءَكَ جِبْرِيلُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا قَالُ لَكَ ؟ قَالَ: قَالَ لِي:
إِنَّ لَكَ رَحًا كَرَحَاهُ، وَحَدِيثًا لَا تَنْسَاهُ. قَالَ: يَقُولُ
عُيَيْنَةُ: أَظُنُّ أَنْ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ سَيَكُونُ لَكَ حَدِيثٌ لَا
تَنْسَاهُ. ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي فَزَارَةَ، انْصَرِفُوا. وَانْهَزَمَ،
وَانْهَزَمَ النَّاسُ عَنْ طُلَيْحَةَ، فَلَمَّا جَاءَهُ الْمُسْلِمُونَ رَكِبَ
عَلَى فَرَسٍ كَانَ قَدْ أَعَدَّهَا لَهُ، وَأَرْكَبَ امْرَأَتَهُ النَّوَارَ
عَلَى بَعِيرٍ لَهُ، ثُمَّ انْهَزَمَ بِهَا إِلَى الشَّامِ وَتَفَرَّقَ جَمْعُهُ،
وَقَدْ قَتَلَ اللَّهُ طَائِفَةً مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، فَلَمَّا أَوْقَعَ اللَّهُ
بِطُلَيْحَةَ وَفَزَارَةَ مَا أَوْقَعَ، قَالَتْ بَنُو عَامِرٍ وَسُلَيْمٍ
وَهَوَازِنُ: نَدْخُلُ فِيمَا خَرَجْنَا مِنْهُ، وَنُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ، وَنُسَلِّمُ لِحُكْمِهِ فِي أَمْوَالِنَا وَأَنْفُسِنَا.
قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ ارْتَدَّ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ بِمُؤَازَرَتِهِ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ
بَدْرٍ، وَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ لِقَوْمِهِ: وَاللَّهِ لِنَبِيٌّ
مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَبِيٍّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَقَدْ مَاتَ
مُحَمَّدٌ، وَهَذَا طُلَيْحَةُ فَاتِّبِعُوهُ. فَوَافَقَهُ قَوْمُهُ بَنُو
فَزَارَةَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَسَرَهُمَا خَالِدٌ هَرَبَ طُلَيْحَةُ
بِامْرَأَتِهِ إِلَى الشَّامِ، فَنَزَلَ عَلَى بَنِي كَلْبٍ، وَأَسَرَ خَالِدٌ
عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ،
وَبَعَثَ بِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَدَخَلَ
الْمَدِينَةَ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَجَعَلَ الْوِلْدَانُ وَالْغِلْمَانُ يَطْعَنُونَهُ
بِأَيْدِيهِمْ، وَيَقُولُونَ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، ارْتَدَدْتَ عَنِ
الْإِسْلَامِ ؟ فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ آمَنْتُ قَطُّ. فَلَمَّا وَقَفَ
بَيْنَ يَدَيِ الصِّدِّيقِ اسْتَتَابَهُ وَحَقَنَ دَمَهُ، ثُمَّ حَسُنَ
إِسْلَامُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَنَّ عَلَى قُرَّةَ بْنِ هُبَيْرَةَ،
وَكَانَ أَحَدَ الْأُمَرَاءِ مَعَ طُلَيْحَةَ، فَأَسَرَهُ مَعَ عُيَيْنَةَ،
وَأَمَّا طُلَيْحَةُ فَإِنَّهُ رَاجَعَ الْإِسْلَامَ بَعْدَ ذَلِكَ أَيْضًا،
وَذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا أَيَّامَ الصِّدِّيقِ وَاسْتَحْيَا أَنْ
يُوَاجِهَهُ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ وَقَدْ رَجَعَ فَشَهِدَ الْقِتَالَ مَعَ خَالِدٍ،
وَكَتَبَ الصِّدِّيقُ إِلَى خَالِدٍ أَنِ اسْتَشِرْهُ فِي الْحَرْبِ وَلَا
تُؤَمِّرْهُ، يَعْنِي مُعَامَلَتَهُ لَهُ بِنَقِيضِ مَا كَانَ قَصَدَهُ مِنَ
الرِّيَاسَةِ فِي الْبَاطِلِ. وَهَذَا مِنْ فِقْهِ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
وَقَدْ قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ لِبَعْضِ أَصْحَابِ طُلَيْحَةَ مِمَّنْ
أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ: أَخْبِرْنَا عَمَّا كَانَ يَقُولُ لَكُمْ
طُلَيْحَةُ مِنَ الْوَحْيِ. فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: وَالْحَمَامِ
وَالْيَمَامِ، وَالصُّرَدِ الصَّوَّامِ، قَدْ صُمْنَ قَبْلَكُمْ بِأَعْوَامٍ،
لَيَبْلُغَنَّ مُلْكُنَا الْعِرَاقَ وَالشَّامَ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الْخُرَافَاتِ وَالْهَذَيَانَاتِ السَّمِجَةِ.
وَقَدْ كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ حِينَ
جَاءَهُ أَنَّهُ كَسَرَ طُلَيْحَةَ وَمَنْ كَانَ فِي صَفِّهِ، وَقَامَ بِنَصْرِهِ،
فَكَتَبَ إِلَيْهِ: لِيَزِدْكَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا، وَاتَّقِ
اللَّهَ فِي أَمْرِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ
مُحْسِنُونَ، جِدَّ فِي أَمْرِكَ وَلَا تَنِيَنَّ، وَلَا تَظْفَرْ بِأَحَدٍ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ قَتَلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا نَكَّلَتَ بِهِ، وَمَنْ
أَخَذْتَ مِمَّنْ حَادَّ
اللَّهَ أَوْ ضَادَّهُ مِمَّنْ يَرَى أَنَّ فِي ذَلِكَ صَلَاحًا فَاقْتُلْهُ.
فَأَقَامَ خَالِدٌ بِبُزَاخَةَ شَهْرًا، يُصَعِّدُ فِيهَا وَيُصَوِّبُ، وَيَرْجِعُ
إِلَيْهَا فِي طَلَبِ الَّذِينَ وَصَّاهُ بِسَبَبِهِمُ الصِّدِّيقُ، فَجَعَلَ
يَتَرَدَّدُ فِي طَلَبِ هَؤُلَاءِ شَهْرًا، يَأْخُذُ بِثَأْرِ مَنْ قَتَلُوا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حِينَ ارْتَدُّوا ;
فَمِنْهُمْ مَنْ حَرَّقَهُ بِالنَّارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَضَخَهُ بِالْحِجَارَةِ،
وَمِنْهُمْ مَنْ رَمَى بِهِ مِنْ شَوَاهِقَ الْجِبَالِ، كُلُّ هَذَا لِيُشَرِّدَ
بِهِمْ مَنْ يَسْمَعُ بَخَبَرِهِمْ مِنْ مُرْتَدَّةِ الْعَرَبِ. رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمْ، عَنْ، طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ
قَالَ: لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ بُزَاخَةَ ; أَسَدٌ وَغَطَفَانُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ
يَسْأَلُونَهُ الصُّلْحَ، خَيَّرَهُمْ أَبُو بَكْرٍ بَيِّنَ حَرْبٍ مُجْلِيَةٍ
أَوْ حِطَّةٍ مُخْزِيَةٍ. فَقَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، أَمَّا
الْحَرْبُ الْمُجْلِيَةُ فَقَدْ عَرَفْنَاهَا، فَمَا الْحِطَّةُ الْمُخْزِيَةُ ؟
قَالَ: تُؤْخَذُ مِنْكُمُ الْحَلْقَةُ وَالْكُرَاعُ، وَتُتْرَكُونَ أَقْوَامًا
يَتَّبِعُونَ أَذْنَابَ الْإِبِلِ حَتَّى يُرِيَ اللَّهُ خَلِيفَةَ نَبِيِّهِ
وَالْمُؤْمِنَيْنِ أَمْرًا يَعْذِرُونَكُمْ بِهِ، وَتُؤَدُّونَ مَا أَصَبْتُمْ
مِنَّا، وَلَا نُؤَدِّي مَا أَصَبْنَا مِنْكُمْ، وَتَشْهَدُونَ أَنَّ قَتْلَانَا
فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ، وَتَدُونَ قَتْلَانَا وَلَا نَدِي
قَتْلَاكُمْ. فَقَالَ عُمَرُ: أَمَّا قَوْلُكَ: تَدُونَ قَتْلَانَا. فَإِنَّ
قَتْلَانَا قُتِلُوا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا دِيَاتِ لَهُمْ. فَاتَّبَعَ عُمَرَ.
وَقَالَ عُمَرُ فِي الثَّانِي: نِعْمَ مَا رَأَيْتَ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ
حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ بِسَنَدِهِ مُخْتَصَرًا.
وَقْعَةٌ أُخْرَى وَهِيَ
قِتَالُ خَالِدٍ فِي بُزَاخَةَ.
كَانَ قَدِ اجْتَمَعَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْفُلَّالِ يَوْمَ بُزَاخَةَ مِنْ
أَصْحَابِ طُلَيْحَةَ مِنْ بَنِي غَطَفَانَ، فَاجْتَمَعُوا إِلَى امْرَأَةٍ
يُقَالُ لَهَا: أُمُّ زِمْلٍ سَلْمَى بِنْتُ مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ. وَكَانَتْ
مِنْ سَيِّدَاتِ الْعَرَبِ، كَأُمِّهَا أُمِّ قِرْفَةَ، وَكَانَ يُضْرَبُ
بِأُمِّهَا الْمَثَلُ فِي الشَّرَفِ ; لِكَثْرَةِ أَوْلَادِهَا وَعِزَّةِ قَبِيلَتِهَا
وَبَيْتِهَا، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهَا ذَمَرَتْهُمْ لِقِتَالِ خَالِدٍ،
فَهَاجُوا لِذَلِكَ، وَتَأَشَّبَ إِلَيْهِمْ آخَرُونَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ
وَطَيِّئٍ وَهَوَازِنَ وَأَسَدٍ، فَصَارُوا جَيْشًا كَثِيفًا، وَتَفَحَّلَ أَمْرُ
هَذِهِ الْمَرْأَةِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ سَارَ
إِلَيْهِمْ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَهِيَ رَاكِبَةٌ عَلَى جَمَلِ
أُمِّهَا الَّذِي كَانَ يُقَالُ: مَنْ نَخَسَ جَمَلَهَا فَلَهُ مِائَةٌ مِنَ
الْإِبِلِ. وَذَلِكَ لِعِزِّهَا، فَهَزَمَهُمْ خَالِدٌ وَعَقَرَ جَمَلَهَا
وَقَتَلَهَا، وَبَعَثَ بِالْفَتْحِ إِلَى الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قِصَّةُ الْفُجَاءَةِ.
وَاسْمُهُ إِيَاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عُمَيْرَةَ بْنِ
خِفَافٍ، مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَقَدْ كَانَ الصِّدِّيقُ
حَرَّقَ الْفُجَاءَةَ بِالْبَقِيعِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ سَبَبُهُ
أَنَّهُ قَدِمَ عَلَيْهِ
فَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَسَأَلَ مِنْهُ أَنْ يُجَهِّزَ مَعَهُ جَيْشًا
يُقَاتِلُ بِهِ أَهْلَ الرِّدَّةِ، فَجَهَّزَ مَعَهُ جَيْشًا، فَلَمَّا سَارَ
جَعَلَ لَا يَمُرُّ بِمُسْلِمٍ وَلَا مُرْتَدٍّ إِلَّا قَتَلَهُ وَأَخَذَ مَالَهُ،
فَلَمَّا سَمِعَ الصِّدِّيقُ بَعَثَ وَرَاءَهُ جَيْشًا فَرْدَّهُ، فَلَمَّا
أَمْكَنَهُ بَعَثَ بِهِ إِلَى الْبَقِيعِ، فَجُمِعَتْ يَدَاهُ إِلَى قَفَاهُ
وَأُلْقِي فِي النَّارِ، فَحَرَّقَهُ وَهُوَ مَقْمُوطٌ.
قِصَّةُ سَجَاحِ وَبَنِي تَمِيمٍ.
كَانَتْ بَنُو تَمِيمٍ قَدِ اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ أَيَّامَ الرِّدَّةِ ;
فَمِنْهُمْ مَنِ ارْتَدَّ وَمَنَعَ الزَّكَاةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَعَثَ
بِأَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ إِلَى الصِّدِّيقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ
لِيَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَتْ سَجَاحِ
بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ عُقْفَانَ التَّغْلِبِيَّةُ مِنَ
الْجَزِيرَةِ، وَهِيَ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، وَقَدِ ادَّعَتِ النُّبُوَّةَ،
وَمَعَهَا جُنُودٌ مِنْ قَوْمِهَا وَمَنِ الْتَفَّ بِهِمْ، وَقَدْ عَزَمُوا عَلَى
غَزْوِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَلَمَّا مَرَّتْ بِبِلَادِ بَنِي تَمِيمٍ
دَعَتْهُمْ إِلَى أَمْرِهَا فَاسْتَجَابَ لَهَا عَامَّتُهُمْ، وَكَانَ مِمَّنِ
اسْتَجَابَ لَهَا مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ التَّمِيمِيُّ، وَعُطَارِدُ بْنُ
حَاجِبٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ سَادَاتِ أُمَرَاءِ بَنِي تَمِيمٍ، وَتَخَلَّفَ
آخَرُونَ مِنْهُمْ عَنْهَا، ثُمَّ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ لَا حَرْبَ بَيْنَهُمْ
إِلَّا أَنَّ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ لَمَّا وَادَعَهَا ثَنَاهَا عَنْ غَزْوِهَا،
وَحَرَّضَهَا عَلَى بَنِي يَرْبُوعٍ، ثُمَّ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى قِتَالِ
النَّاسِ، وَقَالُوا: بِمَنْ نَبْدَأُ ؟ فَقَالَتْ لَهُمْ فِيمَا تَسْجَعُهُ:
أَعِدُّوا الرِّكَابَ، وَاسْتَعِدُّوا لِلنِّهَابِ، ثُمَّ أَغِيرُوا عَلَى
الرَّبَابِ، فَلَيْسَ دُونَهُمْ حِجَابٌ. ثُمَّ
إِنَّهُمْ تَعَاهَدُوا
عَلَى نَصْرِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ:
أَتَتْنَا أُخْتُ تَغْلِبَ فِي رِجَالٍ جَلَائِبَ مِنْ سَرَاةِ بَنِي أَبِينَا
وَأَرْسَتْ دَعْوَةً فِينَا سَفَاهًا
وَكَانَتْ مِنْ عَمَائِرَ آخَرِينَا فَمَا كُنَّا لِنَرْزِيَهُمْ زِبَالًا
وَمَا كَانَتْ لِتُسْلِمَ إِذْ أُتِينَا أَلَا سَفِهَتْ حُلُومُكُمُ وَضَلَّتْ
عَشِيَّةَ تَحْشِدُونَ لَهَا ثُبِينَا
وَقَالَ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ فِي ذَلِكَ:
أَمْسَتْ نَبِيَّتُنَا أُنْثَى نُطِيفُ بِهَا وَأَصْبَحَتْ أَنْبِيَاءُ النَّاسِ
ذُكْرَانَا
ثُمَّ إِنَّ سَجَاحِ قَصَدَتْ بِجُنُودِهَا الْيَمَامَةَ ; لِتَأْخُذَهَا مِنْ
مُسَيْلِمَةَ بْنَ حَبِيبٍ الْكَذَّابِ، فَهَابَهُ قَوْمُهَا، وَقَالُوا: إِنَّهُ
قَدِ اسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ وَعَظُمَ. فَقَالَتْ لَهُمْ فِيمَا تَقُولُهُ:
عَلَيْكُمْ بَالْيَمَامَهْ، دُفُوا دَفِيفَ الْحَمَامَهْ، فَإِنَّهَا غَزْوَةٌ
صَرَّامَهْ، لَا تَلْحَقُكُمْ بَعْدَهَا مَلَامَهْ. قَالَ: فَقَصَدُوا نَحْوَ
مُسَيْلِمَةَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِمَسِيرِهَا إِلَيْهِ خَافَهَا عَلَى بِلَادِهِ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ مَشْغُولٌ بِمُقَاتَلَةِ ثُمَامَةَ بْنِ أَثَالٍ، وَقَدْ
سَاعَدَهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهِلٍ بِجُنُودِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ
نَازِلُونَ بِبَعْضِ بِلَادِهِ يَنْتَظِرُونَ قُدُومَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ،
كَمَا سَيَأْتِي، فَبَعَثَ إِلَيْهَا يَسْتَأْمِنُهَا وَيَضْمَنُ لَهَا أَنْ
يُعْطِيَهَا نِصْفَ الْأَرْضِ الَّذِي كَانَ لِقُرَيْشٍ لَوْ عَدَلَتْ، فَقَدْ
رَدَّهُ اللَّهُ عَلَيْكِ فَحَبَاكِ بِهِ، وَرَاسَلَهَا لِيَجْتَمِعَ بِهَا
فِي طَائِفَةٍ مِنْ
قَوْمِهِ وَقَوْمِهَا، فَرَكِبَ فِي أَرْبَعِينَ مِنْ قَوْمِهِ وَجَاءَ إِلَيْهَا،
فَاجْتَمَعَا فِي خَيْمَةٍ، فَلَمَّا خَلَا بِهَا وَعَرَضَ عَلَيْهَا مَا عَرَضَ
مِنْ نِصْفِ الْأَرْضِ وَقَبِلَتْ ذَلِكَ، قَالَ مُسَيْلِمَةُ: سَمِعَ اللَّهُ
لِمَنْ سَمِعْ، وَأَطْمَعَهُ بِالْخَيْرِ إِذَا طَمِعْ، وَلَا يَزَالُ أَمْرُهُ
فِي كُلِّ مَا سَرَّ نَفْسَهُ مُجْتَمَعْ، رَآكُمْ رَبُّكُمْ فَحَيَّاكُمْ وَمِنْ
وَحْشَةٍ أَخَلَّاكُمْ، وَيَوْمَ دِينِهِ أَنْجَاكُمْ، فَأَحْيَاكُمْ عَلَيْنَا
مِنْ صَلَوَاتِ مَعْشَرٍ أَبْرَارْ، لَا أَشْقِيَاءَ وَلَا فُجَّارْ، يَقُومُونَ
اللَّيْلَ وَيَصُومُونَ النَّهَارْ، لِرَبِّكُمُ الْكُبَّارْ، رَبِّ الْغُيُومِ وَالْأَمْطَارْ.
وَقَالَ أَيْضًا: لَمَّا رَأَيْتُ وُجُوهَهُمْ حَسُنَتْ، وَأَبْشَارَهُمْ صَفَتْ،
وَأَيْدِيَهُمْ طَفُلَتْ، قُلْتُ لَهُمْ: لَا النِّسَاءَ تَأْتُونَ، وَلَا
الْخَمْرَ تَشْرَبُونَ، وَلَكِنَّكُمْ مَعْشَرٌ أَبْرَارٌ تَصُومُونَ، فَسُبْحَانَ
اللَّهِ إِذَا جَاءَتِ الْحَيَاةُ كَيْفَ تَحْيَوْنَ، وَإِلَى مَلِكِ السَّمَاءِ
كَيْفَ تَرْقَوْنَ، فَلَوْ أَنَّهَا حَبَّةُ خَرْدَلَةٍ لَقَامَ عَلَيْهَا شَهِيدٌ
يَعْلَمُ مَا فِي الصُّدُورِ، وَلَأَكْثَرَ النَّاسُ فِيهَا الثُّبُورَ.
وَقَدْ كَانَ مُسَيْلِمَةُ، لَعَنَهُ اللَّهُ، شَرَعَ لِمَنِ اتَّبَعَهُ أَنَّ
الْعَزَبَ يَتَزَوَّجُ، فَإِذَا وُلِدَ لَهُ ذَكَرٌ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ
النِّسَاءُ حِينَئِذٍ، إِلَّا أَنْ يَمُوتَ ذَلِكَ الْوَلَدُ الذِّكْرُ، فَتَحِلُّ
لَهُ النِّسَاءُ حَتَّى يُولَدَ لَهُ ذَكَرٌ، هَذَا مِمَّا اقْتَرَحَهُ، لَعَنَهُ
اللَّهُ، مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا خَلَا بِسَجَاحِ
سَأَلَهَا مَاذَا يُوحَى إِلَيْهَا ؟ فَقَالَتْ: وَهَلْ يَكُونُ النِّسَاءُ
يَبْتَدِئْنَ ؟ بَلْ أَنْتَ مَاذَا أُوحِيَ إِلَيْكَ ؟ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى
رَبِّكَ كَيْفَ فَعَلَ بِالْحُبْلَى، أَخْرَجَ مِنْهَا نَسَمَةً تَسْعَى، مِنْ
بَيْنِ صَفَاقٍ وَحَشَا. قَالَتْ: وَمَاذَا ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ
النِّسَاءَ أَفْرَاجَا،
وَجَعَلَ الرِّجَالَ لَهُنَّ أَزْوَاجًا، فَنُولِجُ فِيهِنَّ قُعْسًا إِيلَاجًا،
ثُمَّ نُخْرِجُهَا إِذَا نَشَاءُ إِخْرَاجًا، فَيُنْتِجْنَ لَنَا سِخَالًا
إِنْتَاجًا، فَقَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ. فَقَالَ لَهَا: هَلْ لَكِ أَنْ
أَتَزَوَّجَكِ وَآكُلُ بِقَوْمِي وَقَوْمِكِ الْعَرَبَ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ.
فَقَالَ:
أَلَا قُومِي إِلَى النَّيْكِ فَقَدْ هُيِّئَ لَكِ الْمَضْجَعْ
فَإِنْ شِئْتِ فَفِي الْبَيْتِ وَإِنْ شِئْتِ فَفِي الْمَخْدَعْ
وَإِنْ شِئْتِ سَلَقْنَاكِ وَإِنْ شِئْتِ عَلَى أَرْبَعْ
وَإِنْ شِئْتِ بِثُلْثَيْهِ وَإِنْ شِئْتِ بِهِ أَجْمَعْ
فَقَالَتْ: بَلْ بِهِ أَجْمَعْ. فَقَالَ: بِذَلِكَ أُوحِيَ إِلَيَّ، وَأَقَامَتْ
عِنْدَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى قَوْمِهَا فَقَالُوا: مَا
أَصْدَقَكِ ؟ فَقَالَتْ: لَمْ يَصْدُقْنِي شَيْئًا. فَقَالُوا: إِنَّهُ قَبِيحٌ
عَلَى مِثْلِكِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ، فَبَعَثَتْ إِلَيْهِ
تَسْأَلُهُ صَدَاقَهَا، فَقَالَ: أَرْسِلِي إِلَيَّ مُؤَذِّنَكِ. فَبَعَثَتْهُ
إِلَيْهِ، وَهُوَ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، فَقَالَ: نَادِ فِي قَوْمِكَ: إِنَّ
مُسَيْلِمَةَ بْنَ حَبِيبٍ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَضَعَ عَنْكُمْ صَلَاتَيْنِ
مِمَّا أَتَاكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ.
يَعْنِي صَلَاةَ الْفَجْرَ
وَصَلَاةَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ - وَقِيلَ: بَلْ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي وَضَعْتُ
عَنْكُمْ مَا أَتَاكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَأَبَحْتُ فُرُوجَ
الْمُؤْمِنَاتِ، وَشُرْبَ الْخَمْرِ فِي الْكَاسَاتِ - فَكَانَ هَذَا صَدَاقَهَا
عَلَيْهِ، لَعَنَهُمَا اللَّهُ، ثُمَّ انْشَمَرَتْ سَجَاحِ رَاجِعَةً إِلَى
بِلَادِهَا، وَذَلِكَ حِينَ بَلَغَهَا دُنُوِّ خَالِدٍ مِنْ أَرْضِ الْيَمَامَةِ،
فَكَرَّتْ رَاجِعَةً إِلَى الْجَزِيرَةِ بَعْدَمَا قَبَضَتْ مِنْ مُسَيْلِمَةَ
نِصْفَ خَرَاجِ أَرْضِهِ، فَأَقَامَتْ فِي قَوْمِهَا بَنِي تَغَلِبَ إِلَى زَمَانِ
مُعَاوِيَةَ، فَأَجْلَاهُمْ مِنْهَا عَامَ الْجَمَاعَةِ، كَمَا سَيَأْتِي
بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
فَصْلٌ فِي خَبَرِ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ الْيَرْبُوعِيِّ التَّمِيمِيِّ.
كَانَ قَدْ صَانَعَ سَجَاحِ حِينَ قَدِمَتْ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ، فَلَمَّا
اتَّصَلَتْ بِمُسَيْلِمَةَ لَعَنَهُمَا اللَّهُ، ثُمَّ تَرَحَّلَتْ إِلَى
بِلَادِهَا، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ نَدِمَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ عَلَى مَا
كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، وَتَلَوَّمَ فِي شَأْنِهِ، وَهُوَ نَازِلٌ بِمَكَانٍ يُقَالُ
لَهُ: الْبُطَاحُ. فَقَصَدَهَا خَالِدٌ بِجُنُودِهِ وَتَأَخَّرَتْ عَنْهُ
الْأَنْصَارُ، وَقَالُوا: إِنَّا قَدْ قَضَيْنَا مَا أَمَرَنَا بِهِ الصِّدِّيقُ.
فَقَالَ لَهُمْ خَالِدٌ: إِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِ، وَفُرْصَةٌ
لَا بُدَّ مِنَ انْتِهَازِهَا وَإِنْ لَمْ يَأْتِنِي فِيهَا كِتَابٌ، وَأَنَا
الْأَمِيرُ وَإِلَيَّ تَرِدُ الْأَخْبَارُ، وَلَسْتُ بِالَّذِي أُجْبِرُكُمْ عَلَى
الْمَسِيرِ، وَأَنَا قَاصِدٌ الْبُطَاحَ. فَسَارَ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ لَحِقَهُ
رَسُولُ الْأَنْصَارِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الِانْتِظَارَ، فَلَحِقُوا بِهِ،
فَلَمَّا وَصَلَ الْبُطَاحَ وَعَلَيْهَا مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ،، فَبَثَّ
خَالِدٌ
السَّرَايَا فِي الْبُطَاحِ يَدْعُونَ النَّاسَ، فَاسْتَقْبَلَهُ أُمَرَاءُ بَنِي تَمِيمٍ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَبَذَلُوا الزِّكْوَاتِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ، فَإِنَّهُ مُتَحَيِّرٌ فِي أَمْرِهِ، مُتَنَحٍّ عَنِ النَّاسِ، فَجَاءَتْهُ السَّرَايَا فَأَسَرُوهُ وَأَسَرُوا مَعَهُ أَصْحَابَهُ، وَاخْتَلَفَتِ السَّرِيَّةُ فِيهِمْ، فَشَهِدَ أَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيِّ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُمْ أَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُمْ لَمْ يُؤَذِّنُوا وَلَا صَلَّوْا. فَيُقَالُ: إِنَّ الْأُسَارَى بَاتُوا فِي كُبُولِهِمْ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَنَادَى مُنَادِي خَالِدٍ أَنْ دَافِئُوا أَسْرَاكُمْ. فَظَنَّ الْقَوْمُ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَتْلَ، فَقَتَلُوهُمْ، وَقَتَلَ ضِرَارُ بْنُ الْأَزْوَرِ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ، فَلَمَّا سَمِعَ خَالِدٌ الْوَاعِيَةَ خَرَجَ وَقَدْ فَرَغُوا مِنْهُمْ، فَقَالَ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا أَصَابَهُ. وَاصْطَفَى خَالِدٌ امْرَأَةَ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ، وَهِيَ أُمُّ تَمِيمٍ ابْنَةُ الْمِنْهَالِ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً، فَلَمَّا حَلَّتْ بَنَى بِهَا. وَيُقَالُ: بَلِ اسْتَدْعَى خَالِدٌ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ فَأَنَّبَهُ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ مُتَابَعَةِ سَجَاحِ، وَعَلَى مَنْعِهِ الزَّكَاةَ، وَقَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهَا قَرِينَةُ الصَّلَاةِ ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ كَانَ يَزْعُمُ ذَلِكَ. فَقَالَ: أَهْوَ صَاحِبُنَا وَلَيْسَ بِصَاحِبِكَ ؟ ! يَا ضِرَارُ، اضْرِبْ عُنُقَهُ. فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَأَمَرَ بِرَأْسِهِ فَجُعِلَ مَعَ حَجَرَيْنِ، وَطُبِخَ عَلَى الثَّلَاثَةِ قِدْرًا، فَأَكَلَ مِنْهَا خَالِدٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ لِيُرْهِبَ بِذَلِكَ الْأَعْرَابَ مِنَ الْمُرْتَدَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَيُقَالُ: إِنَّ شَعْرَ مَالِكٍ جَعَلَتِ النَّارُ تَعْمَلُ فِيهِ إِلَى أَنْ نَضِجَ لَحْمِ الْقِدْرِ، وَلَمْ يَفَرُغَ الشَّعْرُ لِكَثْرَتِهِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ أَبُو قَتَادَةَ مَعَ خَالِدٍ فِيمَا صَنَعَ، وَتَقَاوَلَا فِي ذَلِكَ، حَتَّى ذَهَبَ أَبُو قَتَادَةَ فَشَكَاهُ إِلَى الصِّدِّيقِ، وَتَكَلَّمَ عُمَرُ مَعَ أَبِي قَتَادَةَ فِي خَالِدٍ، وَقَالَ لِلصَّدِيقِ: اعْزِلْهُ، فَإِنَّ فِي سَيْفِهِ رَهَقًا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا أَشْيَمُ سَيْفًا
سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى
الْكُفَّارِ. وَجَاءَ مُتَمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ فَجَعَلَ يَشْكُو إِلَى
الصِّدِّيقِ خَالِدًا، وَعُمَرُ يُسَاعِدُهُ وَيُنْشِدُ الصِّدِّيقَ مَا قَالَ فِي
أَخِيهِ مِنَ الْمَرَاثِي، فَوَدَاهُ الصِّدِّيقُ مِنْ عِنْدِهِ. وَمِنْ قَوْلِ
مُتَمِّمٍ فِي ذَلِكَ:
وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ
يَتَصَدَّعَا وَعِشْنَا بِخَيْرٍ مَا حَيِينَا وَقَبْلَنَا
أَبَادَ الْمَنَايَا قَوْمَ كِسْرَى وَتُبَّعَا فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي
وَمَالِكًا
لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعَا تَرَاهُ كَنَصْلِ السَّيْفِ
يَهْتَزُّ لِلنَّدَى
إِذَا لَمْ يَجِدْ عِنْدَ امْرِئِ السَّوْءَ مَطْمَعَا وَمَا كَانَ وَقَّافًا
إِذَا الْخَيْلُ أَحْجَمَتْ
وَلَا طَالِبًا مِنْ خَشْيَةِ الْمَوْتِ مَفْزِعَا وَلَا بِكَهَامٍ سَيْفُهُ عَنْ
عَدُوِّهِ
إِذَا هُوَ لَاقَى حَاسِرًا أَوْ مُقَنَّعَا وَإِنِّي مَتَى مَا أَدْعُ بِاسْمِكَ
لَمْ تُجِبْ
وَكُنْتَ حَرِيًّا أَنْ تُجِيبَ وَتَسْمَعَا وَمَا شَارِفٌ حَنَّتْ حَنِينًا
وَرَجَّعَتْ
أَنِينًا فَأَبْكَى شَجْوُهَا الْبَرْكَ أَجْمَعَا بِأَوْجَدَ مِنِّي يَوْمَ قَامَ
بِمَالِكٍ
مُنَادٍ فَصِيحٌ بِالْفِرَاقِ فَأَسْمَعَا تَحِيَّتُهُ مِنِّي وَإِنْ كَانَ
نَائِيًا
وَأَمْسَى تُرَابًا فَوْقَهُ الْأَرْضُ بَلْقَعَا سَقَى اللَّهُ أَرْضًا حَلَّهَا
قَبْرُ مَالِكٍ
ذِهَابَ الْغَوَادِي الْمُدْجِنَاتِ فَأَمْرَعَا
فِي أَبْيَاتٍ أُخَرَ
اخْتَصَرْنَاهَا. وَقِيلَ: إِنَّ مُتَمِّمًا حَزِنَ عَلَى أَخِيهِ مَالِكٍ حُزْنًا
شَدِيدًا ; مَكَثَ سَنَةً كَامِلَةً لَمْ يَنِمِ اللَّيْلَ، وَلَمْ يَزَلْ
حَزِينًا عَلَيْهِ يُنْشِدُ فِيهِ الْأَشْعَارَ حَتَّى مَاتَ، وَكَانَ أَعْوَرَ،
فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِيهِ حَتَّى سَالَتْ عَيْنُهُ الْعَوْرَاءُ بِالدُّمُوعِ،
وَهَذَا أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنَ الْحُزْنِ.
وَقَالَ أَيْضًا:
لَقَدْ لَامَنِي عِنْدَ الْقُبُورِ عَلَى الْبُكَا رَفِيقِي لِتَذْرَافِ
الدُّمُوعِ السَّوَافِكِ
وَقَالَ أَتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رَأَيْتَهُ لِقَبْرٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوَى
فَالدَّكَادِكِ
فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ الْأَسَى يَبْعَثُ الْأَسَى فَدَعْنِي فَهَذَا كُلُّهُ قَبْرُ
مَالِكِ
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، يُحَرِّضُ الصِّدِّيقَ وَيَذْمُرُهُ عَلَى عَزْلِ خَالِدٍ عَنِ
الْإِمْرَةِ وَيَقُولُ: إِنَّ فِي سَيْفِهِ لَرَهَقًا، قَتَلَ مَالِكًا وَنَزَى
عَلَى امْرَأَتِهِ. حَتَّى بَعَثَ الصِّدِّيقُ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ،
فَقَدِمَ عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ وَقَدْ لَبِسَ عَلَيْهِ دِرْعَهُ الَّتِي مِنْ
حَدِيدٍ، قَدْ صَدِئَ مِنْ كَثْرَةِ الدِّمَاءِ، وَغَرَزَ فِي عِمَامَتِهِ
النُّشَّابَ الْمُضَمَّخَ بِالدِّمَاءِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَامَ
إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَانْتَزَعَ الْأَسْهُمَ مِنْ عِمَامَةَ
خَالِدٍ فَحَطَّمَهَا، وَقَالَ: أَرِيَاءً قَتَلْتَ امْرَأً مُسْلِمًا ثُمَّ
نَزَوْتَ عَلَى امْرَأَتِهِ ؟ ! وَاللَّهِ لَأَرْجُمَنَّكَ بِأَحْجَارِكَ.
وَخَالِدٌ لَا يُكَلِّمُهُ، وَلَا يَظُنُّ
إِلَّا أَنَّ رَأْيَ
الصِّدِّيقِ فِيهِ كَرَأْيِ عُمَرَ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَاعْتَذَرَ
إِلَيْهِ، فَعَذَرَهُ وَتَجَاوَزَ عَنْهُ مَا كَانَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ، وَوَدَى
مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَعُمَرُ جَالِسٌ فِي
الْمَسْجِدِ، فَقَالَ خَالِدٌ: هَلُمَّ إِلَيَّ يَا ابْنَ أُمِّ شَمْلَةَ. فَلَمْ
يَرُدَّ عَلَيْهِ، وَعَرَفَ أَنَّ الصِّدِّيقَ قَدْ رَضِيَ عَنْهُ. وَاسْتَمَرَّ
أَبُو بَكْرٍ بِخَالِدٍ عَلَى الْإِمْرَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اجْتَهَدَ فِي
قَتْلِ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ وَأَخْطَأَ فِي قَتْلِهِ، كَمَا أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ
فَقَتَلَ أُولَئِكَ الْأُسَارَى الَّذِينَ قَالُوا: صَبَأْنَا صَبَأْنَا. وَلَمْ
يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا. فَوَدَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رَدَّ إِلَيْهِمْ مِيلَغَةَ الْكَلْبِ،
وَرَفْعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ
خَالِدٌ. وَمَعَ هَذَا لَمْ يَعْزِلْ خَالِدًا عَنِ الْإِمْرَةِ.
مَقْتَلُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ لَعَنَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ.
لَمَّا رَضِيَ الصِّدِّيقُ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعَذَرَهُ بِمَا
اعْتَذَرَ بِهِ، بَعَثَهُ إِلَى قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ بِالْيَمَامَةِ،
وَأَوْعَبَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَعَلَى الْأَنْصَارِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ
شَمَّاسٍ، فَسَارَ لَا يَمُرُّ بِأَحَدٍ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ إِلَّا نَكَّلَ
بِهِمْ، وَقَدِ اجْتَازَ بِخُيُولٍ لِأَصْحَابِ سَجَاحِ فَشَرَّدَهُمْ، وَأَمَرَ
بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَرْدَفَ الصِّدِّيقُ خَالِدًا
بِسَرِيَّةٍ ; لِتَكُونَ رِدْءًا لَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَدْ كَانَ بَعَثَ
قَبْلَهُ إِلَى مُسَيْلِمَةَ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهِلٍ، وَشُرَحْبِيلَ ابْنَ
حَسَنَةَ، فَلَمْ يُقَاوِمَا بَنِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّهُمْ فِي نَحْوٍ مِنْ
أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنَ
الْمُقَاتِلَةِ، فَعَجِلَ عِكْرِمَةُ قَبْلَ مَجِيءِ صَاحِبِهِ شُرَحْبِيلَ،
فَنَاجَزَهُمْ فَنُكِبَ، فَانْتَظَرَ خَالِدًا، فَلَمَّا سَمِعَ مُسَيْلِمَةُ
بِقُدُومِ خَالِدٍ، عَسْكَرَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: عَقْرَبَاءُ. فِي طَرَفِ
الْيَمَامَةِ، وَالرِّيفُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَنَدَبَ لَهُ النَّاسَ وَحَثَّهُمْ،
فَحَشَدَ لَهُ أَهْلَ الْيَمَامَةِ، وَجَعَلَ عَلَى مُجَنِّبَتَيْ جَيْشِهِ
الْمُحْكَمَ بْنَ الطُّفَيْلِ، وَالرَّجَّالَ بْنَ عُنْفُوَةَ بْنِ نَهْشَلٍ،
وَكَانَ الرَّجَّالُ هَذَا صَدِيقُهُ الَّذِي شَهِدَ لَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّهُ قَدْ أَشْرَكَ مَعَهُ
مُسَيْلِمَةَ بْنَ حَبِيبٍ فِي الْأَمْرِ، فَكَانَ هَذَا الْمَلْعُونُ مِنْ
أَكْبَرِ مَا أَضَلَّ أَهْلَ الْيَمَامَةِ، حَتَّى اتَّبَعُوا مُسَيْلِمَةَ،
لَعَنَهُمَا اللَّهُ، وَقَدْ كَانَ الرَّجَّالُ هَذَا قَدْ وَفَدَ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرَأَ " الْبَقَرَةَ "
وَجَاءَ زَمَنَ الرِّدَّةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَبَعَثَهُ إِلَى أَهْلِ
الْيَمَامَةِ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيُثَبِّتُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ،
فَارْتَدَّ مَعَ مُسَيْلِمَةَ وَشَهِدَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ.
قَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:
كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ،
مَعَنَا الرَّجَّالُ بْنُ عُنْفُوَةَ، فَقَالَ: إِنْ فِيكُمْ لَرَجُلًا ضِرْسُهُ
فِي النَّارِ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ. فَهَلَكَ الْقَوْمُ وَبَقِيتُ أَنَا
وَالرَّجَّالُ، وَكُنْتُ مُتَخَوِّفًا لَهَا، حَتَّى خَرَجَ الرَّجَّالُ مَعَ
مُسَيْلِمَةَ وَشَهِدَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ، فَكَانَتْ فِتْنَةُ الرَّجَّالِ
أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ مُسَيْلِمَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ شَيْخٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَاقْتَرَبَ خَالِدٌ وَقَدْ جَعَلَ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ شُرَحْبِيلَ ابْنَ
حَسَنَةَ وَعَلَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ زَيْدًا وَأَبَا حُذَيْفَةَ، وَقَدْ مَرَّتِ
الْمُقَدِّمَةُ فِي اللَّيْلِ بِنَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِينَ، وَقِيلَ: سِتِّينَ
فَارِسًا، عَلَيْهِمْ مُجَّاعَةُ بْنُ مُرَارَةَ، وَكَانَ قَدْ ذَهَبَ لِأَخْذِ ثَأْرٍ لَهُ فِي بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي عَامِرٍ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُمْ فَلَمَّا جِيءَ بِهِمْ إِلَى خَالِدٍ، سَأَلَهُمْ عَنْ خَبَرِهِمْ فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ فَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ، وَأَمَرَ بِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ كُلِّهِمْ سِوَى مُجَّاعَةَ فَإِنَّهُ اسْتَبْقَاهُ مُقَيَّدًا عِنْدَهُ ; لِعِلْمِهِ بِالْحَرْبِ وَالْمَكِيدَةِ، وَكَانَ سَيِّدًا فِي بَنِي حَنِيفَةَ شَرِيفًا مُطَاعًا. وَيُقَالُ: إِنَّ خَالِدًا لَمَّا عُرِضُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: مَاذَا تَقُولُونَ يَا بَنِي حَنِيفَةَ ؟ قَالُوا: نَقُولُ: مِنَّا نَبِيٌّ وَمِنْكُمْ نَبِيٌّ. فَقَتَلَهُمْ إِلَّا وَاحِدًا اسْمُهُ سَارِيَةُ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ غَدًا بِعُدُولِ هَؤُلَاءِ خَيْرًا أَوْ شَرًّا فَاسْتَبْقِ هَذَا الرَّجُلَ. يَعْنِي مُجَّاعَةَ بْنَ مُرَارَةَ. فَاسْتَبْقَاهُ خَالِدٌ مُقَيَّدًا، وَجَعَلَهُ فِي الْخَيْمَةِ مَعَ امْرَأَتِهِ، وَقَالَ: اسْتَوْصِي بِهِ خَيْرًا، فَلَمَّا تَوَاجَهَ الْجَيْشَانِ قَالَ مُسَيْلِمَةُ لِقَوْمِهِ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْغَيْرَةِ، الْيَوْمُ إِنْ هُزِمْتُمْ تُسْتَرْدَفِ النِّسَاءُ سَبِيَّاتٍ، وَيُنْكَحْنَ غَيْرَ حَظِيَّاتٍ، فَقَاتِلُوا عَنْ أَحِسَابِكُمْ وَامْنَعُوا نِسَاءَكُمْ. وَتَقَدَّمَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ خَالِدٌ عَلَى كَثِيبٍ يُشْرِفُ عَلَى الْيَمَامَةِ. فَضَرَبَ بِهِ عَسْكَرَهُ، وَرَايَةُ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَرَايَةُ الْأَنْصَارِ مَعَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَالْعَرَبُ عَلَى رَايَاتِهَا، وَمُجَّاعَةُ بْنُ مُرَارَةَ مُقَيَّدٌ فِي الْخَيْمَةِ مَعَ أُمِّ تَمِيمٍ امْرَأَةِ خَالِدٍ، فَاصْطَدَمَ الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ، فَكَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ وَانْهَزَمَتِ الْأَعْرَابُ حَتَّى دَخَلَتْ
بَنُو حَنِيفَةَ خَيْمَةَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَهَمُّوا بِقَتْلِ أُمِّ تَمِيمٍ، حَتَّى أَجَارَهَا مُجَّاعَةُ، وَقَالَ: نِعْمَتِ الْحُرَّةُ هَذِهِ. وَقَدْ قُتِلَ الرَّجَّالُ بْنُ عُنْفُوَةَ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فِي هَذِهِ الْجَوْلَةِ، قَتَلَهُ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ تَذَامَرَ الصَّحَابَةُ بَيْنَهُمْ، وَقَالَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ: بِئْسَ مَا عَوَّدْتُمْ أَقْرَانَكُمْ. وَنَادَوْا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ: اخْلُصْنَا يَا خَالِدُ. فَخَلَصَتْ ثُلَّةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَحَمِيَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ، وَكَانَ إِذَا رَأَى الْحَرْبَ أَخَذَتْهُ الْعُرَوَاءُ فَيَجْلِسُ عَلَى ظَهْرِهِ الرِّجَالُ وَيَنْتَفِضُ حَتَّى يَبُولَ فِي سَرَاوِيلِهِ، ثُمَّ يَثُورُ كَمَا يَثُورُ الْأَسَدُ، وَقَاتَلَتْ بَنُو حَنِيفَةَ قِتَالًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ، وَجَعَلَتِ الصَّحَابَةُ يَتَوَاصَوْنَ بَيْنَهُمْ وَيَقُولُونَ: يَا أَصْحَابَ سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " بَطَلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ. وَحَفَرَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ لِقَدَمَيْهِ فِي الْأَرْضِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، وَهُوَ حَامِلُ لِوَاءِ الْأَنْصَارِ بَعْدَمَا تَحَنَّطَ وَتَكَفَّنَ، فَلَمْ يَزَلْ ثَابِتًا حَتَّى قُتِلَ هُنَاكَ، وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ لِسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ: أَتَخْشَى أَنْ نُؤْتَى مِنْ قِبَلِكَ ؟ فَقَالَ: بِئْسَ حَامِلُ الْقُرْآنِ أَنَا إِذًا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَيُّهَا النَّاسُ، عَضُّوا عَلَى أَضْرَاسِكُمْ، وَاضْرِبُوا فِي عَدُوِّكُمْ، وَامْضُوا قُدُمًا. وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَتَكَلَّمُ حَتَّى يَهْزِمَهُمُ اللَّهُ أَوْ أَلْقَى اللَّهَ فَأُكَلِّمَهُ بِحُجَّتِي. فَقُتِلَ شَهِيدًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ: يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِالْفِعَالِ، وَحَمَلَ فِيهِمْ حَتَّى أَبْعَدَهُمْ وَأُصِيبَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَحَمَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَتَّى جَاوَزَهُمْ وَسَارَ بِحِيَالِ مُسَيْلِمَةَ وَجَعَلَ يَتَرَقَّبُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ فَيَقْتُلَهُ، ثُمَّ رَجَعَ ثُمَّ وَثَبَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَدَعَا إِلَى الْبِرَازِ، وَقَالَ:
أَنَا ابْنُ الْوَلِيدِ الْعَوْدِ، أَنَا ابْنُ عَامِرٍ وَزَيْدِ. ثُمَّ نَادَى بِشِعَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ شِعَارُهُمْ يَوْمَئِذٍ: يَا مُحَمَّدَاهْ. وَجَعَلَ لَا يَبْرُزُ لَهُمْ أَحَدٌ إِلَّا قَتَلَهُ، وَلَا يَدْنُو مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا أَكَلَهُ، وَدَارَتْ رَحَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ اقْتَرَبَ مِنْ مُسَيْلِمَةَ فَعَرَضَ عَلَيْهِ النَّصَفَ وَالرُّجُوعَ إِلَى الْحَقِّ، فَجَعَلَ شَيْطَانُ مُسَيْلِمَةَ يَلْوِي عُنُقَهُ، لَا يَقْبَلُ مِنْهُ شَيْئًا، وَكُلَّمَا أَرَادَ مُسَيْلِمَةُ يُقَارِبُ مِنَ الْأَمْرِ صَرَفَهُ عَنْهُ شَيْطَانُهُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ خَالِدٌ، وَقَدْ مَيَّزَ خَالِدٌ الْمُهَاجِرِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَكُلُّ بَنِي أَبٍ عَلَى رَايَتِهِمْ، يُقَاتِلُونَ تَحْتَهَا، حَتَّى يَعْرِفَ النَّاسُ مِنْ أَيْنَ يُؤْتَوْنَ، وَصَبَرَتِ الصَّحَابَةُ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ صَبْرًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ، وَلَمْ يَزَالُوا يَتَقَدَّمُونَ إِلَى نُحُورِ عَدُّوِهِمْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَوَلَّى الْكُفَّارُ الْأَدْبَارَ، وَاتَّبَعُوهُمْ يُقَتِّلُونَ فِي أَقْفَائِهِمْ، وَيَضَعُونَ السُّيُوفَ فِي رِقَابِهِمْ حَيْثُ شَاءُوا، حَتَّى أَلْجَأُوهُمْ إِلَى حَدِيقَةِ الْمَوْتِ، وَقَدْ أَشَارَ عَلَيْهِمْ مُحَكَّمُ الْيَمَامَةِ، وَهُوَ مُحَكَّمُ بْنُ الطُّفَيْلِ، لَعَنَهُ اللَّهُ بِدُخُولِهَا، فَدَخَلُوهَا وَفِيهَا عَدُوُّ اللَّهِ مُسَيْلِمَةُ، لَعَنَهُ اللَّهُ، وَأَدْرَكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ مُحَكَّمُ بْنُ الطُّفَيْلِ، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فِي عُنُقِهِ وَهُوَ يَخْطُبُ فَقَتَلَهُ، وَأَغْلَقَتْ بَنُو حَنِيفَةَ الْحَدِيقَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَحَاطَ بِهِمُ الصَّحَابَةُ، وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَلْقُونِي عَلَيْهِمْ فِي الْحَدِيقَةِ. فَاحْتَمَلُوهُ فَوْقَ الْحَجَفِ وَرَفَعُوهَا بِالرِّمَاحِ حَتَّى أَلْقَوْهُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِ سُورِهَا، فَلَمْ يَزَلْ يُقَاتِلُهُمْ دُونَ بَابِهَا حَتَّى فَتَحَهُ، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الْحَدِيقَةَ مِنْ حِيطَانِهَا وَأَبْوَابِهَا يَقْتُلُونَ مِنْ فِيهَا مِنَ الْمُرْتَدَّةِ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، حَتَّى خَلَصُوا إِلَى مُسَيْلِمَةَ، لَعَنَهُ اللَّهُ، وَإِذَا هُوَ وَاقِفٌ فِي ثُلْمَةِ جِدَارٍ، كَأَنَّهُ جَمَلٌ أَوْرَقُ، وَهُوَ مُزْبِدٌ مُتَسَانِدٌ، لَا يَعْقِلُ مِنَ الْغَيْظِ، وَكَانَ إِذَا اعْتَرَاهُ شَيْطَانُهُ أَزَبَدَ حَتَّى يَخْرُجَ الزَّبَدُ مِنْ
شِدْقَيْهِ، فَتَقَدَّمَ
إِلَيْهِ وَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ مَوْلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَاتِلُ
حَمْزَةَ، فَرَمَاهُ بِحَرْبَتِهِ فَأَصَابَهُ وَخَرَجَتْ مِنَ الْجَانِبِ
الْآخَرِ، وَسَارَعَ إِلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ، فَضَرْبَهُ
بِالسَّيْفِ فَسَقَطَ، فَنَادَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْقَصْرِ: وَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَاهْ، قَتَلَهُ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ. فَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ
قُتِلُوا فِي الْحَدِيقَةِ وَفِي الْمَعْرَكَةِ قَرِيبًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ
مُقَاتِلٍ - وَقِيلَ: أَحَدٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا - وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
سِتُّمِائَةٍ - وَقِيلَ: خَمْسُمِائَةٍ - فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِمْ مِنْ
سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، وَأَعْيَانِ النَّاسِ مَنْ يُذْكَرُ بَعْدُ، وَخَرَجَ
خَالِدٌ وَمَعَهُ مُجَّاعَةُ بْنُ مُرَارَةَ يَرْسِفُ فِي قُيُودِهِ، فَجَعَلَ
يُرِيَهُ الْقَتْلَى لِيُعَرِّفَهُ بِمُسَيْلِمَةَ، فَلَمَّا مَرُّوا
بِالرَّجَّالِ بْنِ عُنْفُوَةَ قَالَ لَهُ خَالِدٌ: أَهَذَا هُوَ ؟ قَالَ: لَا،
وَاللَّهِ هَذَا خَيْرٌ مِنْهُ، هَذَا الرَّجَّالُ بْنُ عُنْفُوَةَ.
قَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ: ثُمَّ مَرُّوا بِرُوَيْجِلٍ أُصَيْفِرَ أُخَيْنِسَ،
فَقَالَ: هَذَا صَاحِبُكُمْ. فَقَالَ خَالِدٌ: قَبَّحَكُمُ اللَّهُ عَلَى
اتِّبَاعِكُمْ هَذَا. ثُمَّ بَعَثَ خَالِدٌ الْخُيُولَ حَوْلَ الْيَمَامَةِ
يَلْتَقِطُونَ مَا حَوْلَ حُصُونِهَا مِنْ مَالٍ وَسَبْيٍ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى
غَزْوِ الْحُصُونِ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ فِيهَا إِلَّا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ
وَالشُّيُوخُ الْكِبَارُ، فَخَدَعَهُ
مُجَّاعَةُ فَقَالَ: إِنَّهَا مَلْأَى رِجَالًا وَمُقَاتِلَةً فَهَلُمَّ فَصَالِحْنِي عَنْهُمْ. فَصَالَحَهُ خَالِدٌ ; لِمَا رَأَى بِالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْجَهْدِ، وَقَدْ كَلُّوا مِنْ كَثْرَةِ الْحُرُوبِ وَالْقِتَالِ، فَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَذْهَبَ إِلَيْهِمْ لِيُوَافِقُونِي عَلَى الصُّلْحِ. فَقَالَ: اذْهَبْ. فَسَارَ إِلَيْهِمْ مُجَّاعَةُ، فَأَمَرَ النِّسَاءَ أَنْ يَلْبَسْنَ الْحَدِيدَ وَيَبْرُزْنَ عَلَى رُءُوسِ الْحُصُونِ، فَنَظَرَ خَالِدٌ فَإِذَا الشُّرُفَاتُ مُمْتَلِئَةٌ مِنْ رُءُوسِ النَّاسِ، فَظَنَّهُمْ كَمَا قَالَ مُجَّاعَةُ، فَانْتَظَمَ الصُّلْحُ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ وَالصَّفْرَاءِ وَالْحَلْقَةِ وَالْكُرَاعِ وَنِصْفِ الرَّقِيقِ. وَقِيلَ لِخَالِدٍ: إِنَّ مُجَّاعَةَ قَدْ خَدَعَكَ. فَقَالَ لَهُ: يَا مُجَّاعَةُ، خَدَعْتَنِي. فَقَالَ: إِنَّهُمْ قَوْمِي وَقَدْ أَفْنَيْتَهُمْ، فَلَا تَلُمْنِي عَلَى ذَلِكَ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ، خَطَبَ إِلَى مُجَّاعَةَ ابْنَتَهُ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ، فَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا، وَلَمَّا بَلَغَ أَبَا بَكْرٍ ذَلِكَ كَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّكَ لِفَارِغُ الْقَلْبِ ; تَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَحَوْلَ خِبَائِكَ أَلْفٌ