الثلاثاء، 3 أغسطس 2021

30//2. البداية والنهاية لابن كثير

 

البداية والنهاية لابن كثير    /30/2

فِي خَامِسِ الْمُحَرَّمِ كَانَ بُرُوزُ السُّلْطَانِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ قَاصِدًا بِلَادَ الشَّامِ ; لِمُنَاجَزَةِ الْأَعْدَاءِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ، وَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ عَهْدِهِ بِمِصْرَ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ أَغَارَ فِي طَرِيقِهِ عَلَى أَطْرَافِ بِلَادِ الْفِرِنْجِ بِأَرْضِ الْكَرَكِ وَجَعَلَ أَخَاهُ تَاجَ الْمُلُوكِ بُورِي بْنَ أَيُّوبَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ يَسِيرُ نَاحِيَةً عَنْهُ ; لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ بِلَادِ الْعَدُوِّ فَالْتَقَوْا عَلَى الْأَزْرَقِ بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَقَدْ أَغَارَ نَائِبُ دِمَشْقَ عِزُّ الدِّينِ فَرُّوخْشَاهْ عَلَى بِلَادِ طَبَرِيَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَافْتَتَحَ حُصُونًا جَيِّدَةً، وَأَسَرَ مِنْهُمْ أَلْفًا، وَغَنِمَ عِشْرِينَ أَلْفَ رَأْسٍ مِنَ الْأَنْعَامِ، بَيَّضَ اللَّهُ وَجْهَهُ. وَكَانَ دُخُولُ السُّلْطَانِ إِلَى دِمَشْقَ سَابِعَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ ثُمَّ خَرَجَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَاقْتَتَلَ مَعَ الْفِرِنْجِ فِي نَوَاحِي طَبَرِيَّةَ وَبَيْسَانَ تَحْتَ حِصْنِ كَوْكَبٍ، فَقُتِلَ خَلْقٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَكِنْ كَانَتِ الدَّائِرَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَرَجَعَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا.
ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ فِي جَحَافِلِهِ وَعَسَاكِرِهِ قَاصِدًا حَلَبَ وَبِلَادَ الشَّرْقِ لِيَأْخُذَهَا ; وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوَاصِلَةَ وَالْحَلَبِيِّينَ قَدْ كَاتَبُوا الْفِرِنْجَ حَتَّى يَغْزُوَا عَلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ ; لِيَشْغَلُوا النَّاصِرَ بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ، فَكَانَ مَسِيرُهُ عَلَى بِلَادِ الْبِقَاعِ ثُمَّ إِلَى حَمَاةَ ثُمَّ إِلَى حَلَبَ فَحَاصَرَهَا ثَلَاثًا، وَرَأَى الْعُدُولَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا أَوْلَى بِهِ،

فَسَارَ حَتَّى قَطَعَ الْفُرَاتَ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى بِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَالْخَابُورَ وَحَرَّانَ وَالرُّهَا وَالرَّقَّةَ وَنَصِيبِينَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَخَضَعَتْ لَهُ الْمُلُوكُ هُنَالِكَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى حَلَبَ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ صَاحِبِهَا عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ وَقَدْ كَانَ قَايَضَ أَخَاهُ عِزَّ الدِّينِ مَسْعُودًا بِهَا إِلَى سِنْجَارَ، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، فَاسْتَوْسَقَتْ لَهُ الْمَمَالِكُ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَبُعْدًا وَقُرْبًا، وَتَمَكَّنَ حِينَئِذٍ مِنْ قِتَالِ أَعْدَائِهِ مِنَ الْفِرِنْجِ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - وَأَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْ نَوَاصِيهِمْ، فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَوْلَاهُ.

فَصْلٌ
وَلَمَّا عَجَزَ إِبْرَنْسُ الْكَرَكِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - عَنْ إِيصَالِ الْأَذَى لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْبَرِّ، عَمِلَ مَرَاكِبَ فِي بَحْرِ الْقُلْزُمِ ; لِيَقْطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى التُّجَّارِ وَالْحُجَّاجِ، فَوَصَلَتْ أَذِيَّتُهُمْ إِلَى عَيْذَابَ، وَخَافَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ شَرِّهِمْ، فَأَمَرَ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرٍ - نَائِبُ مِصْرَ الْأَمِيرَ حُسَامَ الدِّينِ - لُؤْلُؤًا صَاحِبَ الْأُسْطُولِ أَنْ يَعْمَلَ مَرَاكِبَهُ فِي بَحْرِ الْقُلْزُمِ لِمُحَارَبَةِ أَصْحَابِ إِبْرَنْسَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ فَظَفِرُوا بِهِمْ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ وَحَرَّقُوا وَغَرَّقُوا وَسَبَوْا وَقَهَرُوا وَأَسَرُوا فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، وَمَوَاقِفَ هَائِلَةٍ كَبِيرَةٍ، وَأَمِنَ الْبَرُّ وَالْبَحْرُ بِإِذْنِ اللَّهِ الَّذِي بِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى أَخِيهِ يَشْكُرُ مِنْ مَسَاعِيهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى دِيوَانِ الْخِلَافَةِ يُعَرِّفُهُمْ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْفُتُوحَاتِ بَرًّا وَبَحْرًا، وَبِمَا هُوَ مُتَقَلِّبٌ فِيهِ مِنْ أَنْعُمِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ سِرًّا وَجَهْرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَصْلٌ فِي وَفَاةِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ عِزِّ الدِّينِ
فَرُّوخْشَاهْ بْنِ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ صَاحِبِ بَعْلَبَكَّ وَنَائِبِ دِمَشْقَ لِعَمِّهِ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَهُوَ وَالِدُ الْمَلِكِ الْأَمْجَدِ بَهْرَامْ شَاهْ صَاحِبِ بَعْلَبَكَّ أَيْضًا بَعْدَ أَبِيهِ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْمَدْرَسَةُ الْفَرُّوخْشَاهِيَّةُ بِالشَّرْقِ الشَّمَالِيِّ، وَإِلَى جَانِبِهَا التُّرْبَةُ الْأَمْجَدِيَّةُ لِوَلَدِهِ، وَهُمَا وَقْفٌ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ فَرُّوخْشَاهْ شَهْمًا شُجَاعًا بَطَلًا عَاقِلًا ذَكِيًّا فَاضِلًا كَرِيمًا مُمَدَّحًا، امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ لِجُودِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ أَصْحَابِ الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ أَبِي الْيُمْنِ الْكِنْدِيِّ، عَرَفَهُ مِنْ مَجْلِسِ الْقَاضِي الْفَاضِلِ لَهُ، وَلِلْعِمَادِ الْكَاتِبِ فِيهِ مَدَائِحُ بَدَائِعُ، وَلَهُ هُوَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، شِعْرٌ رَائِقٌ لَطِيفٌ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
أَنَا فِي أَسْرِ السِّقَامِ مِنْ هَوَى هَذَا الْغُلَامِ رَشَأٌ تَرْشُقُ عَيْنًا
هُ فُؤَادِي بِسِهَامِ كُلَّمَا أَرْشَفَنِي فَا
هُ عَلَى حَرِّ الْأُوَامِ ذُقْتُ مِنْهُ الشَّهْدَ فِي الثَّلْ
جِ الْمُصَفَّى فِي الْمُدَامِ
وَكَانَ ابْنُهُ الْمَلِكُ الْأَمْجَدُ شَاعِرًا جَيِّدًا أَيْضًا، وَقَدْ وَلَّاهُ عَمُّ أَبِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ بَعْلَبَكَّ بَعْدَ أَبِيهِ، وَاسْتَمَرَّ فِيهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، وَمِنْ مَحَاسِنِ الْمَنْصُورِ عِزِّ الدِّينِ فَرُّوخْشَاهْ صُحْبَتُهُ لِتَاجِ الدَّيْنِ الْكِنْدِيِّ، وَلَهُ فِي الْكِنْدِيِّ مَدَائِحُ، وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ ذَلِكَ كُلَّهُ مُسْتَقْصًى فِي " الرَّوْضَتَيْنِ " ; وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ دَخَلَ يَوْمًا

إِلَى الْحَمَّامِ فَرَأَى رَجُلًا كَانَ يَعْرِفُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ، وَقَدْ نَزَلَ بِهِ الْحَالُ حَتَّى إِنَّهُ تَسَتَّرَ بِبَعْضِ يَدَيْهِ حَتَّى لَا يَبْدُوَ جِسْمُهُ، فَرَقَّ لَهُ وَأَمَرَ غُلَامَهُ أَنْ يَنْقُلَ بَقُجَّةً وَبِسَاطًا إِلَى مَوْضِعِ الرَّجُلِ، وَأَحْضَرَ بِهِ بَغْلَةً وَأَلْفَ دِينَارٍ وَتَوْقِيعًا لَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ بِعِشْرِينَ دِينَارًا، فَدَخَلَ الرَّجُلُ مِنْ أَفْقَرِ النَّاسِ، وَخَرَجَ وَهُوَ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ، فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى الْأَجْوَادِ الْأَكْيَاسِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الشَّيْخُ أَبُو الْعَبَّاسِ الرِّفَاعِيُّ
أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الرِّفَاعِيِّ، شَيْخُ الطَّائِفَةِ الْأَحْمَدِيَّةِ وَالرِّفَاعِيَّةِ الْبَطَائِحِيَّةِ لِسُكْنَاهُ أُمَّ عَبِيدَةَ مِنْ قُرَى الْبَطَائِحِ وَهِيَ بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَوَاسِطٍ، كَانَ أَصْلُهُ مِنَ الْعَرَبِ فَسَكَنَ هَذِهِ الْبِلَادَ، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ حَفِظَ " التَّنْبِيهَ " فِي الْفِقْهِ. وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلِأَتْبَاعِهِ أَحْوَالٌ عَجِيبَةٌ مِنْ أَكْلِ الْحَيَّاتِ وَهِيَ حَيَّةٌ، وَالنُّزُولِ فِي التَّنَانِيرِ وَهِيَ تَضْطَرِمُ، فَيُطْفِئُونَهَا، وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ فِي بِلَادِهِمْ يَرْكَبُونَ الْأُسْوَدَ. قَالَ: وَلَيْسَ لِلشَّيْخِ أَحْمَدَ عَقِبٌ، وَإِنَّمَا النَّسْلُ لِأَخِيهِ، وَذُرِّيَّتُهُ يَتَوَارَثُونَ الْمَشْيَخَةَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ. وَقَالَ: وَمِنْ شِعْرِ الشَّيْخِ أَحْمَدَ، عَلَى مَا قِيلَ:
إِذَا جَنَّ لَيْلِي هَامَ قَلْبِي بِذِكْرِكُمْ أَنُوحُ كَمَا نَاحَ الْحَمَامُ الْمُطَوَّقُ

وَفَوْقِي سَحَابٌ يُمْطِرُ الْهَمَّ وَالْأَسَى
وَتَحْتِي بِحَارٌ بِالْأَسَى تَتَدَفَّقُ سَلُوا أُمَّ عَمْرٍو كَيْفَ بَاتَ أَسِيرُهَا
تُفَكُّ الْأُسَارَى دُونَهُ وَهْوَ مُوثَقُ فَلَا هُوَ مَقْتُولٌ فَفِي الْقَتْلِ رَاحَةٌ
وَلَا هُوَ مَمْنُونٌ عَلَيْهِ فَيُطْلَقُ
وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
أَغَارُ عَلَيْهَا مِنْ أَبِيهَا وَأُمِّهَا وَمِنْ كُلِّ مَنْ يَدْنُو إِلَيْهَا وَيَنْظُرُ
وَأَحْذَرُ لِلْمِرْآةِ أَيْضًا بِكَفِّهَا إِذَا نَظَرَتْ مِنْكِ الَّذِي أَنَا أَنْظُرُ
قَالَ: وَلَمْ يَزَلْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
خَلَفُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ بَشْكُوَالَ
أَبُو الْقَاسِمِ الْقُرْطُبِيُّ الْحَافِظُ الْمُحَدِّثُ الْمُؤَرِّخُ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ، لَهُ كِتَابُ " الصِّلَةِ " جَعَلَهُ ذَيْلًا عَلَى تَارِيخِ أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ الْفَرَضِيِّ، وَلَهُ كِتَابُ " الْمُسْتَغِيثِينَ بِاللَّهِ "، وَلَهُ مُجَلَّدٌ فِي تَعْيِينِ الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ فِي الرِّوَايَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ الْخَطِيبِ، وَأَسْمَاءِ مَنْ رَوَى " الْمُوَطَّأَ "، عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، بَلَغُوا ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ رَجُلًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ.

الْعَلَّامَةُ قُطْبُ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي
مَسْعُودُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ النَّيْسَابُورِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى صَاحِبِ الْغَزَالِيِّ، قَدِمَ دِمَشْقَ وَدَرَّسَ بِالْغَزَّالِيَّةِ وَالْمُجَاهِدِيَّةِ، وَبِحَلَبَ بِمَدْرَسَةِ نُورِ الدِّينِ وَأَسَدِ الدِّينِ، ثُمَّ بِهَمَذَانَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ وَدَرَّسَ بِالْغَزَّالِيَّةِ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الْمَذْهَبِ، وَمَاتَ بِهَا فِي سَلْخِ رَمَضَانَ يَوْمَ الْعِيدِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، عَنْ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَعَنْهُ أَخَذَ الْفَخْرُ بْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَى الْحَافِظِ ابْنِ عَسَاكِرَ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ مُحَرَّمِهَا تَسَلَّمَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ مَدِينَةَ آمِدَ صُلْحًا بَعْدَ حِصَارٍ طَوِيلٍ، مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا ابْنِ نِيسَانَ، بَعْدَمَا حَمَلَ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ وَأَثْقَالِهِ مُدَّةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَمَّا تَسَلَّمَ السُّلْطَانُ الْبَلَدَ وَجَدَ فِيهِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْحَوَاصِلِ وَآلَاتِ الْحَرْبِ وَالسِّلَاحِ، حَتَّى إِنَّهُ وَجَدَ بُرْجًا مَمْلُوءًا بِنُصُولِ النُّشَّابِ، وَبُرْجًا آخَرَ فِيهِ مِائَةُ أَلْفِ شَمْعَةٍ، وَأَشْيَاءَ يَطُولُ شَرْحُهَا، وَوَجَدَ فِيهَا خِزَانَةَ كُتُبٍ فِيهَا أَلْفُ أَلْفِ مُجَلَّدٍ، وَأَرْبَعُونَ أَلْفَ مُجَلَّدٍ، فَوَهَبَهَا كُلَّهَا لِلْقَاضِي الْفَاضِلِ، فَانْتَخَبَ مِنْهَا حِمْلَ سَبْعِينَ حِمَارَةٍ. ثُمَّ وَهَبَ السُّلْطَانُ الْبَلَدَ بِمَا فِيهِ لِنُورِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ قَرَا أَرْسَلَانَ - وَكَانَ قَدْ وَعَدَهُ بِهَا - فَقِيلَ لَهُ: فَإِنَّ الْحَوَاصِلَ لَمْ تَدْخُلْ فِي وَعْدِكَ. فَقَالَ: لَا أَبْخَلُ بِهَا عَلَيْهِ - وَكَانَ فِي خِزَانَتِهَا ثَلَاثَةُ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ - وَقَدْ صَارَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَنْصَارِنَا. فَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ الْحَسَنِ الْجَمِيلِ، وَهُوَ حَقِيقٌ بِالثَّنَاءِ وَالْجَزَاءِ الْجَزِيلِ، وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ قَصِيدَةٍ لَهُ فِي السُّلْطَانِ:
قُلْ لِلْمُلُوكِ تَنَحَّوا عَنْ مَمَالِكِكُمْ فقَدْ أَتَى آخِذُ الدُّنْيَا وَمُعْطِيهَا

ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ فِي بَقِيَّةِ الْمُحَرَّمِ إِلَى مَدِينَةِ حَلَبَ فَنَازَلَهَا وَحَاصَرَهَا، وَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا قِتَالًا جَيِّدًا، وَجُرِحَ أَخُو السُّلْطَانِ تَاجُ الْمُلُوكِ بُورِي بْنُ أَيُّوبَ جُرْحًا بَلِيغًا، فَمَاتَ مِنْهُ بَعْدَ أَيَّامٍ وَكَانَ أَصْغَرَ أَوْلَادِ أَيُّوبَ، لَمْ يَبْلُغْ عِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: بَلْ جَاوَزَهَا بِسَنَتَيْنِ، وَكَانَ ذَكِيًّا فَهِمًا، لَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ لَطِيفٍ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ أَخُوهُ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ حُزْنًا شَدِيدًا، وَدَفَنَهُ بِحَلَبَ، ثُمَّ نَقَلَهُ إِلَى دِمَشْقَ ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ بَيْنَ السُّلْطَانِ وَبَيْنَ صَاحِبِ حَلَبَ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيِّ بْنِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِيِّ بْنِ آقْ سُنْقُرَ عَلَى عِوَضٍ أَطْلَقَهُ وَهُوَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ سِنْجَارَ وَيُسَلِّمَهُ الْبَلَدَ، فَخَرَجَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِيٌّ، وَجَاءَ إِلَى خِدْمَةِ السُّلْطَانِ، وَعَزَّاهُ فِي أَخِيهِ، وَنَزَلَ عِنْدَهُ فِي الْمُخَيَّمِ، وَنَقَلَ أَثْقَالَهُ إِلَى سِنْجَارَ وَزَادَهُ السُّلْطَانُ الْخَابُورَ وَالرَّقَّةَ وَنَصِيبِينَ وَسَرُوجَ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ إِرْسَالَ الْعَسْكَرِ فِي الْخِدْمَةِ لِلْغُزَاةِ، ثُمَّ سَارَ وَوَدَّعَهُ السُّلْطَانُ وَمَكَثَ السُّلْطَانُ فِي الْمُخَيَّمِ أَيَّامًا غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِحَلَبَ، وَلَا مُسْتَكْثِرٍ لَهَا وَلَا بِهَا، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى قَلْعَتِهَا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ سَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مَحْبُورًا، وَعَمِلَ لَهُالْأَمِيرُ طَمَّانُ وَلِيمَةً عَظِيمَةً، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا فَسَمِعَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ دَاخِلٌ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [ آلِ عِمْرَانَ: 26 ] الْآيَةَ. وَلَمَّا دَخَلَ دَارَ الْمَلِكِ تَلَا: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [ الْأَحْزَابِ: 27 ] وَلَمَّا دَخَلَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَأَطَالَ السُّجُودَ وَالدُّعَاءَ وَالتَّضَرُّعَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ شَرَعَ فِي عَمَلِ وَلِيمَةٍ عَظِيمَةٍ، وَقَدْ ضُرِبَتِ الْبَشَائِرُ، وَخَلَعَ السُّلْطَانُ عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَأَحْسَنَ إِلَى الرُّؤَسَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَأَلْقَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وَقَضَتِ الْقُلُوبُ أَوْطَارَهَا.
وَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ

وَقَدِ امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ عِنْدَ فَتْحِ حَلَبَ بِمَدَائِحَ حِسَانٍ، وَكَانَتْ قَدْ وَقَعَتْ مِنْهُ مَوْقِعًا عَظِيمًا، حَتَّى إِنَّهُ قَالَ: مَا سُرِرْتُ بِفَتْحِ قَلْعَةٍ أَعْظَمَ سُرُورًا مِنْ فَتْحِ مَدِينَةِ حَلَبَ. وَأَسْقَطَ عَنْهَا وَعَنْ سَائِرِ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ الْمُكُوسَ وَالضَّرَائِبَ، وَكَذَلِكَ عَنْ بِلَادِ الشَّامِ وَمِصْرَ، فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
وَقَدْ كَانَتِ الْفِرِنْجُ فِي غَيْبَةِ السُّلْطَانِ وَاشْتِغَالِهِ بِبِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَتِلْكَ الْأُمُورِ، قَدْ عَاثَتْ فِي الْبِلَادِ بِالْإِفْسَادِ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَاغْتَنَمَتِ الثَّعَالِبُ غَيْبَةَ الْأَسَدِ فَجَالَتْ حَوْلَ الْعَرِينِ وَهِيَ تَظُنُّ ذَلِكَ خَيَالًا، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى عَسَاكِرِهِ ; لِيَجْتَمِعُوا إِلَيْهِ وَيَكُونُوا بَيْنَ يَدَيْهِ ; لِيَتَصَدَّى بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ الْعَدُوِّ الْمَخْذُولِ، وَكَانَ قَدْ بُشِّرَ بِفَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حِينَ فَتَحَ حَلَبَ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْفَقِيهَ مَجْدَ الدِّينِ بْنَ جَهْبَلٍ الشَّافِعِيَّ رَأَى فِي تَفْسِيرِ أَبِي الْحَكَمِ بْنِ بَرَّجَانَ الْمَغْرِبِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ [ الرُّومِ: 1 ] الْآيَةَ. الْبِشَارَةَ بِفَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ، فَكَتَبَ ذَلِكَ فِي وَرَقَةٍ وَأَعْطَاهَا لِلْفَقِيهِ عِيسَى الْهَكَّارِيِّ ; لِيُبَشِّرَ بِهَا السُّلْطَانَ، فَلَمْ يَتَجَاسَرْ عَلَى ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ، فَأَعْلَمَ بِذَلِكَ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنَ الزَّكِيِّ، فَنَظَمَ مَعْنَاهَا فِي قَصِيدَةٍ يَقُولُ فِيهَا:
وَفَتْحُكُمْ حَلَبَ الشَّهْبَاءِ فِي صَفَرٍ قَضَى لَكُمْ بِافْتِتَاحِ الْقُدْسِ فِي رَجَبِ
وَقَدَّمَهَا لِلسُّلْطَانِ فَقَوِيَتْ هِمَّةُ السُّلْطَانِ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا افْتَتَحَهَا - كَمَا سَيَأْتِي - أَمَرَ الْقَاضِي فَخَطَبَ يَوْمَئِذٍ وَكَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ جَهْبَلٍ هُوَ الَّذِي اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلًا، أَمَرَهُ فَدَرَّسَ عَلَى نَفْسِ الصَّخْرَةِ دَرْسًا عَظِيمًا،

وَأَجْزَلَ لَهُ الْعَطَاءَ وَأَحْسَنَ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ.

فَصْلٌ
ثُمَّ رَحَلَ السُّلْطَانُ مِنْ حَلَبَ فِي أَوَاخِرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ بِجُيُوشِهِ وَعَسَاكِرِهِ وَقَدْ جَعَلَ فِيهَا وَلَدَهُ الظَّاهِرَ غَازِيًا، وَوَلَّى قَضَاءَهَا لِمُحْيِي الدِّينِ بْنِ الزَّكِيِّ، فَاسْتَنَابَ لَهُ فِيهَا نَائِبًا، وَرَجَعَ هُوَ مَعَ السُّلْطَانِ فِي خِدْمَتِهِ، فَاجْتَازَ بِحَمَاةَ ثُمَّ بِحِمْصَ ثُمَّ عَلَى بَعْلَبَكَّ ثُمَّ دَخَلَ دِمَشْقَ فِي ثَالِثِ جُمَادَى الْأُولَى مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ وَنِعْمَةٍ جَسِيمَةٍ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَمِنْ نِيَّتِهِ الْخُرُوجُ سَرِيعًا إِلَى قِتَالِ الْفِرِنْجِ، فَبَرَزَ مِنْهَا فِي أَوَّلِ جُمَادَى الْآخِرَةِ فِي جَحَافِلِهِ قَاصِدًا نَحْوَ الْقُدْسِ الشَّرِيفِ، فَانْتَهَى إِلَى بَيْسَانَ فَنَهَبَهَا، وَنَزَلَ عَلَى عَيْنِ جَالُوتَ وَأَرْسَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ سَرِيَّةً هَائِلَةً فِيهَا جُرْدَيْكُ وَطَائِفَةٌ مِنَ النُّورِيَّةِ، وَجَاوْلِي مَمْلُوكُ عَمِّهِ أَسَدِ الدِّينِ، فَوَجَدُوا جَيْشَ الْكَرَكِ مِنَ الْفِرِنْجِ قَاصِدِينَ إِلَى أَصْحَابِهِمْ ; نَجْدَةً لَهُمْ، فَالْتَقَوْا مَعَهُمْ فَقَتَلُوا مِنَ الْفِرِنْجِ خَلْقًا كَثِيرًا وَأَسَرُوا مِائَةَ أَسِيرٍ، وَلَمْ يُفْقَدْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِوَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ عَادَ فِي آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَبَلَغَ السُّلْطَانَ أَنَّ الْفِرِنْجَ قَدِ اجْتَمَعُوا لِقِتَالِهِ، فَقَصَدَهُمْ وَتَصَدَّى لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يُصَافُّونَهُ، فَنَكَّلُوا عَنْهُ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَطْرَافِهِمْ وَجَرَحَ مِثْلَهُمْ، فَرَجَعُوا نَاكِصِينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ خَائِفِينَ مِنْهُ غَايَةَ الْمَخَافَةِ ; لِكَثْرَةِ جَيْشِهِ، وَهُوَ خَلْفَهُمْ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ حَتَّى غَوَّرُوا فِي بِلَادِهِمْ، فَرَجَعَ عَنْهُمْ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، وَكَتَبَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُعْلِمُهُ بِمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ نَصْرِهِمْ عَلَى الْفِرِنْجِ، وَكَانَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ إِلَّا طَالَعَ

بِذَلِكَ الْخَلِيفَةِ ; أَدَبًا وَاحْتِرَامًا وَطَاعَةً وَاحْتِشَامًا.

فَصْلٌ
وَفِي رَجَبٍ سَارَ السُّلْطَانُ إِلَى الْكَرَكِ فَحَاصَرَهَا وَفِي صُحْبَتِهِ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ ابْنُ أَخِيهِ، وَقَدْ كَتَبَ إِلَى أَخِيهِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرٍ لِيَحْضُرَ إِلَيْهِ لِيُوَلِّيَهُ حَلَبَ وَأَعْمَالَهَا وَفْقَ مَا كَانَ طَلَبَ مِنْهُ، وَاسْتَمَرَّ الْحِصَارُ عَلَى الْكَرَكِ مُدَّةَ شَهْرِ رَجَبٍ، فَلَمْ يَظْفَرْ مِنْهَا بِطَلَبٍ، وَبَلَغَهُ أَنَّ الْفِرِنْجَ قَدِ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ لِيَمْنَعُوا مِنْهُ الْكَرَكَ فَكَرَّ رَاجِعًا إِلَى دِمَشْقَ ; لِيَلْقَاهُمْ - وَذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّهِ وَأَعْظَمِ طَلَبِهِ - وَأَرْسَلَ ابْنَ أَخِيهِ تَقِيَّ الدِّينِ عُمَرَ إِلَى مِصْرَ نَائِبًا، وَفِي صُحْبَتِهِ الْقَاضِي الْفَاضِلُ، وَبَعَثَ أَخَاهُ عَلَى مَمْلَكَةِ حَلَبَ وَأَعْمَالِهَا، وَاسْتَقَدْمَ وَلَدَهُ الظَّاهِرَ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ نُوَّابَهُ وَمَنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَعْطَى السُّلْطَانُ أَخَاهُ الْعَادِلَ حَلَبَ لِيَكُونَ قَرِيبًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَقْطَعُ أَمْرًا دُونَ مَشُورَتِهِ، وَاقْتَرَضَ النَّاصِرُ مِنْ أَخِيهِ أَبِي بَكْرٍ الْعَادِلِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَتَأَلَّمَ الظَّاهِرُ بْنُ النَّاصِرِ عَلَى مُفَارَقَةِ حَلَبَ وَكَانَتْ إِقَامَتُهُ الْأَوْلَى بِهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَلَكِنَّهُ لَا يُظْهِرُ مَا فِي نَفْسِهِ لِوَالِدِهِ، لَكِنْ يَظْهَرُ ذَلِكَ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى الْعَسَاكِرِ الْحَلَبِيَّةِ وَالْجَزَرِيَّةِ وَالْمِصْرِيَّةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ مِنْ مِصْرَ وَمَعَهُ الْقَاضِي الْفَاضِلُ، وَجَاءَ مِنْ حَلَبَ أَبُو بَكْرٍ الْعَادِلُ، وَقَدِمَتْ مُلُوكُ الْجَزِيرَةِ وَسِنْجَارَ وَتِلْكَ النَّوَاحِي وَالْأَقْطَارِ، وَأَخَذَهَا كُلَّهَا مَعَ جَيْشِهِ، فَسَارَ بِهَا إِلَى الْكَرَكَ فَأَحْدَقُوا بِهَا فِي رَابِعَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى، وَرَكَّبَ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، وَكَانَتْ تِسْعَةً، وَأَخَذَ فِي حِصَارِهَا ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ فَتْحَهَا الْآنَ أَنْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمْ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى الْحَجِيجِ وَالتُّجَّارِ فِي الْبَرَارِي وَالْبِحَارِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَلَغَهُ أَنَّ الْفِرِنْجَ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ كُلُّهُمْ فَارِسُهُمْ وَرَاجِلُهُمْ ; لِيَمْنَعُوا مِنْهُ الْكَرَكَ فَانْشَمَرَ عَنْهَا وَقَصَدَهُمْ، فَنَزَلَ عَلَى حُسْبَانَ تُجَاهَهُمْ، ثُمَّ صَارَ إِلَى مَاءِ عَيْنٍ، فَانْهَزَمَتِ الْفِرِنْجُ قَاصِدِينَ الْكَرَكَ فَأَرْسَلَ وَرَاءَهُمْ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَأَمَرَ السُّلْطَانُ الْجُيُوشَ بِالْإِغَارَةِ عَلَى السَّوَاحِلِ ; لِخُلُوِّهَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، فَنَهَبَتْ نَابُلُسَ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقَرَايَا وَالرَّسَاتِيقِ، ثُمَّ عَادَ السُّلْطَانُ إِلَى دِمَشْقَ فَأَذِنَ لِلْعَسَاكِرِ فِي الِانْصِرَافِ إِلَى بُلْدَانِهِمُ الشَّتَّى، وَأَمَرَ ابْنَ أَخِيهِ تَقِيَّ الدِّينِ عُمَرَ الْمَلِكَ الْمُظَفَّرَ أَنْ يَعُودَ إِلَى مِصْرَ بِعَسْكَرِهِ، وَكَذَلِكَ أَخَاهُ الْعَادِلَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الشَّهْبَاءِ، وَأَقَامَ السُّلْطَانُ بِدِمَشْقَ ;

لِيُؤَدِّيَ فَرْضَ الصِّيَامِ، وَلِتَجِمَّ الْخَيْلُ وَيُحَدَّ الْحُسَامَ، وَقَدِمَتْ عَلَى السُّلْطَانِ خِلَعُ الْخَلِيفَةِ فَلَبِسَهَا، وَأَلْبَسَ أَخَاهُالْعَادِلَ، وَابْنَ عَمِّهِ نَاصِرَ الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ شِيرَكُوهْ، ثُمَّ خَلَعَ السُّلْطَانُ خِلْعَتَهُ عَلَى نَاصِرِ الدِّينِ بْنِ قَرَا أَرْسَلَانَ، صَاحِبِ حِصْنِ كَيْفَا وَخَرْتَبِرْتَ وَآمِدَ الَّتِي أَطْلَقَهَا لَهُ السُّلْطَانُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ ابْنُ عَمِّهِ صَاحِبُ مَارْدِينَ وَمَيَّافَارْقِينَ وَتِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ قُطْبُ الدِّينِ إِيلِغَازِي بْنُ أَلْبِي بْنِ تَمُرْتَاشَ بْنِ إِيلِغَازِي بْنِ أُرْتُقَ، فَقَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ عَشْرُ سِنِينَ.
وَفِيهَا مَاتَ صَاحِبُ الْمَغْرِبِ - أَيْضًا - يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ عَلِيٍّ وَقَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ يَعْقُوبُ.
وَفِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ بَلَغَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ أَنَّ صَاحِبَ الْمَوْصِلِ نَازِلٌ إِرْبِلَ، فَبَعَثَ صَاحِبُهَا يَسْتَصْرِخُ بِالسُّلْطَانِ، فَرَكِبَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَيْهِ فِي جُنُودِهِ وَعَسَاكِرِهِ، فَسَارَ إِلَى بَعْلَبَكَّ ثُمَّ إِلَى حِمْصَ ثُمَّ إِلَى حَمَاةَ، فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا يَنْتَظِرُ وُصُولَ الْعِمَادِ الْكَاتِبِ إِلَيْهِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ ضَعْفٌ فَأَقَامَ بِبَعْلَبَكَّ رَيْثَمَا اسْتَبَلَّ مِنْ مَرَضِهِ، وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنْ دِمَشْقَ حَكِيمًا يُقَالُ لَهُ: أَسْعَدُ بْنُ إِلْيَاسَ الْمُطْرَانُ. فَعَالَجَهُ مُعَالَجَةَ مَنْ طَبَّ لِمَنْ حَبَّ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالسُّلْطَانُ مُخَيِّمٌ بِظَاهِرِ حَمَاةَ، فَسَارَ إِلَى حَلَبَ وَتَلَقَّاهُ أَخُوهُ الْعَادِلُ، وَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ الْعَسَاكِرُ، فَخَرَجَ مِنْهَا فِي صَفَرٍ ; لِقَصْدِ الْمَوْصِلِ فَقَطَعَ الْفُرَاتَ، وَجَاءَ إِلَى حَرَّانَ فَقَبَضَ عَلَى صَاحِبِهَا مُظَفَّرِ الدِّينِ بْنِ زَيْنِ الدِّينِ، وَهُوَ أَخُو زَيْنِ الدِّينِ صَاحِبِ إِرْبِلَ، ثُمَّ رَضِيَ عَنْهُ، وَأَعَادَهُ إِلَى مَمْلَكَتِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حُسْنَ طَوِيَّتِهِ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى الْمَوْصِلِ فَتَلَقَّاهُ الْمُلُوكُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَجَاءَ إِلَى خِدْمَتِهِ عِمَادُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ بْنُ قَرَا أَرْسَلَانَ صَاحِبُ بِلَادِ بِكْرٍ وَآمِدَ، ثُمَّ بَلَغَهُ مَوْتُ أَخِيهِ نُورِ الدِّينِ أَرْسَلَانَ، فَطَلَبَ دُسْتُورًا ; لِأَخْذِ مَمْلَكَتِهِ فَأَعْطَاهُ، وَسَارَ السُّلْطَانُ فَنَزَلَ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيَّاتِ قَرِيبًا مِنَ الْمَوْصِلِ وَجَاءَهُ صَاحِبُ إِرْبِلَ زَيْنُ الدِّينِ وَهُوَ مِمَّنْ خَضَعَ لَهُ مُلُوكُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ ضِيَاءَ الدِّينِ بْنَ كَمَالِ الدِّينِ الشَّهْرُزُورِيَّ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُعْلِمُهُ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ حِصَارِ الْمَوْصِلِ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ رَدُّهُمْ إِلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ، وَنُصْرَةِ الْإِسْلَامِ، فَحَاصَرَهَا مُدَّةً، ثُمَّ تَرَحَّلَ عَنْهَا فِي آخِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَفْتَحْهَا، وَسَارَ إِلَى خِلَاطَ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى بُلْدَانٍ كَثِيرَةٍ، وَأَقَالِيمَ جَمَّةٍ بِبِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَدِيَارِ بَكْرٍ، وَجَرَتْ أُمُورٌ طَوِيلَةٌ قَدِ اسْتَقْصَاهَا ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " الْكَامِلِ " وَصَاحِبُ " الرَّوْضَتَيْنِ "، ثُمَّ وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوَاصِلَةِ، عَلَى أَنْ يَكُونُوا مَنْ جُنْدِهِ إِذَا نَدَبَهُمْ لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ، وَعَلَى أَنْ

يَخْطُبَ لَهُ، وَتُضْرَبَ السِّكَّةُ بِاسْمِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ كُلِّهَا، وَانْقَطَعَتْ خُطْبَةُ السَّلَاجِقَةِ وَالْأَزِيقِيَّةِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ كُلِّهَا، وَاتَّفَقَ الْحَالُ وَزَالَ الْإِشْكَالُ.
وَاتَّفَقَ أَنَّهُ مَرِضَ بَعْدَ هَذَا مَرَضًا شَدِيدًا، وَهُوَ يَتَجَلَّدُ وَلَا يُظْهِرُ شَيْئًا مِنَ التَّأَلُّمِ حَتَّى قَوِيَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَتَزَايَدَ الْحَالُ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى حَرَّانَ فَخَيَّمَ هُنَالِكَ مِنْ شِدَّةِ أَلَمِهِ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْبِلَادِ، فَخَافَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَأَرْجَفَ الْكَفَرَةُ وَالْمُلْحِدُونَ، وَخَافَ أَهْلُ الْبِرِّ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَقَصَدَهُ أَخُوهُ أَبُو بَكْرٍ الْعَادِلُ مِنْ حَلَبَ بِالْأَطِبَّاءِ وَالْأَدْوِيَةِ، فَوَجَدَهُ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يُوصِيَ وَيَعْهَدَ، فَقَالَ: مَا أُبَالِي وَأَنَا أَتْرُكُ مِنْ بَعْدِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا - يَعْنِي أَخَاهُ الْعَادِلَ صَاحِبَ حَلَبَ وَتَقِيَّ الدِّينِ عُمَرَ صَاحِبَ حَمَاةَ وَهُوَ إِذْ ذَاكَ نَائِبُ مِصْرَ وَهُوَ بِهَا مُقِيمٌ، وَابْنَيْهِ الْعَزِيزَ عُثْمَانَ وَالْأَفْضَلَ عَلَّيَا - ثُمَّ نَذَرَ لِلَّهِ تَعَالَى لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ مِنْ مَرَضِهِ هَذَا لَيَصْرِفَنَّ هِمَّتَهُ كُلَّهَا إِلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ، وَلَا يُقَاتِلُ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْلِمًا، وَلَيَجْعَلَنَّ أَكْبَرَ هَمِّهِ فَتْحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلَوْ صَرَفَ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالذَّخَائِرِ وَلَيَقْتُلَنَّ الْبِرِنْسَ صَاحِبَ الْكَرَكِ بِيَدِهِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَقَضَ الْعَهْدَ الذى عَاهَدَ السُّلْطَانَ عَلَيْهِ فَغَدَرَ بِقَافِلَةٍ مِنْ تُجَّارِ مِصْرَ، فَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، وَضَرَبَ رِقَابَهُمْ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَيْنَ مُحَمَّدُكُمْ يَنْصُرُكُمْ ؟ وَكَانَ هَذَا النَّذْرُ كُلُّهُ بِإِشَارَةِ الْقَاضِي الْفَاضِلِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ الَّذِي أَرْشَدَهُ إِلَى ذَلِكَ وَحَثَّهُ عَلَيْهِ، حَتَّى عَقَدَهُ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَشَفَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَافَاهُ مِمَّا كَانَ ابْتَلَاهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ الَّذِي كَانَ فِيهِ ; كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِ وَرَفْعٌ لِدَرَجَتِهِ وَنُصْرَةٌ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَجَاءَتِ الْبَشَائِرُ بِذَلِكَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَزُيِّنَتِ الْبِلَادُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَكَتَبَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنْ دِمَشْقَ وَهُوَ مُقِيمٌ بِهَا إِلَى الْمُظَفَّرِ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ

نَائِبِ مِصْرَ لِعَمِّهِ النَّاصِرِ ; أَنَّ الْعَافِيَةَ النَّاصِرِيَّةَ قَدِ اسْتَفَاضَتْ أَخْبَارُهَا، وَأَنْوَارُهَا وَآثَارُهَا، وَوَلَّتِ الْعِلَّةُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَأُطْفِئَتْ نَارُهَا، وَانْجَلَى غُبَارُهَا، وَخَمَدَ شَرَارُهَا، وَمَا كَانَتْ إِلَّا فَلْتَةً وَقَى اللَّهُ شَرَّهَا، وَعَظِيمَةً كَفَى اللَّهُ الْإِسْلَامَ أَمْرَهَا، وَنَوْبَةً امْتَحَنَ اللَّهُ بِهَا نُفُوسَنَا، فَرَأَى أَقَلَّ مَا عِنْدَهَا صَبْرَهَا، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ الدُّعَاءَ وَقَدْ أَخْلَصَتْهُ الْقُلُوبُ، وَلَا لِيُوقِفَ الْإِجَابَةَ وَإِنْ سَدَّتْ طَرِيقَهَا الذُّنُوبُ، وَلَا لِيُخْلِفَ وَعْدَ فَرَجٍ وَقَدْ أَيِسَ الصَّاحِبُ وَالْمَصْحُوبُ.
نَعِيٌّ زَادَ فِيهِ الدَّهْرُ مِيمَا فَأَصْبَحَ بَعْدَ بُؤْسَاهُ نَعِيمَا وَمَا صَدَقَ النَّذِيرُ بِهِ لِأَنِّي
رَأ‍َيْتُ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَالنُّجُومَا
وَقَدِ اسْتَقْبَلَ مَوْلَانَا السُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ الْعَافِيَةَ غَضَّةً جَدِيدَةً، وَالْعُزْمَةَ مَاضِيَةً حَدِيدَةً، وَالنَّشَاطَ إِلَى الْجِهَادِ، وَالْجَنَّةَ مَبْسُوطَةَ الْبِسَاطِ، وَقَدِ انْقَضَى الْحِسَابُ وَجُزْنَا الصِّرَاطَ، وَعُرِضْنَا نَحْنُ عَلَى الْأَهْوَالِ الَّتِي مِنْ خَوْفِهَا كَادَ الْجَمَلُ يَلِجُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ.
ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ مِنْ حَرَّانَ بَعْدَ الْعَافِيَةِ فَدَخَلَ حَلَبَ ثُمَّ اجْتَازَ بِحَمَاةَ وَحِمْصَ، وَدَخَلَ إِلَى دِمَشْقَ وَقَدْ تَكَامَلَتْ عَافِيَتُهُ، وَقَدْ كَانَ يَوْمُ دَخْلِهِ إِلَيْهَا يَوْمًا مَشْهُودًا وَصَبَاحًا مَحْمُودًا، وَلِلَّهِ الْمِنَّةُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَسْعَدَ الْمَوْصِلِيُّ
الْفَقِيهُ مُهَذِّبُ الدِّينِ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَسْعَدَ الْمَوْصِلِيُّ مُدَرِّسُ حِمْصَ وَكَانَ

بَارِعًا فِي فُنُونٍ، وَلَا سِيَّمَا فِي الشِّعْرِ وَالْأَدَبِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ الْعِمَادُ، وَالشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ.
الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ
صَاحِبُ حِمْصَ وَالرَّحْبَةِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَزَوْجِ أُخْتِهِ سِتِّ الشَّامِ بِنْتِ أَيُّوبَ، كَانَتْ وَفَاتُهُ بِحِمْصَ فَنَقَلَتْهُ زَوْجَتُهُ سِتُّ الشَّامِ إِلَى تُرْبَتِهَا بِالْمَدْرَسَةِ الشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، فَقَبَرُهُ هُوَ الْأَوْسَطُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَخِيهَا الْمُعَظَّمِ تُورَانْشَاهْ صَاحِبِ الْيَمَنِ، وَقَدْ خَلَّفَ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالذَّخَائِرِ شَيْئًا كَثِيرًا، يُنَيِّفُ عَلَى أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ فَجْأَةً، فَوَلِيَ مِنْ بَعْدِهِ مَمْلَكَةَ حِمْصَ وَلَدُهُ أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ، أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مَحْمُودُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
ابْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الثَّنَاءِ الْمَحْمُودِيُّ بْنُ الصَّابُونِيِّ ; لِأَنَّ جَدَّ أُمِّهِ الشَّيْخُ أَبُو عُثْمَانَ الصَّابُونِيُّ، كَانَ أَحَدَ الْأَئِمَّةِ الْمَشَاهِيرِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: الْمَحْمُودِيُّ. لِصُحْبَةِ جَدِّهِ السُّلْطَانَ مَحْمُودَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ، فَقَدِمَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ هَذَا الشَّامَ فِي أَيَّامِ السُّلْطَانِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ فَأَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ، ثُمَّ سَارَ إِلَى

مِصْرَ فَنَزَلَهَا، وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ يُكْرِمُهُ أَيْضًا، وَوَقَفَ عَلَيْهِ وَعَلَى ذُرِّيَّتِهِ أَرْضًا، فَهِيَ لَهُمْ إِلَى الْآنَ.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ سَعْدُ الدِّينِ مَسْعُودُ بْنُ مُعِينِ الدِّينِ
كَانَ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ أَيَّامَ نُورِ الدِّينِ وَصَلَاحِ الدِّينِ، وَهُوَ أَخُو السِّتِّ خَاتُونَ، وَحِينَ تَزَوَّجَهَا صَلَاحُ الدِّينِ زَوَّجَهُ أُخْتَهُ السِّتَّ رَبِيعَةَ خَاتُونَ بِنْتَ أَيُّوبَ، الَّتِي تُنْسَبُ إِلَيْهَا الْمَدْرَسَةُ الصَّلَاحِيَّةُ بِالسَّفْحِ عَلَى الْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ تَأَخَّرَتْ مُدَّتُهَا فَتُوُفِّيَتْ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَتْ آخِرَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَوْلَادِ أَيُّوبَ لِصُلْبِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ جُرْحٍ أَصَابَهُ وَهُوَ فِي حِصَارِ مَيَّافَارِقِينَ.
السِّتُّ خَاتُونُ عِصْمَةُ الدِّينِ
بِنْتُ مُعِينِ الدِّينِ، نَائِبِ دِمَشْقَ وَأَتَابِكِ عَسْكَرِهَا قَبْلَ نُورِ الدِّينِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ كَانَتْ زَوْجَةَ نُورِ الدِّينِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا مِنْ بَعْدِهِ صَلَاحُ الدِّينِ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ وَأَعَفِّهِنَّ وَأَكْثَرِهِنَّ صَدَقَةً، وَهِيَ وَاقِفَةُ الْخَاتُونِيَّةِ الْجُوَانِيَّةِ بِمَحَلَّةِ حَجَرِ الذَّهَبِ، وَخَانِقَاهُ خَاتُونَ ظَاهِرَ بَابِ النَّصْرِ فِي أَوَّلِ الشَّرَفِ الْقِبْلِيِّ عَلَى بَانِيَاسَ وَدُفِنَتْ بِتُرْبَتِهَا فِي سَفْحِ قَاسِيُونَ قَرِيبًا مِنْ قِبَابِ الشَّرْكَسِيَّةِ، وَإِلَى جَنْبِهَا دَارُ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةُ وَالْأَتَابِكِيَّةُ، وَلَهَا أَوْقَافٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأمَّا

الْخَاتُونِيَّةُ الْبَرَّانِيَّةُ الَّتِي عَلَى الْقَنَوَاتِ بِمَحَلَّةِ صَنْعَاءِ الشَّامِ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ الْمَكَانُ الَّتِي هِيَ فِيهِ بِتَلِّ الثَّعَالِبِ، فَهِيَ مِنْ إِنْشَاءِ السِّتِّ زُمُرُّدَ خَاتُونَ بِنْتِ جَاوْلِي، وَهِيَ أُخْتُ الْمَلِكِ دُقَاقَ لِأُمِّهِ، وَكَانَتْ زَوْجَةَ زَنْكِيٍّ وَالِدِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ، صَاحِبِ حَلَبَ وَقَدْ مَاتَتْ قَبْلَ هَذَا الْحِينِ كَمَا تَقَدَّمَ، رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَافِظُ الْكَبِيرُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ
مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ الْأَصْبَهَانِيُّ، الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ، أَحَدُ حُفَّاظِ الدُّنْيَا الرِّحَالِينَ الْجَوَّالِينَ لَهُ مُصَنَّفَاتٌ عَدِيدَةٌ، وَشَرَحَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
السُّهَيْلِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ
أَبُو الْقَاسِمِ وَأَبُو زَيْدٍ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْخَطِيبِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْخَطِيبِ أَبِي عُمَرَ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أَصْبَغَ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ سَعْدُونَ بْنِ رِضْوَانَ بْنِ فَتُّوحٍ - هُوَ الدَّاخِلُ إِلَى الْأَنْدَلُسِ - الْخَثْعَمِيُّ السُّهَيْلِيُّ حَكَى الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ، عَنِ ابْنِ دَحْيَةَ أَنَّهُ أَمْلَى عَلَيْهِ نَسَبَهُ، كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَالسُّهَيْلِيُّ نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ بِالْقُرْبِ مِنْ مَالِقَةَ، اسْمُهَا سُهَيْلٌ ; لِأَنَّهُ لَا يُرَى سُهَيْلٌ النَّجْمُ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ إِلَّا مِنْ رَأَسِ جَبَلٍ شَاهِقٍ عِنْدَهَا. وُلِدَ السُّهَيْلِيُّ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَقَرَأَ الْقِرَاءَاتِ وَاشْتَغَلَ، وَحَصَّلَ حَتَّى بَرَعَ وَسَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ

بِقُوَّةِ الْقَرِيحَةِ وَجَوْدَةِ الذِّهْنِ، وَحُسْنِ التَّصَانِيفِ، وَكَانَ ضَرِيرًا مَعَ ذَلِكَ. لَهُ كِتَابُ " الرَّوْضِ الْأُنُفِ " يَذْكُرُ فِيهِ نُكَتًا حَسَنَةً عَلَى السِّيرَةِ لَمْ يُسْبَقْ إِلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا، وَلَهُ كِتَابُ " الْإِعْلَامِ فِيمَا أُبْهِمَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ "، وَكِتَابُ " نَتَائِجِ الْفِكْرِ "، وَمَسْأَلَةٌ فِي الْفَرَائِضِ بَدِيعَةٌ، وَمَسْأَلَةٌ فِي السِّرِّ فِي كَوْنِ الدَّجَّالِ أَعْوَرَ، وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ فَرِيدَةٌ بَدِيعَةٌ مُفِيدَةٌ، وَلَهُ أَشْعَارٌ حَسَنَةٌ، وَكَانَ عَفِيفًا فَقِيرًا، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فِي آخِرِ عُمْرِهِ مِنْ صَاحِبِ مُرَّاكِشَ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ السَّادِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَهُ قَصِيدَةٌ كَانَ يَدْعُو اللَّهَ بِهَا وَيَرْتَجِي الْإِجَابَةَ فِيهَا وَهِيَ قَوْلُهُ:
يَا مَنْ يَرَى مَا فِي الضَّمِيرِ وَيَسْمَعُ أَنْتَ الْمُعَدُّ لِكُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ يَا مَنْ يُرَجَّى لِلشَّدَائِدِ كُلِّهَا
يَا مَنْ إِلَيْهِ الْمُشْتَكَى وَالْمَفْزَعُ يَا مَنْ خَزَائِنُ رِزْقِهِ فِي قَوْلِ كُنْ
امْنُنْ فَإِنَّ الْخَيْرَ عِنْدَكَ أَجْمَعُ مَا لِي سِوَى فَقْرِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ
فَبِالِافْتِقَارِ إِلَيْكَ فَقْرِيَ أَدْفَعُ مَا لِي سِوَى قَرْعِي لِبَابِكَ حِيلَةٌ
فَلَئِنْ رُدِدْتُ فَأَيَّ بَابٍ أَقْرَعُ وَمَنِ الَّذِي أَدْعُو وَأَهْتِفُ بِاسْمِهِ
إِنْ كَانَ فَضْلُكَ عَنْ فَقِيرِكَ يُمْنَعُ حَاشَا لِمَجْدِكَ أَنْ يُقَنِّطَ عَاصِيًا
الْفَضْلُ أَجْزَلُ وَالْمَوَاهِبُ أَوْسَعُ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي ثَانِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا كَانَ دُخُولُ السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى دِمَشْقَ بَعْدَ عَافِيَتِهِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا كَمَا جَرَتْ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَادَةُ الْمُلُوكُ، وَاجْتَمَعَ بِالْقَاضِي الْفَاضِلِ وَزَارَهُ وَاسْتَزَارَهُ، وَفَاوَضَهُ وَاسْتَشَارَهُ، وَكَانَ لَا يَقْطَعُ أَمْرًا دُونَهُ، وَلَا يُخْفِي عَنْهُ مَكْنُونَهُ، وَلَا ضَمِيرَهُ وَمَضْمُونَهُ، ثُمَّ قَرَّرَ السُّلْطَانُ فِي مُلْكِ دِمَشْقَ وَلَدَهُ الْأَفْضَلَ عَلِيًّا، وَنَزَلَ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ حَلَبَ لِصِهْرِهِ، زَوْجِ ابْنَتِهِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ غَازِيِّ بْنِ السُّلْطَانِ، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ أَخَاهُ الْعَادِلَ صُحْبَةَ وَلَدِهِ عِمَادِ الدِّينِ عُثْمَانَ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ عَلَى مُلْكِ مِصْرَ، وَيَكُونُ الْعَادِلُ أَتَابِكَهُ، وَلَهُ أَقْطَاعٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَعَزَلَ عَنْهَا نَائِبَهَا تَقِيَّ الدِّينِ عُمَرَ، فَعَزَمَ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، فَلَمْ يَزَلِ السُّلْطَانُ يُكَاتِبُهُ وَيَتَلَطَّفُ بِهِ وَيَتَرَفَّقُ لَهُ حَتَّى أَقْبَلَ بِجُنُودِهِ نَحْوَهُ، فَأَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَأَقْطَعُهُ حَمَاةَ وَبِلَادًا كَثِيرَةً مَعَهَا - وَقَدْ كَانَتْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ - وَزَادَهُ عَلَى ذَلِكَ مَدِينَةَ مَيَّافَارِقِينَ وَامْتَدَحَهُ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ بِقَصِيدَةٍ سِينِيَّةٍ سَنِيَّةٍ ذَكَرَهَا فِي " الرَّوْضَتَيْنِ ".
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ هَادَنَ قُومَصُ طَرَابُلُسَ السُّلْطَانَ وَصَالَحَهُ وَصَافَاهُ، حَتَّى كَانَ يُقَاتِلُ مُلُوكَ الْفِرِنْجِ أَشَدَّ الْقِتَالِ وَيَسْبِي مِنْهُمُ النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، وَكَادَ أَنْ يُسْلِمَ وَلَكِنْ صَدَّهُ شَيْطَانُهُ وَرَمَاهُ بِالْخَبَالِ، وَكَانَتْ مُصَالَحَتُهُ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ نُصْرَةِ

السُّلْطَانِ عَلَى الْفِرِنْجِ، وَمِنْ أَشَدِّ مَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.
قَالَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ: وَكَانَ الْمُنَجِّمُونَ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ يَحْكُمُونَ بِخَرَابِ الْعَالَمِ فِي شَعْبَانَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْكَوَاكِبِ السِّتَّةِ فِي الْمِيزَانِ بِطُوفَانِ الرِّيحِ فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ، وَذَكَرَ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْجَهَلَةِ تَأَهَّبُوا لِذَلِكَ بِحَفْرِ مَغَارَاتٍ وَمُدَّخَلَاتٍ وَأَسْرَابٍ فِي الْأَرْضِ خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَشَارُوا إِلَيْهَا وَأَجْمَعُوا عَلَيْهَا لَمْ يُرَ لَيْلَةٌ مِثْلُهَا فِي رُكُودِهَا وَرُكُونِهَا وَهُدُوئِهَا وَهُدُونِهَا، وَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ نَظَمَ الشُّعَرَاءُ فِي تَكْذِيبِ الْمُنَجِّمِينَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ وَغَيْرِهَا أَشْعَارًا حَسَنَةً، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عِيسَى بْنِ مَوْدُودٍ:
مَزِّقِ التَّقْوِيمَ وَالزِّي جَ فَقَدْ بَانَ الْخَفَاءُ إِنَّمَا التَّقْوِيمُ وَالزِّيجُ
هَبَاءٌ وَهَوَاءُ قُلْتَ لِلسَّبْعَةِ إِبْرَا
مٌ وَمَنْعٌ وَعَطَاءُ وَمَتَى يَنْزِلْنَ فِي الْمِي
زَانِ يَسْتَوْلِي الْهَوَاءُ وَيُثِيرُ الرَّمْلَ حَتَّى
يَمْتَلِي مِنْهُ الْفَضَاءُ وَيَعُمُّ الْأَرْضَ خَسْفٌ
وَخَرَابٌ وَبَلَاءُ وَيَصِيرُ الْقَاعُ كَالْقُ
فِّ وَكَالطَّوْدِ الْعَرَاءُ وَحَكَمْتُمْ فَأَبَى الْحَا
كِمُ إِلَّا مَا يَشَاءُ مَا أَتَى الشَّرْعُ وَلَا جَا
ءَتْ بِهَذَا الْأَنْبِيَاءُ

فَبَقِيتُمْ ضُحْكَةً يَضْ
حَكُ مِنْهَا الْعُلَمَاءُ حَسْبُكُمْ خِزْيًا وَعَارًا
مَا يَقُولُ الشُّعَرَاءُ ثُمَّ مَا أَطْمَعَكُمْ فِي الْ
حُكْمِ إِلَّا الْأُمُرَاءُ لَيْتَ إِذْ لَمْ يُحْسِنُوا فِي الدِّ
ينِ ظَنًّا مَا أَسَاءُوا فَعَلَى اصْطِرْلَابِ بَطْلَيْ
مُوسَ وَالزِّيجِ الْعَفَاءُ وَعَلَيْهِ الْخِزْيُ مَا جَا
دَتْ عَلَى الْأَرْضِ السَّمَاءُ

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْمَشَاهِيرِ
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْوَحْشِ
بَرِّيُّ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ بَرِّيٍّ، الْمَقْدِسِيُّ ثُمَّ الْمِصْرِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ فِي زَمَانِهِ، وَعَلَيْهِ تُعْرَضُ الرَّسَائِلُ بَعْدَ ابْنِ بَابَشَاذَ، وَكَانَ كَثِيرَ الِاطِّلَاعِ، عَالِمًا بِهَذَا الشَّأْنِ، مُطَّرِحًا لِلتَّكَلُّفِ فِي كَلَامِهِ، لَا يَلْتَفِتُ وَلَا يُعَرِّجُ عَلَى الْإِعْرَابِ فِيهِ إِذَا خَاطَبَ النَّاسَ، وَلَهُ التَّصَانِيفُ الْمُفِيدَةُ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ بِثَلَاثِ سِنِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ حِطِّينَ الَّتِي كَانَتْ أَمَارَةً وَمُقَدِّمَةً وَبِشَارَةً لِفَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَاسْتِنْقَاذِهِ مِنْ أَيْدِي الْكَافِرِينَ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الْكَامِلِ: كَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْهَا يَوْمَ السَّبْتِ، وَكَانَ يَوْمَ النَّيْرُوزِ، وَذَلِكَ أَوَّلُ سَنَةِ الْفُرْسِ، وَاتَّفَقَ أَنَّهُ أَوَّلُ سَنَةِ الرُّومِ أَيْضًا، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الشَّمْسُ بُرْجَ الْحَمَلِ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْقَمَرُ فِي بُرْجِ الْحَمَلِ أَيْضًا. وَقَالَ: وَهَذَا شَيْءٌ يَبْعُدُ وُقُوعُ مِثْلِهِ.
وَبَرَزَ السُّلْطَانُ مِنْ دِمَشْقَ يَوْمَ السَّبْتِ مُسْتَهَلَّ الْمُحَرَّمِ - وَقِيلَ: فِي أَثْنَائِهِ - فِي الْجَيْشِ الْعَرَمْرَمِ لِيُجَاهِدَ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ جَهَنَّمَ، فَسَارَ إِلَى رَأْسِ الْمَاءِ، فَنَزَلَ وَلَدُهُ الْأَفْضَلُ هُنَاكَ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ وَتَقَدَّمَ السُّلْطَانُ بِبَقِيَّةِ الْجَيْشِ إِلَى بُصْرَى فَخَيَّمَ عَلَى قَصْرِ أَبِي سَلَامَةَ يَنْتَظِرُ قُدُومَ الْحُجَّاجِ، وَفِيهِمْ أُخْتُهُ سِتُّ الشَّامِ وَابْنُهَا حُسَامُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ لَاجِينَ، لِيَسْلَمُوا مِنْ مَعَرَّةِ إِبْرَنْسِ الْكَرَكِ الَّذِي غَدَرَ وَنَقَضَ الْعَهْدَ وَفَجَرَ. فَلَمَّا اجْتَازَ الْحَجِيجُ فِي أَوَاخِرِ صَفَرٍ، سَارَ السُّلْطَانُ فَنَزَلَ الْكَرَكَ وَقَطَعَ مَا حَوْلَهُ مِنَ الْأَشْجَارِ وَرَعَى الزُّرُوعَ وَأَكَلُوا الثِّمَارَ، وَجَاءَتْهُ الْعَسَاكِرُ الْمِصْرِيَّةُ وَتَوَافَتِ الْجُيُوشُ الشَّرْقِيَّةُ بِالرِّمَاحِ الْخَطِّيَّةِ وَالسُّيُوفِ

الْمَشْرِقِيَّةِ، فَنَزَلُوا عِنْدَ ابْنِ السُّلْطَانِ عَلَى رَأْسِ الْمَاءِ، وَبَعَثَ الْأَفْضَلُ سَرِيَّةً نَحْوَ بِلَادِ الْفِرِنْجِ، فَقَتَلَتْ وَغَنِمَتْ وَسَلِمَتْ وَكَسَرَتْ وَأَسَرَتْ، وَرَجَعَتْ فَبَشَّرَتْ بِمُقَدِّمَاتِ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ، وَجَاءَ السُّلْطَانُ فِي جَحَافِلِهِ وَالْتَفَّتْ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْعَسَاكِرِ الْبَادِي مِنْهُمْ وَالْحَاضِرِ، فَرَتَّبَ الْجُيُوشَ وَالْأَطْلَابَ، وَسَارَ قَاصِدًا بِلَادَ السَّاحِلِ، وَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا غَيْرَ الْمُطَّوِّعَةِ، فَتَسَامَعَتِ الْفِرِنْجُ بِمَقْدَمِهِ، فَاجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ وَتَصَالَحُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَدَخَلَ مَعَهُمْ قُومَصُ أَطْرَابُلُسَ الْغَادِرُ وَإِبْرَنْسُ الْكَرَكِ الْفَاجِرُ، وَجَاءُوا بِقَضِّهِمْ وَقَضِيضِهِمْ وَأَهْلِ أَوْجِهِمْ وَحَضِيضِهِمْ، وَاسْتَصْحَبُوا مَعَهُمْ صَلِيبَ الصَّلَبُوتِ يَحْمِلُهُ مِنْهُمْ عُبَّادُ الطَّاغُوتِ، وَضُلَّالُ النَّاسُوتِ وَاللَّاهُوتِ، فِي خَلْقٍ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، يُقَالُ: كَانُوا خَمْسِينَ أَلْفًا. وَقِيلَ: ثَلَاثًا وَسِتِّينَ أَلْفًا. وَقَدْ خَوَّفَهُمْ صَاحِبُ طَرَابُلُسَ بِأْسَ الْمُسْلِمِينَ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْإِبْرَنْسُ أَرْنَاطُ صَاحِبُ الْكَرَكِ فَقَالَ لَهُ: لَا أَشُكُّ أَنَّكَ تُحِبُّ الْمُسْلِمِينَ وَتُخَوِّفُنَا كَثْرَتَهُمْ، وَالنَّارُ لَا تَخَافُ مِنْ كَثْرَةِ الْحَطَبِ. فَقَالَ الْقُومَصُ لَهُمْ: مَا أَنَا إِلَّا مِنْكُمْ، وَسَتَرَوْنَ غِبَّ مَا أَقُولُ لَكُمْ. فَتَقَدَّمُوا وَأَقْبَلَ السُّلْطَانُ فَفَتَحَ طَبَرِيَّةَ وَتَقَوَّى بِمَا فِيهَا مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَمْتِعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَتَحَصَّنَتْ عَنْهُ الْقَلْعَةُ فَلَمْ يَشْتَغِلْ بِهَا، وَحَازَ الْبُحَيْرَةَ فِي حَوْزَتِهِ، وَمَنَعَ الْكَفَرَةَ أَنْ يَصِلُوا مِنْهَا إِلَى غُرْفَةٍ، أَوْ يَرَوْا لِلْمَاءِ رِيًّا، وَأَقْبَلُوا فِي عَطَشٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا

اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَبَرَزَ لَهُمُ السُّلْطَانُ إِلَى سَطْحِ الْجَبَلِ الْغَرْبِيِّ مِنْ طَبَرِيَّةَ عِنْدَ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: حِطِّينُ. الَّتِي يُقَالُ: إِنَّ فِيهَا قَبْرَ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَتَوَاجَهَ هُنَالِكَ الْجَيْشَانِ وَتَقَابَلَ الْفَرِيقَانِ، وَأَسْفَرَ وَجْهُ الْإِيمَانِ، وَاغْبَرَّ وَأَقْتَمَ وَجْهُ الْكُفْرَانِ وَالْخُسْرَانِ وَذَلِكَ عَشِيَّةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَبَاتَ النَّاسُ عَلَى مَصَافِّهِمْ وَأَسْفَرَ الصَّبَاحُ عَنْ يَوْمِ السَّبْتِ الَّذِي كَانَ يَوْمًا عَسِيرًا عَلَى أَهْلِ يَوْمِ الْأَحَدِ، وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ عَلَى وُجُوهِ النَّصَارَى وَهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَكَانَ تَحْتَ أَقَدْامِ خُيُولِهِمْ هَشِيمُ حَشِيشٍ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ النَّفَّاطَةَ، فَرَمَوْهُ فَتَأَجَّجَ تَحْتَ سَنَابِكِ خُيُولِهِمْ نَارًا، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ حَرُّ الشَّمْسِ وَحَرُّ الْعَطَشِ، وَحَرُّ النَّارِ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَحَرُّ رَشْقِ السِّهَامِ عَنِ الْقِسِيِّ الْقَاسِيَةِ، فَتَبَارَزَ الشُّجْعَانُ فِي حَوْمَةِ الْوَغَى، ثُمَّ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِالتَّكْبِيرِ وَالْحَمْلَةِ الصَّادِقَةِ، فَكَانَ النَّصْرُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنَحَهُمُ اللَّهُ أَكْتَافَ الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ ثَلَاثُونَ أَلْفًا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأُسِرَ ثَلَاثُونَ أَلْفًا مِنْ شُجْعَانِهِمْ وَفُرْسَانِهِمْ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْأُسَارَى جَمِيعُ مُلُوكِهِمْ سِوَى قُومَصَ طَرَابُلُسَ فَإِنَّهُ انْهَزَمَ فِي أَوَّلِ الْمَعْرَكَةِ، وَأَخَذَ صَلِيبَهُمُ الْأَعْظَمَ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الَّذِي صُلِبَ عَلَيْهِ الْمَصْلُوبُ، وَقَدْ غَلَّفُوهُ بِالذَّهَبِ وَاللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ النَّفْسِيَّةِ، وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا، وَلَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ فِي عِزِّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَدَمْغِ الْبَاطِلِ وَذُلِّهِ، حَتَّى إِنَّهُ ذُكِرَ أَنَّ بَعْضَ الْفَلَّاحِينَ رَآهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ يَقُودُ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ أَسِيرًا مِنَ الْفِرِنْجِ، قَدْ رَبَطَهُمْ بِطُنُبِ خَيْمَةٍ، وَبَاعَ بَعْضَهُمْ أَسِيرًا بِنَعْلٍ

لَبِسَهَا فِي رِجْلِهِ، وَجَرَتْ أُمُورٌ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا وَلَا وَقَعَتِ الْعُيُونُ عَلَى شَكْلِهَا، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ دَائِمًا حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا.
وَلَمَّا تَمَّتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ الْعَظِيمَةُ وَالنِّعْمَةُ الْعَمِيمَةُ الْجَسِيمَةُ، أَمَرَ السُّلْطَانُ بِضَرْبِ مُخَيَّمٍ عَظِيمٍ، وَجَلَسَ فِيهِ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ وَعَنْ يَمِينِهِ أَسِرَّةٌ وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلُهَا، وَجِيءَ بِالْأُسَارَى تَتَهَادَى فِي قُيُودِهَا، فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُ جَمَاعَةٍ مِنْ مُقَدِّمِي الدَّاوِيَّةِ وَالْإِسْبِتَارِيَّةِ بَيْنَ يَدَيْهِ صَبْرًا، وَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَذْكُرُ النَّاسُ عَنْهُ ذِكْرًا، ثُمَّ جِيءَ بِالْمُلُوكِ فَأُجْلِسُوا عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ، فَأُجْلِسَ مَلِكُهُمُ الْكَبِيرُ عَنْ يَمِينِهِ، وَتَحْتَهُ أَرْنَاطُ إِبْرَنْسُ الْكَرَكِ - قَبَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَبَيْنَ يَدَيْهِ بَقِيَّةُ الْمُلُوكِ وَعَنْ يَسَارِهِ، فَجِيءَ السُّلْطَانُ بِشَرَابٍ مَثْلُوجٍ مِنَ الْجُلَّابِ، فَشَرِبَ ثُمَّ نَاوَلَ الْمَلِكَ فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَ مَلِكُهُمْ أَرْنَاطَ فَشَرِبَ، فَغَضِبَ السُّلْطَانُ، وَقَالَ: إِنَّمَا سَقَيْتُكَ وَلَمْ آمُرْكَ أَنْ تَسْقِيَهُ، هَذَا لَا عَهْدَ لَهُ عِنْدِي. ثُمَّ تَحَوَّلَ السُّلْطَانُ إِلَى خَيْمَةٍ دَاخِلَ الْخَيْمَةِ وَاسْتَدْعَى أَرْنَاطَ، فَلَمَّا أُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَامَ إِلَيْهِ بِالسَّيْفِ وَقَالَ: نَعَمْ أَنَا أَنُوبُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِانْتِصَارِ لِأُمَّتِهِ. ثُمَّ دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَامْتَنَعَ، فَقَتَلَهُ وَأَرْسَلَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْمُلُوكِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا تَعَرَّضَ لِسَبِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ قَتَلَ السُّلْطَانُ جَمِيعَ مَنْ كَانَ مِنَ الْأُسَارَى مِنَ الدَّاوِيَّةِ وَالْإِسْبِتَارِيَّةِ صَبْرًا، وَأَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَيْنَ الْجِنْسَيْنِ الْخَبِيثَيْنِ، وَلَمْ يُسْلِمْ مِمَّنْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ إِلَّا الْقَلِيلُ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ بَلَغَتِ الْقَتْلَى ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَكَذَلِكَ الْأُسَارَى كَانُوا ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَكَانَ جُمْلَةُ جَيْشِ الْفِرِنْجِ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ أَلْفًا، وَمَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ - مَعَ قِلَّتِهِمْ - أَكْثَرُهُمْ

جَرْحَى، فَمَاتُوا بِبِلَادِهِمْ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ، وَمِمَّنْ مَاتَ كَذَلِكَ قُومَصُ طَرَابُلُسَ فَإِنَّهُ انْهَزَمَ جَرِيحًا فَمَاتَ بِبَلَدِهِ بَعْدَ مَرْجِعِهِ، لَعَنَهُ اللَّهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ بِرُؤَسَاءَ الْأُسَارَى وَرُءُوسِ أَعْيَانِ الْقَتْلَى، وَبِصَلِيبِ الصَّلَبُوتِ صُحْبَةَ الْقَاضِي ابْنِ أَبِي عَصْرُونَ إِلَى دِمَشْقَ لِيُودَعُوا فِي قَلْعَتِهَا، فَدَخَلَ بِالصَّلِيبِ مَنْكُوسًا، فَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ إِلَى قَلْعَةِ طَبَرِيَّةَ فَفَتَحَهَا، وَقَدْ كَانَتْ طَبَرِيَّةُ تُقَاسِمُ بِلَادَ حَوْرَانَ وَالْبَلْقَاءَ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْجُولَانِ وَتِلْكَ الْأَرَاضِي كُلَّهَا بِالنِّصْفِ، فَأَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تِلْكَ الْمُقَاسَمَةِ وَتَوَفَّرَتْ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ سَارَ إِلَى عَكًّا فَنَزَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ سَلْخَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَافْتَتَحَهَا صُلْحًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَخَذَ مَا كَانَ بِهَا مِنْ حَوَاصِلَ وَأَمْوَالٍ وَذَخَائِرَ وَمَتَاجِرَ، وَاسْتَنْقَذَ مَنْ كَانَ بِهَا مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ، فَوَجَدُوا بِهَا أَرْبَعَةَ آلَافِ أَسِيرٍ مِنْهُمْ، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَأَمَرَ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِهَا، فَكَانَتْ أَوَّلَ جُمُعَةٍ أُقِيمَتْ بِالسَّاحِلِ بَعْدَ أَنْ أَخْذَهَ الْفِرِنْجُ، مِنْ سَبْعِينَ سَنَةً فَلِلَّهِ الْحَمْدُ دَائِمًا. وَسَارَ مِنْهَا إِلَى صَيْدَا وَبَيْرُوتَ وَتِلْكَ النَّوَاحِي مِنَ السَّوَاحِلِ فَأَخَذَهَا، لِخُلُوِّهَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ وَمِنَ الْمُلُوكِ، ثُمَّ سَارَ نَحْوَ غَزَّةَ وَعَسْقَلَانَ وَنَابُلُسَ وَبَيْسَانَ وَأَرَاضِي الْغُورِ فَمَلَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِحَوَلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ، وَاسْتَنَابَ السُّلْطَانُ عَلَى نَابُلُسَ ابْنَ أَخِيهِ حُسَامَ الدِّينِ عُمَرَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ

لَاجِينَ، وَهُوَ الَّذِي افْتَتَحَهَا ; وَكَانَ جُمْلَةُ مَا افْتَتَحَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْقَرِيبَةِ قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ بَلَدًا كُلُّ بَلْدَةٍ لَهَا مُقَاتِلَةٌ وَقَلْعَةٌ وَمَنَعَةٌ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَغَنِمَ الْجَيْشُ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَسَبَوْا شَيْئًا كَثِيرًا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، وَاسْتَبْشَرَ الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ شَرْقًا وَغَرْبًا بِهَذَا النَّصْرِ الْعَظِيمِ وَالْفُتُوحَاتِ الْهَائِلَةِ. وَتَرَكَ السُّلْطَانُ جُيُوشَهُ تَرْتَعُ فِي هَذِهِ الْفُتُوحَاتِ وَالْغَنَائِمِ الْكَثِيرَةِ مُدَّةَ شُهُورٍ ; لِيَسْتَرِيحُوا وَيُجَمِّعُوا أَنْفُسَهُمْ وَخُيُولَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا لِفَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الشَّرِيفِ، وَطَارَ فِي النَّاسِ أَنَّ السُّلْطَانَ عَزَمَ عَلَى فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَصَدَهُ الْعُلَمَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَالْمُتَطَوِّعَةُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَجَاءَ أَخُوهُ الْعَادِلُ بَعْدَ وَقْعَةِ حِطِّينَ وَفَتَحَ عَكَّا فَفَتَحَ بِنَفْسِهِ حُصُونًا كَثِيرَةً أَيْضًا، فَاجْتَمَعَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَمِنَ الْجُيُوشِ الْمُتَطَوِّعَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَصَدَ السُّلْطَانُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِمَنْ مَعَهُ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَقَدِ امْتَدَحَ الشُّعَرَاءُ الْمَلِكَ صَلَاحَ الدِّينِ بِسَبَبِ وَقْعَةِ حِطِّينَ فَقَالُوا وَأَكْثَرُوا، وَأَطَابُوا وَأَطْنَبُوا، وَكَتَبَ إِلَيْهِ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنْ دِمَشْقَ - وَكَانَ مُقِيمًا بِهَا لِمَرَضٍ نَالَهُ -: لِيَهْنَ الْمَوْلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَقَامَ بِهِ الدِّينَ الْقَيِّمَ، وَأَنَّهُ كَمَا قِيلَ: أَصْبَحْتَ مَوْلَايَ وَمَوْلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. وَأَنَّهُ قَدْ أَسْبَغَ عَلَيْهِ النِّعْمَتَيْنِ ; الْبَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ، وَأَوْرَثَهُ الْمُلْكَيْنِ ; مُلْكَ الدُّنْيَا وَمُلْكَ الْآخِرَةِ، كَتَبَ الْمَمْلُوكُ الْخِدْمَةَ، وَالرُّءُوسُ إِلَى الْآنِ لَمْ تُرْفَعْ مِنْ سُجُودِهَا، وَالدُّمُوعُ لَمْ تُمْسَحْ مِنْ خُدُودِهَا، وَكُلَّمَا فَكَّرَ الْمَمْلُوكُ أَنَّ الْبِيَعَ تَعُودُ وَهِيَ مَسَاجِدُ، وَالْمَكَانُ الَّذِي كَانَ يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، يُقَالُ الْيَوْمَ فِيهِ: إِنَّهُ الْوَاحِدُ. جَدَّدَ لِلَّهِ شُكْرًا تَارَةً يَفِيضُ مِنْ لِسَانِهِ،

وَتَارَةً يَفِيضُ مِنْ أَجْفَانِهِ، وَجَزَى اللَّهُ يُوسُفَ خَيْرًا عَنْ إِخْرَاجِهِ مِنْ سِجْنِهِ، وَالْمَمَالِيكُ يَنْتَظِرُونَ أَمْرَ الْمَوْلَى، فَكُلُّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْحَمَّامَ بِدِمَشْقَ قَدْ عَوَّلَ عَلَى دُخُولِ حَمَّامِ طَبَرِيَّةَ.
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنِ وَذَلِكَ الْفَتْحُ لَا عَمَّانَ وَالْيَمَنِ
وَذَلِكَ السَّيْفُ لَا سَيْفُ ابْنِ ذِي يَزَنِ
ثُمَّ قَالَ: وَلِلْأَلْسِنَةِ بَعْدُ فِي هَذَا الْفَتْحِ سَبْحٌ طَوِيلٌ وَقَوْلٌ جَلِيلٌ.

ذِكْرُ فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
وَاسْتِنْقَاذِهِ مِنْ أَيْدِي النَّصَارَى بَعْدَ اثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً
لَمَّا افْتَتَحَ السُّلْطَانُ مَا حَوْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنَ الْأَمَاكِنِ الْمُبَارَكَةِ وَمَا يَقْرُبُ مِنْ تِلْكَ السَّوَاحِلِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهَا، أَمَرَ الْعَسَاكِرَ فَاجْتَمَعَتْ وَالْجُيُوشَ الْمُتَفَرِّقَةَ فِي الْبُلْدَانِ فَائْتَلَفَتْ، وَسَارَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الشَّرِيفِ يَوْمَ الْأَحَدِ، فِي الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ - فَنَزَلَ غَرْبِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقَدْ حَصَّنَتِ الْفِرِنْجُ، - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - الْأَسْوَارَ بِالْمُقَاتِلَةِ، وَكَانُوا سِتِّينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، دُونَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ يَزِيدُونَ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ

إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [ الْأَنْفَالِ: 34 ] وَكَانَ صَاحِبُ الْبَلَدِ يَوْمَئِذٍ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: بَالِيَانُ بْنُ بَازِرَانَ. وَمَعَهُ مَنْ سَلِمَ مِنْ وَقْعَةِ حِطِّينَ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، مِنَ الدَّاوِيَّةِ وَالْإِسْبِتَارِيَّةِ أَتْبَاعِ الشَّيْطَانِ، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ أَجْمَعِينَ، فَأَقَامَ السُّلْطَانُ بِمَنْزِلِهِ الْمَذْكُورِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَسَلَّمَ إِلَى كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ جَيْشِهِ الْمَنْصُورِ نَاحِيَةً مِنْ أَبْرِجَةِ السُّورِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى نَاحِيَةِ الشَّمَالِ ; لِأَنَّهُ رَآهَا أَوْسَعَ وَأَنْسَبَ لِلْمَجَالِ، وَالْجِلَادِ وَالنِّزَالِ، وَقَاتَلَ الْفِرِنْجَ دُونَ الْبَلَدِ قِتَالًا هَائِلًا، وَبَذَلُوا فِي نُصْرَةِ قُمَامَةَ وَالْقِيَامَةِ بَذْلًا هَائِلًا، وَاسْتُشْهِدَ بَعْضُ أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى رَحْمَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَحَنَقَ عِنْدَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْإِسْلَامِ، وَاجْتَهَدُوا فِي الْقِتَالِ بِكُلِّ خَطِّيٍّ وَحُسَامٍ، وَقَدْ نُصِبَتِ الْمَجَانِيقُ وَالْعَرَّادَاتُ، وَغَنَّتِ السُّيُوفُ وَعُمِلَتِ السَّمْهَرِيَّاتُ، وَالْعُيُونُ تَنْظُرُ إِلَى الصُّلْبَانِ وَهِيَ مَنْصُوبَةٌ فَوْقَ الْجُدْرَانِ، حَتَّى فَوْقَ قُبَّةِ الصَّخْرَةِ قِبْلَةِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ مِنْ قَدْيمِ الْأَزْمَانِ، فَزَادَ ذَلِكَ أَهْلَ الْإِيمَانِ الْحَنَقَ الْكَثِيرَ وَشِدَّةَ التَّشْمِيرِ، فَوُجِدَ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ، فَبَادَرَ السُّلْطَانُ أَيَّدَهُ اللَّهُ بِأَصْحَابِهِ إِلَى الزَّاوِيَةِ الشَّرْقِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ مِنَ السُّورِ فَنَقَبَهَا وَعَلَّقَهَا وَحَشَاهَا بِالنِّيرَانِ وَأَحْرَقَهَا، فَسَقَطَ ذَلِكَ الْجَانِبُ، وَخَرَّ الْبُرْجُ بِرُمَّتِهِ، فَإِذَا هُوَ وَاجِبٌ، فَلَمَّا شَاهَدَ الْفِرِنْجُ ذَلِكَ الْحَادِثَ الْمُقْطِعَ، وَالْخَطْبَ الْمُؤْلِمَ لَهُمُ الْمُوجِعَ، قَصَدَ أَكَابِرُهُمُ السُّلْطَانَ وَتَشَفَّعُوا إِلَيْهِ بِكُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يُعْطِيَهُمُ الْأَمَانَ، فَامْتَنَعَ وَقَالَ: لَا أَفْتَحُهَا إِلَّا كَمَا افْتَتَحْتُمُوهَا عَنْوَةً، وَلَا أَتْرُكُ بِهَا أَحَدًا مِنَ النَّصَارَى إِلَّا قَتَلْتُهُ كَمَا قَتَلْتُمْ أَنْتُمْ مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَطَلَبَ صَاحِبُهَا بَالِيَانُ بْنُ بَازِرَانَ مِنَ السُّلْطَانِ الْأَمَانَ لِيَحْضُرَ عِنْدَهُ فَأَمَّنَهُ، فَلَمَّا حَضَرَ تَرَقَّقَ لَهُ، وَتَشَفَّعَ إِلَيْهِ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ

إِلَى الْأَمَانِ لَهُمْ، فَقَالُوا: لَئِنْ لَمْ تُعْطِنَا الْأَمَانَ رَجَعْنَا فَقَتَلْنَا كُلَّ أَسِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَيْدِينَا - وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ - وَقَتَلْنَا ذَرَارِينَا، وَخَرَّبْنَا الدُّورَ وَالْأَمَاكِنَ الْحَسَنَةَ، وَأَتْلَفْنَا مَا بِأَيْدِينَا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَأَلْقَيْنَا قُبَّةَ الصَّخْرَةِ، وَلَا نُبْقِي مُمْكِنًا فِي إِتْلَافِ مَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ نُقَاتِلُ قِتَالَ الْمَوْتِ، فَلَا يُقْتَلُ وَاحِدٌ مِنَّا حَتَّى يَقْتُلَ أَعْدَادًا مِنْكُمْ، فَمَاذَا تَرْتَجِي بَعْدَ هَذَا مِنَ الْخَيْرِ ؟
فَلَمَّا سَمِعَ السُّلْطَانُ ذَلِكَ أَجَابَ إِلَى الصُّلْحِ، عَلَى أَنْ يَبْذُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ، وَعَنِ الْمَرْأَةِ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ، وَعَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَصَغِيرَةٍ دِينَارَيْنِ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ أَسِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ تَكُونَ الْغَلَّاتُ وَالْأَسْلِحَةُ وَالدُّورُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَتَحَوَّلُوا مِنْهَا إِلَى مَأْمَنِهِمْ وَهِيَ مَدِينَةُ صُورَ. فَكُتِبَ الصُّلْحُ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ لَا يَبْذُلُ مَا شُرِطَ عَلَيْهِ إِلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَهُوَ أَسِيرٌ، فَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ أُسِرَ بِهَذَا الشَّرْطِ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ إِنْسَانٍ ; مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَوِلْدَانٍ، وَدَخَلَ السُّلْطَانُ وَالْمُسْلِمُونَ الْبَلَدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قُبَيْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِقَلِيلٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، قَالَ الْعِمَادُ: وَهِيَ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِلَى السَّمَاوَاتِ الْعُلَا. قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ: وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي الْإِسْرَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَمْ يَتَّفِقْ لِلْمُسْلِمِينَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ يَوْمَئِذٍ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا أُقِيمَتْ يَوْمَئِذٍ، وَأَنَّ السُّلْطَانَ خَطَبَ بِنَفْسِهِ بِالسَّوَادِ يَوْمَئِذٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجُمُعَةَ لَمْ يُمْكِنْ إِقَامَتُهَا يَوْمَئِذٍ لِضِيقِ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا أُقِيمَتْ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَكَانَ الْخَطِيبُ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، الْقُرَشِيَّ بْنَ الزَّكِيِّ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.

وَلَكِنْ نُظِّفَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى يَوْمَئِذٍ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الصُّلْبَانِ وَالرُّهْبَانِ وَالْخَنَازِيرِ، وَخُرِّبَتْ دُورٌ لِلدَّاوِيَّةِ وَكَانُوا قَدْ بَنَوْهَا غَرْبِيَّ الْمِحْرَابِ الْكَبِيرِ، وَاتَّخَذُوا الْمِحْرَابَ حَشًّا - لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - فَنُظِّفَ الْمَسْجِدُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأُعِيدَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَيَّامِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالدَّوْلَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَغُسِلَتِ الصَّخْرَةُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ، وَأُعِيدَ غَسْلُهَا بِمَاءِ الْوَرْدِ الْفَاخِرِ، وَأُبْرِزَتْ لِلنَّاظِرِينَ، وَقَدْ كَانَتْ مَغْمُورَةً مَسْتُورَةً مَحْجُوبَةً عَنِ الزَّائِرِينَ، وَوُضِعَ الصَّلِيبُ الْمَنْصُوبُ عَنْ قُبَّتِهَا، وَعَادَتْ إِلَى حُرْمَتِهَا، وَقَدْ كَانَ الْفِرِنْجُ قَطَعُوا مِنْهَا قِطَعًا فَبَاعُوهَا إِلَى مُلُوكِ الْبُحُورِ بِزِنَتِهَا مِنَ الذَّهَبِ، فَتَعَذَّرَ اسْتِعَادَةُ مَا نَقَصَ مِنْهَا وَمَا ذَهَبَ.
وَقُبِضَ مِنَ الْفِرِنْجِ مَا كَانُوا بَذَلُوهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَأَطْلَقَ السُّلْطَانُ خَلْقًا مِنْهُمْ مِنْ بَنَاتِ الْمُلُوكِ بِمَنْ مَعَهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، وَوَقَعَتِ الْمُسَامَحَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَشُفِعَ فِي أُنَاسٍ فَعُفِيَ عَنْهُمْ، وَفَرَّقَ السُّلْطَانُ جَمِيعَ مَا قَبَضَ مِنْهُمْ مِنَ الذَّهَبِ فِي الْعَسْكَرِ، وَلَمْ يَدَعْ مِنْهُ شَيْئًا مِمَّا يُقْتَنَى وَيُدَّخَرُ. وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَلِيمًا كَرِيمًا مِقْدَامًا شُجَاعًا رَحِيمًا، أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُجَدِّدَ رَحْمَتَهُ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُقْبِلَ بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ إِلَيْهِ.

ذِكْرُ أَوَّلِ جُمُعَةٍ أُقِيمَتْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ فَتْحِهِ فِي الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَةِ
لَمَّا نُزِّهَ الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الصُّلْبَانِ وَالنَّوَاقِيسِ، وَالرُّهْبَانِ وَالْخَنَازِيرِ وَالْقَسَاقِيسِ، وَدَخَلَهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ، وَنُودِيَ بِالْأَذَانِ وَهَرَبَ الشَّيْطَانُ وَقُرِئَ الْقُرْآنُ،

وَطَهُرَ الْمَكَانُ، فَكَانَ إِقَامَةُ أَوَّلِ جُمُعَةٍ فِيهِ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ مِنْ شَعْبَانَ، بَعْدَ يَوْمِ الْفَتْحِ بِثَمَانٍ، فَنُصِبَ الْمِنْبَرُ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ الْمُطَهَّرِ، وَبُسِطَتِ الْبُسُطُ الرَّفِيعَةُ فِي تِلْكَ الْعِرَاصِ الْوَسِيعَةِ، وَعُلِّقَتِ الْقَنَادِيلُ وَتُلِيَ التَّنْزِيلُ عِوَضًا عَمَّا كَانَ يُقْرَأُ مِنُ التَّحْرِيفِ فِي الْإِنْجِيلِ، وَجَاءَ الْحَقُّ وَبَطَلَتْ تِلْكَ الْأَبَاطِيلُ، وَصُفَّتِ السَّجَّادَاتُ وَكَثُرَتِ السَّجَدَاتُ، وَتَنَوَّعَتِ الْعِبَادَاتُ، وَأُدِيمَتِ الدَّعَوَاتُ، وَنَزَلَتِ الْبَرَكَاتُ، وَانْجَلَتِ الْكُرُبَاتُ، وَأُقِيمَتِ الصَّلَوَاتُ، وَنَطَقَ الْأَذَانُ، وَخَرِسَ النَّاقُوسُ، وَحَضَرَ الْمُؤَذِّنُونَ وَغَابَ الْقُسُوسُ، وَطَابَتِ الْأَنْفَاسُ، وَاطْمَأَنَّتِ النُّفُوسُ، وَأَقْبَلَتِ السُّعُودُ وَأَدْبَرَتِ النُّحُوسُ، وَحَضَرَ الْعِبَادُ وَالزُّهَّادُ وَالْأَبْدَالُ وَالْأَقْطَابُ وَالْأَوْتَادُ، وَعُبِدَ الْوَاحِدُ، وَكَثُرَ الرَّاكِعُ وَالسَّاجِدُ، وَالْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ، وَامْتَلَأَ الْجَامِعُ، وَسَالَتْ لِرِقَّةِ الْقُلُوبِ الْمَدَامِعُ، وَقَالَ النَّاسُ: هَذَا يَوْمٌ كَرِيمٌ وَفَضْلٌ عَظِيمٌ وَمَوْسِمٌ وَسِيمٌ، وَهَذَا يَوْمٌ تُجَابُ فِيهِ الدَّعَوَاتُ وَتُصَبُّ الْبَرَكَاتُ وَتَسِيلُ الْعَبَرَاتُ وَتُقَالُ الْعَثَرَاتُ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ لِلصَّلَاةِ وَقْتَ الزَّوَالِ، وَكَادَتِ الْقُلُوبُ تَطِيرُ مِنَ الْفَرَحِ بِتِلْكَ الْحَالِ، وَلَمْ يَكُنِ السُّلْطَانُ إِلَى تِلْكَ السَّاعَةِ عَيَّنَ خَطِيبًا، وَقَدْ تَهَيَّأَ لَهَا خَلْقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ خَوْفًا أَنْ يَدَّعِيَ إِلَيْهَا أَحَدُهُمْ فَلَا يَكُونُ نَجِيبًا، فَبَرَزَ لِلْخُطَبَاءِ الْمَرْسُومُ السُّلْطَانِيُّ الصَّلَاحِيُّ، وَهُوَ فِي قُبَّةِ الصَّخْرَةِ الْغَرَّاءِ، أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ الْيَوْمَ خَطِيبًا، فَلَبِسَ الْخِلْعَةَ السَّوْدَاءَ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، وَقَدْ كَسَاهُ اللَّهُ الْبَهَاءَ، وَأَكْرَمَهُ بِكَلِمَةِ التَّقْوَى وَأَعْطَاهُ السَّكِينَةَ وَالْوَقَارَ وَالسَّنَاءَ، فَخَطَبَ بِالنَّاسِ خُطْبَةً عَظِيمَةً سَنِيَّةً فَصِيحَةً بَلِيغَةً، ذَكَرَ فِيهَا شَرَفَ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالتَّرْغِيبَاتِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْأَمَارَاتِ، وَمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْحَاضِرِينَ مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي تَعْدِلُ الْكَثِيرَ مِنَ الْقُرُبَاتِ، وَقَدْ أَوْرَدَهَا الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي " الرَّوْضَتَيْنِ " بِطُولِهَا، فَكَانَ أَوَّلَ مَا قَالَ حِينَ تَكَلَّمَ:

فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ثُمَّ أَوْرَدَ تَحْمِيدَاتِ الْقُرْآنِ كُلَّهَا، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مُعِزِّ الْإِسْلَامِ بِنَصْرِهِ، وَمُذِلِّ الشِّرْكِ بِقَهْرِهِ، وَمُصَرِّفِ الْأُمُورِ بِأَمْرِهِ، وَمُدِيمِ النِّعَمِ بِشُكْرِهِ، وَمُسْتَدْرِجِ الْكَافِرِينَ بِمَكْرِهِ، الَّذِي قَدَّرَ الْأَيَّامَ دُوَلًا بِعَدْلِهِ، وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ بِفَضْلِهِ، وَأَفَاءَ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ ظِلِّهِ، وَأَظْهَرَ دِينَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، الْقَاهِرِ فَوْقَ عِبَادِهِ فَلَا يُمَانَعُ، وَالظَّاهِرِ عَلَى خَلِيقَتِهِ فَلَا يُنَازَعُ، وَالْآمِرِ بِمَا يَشَاءُ فَلَا يُرَاجَعُ، وَالْحَاكِمِ بِمَا يُرِيدُ فَلَا يُدَافَعُ، أَحْمَدُهُ عَلَى إِظْفَارِهِ وَإِظْهَارِهِ، وَإِعْزَازِهِ لِأَوْلِيَائِهِ وَنَصْرِهِ لِأَنْصَارِهِ، وَتَطْهِيرِهِ بَيْتَهُ الْمُقَدَّسَ مِنْ أَدْنَاسِ الشِّرْكِ وَأَوْضَارِهِ، حَمْدَ مَنِ اسْتَشْعَرَ الْحَمْدَ بَاطِنَ سِرِّهِ وَظَاهِرَ جِهَارِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ شَهَادَةَ مَنْ طَهَّرَ بِالتَّوْحِيدِ قَلْبَهُ، وَأَرْضَى بِهِ رَبَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَافِعُ الشَّكِّ وَدَاحِضُ الشِّرْكِ، وَرَاحِضُ الْإِفْكِ، الَّذِي أُسْرِيَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَعُرِجَ بِهِ مِنْهُ إِلَى السَّمَاوَاتِ الْعُلَا، إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى خَلِيفَتِهِ الصِّدِّيقِ السَّابِقِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَعَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوَّلِ مَنْ رَفَعَ عَنْ هَذَا الْبَيْتِ شِعَارَ الصُّلْبَانِ، وَعَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ذِي النُّورَيْنِ جَامِعِ الْقُرْآنِ، وَعَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مُزَلْزِلِ الشِّرْكِ، وَمُكَسِّرِ الْأَوْثَانِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعَيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمَوْعِظَةَ، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَغْبِيطِ الْحَاضِرِينَ عَلَى مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ كَذَا وَكَذَا، فَذَكَرَ فَضَائِلَهُ وَمَآثِرَهُ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ الْقِبْلَتَيْنِ، وَثَانِي الْمَسْجِدَيْنِ، وَثَالِثُ الْحَرَمَيْنِ، لَا تُشَدُّ الرَّحَالُ بَعْدَ الْمَسْجِدَيْنِ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا تُعْقَدُ الْخَنَاصِرُ بَعْدَ الْمَوْطِنَيْنِ إِلَّا عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ أُسَرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَصَلَّى فِيهِ بِالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ الْكِرَامِ، وَمِنْهُ كَانَ الْمِعْرَاجُ إِلَى السَّمَاوَاتِ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ، ثُمَّ سَارَ مِنْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الْبُرَاقِ، وَهُوَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ يَوْمَ التَّلَاقِ، وَهُوَ مَقَرُّ الْأَنْبِيَاءِ وَمَقْصِدُ الْأَوْلِيَاءِ، وَقَدْ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ.
قُلْتُ: وَيُقَالُ: إِنَّ الَّذِي أَسَّسَهُ أَوَّلًا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ أَنْ بَنَى الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً. كَمَا جَاءَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، ثُمَّ جَدَّدَ بِنَاءَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، كَمَا ثَبَتَ بِهِ الْحَدِيثُ فِي " الْمُسْنَدِ " وَ " السُّنَنِ "، وَ " صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ "، وَابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ وَغَيْرِهِمْ، وَسَأَلَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اللَّهَ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُ خِلَالًا ثَلَاثًا ; حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ، وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَأْتِي أَحَدٌ هَذَا الْمَسْجِدَ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ تَمَامُ الْخُطْبَتَيْنِ، وَدَعَا لِلْخَلِيفَةِ الْعَبَّاسِيِّ، ثُمَّ لِلسُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَبَعْدَ الصَّلَاةِ جَلَسَ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ نَجَا الْمِصْرِيُّ عَلَى كُرْسِيِّ الْوَعْظِ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ، فَوَعَظَ

النَّاسَ وَكَانَ وَقْتًا مَشْهُودًا وَحَالًا مَحْمُودًا، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَاسْتَمَرَّ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ يَخْطُبُ بِالنَّاسِ فِي أَيَّامِ الْجُمَعِ أَرْبَعَ جُمُعَاتٍ، ثُمَّ قَرَّرَ السُّلْطَانُ لِلْقُدْسِ خَطِيبًا مُسْتَقِرًّا، وَأَرْسَلَ إِلَى حَلَبَ فَاسْتَحْضَرَ الْمِنْبَرَ الَّذِي كَانَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَدْ كَانَ يُؤَمِّلُ أَنْ يَكُونَ فَتْحُهُ عَلَى يَدَيْهِ، فَمَا كَانَ إِلَّا عَلَى يَدَيْ بَعْضِ أَتْبَاعِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

نُكَتَةٌ غَرِيبَةٌ
قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي " الرَّوْضَتَيْنِ ": وَقَدْ تَكَلَّمَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّخَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ: وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ أَبِي الْحَكَمِ الْأَنْدَلُسِيِّ - يَعْنِي ابْنَ بَرَّجَانَ - فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ إِخْبَارٌ عَنْ فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَنَّهُ يُنْزَعُ مِنْ أَيْدِي النَّصَارَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. قَالَ السَّخَاوِيُّ: وَلَمْ أَرَهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الْحُرُوفِ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ فِيمَا يَزْعُمُ مِنْ قَوْلِهِ الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [ الرُّومِ: 1، 2 ] فَبَنَى الْأَمْرَ عَلَى التَّارِيخِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُنَجِّمُونَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَغْلِبُونَ فِي سَنَةِ كَذَا، وَيُغْلَبُونَ فِي سَنَةِ كَذَا، عَلَى

مَا تَقْتَضِيهِ دَوَائِرُ التَّقَدْيرِ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ نَجَامَةٌ وَافَقَتْ إِصَابَةً، إِنْ صَحَّ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَكَانَ فِي كِتَابِهِ قَبْلَ حُدُوثِهِ، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ عِلْمِ الْحُرُوفِ، وَلَا مِنْ بَابِ الْكَرَامَاتِ ; لِأَنَّهَا لَا تُنَالُ بِحِسَابٍ. قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْقَدْرِ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ الْوَقْتَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ لَعَلِمَ الْوَقْتَ الَّذِي يُرْفَعُ فِيهِ.
قُلْتُ: ابْنُ بَرَّجَانَ ذَكَرَ هَذَا فِي تَفْسِيرِهِ فِي حُدُودِ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْمَلِكَ نُورَ الدِّينِ أُوقِفَ عَلَى ذَلِكَ فَطَمِعَ أَنْ يَعِيشَ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ ; لِأَنَّ مَوْلِدَهُ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةِ، فَتَهَيَّأَ لِأَسْبَابِ ذَلِكَ حَتَّى إِنَّهُ أَعَدَّ مِنْبَرًا عَظِيمًا لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ إِذَا فَتَحَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الصَّخْرَةُ الْعَظِيمَةُ فَإِنَّ السُّلْطَانَ أَزَالَ مَا حَوْلَهَا وَعِنْدَهَا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَالصُّوَرِ وَالصُّلْبَانِ، وَأَظْهَرَهَا بَعْدَمَا كَانَتْ خَفِيَّةً مَسْتُورَةً غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ، وَأَمَرَ الْفَقِيهَ ضِيَاءَ الدِّينِ عِيسَى الْهَكَّارِيَّ أَنْ يَعْمَلَ حَوْلَهَا شَبَابِيكَ مِنْ حَدِيدٍ، وَرَتَّبَ لَهَا إِمَامًا

رَاتِبًا، وَوَقَفَ عَلَيْهِ رِزْقًا جَيِّدًا، وَكَذَلِكَ عَلَى إِمَامِ مِحْرَابِ الْأَقْصَى، وَعَمِلَ لِلشَّافِعِيَّةِ الْمَدْرَسَةَ الصَّلَاحِيَّةَ وَيُقَالُ لَهَا: النَّاصِرِيَّةُ. أَيْضًا، وَكَانَ مَوْضِعُهَا كَنِيسَةً عَلَى صَنَدِ حَنَّةَ أَيْ قَبْرِ حَنَّةَ أُمِّ مَرْيَمَ، عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَوَقَفَ عَلَى الصُّوفِيَّةِ رِبَاطًا كَانَ دَارًا لِلتَّبَرُّكِ إِلَى جَنْبِ الْقُمَامَةِ، وَأَجْرَى عَلَى الْفُقَهَاءِ وَالْفُقَرَاءِ الْجَامَكِيَّاتِ وَالْجَرَّايَاتِ، وَأَرْصَدَ الْخَتَمَاتِ وَالرَّبَعَاتِ فِي أَرْجَاءِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، لِمَنْ يَقْرَأُ أَوْ يَنْظُرُ فِيهَا مِنَ الْمُقِيمِينَ وَالزَّائِرِينَ.
وَتَنَافَسَ بَنُو أَيُّوبَ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ لِلْقَادِمِينَ وَالظَّاعِنِينَ وَالْقَاطِنِينَ، فَجَزَاهُمُ اللَّهُ خَيْرًا أَجْمَعِينَ، وَعَزَمَ السُّلْطَانُ عَلَى هَدْمِ قُمَامَةَ وَجَعْلِهَا دَكًّا لِتَنْحَسِمَ مَادَّةُ النَّصَارَى مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَتْرُكُونَ الْحَجَّ إِلَى هَذِهِ الْبُقْعَةِ، وَلَوْ تَرَكْتَهَا قَاعًا صَفْصَفًا، وَقَدْ فَتَحَ هَذِهِ الْبَلَدَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَتَرَكَ هَذِهِ الْكَنِيسَةَ بِأَيْدِيهِمْ، فَلَكَ فِي ذَلِكَ أُسْوَةٌ. فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَتَرَكَهَا عَلَى حَالِهَا تَأَسِّيًا بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَحَدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ، وَلَمْ يَتْرُكْ بِهَا مِنَ النَّصَارَى سِوَى أَرْبَعَةٍ يَخْدُمُونَهَا، وَحَالَ بَيْنَ النَّصَارَى وَبَيْنَهَا، وَهَدَمَ الْمَقَابِرَ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ عِنْدَ بَابِ الرَّحْمَةِ، وَعَفَّى آثَارَهَا، وَهَدَمَ مَا كَانَ هُنَاكَ مِنَ الْقِبَابِ وَعَجَّلَ دَمَارَهَا.
وَأَمَّا أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِالْقُدْسِ ; فَإِنَّ السُّلْطَانَ أَطْلَقَهُمْ، وَأَطْلَقَ لَهُمْ إِعْطَاءَاتٍ هَنِيَّةً، وَكَسَاهُمْ حُلَلًا سَنِيَّةً، وَانْطَلَقَ كُلٌّ مِنْهُمْ إِلَى وَطَنِهِ، وَعَادَ إِلَى أَهْلِهِ وَسَكَنِهِ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى نِعَمِهِ وَمِنَنِهِ.

فَصْلٌ
لَمَّا قَرَّرَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ مَا ذَكَرْنَاهُ انْفَصَلَ عَنْهَا فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَأَمَرَ وَلَدَهُ الْعَزِيزَ بِالرُّجُوعِ إِلَى مِصْرَ، وَسَارَ السُّلْطَانُ بِجَيْشِهِ فَقَصَدَ مَدِينَةَ صُورَ وَكَانَتْ قَدْ تَأَخَّرَتْ مِنْ بَيْنِ تِلْكَ النَّوَاحِي، وَقَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا بَعْدَ وَقْعَةِ حِطِّينَ رَجُلٌ مِنَ التُّجَّارِ يُقَالُ لَهُ: الْمَرْكِيسُ، فَحَصَّنَهَا وَضَبَطَ أَمَرَهَا وَحَفَرَ حَوْلَهَا خَنْدَقًا مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ، وَجُمْهُورُهَا فِي الْبَحْرِ، وَجَاءَ السُّلْطَانُ بِجَيْشِهِ فَحَاصَرَهَا مُدَّةً، وَاسْتَدْعَى بِالْأُسْطُولِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي الْبَحْرِ، فَاحْتَاطَ بِهَا بَرًّا وَبَحْرًا، فَعَدَتِ الْفِرِنْجُ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي عَلَى خَمْسِ شُوَانٍ مِنَ الْأُسْطُولِ، فَمَلَكَتْهَا وَنَكَبَتْهَا، فَأَصْبَحَ الْمُسْلِمُونَ وَاجِمِينَ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْبَرْدُ وَقَلَّتِ الْأَزْوَادُ، وَكَثُرَتِ الْجِرَاحَاتُ وَكَلَّ الْأُمَرَاءُ مِنَ الْمُحَاصَرَاتِ، فَسَأَلُوا السُّلْطَانَ أَنْ يَنْصَرِفَ بِهِمْ إِلَى دِمَشْقَ فِي هَذَا الْوَقْتِ حَتَّى يَسْتَرِيحُوا ثُمَّ يَعُودُوا إِلَيْهَا بَعْدَ هَذَا الْحِينِ، فَأَجَابَهُمْ بَعْدَ تَمَنُّعٍ مِنْهُ وَذَلِكَ أَنَّ السُّورَ مِنْ صُورَ كَانَ قَدْ هُدِمَ أَكْثَرُهُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْفَتْحُ وَالنَّجْحُ، فَتَوَجَّهَ إِلَى دِمَشْقَ وَاجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ عَلَى عَكَّا وَتَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ كُلٌّ إِلَى بَلَدِهِ وَرُسْتَاقِهِ، مُسْتَصْحِبًا كَثْرَةَ حَنِينِهِ إِلَى أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ وَاشْتِيَاقِهِ.
وَأَمَّا السُّلْطَانُ فَإِنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَى عَكَّا نَزَلَ بِقَلْعَتِهَا وَأَسْكَنَ وَلَدَهُ الْأَفْضَلَ بُرْجُ الدَّاوِيَّةِ، وَوَلَّى نِيَابَتَهَا عِزَّ الدِّينِ جُرْدَيْكَ، وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُهُمْ عَلَى السُّلْطَانِ بِتَخْرِيبِ مَدِينَةِ عَكَّا خَوْفًا مِنْ عَوْدِ الْفِرِنْجِ إِلَيْهَا، فَكَادَ، وَلَمْ يَفْعَلْ، وَلَيْتَهُ فَعَلَ،

بَلْ وَكَّلَ بِعِمَارَتِهَا وَتَجْدِيدِ مَحَاسِنِهَا بَهَاءَ الدِّينِ قَرَاقُوشَ التَّقَوِيَّ، وَوَقَفَ دَارَ الْإِسْبِتَارِ نِصْفَيْنِ عَلَى الْفُقَهَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَجَعَلَ دَارَ الْأَسْقُفِ مَارَسْتَانًا وَوَقَفَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَوْقَافًا دَارَّةً، وَوَلَّى نَظَرَ ذَلِكَ لِقَاضِيهَا جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الشَّيْخِ أَبِي النَّجِيبِ، وَهُوَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بِآرَائِهِ مُصِيبٌ. وَلَمَّا فَرَغَ السُّلْطَانُ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوبِ، وَأَزَالَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ تِلْكَ الْكُرُوبَ، وَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، أَبْهَجَ الْعُيُونَ وَسَرَّ الْقُلُوبَ وَجَاءَتْهُ رُسُلُ الْمُلُوكِ بِالتَّهَانِي مِنْ سَائِرِ الْأَقْطَارِ وَالْأَمْصَارِ بِالتُّحَفِ وَالْهَدَايَا الَّتِي تَبْهَرُ الْأَبْصَارَ، وَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ يَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي أَشْيَاءَ مِنْهَا ; أَنَّهُ بَعَثَ فِي بِشَارَةِ الْفَتْحِ بِحِطِّينَ مَعَ شَابٍّ بَغْدَادِيٍّ كَانَ وَضِيعًا عِنْدَهُمْ، لَا قَدْرَ لَهُ وَلَا قِيمَةَ، وَأَرْسَلَ بِفَتْحِ الْقُدْسِ الشَّرِيفِ مَعَ نَجَّابٍ، وَلَقَّبَ نَفْسَهُ بِالْمَلِكِ النَّاصِرِ مُضَاهَاةً لِلْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ، فَتَلَقَّى الرَّسُولَ بِالْبِشْرِ وَاللُّطْفِ، وَلَمْ يُظْهِرْ لَهُ إِلَّا السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ، وَأَرْسَلَ يَعْتَذِرُ مِمَّا وَقَعَ بِأَنَّ الْحَرْبَ كَانَتْ قَدْ شَغَلَتْهُ عَنِ التَّرَوِّي فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَأَمَّا لَقَبُهُ بِالنَّاصِرِ فَهُوَ مِنْ أَيَّامِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضِيءِ، وَمَعَ هَذَا فَمَهْمَا لَقَّبَنِي بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ الَّذِي لَا يُعْدَلُ عَنْهُ، وَتَأَدَّبَ مَعَ الْخَلِيفَةِ غَايَةَ الْأَدَبِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بِبِلَادِ الْهِنْدِ بَيْنَ الْمَلِكِ شِهَابِ الدِّينِ الْغُورِيِّ صَاحِبِ غَزْنَةَ وَبَيْنَ مَلِكِ الْهِنْدِ الْكَبِيرِ، فَأَقْبَلَتِ الْهُنُودُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْجُنُودِ وَمَعَهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فِيلًا، فَانْهَزَمَتْ مَيْمَنَةُ الْمُسْلِمِينَ وَمَيْسَرَتُهُمْ، وَقِيلَ لِلْمَلِكِ: انْجُ بِنَفْسِكَ. فَمَا زَادَهُ إِلَّا إِقَدْامًا، فَحَمَلَ عَلَى الْفِيَلَةِ فَجَرَحَ بَعْضَهَا - وَجُرْحُ الْفِيلِ لَا يَنْدَمِلُ - فَرَمَاهُ بَعْضُ الْفَيَّالَةِ بِحَرْبَةٍ فِي سَاعِدِهِ فَخَرَجَتْ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ فَخَرَّ صَرِيعًا، فَحَمَلَتِ الْهِنْدُ عَلَيْهِ لِيَأْخُذُوهُ، فَجَاحَفَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ لِيَحْمُوهُ، فَجَرَتْ عِنْدَهُ حَرْبٌ لَمْ يُسْمَعْ بِشِدَّتِهَا فِي مَوْقِفٍ، فَغَلَبَ

الْمُسْلِمُونَ فَخَلَّصُوا مَلِكَهُمْ وَاحْتَمَلُوهُ عَلَى كَوَاهِلِهِمْ فِي مَحَفَّةٍ عِشْرِينَ فَرْسَخًا، وَقَدْ نَزَفَهُ الدَّمُ، فَلَمَّا تَرَاجَعَ إِلَيْهِ جَيْشُهُ أَخَذَ فِي تَأْنِيبِ الْأُمَرَاءِ، وَحَلَفَ لِيَأْكُلَنَّ كُلُّ أَمِيرٍ عَلِيقَةَ فَرَسِهِ، وَمَا أَدْخَلَهُمْ غَزْنَةَ إِلَّا مُشَاةً حُفَاةً.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَدَتِ امْرَأَةٌ مِنْ سَوَادِ بَغْدَادَ بِنْتًا لَهَا أَسْنَانٌ.
وَفِيهَا قَتَلَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ أُسْتَاذَ دَارِهِ أَبَا الْفَضْلِ بْنَ الصَّاحِبِ، وَكَانَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى الْأُمُورِ وَلَمْ يَبْقَ لِلْخَلِيفَةِ مَعَهُ كَلِمَةٌ، وَمَعَ هَذَا كَانَ عَفِيفًا عَنِ الْأَمْوَالِ، جَيِّدَ السِّيرَةِ، فَأَخَذَ مِنْهُ الْخَلِيفَةُ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْحَوَاصِلِ وَالْأَمْوَالِ.
وَفِيهَا اسْتَوْزَرَ الْخَلِيفَةُ أَبَا الْمُظَفَّرِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ يُونُسَ وَلَقَّبَهُ جَلَالَ الدِّينِ، وَمَشَى أَهْلُ الدَّوْلَةِ فِي رِكَابِهِ حَتَّى قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الدَّامَغَانِيِّ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ يُونُسَ هَذَا شَاهِدًا عِنْدَهُ، فَكَانَ الْقَاضِي يَقُولُ وَهُوَ يَمْشِي: لَعَنَ اللَّهُ طُولَ الْعُمْرِ. فَمَاتَ الْقَاضِي فِي آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ حَكَمَ فِي أَيَّامِ عِدَّةٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَهُوَ مِنْ بَيْتِهِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ - مِنَ الْأَعْيَانِ:

الشَّيْخُ عَبْدُ الْمُغِيثِ بْنُ زُهَيْرٍ الْحَرْبِيُّ
كَانَ مِنْ صُلَحَاءِ الْحَنَابِلَةِ، وَكَانَ يُزَارُ، وَلَهُ مُصَنَّفٌ فِي فَضْلِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، أَتَى فِيهِ بِغَرَائِبَ وَعَجَائِبَ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَأَجَادَ وَأَصَابَ، وَمِنْ أَحْسَنِ مَا اتَّفَقَ لِعَبْدِ الْمُغِيثِ هَذَا أَنَّ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ - وَأَظُنُّهُ النَّاصِرَ - جَاءَهُ لِلزِّيَارَةِ مُخْتَفِيًا، فَعَرَفَهُ الشَّيْخُ، وَلَمْ يُعْلِمْهُ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَهُ، فَسَأَلَهُ الْخَلِيفَةُ عَنْ يَزِيدَ أَيُلْعَنُ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ: لَا أُسَوِّغُ لَعْنَهُ ; لِأَنِّي لَوْ فَتَحْتُ هَذَا الْبَابَ لَلَعَنَ النَّاسُ خَلِيفَتَنَا. قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يَفْعَلُ أَشْيَاءَ مُنْكَرَةً كَثِيرَةً، مِنْهَا كَذَا وَكَذَا. ثُمَّ شَرَعَ يُعَدِّدُ عَلَى الْخَلِيفَةِ، مَا يَقَعُ مِنْهُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ لِيَنْزَجِرَ عَنْهَا، فَتَرَكَهُ الْخَلِيفَةُ، وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ أَثَّرَ كَلَامُهُ لَهُ فِيهِ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ عَلِيُّ بْنُ خَطَّابِ بْنِ ظَفَرَ الْعَابِدُ النَّاسِكُ، أَحَدُ الزُّهَّادِ وَذَوِي الْكَرَامَاتِ، وَكَانَ مُقَامُهُ بِجَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " الْكَامِلِ " وَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ فِي حُسْنِ خُلُقِهِ وَسَمْتِهِ وَكَرَمِهِ وَعِبَادَتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْأَمِيرُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُقَدَّمٍ
أَحَدُ نُوَّابِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ، لَمَّا افْتَتَحَ النَّاصِرُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَحْرَمَ جَمَاعَةٌ فِي زَمَنِ الْحَجِّ مِنْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَكَانَ أَمِيرُ الْحَاجِّ تِلْكَ السَّنَةَ، فَلَمَّا كَانَ بِعَرَفَةَ ضَرَبَ الدَّبَادِبَ

وَنَشَرَ الْأَلْوِيَةَ، وَأَظْهَرَ عِزَّ السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَغَضِبَ طَاشْتِكِينُ أَمِيرُ الْحَاجِّ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ، فَزَجَرَهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَسْمَعْ، فَاقْتَتَلَا فَجُرِحَ ابْنُ مُقَدَّمٍ، وَمَاتَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بِمِنًى، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَدُفِنَ هُنَالِكَ، وَجَرَتْ خُطُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَلِيمَ طَاشْتِكِينُ عَلَى مَا فَعَلَ، وَعُزِلَ عَنْ مَنْصِبِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ سِبْطُ ابْنُ التَّعَاوِيذِيِّ الشَّاعِرُ، أَضَرَّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَقَدْ جَاوَزَ السِّتِّينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
نَصْرُ بْنُ فِتْيَانَ بْنِ مَطَرٍ
وَفِي خَامِسِ رَمَضَانَ تُوُفِّيَ الْفَقِيهُ أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ بْنُ فِتْيَانَ بْنِ مَطَرٍ الْحَنْبَلِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمَنِّيِّ، وَكَانَ زَاهِدًا عَابِدًا، مَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِمِائَةٍ، وَمِمَّنْ تَفَقَّهَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَاهِيرِ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ قُدْامَةَ، وَالْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ خَلَفِ بْنِ رَاجِحٍ، وَالنَّاصِحُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ النَّجْمِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْحَنْبَلِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَغَيْرُهُمْ.
أَبُو الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيُّ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ قَاضِي الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الدَّامَغَانِيِّ وَقَدْ حَكَمَ فِي أَيَّامِ الْمُقْتَفِي ثُمَّ الْمُسْتَنْجِدِ، ثُمَّ عُزِلَ وَأُعِيدَ فِي أَيَّامِ الْمُسْتَضِيءِ، وَحَكَمَ لِلنَّاصِرِ حَتَّى تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي مُحَرَّمِهَا حَاصَرَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ حِصْنَ كَوْكَبَ فَرَآهُ مَنِيعًا صَعْبًا، وَوَقْتُهُ مَشْغُولٌ بِغَيْرِهِ، فَوَكَّلَ بِهِ الْأَمِيرَ قَايْمَازَ النَّجْمِيَّ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ يُضَيِّقُونَ عَلَيْهِ الْمَسَالِكَ، وَكَذَلِكَ وَكَّلَ بِصَفَدَ - وَكَانَتْ لِلدَّاوِيَّةِ - خَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ مَعَ طُغْرُلَ الْجَانْدَارِ يَمْنَعُونَ وُصُولَ الْمِيرَةِ وَالتَّقَاوِي، وَبَعَثَ إِلَى الْكَرَكِ وَالشُّوبَكِ جَيْشًا آخَرَ يُحَاصِرُونَهُ وَيُضَيِّقُونَ عَلَى أَهْلِهِ، لِيَتَفَرَّغَ مِنْ أُمُورِهِ لِقِتَالِ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ وَحِصَارِهَا.
وَكَانَ دُخُولُ السُّلْطَانِ إِلَى دِمَشْقَ مِنْ هَذِهِ الْغَزَاةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَفَرِحَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ وَزُيِّنَ الْبَلَدُ، وَوَجَدَ الصَّفِيَّ بْنَ الْقَابِضِ وَكَيْلَ الْخِزَانَةِ قَدْ بَنَى لِلْمَلِكِ دَارًا بِالْقَلْعَةِ هَائِلَةً مُطِلَّةً عَلَى الشَّرَفِ الْقِبْلِيِّ، فَغَضِبَ عَلَيْهِ وَعَزَلَهُ مِنْ وَظِيفَتِهِ، وَقَالَ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِلْمُقَامِ بِدِمَشْقَ، وَإِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْعِبَادَةِ وَالْجِهَادِ.
وَجَلَسَ السُّلْطَانُ بِدَارِ الْعَدْلِ فَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَأَهْلُ الْفَضْلِ، وَزَارَ الْقَاضِيَ الْفَاضِلَ فِي بُسْتَانِهِ عَلَى الشَّرَفِ فِي جَوْسَقِ ابْنِ الْفَرَّاشِ، وَحَكَى لَهُ مَا

كَانَ مِنَ الْأُمُورِ، وَاسْتَشَارَهُ فِيمَا يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ وَالْغَزَوَاتِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ دِمَشْقَ فِي جُيُوشِهِ، فَسَلَكَ عَلَى جَبَلِ نَبُوسَ، وَدَخَلَ الْبِقَاعَ وَخَيَّمَ عَلَى بَعْلَبَكَّ وَسَارَ إِلَى حِمْصَ وَجَاءَتْهُ عَسَاكِرُ الْجَزِيرَةِ وَهُوَ عَلَى الْعَاصِي فَسَارَ إِلَى السَّوَاحِلِ الشَّامِيَّةِ، فَفَتَحَ أَنْطَرْطُوسَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْحُصُونِ، وَفَتَحَ جَبَلَةَ وَاللَّاذِقِيَّةَ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ الْمُدُنِ عِمَارَةً وَرُخَامًا وَمَحَالَّ، وَفَتَحَ صُهْيُونَ وَبَكَاسَ وَالشُّغْرَ ; وَهُمَا قَلْعَتَانِ عَلَى الْعَاصِي حَصِينَتَانِ، فَتَحَهُمَا عَنْوَةً، وَفَتَحَ حِصْنَ بَرْزَيَهْ ; وَهِيَ قَلْعَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى شَاهِقِ جَبَلٍ عَالٍ مَنِيعٍ، تَحْتَهَا أَوْدِيَةٌ عَمِيقَةٌ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِحَصَانَتِهَا فِي سَائِرِ بِلَادِ الْفِرِنْجِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَحَاصَرَهَا أَشَدَّ حِصَارٍ وَرَكَّبَ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ الْكِبَارَ، وَفَرَّقَ الْجَيْشَ ثَلَاثَ فِرَقٍ، كُلُّ فَرِيقٍ يَلُونَ الْقِتَالَ، فَإِذَا كَلُّوا وَتَعِبُوا خَلَفَهُمُ الْآخَرُونَ، حَتَّى لَا يَزَالَ الْقِتَالُ مُسْتَمِرًّا لَيْلًا وَنَهَارًا صَبَاحًا وَمَسَاءً، فَكَانَ فَتْحُهَا فِي نَوْبَةِ السُّلْطَانِ، فَأَخَذَهَا عَنْوَةً فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ، وَنَهَبَ جَمِيعَ مَا فِيهَا وَاسْتَوْلَى عَلَى حَوَاصِلِهَا وَأَمْوَالِهَا، وَقَتَلَ حُمَاتَهَا وَرِجَالَهَا، وَسَبَى ذَرَارِيَهَا وَأَطْفَالَهَا، ثُمَّ عَدَلَ عَنْهَا فَفَتَحَ حِصْنَ دَرَبْسَاكَ وَحِصْنَ بَغْرَاسَ كُلُّ ذَلِكَ يَفْتَحُهُ عَنْوَةً فَيَغْنَمُ وَيَسْلَمُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
ثُمَّ سَمَتْ هِمَّتُهُ الْعَالِيَةُ إِلَى فَتْحِ أَنْطَاكِيَةَ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَهْلَكَ مَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى، وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهَا بِكَثْرَةِ الْجُنُودِ، فَرَاسَلَهُ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ يَطْلُبُ مِنْهُ الْهُدْنَةَ عَلَى أَنْ يُطْلِقَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَجَابَهُ السُّلْطَانُ إِلَى ذَلِكَ لِعِلْمِهِ

بِضَجَرِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ وَالْأَعْوَانِ، فَوُقِّعَتِ الْهُدْنَةُ عَلَى سَبْعَةِ أَشْهُرٍ ; وَمَقْصُودُ السُّلْطَانِ أَنْ تَسْتَرِيحَ الْجُيُوشُ مِنْ تَعَبِهَا، وَتَجُمُّ النُّفُوسُ مِنْ نَصَبِهَا، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَيْهِ مَنْ تَسَلَّمَ مِنْهُ الْأُسَارَى وَقَدْ ذُلَّتْ دَوْلَةُ النَّصَارَى.
ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ فَسَأَلَهُ وَلَدُهُ الظَّاهِرُ أَنْ يَجْتَازَ بِحَلَبَ فَأَجَابَهُ إِلَى مَا طَلَبَ، فَنَزَلَ بِقَلْعَتِهَا ثَلَاثَ لَيَالٍ ثُمَّ جَدَّدَ الْعَزْمَ وَالتَّرْحَالَ، فَاسْتَقَدْمَهُ ابْنُ أَخِيهِ تَقِيُّ الدِّينِ إِلَى حَمَاةَ فَنَزَلَ بِقَلْعَتِهَا لَيْلَةً، كَانَتْ مِنْ أَكْبَرِ مَقَاصِدِهِ وَمُنَاهُ، وَأَقْطَعَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ جَبَلَةَ وَاللَّاذِقِيَّةَ، ثُمَّ سَارَ فَنَزَلَ بِقَلْعَةِ بَعْلَبَكَّ وَدَخَلَ إِلَى حَمَّامِهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مَسْرُورًا مَحْبُورًا، وَجَاءَتْهُ الْبَشَائِرُ بِفَتْحِ الْكَرَكِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، الَّذِينَ كَانُوا مُحَاصَرِينَ، وَأَرَاحَ اللَّهُ تِلْكَ النَّاحِيَةَ، وَسَهَّلَ حَزْنَهَا عَلَى السَّالِكِينَ مِنَ التُّجَّارِ وَالْحُجَّاجِ وَالْغُزَاةِ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ الْأَنْعَامِ: 45 ]

فَصْلٌ فِي صِفَةِ فَتْحِ صَفَدَ وَحِصْنِ كَوْكَبَ
لَمْ يُقِمِ السُّلْطَانُ بِدِمَشْقَ إِلَّا أَيَّامًا مُعَدَّدَةً حَتَّى خَرَجَ بِجَيْشِهِ قَاصِدًا بِلَادَ صَفَدَ، فَنَازَلَهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ، وَحَاصَرَهَا بَالْمَنْجَنِيقَاتِ وَالشُّجْعَانِ، وَكَانَ الْبَرْدُ شَدِيدًا يُصْبِحُ الْمَاءُ فِيهِ جَلِيدًا، فَمَا زَالَ حَتَّى فَتَحَهَا صُلْحًا فِي ثَامِنِ شَوَّالٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

ثُمَّ سَارَ إِلَى صُورَ فَأَلْقَتْ إِلَيْهِ بِقِيَادِهَا، وَتَبَرَّأَتْ مِنْ نَاصِرِيهَا وَقُوَّادِهَا، وَتَحَقَّقَتْ - لَمَّا فُتِحَتْ صَفَدُ - أَنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِأَصْفَادِهَا.
ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى حِصْنِ كَوْكَبَ - وَهِيَ مَعْقِلُ الْإِسْبِتَارِيَّةِ كَمَا أَنَّ صَفَدَ كَانَتْ مَعْقِلَ الدَّاوِيَّةِ - وَكَانُوا أَبْغَضَ أَجْنَاسِ الْفِرِنْجِ إِلَى الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ، الَّذِي لَا يَكَادُ يَتْرُكُ مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا قَتْلَهُ ; إِذَا وَقَعَ فِي الْمَأْسُورِينَ - فَحَاصَرَ قَلْعَةَ كَوْكَبَ حَتَّى قَهَرَهَا، وَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهَا وَأَسَرَهَا وَأَرَاحَ الْمَارَّةَ مِنْ شَرِّ سَاكِنِيهَا، وَتَمَهَّدَتْ تِلْكَ السَّوَاحِلُ وَاسْتَقَرَّ بِهَا مَنَازِلُ قَاطِنِيهَا. هَذَا وَالسَّمَاءُ تَصُبُّ، وَالرِّيَاحُ تَهُبُّ، وَالسُّيُولُ تَعُبُّ، وَالْأَرْجُلُ فِي الْأَوْحَالِ تَخُبُّ، وَالسُّلْطَانُ فِي كُلِّ ذَلِكَ صَابِرٌ مُصَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، وَكَانَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِفِ شَاهِدًا مُرْتَقِبًا، وَكَتَبَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ عَنِ السُّلْطَانِ إِلَى أَخِيهِ سَيْفِ الْإِسْلَامِ صَاحِبِ الْيَمَنِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَى الشَّامِ لِنُصْرَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَقَتْلِ الْكَفَرَةِ اللِّئَامِ، فَإِنَّهُ قَدْ عَزَمَ عَلَى حِصَارِ أَنْطَاكِيَةَ وَيَكُونُ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ مُحَاصِرًا لِطَرَابُلُسَ إِذَا انْسَلْخَ هَذَا الْعَامُ. ثُمَّ عَزَمَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَسَارَ السُّلْطَانُ مَعَهُ لِتَوْدِيعِهِ ثُمَّ عَدَلَ إِلَى الْقُدْسِ الشَّرِيفِ، فَصَلَّى فِيهِ الْجُمُعَةَ، وَعَيَّدَ فِيهِ عِيدَ الْأَضْحَى بِالصَّخْرَةِ مِنَ الْأَقْصَى، ثُمَّ سَارَ وَمَعَهُ أَخُوهُ الْعَادِلُ إِلَى عَسْقَلَانَ ثُمَّ أَقْطَعَ أَخَاهُ الْكَرَكَ عِوَضًا عَنْ عَسْقَلَانَ وَأَمَرَهُ بِالِانْصِرَافِ لِيَكُونَ عَوْنًا لِابْنِهِ الْعَزِيزِ عَلَى حَوَادِثِ الزَّمَانِ، وَعَادَ السُّلْطَانُ فَأَقَامَ بِمَدِينَةِ عَكَّا حَتَّى انْسَلَخَتْ هَذِهِ السَّنَةُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الرَّافِضَةِ بِمِصْرَ يُرِيدُونَ أَنْ يُعِيدُوا دَوْلَةَ الْفَاطِمِيِّينَ، وَاغْتَنَمُوا غَيْبَةَ الْعَادِلِ عَنْ مِصْرَ، وَاسْتَخَفُّوا أَمْرَ الْعَزِيزِ

عُثْمَانَ بْنِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَبَعَثُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا يُنَادُونَ فِي اللَّيْلِ: يَا لَعَلِيٍّ، يَا لَعَلِيٍّ. بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَامَّةَ تُجِيبُهُمْ إِلَى مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ وَلَا مَنَعَهُمْ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ انْهَزَمُوا فَأُدْرِكُوا وَأُخِذُوا وَقُيِّدُوا وَحُبِسُوا، وَلَمَّا بَلَغَ أَمْرُهُمْ إِلَى السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ سَاءَهُ ذَلِكَ وَاهْتَمَّ لَهُ، وَكَانَ الْفَاضِلُ عِنْدَهُ بَعْدُ لَمْ يُفَارِقْهُ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ يَنْبَغِي أَنْ تَفْرَحَ وَلَا تَحْزَنَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُصْغِ إِلَى دَعْوَةِ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةِ أَحَدٌ مِنْ رَعِيَّتِكَ وَلَوِ الْتَفَتُوا إِلَيْهِمْ، فَلَوْ أَنَّكَ بَعَثْتَ مِنْ قِبَلِكَ جَوَاسِيسَ يَخْتَبِرُونَ رَعِيَّتَكَ لَسَرَّكَ مَا يَبْلُغُكَ عَنْهُمْ. فَسَرَّى ذَلِكَ عَنْهُ، وَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ، وَلِهَذَا أَرْسَلَهُ إِلَى مِصْرَ ; لِيَكُونَ لَهُ عَيْنًا وَعَوْنًا مُعِينًا.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ سُلَالَةُ الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ
الشَّيْزَرِيُّ مُؤَيَّدُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَارِثِ وَأَبُو الْمُظَفَّرِ أُسَامَةُ بْنُ مُرْشِدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُقَلَّدِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُنْقِذٍ، أَحَدُ الشُّعَرَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَالْأُمَرَاءِ الْمَشْكُورِينَ بَلَغَ مِنَ الْعُمْرِ سِتًّا وَتِسْعِينَ سَنَةً وَكَانَ عُمْرُهُ تَارِيخًا مُسْتَقِلًّا وَحْدَهُ وَكَانَتْ دَارُهُ بِدِمَشْقَ مَعْقِلًا لِلْفُضَلَاءِ وَمَنْزِلًا لِلْعُلَمَاءِ، وَلَهُ مِنَ الْأَشْعَارِ الرَّائِقَةِ وَالْمَعَانِي الْفَائِقَةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَلَدَيْهِ عِلْمٌ غَزِيرٌ، وَعِنْدَهُ جُودٌ وَفَضْلٌ كَبِيرٌ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ مُلُوكِ شَيْزَرَ ثُمَّ أَقَامَ بِدِيَارِ مِصْرَ مُدَّةً فِي أَيَّامِ الْفَاطِمِيِّينَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الشَّامِ وَقَدِمَ عَلَى الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ فِي سَنَةِ سَبْعِينَ وَأَنْشَدَهُ:

حَمِدْتُ عَلَى طُولِ عُمْرِي الْمَشِيبَا وَإِنْ كُنْتُ أَكْثَرْتُ فِيهِ الذُّنُوبَا لِأَنِّي حَيِيتُ إِلَى أَنْ لَقِي
تُ بَعْدَ الْعَدُوِّ صَدِيقًا حَبِيبَا
وَلَهُ فِي سِنٍّ قَلَعَهَا فَفَقَدَ نَفْعَهَا:
وَصَاحِبٍ لَا أَمَلُّ الدُّهْرَ صُحْبَتَهُ يَشْقَى لِنَفْعِي وَيَسْعَى سَعْيَ مُجْتَهِدِ
لَمْ أَلْقَهُ مُذْ تَصَاحَبْنَا فَحِينَ بَدَا لِنَاظِرَيَّ افْتَرَقْنَا فُرْقَةَ الْأَبَدِ
وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ كَبِيرٌ، وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ يُفَضِّلُهُ عَلَى سَائِرِ الدَّوَاوِينِ.
وَقَدْ كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ فِي شَبِيبَتِهِ شَهْمًا شُجَاعًا فَاتِكًا، قَتَلَ الْأَسَدَ مُوَاجَهَةً وَحْدَهُ، ثُمَّ عُمِّرَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ شَرْقِيَّ جَبَلِ قَاسْيُونَ. قَالَ: وَزَرْتُ قَبْرَهُ وَقَرَأْتُ عِنْدَهُ وَأَهْدَيْتُ لَهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ لَهُ قَوْلُهُ:
لَا تَسْتَعِرْ جَلَدًا عَلَى هُجْرَانِهِمْ فَقُوَاكَ تَضْعُفُ عَنْ صُدُودٍ دَائِمِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ إِنْ رَجَعْتَ إِلَيْهِمُ طَوْعًا وَإِلَّا عُدْتَ عَوْدَةَ رَاغِمِ
وَقَوْلُهُ فِي قَتْلِ الْأَسَدِ وَكِبَرِهِ:
فَاعْجَبْ لِضَعْفِ يَدِي عَنْ حَمْلِهَا قَلَمًا مِنْ بَعْدِ حَطْمِ الْقَنَا فِي لَبَّةِ الْأَسَدِ

وَقُلْ لِمَنْ يَتَمَنَّى طُولَ مُدَّتِهِ هَذِي عَوَاقِبُ طُولِ الْعُمْرِ وَالْمَدَدِ
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ شَيْخُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُوَيْدَةَ التَّكْرِيتِيُّ، كَانَ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ حَسَنَةٌ. رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَازِمِيُّ الْهَمَذَانِيُّ
قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ حَازِمٍ الْحَازِمِيُّ الْهَمَذَانِيُّ بِبَغْدَادَ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ، عَلَى صِغَرِ سِنِّهِ مِنْهَا " الْعُجَالَةُ " فِي النَّسَبِ، وَ " النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ " فِي الْحَدِيثِ وَغَيْرُهُمَا. وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ رُسُلٌ إِلَى السُّلْطَانِ يُعْلِمُونَهُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ لِأَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدٍ الْمُلَقَّبِ بِالظَّاهِرِ بْنِ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ خَطِيبَ دِمَشْقَ أَبَا الْقَاسِمِ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ زَيْدٍ الدَّوْلَعِيَّ بِالدُّعَاءِ لَهُ، ثُمَّ جَهَّزَ السُّلْطَانُ مَعَ الرُّسُلِ تُحَفًا عَظِيمَةً، وَهَدَايَا سَنِيَّةً، وَأَرْسَلَ بِأُسَارَى مِنَ الْفِرِنْجِ عَلَى هَيْئَتِهِمْ فِي حَالِ حَرْبِهِمْ، وَأَرْسَلَ بِصَلِيبِ الصَّلَبُوتِ فَدُفِنَ تَحْتَ عَتَبَةِ بَابِ النَّوَى، مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ، فَكَانَ بِالْأَقَدْامِ يُدَاسُ، بَعْدَمَا كَانَ يُعَظَّمُ وَيُبَاسُ، وَصَارَ يُبْصَقُ عَلَيْهِ بَعْدَمَا كَانَ يُسْجَدُ إِلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الصَّلِيبَ إِنَّمَا هُوَ الَّذِي كَانَ مَنْصُوبًا عَلَى قُبَّةِ الصَّخْرَةِ، وَكَانَ مِنْ نُحَاسٍ مَطْلِيًّا بِالذَّهَبِ، وَقَدِ انْحَطَّ إِلَى أَسْفَلِ الرُّتَبِ.

قِصَّةُ عَكَّا وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا
لَمَّا كَانَ شَهْرُ رَجَبٍ اجْتَمَعَ مَنْ كَانَ بِصُورَ مِنَ الْفِرِنْجِ وَسَارُوا إِلَى مَدِينَةِ عَكَّا فَأَحَاطُوا بِهَا يُحَاصِرُونَهَا، فَتَحَصَّنَ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَعَدُّوا لِلْحِصَارِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَبَلَغَ السُّلْطَانَ خَبَرُهُمْ فَسَارَ إِلَيْهِمْ مِنْ دِمَشْقَ مُسْرِعًا، فَوَجَدَهُمْ

قَدْ أَحَاطُوا بِهَا، كَإِحَاطَةِ الْخَاتَمِ بِالْخِنْصَرِ، فَلَمْ يَزَلْ يُدَافِعُهُمْ عَنْهَا وَيُمَانِعُهُمْ مِنْهَا، حَتَّى جَعَلَ طَرِيقًا إِلَى بَابِ الْقَلْعَةِ يَصِلُ إِلَيْهِ كُلٌّ مَنْ أَرَادَهُ، مِنْ جُنْدِيٍّ وَسُوقِيٍّ، وَامْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ، ثُمَّ أَوْلَجَ فِيهَا مَا أَرَادَ مِنْ آلَاتٍ وَأَمْتِعَةٍ، وَمُقَاتِلَةٍ، وَدَخَلَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، فَعَلَا سُورَهَا وَنَظَرَ إِلَى الْفِرِنْجِ وَجَيْشِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ، وَالْمِيرَةُ تَفِدُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبَحْرِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَكُلُّ مَا لَهُمْ فِي ازْدِيَادٍ، وَفِي كُلِّ حِينٍ تَصِلُ إِلَيْهِمُ الْأَمْدَادُ، وَعَادَ السُّلْطَانُ إِلَى مُخَيَّمِهِ وَالْجُنُودُ تَصِلُ إِلَيْهِ، وَتُقْدِمُ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَمَكَانٍ، مِنْهُمْ رَجَّالَةٌ وَفُرْسَانٌ.

وَقْعَةُ مَرْجِ عَكَّا
ثُمَّ بَرَزَتِ الْفِرِنْجُ فِي نَحْوٍ مِنْ أَلْفَيْ فَارِسٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ رَاجِلٍ فِي الْعَشْرِ الْأُخَرِ مِنْ شَعْبَانَ، فَبَرَزَ إِلَيْهِمُ السُّلْطَانُ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ السَّادَةِ الشُّجْعَانِ، فَاقْتَتَلُوا بِمَرْجِ عَكَّا قِتَالًا عَظِيمًا، وَهُزِمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، ثُمَّ كَانَتِ الْكَرَّةُ عَلَى الْفِرِنْجِ فِي آخِرِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَرِيبُ الْمِائَتَيْنِ، وَأَمَّا الْفِرِنْجُ فَكَانَتِ الْقَتْلَى مِنْهُمْ أَزْيَدَ مِنْ سَبْعَةِ آلَافِ قَتِيلٍ، وَلَمَّا تَمَّتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ تَحَوَّلَ السُّلْطَانُ مِنْ مَكَانِهِ الْأَوَّلِ إِلَى مَوْضِعٍ بَعِيدٍ مِنْ رَائِحَةِ الْقَتْلَى، خَوْفًا مِنَ الْوَخَمِ وَالْأَذَى ; لِيَسْتَرِيحَ الْخَيَّالَةُ وَالْخَيْلُ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَكْبَرِ الْمَصَالِحِ لِلْعَدُوِّ الْمَخْذُولِ، فَإِنَّهُمُ اغْتَنَمُوا هَذِهِ الْفَتْرَةَ، فَحَفَرُوا حَوْلَ مُخَيَّمِهِمْ خَنْدَقًا لِجَمِيعِ جَيْشِهِمْ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ مُحْدِقًا، وَاتَّخَذُوا مِنْ تُرَابِهِ سُورًا شَاهِقًا، وَجَعَلُوا لَهُ أَبْوَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهَا إِذَا أَرَادُوا، وَتَمَكَّنُوا فِي مَنْزِلِهِمْ ذَلِكَ الَّذِي لَهُ اخْتَارُوا وَارْتَادُوا، وَتَفَارَطَ الْأَمْرُ، وَقَوِيَ الْخَطْبُ، وَصَارَ الدَّاءُ عُضَالًا، وَازْدَادَ الْحَالُ وَبَالًا، وَكَانَ رَأْيُ السُّلْطَانِ أَنْ يُنَاجَزُوا بَعْدَ الْكَرَّةِ سَرِيعًا،

وَلَا يُتْرَكُوا حَتَّى يَطِيبَ رِيحُ الْبَحْرِ فَتَأْتِيَهِمُ الْأَمْدَادُ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ هَرِيعًا، فَاعْتَذَرَ الْأُمَرَاءُ بِالْمَلَالِ وَالضَّجَرِ، وَكُلٌّ لِأَمْرِ الْفِرِنْجِ قَدِ احْتَقَرَ، وَلَمْ يَدْرِ مَا قَدْ حُتِّمَ فِي الْقَدَرِ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى جَمِيعِ الْمُلُوكِ يَسْتَنْفِرُ وَيَسْتَنْصِرُ، وَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِالْبَثِّ، وَبَثَّ الْكُتُبَ بِالتَّحْضِيضِ وَالْحَثِّ، فَجَاءَتْهُ الْأَمْدَادُ جَمَاعَاتٍ وَآحَادًا، وَأَرْسَلَ إِلَى مِصْرَ يَطْلُبُ أَخَاهُ الْعَادِلَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَعْجِلُ الْأُسْطُولَ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ فِي خَمْسِينَ قِطْعَةً فِي الْبَحْرِ مَعَ الْأَمِيرِ حُسَامِ الدِّينِ لُؤْلُؤٍ، فَحِينَ وَصَلَ الْأُسْطُولُ حَادَتْ مَرَاكِبُ الْفِرِنْجِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، وَخَافَتْ كُلُّهَا مِنْهُ، وَاتَّصَلَتْ بِالْبَلَدِ الْمِيرَةُ وَالْعَدَدُ وَالْعُدَدُ وَانْشَرَحَتِ الصُّدُورُ بَعْدَ الضِّيقِ وَالْكَمَدِ، وَانْسَلَخَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْحَالُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَلَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْقَاضِي شَرَفُ الدِّينِ أَبُو سَعْدٍ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَصْرُونَ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، لَهُ كِتَابُ " الِانْتِصَارِ "، وَقَدْ وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِدِمَشْقَ، ثُمَّ أَضَرَّ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَشْرِ سِنِينَ، فَجُعِلَ وَلَدُهُ مُحْيِي الدِّينِ مَكَانَهُ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ، وَبَلَغَ الْقَاضِي شَرَفُ الدِّينِ ثَلَاثًا وَتِسْعِينَ سَنَةً وَنِصْفًا، وَدُفِنَ بِالْمَدْرَسَةِ الْعَصْرُونِيَّةِ، الَّتِي أَنْشَأَهَا غَرْبِيَّ سَوِيقَةِ بَابِ الْبَرِيدِ، قُبَالَةَ دَارِهِ، بَيْنَهُمَا عَرْضُ الطَّرِيقِ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَالْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وِقَدْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي

ابْنُ خَلِّكَانَ فَقَالَ: أَصْلُهُ مِنْ حَدِيثَةِ الْمَوصِلِ وَرَحَلَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إِلَى بُلْدَانٍ شَتَّى، وَأَخَذَ عَنْ أَسْعَدَ الْمِيهَنِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِقِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَوَلِيَ قَضَاءَ سِنْجَارَ وَحَرَّانَ، وَبَاشَرَ فِي أَيَّامِ نُورِ الدِّينِ تَدْرِيسَ الْغَزَّالِيَّةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى حَلَبَ فَبَنَى لَهُ نُورُ الدِّينِ مَدْرَسَةً بِحَلَبَ وَبِحِمْصَ أَيْضًا، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ فِي أَيَّامِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَوَلِيَ قَضَاءَهَا فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَمَعَ جُزْءًا فِي قَضَاءِ الْأَعْمَى، وَأَنَّهُ جَائِزٌ ; وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ، لَكِنْ حَكَاهُ صَاحِبُ " الْبَيَانِ " وَجْهًا لِبَعْضِ الْأَصْحَابِ. قَالَ: وَلَمْ أَرَهُ فِي غَيْرِهِ. وَقَدْ صَنَّفَ كُتُبًا كَثِيرَةً، مِنْهَا: " صَفْوَةُ الْمَذْهَبِ فِي نِهَايَةِ الْمَطْلَبِ " فِي سَبْعِ مُجَلَّدَاتٍ، وَ " الِانْتِصَارُ " فِي أَرْبَعٍ، وَ " الْخِلَافُ " فِي أَرْبَعٍ، وَ " الذَّرِيعَةُ فِي مَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ "، وَ " الْمُرْشِدُ " وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكِتَابًا سَمَّاهُ " مَآخِذَ النَّظَرِ "، وَمُخْتَصَرًا فِي الْفَرَائِضِ وَغَيْرَهَا، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ "، وَالْعِمَادُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ
وَأَوْرَدَ لَهُ الْعِمَادُ أَشْعَارًا كَثِيرَةً، وَمِمَّا أَوْرَدَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ عَنْهُ قَوْلُهُ:
أُؤَمِّلُ أَنْ أَحْيَا وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ تَمُرُّ بِيَ الْمَوْتَى تُهَزُّ نُعُوشُهَا وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِثْلُهُمْ غَيْرَ أَنَّ لِي
بَقَايَا لَيَالٍ فِي الزَّمَانِ أَعِيشُهَا

أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبَانَ
أَبُو الْعَبَّاسِ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَفْضَلِ الزَّمَانِ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: كَانَ عَالِمًا مُتَبَحِّرًا فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْفِقْهِ، وَالْأُصُولِ وَالْحِسَابِ وَالْفَرَائِضِ وَالنُّجُومِ وَالْهَيْئَةِ وَالْمَنْطِقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ جَاوَرَ بِمَكَّةَ وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صُحْبَةً وَخُلُقًا.
الْفَقِيهُ الْأَمِيرُ ضِيَاءُ الدِّينِ عِيسَى الْهَكَّارِيُّ
كَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ، دَخَلَ مَعَهُ إِلَى مِصْرَ، وَحَظِيَ عِنْدَهُ، ثُمَّ كَانَ مُلَازِمًا لِلسُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ حَتَّى تُوُفِّيَ فِي رِكَابِهِ بِمَنْزِلَةِ الْخَرُّوبَةِ قَرِيبًا مِنْ عَكَّا فَنُقِلَ إِلَى الْقُدْسِ الشَّرِيفِ فَدُفِنَ بِهِ، وَكَانَ مِمَّنْ تَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْبَزْرِيِّ الْجَزَرِيِّ. وَكَانَ الْفَقِيهُ عِيسَى مِنَ الْفُضَلَاءِ وَالنُّبَلَاءِ وَالْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمُبَارَكُ بْنُ الْمُبَارَكِ الْكَرْخِيُّ
مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ، تَفَقَّهَ بِابْنِ الْخَلِّ، وَكَانَتْ لَهُ مَكَانَةٌ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ وَالْعَامَّةِ، وَكَانَ يُضْرَبُ بِحُسْنِ خَطِّهِ الْمَثَلُ. وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي " الطَّبَقَاتِ "، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
اسْتُهِلَّتْ وَالسُّلْطَانُ مُحَاصِرٌ لِمُحَاصِرِي عَكَّا وَأَمْدَادُ الْفِرِنْجِ تَقَدَمُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَحْرِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَكُلِّ حِينٍ حَتَّى إِنَّ النِّسَاءَ لِيَخْرُجْنَ بِنِيَّةِ الْقِتَالِ وَمِنْهُنَّ مَنْ تَأْتِي بِنِيَّةِ رَاحَةِ الْغُرَبَاءِ فِي الْغُرْبَةِ قَدِمَ إِلَيْهِمْ مَرْكَبٌ فِيهِ ثَلَاثُمِائَةِ امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنْ فَسَقَةِ الْمُسْلِمِينَ تَحَيَّزُوا إِلَيْهِمْ لِأَجْلِ هَذِهِ النِّسْوَةِ، وَاشْتُهِرَ الْخَبَرُ بِأَنَّ مَلِكَ الْأَلْمَانِ قَدْ أَقْبَلَ فِي نَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ مِنْ نَاحِيَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ يُرِيدُ أَخْذَ الشَّامِ وَقَتْلَ أَهْلِهِ وَمُلُوكِهِ انْتِصَارًا لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ هَمًّا عَظِيمًا وَخَافُوا غَائِلَةَ ذَلِكَ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشُّغْلِ الْعَظِيمِ وَالْحِصَارِ الْهَائِلِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَطَفَ بِهِمْ وَأَهْلَكَ غَالِبَ أُمَّةِ الْأَلْمَانِ فِي الطُّرُقَاتِ بِالْبَرْدِ وَالْجُوعِ وَالضَّلَالِ فِي الْمَهَالِكِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَانَ سَبَبَ نَفَرِ النَّصَارَى فِي هَذَا الْعَامِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ " أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الرُّهْبَانِ وَالْقُسُوسِ رَكِبُوا مِنْ مَدِينَةِ صُورَ فِي أَرْبَعَةِ مَرَاكِبَ يَطُوفُونَ الْبُلْدَانَ الْبَحْرِيَّةَ يَحُثُّونَهُمْ عَلَى الِانْتِصَارِ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَا جَرَى عَلَى أَهْلِ السَّوَاحِلِ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَخَرَابِ الدِّيَارِ وَقَدْ صَوَّرُوا صُورَةَ الْمَسِيحِ وَصُورَةَ عَرَبِيٍّ يَضْرِبُهُ فَإِذَا سَأَلُوهُمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَضْرِبُ الْمَسِيحَ ؟ قَالُوا: هَذَا نَبِيُّ الْعَرَبِ

يَضْرِبُهُ وَقَدْ جَرَحَهُ وَمَاتَ فَيَنْزَعِجُونَ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَحْمُونَ وَيَبْكُونَ وَيَحْزَنُونَ وَيَخْرُجُونَ مِنْ بِلَادِهِمْ لِنُصْرَةِ دِينِهِمْ وَنَبِيِّهِمْ وَمَوْضِعِ حَجِّهِمْ عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ حَتَّى النِّسَاءُ الْمُخَدَّرَاتُ وَالْأَبْنَاءُ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ أَهْلِيهِمْ مِنْ أَعْزِّ الثَّمَرَاتِ وَأَخَصِّ الْخَدِرَاتِ.
وَفِي نِصْفِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تَسَلَّمَ السُّلْطَانُ شَقَيفُ أَرْنُوَنَ بِالْأَمَانِ وَكَانَ صَاحِبُهُ مَأْسُورًا فِي الذُّلِّ وَالْهَوَانِ وَكَانَ مِنْ أَدْهَى الْفِرِنْجِ وَأَخْبَرِهِمْ بِأَيَّامِ النَّاسِ وَرُبَّمَا قَرَأَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَكَانَ مَعَ هَذَا غَلِيظَ الْجِلْدِ كَافِرَ الْقَلْبِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَمَّا انْفَصَلَ فَصْلُ الشِّتَاءِ وَأَقْبَلَ الرَّبِيعُ جَاءَتِ الْمُلُوكُ مِنْ بُلْدَانِهَا بِخُيُولِهَا وَشُجْعَانِهَا وَرِجَالِهَا وَفُرْسَانِهَا وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ أَحْمَالًا مِنَ النِّفْطِ وَالرِّمَاحِ وَنَفَّاطَةً وَنَقَّابِينَ كُلٌّ مِنْهُمْ مُتْقِنٌ فِي صَنْعَتِهِ غَايَةَ الْإِتْقَانِ وَمَرْسُومًا بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَانْفَتَحَ الْبَحْرُ وَتَوَاتَرَتْ مَرَاكِبُ الْفِرِنْجِ مِنْ كُلِّ جَزِيرَةٍ يَنْصُرُونَ أَصْحَابَهُمْ وَيَمُدُّونَهُمْ بِالْقُوَّةِ وَالْمِيرَةِ وَعَمِلَتِ الْفِرِنْجُ ثَلَاثَةَ أَبْرِجَةٍ مِنْ خَشَبٍ وَحَدِيدٍ عَلَيْهَا جُلُودٌ مُسْقَاةٌ بِالْخَلِّ لِئَلَّا يَعْمَلَ فِيهَا النِّفْطُ يَسَعُ الْبُرْجُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةِ مُقَاتِلٍ وَهِيَ أَعْلَى مِنْ أَبْرِجَةِ الْبَلَدِ وَهِيَ مُرَكَّبَةٌ عَلَى عَجَلٍ بِحَيْثُ يُدِيرُونَهَا كَيْفَ شَاءُوا، وَعَلَى ظَهْرِ كُلِّ بُرْجٍ مِنْهَا مَنْجَنِيقٌ كَبِيرٌ فَأَهَمَّ أَمْرُهَا الْمُسْلِمِينَ وَكَانُوا عَلَيْهَا حَنِقِينَ فَأَعْمَلَ السُّلْطَانُ فِكْرَهُ فِي إِحْرَاقِهَا فَاسْتَحْضَرَ النَّفَّاطِينَ وَوَعَدَهُمُ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ فَانْتُدِبَ شَابٌّ نَحَّاسٌ مِنْ دِمَشْقَ يُعْرَفُ بِعَلِيِّ بْنِ عَرِيفِ النَّحَّاسِينَ وَالْتَزَمَ

بِإِحْرَاقِهَا وَإِهْلَاكِهَا فَأَخَذَ النِّفْطَ الْأَبْيَضَ وَخَلَطَهُ بِأَدْوِيَةٍ عَرَفَهَا وَغَلَى ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ قُدُورٍ مِنْ نُحَاسٍ حَتَّى صَارَ نَارًا تَأَجَّجُ وَرَمَى كُلَّ بُرْجٍ مِنْهَا بِقَدْرٍ مِنْ تِلْكَ الْقُدُورِ بِالْمَنْجَنِيقِ مِنْ دَاخِلِ عَكَّا فَاحْتَرَقَتِ الْأَبْرِجَةُ الثَّلَاثَةُ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى صَارَتْ نَارًا لَهَا فِي الْجَوِّ أَلْسِنَةٌ مُتَصَاعِدَةٌ فَصَرَخَ الْمُسْلِمُونَ صَرْخَةً وَاحِدَةً بِالتَّهْلِيلِ وَاحْتَرَقَ فِي كُلِّ بُرْجٍ مِنْهَا سَبْعُونَ كَفُورًا وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [ الْفُرْقَانِ: 26 ] وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَتِ الْفِرِنْجُ تَعِبُوا فِيهَا سَبْعَةَ أَشْهُرٍ فَاحْتَرَقَتْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [ الْفُرْقَانِ: 23 ] ثُمَّ عَرَضَ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ الشَّابِّ النَّحَّاسِ الْعَطِيَّةَ السَّنِيَّةُ فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا وَقَالَ: إِنَّمَا عَمِلْتُ هَذَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَرَجَاءَ مَا عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ فَلَا أُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا.
وَأَقْبَلَ الْأُسْطُولُ الْمِصْرِيُّ وَفِيهِ الْمِيرَةُ الْكَثِيرَةُ لِأَهْلِ الْبَلَدِ فَعَبَّى الْفِرِنْجُ أُسْطُولَهُمْ لِيُحَارِبُوا أُسْطُولَ الْمُسْلِمِينَ فَنَهَضَ السُّلْطَانُ بِجَيْشِهِ لِيَشْغَلَهُمْ عَنْ قِتَالِ الْأُسْطُولِ وَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ الْبَلَدِ أَيْضًا وَاقْتَتَلَ الْأُسْطُولَانِ فِي الْبَحْرِ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا عَظِيمًا وَحَرْبًا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَظَفِرَتِ الْفِرِنْجُ بِشِينِيٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُسْطُولِ الَّذِي لِلْمُسْلِمِينَ وَسَلَّمَ اللَّهُ الْبَاقِيَ فَوَصَلَ إِلَى الْبَلَدِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمِيرَةِ الَّتِي قَدِ اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُمْ إِلَى عُشْرِهَا وَحَمِدَتِ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى يُسْرِهَا بَعْدَ عُسْرِهَا.
وَأَمَّا مَلِكُ الْأَلْمَانِ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ فَإِنَّهُ أَقْبَلَ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ وَجَمٍّ غَفِيرٍ قَرِيبٍ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ مِنْ نِيَّتِهِ الِانْتِصَارُ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ حِينَ أُخِذَ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَمَا زَالَ يَمُرُّ بِإِقْلِيمٍ بَعْدَ إِقْلِيمٍ وَيُتَخَطَّفُونَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَيُقْتَلُونَ كَمَا يُقْتَلُ

الْحَيَوَانُ حَتَّى اجْتَازَ مَلِكُهُمْ بِنَهْرٍ شَدِيدِ الْجَرْيَةِ فَدَعَتْهُ نَفْسُهُ أَنْ يَسْبَحَ فِيهِ فَلَمَّا صَارَ فِيهِ حَمَلَهُ الْمَاءُ إِلَى جِذْعِ شَجَرَةٍ فَشَجَّتْ رَأْسَهُ وَأَخْمَدَتْ أَنْفَاسَهُ وَأَرَاحَ اللَّهُ مِنْهُ الْمُسْلِمِينَ وَحُشِرَتْ رُوحُهُ إِلَى سِجِّينٍ فَأُقِيمُ وَلَدُهُ الْأَصْغَرُ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ، وَقَدْ تَمَزَّقَ شَمْلُهُمْ وَقَلَّتْ مِنْهُمُ الْعُدَّةُ ثُمَّ أَقْبَلُوا لَا يَجْتَازُونَ بِبَلَدٍ إِلَّا قُتِلُوا فِيهِ وَقَلَّ عَدَدُهُمْ حَتَّى جَاءُوا إِلَى أَصْحَابِهِمُ الْمُحَاصِرِينَ لَعَكَّا وَهُمْ فِي أَلْفِ فَارِسٍ وَلَيْسَ لَهُمْ قَدْرٌ وَلَا قِيمَةٌ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ وَلَا غَيْرِهِمْ وَهَكَذَا سُنَّةُ اللَّهِ فِيمَنْ أَرَادَ مُخَالَفَةَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ فِي إِهْلَاكِهِ وَتَمْزِيقِ شَمْلِهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ عَلَى إِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ.
وَزَعَمَ الْعِمَادُ فِي سِيَاقِهِ أَنَّ الْأَلْمَانَ وَصَلُوا فِي خَمْسَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ وَأَنَّ مُلُوكَ الْفِرِنْجِ كُلَّهُمْ كَرِهُوا قُدُومَهُمْ عَلَيْهِمْ لِمَا يَخَافُونَ مِنْ سَطْوَتِهِ وَزَوَالِ دَوْلَتِهِمْ بِدَوْلَتِهِ وَلَمْ يَفْرَحْ بِهِ إِلَّا الْمَرْكِيسُ صَاحِبُ صُورَ الَّذِي أَنْشَأَ هَذِهِ الْفِتْنَةَ وَأَثَارَ هَذِهِ الْمِحْنَةَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ تَقَوَّى بِهِ وَبِجَيْشِهِ وَكَيْدِهِ فَإِنَّهُ كَانَ خَبِيرًا بِالْحُرُوبِ وَالْقِتَالِ وَأَحْدَثَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ لَمْ تَخْطُرْ لِأَحَدٍ بِبَالٍ نَصَبَ دَبَّابَاتٍ أَمْثَالَ الْجِبَالِ تَسِيرُ بِعَجَلٍ وَلَهَا زُلُّومٌ مِنْ حَدِيدٍ تَنْطَحُ السُّورَ فَتَكْسِرُهُ وَتَثْلَمُ جَوَانِبَهُ فَمَنَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ بِإِحْرَاقِهَا وَإِهْلَاكِهَا وَأَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَنَهَضَ بِالْعَسْكَرِ الْفِرِنْجيِّ فَصَادَمَ بِهِ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ وَنَاصَبَ بِالْحَرْبِ صَلَاحَ الدِّينِ فَمَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَلَهُ الْحَمْدُ بِالنُّصْرَةِ عَلَيْهِ وَتَقَدَّمَتِ الْجُيُوشُ بِرُمَّتِهَا إِلَيْهِ فَقَتَلُوا مِنَ الْكَفَرَةِ خَلْقًا كَثِيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا وَهَجَمُوا مَرَّةً عَلَى الْمُخَيَّمِ بَغْتَةً فَنَهَبُوا شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْتِعَةِ فَنَهَضَ إِلَيْهِمُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ

أَبُو بَكْرٍ - وَكَانَ رَأْسَ الْمَيْمَنَةِ - فَرَكِبَ فِي أَصْحَابِهِ وَأَمْهَلَ الْفِرِنْجَ حَتَّى تَوَغَّلُوا بَيْنَ الْخِيَامِ ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ بِالرِّمَاحِ وَالْحُسَامِ فَتَهَارَبُوا بَيْنَ يَدَيْهِ فَمَا زَالَ يَقْتُلُ مِنْهُمْ جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَةٍ وَفِرْقَةً بَعْدَ فِرْقَةٍ حَتَّى كَسَى وَجْهَ الْأَرْضِ مِنْهُمْ حُلَلًا أَزْهَى مِنَ الرِّيَاضِ الْبَاسِمَةِ وَحُزِرَ مَا قَتَلَ مِنْهُمْ فَأَقَلُّ مَا قِيلَ خَمْسَةُ آلَافٍ وَزَعَمَ الْعِمَادُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ قَتَلَ مِنْهُمْ فِيمَا بَيْنُ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ عَشَرَةَ آلَافٍ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ هَذَا وَطَرَفُ الْمَيْسَرَةِ لَمْ يَشْعُرْ بِمَا جَرَى بَلْ وَهُمْ نَائِمُونَ وَقْتَ الْقَيْلُولَةِ فِي خِيَامِهِمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَا دَرَى.
وَكَانَ الَّذِينَ سَاقُوا وَرَاءَهُمْ وَأَسَرُوهُمْ أَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ وَإِنَّمَا قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَشْرَةٌ أَوْ دُونَهُمْ وَهَذِهِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ وَنُصْرَةٌ عَمِيمَةٌ وَقَدْ أَوْهَنَ هَذَا جَيْشَ الْفِرِنْجِ وَأَضْعَفَهُ، وَكَادُوا يَطْلُبُونَ الصُّلْحَ وَيَنْصَرِفُونَ عَنِ الْبَلَدِ فَاتَّفَقَ قُدُومُ مَدَدٍ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبَحْرِ مَعَ مَلِكٍ يُقَالُ لَهُ: كُنْدَهِرِيٌّ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَمَعَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ فَأَنْفَقَ عَلَيْهِمْ وَغَرِمَ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَبْرُزُوا مَعَهُ لِلِقَاءِ السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ وَنَصَبَ عَلَى عَكَّا مَنْجَنِيقَيْنِ غَرِمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ فَأَحْرَقَهُمَا أَهْلُ الْبَلَدِ وَجَاءَتْ كُتُبُ صَاحِبِ الرُّومِ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ يَعْتَذِرُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ مِنْ جِهَةِ مَلِكِ الْأَلْمَانِ وَأَنَّهُ لَمْ يُجَاوِزْ مُلْكَهُ وَلَا بَلَدَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَأَنَّهُ تَجَاوَزَهُ لِكَثْرَةِ جُنُودِهِ وَلِذَلِكَ بَشَّرَ السُّلْطَانَ بِأَنَّ اللَّهَ سَيُهْلِكُهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَكَذَلِكَ وَقَعَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ الْقَدْيمِ الْإِحْسَانِ وَأَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ يَقُولُ لَهُ: إِنِّي سَأُقِيمُ عِنْدِي لِلْمُسْلِمِينَ جُمُعَةً وَخَطِيبًا فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ مَعَ رَسُولِهِ خَطِيبًا وَمِنْبَرًا فَكَانَ يَوْمُ دُخُولِهِمْ إِلَيْهِ يَوْمًا مَشْهُودًا وَمَشْهَدًا مَحْمُودًا فَأُقِيمَتِ الْخُطْبَةُ وَدَعَا لِلْخَلِيفَةِ الْعَبَّاسِيِّ وَاجْتَمَعَ فِيهَا مَنْ هُنَاكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالتُّجَّارِ وَالْمُسَافِرِينَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ الْعَالَمِينَ

فَصْلٌ
وَكَتَبَ مُتَوَلِّي عَكَّا مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ وَهُوَ الْأَمِيرُ بَهَاءُ الدِّينِ قَرَاقُوشُ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى السُّلْطَانِ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ مِنَ الْأَقْوَاتِ إِلَّا مَا يُبَلِّغُهُمْ إِلَى لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى السُّلْطَانِ أَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لِأَحَدٍ خَوْفًا مِنْ شُيُوعٍ ذَلِكَ فَيَبْلُغُ الْعَدُوَّ فَيَقْوُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَتَضْعُفَ الْقُلُوبُ وَكَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَى أَمِيرِ الْأُسْطُولِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَنْ يَقَدَمَ بِالْمِيرَةِ إِلَى عَكَّا فَتَأَخَّرَ سَيْرُهُ ثُمَّ وَصَلَتْ ثَلَاثُ بُطُسٍ لَيْلَةَ النِّصْفِ فِيهَا مِنَ الْمِيرَةِ مَا يَكْفِي أَهْلَ الْبَلَدِ طُولَ الشِّتَاءِ وَهِيَ فِي صُحْبَةِ الْأَمِيرِ الْحَاجِبِ لُؤْلُؤٍ فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْبَلَدِ نَهَضَ إِلَيْهَا أُسْطُولُ الْفِرِنْجِ لِيَحُولَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبَلَدِ وَيُتْلِفَ مَا فِيهَا فَاقْتَتَلُوا فِي الْبَحْرِ قِتَالًا شَدِيدًا عَظِيمًا وَالْمُسْلِمُونَ فِي الْبَرِّ يَبْتَهِلُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي سَلَامَتِهَا وَالْفِرِنْجُ أَيْضًا تَصْرُخُ بَرًّا وَبَحْرًا، وَقَدِ ارْتَفَعَ الضَّجِيجُ فَنَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ وَسَلَّمَ مَرَاكِبَهُمْ وَطَابَتِ الرِّيحُ لِلْبُطُسِ فَسَارَتْ فَاخْتَرَقَتِ الْمَرَاكِبَ الْفِرِنْجيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِالْمِينَاءِ وَدَخَلَتِ الْبَلَدَ سَالِمَةً، فَفَرِحَ بِهَا أَهْلُ الْبَلَدِ وَالْجَيْشُ فَرَحًا شَدِيدًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَكَانَ السُّلْطَانُ قَدْ جَهَّزَ قَبْلَ هَذِهِ الثَّلَاثِ بُطُسٍ الْمِصْرِيَّاتِ بُطْسَةً عَظِيمَةً مِنْ بَيْرُوتَ فِيهَا أَرْبَعُمِائَةِ غِرَارَةٍ وَشَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبَصَلِ وَالشَّحْمِ وَالْقَدْيدِ وَالنُّشَّابِ وَالنِّفْطِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْبُطْسَةُ مِنْ بُطُسِ الْفِرِنْجِ الْمَغْنُومَةِ وَأَمَرَ

مَنْ فِيهَا مِنَ الْبَحَّارَةِ أَنْ يَتَزَيُّوا بِزِيِّ الْفِرِنْجِ حَتَّى إِنَّهُمْ حَلَقُوا لِحَاهُمْ وَشَدُّوا الزَّنَانِيرَ وَاسْتَصْحَبُوا مَعَهُمْ فِي الْبُطْسَةِ شَيْئًا مِنَ الْخَنَازِيرِ وَقَدِمُوا بِهَا عَلَى مَرَاكِبِ الْفِرِنْجِ فَاعْتَقَدْوا أَنَّهُمْ مِنْهُمْ وَهِيَ سَائِرَةٌ كَأَنَّهَا السَّهْمُ إِذَا خَرَجَ مِنَ الرَّمِيَّةِ فَحَذَّرَهُمُ الْفِرِنْجُ غَائِلَةَ الْمِينَاءِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمُسْلِمِينَ فَاعْتَذَرُوا بِأَنَّهُمْ مَغْلُوبُونَ مَعَهَا وَالرِّيحُ قَوِيَّةٌ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقِفُوا وَلَا يَنْصَرِفُوا وَمَا زَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى وَلَجُوا الْمِينَاءَ وَأَفْرَغُوا مَا كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْمِيرَةِ - وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ - فَعَبَرَتِ الْمِينَاءَ وَعَيْنُ الْكُفْرِ عَبْرَى فَامْتَلَأَ الثَّغْرُ بِهَا خَيْرًا وَسُرُورًا وَأَثْرَى مُؤُنَتَهُمْ إِلَى أَنْ قَدِمَتْ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْبُطُسُ الثَّلَاثُ الْمِصْرِيَّةُ وَكَانَ مِينَاءُ الْبَلَدِ يَكْتَنِفُهَا بُرْجَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: بُرْجُ الذِّبَّانِ فَاتَّخَذَتِ الْفِرِنْجُ بُطْسَةً عَظِيمَةً لَهَا خُرْطُومٌ وَفِيهِ حَرَكَاتٌ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَضَعُوهُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَسْوَارِ وَالْأَبْرِجَةِ قَلَبُوهُ فَوَصَلَ إِلَى مَا أَرَادُوا فَعَظُمَ أَمْرُ هَذِهِ الْبُطْسَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَزَالُوا فِي أَمْرِهَا مُحْتَالِينَ حَتَّى أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا شُوَاظًا مِنْ نَارٍ فَأَحْرَقَهَا وَأَغْرَقَهَا وَذَلِكَ أَنَّ الْفِرِنْجَ أَعَدُّوا فِيهَا نِفْطًا كَثِيرًا وَحَطَبًا جَزْلًا وَأُخْرَى خَلْفَهَا فِيهَا حَطَبٌ مَحْضٌ حَتَّى إِذَا أَرَادَ الْمُسْلِمُونَ الْمُحَاجَنَةَ عَلَى الْمِينَاءِ بِمَرَاكِبِهِمْ أَرْسَلُوا النِّفْطَ عَلَى بُطْسَةِ الْحَطَبِ فَاحْتَرَقَتْ وَهِيَ سَائِرَةٌ بَيْنَ بُطُسِ الْمُسْلِمِينَ فَتُحْرِقُهَا وَكَانَ فِي بُطْسَةٍ أُخْرَى لَهُمْ مُقَاتِلَةٌ تَحْتَ قَبْوٍ قَدْ أَحْكَمُوهُ فِيهَا، فَلَمَّا أَرْسَلُوا النِّفْطَ عَلَى بُرْجِ الذِّبَّانِ انْعَكَسَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ الْهَوَاءِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَمَا تَعَدَّتِ النَّارُ بُطْسَتَهُمْ فَاحْتَرَقَتْ وَتَعَدَّى الْحَرِيقُ إِلَى الْأُخْرَى فَغَرِقَتْ وَوَصَلَ إِلَى بُطْسَةِ الْمُقَاتِلَةِ

فَتَلِفَتْ وَهَلَكَتْ بِمَنْ فِيهَا فَأَشْبَهُوا مَنْ سَلَفَ مِنَ الْكَافِرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ [ الْحَشْرِ: 2 ]

فَصْلٌ
وَفِي ثَالِثِ رَمَضَانَ اشْتَدَّ حِصَارُ الْفِرِنْجِ لِلْبَلَدِ حَتَّى نَزَلُوا إِلَى الْخَنْدَقِ فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْبَلَدِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَتَمَكَّنُوا مِنْ حَرِيقِ الْكَبْشِ الَّذِي اتَّخَذُوهُ لِحِصَارِ الْأَسْوَارِ وَسَرَى حَرِيقُهُ إِلَى السُّفُورِ، وَارْتَفَعَتْ لَهُ لَهَبَةٌ عَظِيمَةٌ فِي عَنَانِ السَّمَاءِ ثُمَّ اجْتَذَبَهُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ بِكَلَالِيبَ مِنْ حَدِيدٍ فِي سَلَاسِلَ فَحَصَّلُوهُ عِنْدَهُمْ وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ الْمَاءَ الْبَارِدَ فَبَرُدَ بَعْدَ أَيَّامٍ فَكَانَ فِيهِ مِنَ الْحَدِيدِ مِائَةُ قِنْطَارٍ بِالدِّمَشْقِيِّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَكَانَ مَعَ السُّلْطَانِ فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ الْمَلِكُ زَيْنُ الدِّينِ صَاحِبُ إِرْبِلَ فَتُوُفِّيَ فِي عَكَّا فَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ لِشَبَابِهِ وَغُرْبَتِهِ وَجَوْدَتِهِ وَعُزِّيَ أَخُوهُ مُظَفَّرُ الدِّينِ فِيهِ وَهُوَ الَّذِي قَامَ بِالْمُلْكِ مِنْ بَعْدِهِ وَسَأَلَ مِنَ السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ أَنْ يُضِيفَ إِلَيْهِ شَهْرُزُورَ وَيَتْرُكَ حَرَّانَ وَالرُّهَا وَسُمَيْسَاطَ وَغَيْرَهَا وَتَحَمَّلَ مَعَ ذَلِكَ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ نَقْدًا فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ وَكَتَبَ لَهُ تَقْلِيدًا وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وَأُضِيفُ مَا تَرَكَهُ إِلَى الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ أَخِي السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ.

فَصْلٌ
وَكَانَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ يُدَبِّرُ الْمَمَالِكَ بِهَا وَيُجَهِّزُ إِلَى السُّلْطَانِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالنَّفَقَاتِ وَعَمَلِ الْأُسْطُولِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهِ مِنْ مَحْصُولٍ، وَالْكُتُبُ السُّلْطَانِيَّةُ وَارِدَةٌ إِلَيْهِ فِي كُلِّ حِينٍ وَيَسْتَشِيرُهُ فِيمَا يُصْلِحُ بِهِ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ الْكُتُبُ الْفَاضِلَةُ قَادِمَةٌ عَلَى السُّلْطَانِ فِي كُلِّ أَوَانٍ، فَمِنْ ذَلِكَ كِتَابٌ يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّ سَبَبَ هَذَا التَّطْوِيلِ فِي الْحِصَارِ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الذُّنُوبِ وَارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ فِي بَعْضِهَا إِنَّ اللَّهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ وَلَا يُفْرِّجُ الشَّدَائِدَ إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ وَالِامْتِثَالِ لِشَرِيعَتِهِ، وَالْمَعَاصِي فِي كُلِّ مَكَانِ بَادِيَةٌ، وَالْمَظَالِمُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَاشِيَّةٌ، وَقَدْ طَلَعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا مَا لَا يُتَوَقَّعُ بَعْدَهَا إِلَّا مَا يُسْتَعَاذُ مِنْهُ، وَفِيهِ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَهُ أَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ قَدْ ظَهَرَ فِيهِ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ فِي بِلَادِهِ مَا لَا يُمْكِنُ تَلَافِيهِ إِلَّا بِكُلْفَةٍ كَثِيرَةٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ كِتَابٌ يَقُولُ فِيهِ: إِنَّمَا أُتِينَا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِنَا وَلَوْ صَدَقْنَاهُ لِعَجَّلَ لَنَا عَوَاقِبَ صِدْقِنَا وَلَوْ أَطَعْنَاهُ لَمَّا عَاقَبَنَا بِعَدُوِّنَا وَلَوْ فَعَلْنَا مَا نَقَدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ لَفَعَلَ لَنَا مَا لَا نَقَدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِهِ فَلَا يَسْتَخْصِمُ أَحَدٌ إِلَّا عَمَلَهُ وَلَا يَلُمْ إِلَّا نَفْسَهُ وَلَا يَرْجُ إِلَّا رَبَّهُ وَلَا تُنْتَظَرُ الْعَسَاكِرُ أَنْ تَكْثُرَ وَلَا الْأَمْوَالُ أَنْ تُحْصَرَ وَلَا

فُلَانٌ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَ وَلَا فُلَانٌ الَّذِي يُنْتَظَرُ أَنْ يَسِيرَ، فَكُلُّ هَذِهِ مَشَاغِلُ عَنِ اللَّهِ لَيْسَ النَّصْرُ بِهَا وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يَكِلَنَا اللَّهُ إِلَيْهَا، وَالنَّصْرُ بِهِ وَاللُّطْفُ مِنْهُ وَالْعَادَةُ الْجَمِيلَةُ لَهُ وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ ذُنُوبِنَا فَلَوْلَا أَنَّهَا تَسُدُّ طَرِيقَ دُعَائِنَا لَكَانَ جَوَابُ دُعَائِنَا قَدْ نَزَلَ وَفَيْضُ دُمُوعِ الْخَاشِعِينَ قَدْ غَسَلَ وَلَكِنْ فِي الطَّرِيقِ عَائِقٌ؛ خَارَ اللَّهُ لِمَوْلَانَا فِي الْقَضَاءِ السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ.
وَفِي كِتَابٍ آخَرَ يَتَأَلَّمُ فِيهِ لِمَا عِنْدَ السُّلْطَانِ مِنَ الضَّعْفِ فِي جِسْمِهِ بِسَبَبِ مَا حَمَلَ عَلَى قَلْبِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الشَّدَائِدِ - أَثَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ فِيهِ وَمَا فِي نَفْسِ الْمُلُوكِ شَائِنَةٌ إِلَّا بَقِيَّةُ هَذَا الضَّعْفِ الَّذِي بِجِسْمِ مَوْلَانَا فَإِنَّهُ بِقُلُوبِنَا وَنَفْدِيهِ بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا.
بِنَا مَعْشَرَ الْخُدَّامِ مَا بِكَ مِنْ أَذًى وَإِنْ أَشْفَقُوا مِمَّا أَقُولُ فَبِي وَحْدِي
وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ صَاحِبُ " الرَّوْضَتَيْنِ " هَاهُنَا كُتُبًا عِدَّةً مِنَ الْفَاضِلِ إِلَى السُّلْطَانِ فِيهَا فَصَاحَةٌ وَبَلَاغَةٌ وَمَوَاعِظُ وَتَحْضِيضٌ عَلَى الْجِهَادِ يَعْجِزُ عَنْ مِثْلِهَا شُجْعَانٌ وَهِيَ جَدِيرَةٌ أَنْ تُكْتَبَ بِمَاءِ الذَّهَبِ عَلَى قَلَائِدِ الْعِقْيَانِ فَرَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ إِنْسَانٍ مَا أَفْصَحَهُ، وَمِنْ وَزِيرٍ مَا كَانَ أَنْصَحَهُ، وَمِنْ عَقْلٍ مَا كَانَ أَرْجَحَهُ.

فَصْلٌ
وَكَتَبَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ كِتَابًا بَلِيغًا عَنِ السُّلْطَانِ إِلَى مَلِكِ الْغَرْبِ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ وَسُلْطَانِ جَيْشِ الْمُوَحِّدِينَ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ يَسْتَنْجِدُ بِهِ فِي إِرْسَالِ مَرَاكِبَ فِي الْبَحْرِ تَكُونُ عَوْنًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمَرَاكِبِ الْإِفْرِنْجِيَّةِ فَمِنْهُ عِبَارَةٌ طَوِيلَةٌ فَصِيحَةٌ بَلِيغَةٌ مَلِيحَةٌ حَكَاهَا الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ بِطُولِهَا وَحُسْنِهَا وَبَعَثَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ مَعَ ذَلِكَ بِهَدِيَّةٍ سَنِيَّةٍ مِنَ التُّحَفِ وَالْأَلْطَافِ وَذَلِكَ كُلُّهُ صُحْبَةَ الْأَمِيرِ الْكَبِيرِ شَمْسِ الدِّينِ أَبِي الْحَزْمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُنْقِذٍ وَكَانَ ابْتِدَاءُ سَيْرِهِ فِي الْبَحْرِ فِي ثَامِنِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فَدَخَلَ عَلَى سُلْطَانِ الْمَغْرِبِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَأَقَامَ عِنْدَهُ إِلَى عَاشُورَاءَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَلَمْ يُفِدْ هَذَا الْإِرْسَالُ شَيْئًا ; لِأَنَّ السُّلْطَانَ تَغَضَّبَ إِذْ لَمْ يُلَقَّبْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَتْ إِشَارَةُ الْفَاضِلِ إِلَى عَدَمِ الْإِرْسَالِ إِلَيْهِ وَالتَّعْوِيلِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ وَقَعَ مَا وَقَعَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

فَصْلٌ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَصَلَ لِلسُّلْطَانِ سُوءُ مِزَاجٍ مِنْ كَثْرَةِ مَا يُكَابِدُهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ أَمَرُّ مِنَ الْأُجَاجِ فَطَمِعَ الْعَدُوُّ الْمَخْذُولُ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - فِي الْإِسْلَامِ

فَتَجَرَّدَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ لِلْقِتَالِ، وَثَبَتَ آخَرُونَ عَلَى الْحِصَارِ وَأَقْبَلُوا فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ وَعُدَدٍ فَرَتَّبَ السُّلْطَانُ الْجُيُوشَ يَمْنَةً وَيَسْرَةً وَقَلْبًا وَجَنَاحَيْنِ فَلَمَّا رَأَوْا مَا عَايَنُوهُ مِنَ الْجَيْشِ الْكَثِيفِ فَرُّوا مِنْ مَوْقِفِ الْحَرْبِ وَعَادُوا عَنْ حَوْمَةِ الْوَغَى فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرُ وَجَمٌّ غَفِيرٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

فَصْلٌ
وَلَمَّا دَخَلَ فَصْلُ الشِّتَاءِ وَانْشَمَرَتْ مَرَاكِبُ الْإِفْرِنْجِ عَنِ الْبَلَدِ خَوْفًا مِنَ الْهَلَاكِ بِسَبَبِ اغْتِلَامِ الْبَحْرِ سَأَلَ مَنْ فِي الْبَلْدَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ السُّلْطَانِ أَنْ يُرِيحَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَصْرِ الْعَظِيمِ وَالْمُقَاتَلَةِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَصَبَاحًا وَمُسَاءً سِرًّا وَجَهْرًا وَأَنْ يُرْسِلَ إِلَى الْبَلَدِ بَدَلَهُمْ فَرَقَّ لَهُمُ السُّلْطَانُ وَعَزَمَ عَلَى ذَلِكَ وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفَ مُسْلِمٍ مَا بَيْنَ أَمِيرٍ وَمَأْمُورٍ فَجَهَّزَ جَيْشًا آخَرَ غَيْرَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِرَأْيٍ جَيِّدٍ وَلَكِنْ مَا قَصَدَ السُّلْطَانُ إِلَّا خَيْرًا وَأَنَّ هَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ الْبَلَدَ وَهُمْ جُدُدُ الْهِمَمِ وَلَهُمْ عَزْمٌ قَوِيٌّ وَهُمْ فِي رَاحَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُولَئِكَ وَلَكِنْ أُولَئِكَ كَانَتْ لَهُمْ خِبْرَةٌ بِالْبَلَدِ وَبِالْقِتَالِ وَكَانَ لَهُمْ صَبْرٌ عَظِيمٌ وَقَدْ تَمَرَّنُوا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْمُصَابَرَةِ لِلْأَعْدَاءِ بَرًّا وَبَحْرًا وَجُهِّزَتْ لِهَؤُلَاءِ سَبْعُ بُطُسٍ فِيهَا مِيرَةٌ تَكْفِيهِمْ سَنَةً كَامِلَةً فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَهُ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أَنَّهَا لَمَّا تَوَسَّطَتِ الْبَحْرَ وَاقْتَرَبَتْ مِنَ الْمِينَاءِ هَاجَتْ رِيحٌ عَظِيمَةٌ فِي الْبَحْرِ فَتَلَعَّبَتْ بِتِلْكَ الْبُطُسِ عَلَى عِظَمِهَا فَاخْتَبَطَتْ وَاضْطَرَبَتْ وَتَصَادَمَتْ

فَتَكَسَّرَتْ وَغَرِقَتْ وَغَرِقَ مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْمِيرَةِ وَهَلَكَ مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْبَحَّارَةِ فَدَخَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَهْنٌ عَظِيمٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ جِدًّا وَمَرِضَ السُّلْطَانُ وَازْدَادَ مَرَضًا إِلَى مَرَضِهِ - عَافَاهُ اللَّهُ - وَكَانَ ذَلِكَ عَوْنًا لِلْعَدُوِّ الْمَخْذُولِ عَلَى أَخْذِ الْبَلَدِ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ وَذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ الْمُقَدَّمَ عَلَى الدَّاخِلِينَ إِلَى عَكَّا الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمَشْطُوبِ أَيَّدَهُ اللَّهُ.
وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَقَطَتْ ثُلْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ سُورِ عَكَّا فَبَادَرَ الْفِرِنْجُ إِلَيْهَا فَسَبَقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى سَدِّهَا بِصُدُورِهِمْ وَقَاتَلُوا عَنْهَا بِنُحُورِهِمْ وَمَا زَالُوا يُمَانِعُونَ عَنْهَا حَتَّى بَنَوْهَا أَشَدَّ مِمَّا كَانَتْ وَأَقْوَى وَأَحْسَنَ وَأَبْهَى. وَوَقَعَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَبَاءٌ عَظِيمٌ فِي الْجَيْشَيْنِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فَكَانَ السُّلْطَانُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ
اقْتُلُونِي وَمَالِكًا وَاقْتُلُوا مَالِكًا مَعِي
وَاتَّفَقَ مَوْتُ ابْنِ مَلِكِ الْأَلْمَانِ فِي ثَانِي ذِي الْحِجَّةِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ كُبَرَاءِ الْكُنْدَهِرِيَّةِ وِسَادَاتِ الْفِرِنْجِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَحَزِنَ الْفِرِنْجُ عَلَى ابْنِ مَلِكِ الْأَلْمَانِ حُزْنًا عَظِيمًا وَأَوْقَدُوا نَارًا عَظِيمَةً فِي كُلِّ خَيْمَةٍ وَصَارَ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَهْلِكُ مِنَ الْفِرِنْجِ الْمِائَةُ وَالْمِائَتَانِ وَاسْتَأْمَنَ إِلَى السُّلْطَانِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ مِنْ شِدَّةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجُوعِ وَالضِّيقِ وَالْحَصْرِ وَأَسْلَمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ قَدِمَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى السُّلْطَانِ وَكَانَ

قَدْ طَالَ شَوْقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فَأَفْضَى كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ مَا كَانَ يُسِرُّهُ وَيَكْتُمُهُ مِنَ الْآرَاءِ الَّتِي فِيهَا مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ وَقَدِمَ وَزِيرُ الصِّدْقِ عَلَى السُّلْطَانِ الْمُوَفَّقِ وَالْأَمِيرِ الْمُؤَيَّدِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
مَلِكُ الْأَلْمَانِ الَّذِي أَقْبَلَ فِي مِائَتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ وَيُقَالُ: فِي ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ مِنْ أَقْصَى بِلَادِهِ فَاجْتَازَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْبُلْدَانِ يُرِيدُ انْتِزَاعَ بِلَادِ الشَّامِ بِكَمَالِهَا مِنْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ انْتِصَارًا فِي زَعْمِهِ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي اسْتَنْقَذَهُ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ فَلَمْ يَزَلِ اللَّعِينُ يَتَنَاقَصُ جَيْشُهُ وَيَتَفَانَوْا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَمَوْضِعٍ وَقدَّرَ اللَّهُ هَلَاكَهُ بِالْغَرَقِ كَمَا أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ أَنَّهُ نَزَلَ يَسْبَحُ فِي بَعْضِ الْأَنْهَارِ فَاحْتَمَلَهُ الْمَاءُ قَسْرًا فَأَلْجَأَهُ إِلَى جِذْعِ شَجَرَةٍ هُنَاكَ فَشَدَخَتْ رَأْسَهُ وَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - فَمَلَّكَ الْأَلْمَانُ عَلَيْهِمُ ابْنَهُ الْأَصْغَرَ وَأَقْبَلَ بِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ وَأَمْرُهُ قَدْ تَقَهْقَرَ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ وَصَلُوا إِلَى إِخْوَانِهِمْ بِعَكَّا فِي خَمْسَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ وَقِيلَ: فِي أَلْفِ مُقَاتِلٍ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ حَمَلُوا مِنْ قُدُومِهِمْ هَمًّا عَظِيمًا وَخَافُوا خَوْفًا شَدِيدًا فَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ثُمَّ تُوُفِّيَ ابْنُهُ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو حَامِدٍ قَاضِي الْقُضَاةِ بِالْمَوْصِلِ مُحْيِي

الدِّينِ ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ كَمَالِ الدِّينِ الشَّهْرُزُورِيُّ الشَّافِعِيُّ أَثْنَى عَلَيْهِ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ وَأَنْشَدَ لَهُ مِنْ شِعْرِهِ قَوْلَهُ:
قَامَتْ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ أَدِلَّةٌ قَصَمَتْ ظُهُورَ أَئِمَّةِ التَّعْطِيلِ وَطَلَائِعُ التَّنْزِيهِ لَمَّا أَقْبَلَتْ
هَزَمَتْ ذَوِي التَّشْبِيهِ وَالتَّمُثِيلِ فَالْحَقُّ مَا صِرْنَا إِلَيْهِ جَمِيعُنَا
بِأَدِلَّةِ الْأَخْبَارِ وَالتَّنْزِيلِ مَنْ لَمْ يَكُنْ بِالشَّرْعِ مُقْتَدِيًا فَقَدْ
أَلْقَاهُ فَرْطُ الْجَهْلِ فِي التَّضْلِيلِ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ مَلِكُ الْإِفْرَنْسِيسِ وَمَلِكُ إِنْكِلْتِرَا وَغَيْرُهُمَا مِنْ مُلُوكِ الْبَحْرِ عَلَى الْفِرِنْجِ إِلَى عَكَّا وَتَمَالَئُوا عَلَى عَكَّا فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ وَقَدِ اسْتُهِلَّتْ وَالْحِصَارُ عَلَى عَكَّا عَلَى حَالِهِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَقَدِ اسْتُكْمِلَ دُخُولُ الْبَدَلِ إِلَى الْبَلَدِ وَالْمَلِكُ الْعَادِلُ مُخَيِّمٌ إِلَى جَانِبِ الْبَحْرِ لِيَتَكَامَلَ دُخُولُهُمْ وَدُخُولُ مِيرَتِهِمْ - لَطَفَ اللَّهُ بِهِمْ - وَفِي لَيْلَةِ مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَكَّا فَهَجَمُوا عَلَى مُخَيَّمِ الْفِرِنْجِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَسَبَوْا وَنَهَبُوا شَيْئًا كَثِيرًا سَبَوْا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ امْرَأَةً وَانْكَسَرَ مَرْكَبٌ عَظِيمٌ لِلْفِرِنْجِ فَغَرِقَ فِيهِ خَلْقٌ مِنْهُمْ وَأُسِرَ بَاقِيهِمْ وَأَغَارَ صَاحِبُ حِمْصَ أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ بْنُ نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ شِيرَكُوهْ عَلَى سَرْحَ الْفِرِنْجِ بِأَرَاضِي طَرَابُلُسَ فَاسْتَاقَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْخُيُولِ وَالْأَبْقَارِ وَالْأَغْنَامِ وَظَفِرَ الْيَزَكُ بِخَلْقٍ كَثِيرٍ مِنَ الْفِرِنْجِ فَقَتَلُوهُمْ وَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِوَى طَوَاشِيٍّ صَغِيرٍ عَثَرَ بِهِ فَرَسُهُ وَفِي ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَصَلَ إِلَى الْفِرِنْجِ مَلِكُ إِفْرَنْسِيسَ فِلِيبُ فِي سِتِّ بُطُسٍ مَلْعُونَةٍ مَشْحُونَةٍ بِعَبَدَةِ الصَّلِيبِ وَحِينَ وَصَلَ إِلَيْهِمْ وَقَدِمَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ مِنْ مُلُوكِهِمْ مَعَهُ كَلَامٌ وَلَا حُكْمٌ لِعَظَمَتِهِ عِنْدَهُمْ وَقَدِمَ مَعَهُ بَازٌ عَظِيمٌ أَبْيَضُ وَهُوَ الْبَازُ الْأَشْهَبُ الْهَائِلُ فَطَارَ مِنْ يَدِهِ فَسَقَطَ عَلَى سُورِ عَكَّا فَأَمْسَكَهُ أَهْلُهَا وَبَعَثُوا بِهِ إِلَى

السُّلْطَانِ فَبَذَلَ الْفِرِنْجُ فِيهِ أَلْفَ دِينَارٍ فَلَمْ يُجَابُوا وَقَدِمَ بَعْدَهُ كُنْدِفْرِيرُ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ مُلُوكِهِمْ أَيْضًا وَوَصَلَتْ سُفُنُ مَلِكِ الْإِنْكِلْتِيرِ وَلَمْ يَجِئْ هُوَ لِاشْتِغَالِهِ بِجَزِيرَةِ قُبْرُسَ وَأَخْذِهَا مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا وَتَوَاصَلَتْ مُلُوكُ الْإِسْلَامِ مِنْ بُلْدَانِهَا فِي أَوَّلِ فَصْلِ الرَّبِيعِ إِلَى خِدْمَةِ السُّلْطَانِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ.
قَالَ الْعِمَادُ: وَقَدْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ لُصُوصٌ يَدْخُلُونَ إِلَى خِيَامِ الْفِرِنْجِ فَيَسْرِقُونَ حَتَّى إِنَّهُمْ يَسْرِقُونَ الرِّجَالَ فَاتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَهَمْ أَخَذَ صَبِيًّا رَضِيعًا مِنْ مَهْدِهِ ابْنَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَوَجَدَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ وَجْدًا عَظِيمًا، وَاشْتَكَتْ إِلَى مُلُوكِهِمْ فَقَالُوا لَهَا: إِنَّ سُلْطَانَ الْمُسْلِمِينَ رَحِيمُ الْقَلْبِ، وَقَدْ أَذِنَّا لَكِ أَنْ تَذْهَبِي إِلَيْهِ فَتَشْتَكِي أَمْرَكِ إِلَيْهِ. قَالَ الْعِمَادُ: فَجَاءَتْ إِلَى السُّلْطَانِ وَأَنَا وَاقِفٌ مَعَهُ فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا وَجَعَلَتْ تُمَرِّغُ وَجْهَهَا عَلَى الْأَرْضِ فَسَأَلَهَا عَنْ أَمْرِهَا. فَأَنْهَتْ إِلَيْهِ حَالَهَا فَرَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً حَتَّى دَمَعَتْ عَيْنُهُ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِ وَلَدِهَا فَإِذَا هُوَ قَدْ بِيعَ فِي السُّوقِ، فَرَسَمَ بِدَفْعِ ثَمَنِهِ إِلَى الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى جِيءَ بِالْغُلَامِ، فَأَخَذَتْهُ أُمُّهُ وَأَرْضَعَتْهُ سَاعَةً وَهِيَ تَبْكِي مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهَا وَشَوْقِهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِحَمْلِهَا إِلَى قَوْمِهَا عَلَى فَرَسٍ مُكَرَّمَةً رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَلَّ بِالرَّأَفَةِ ثَرَاهُ.

فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ أَخْذِ الْعَدُوِّ الْمَخْذُولِ مَدِينَةَ عَكَّا مِنْ يَدِ السُّلْطَانِ قَسْرًا
لَمَّا كَانَ شَهْرُ جُمَادَى الْأُولَى اشْتَدَّ حِصَارُ الْفِرِنْجِ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - لَعَكَّا وَتَمَالَئُوا عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ وَقَدِمَ عَلَيْهِمْ مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ فِي جَمٍّ غَفِيرٍ

وَجَمْعٍ كَثِيرٍ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ قِطْعَةً مَشْحُونَةً بِالْمُقَاتِلَةِ وَابْتُلِيَ أَهْلُ الثَّغْرِ مِنْهُ بِبَلَاءٍ لَا يُشْبِهُ مَا قَبْلَهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ حُرِّكَتِ الْكُوسَاتُ فِي الْبَلَدِ، وَكَانَتْ عَلَامَةَ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ فَحَرَّكَ السُّلْطَانُ كُوسَاتِهِ وَاقْتَرَبَ مِنَ الْبَلَدِ وَتَحَوَّلَ إِلَى قَرِيبٍ مِنْهُمْ لِيَشْغَلَهُمْ عَنِ الْبَلَدِ وَقَدْ أَحَاطُوا بِهِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَنَصَبُوا عَلَيْهِ سَبْعَةَ مَجَانِيقَ وَهَى تَضْرِبُ فِي الْبَلَدِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا سِيَّمَا عَلَى بُرْجِ عَيْنِ الْبَقَرِ حَتَّى أَثَّرَتْ بِهِ أَثَرًا بَيِّنًا، وَشَرَعُوا فِي رَدْمِ الْخَنْدَقِ بِمَا أَمْكَنَهُمْ مِنْ دَوَابَّ مَيْتَةٍ وَمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ وَمَنْ مَاتَ أَيْضًا، وَقَابَلَهُمْ أَهْلُ الْبَلَدِ يَنْقُلُونَ مَا أَلْقَوْهُ فِيهِ إِلَى الْبَحْرِ وَظَفِرَ مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ بِبُطْسَةٍ عَظِيمَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ قَدْ أَقْبَلَتْ مِنْ بَيْرُوتَ مَشْحُونَةً بِالْأَمْتِعَةِ وَالْأَسْلِحَةِ فَأَخَذَهَا وَكَانَ وَاقِفًا فِي الْبَحْرِ فِي أَرْبَعِينَ مَرْكِبًا لَا يَتْرُكُ شَيْئًا يَصِلُ إِلَى الْبَلَدِ بِالْكُلِّيَّةِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَكَانَ فِيهَا سِتُّمِائَةٍ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ الصَّنَادِيدِ الْأَبْطَالِ فَهَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ، فَإِنَّهُ لَمَّا أُحِيطَ بِهِمْ مِنَ الْجَوَانِبِ كُلِّهَا وَتَحَقَّقُوا إِمَّا الْغَرَقَ أَوِ الْقَتْلَ خَرَقُوا مِنْ جَوَانِبِهَا كُلِّهَا فَغَرِقَتْ وَلَمْ يَقَدْرِ الْفِرِنْجُ عَلَى أَخْذِ شَىْءٍ مِنْهَا لَا مِنَ الْمِيرَةِ وَلَا مِنَ الْأَسْلِحَةِ وَحَزِنَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذَا الْمُصَابِ حُزْنًا عَظِيمًا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ وَلَكِنْ جَبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْبَلَاءَ بِأَنْ أَحْرَقَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ لِلْفِرِنْجِ دَبَّابَةً كَانَتْ أَرْبَعَ طَبَقَاتٍ ; الْأُولَى مِنْ خَشَبٍ وَالثَّانِيَةُ مِنْ رَصَاصٍ وَالثَّالِثَةُ مِنْ حَدِيدٍ وَالرَّابِعَةُ مِنْ نُحَاسٍ وَهِيَ مُشْرِفَةٌ عَلَى السُّورِ وَالْمُقَاتِلَةُ فِيهَا وَقَدْ قَلِقَ أَهْلُ الْبَلَدِ مِنْهَا بِحَيْثُ حَدَّثَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ مِنْ خَوْفِهِمْ مِنْ شَرِّهَا بِأَنْ يَطْلُبُوا الْأَمَانَ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَيُسَلِّمُوا الْبَلَدَ فَفَرَّجَ اللَّهُ وَأَمْكَنَهُمْ مِنْ حَرِيقِهَا وَاتَّفَقَ ذَلِكَ

فِي هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي غَرِقَتْ فِيهِ الْبُطْسَةُ الْمَذْكُورَةُ فَأَرْسَلَ أَهْلُ الْبَلَدِ إِلَى السُّلْطَانِ يَشْكُونَ كَثْرَةَ الْحِصَارِ وَقُوَّتَهُ عَلَيْهِمْ مُنْذُ قَدِمَ مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَمَعَ هَذَا قَدْ مَرِضَ وَجُرِحَ مَلِكُ الْإِفْرِنْسِيسِ أَيْضًا وَلَا يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا شِدَّةً وَغِلْظَةً وَعُتُوًّا وَفَارَقَهُمُ الْمَرْكِيسُ وَسَارَ إِلَى بَلَدِهِ صُورَ خَوْفًا مِنْهُمْ أَنْ يُخْرِجُوا مُلْكَهَا مِنْ يَدِهِ وَبَعَثَ مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ إِلَى السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ يَذْكُرُ أَنَّ عِنْدَهُ جَوَارِحَ قَدْ جَاءَ بِهَا مِنَ الْبَحْرِ، وَهُوَ عَلَى نِيَّةِ إِرْسَالِهَا إِلَيْهِ وَلَكِنَّهَا قَدْ ضَعُفَتْ وَهُوَ يَطْلُبُ لَهُ دَجَاجًا وَطَيْرًا لِتَتَقَوَّى بِهِ، فَعَرَفَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَطْلُبُ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ بِتَلَطُّفٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَرَمًا وَسَجِيَّةً وَحِشْمَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ يَطْلُبُ فَاكِهَةً وَثَلْجًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَيْضًا فَلَمْ يُفِدْ مَعَهُ الْإِحْسَانُ بَلْ لَمَّا عُوفِيَ عَادَ إِلَى شَرٍّ مِمَّا كَانَ، وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ لَيْلًا وَنَهَارًا وَأَرْسَلَ مَنْ بِالْبَلَدِ يَقُولُونَ: إِنْ تَعْمَلُوا مَعَنَا شَيْئًا غَدًا وَإِلَّا طَلَبْنَا مِنَ الْفِرِنْجِ الْأَمَانَ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى السُّلْطَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ سَيَّرَ إِلَيْهَا أَسْلِحَةَ الشَّامِ وَالدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ وَسَائِرَ السَّوَاحِلِ وَمَا كَانَ غَنِمَهُ مِنْ وَقْعَةِ حِطِّينَ وَمِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَهِيَ مَشْحُونَةٌ بِذَلِكَ فَعَزَمَ السُّلْطَانُ عَلَى مُهَاجَمَةِ الْعَدُوِّ فَلَمَّا أَصْبَحَ رَكِبَ فِي جَيْشِهِ، فَرَأَى الْفِرِنْجَ قَدْ رَكِبُوا مِنْ وَرَاءِ خَنْدَقِهِمْ وَالرَّجَّالَةُ مِنْهُمْ قَدْ ضَرَبُوا سُورًا حَوْلَ الْفُرْسَانِ، وَهُمْ قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ صَمَّاءَ لَا يَنْفُذُهَا شَيْءٌ فَأَحْجَمَ عَنْهُمْ، لِمَا يَعْلَمُ مِنْ نُكُولِ جَيْشِهِ عَمَّا يُرِيدُهُ وَتَحْدُوهُ عَلَيْهِ شَجَاعَتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
هَذَا وَقَدِ اشْتَدَّ الْحِصَارُ بِالْبَلَدِ جِدًّا، وَدَخَلَتِ الرَّجَّالَةُ مِنْهُمْ إِلَى الْخَنْدَقِ وَعَلَّقُوا بَدَنَةً مِنَ السُّورِ وَحَشَوْهَا وَأَحْرَقُوهَا فَسَقَطَتْ وَدَخَلَتِ الْفِرِنْجُ إِلَى الْبَلَدِ فَمَانَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَقَاتَلُوهُمْ أَشَدَّ الْقِتَالِ وَقَتَلُوا مِنْ رُءُوسِهِمْ سِتَّةَ أَنْفُسٍ فَاشْتَدَّ حَنَقُ الْفِرِنْجِ عَلَيْهِمْ جِدًّا بِسَبَبِ ذَلِكَ وَجَاءَ اللَّيْلُ فَحَالَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فَلَمَّا

أَصْبَحَ الصَّبَاحُ خَرَجَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَلَدِ سَيْفُ الدِّينِ الْمَشْطُوبُ فَاجْتَمَعَ بِمَلِكِ الْإِفْرِنْسِيسِ وَطَلَبَ مِنْهُمُ الْأَمَانَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَيَتَسَلَّمُونَ مِنْهُ الْبَلَدَ فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ وَقَالَ: بَعْدَمَا سَقَطَ السُّورُ جِئْتَ تَطْلُبُ الْأَمَانَ! فَأَغْلَظَ لَهُ الْأَمِيرُ الْمَشْطُوبُ فِي الْكَلَامِ وَرَجَعَ إِلَى الْبَلَدِ فِي حَالَةٍ اللَّهُ بِهَا عَلِيمٌ، وَلَمَّا أُخْبِرَ أَهْلُ الْبَلَدِ خَافُوا خَوْفًا شَدِيدًا لِمَا وَقَعَ وَأَرْسَلُوا إِلَى السُّلْطَانِ يُعْلِمُونَهُ بِمَا وَقَعَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَنْ يُسْرِعُوا الْخُرُوجَ مِنَ الْبَلَدِ فِي الْبَحْرِ وَلَا يَتَأَخَّرُوا عَنْ هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَلَا يَبْقَى بِهَا مُسْلِمٌ فَتَشَاغَلَ كَثِيرٌ مِمَّنْ كَانَ بِهَا فِي جَمْعِ الْأَمْتِعَةِ وَالْأَسْلِحَةِ وَتَأَخَّرُوا عَنِ الْمَسِيرِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَمَا أَصْبَحَ الْخَبَرُ إِلَّا عِنْدَ الْفِرِنْجِ مِنْ مَمْلُوكَيْنِ صَغِيرَيْنِ سَمِعَا بِمَا رَسَمَ بِهِ السُّلْطَانُ فَهَرَبَا إِلَى قَوْمِهِمَا فَأَخْبَرُوهُمْ بِذَلِكَ، فَاحْتَفَظُوا عَلَى الْبَحْرِ احْتِفَاظًا عَظِيمًا فَلَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ أَنْ يَتَحَرَّكَ بِحَرَكَةٍ وَلَا خَرَجَ مِنْهَا شَيْءٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَعَزَمَ السُّلْطَانُ عَلَى كَبْسِ الْعَدُوِّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَلَمْ يُوَافِقْهُ الْجَيْشُ عَلَى ذَلِكَ وَقَالُوا لَا نُخَاطِرُ بِالْإِسْلَامِ كُلِّهِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ بَعَثَ إِلَى مُلُوكِ الْفِرِنْجِ يَطْلُبُ مِنْهُمُ الْأَمَانَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ عَلَى أَنْ يُطْلِقَ عِدَّتَهُمْ مِنَ الْأَسْرَى الَّذِينَ تَحْتَ يَدِهِ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَيَزِيدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ صَلِيبَ الصَّلَبُوتِ فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يُطْلِقَ كُلَّ أَسِيرٍ تَحْتَ يَدِهِ، وَيُطْلِقَ لَهُمْ جَمِيعَ الْبِلَادِ السَّاحِلِيَّةِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهُمْ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَأَبَى ذَلِكَ وَتَرَدَّدَتِ الْمُرَاسَلَاتُ فِي ذَلِكَ وَالْحِصَارُ يَتَزَايَدُ عَلَى أَسْوَارِ الْبَلَدِ وَقَدْ تَهَدَّمَتْ ثُلَمٌ كَثِيرَةٌ وَأَعَادَ الْمُسْلِمُونَ كَثِيرًا مِنْهَا وَسَدُّوا ثَغْرَ تِلْكَ الْأَمَاكِنِ بِنُحُورِهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَصَبَرُوا صَبْرًا عَظِيمًا، وَصَابَرُوا ثُمَّ كَانَ آخِرَ أَمْرِهِمُ الشَّهَادَةُ صَبْرًا وَقَدْ كَتَبُوا إِلَى السُّلْطَانِ فِي آخِرِ أَمْرِهِمْ يَقُولُونَ: يَا مَوْلَانَا لَا تَخْضَعْ لِهَؤُلَاءِ الْمَلَاعِينِ الَّذِينَ قَدْ أَبَوْا عَلَيْكَ الْإِجَابَةَ فِينَا، فَقَدْ بَايَعْنَا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الْجِهَادِ حَتَّى نُقْتَلَ عَنْ آخِرِنَا وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.

فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الظُّهْرِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَا شَعَرَ النَّاسُ إِلَّا وَقَدِ ارْتَفَعَتْ أَعْلَامُ الْكُفْرِ وَصُلْبَانُهُ وَشِعَارُهُ وَنَارُهُ عَلَى أَسْوَارِ الْبَلَدِ وَصَاحَ الْفِرِنْجُ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَعَظُمَتِ الْمُصِيبَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاشْتَدَّ حُزْنُ الْمُوَحِّدِينَ وَانْحَصَرَ كَلَامُ الْعُقَلَاءِ فِي النَّاسِ فِي: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَغَشِيَ النَّاسَ بَهْتَةٌ عَظِيمَةٌ وَحَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ وَوَقَعَ فِي الْعَسْكَرِ الصِّيَاحُ وَالْعَوِيلُ وَالْبُكَاءُ وَالنَّحِيبُ وَدَخَلَ الْمَرْكِيسُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَقَدْ عَادَ إِلَيْهِمْ سَرِيعًا بِهَدَايَا إِلَى الْمُلُوكِ، فَدَخَلَ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِأَرْبَعَةِ أَعْلَامٍ لِلْمُلُوكِ فَنَصَبَهَا فِي الْبَلَدِ وَاحِدًا عَلَى الْمِئْذَنَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَآخَرَ عَلَى الْقَلْعَةِ وَآخَرَ عَلَى بُرْجِ الدَّاوِيَّةِ وَآخَرَ عَلَى بُرْجِ الْقِتَالِ عِوَضًا عَنْ أَعْلَامِ السُّلْطَانِ، وَتَحَيَّزَ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ بِهَا إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَلَدِ مُعْتَقَلِينَ مُحْتَاطٌ بِهِمْ مُضَيَّقٌ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ أُسِرَتِ النِّسَاءُ وَالْأَبْنَاءُ وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَقُيِّدَتِ الْأَبْطَالُ وَأُهِينَ الرِّجَالُ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَأَمَرَ السُّلْطَانُ أَيَّدَهُ اللَّهُ الْجَيْشَ بِالتَّأَخُّرِ عَنْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الْمُضَايَقَةِ إِلَى الَّتِي بَعْدَهَا وَتَأَخَّرَ هُوَ جَرِيدَةً؛ لِيَنْظُرَ مَاذَا يَصْنَعُونَ، وَمَا عَلَيْهِ يُعَوِّلُونَ وَهُمْ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْبَلَدِ مَشْغُولُونَ، وَبِتَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا مَدْهُوشُونَ ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ إِلَى الْعَسْكَرِ وَعِنْدَهُ مِنَ الْحُزْنِ وَالْهَمِّ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَجَاءَتِ الْمُلُوكُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَالْأُمَرَاءُ وَكُبَرَاءُ الدَّوْلَةِ يُعَزُّونَهُ فِيمَا وَقَعَ، وَيَسَلُونَهُ عَمَّا عَنْهُ الْحَالُ انْقَشَعَ، ثُمَّ رَاسَلَ مُلُوكَ الْفِرِنْجِ فِي خَلَاصِ مَنْ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ أُسَارَى الْإِسْلَامِ فَطَلَبُوا مِنْهُ عِدَّتَهُمْ مِنْ أُسَارَاهُمْ وَمِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَصَلِيبَ الصَّلَبُوتِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، فَأَرْسَلَ فَأَحْضَرَ الْمَالَ وَالصَّلِيبَ، وَلَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ مِنَ الْأُسَارَى إِلَّا سِتُّمِائَةِ أَسِيرٍ فَطَلَبَ الْفِرِنْجُ مِنْهُ أَنْ يُرِيَهُمُ الصَّلِيبَ مِنْ بَعِيدٍ فَلَمَّا

رُفِعَ لَهُمْ سَجَدُوا لَهُ وَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ إِلَى الْأَرْضِ وَبَعَثُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُ مَا أَحْضَرَهُ مِنَ الْمَالِ وَالْأُسَارَى فَامْتَنَعَ إِلَّا أَنْ يُرْسِلُوا إِلَيْهِ مَنْ بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْأُسَارَى أَوْ يَبْعَثُوا لَهُ بِرَهَائِنَ عِنْدَهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالُوا: لَا وَلَكِنْ يُرْسِلُ ذَلِكَ وَيَرْضَى بِأَمَانَتِنَا، فَفَهِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْغَدْرَ وَالْمَكْرَ فَلَمْ يُرْسِلْ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَأَمَرَ بِرَدِّ الْأُسَارَى إِلَى أَهْلِيهِمْ بِدِمَشْقَ وَبَعَثَ بِالصَّلِيبِ إِلَى دِمَشْقَ مُهَانًا وَأَبْرَزَتِ الْفِرِنْجُ خِيَامَهُمْ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ وَأَحْضَرُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَأَوْقَفُوهُمْ بَعْدَ الْعَصْرِ وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَقَتَلُوهُمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُمْ وَجَعَلَ الْجَنَّاتِ مُنْقَلَبَهُمْ، وَلَمْ يَسْتَبْقُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَمِيرًا أَوْ سَرِيًّا أَوْ مَنْ يَرَوْنَهُ فِي عَمَلِهِمْ قَوِيًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا، وَكَانَ مَا كَانَ وَقُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ وَكَانَ مُدَّةُ مُقَامِ السُّلْطَانِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى عَكَّا صَابِرًا مُصَابِرًا مُرَابِطًا سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ شَهْرًا، وَجُمْلَةُ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْفِرِنْجِ خَمْسِينَ أَلْفًا.

فَصْلٌ فِيمَا جَرَى مِنَ الْحَوَادِثِ بَعْدَ أَخْذِ الْفِرِنْجِ عَكَّا
سَارُوا بَرُمَّتِهِمْ قَاصِدِينَ عَسْقَلَانَ وَالسُّلْطَانُ بِجَيْشِهِ يُسَايِرُهُمْ وَيُعَارِضُهُمْ مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً، وَالْمُسْلِمُونَ يَتَخَطَّفُونَهُمْ وَيَسْلُبُونَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ

وَكُلُّ أَسِيرٍ أُتِيَ بِهِ إِلَى السُّلْطَانِ يَأْمُرُ بِقَتْلِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالْأَوَانِ وَجَرَتْ بَيْنَ الْجَيْشَيْنِ وَقَعَاتٌ مُتَعَدِّدَاتٌ ثُمَّ طَلَبَ مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ أَنْ يَجْتَمِعَ بِالْمَلِكِ الْعَادِلِ أَخِي السُّلْطَانِ يَطْلُبُ مِنْهُ الصُّلْحَ وَالْأَمَانَ عَلَى أَنْ تُعَادَ لِأَهْلِهَا بِلَادُ السَّاحِلِ، فَقَالَ لَهُ الْعَادِلُ: إِنَّ دُونَ ذَلِكَ قَتْلُ كُلِّ فَارِسٍ مِنْكُمْ وَرَاجِلٍ فَغَضِبَ اللَّعِينُ وَنَهَضَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ مُتَغَضِّبٌ، ثُمَّ اجْتَمَعَتِ الْفِرِنْجُ عَلَى حَرْبِ السُّلْطَانِ عِنْدَ غَابَةِ أَرْسُوفَ 72 فَكَانَتِ النُّصْرَةُ لِلْمُسْلِمِينَ فَقُتِلَ مِنَ الْفِرِنْجِ عِنْدَ غَابَةِ أَرْسُوفَ أُلُوفٌ بَعْدَ أُلُوفٍ وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ الْجَيْشُ فَرَّ عَنِ السُّلْطَانِ فِي أَوَّلِ الْوَاقِعَةِ وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى سَبْعَةَ عَشَرَ مُقَاتِلًا، وَهُوَ ثَابِتٌ صَابِرٌ وَالْكُوسُ تُدَقُّ لَا تَفْتُرُ وَالْأَعْلَامُ مَنْشُورَةٌ ثُمَّ تَرَاجَعَ النَّاسُ فَكَانَتِ النُّصْرَةُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْكَرَّةُ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
ثُمَّ تَقَدَمَّ السُّلْطَانُ بِعَسَاكِرِهِ فَنَزَلَ ظَاهِرَ عَسْقَلَانَ فَأَشَارَ ذَوُو الرَّأْيِ عَلَى السُّلْطَانِ بِتَخْرِيبِ عَسْقَلَانَ خَشْيَةَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا الْكُفَّارُ وَيَجْعَلُوهَا وَسِيلَةً إِلَى أَخْذِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ - صَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوْ يَجْرِي عِنْدَهَا مِنَ الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ نَظِيرُ مَا كَانَ عِنْدَ عَكَّا أَوْ أَشَدُّ فَبَاتَ السُّلْطَانُ لَيْلَتَهُ مُفَكِّرًا فِي ذَلِكَ، وَلَمَّا أَصْبَحَ وَقَدْ أَوْقَعَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ أَنَّ خَرَابَهَا هُوَ الْمَصْلَحَةُ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِمَنْ حَضَرَهُ وَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَمَوْتُ جَمِيعِ أَوْلَادِي أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ تَخْرِيبِ حَجَرٍ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ هَذَا فِيهِ مُصْلِحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِهِ.
ثُمَّ طَلَبَ الْوُلَاةَ وَأَمَرَهُمْ بِتَخْرِيبِ الْبَلَدِ سَرِيعًا قَبْلَ وُصُولِ الْعَدُوِّ الْمَخْذُولِ

فَشَرَعَ النَّاسُ فِي خَرَابِهِ، وَأَهْلُهُ وَمَنْ حَضَرَهُ يَتَبَاكُونَ عَلَى حُسْنِهِ وَطِيبِ مَقِيلِهِ وَكَثْرَةِ زُرُوعِهِ وَثِمَارِهِ وَغَزَارَةِ أَنْهَارِهِ وَنَضَارَةِ أَزْهَارِهِ، وَأُلْقِيَتِ النِّيرَانُ فِي أَرْجَائِهِ وَجَوَانِبِهِ وَخُرِّبَتْ قُصُورُهُ وَدُورُهُ وَأَسْوَاقُهُ وَرِحَابُهُ، وَأُتْلِفَ مَا فِيهِ مِنَ الْغَلَّاتِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ تَحْوِيلُهَا وَلَا نَقْلُهَا، وَلَمْ يَزَلِ الْخَرَابُ وَالْحَرِيقُ فِيهِ إِلَى سَلْخِ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ رَحَلَ السُّلْطَانُ مِنْهَا فِي ثَانِي رَمَضَانَ وَقَدْ تَرَكَهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ، ثُمَّ اجْتَازَ بِالرَّمْلَةِ فَخَرَّبَ حِصْنَهَا وَخَرَّبَ كَنِيسَةَ لُدَّ وَزَارَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَعَادَ إِلَى الْمُخَيَّمِ سَرِيعًا - تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ - ثُمَّ بَعَثَ مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ إِلَى السُّلْطَانِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ الْأَمْرَ قَدْ طَالَ وَهَلَكَ الْفِرِنْجُ وَالْمُسْلِمُونَ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ لَا سِوَاهَا: رَدُّ الصَّلِيبِ وَبِلَادِ السَّاحِلِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ لَا نَرْجِعُ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَمِنَّا عَيْنٌ تَطْرِفُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ جَوَابَ ذَلِكَ أَشَدَّ جَوَابٍ وَأَسْوَأَ خِطَابٍ، ثُمَّ عَزَمَتِ الْفِرِنْجُ عَلَى قَصْدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَتَقَدَّمَ السُّلْطَانُ بِجَيْشِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَتَرَكَهُ وَسَكَنَ فِي دَارِ الْقَسَاقِسِ قَرِيبًا مِنْ قُمَامَةُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَشَرَعَ فِي تَحْصِينِ الْبَلَدِ وَتَعْمِيقِ خَنَادِقِهِ وَعَمِلَ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ وَعَمِلَ فِيهِ الْأُمَرَاءُ وَالْقُضَاةُ وَالْعُلَمَاءُ وَالصُّوفِيَّةُ بِأَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ وَقْتًا مَشْهُودًا، وَالْيَزَكُ حَوْلَ الْبَلَدِ مِنْ نَاحِيَةِ الْفِرِنْجِ، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ يَسْتَظْهِرُونَ عَلَى الْفِرِنْجِ فَيَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ وَيَغْنِمُونَ مِنْهُمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَانْقَضَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ تَوَلَّى الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الزَّكِيِّ قَضَاءَ دِمَشْقَ.

وَفِيهَا عَدَا أَمِيرُ مَكَّةَ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى بْنِ فُلَيْتَةَ بْنِ قَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ الْحَسَنِيُّ فَأَخَذَ أَمْوَالَ الْكَعْبَةِ حَتَّى انْتَزَعَ طَوْقًا مِنْ فِضَّةٍ كَانَ عَلَى دَائِرَةِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، كَانَ قَدْ لُمَّ شَعَثُهُ حِينَ ضَرَبَهُ ذَلِكَ الْقِرْمِطِيُّ بِالدَّبُّوسِ فَلَمَّا بَلَغَ السُّلْطَانَ خَبَرُهُ مِنَ الْحَجِيجِ حِينَ رَجَعُوا عَزَلَهُ، وَوَلَّى أَخَاهُ مُكْثِرًا وَنَقَضَ الْقَلْعَةَ الَّتِي كَانَ بَنَاهَا أَخُوهُ عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ وَأَقَامَ دَاوُدُ بِنَخْلَةَ حَتَّى تُوُفِّيَ بِهَا سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ وَكَانَ عَزِيزًا عَلَى عَمِّهِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ اسْتَنَابَهُ بِمِصْرَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ ثُمَّ أَقْطَعَهُ حَمَاةَ وَمُدُنًا كَثِيرَةً مَعَهَا حَوْلَهَا وَمِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَكَانَ مَعَ عَمِّهِ السُّلْطَانِ عَلَى عَكَّا ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ فِي الْإِشْرَافِ عَلَى بِلَادِهِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْفُرَاتِ فَلَمَّا صَارَ إِلَيْهَا اشْتَغَلَ بِهَا، وَامْتَدَّتْ عَيْنُهُ إِلَى أَخْذِ غَيْرِهَا مِنْ أَيْدِي الْمُلُوكِ الْمُجَاوِرِينَ لَهَا فَقَاتَلَهُمْ فَاتَّفَقَ مَوْتُهُ وَهُوَ فِي ذَلِكَ وَالسُّلْطَانُ النَّاصِرُ صَلَاحُ مُتَغَضِّبٌ عَلَيْهِ بِسَبَبِ اشْتِغَالِهِ بِذَلِكَ عَنْهُ وَحُمِلَتْ جِنَازَتُهُ حَتَّى دُفِنَتْ بِحَمَاةَ وَلَهُ مَدْرَسَةٌ هُنَاكَ هَائِلَةٌ، وَكَذَلِكَ لَهُ بِدِمَشْقَ مَدْرَسَةٌ مَشْهُورَةٌ وَعَلَيْهَا أَوْقَافٌ كَثِيرَةٌ مَبْرُورَةٌ وَقَامَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ

الْمَنْصُورُ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ فَأَقَرَّهُ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ جُهْدٍ جَهِيدٍ وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ، وَلَوْلَا السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرٍ تَشَفَّعَ فِيهِ لَمَا اسْتَقَرَّ فِي مَكَانِ أَبِيهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ، وَكَانَتْ وَفَاةُ تَقِيِّ الدِّينِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَاسِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ شُجَاعًا بَاسِلًا وَهُمَامًا فَاتِكًا كَرِيمًا كَامِلًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ لَاجِينَ
أُمُّهُ سِتُّ الشَّامِ بِنْتُ أَيُّوبَ وَاقِفَةُ الشَّامِيَّتَيْنِ بِدِمَشْقَ وَفِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ تَاسِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ أَيْضًا تَفَجَّعَ السُّلْطَانُ بِابْنِ أَخِيهِ وَابْنِ أُخْتِهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ كَانَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَعْوَانِ وَأَعَزِّ الْإِخْوَانِ، وَدُفِنَ حُسَامُ الدِّينِ فِي التُّرْبَةِ الْحُسَامِيَّةِ وَهِيَ الَّتِي أَنْشَأَتْهَا أُمُّهُ بِمَحَلَّةِ الْعُوَيْنَةِ وَهِيَ الشَّامِيَّةُ الْبَرَّانِيَّةُ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ بْنُ جَنْدَرٍ الْحَلَبِيُّ
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ فِي الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ، وَفِي خِدْمَةِ السُّلْطَانِ حَيْثُ كَانَ هُوَ الذى أَشَارَ عَلَى السُّلْطَانِ بِتَخْرِيبِ عَسْقَلَانَ وَاتَّفَقَ مَرَضُهُ بِالْقُدْسِ، فَاسْتَأْذَنَ فِي أَنْ يُمَرَّضَ بِدِمَشْقَ فَأُذُنَ لَهُ فَسَارَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى غَبَاغِبَ فَمَاتَ بِهَا فِي أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ.

وَفِي رَجَبٍ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ نَائِبُ دِمَشْقَ حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
الصَّفِيُّ بْنُ الْفَائِضِ
وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ قَبْلَ الْمُلْكِ ثُمَّ اسْتَنَابَهُ عَلَى دِمَشْقَ حَتَّى تُوُفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تُوُفِّيَ: الطَّبِيبُ الْمَاهِرُ الْحَاذِقُ أَسْعَدُ بْنُ الْمُطْرَانِ
وَقَدْ شَرُفَ بِالْإِسْلَامِ وَشَكَرَهُ عَلَى طِبِّهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ الْخُبُوشَانِيُّ
الَّذِي بَنَى تُرْبَةَ الشَّافِعِيِّ بِمِصْرَ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا الْأَوْقَافَ السَّنِيَّةَ وَوَلَّاهُ تَدْرِيسَهَا وَنَظَرَهَا وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ يَحْتَرِمُهُ وَيُكْرِمُهُ وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ " وَمَا صَنَّفَهُ فِي الْمَذْهَبِ مِنْ " شَرْحِ الْوَسِيطِ " وَغَيْرِهِ وَلَمَّا تُوُفِّيَ الْخُبُوشَانِيُّ طَلَبَ التَّدْرِيسَ جَمَاعَةٌ فَشَفَعَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ عِنْدَ أَخِيهِ لِشَيْخِ الشُّيُوخِ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمُّوَيْهِ فَوَلَّاهُ إِيَّاهَا، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْهَا بَعْدَ مَوْتِ السُّلْطَانِ وَاسْتَمَرَّتْ عَلَيْهَا أَيْدِي بَنِي السُّلْطَانِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ثُمَّ خَلَصَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَادَتْ إِلَيْهَا الْفُقَهَاءُ وَالْمُدَرِّسُونَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
اسْتُهِلَّتْ وَالسُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ مُخَيِّمٌ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَقَدْ قَسَّمَ السُّورَ بَيْنَ أَوْلَادِهِ وَأُمَرَائِهِ وَهُوَ يَعْمَلُ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَيَحْمِلُ الْحَجَرَ بَيْنَ الْقَرَبُوسِ وَبَيْنَهُ، وَالنَّاسُ يَقْتَدُونَ بِهِ وَبِالْعُلَمَاءِ، وَالْفُقَرَاءُ يَعْمَلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَالْفِرِنْجُ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - حَوْلَ الْبَلَدِ مِنْ نَاحِيَةِ عَسْقَلَانَ وَمَا وَالَاهَا لَا يَتَجَاسَرُونَ أَنْ يَتَقَرَّبُوا مِنَ الْحَرَسِ وَالْيَزَكِ الَّذِينَ حَوْلَ الْقُدْسِ الشَّرِيفِ إِلَّا أَنَّهُمْ عَلَى نِيَّةِ مُحَاصَرَةِ الْقُدْسِ مُصَمِّمُونَ وَلِكَيْدِ الْإِسْلَامِ مُجْمِعُونَ وَهُمْ وَالْحَرَسُ تَارَةً يَغْلِبُونَ وَتَارَةً يُغْلَبُونَ وَتَارَةً يَنْهَبُونَ وَتَارَةً يُنْهَبُونَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ وَصَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ الْمَشْطُوبُ إِلَى السُّلْطَانِ وَهُوَ بِالْقُدْسِ مِنَ الْأَسْرِ وَكَانَ نَائِبًا عَلَى عَكَّا حِينَ أُخِذَتْ فَافْتَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَأَعْطَاهُ السُّلْطَانُ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْهَا وَاسْتَنَابَهُ عَلَى مَدِينَةِ نَابُلُسَ فَتُوُفِّيَ بِهَا فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ قُتِلَ الْمَرْكِيسُ صَاحِبُ صُورَ لَعَنَهُ اللَّهُ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ اثْنَيْنِ مِنَ الْفِدَاوِيَّةِ فَقَتَلُوهُ فَأَظْهَرَا التَّنَصُّرَ وَلَزِمَا الْكَنِيسَةَ حَتَّى ظَفِرَا بِالْمَرْكِيسِ فَقَتَلَاهُ وَقُتِلَا، فَاسْتَنَابَ مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ عَلَيْهَا ابْنَ أُخْتِهِ لِأُمِّهِ الْكُنْدَهِرِيَّ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ مَلِكِ إِفْرَنْسِيسَ لِأَبِيهِ فَهُمَا خَالَاهُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَلَمَّا صَارَ إِلَى صُورَ

ابْتَنَى بِزَوْجَةِ الْمَرْكِيسِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِلَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ حُبْلَى أَيْضًا وَذَلِكَ لِشِدَّةِ الْعَدَاوَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْإِنْكِلْتِيرِ وَبَيْنَهُ، وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ يُبْغِضُهُمَا وَلَكِنَّهُ قَدْ كَانَ صَانَعَهُ الْمَرْكِيسُ بِبَعْضِ الشَّيْءِ فَلَمْ يَهُنْ قَتْلُهُ عَلَيْهِ.
وَفِي تَاسِعِ جُمَادَى الْأُولَى اسْتَوْلَى الْفِرِنْجُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ عَلَى قَلْعَةِ الدَّارُومِ فَخَرَّبُوهَا وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا وَأَسَرُوا طَائِفَةً مِنَ الذُّرِّيَّةِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ثُمَّ أَقْبَلُوا بِخَيْلِهِمْ وَرَجِلِهِمْ جُمْلَةً نَحْوَ الْقُدْسِ الشَّرِيفِ فَبَرَزَ إِلَيْهِمُ السُّلْطَانُ فِي حِزْبِ الْإِيمَانِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الرَّجَّالَةِ وَالْفُرْسَانِ وَالْأَبْطَالِ وَالشُّجْعَانِ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ نَكَصَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ عَلَى عَقِبَيْهِ وَانْقَلَبُوا رَاجِعِينَ قَبْلَ الْقِتَالِ وَالنِّزَالِ وَعَادَ السُّلْطَانُ إِلَى الْقُدْسِ وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [ الْأَحْزَابِ: 25 ] ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ الْإِنْكِلْتِيرِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَهُوَ أَكْبَرُ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ ذَلِكَ الْوَقْتَ ظَفِرَ بِبَعْضِ قُفُولِ الْمُسْلِمِينَ فَكَبَسَهُمْ لَيْلًا فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَأَسَرَ مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةِ أَسِيرٍ وَغَنِمَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْجِمَالِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ فَكَانَ جُمْلَةُ الْجِمَالِ ثَلَاثَةَ آلَافِ بَعِيرٍ فَتَقَوَّى الْفِرِنْجُ بِذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا وَسَاءَ ذَلِكَ السُّلْطَانَ مَسَاءَةً عَظِيمَةً جِدًّا وَخَافَ مِنْ غَائِلَةِ ذَلِكَ وَاسْتَخْدَمَ الْإِنْكِلْتِيرُ الْجَمَّالَةَ عَلَى الْجِمَالِ وَالْخَرْبَنْدِيَّةَ عَلَى الْبِغَالِ وَالسَّاسَةَ عَلَى الْخَيْلِ، وَأَقْبَلَ وَقَدْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ جِدًّا، وَصَمَّمَ عَلَى مُحَاصَرَةِ الْقُدْسِ وَأَرْسَلَ إِلَى مُلُوكِ الْفِرِنْجِ الَّذِينَ

بِالسَّاحِلِ فَاسْتَحْضَرَهُمْ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ فَتَعَبَّأَ السُّلْطَانُ لَهُمْ وَتَهَيَّأَ وَأَكْمَلَ السُّورَ وَعَمَّرَ الْخَنَادِقَ وَنَصَبَ الْآلَاتِ وَالْمَجَانِيقَ وَأَمَرَ بِتَغْوِيرِ مَا حَوْلَ الْقُدْسِ مِنَ الْمِيَاهِ وَأَحْضَرَ السُّلْطَانُ أُمَرَاءَهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ تَاسِعَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَفِيهِمْ أَبُو الْهَيْجَاءِ السَّمِينُ وَالْمَشْطُوبُ وَالْأَسَدِيَّةُ بِكَمَالِهِمْ وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا قَدْ دَهَمَهُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ الْمُوجِعِ الْمُؤْلِمِ فَأَفَاضُوا فِي ذَلِكَ وَأَشَارُوا كُلٌّ بِرَأْيهِ وَأَشَارَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ بِأَنْ يَتَحَالَفُوا عَلَى الْمَوْتِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَ فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ، هَذَا كُلُّهُ وَالسُّلْطَانُ سَاكِتٌ وَاجِمٌ مُفَكِّرٌ، فَسَكَتَ الْقَوْمُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ جُنْدُ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ وَمَنَعَتُهُ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَذَرَارِيَهِمْ مُعَلَّقَةٌ فِي ذِمَمِكُمْ، فَإِنَّ هَذَا الْعَدُوَّ أَمِنَ لَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ تَلَقَّاهُ إِلَّا أَنْتُمْ فَإِنْ لَوَيْتُمْ أَعِنَّتَكُمْ - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - طَوَى الْبِلَادَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكِتَابِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِكُمْ، فَإِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَصَدَّيْتُمْ لِهَذَا وَأَكَلْتُمْ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ فَالْمُسْلِمُونَ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ مُتَعَلِّقُونَ بِكُمْ وَالسَّلَامُ
فَانْتَدَبَ لِجَوَابِهِ سَيْفُ الدِّينِ الْمَشْطُوبُ وَقَالَ: يَا مَوْلَانَا نَحْنُ مَمَالِيكُكَ وَعَبِيدُكَ وَأَنْتَ الَّذِي أَعْطَيْتَنَا وَكَبَّرْتَنَا وَعَظَّمْتَنَا، وَلَيْسَ لَنَا إِلَّا رِقَابُنَا وَنَحْنُ بَيْنُ يَدَيْكَ، وَاللَّهِ مَا يَرْجِعُ أَحَدٌ مِنَّا عَنْ نُصْرَتِكَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ فَقَالَ الْجَمَاعَةُ مِثْلَ مَا قَالَ فَفَرِحَ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ وَطَابَ قَلْبُهُ وَمَدَّ لَهُمْ سِمَاطًا حَافِلًا وَانْصَرَفُوا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ عَلَى ذَلِكَ

ثُمَّ بَلَغَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّا نَخَافُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْنَا فِي هَذَا الْبَلَدِ كَمَا جَرَى عَلَى أَهْلِ عَكَّا ثُمَّ يَأْخُذُونَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ بَلَدًا بَلَدًا وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ نَلْتَقِيَهُمْ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ فَإِنْ هَزَمْنَاهُمْ أَخَذْنَا بَقِيَّةَ بِلَادِهِمْ وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى سَلِمَ الْعَسْكَرُ وَمَضَى الْقُدْسُ وَقَدِ انْخَفَضَتْ بِلَادُ الْإِسْلَامِ بِدُونِ الْقُدْسِ مُدَّةً طَوِيلَةً وَبَعَثُوا إِلَى السُّلْطَانِ يَقُولُونَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُنَا نُقِيمُ بِالْقُدْسِ تَحْتَ حِصَارِ الْفِرِنْجِ فَكُنْ أَنْتَ مَعَنَا أَوْ بَعْضُ أَهْلِكَ حَتَّى يَكُونَ الْجَيْشُ تَحْتَ أَمْرِكَ فَإِنَّ الْأَكْرَادَ لَا تُطِيعُ التُّرْكَ وَالتُّرْكُ لَا تُطِيعُ الْأَكْرَادَ.
فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ شَقَّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً عَظِيمَةً وَبَاتَ لَيْلَتَهُ أَجْمَعَ مَهْمُومًا كَئِيبًا يُفَكِّرُ فِيمَا قَالُوا ثُمَّ انْجَلَى الْأَمْرُ وَاتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ الْأَمْجَدُ صَاحِبُ بَعْلَبَكَّ مُقِيمًا عِنْدَهُمْ نَائِبًا عَنْهُ بِالْقُدْسِ وَكَانَ ذَلِكَ نَهَارَ الْجُمُعَةِ فَلَمَّا حَضَرَ إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِلظُّهْرِ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ وَسَجَدَ وَابْتَهَلَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ابْتِهَالًا عَظِيمًا وَتَضَرَّعَ إِلَى رَبِّهِ وَتَمَسْكَنَ وَسَأَلَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ كَشْفَ هَذِهِ الضَّائِقَةِ الْعَظِيمَةِ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ مِنَ الْغَدِ جَاءَتِ الْكُتُبُ مِنَ الْحَرَسِ حَوْلَ الْبَلَدِ بِأَنَّ الْفِرِنْجَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي مُحَاصَرَةِ الْقُدْسِ فَقَالَ مَلِكُ الْإِفْرَنْسِيسِ: إِنَّا إِنَّمَا جِئْنَا مِنَ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ وَأَنْفَقْنَا الْأَمْوَالَ الْعَدِيدَةَ فِي تَخْلِيصِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَرَدِّهِ إِلَيْنَا وَقَدْ بَقِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مَرْحَلَةٌ فَقَالَ الْإِنْكِلْتِيرُ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ يَشُقُّ عَلَيْنَا

حِصَارُهُ ; لِأَنَّ الْمِيَاهَ حَوْلَهُ قَدْ عُدِمَتْ وَمَتَى بَعَثْنَا مَنْ يَأْتِينَا بِالْمَاءِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْبَعِيدَةِ تَعَطَّلَ الْحِصَارُ وَتَلِفَ الْجَيْشُ ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ حَكَّمُوا عَلَيْهِمْ ثَلَاثَمِائَةٍ مِنْهُمْ فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ مِنْهُمْ فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ فَبَاتُوا لَيْلَتَهُمْ يَنْظُرُونَ ثُمَّ أَصْبَحُوا وَقَدْ حَكَمُوا عَلَيْهِمْ بِالرَّحِيلِ فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ مُخَالَفَتُهُمْ فَسَحَبُوا رَاجِعِينَ، - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - أَجْمَعِينَ فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الرَّمْلَةِ، وَقَدْ طَالَتْ عَلَيْهِمُ الْغُرْبَةُ وَالرَّمْلَةُ وَذَلِكَ فِي بُكْرَةِ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَبَرَزَ السُّلْطَانُ بِجَيْشِهِ إِلَى خَارِجِ الْقُدْسِ وَسَارَ نَحْوَهُمْ خَوْفًا أَنْ يَسِيرُوا إِلَى مِصْرَ لِكَثْرَةِ مَا مَعَهُمْ مِنَ الظَّهْرِ وَالْأَمْوَالِ، وَكَانَ الْإِنْكِلْتِيرُ يَلْهَجُ بِذَلِكَ كَثِيرًا، فَخَذَلَهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ مِنَ الْإِنْكِلْتِيرِ إِلَى السُّلْطَانِ فِي طَلَبِ الصُّلْحِ وَوَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ثَلَاثَ سِنِينَ وَعَلَى أَنْ يُعِيدَ لَهُمْ عَسْقَلَانَ وَيَهَبَ لَهُمْ كَنِيسَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهِيَ الْقُمَامَةُ وَأَنْ يُمَكِّنَ النَّصَارَى مِنْ زِيَارَتِهَا وَحَجِّهَا بِلَا شَيْءٍ، فَامْتَنَعَ السُّلْطَانُ مِنْ إِعَادَةِ عَسْقَلَانَ وَأَطْلَقَ لَهُمُ الْقُمَامَةَ وَفَرَضَ عَلَى الزُّوَّارِ مَالًا يُؤْخَذُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ فَامْتَنَعَ الْإِنْكِلْتِيرُ إِلَّا أَنْ تُعَادَ لَهُمْ عَسْقَلَانُ وَيُعَمَّرَ سُورُهَا كَمَا كَانَتْ فَصَمَّمَ السُّلْطَانُ عَلَى عَدَمِ الْإِجَابَةِ.
ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ حَتَّى وَافَى يَافَا فَحَاصَرَهَا حِصَارًا شَدِيدًا فَافْتَتَحَهَا وَغَنِمَ جَيْشُهُ مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا وَامْتَنَعَتِ الْقَلْعَةُ فَبَالَغَ فِي أَمْرِهَا حَتَّى هَانَتْ وَلَانَتْ وَدَانَتْ، وَكَادُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَيْهِ بِأَقَالِيدِهَا، وَيَأْخُذُوا الْأَمَانَ لِكَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَشْرَقَتْ عَلَيْهِمْ مَرَاكِبُ الْإِنْكِلْتِيرِ عَلَى وَجْهِ الْبَحْرِ فَقَوِيَتْ رُءُوسُهُمْ وَاسْتَعْصَتْ نُفُوسُهُمْ وَهَجَمَ اللَّعِينُ فَأَعَادَ الْبَلَدَ وَقَتَلَ مَنْ تَأَخَّرَ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَقَهْقَرَ السُّلْطَانُ عَنْ مَنْزِلَةِ الْحِصَارِ إِلَى مَا وَرَاءَهَا خَوْفًا عَلَى

الْجَيْشِ مِنْ مَعَرَّةِ الْفِرِنْجِ فَجَعَلَ مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ يَتَعَجَّبُ مِنْ شِدَّةِ سَطْوَةِ السُّلْطَانِ كَيْفَ فَتَحَ مِثْلَ هَذَا الْبَلَدِ الْعَظِيمِ فِي يَوْمَيْنِ وَغَيْرُهُ لَا يُمْكِنُهُ فَتْحُهُ فِي عَامَيْنِ وَلَكِنْ مَا ظَنَنْتُ أَنَّهُ مَعَ شَهَامَتِهِ وَصَرَامَتِهِ يَتَأَخَّرُ مِنْ مَنْزِلَتِهِ بِمُجَرَّدِ قُدُومِي وَأَنَا وَمَنْ مَعِي لَمْ نَخْرُجْ مِنَ الْبَحْرِ إِلَّا جَرَائِدَ بِلَا سِلَاحٍ ثُمَّ أَلَحَّ فِي طَلَبِ الصُّلْحِ وَأَنْ تَكُونَ عَسْقَلَانُ دَاخِلَةً فِي صُلْحِهِمْ فَامْتَنَعَ السُّلْطَانُ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ ثُمَّ إِنَّ السُّلْطَانَ كَبَسَ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي الْإِنْكِلْتِيزَ وَهُوَ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ فَارِسًا وَحَوْلَهُ قَلِيلٌ مِنَ الرَّجَّالَةِ فَأَوْكَبَ السُّلْطَانُ بِجَيْشِهِ حَوْلَهُ وَحَصَرَهُ حَصْرًا لَمْ يَبْقَ لَهُ مَعَهُ نَجَاةٌ لَوْ صَمَّمَ مَعَهُ الْجَيْشُ، وَلَكِنَّهُمْ نَكَلُوا كُلُّهُمْ عَنِ الْجُمْلَةِ فَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ وَجَعَلَ السُّلْطَانُ يُحَرِّضُهُمْ غَايَةَ التَّحْرِيضِ فَكُلُّهُمْ يَمْتَنِعُ كَمَا يَمْتَنِعُ الْمَرِيضُ مِنْ شُرْبِ الدَّوَاءِ.
هَذَا وَالْإِنْكِلْتِيرُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - قَدْ رَكِبَ فِي أَصْحَابِهِ وَأَخَذَ عُدَّةَ قِتَالِهِ وَحِرَابِهِ وَاسْتَعْرَضَ الْمَيْمَنَةَ إِلَى أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِ الْمَيْسَرَةِ يَعْنِي مَيْمَنَةَ الْمُسْلِمِينَ وَمَيْسَرَتَهُمْ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْفُرْسَانِ وَلَا بَهَشَ فِي وَجْهِهِ بَطَلٌ مِنَ الشُّجْعَانِ فَعِنْدَ ذَلِكَ كَرَّ السُّلْطَانُ رَاجِعًا وَقَدْ أَحْزَنَهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَ مِنَ الْجَيْشِ مُطِيعًا وَلَا سَامِعًا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
ثُمَّ حَصَلَ لِلْإِنْكِلْتِيرِ بَعْدَ ذَلِكَ مَرَضٌ شَدِيدٌ وَبَعَثَ إِلَى السُّلْطَانِ يَطْلُبُ فَاكِهَةً وَثَلْجًا فَأَمَدَّهُ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ مِنْ بَابِ الْفُتُوَّةِ وَالْإِحْسَانِ وَإِظْهَارِ الْقُوَّةِ وَالِامْتِنَانِ ثُمَّ عُوفِيَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَتَكَرَّرَتِ الرُّسُلُ مِنْهُ يَطْلُبُ مِنَ السُّلْطَانِ الْمُصَالَحَةَ وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ شَوْقِهِ إِلَى بِلَادِهِ وَتَوْقِهِ إِلَى مَلَاذِهِ وَطَاوَعَ السُّلْطَانَ عَلَى مَا يَقُولُ وَنَزَلَ عَنْ طَلَبِ عَسْقَلَانَ وَرَضِيَ بِمَا رَسَمَ بِهِ السُّلْطَانُ، وَكُتِبَ كِتابُ الصُّلْحِ عَلَى مَا رَسَمَ بِهِ السُّلْطَانُ فِي ثَامِنَ عَشَرَ شَعْبَانَ وَأُكِّدَتِ الْعُهُودُ وَالْمَوَاثِيقُ

مِنْ كُلِّ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِهِمْ وَأُسْقُفٍ وَجَاثَلِيقٍ، وَحَلَفَ الْأُمَرَاءُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَتَبُوا خُطُوطَهُمْ وَاكْتُفِيَ مِنَ السُّلْطَانِ بِالْقَوْلِ الْمُجَرَّدِ، كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ السَّلَاطِينَ وَفَرِحَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فَرَحًا كَثِيرًا، وَأَظْهَرُوا سُرُورًا وَوُقِّعَتِ الْهُدْنَةُ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَعَلَى أَنْ يُقَرَّ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْبِلَادِ السَّاحِلِيَّةِ وَلِلْمُسْلِمِينَ مَا يُقَابِلُهَا مِنَ الْبِلَادِ الْجَبَلِيَّةِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُعَامَلَاتِ، فَقَسْمُهَا عَلَى الْمُنَاصَفَةِ، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ مِائَةَ نِقَابٍ صُحْبَةَ أَمِيرٍ لِتَخْرِيبِ سُورِ عَسْقَلَانَ وَإِخْرَاجِ مَنْ بِهَا مِنَ الْفِرِنْجِ وَالْأَلْمَانِ.
وَعَادَ السُّلْطَانُ إِلَى الْقُدْسِ الشَّرِيفِ فَرَتَّبَ أَحْوَالَهُ وَوَطَّدَهَا، وَسَدَّدَ أُمُورَهُ وَأَكَّدَهَا وَزَادَ وَقْفَ الْمَدْرَسَةِ سُوقًا بِدَكَاكِينِهَا وَأَرْضًا بِبَسَاتِينِهَا، وَزَادَ وَقْفَ الصُّوفِيَّةِ أَيْضًا وَعَزَمَ عَلَى الْحَجِّ عَامَهُ ذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ لِيَعْلَمُوا بِذَلِكَ وَيَتَأَهَّبُوا لَهُ فَكَتَبَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ خَوْفًا عَلَى الْبِلَادِ وَيَذْكُرُ لَهُ أَنَّ النَّظَرَ فِي أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَإِصْلَاحِ أَمْرِهِمُ الَّذِي قَدْ تَدَاعَى إِلَى الْفَسَادِ وَسَدَّ ثُغُورِهِمْ وَمُصَابَرَةَ أَعْدَائِهِمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ، أَفْضَلُ لَكَ مِمَّا عَزَمْتَ عَلَيْهِ فِي عَامِكَ هَذَا، وَالْعَدُوُّ الْمَخْذُولُ مُخَيِّمٌ بَعْدُ بِالشَّامِ لَمْ يُقْلِعْ مِنْهُ مَرْكِبٌ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُهَادِنُونَ لِيَتَقَوَّوْا وَيَكْثُرُوا ثُمَّ يَمْكُرُوا وَيَغْدِرُوا.
فَسَمِعَ السُّلْطَانُ مِنْهُ وَشَكَرَ نُصْحَهُ وَقَبِلَهُ، وَعَزَمَ عَلَى تَرْكِ الْحَجِّ عَامَهُ ذَلِكَ، وَكَتَبَ بِهِ إِلَى سَائِرِ الْمَمَالِكِ وَاسْتَمَرَّ السُّلْطَانُ مُقِيمًا بِالْقُدْسِ جَمِيعَ شَهْرِ رَمَضَانَ

فِي صِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَقُرْآنٍ وَكُلَّمَا وَفَدَ أَحَدٌ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّصَارَى لِلزِّيَارَةِ أَوْلَاهُ غَايَةَ الْإِكْرَامِ وَالْإِحْسَانِ تَأْلِيفًا لِقُلُوبِهِمْ وَتَأْكِيدًا لِمَا حَلَفُوهُ مِنَ الْأَيْمَانِ، وَرَغْبَةً أَنْ يَدْخُلَ فِي قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ مُلُوكِهِمْ إِلَّا جَاءَ لِزِيَارَةِ الْقُمَامَةِ مُتَنَكِّرًا، وَيَحْضُرُ سِمَاطَ السُّلْطَانِ فِيمَنْ يَحْضُرُ مِنْ جُمْهُورِهِمْ بِحَيْثُ لَا يُرَى، وَالسُّلْطَانُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا وَلِهَذَا يُعَامِلُهُمْ بِالْإِكْرَامِ وَيُرِيهِمْ صَفْحًا جَمِيلًا وَبِرًّا جَزِيلًا وَظِلًّا ظَلِيلًا
فَلَمَّا كَانَ خَامِسُ شَوَّالٍ رَكِبَ فِي عَسَاكِرِهِ وَجَحَافِلِهِ فَبَرَزَ مِنَ الْقُدْسِ الشَّرِيفِ قَاصِدًا دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةَ وَاسْتَنَابَ عَلَى الْقُدْسِ عِزَّ الدِّينِ جُرْدَيْكَ وَعَلَى قَضَائِهَا بَهَاءَ الدِّينِ يُوسُفَ بْنَ رَافِعِ بْنِ تَمِيمٍ الشَّافِعِيَّ، وَاجْتَازَ عَلَى وَادِي الْجِيبِ وَبَاتَ عَلَى بِرْكَةِ الدَّاوِيَّةِ، ثُمَّ أَصْبَحَ فِي نَابُلُسَ فَنَظَرَ فِي أَحْوَالِهَا وَأُمُورِهَا ثُمَّ تَرَحَّلَ عَنْهَا، فَجَعَلَ يَمُرُّ بِالْمَعَاقِلِ وَالْحُصُونِ وَالْبُلْدَانِ لِلنَّظَرِ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَمْوَالِ وَكَشْفِ الْمَظَالِمِ وَالْمَحَارِمِ وَالْمَآثِمِ وَتَرْتِيبِ الْمَكَارِمِ، وَفِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ جَاءَ إِلَى خِدْمَتِهِ بَيْمُنْدُ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَطْلَقَ لَهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً وَخِلَعًا جَمِيلَةً، وَكَانَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ فِي صُحْبَتِهِ، فَأَخْبَرَ عَنْ مَنَازِلِهِ مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً وَمَرْحَلَةً مَرْحَلَةً إِلَى أَنْ قَالَ: وَعَبَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ عَيْنَ الْجَرِّ إِلَى مَرْجِ يَبُوسَ وَقَدْ زَالَ الْبُوسُ، وَهُنَاكَ تَوَافَدَ أَعْيَانُ دِمَشْقَ وَأَمَاثِلُهَا وَأَفَاضِلُهَا

وَفَوَاضِلُهَا، وَنَزَلْنَا يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ عَلَى الْعَرَّادَةِ جَرَى الْمُتَلَقُّونَ بِالطُّرَفِ وَالتُّحَفِ عَلَى الْعَادَةِ، وَأَصْبَحْنَا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ - يَعْنِي سَادِسَ عَشَرَ شَوَّالٍ بُكْرَةً - إِلَى جَنَّةِ دِمَشْقَ دَاخِلِينَ بِسَلَامٍ آمِنِينَ لَوْلَا أَنَّنَا غَيْرُ خَالِدِينَ، وَكَانَتْ غَيْبَةُ السُّلْطَانِ عَنْهَا طَالَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ فَأَخْرَجَتْ دِمَشْقُ أَثْقَالَهَا، وَأَبْرَزَتْ نِسَاءَهَا وَرِجَالَهَا، وَكَانَ يَوْمَ الزِّينَةِ وَخَرَجَ كُلٌّ مَنْ فِي الْمَدِينَةِ، وَحُشِرَ النَّاسُ ضُحًى وَأَشَاعُوا اسْتِبْشَارًا وَفَرَحًا، وَاجْتَمَعَ بِأَوْلَادِهِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وِقَدِمَ عَلَيْهِ رُسُلُ الْمُلُوكِ مِنْ سَائِرِ الْأَمْصَارِ، وَأَقَامَ بَقِيَّةَ عَامِهِ فِي اقْتِنَاصِ الصَّيْدِ وَحُضُورِ دَارِ الْعَدْلِ لِلْفَصْلِ، وَالْعَمَلِ بِالْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ.
وَلَمَّا كَانَ عِيدُ الْأَضْحَى امْتَدَحَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ بِقَصِيدَةٍ يَقُولُ فِيهَا:
وَأَبِيهَا لَوْلَا تَغَزُّلُ عَيْنَيْهَا لَمَا قُلْتُ فِي التِّغَزُّلِ شِعْرًا وَلَكَانَتْ مَدَائِحُ الْمَلِكِ النِّاصِرِ
أَوْلَى مَا فِيهِ أُعْمِلُ فِكْرَا مَلِكٌ طَبَّقَ الْمَمَالِكَ عَدْلًا
مِثْلَمَا أَوْسَعَ الْبَرِيَّةَ بِرَّا فَتَحَلَّ الْأَعْيَادَ صَوْمًا وَفِطْرًا
وَتَلَقَّ الْهَنَاءَ بَرًّا وَبَحْرَا يَا مُسِرَّ الطَّاعَاتِ لِلَّهِ إِنْ
أَضْحَى مَلِيكٌ عَلَى الْهَنَاتِ مُصِرَّا نِلْتَ مَا تَبْتَغِي مِنَ الدِّينِ وَالدُّنْ
يَا فَتِيهًا عَلَى الْمُلُوكِ وَفَخْرَا قَدْ جَمَعْتَ الْمَجْدَيْنِ أَصْلًا وَفَرْعًا
وَمَلَكْتَ الدَّارَيْنِ دُنْيَا وَأُخْرَى
وَمِمَّا وَقَعَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْحَوَادِثِ غَزْوَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ صَاحِبِ غَزْنَةَ شِهَابِ الدِّينِ السُّبُكْتِكِينِيِّ، وَبَيْنُ مَلِكِ الْهِنْدِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ كَسَرُوهُ فِي سَنَةِ

ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ فَأَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَكَسَرَهُمْ وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْهُمْ وَأَسَرَ خَلْقًا وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَسَرَهُ مَلِكُهُمُ الْأَعْظَمُ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ فِيلًا مِنْ جُمْلَتِهَا الَّذِي كَانَ جَرَحَهُ فَأُحْضِرُ الْمَلِكُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَهَانَهُ وَلَمْ يُكْرِمْهُ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى حِصْنِهِ وَأَخْبَرَ بِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ كُلِّ جَلِيلٍ وَحَقِيرٍ ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَادَ إِلَى غَزْنَةَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مَسْرُورًا مَحْبُورًا
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اتُّهِمَ أَمِيرُ الْحَجِّ بِبَغْدَادَ - وَهُوَ طَاشْتِكِينُ وَقَدْ كَانَ عَلَى إِمْرَةِ الْحَجِيجِ مِنْ مُدَّةِ عِشْرِينَ سَنَةً وَكَانَ فِي غَايَةِ حُسْنِ السِّيرَةِ - بِأَنَّهُ يُكَاتِبُ صَلَاحَ الدِّينِ بْنَ أَيُّوبَ بِالْقُدُومِ إِلَى الْعِرَاقِ لِيَأْخُذَهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ يَرُدُّهُ أَحَدٌ وَقَدْ كَانَ مَكْذُوبًا عَلَيْهِ وَمَعَ هَذَا حُبِسَ وَأُهِينَ وَصُودِرَ.

فَصْلٌ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْفَرَّاشِ كَانَ قَاضِيَ الْعَسَاكِرِ بِدِمَشْقَ، وَيُرْسِلُهُ السُّلْطَانُ فِي الرِّسَالَاتِ إِلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ وَتُوُفِّيَ بِمَلَطْيَةَ عَائِدًا مِنْ بَنِي قِلْجَ
سَيْفُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْمَشْطُوبُ
كَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَسَدِ الدِّينِ

شِيرَكُوهْ حَضَرَ مَعَهُ الْوَقَعَاتِ الثَّلَاثَ بِمِصْرَ ثُمَّ صَارَ مِنْ كُبَرَاءِ أُمَرَاءِ صَلَاحِ الدِّينِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ نَائِبًا عَلَى عَكَّا حِينَ أَخَذَهَا الْفِرِنْجُ فَأَسَرُوهُ فِي جُمْلَةِ مَنْ أَسَرُوا فَافْتَدَى نَفْسَهُ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَتَخَلَّصَ إِلَى أَنْ خَلَصَ إِلَى السُّلْطَانِ وَهُوَ بِالْقُدْسِ فَأَعْطَاهُ أَكْثَرَهَا وَوَلَّاهُ نِيَابَةَ نَابُلُسَ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْأَحَدِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ وَدُفِنَ فِي دَارِهِ
صَاحِبُ بِلَادِ الرُّومِ عِزُّ الدِّينِ قِلْجُ أَرْسَلَانَ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ قِلْجِ أَرَسْلَانَ
وَكَانَ قَدْ قَسَّمَ جَمِيعَ بِلَادِهِ بَيْنَ أَوْلَادِهِ طَمَعًا فِي طَاعَتِهِمْ لَهُ، فَخَالَفُوهُ وَتَجَبَّرُوا وَعَتَوْا عَلَيْهِ وَخَفَّضُوا قَدْرَهُ وَارْتَفَعُوا، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى تُوَفِّيَ فِي عَامِهِ هَذَا.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ تُوُفِّيَ الْأَدِيبُ الشَّاعِرُ أَبُو الْمُرْهَفِ نَصْرُ بْنُ مَنْصُورٍ النُّمَيْرِيُّ
سَمِعَ الْحَدِيثَ وَاشْتَغَلَ بِالْأَدَبِ وَكَانَ قَدْ أَصَابَهُ جُدَرِيٌّ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَنَقَصَ بَصَرُهُ جِدًّا، وَكَانَ لَا يُبْصِرُ الْأَشْيَاءَ الْبَعِيدَةَ، وَيَرَى الْقَرِيبَ مِنْهُ وَلَكِنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَائِدٍ فَارْتَحَلَ إِلَى الْعِرَاقِ لِمُدَاوَاةِ عَيْنَيْهِ فَآيِسَتْهُ الْأَطِبَّاءُ مِنْ ذَلِكَ، فَاشْتَغَلَ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ وَمُصَاحَبَةِ الصَّالِحِينَ وَالزُّهَّادِ، فَأَفْلَحَ وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ كَبِيرٌ حَسَنٌ وَقَدْ سُئِلَ مَرَّةً عَنْ مَذْهَبِهِ وَاعْتِقَادِهِ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:

أُحِبُّ عَلِيًّا وَالْبَتُولَ وَوُلْدَهَا وَلَا أَجْحَدُ الشَّيْخَيْنِ فَضْلَ التَّقَدُّمِ وَأَبْرَأُ مِمَّنْ نَالَ عُثْمَانَ بِالْأَذَى
كَمَا أَتَبَرَّا مِنْ وَلَاءِ ابْنِ مُلْجِمِ وَيُعْجِبُنِي أَهْلُ الْحَدِيثِ لِصِدْقِهِمْ
فَلَسْتُ إِلَى قَوْمٍ سِوَاهُمْ بِمُنْتَمِي
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَغْدَادَ وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الشُّهَدَاءِ بِبَابِ حَرْبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُوَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ، وَخَرَجَ هُوَ وَأَخُوهُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرٍ إِلَى الصَّيْدِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ وَقَدِ اتَّفَقَ الْحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ أَنَّهُ بَعْدَمَا قَدْ تَفَرَّغَ مِنْ أَمْرِ الْفِرِنْجِ هَذِهِ الْمُدَّةَ يَسِيرُ هُوَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، وَيَبْعَثُ أَخَاهُ إِلَى خِلَاطَ فَإِذَا فَرَغَا مِنْ شَأْنِهِمَا سَارَا جَمِيعًا إِلَى بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ وَبِلَادِ الْعَجَمِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا أَحَدٌ يُمَانِعُ عَنْهَا فَلَمَّا قَدِمَ الْحَجِيجُ مِنَ الْحِجَازِ الشَّرِيفِ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ حَادِي عَشَرَ صَفَرٍ خَرَجَ السُّلْطَانُ لِتَلَقِّيهِمْ، وَقَدِمَ مَعَهُمْ وَلَدُ أَخِيهِ سَيْفُ الْإِسْلَامِ صَاحِبُ الْيَمَنِ فَأَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ وَعَادَ إِلَى الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، فَدَخَلَهَا مِنْ بَابِ الْحَدِيدِ فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ مَا رَكِبَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّهُ اعْتَرَاهُ حُمَّى صَفْرَاوِيَّةٌ لَيْلَةَ السَّبْتِ سَادِسَ عَشَرَ صَفَرٍ فَلَمَّا أَصْبَحَ دَخَلَ عَلَيْهِ الْقَاضِي الْفَاضِلُ وَابْنُ شَدَّادٍ وَابْنُهُ الْأَفْضَلُ، فَأَخَذَ يَشْكُو إِلَيْهِمْ كَثْرَةَ قَلَقِهِ الْبَارِحَةَ، وَطَابَ لَهُ الْحَدِيثُ، وَطَالَ مَجْلِسُهُمْ عِنْدَهُ، ثُمَّ تَزَايَدَ بِهِ الْمَرَضُ وَاسْتَمَرَّ وَقَصَدَهُ الْأَطِبَّاءُ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَاعْتَرَاهُ يُبْسٌ وَحَصَلَ لَهُ عَرَقٌ شَدِيدٌ بِحَيْثُ نَفَذَ إِلَى الْأَرْضِ، فَقَوِيَ الْيُبْسُ فَأُحْضِرَ الْأُمَرَاءُ مِنَ الْأَكَابِرِ، فَبُويِعَ لِوَلَدِهِ الْأَفْضَلِ نُورِ الدِّينِ

عَلَيٍّ نَائِبًا عَلَى دِمَشْقَ وَذَلِكَ عِنْدَمَا ظَهَرَتْ مَخَايِلُ الضَّعْفِ الشَّدِيدِ وَغَيْبُوبَةُ الذِّهْنِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَكَانَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ الْقَاضِي الْفَاضِلُ وَابْنُ شَدَّادٍ وَقَاضِي الْبَلَدِ ابْنُ الزَّكِيِّ وَتَفَاقَمَ الْحَالُ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ وَاسْتَدْعَى الشَّيْخَ أَبَا جَعْفَرٍ إِمَامَ الْكَلَّاسَةِ لِيَبِيتَ عِنْدَهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُلَقِّنُهُ الشَّهَادَةَ إِذَا جَدَّ بِهِ الْأَمْرُ فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ عِنْدَهُ وَهُوَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ فَقَرَأَ: هُوَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَقَالَ: وَهُوَ كَذَلِكَ صَحِيحٌ فَلَمَّا أَذَّنَ الصُّبْحُ جَاءَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي آخِرِ رَمَقٍ، فَلَمَّا قَرَأَ الْقَارِئُ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ تَبَسَّمَ وَتَهَلَّلَ وَجْهُهُ وَأَسْلَمَ رُوحَهُ إِلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ وَكَانَ لَهُ مِنَ الْعُمْرِ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، لِأَنَّهُ وُلِدَ بِتَكْرِيتَ فِي شُهُورِ سَنَةِ اثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَدْ كَانَ رِدْءًا لِلْإِسْلَامِ وَحِرْزًا وَكَهْفًا مِنْ كَيْدِ الْكَفَرَةِ اللِّئَامِ وَكَانَ أَهْلُ دِمَشْقَ لَمْ يُصَابُوا بِمِثْلِ مُصَابِهِ وَوَدَّ كُلٌّ مِنْهُمْ لَوْ فَدَاهُ بِأَوْلَادِهِ وَأَحْبَابِهِ وَأَصْحَابِهِ وَقَدْ غُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ وَاحْتُفِظَ عَلَى الْحَوَاصِلِ، ثُمَّ أَخَذُوا فِي تَجْهِيزِهِ وَغُسْلِهِ وَحَضَرَ جَمِيعُ أَوْلَادِهِ وَأَهْلِهِ، وَيَعِزُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى غُسْلَهُ خَطِيبُ الْبَلَدِ الْفَقِيهُ الدَّوْلَعِيُّ، وَكَانَ الَّذِي أَحْضَرَ الْكَفَنَ وَمُؤْنَةَ التَّجْهِيزِ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنْ صُلْبِ مَالِهِ الْحَلَالِ هَذَا وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ وَالصِّغَارُ يَبْرُزُونَ وَيُنَادُونَ وَيَبْكُونَ وَالنَّاسُ فِي التَّعْوِيلِ وَالِانْتِحَابِ وَالِابْتِهَالِ ثُمَّ أُبْرِزَ فِي تَابُوتٍ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَأَمَّ النَّاسَ عَلَيْهِ الْقَاضِي ابْنُ الزَّكِيِّ ثُمَّ دُفِنَ

فِي دَارِهِ بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَشَرَعَ ابْنُهُ فِي بِنَاءِ تُرْبَةٍ لَهُ وَمَدْرَسَةٍ لِلشَّافِعِيَّةِ بِالْقُرْبِ مِنْ مَسْجِدِ الْقَدَمِ لِوَصِيَّتِهِ بِذَلِكَ قَدِيمًا، فَلَمْ يَكْمُلْ بِنَاؤُهَا وَلَمْ يَتِمَّ، وَذَلِكَ حِينَ قَدِمَ وَلَدُهُ الْعَزِيزُ وَكَانَ مُحَاصِرًا لِأَخِيهِ الْأَفْضَلِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي سَنَةِ تِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ اشْتَرَى لَهُ الْأَفْضَلُ دَارًا شَمَالِيَّ الْكَلَّاسَةِ فِي وِزَانِ مَا زَادَهُ الْقَاضِي الْفَاضِلُ فِي الْكَلَّاسَةِ فَجَعَلَهَا لَهُ تُرْبَةً هَطَلَتْ سَحَائِبُ الرَّحْمَةِ عَلَيْهَا، وَوَصَلَتْ أَلْطَافُ الرَّأْفَةِ إِلَيْهَا، وَكَانَ نَقْلُهُ إِلَيْهَا فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ تَحْتَ النَّسْرِ قَاضِي الْقُضَاةِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقُرَشِيُّ ابْنُ الزَّكِيِّ عَنْ إِذَنِ الْأَفْضَلِ لَهُ، وَدَخَلَ فِي لَحْدِهِ وَلَدُهُ الْأَفْضَلُ فَدَفَنَهُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سُلْطَانُ الشَّامِ، وَذَلِكَ لِمَا لَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْخِدْمَةِ وَالْإِكْرَامِ وَيُقَالُ: إِنَّهُ دُفِنَ مَعَهُ سَيْفُهُ الَّذِي كَانَ يَحْضُرُ بِهِ الْجِهَادَ وَالْجِلَادَ، وَذَلِكَ عَنْ أَمْرِ الْقَاضِي الْفَاضِلِ أَحَدِ الْأَجْوَادِ وَالْأَمْجَادِ، وَتَفَاءَلُوا بِأَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَوَكَّأُ عَلَيْهِ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ لِمَا أُنْعِمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ كَسْرِ الْأَعْدَاءِ وَنَصْرِ الْأَوْلِيَاءِ، وَأُعْظِمَ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْمِنَّةِ ثُمَّ عُمِلَ عَزَاؤُهُ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، يَحْضُرُهُ الْخَوَاصُّ وَالْعَوَّامُّ وَالرَّعِيَّةُ وَالْحُكَّامُ وَقَدْ عَمِلَ الشُّعَرَاءُ فِيهِ مَرَاثِيَ كَثِيرَةً، مِنْ أَحْسَنِهَا مَا عَمِلَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ فِي آخِرِ كِتَابِهِ " الْبَرْقِ الشَّامِيِّ " وَهِيَ مِائَتَانِ وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ بَيْتًا وَقَدْ سَرَدَهَا الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي " الرَّوْضَتَيْنِ " فَمِنْهَا قَوْلُهُ: فِي أَوَّلِهَا:
شَمْلُ الْهُدَى وَالْمُلْكِ عَمَّ شَتَاتُهُ وَالدَّهْرُ سَاءَ وَأَقْلَعَتْ حَسَنَاتُهُ أَيْنَ الَّذِي مُذْ لَمْ يَزَلْ مَخْشِيَّةً
مَرْجُوَّةً رَهَبَاتُهُ وَهِبَاتُهُ أَيْنَ الَّذِي كَانَتْ لَهُ طَاعَاتُنَا
مَبْذُولَةً وَلِرَبِّهِ طَاعَاتُهُ

بِاللَّهِ أَيْنَ النَّاصِرُ الْمَلِكُ الَّذِي
لِلَّهِ خَالِصَةً صَفَتْ نِيَّاتُهُ أَيْنَ الَّذِي مَا زَالَ سُلْطَانًا لَنَا
يُرْجَى نَدَاهُ وَتُتَّقَى سَطَوَاتُهُ أَيْنَ الَّذِي شَرُفَ الزَّمَانُ بِفَضْلِهِ
وَسَمَتْ عَلَى الْفُضَلَاءِ تَشْرِيفَاتُهُ أَيْنَ الَّذِي عَنَتِ الْفِرِنْجُ لِبَأْسِهِ
ذُلًّا وَمِنْهَا أُدْرِكَتْ ثَارَاتُهُ أَغْلَالُ أَعْنَاقِ الْعِدَا أَسْيَافُهُ
أَطْوَاقُ أَجْيَادِ الْوَرَى مِنَّاتُهُ
وَلِلْعِمَادِ الْكَاتِبِ فِي الْمَلِكِ النَّاصِرِ يَرْثِيهِ:
مَنْ لِلْعُلَا مَنْ لِلذُّرَى مَنْ لِلْهُدَى يَحْمِيهِ مَنْ لِلْبَأْسِ مَنْ لِلنَّائِلِ
طَلَبَ الْبَقَاءَ لِمُلْكِهِ فِي آجِلٍ إِذْ لَمْ يَثِقْ بِبَقَاءِ مُلْكٍ عَاجِلِ
بَحْرٌ أَعَادَ الْبَرَّ بَحْرًا بِرُّهُ وَبِسَيْفِهِ فُتِحَتْ بِلَادُ السَّاحِلِ
مَنْ كَانَ أَهْلُ الْحَقِّ فِي أَيَّامِهِ وَبِعِزِّهِ يُرْدُونَ أَهْلَ الْبَاطِلِ
وَفُتُوحُهُ وَالْقُدْسُ مِنْ أَبْكَارِهَا أَبْقَتْ لَهُ فَضْلًا بِغَيْرِ مُسَاجِلِ
مَا كُنْتُ أَسْتَسْقِي لِقَبْرِكَ وَابِلًا وَرَأَيْتُ جُودَكَ مُخْجِلًا لِلْوَابِلِ
فَسَقَاكَ رِضْوَانُ الْإِلَهِ لِأَنَّنِي لَا أَرْتَضِي سُقْيَا الْغَمَامِ الْهَاطِلِ

ذِكْرُ تَرِكَتِهِ، وَشَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَتِهِ
قَالَ الْعِمَادُ وَغَيْرُهُ: لَمْ يَتْرُكْ فِي خِزَانَتِهِ مِنَ الذَّهَبِ سِوَى جُرْمٍ وَاحِدٍ

صُورِيٍّ وَسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَلَمْ يَتْرُكْ دَارًا وَلَا عَقَارًا وَلَا مَزْرَعَةً وَلَا بُسْتَانًا، وَلَا شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْأَمْلَاكِ. هَذَا وَلَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ سَبْعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا وَابْنَةٌ وَاحِدَةٌ، وَتُوُفِّيَ لَهُ فِي بَعْضِ حَيَاتِهِ غَيْرُهُمْ، وَالَّذِينَ تَأَخَّرُوا بَعْدَهُ سِتَّةَ عَشَرَ ذَكَرًا، أَكْبَرُهُمُ الْمَلِكُ الْأَفْضَلُ نُورُ الدِّينِ عَلِيٌّ، وُلِدَ بِمِصْرَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ، ثُمَّ الْعَزِيزُ عِمَادُ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ عُثْمَانُ وُلِدَ بِمِصْرَ أَيْضًا فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ، ثُمَّ الظَّافِرُ مُظَفَّرُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْخَضِرُ، وُلِدَ بِمِصْرَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، وَهُوَ شَقِيقُ الْأَفْضَلِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ غِيَاثُ الدِّينِ أَبُو مَنْصُورٍ غَازِيٌّ، وُلِدَ بِمِصْرَ فِي نِصْفِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، ثُمَّ الْمُعِزُّ فَتْحُ الدِّينِ أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ، وُلِدَ بِدِمَشْقَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعِينَ، ثُمَّ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ مَسْعُودٌ، وُلِدَ بِدِمَشْقَ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعَيْنِ، وَهُوَ شَقِيقُ الْعَزِيزِ، ثُمَّ الْأَغَرُّ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ، وُلِدَ بِمِصْرَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعَيْنِ، وَهُوَ شَقِيقُ الْعَزِيزِ أَيْضًا، ثُمَّ الزَّاهِرُ مُجِيرُ الدِّينِ أَبُو سُلَيْمَانَ دَاوُدُ، وُلِدَ بِمِصْرَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، وَهُوَ شَقِيقُ الظَّاهِرِ، ثُمَّ أَبُو الْفَضْلِ قُطْبُ الدِّينِ مُوسَى، وَهُوَ شَقِيقُ الْأَفْضَلِ، وُلِدَ بِمِصْرَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ أَيْضًا، ثُمَّ لُقِّبَ بِالْمُظَفَّرِ، ثُمَّ الْأَشْرَفُ مُعِزُّ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ، وُلِدَ بِالشَّامِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، ثُمَّ الْمُحْسِنُ ظَهِيرُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ ; وُلِدَ بِمِصْرَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ، وَهُوَ شَقِيقُ الَّذِي قَبْلَهُ، ثُمَّ الْمُعَظَّمُ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو مَنْصُورٍ تُورَانْشَاهْ، وُلِدَ بِمِصْرَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ، وَتَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُ إِلَى سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، ثُمَّ الْجَوَّالُ رُكْنُ الدِّينِ أَبُو سَعِيدٍ أَيُّوبُ وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعَيْنِ، وَهُوَ شَقِيقٌ لِلْمُعِزِّ،

ثُمَّ الْغَالِبُ نَصِيرُ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ مَلِكْشَاهْ، وُلِدَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعَيْنِ وَهُوَ شَقِيقُ الْمُعَظَّمِ، ثُمَّ الْمَنْصُورُ أَبُو بَكْرٍ أَخُو الْمُعَظَّمِ لِأَبَوَيْهِ، وُلِدَ بِحَرَّانَ بَعْدَ وَفَاةِ السُّلْطَانِ، ثُمَّ عِمَادُ الدِّينِ شَاذِيٌّ لِأُمِّ وَلَدٍ، وَنُصْرَةُ الدِّينِ مَرْوَانُ لِأُمِّ وَلَدٍ أَيْضًا. وَأَمَّا الْبِنْتُ فَهِيَ مُؤْنِسَةُ خَاتُونَ تَزَوَّجَهَا ابْنُ عَمِّهَا الْمَلِكُ الْكَامِلُ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِنَّمَا لَمْ يُخْلِفْ أَمْوَالًا وَلَا أَمْلَاكًا ; لِكَثْرَةِ عَطَايَاهُ وَهِبَاتِهِ وَصَدَقَاتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى أُمَرَائِهِ وَوُزَرَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، حَتَّى إِلَى أَعْدَائِهِ، وَقَدْ أَسْلَفْنَا مَا يَدُلُّ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ كَانَ مُتَقَلِّلًا فِي مَلْبَسِهِ، وَمَأْكَلِهِ، وَمَشْرَبِهِ، وَمَرْكَبِهِ، فَلَا يَلْبَسُ إِلَّا الْقُطْنَ وَالْكَتَّانَ وَالصُّوفَ، وَلَا يُعْرَفُ أَنَّهُ تَخَطَّى مَكْرُوهًا بَعْدَ أَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمُلْكِ، بَلْ كَانَ هَمُّهُ الْأَكْبَرُ وَمَقْصُودُهُ الْأَعْظَمُ نَصْرَ الْإِسْلَامِ، وَكَسْرَ الْأَعْدَاءِ اللِّئَامِ، وَيُعْمِلُ فِكْرَهُ فِي ذَلِكَ وَرَأْيَهُ وَحْدَهُ مَعَ مَنْ يَثِقُ بِرَأْيهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، سِرًّا وَجِهَارًا.
وَهَذَا مَعَ مَا لَدَيْهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْفَوَاضِلِ، وَالْفَوَائِدِ الْفَرَائِدِ، فِي اللُّغَةِ وَالْأَدَبِ، وَأَيَّامِ النَّاسِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ الْحَمَاسَةَ بِتَمَامِهَا وَخِتَامِهَا. وَكَانَ مُوَاظِبًا عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا فِي جَمَاعَةٍ، يُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ تَفُتْهُ الْجَمَاعَةُ فِي صَلَاةٍ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ حَتَّى وَلَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، كَانَ يَدْخُلُ الْإِمَامُ فَيُصَلِّي بِهِ فَكَانَ يَتَجَشَّمُ الْقِيَامَ مَعَ ضَعْفِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَكَانَ يَفْهَمُ مَا يُقَالُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ، وَيُشَارِكُ فِي ذَلِكَ

مُشَارَكَةً قَرِيبَةً حَسَنَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْعِبَارَةِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهَا، وَكَانَ قَدْ جَمَعَ لَهُ الْقُطْبُ النَّيْسَابُورِيُّ عَقِيدَةً فَكَانَ يَحْفَظُهَا، وَيُحَفِّظُهَا مَنْ عَقَلَ مِنْ أَوْلَادِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ سَمَاعَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَيُوَاظِبُ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ حَتَّى إِنَّهُ سَمِعَ فِي بَعْضِ الْمُصَافَّاتِ جُزْءًا، وَهُوَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، فَكَانَ يَتَبَجِّحُ بِذَلِكَ وَيَقُولُ: هَذَا مَوْقِفٌ لَمْ يَسْمَعْ أَحَدٌ فِي مِثْلِهِ حَدِيثًا. وَكَانَ ذَلِكَ بِإِشَارَةِ الْعِمَادِ الْكَاتِبِ.
وَكَانَ رَقِيقَ الْقَلْبِ سَرِيعَ الدَّمْعَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الْحَدِيثِ، كَثِيرَ التَّعْظِيمِ لِشَعَائِرِ الدِّينِ ; كَانَ قَدْ لَجَأَ إِلَى وَلَدِهِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ بِحَلَبَ، شَابٌّ يُقَالُ لَهُ: الشِّهَابُ السُّهْرَوَرْدِيُّ، وَكَانَ يَعْرِفُ الْكِيمْيَا وَشَيْئًا مِنَ الشَّعْبَذَةِ، وَالْأَبْوَابِ النِّيرَنْجِيَّاتِ، فَافْتَتَنَ بِهِ وَلَدُ السُّلْطَانِ الظَّاهِرُ، وَقَرَّبَهُ وَأَحَبَّهُ، وَخَالَفَ فِيهِ حَمَلَةَ الشَّرْعِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ لَا مَحَالَةَ فَصَلَبَهُ عَنْ أَمْرِ وَالِدِهِ، وَشَهَّرَهُ، وَيُقَالُ: بَلْ حَبَسَهُ بَيْنَ حَائِطَيْنِ حَتَّى مَاتَ كَمَدًا، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
وَكَانَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، مِنْ أَشْجَعِ النَّاسِ وَأَقْوَاهُمْ بَدَنًا وَقَلْبًا، مَعَ مَا كَانَ يَعْتَرِي جِسْمَهُ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ، وَلَاسِيَّمَا وَهُوَ مُرَابِطٌ مُصَابِرٌ مُثَابِرٌ عِنْدَ عَكَّا ; فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ كَثْرَةِ جُمُوعِهِمْ وَأَمْدَادِهِمْ لَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إِلَّا قُوَّةً وَشَجَاعَةً، وَقَدْ بَلَغَتْ جُمُوعُهُمْ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَيُقَالُ: سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ. وَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ مِائَةَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ.

وَلَمَّا انْفَصَلَ الْحَالُ، وَتَسَلَّمُوا عَكَّا وَقَتَلُوا أَكْثَرَ مَنْ كَانَ بِهَا، وَسَارُوا بَرُمَّتِهِمْ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ; جَعَلَ يُسَايِرُهُمْ مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً، وَمَرْحَلَةً مَرْحَلَةً وَجُيُوشُهُمْ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَنْ مَعَهُ، وَمَعَ هَذَا نَصَرَهُ اللَّهُ وَخَذَلَهُمْ، وَأَيَّدَهُ وَقَتَلَهُمْ، وَسَبَقَهُمْ إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، فَصَانَهُ وَحَمَاهُ، وَشَيَّدَ بُنْيَانَهُ، وَأَطَّدَ أَرْكَانَهُ، وَصَانَ حِمَاهُ وَلَمْ يَزَلْ بِجَيْشِهِ مُقِيمًا بِهِ يُرْهِبُهُمْ وَيُرْعِبُهُمْ، وَيَغْلِبُهُمْ وَيَسْلُبُهُمْ وَيَكْسِرُهُمْ وَيَأْسِرُهُمْ، حَتَّى تَضَرَّعُوا إِلَيْهِ، وَخَضَعُوا لَدَيْهِ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ أَنْ يُصَالِحَهُمْ وَيُتَارِكَهُمْ، وَتَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَأَجَابَهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَهُ، لَا مَا يُرِيدُونَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الرَّحْمَةِ الَّتِي خُصَّ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ ; فَإِنَّهُ مَا انْقَضَتْ تِلْكَ السُّنُونَ حَتَّى مَلَكَ الْبِلَادَ أَخُوهُ أَبُو بَكْرٍ الْعَادِلُ، فَعَزَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَذَلَّ بِهِ الْكَافِرُونَ.
وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ سَخِيًّا كَرِيمًا حَيِيًّا ضَحُوكَ الْوَجْهِ كَثِيرَ الْبِشْرِ، لَا يَتَضَجَّرُ مِنْ خَيْرٍ يَفْعَلُهُ، شَدِيدَ الْمُصَابَرَةِ وَالْمُثَابَرَةِ عَلَى الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ فَرَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّاتِ. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ طَرَفًا صَالِحًا مِنْ سِيرَتِهِ وَأَيَّامِهِ، وَعَدْلِهِ فِي سَرِيرَتِهِ وَعَلَانِيَتِهِ، وَأَحْكَامِهِ.

فَصْلٌ
كَانَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينَ قَدْ قَسَّمَ الْبِلَادَ بَيْنَ أَوْلَادِهِ، فَالدِّيَارُ الْمِصْرِيَّةُ لِوَلَدِهِ الْعَزِيزِ عِمَادِ الدِّينِ عُثْمَانَ أَبِي الْفَتْحِ، وَبِلَادُ دِمَشْقَ وَمَا حَوْلَهَا لِوَلَدِهِ الْأَفْضَلِ نُورِ الدِّينِ عَلَيٍّ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَوْلَادِهِ كُلِّهِمْ، وَالْمَمْلَكَةُ الْحَلَبِيَّةُ لِوَلَدِهِ الظَّاهِرِ

غَازِيٍّ غِيَاثِ الدِّينِ، وَلِأَخِيهِ الْعَادِلِ الْكَرَكُ وَالشَّوْبَكُ وَبِلَادُ جَعْبَرَ وَبِلَادٌ كَثِيرَةٌ قَاطِعَ الْفُرَاتِ، وَحَمَاةُ وَمُعَامَلَةٌ أُخْرَى مَعَهَا لِلْمَلِكِ الْمَنْصُورِ مُحَمَّدِ بْنِ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ ابْنِ أَخِي السُّلْطَانِ، وَحِمْصُ وَالرَّحْبَةُ وَغَيْرُهَا لِأَسَدِ الدِّينِ بْنِ شِيرَكُوهْ بْنِ نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ الْكَبِيرِ، عَمِّ صَلَاحِ الدِّينِ أَخِي أَبِيهِ نَجْمِ الدِّينِ أَيُّوبَ، وَالْيَمَنُ بِمَعَاقِلِهِ وَمَخَالِيفِهِ جَمِيعُهُ فِي قَبْضَةِ السُّلْطَانِ ظَهِيرِ الدِّينِ سَيْفِ الْإِسْلَامِ طُغْتِكِينَ بْنِ أَيُّوبَ أَخِي السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَبَعْلَبَكَّ وَأَعْمَالُهَا لِلْأَمْجَدِ بَهْرَامْ شَاهْ بْنِ فَرُّوخْشَاهْ، وَبُصْرَى وَأَعْمَالُهَا لِلظَّافِرِ بْنِ النَّاصِرِ، ثُمَّ شَرَعَتِ الْأُمُورُ بَعْدَ مَوْتِ صَلَاحِ الدِّينِ تَضْطَرِبُ وَتَخْتَلِفُ وَتَتَفَاقَمُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إِلَى مَا آلَ إِلَيْهِ، وَاسْتَقَرَّتِ الْمَمَالِكُ، وَاجْتَمَعَتِ الْمَحَافِلُ عَلَى أَخِي السُّلْطَانِ، الْمَلِكِ الْعَادِلِ، وَصَارَتِ الْمَمْلَكَةُ فِي أَوْلَادِهِ الْأَمَاجِدِ الْأَفَاضِلِ، كَمَا سَنُوَضِّحُهُ قَرِيبًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ جَدَّدَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ خِزَانَةَ كُتُبِ الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَنَقَلَ إِلَيْهَا أُلُوفًا مِنَ الْكُتُبِ الْحَسَنَةِ الْمُثَمَّنَةِ.
وَجَرَتْ بِبَغْدَادَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ ; وَهِيَ أَنَّ ابْنَةً لِرَجُلٍ مِنَ التُّجَّارِ فِي الطَّحِينِ تَعَشَّقَتْ لِغُلَامِ أَبِيهَا، فَلَمَّا عَلِمَ أَبُوهَا بِأَمْرِهَا طَرَدَ الْغُلَامَ مِنْ دَارِهِ، فَوَاعَدَتْهُ الْبِنْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَجَاءَ مُخْتَفِيًا، فَتَرَكَتْهُ فِي بَعْضِ الدَّارِ، وَنَزَلَ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ، فَقَتَلَ أَبَاهَا مَوْلَاهُ، وَأَمَرَتْهُ الْجَارِيَةُ بِقَتْلِ أُمِّهَا، فَقَتَلَهَا وَهِيَ حُبْلَى، وَأَعْطَتْهُ الْجَارِيَةُ حُلِيًّا بِقِيمَةِ أَلْفَيْ دِينَارٍ، فَأَصْبَحَ أَمْرُهُ عِنْدَ الشُّرْطَةِ فَمُسِكَ وَقُتِلَ قَبَّحَهُ اللَّهُ وَإِيَّاهَا، وَقَدْ كَانَ سَيِّدُهُ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ، وَأَكْثَرِهِمْ صَدَقَةً وَبِرًّا، وَكَانَ شَابًّا وَضِيءَ الْوَجْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

وَفِيهَا دَرَّسَ بِالْمَدْرَسَةِ الْجَدِيدَةِ عِنْدَ قَبْرِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ النَّوْقَانِيُّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَعُمِلَ بِهَا دَعْوَةٌ حَافِلَةٌ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ شَاذِيٍّ
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مَبْسُوطًا.
الْأَمِيرُ بَكْتَمُرُ صَاحِبُ خِلَاطَ
قُتِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ وَأَشْجَعِهِمْ وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْأَتَابِكُ عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودُ بْنُ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ
صَاحِبُ الْمَوْصِلِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً، كَانَ يَتَشَبَّهُ بِالْمَلِكِ الْعَادِلِ نُورِ الدِّينِ عَمِّهِ وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ عِنْدَ مَدْرَسَةٍ أَنْشَأَهَا بِالْمَوْصِلِ، أَثَابَهُ اللَّهُ.
جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَطِيرَا، أَبُو الْحَسَنِ
أَحَدُ الْكُتَّابِ بِالْعِرَاقِ، كَانَ يُنْسَبُ إِلَى التَّشَيُّعِ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ، لَا أَكْثَرَ اللَّهُ فِي الْمُسْلِمِينَ أَمْثَالَهُمْ وَلَا أَشْكَالَهُمْ. جَاءَهُ رَجُلٌ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَقُولُ لِي: اذْهَبْ إِلَى ابْنِ قَطِيرَا، فَقُلْ لَهُ يُعْطِيكَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ قَطِيرَا. مَتَى رَأَيْتَهُ ؟ قَالَ: أَوَّلَ اللَّيْلِ. قَالَ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ فِي آخِرِهِ، فَقَالَ لِي: إِذَا جَاءَكَ

رَجُلٌ مِنْ صِفَتِهِ كَذَا وَكَذَا، فَطَلَبَ مِنْكَ شَيْئًا فَلَا تُعْطِهِ. فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ مُوَلِّيًا، فَاسْتَدْعَاهُ وَوَهَبَهُ شَيْئًا. وَمِنْ شِعْرِهِ فِيمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ السَّاعِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِغَيْرِهِ:
وَلَمَّا سَبَرْتُ النَّاسَ أَطْلُبُ مِنْهُمُ أَخَا ثِقَةٍ عِنْدَ اعْتِرَاضِ الشَّدَائِدِ وَفَكَّرْتُ فِي يَوْمَيْ سُرُورِي وَشِدَّتِي
وَنَادَيْتُ فِي الْأَحْيَاءِ هَلْ مِنْ مُسَاعِدِ فَلَمْ أَرَ فِيمَا سَاءَنِي غَيْرَ شَامِتٍ
وَلَمْ أَرَ فِيمَا سَرَّنِي غَيْرَ حَاسِدِ
يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ غَازِيٍّ
أَبُو الْعَبَّاسِ الْبَصْرِيُّ صَاحِبُ " الْمَقَامَاتِ "، كَانَ شَاعِرًا أَدِيبًا فَاضِلًا بَلِيغًا، لَهُ الْيَدُ الطُّولَى فِي اللُّغَةِ وَالنَّظْمِ، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
غِنَاءُ خُودٍ يَنْسَابُ لُطْفًا بِلَا عَنَاءٍ فِي كُلِّ أُذْنِ
مَا رَدَّهُ قَطُّ بَابُ سَمْعٍ وَلَا أَتَى زَائِرًا بِإِذْنِ
السَّيِّدَةُ زُبَيْدَةُ
بِنْتُ الْإِمَامِ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ، أُخْتُ الْمُسْتَنْجِدِ، وَعَمَّةُ الْمُسْتَضِيءِ، كَانَتْ قَدْ عُمِّرَتْ دَهْرًا طَوِيلًا، وَلَهَا صَدَقَاتٌ كَثِيرَةٌ دَارَّةٌ، وَقَدْ تَزَوَّجَهَا فِي وَقْتٍ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَتُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، وَقَدْ كَانَتْ كَارِهَةً لِذَلِكَ فَحَصَلَ مَقْصُودُهَا.
الشَّيْخَةُ الصَّالِحَةُ فَاطِمَةُ خَاتُونَ
بِنْتُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَمِيدِ، كَانَتْ صَالِحَةً عَابِدَةً زَاهِدَةً، عُمِّرَتْ مِائَةَ سَنَةٍ وَسِتَّ سِنِينَ، كَانَ قَدْ تَزَوَّجَهَا فِي وَقْتٍ أَمِيرُ الْجُيُوشِ نَظَرٌ وَهِيَ بِكْرٌ، فَبَقِيَتْ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَلَمْ تَتَزَوَّجْ بَعْدَهُ، بَلِ اشْتَغَلَتْ بِذِكْرِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ وَالْعِبَادَةِ، رَحِمَهَا اللَّهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَنْفَذَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ الْعَبَّاسِيُّ إِلَى الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ

بْنِ الْجَوْزِيِّ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى أَبْيَاتِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ الْمَشْهُورَةِ مَا يُنَاسِبُهَا مِنَ الْأَشْعَارِ، وَلَوْ بَلَغَ ذَلِكَ عَشْرَ مُجَلَّدَاتٍ، وَهِيَ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ:
أَيُّهَا الشَّامِتُ الْمُعَيِّرُ بِالدَّهْرِ أَأَنْتَ الْمُبَرَّأُ الْمَوْفُورُ
أَمْ لَدَيْكَ الْعَهْدُ الْوَثِيقُ مِنَ الْ أَيَّامِ بَلْ أَنْتَ جَاهِلٌ مَغْرُورُ
مَنْ رَأَيْتَ الْمَنُونَ خَلَّدْنَ أَمْ مَنْ ذَا عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يُضَامَ خَفِيرُ
أَيْنَ كِسْرَى كِسْرَى الْمُلُوكِ أَبُو سَا سَانَ أَمْ أَيْنَ قَبْلَهُ سَابُورُ
وَبَنُو الْأَصْفَرِ الْمُلُوكُ مُلُوكُ الرُّو مِ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَذْكُورُ
وَأَخُو الْحَضْرِ إِذْ بَنَاهُ وَإِذْ دِجْ لَةُ تُجْبَى إِلَيْهِ وَالْخَابُورُ
شَادَهُ مَرْمَرًا وَجَلَّلَهُ كِلْ سًا فَلِلطَّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ
لَمْ تَهَبْهُ رَيْبُ الْمَنُونِ فَزَالَ الْ مُلْكُ عَنْهُ فَبَابُهُ مَهْجُورُ
وَتَذَكَّرْ رَبَّ الْخَوَرْنَقِ إِذْ أَشْ رَفَ يَوْمًا وَلِلْهُدَى تَفْكِيْرُ
سَرَّهُ حَالُهُ وَكَثْرَةُ مَا يَمْ لِكُ وَالْبَحْرُ مُعْرِضًا وَالسَّدِيرُ
فَارْعَوَى قَلْبُهُ وَقَالَ وَمَا غِبْ طَةُ حَيٍّ إِلَى الْمَمَاتِ يَصِيرُ
ثُمَّ بَعْدَ الْفَلَاحِ وَالْمُلْكِ وَالْإِمَّ ةِ وَارَتْهُمْ هُنَاكَ الْقُبُورُ
ثُمَّ أَضْحَوْا كَأَنَّهُمْ وَرَقٌ جَ فَّ فَأَلْوَتْ بِهِ الصَّبَا وَالدَّبُورُ
غَيْرَ أَنَّ الْأَيَّامَ تَخْتَصُّ بِالْمَرْ ءِ وَفِيهَا لَعَمْرِي الْعِظَاتُ وَالتَّفْكِيرُ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
لَمَّا اسْتَقَرَّ الْمَلِكُ الْأَفْضَلُ بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ مَكَانَ أَبِيهِ بِدِمَشْقَ، بَعَثَ بِهَدَايَا سَنِيَّةٍ فِيهَا تُحَفٌ شَرِيفَةٌ إِلَى بَابِ الْخِلَافَةِ ; مِنْ ذَلِكَ سِلَاحُ أَبِيهِ، وَحِصَانُهُ الَّذِي كَانَ يَحْضُرُ عَلَيْهِ الْغَزَوَاتِ، وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ ; مِنْهَا صَلِيبُ الصَّلَبُوتِ الَّذِي اسْتَلَبَهُ أَبُوهُ مِنَ الْفِرِنْجِ يَوْمَ حِطِّينَ وَفِيهِ مِنَ الذَّهَبِ مَا يَنِيفُ عَلَى عِشْرِينَ رِطْلًا وَهُوَ مُرَصَّعٌ بِالْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ، وَأَرْبَعُ جَوَارٍ مِنْ بَنَاتِ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ، وَأَنْشَأَ لَهُ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ كِتَابًا حَافِلًا يَذْكُرُ فِيهِ التَّعْزِيَةَ بِأَبِيهِ، وَالسُّؤَالَ مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مِنْ بَعْدِهِ ; فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ.
وَلَمَّا كَانَ شَهْرُ جُمَادَى الْأُولَى قَدِمَ الْعَزِيزُ صَاحِبُ مِصْرَ إِلَى دِمَشْقَ ; لِيَأْخُذَهَا مِنْ أَخِيهِ الْأَفْضَلِ، فَخَيَّمَ عَلَى الْكُسْوَةِ يَوْمَ السَّبْتِ سَادِسِ جُمَادَى، وَحَاصَرَ الْبَلَدَ، فَمَانَعَهُ أَخُوهُ، وَدَافَعَهُ عَنْهَا فَقُطِعَتِ الْأَنْهَارُ وَنُهِبَتِ الثِّمَارُ، وَاشْتَدَّ الْحَالُ، وَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ حَتَّى قَدِمَ الْعَادِلُ عَمُّهُمَا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا، وَرَدَّ الْأَمْرَ لِلْأُلْفَةِ بَعْدَ الْيَمِينِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْعَزِيزِ الْقُدْسُ وَمَا جَاوَرَ فِلَسْطِينَ مِنْ نَاحِيَتِهِ أَيْضًا، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ جَبَلَةُ وَاللَّاذِقِيَّةُ لِلظَّاهِرِ صَاحِبِ حَلَبَ وَأَنْ يَكُونَ لِعَمِّهِمَا الْعَادِلِ إِقْطَاعُهُ الْأَوَّلُ بِبِلَادِ مِصْرَ مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الشَّامِ

وَالْجَزِيرَةِ ; كَحَرَّانَ وَالرُّهَا وَجَعْبَرَ، وَمَا جَاوَرَ ذَلِكَ، فَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ، وَتَزَوَّجَ الْعَزِيزُ بِابْنَةِ عَمِّهِ الْعَادِلِ، وَمَرِضَ ثُمَّ عُوفِيَ، وَهُوَ مُخَيِّمٌ بِمَرْجِ الصُّفَّرِ، وَخَرَجَتِ الْمُلُوكُ لِتَهْنِئَتِهِ بِالْعَافِيَةِ وَالتَّزْوِيجِ وَالصُّلْحِ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى مِصْرَ لِطُولِ شَوْقِهِ إِلَى أَهْلِهِ، وَأَوْلَادِهِ.
وَكَانَ الْأَفْضَلُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ قَدْ أَسَاءَ التَّدْبِيرَ فَأَبْعَدَ أُمَرَاءَ أَبِيهِ، وَخَوَاصَّهُ، وَقَرَّبَ الْأَجَانِبَ، وَأَقْبَلَ عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ وَاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ وَزِيرُهُ ضِيَاءُ الدِّينِ بْنُ الْأَثِيرِ الْجَزَرِيُّ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَحْدُوهُ إِلَى ذَلِكَ فَتَلِفَ وَأَتْلَفَهُ، وَأَضَلَّ وَأَضَلَّهُ، وَزَالَتِ النِّعْمَةُ عَنْهُمَا، كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ شِهَابِ الدِّينِ مَلِكِ غَزْنَةَ وَبَيْنَ كُفَّارِ الْهِنْدِ ; أَقْبَلُوا إِلَيْهِ فِي أَلْفِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَمَعَهُمْ سَبْعُمِائَةِ فِيلٍ مِنْهَا فِيلٌ أَبْيَضُ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، فَهَزَمَهُمْ شِهَابُ الدِّينِ عِنْدَ نَهْرٍ عَظِيمٍ يُقَالُ لَهُ: مَاجُونُ. وَقَتَلَ مَلِكَهُمْ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى حَوَاصِلِهِ وَحَوَاصِلِ بِلَادِهِ، وَغَنِمَ فِيَلَتَهُمُ، وَدَخَلَ بَلَدَ الْمَلِكِ الْكُبْرَى، فَحَمَلَ مِنْ خِزَانَتِهِ ذَهَبًا وَغَيْرَهُ عَلَى أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ جَمَلٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بِلَادِهِ سَالِمًا مَنْصُورًا.
وَفِيهَا مَلَكَ السُّلْطَانُ خُوَارِزْمُ شَاهْ تِكِشُ وَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْأَصْبَاعِيِّ بِلَادَ الرَّيِّ وَغَيْرَهَا، وَاصْطَلَحَ مَعَ السُّلْطَانِ طُغْرُلَ السَّلْجُوقِيِّ، وَكَانَ قَدْ تَسَلَّمَ بِلَادَ الرَّيِّ وَسَائِرَ مَمْلَكَةِ أَخِيهِ سُلْطَانِ شَاهْ وَخَزَائِنِهِ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ، ثُمَّ الْتَقَى هُوَ وَالسُّلْطَانُ طُغْرُلُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَقَتَلَ السُّلْطَانَ طُغْرُلَ، وَأَرْسَلَ

رَأْسَهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَعُلِّقَ عَلَى بَابِ النُّوبَةِ عِدَّةَ أَيَّامٍ، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الْخِلَعَ وَالتَّقَالِيدَ إِلَى السُّلْطَانِ خُوَارِزْمِ شَاهْ، وَمَلَكَ هَمَذَانَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْبِلَادِ الْمُتَّسِعَةِ.
وَفِيهَا نَقَمَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ، وَتَغَضَّبَ عَلَيْهِ، وَنَفَاهُ إِلَى وَاسِطٍ فَمَكَثَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَسْتَطْعِمْ بِطَعَامٍ، وَأَقَامَ بِهَا خَمْسَةَ أَعْوَامٍ يَخْدِمُ نَفْسَهُ، وَيَسْتَقِي مِنْ بِئْرٍ عَمِيقَةٍ لِنَفْسِهِ الْمَاءَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ بَلَغَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَكَانَ يَتْلُو فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَتْمَةً، قَالَ: وَلَمْ أَقْرَأْ سُورَةَ يُوسُفَ لِوَجْدِي عَلَى وَلَدِي يُوسُفَ إِلَى أَنْ فَرَّجَ اللَّهُ. كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يُوسُفَ
أَبُو الْخَيْرِ الْقَزْوِينِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمُفَسِّرُ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَوَعَظَ بِالنِّظَامِيَّةِ، وَكَانَ يَذْهَبُ إِلَى قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ فِي الْأُصُولِ، وَجَلَسَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَقِيلَ لَهُ: الْعَنْ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ: ذَاكَ إِمَامٌ مُجْتَهِدٌ، فَرَمَاهُ النَّاسُ بِالْآجُرِّ فَاخْتَفَى، ثُمَّ هَرَبَ إِلَى قَزْوِينَ.
ابْنُ الشَّاطِبِيِّ ; نَاظِمُ الشَّاطِبِيَّةِ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ فِيرُّهَ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ خَلَفُ بْنُ أَحْمَدَ، الرُّعَيْنِيُّ الشَّاطِبِيُّ الضَّرِيرُ، مُصَنِّفُ الشَّاطِبِيَّةِ فِي الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ فَلَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهَا وَلَا يُلْحَقْ فِيهَا، وَفِيهَا مِنَ الرُّمُوزِ كُنُوزٌ لَا يَهْتَدِي

إِلَيْهَا إِلَّا كُلُّ نَاقِدٍ بَصِيرٍ، هَذَا مَعَ أَنَّهُ ضَرِيرٌ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَشَاطِبَةُ بَلَدُهُ قَرْيَةٌ شَرْقِيَّ الْأَنْدَلُسِ كَانَ فَقِيرًا، وَقَدْ أُرِيدَ أَنْ يَلِيَ خَطَابَةَ بَلَدِهِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَجْلِ مُبَالَغَةِ الْخُطَبَاءِ عَلَى الْمَنَابِرِ فِي وَصْفِ الْمُلُوكِ.
خَرَجَ الشَّاطِبِيُّ إِلَى الْحَجِّ، فَقَدِمَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ عَلَى السِّلَفِيِّ الْحَافِظِ، وَوَلَّاهُ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مَشْيَخَةَ الْإِقْرَاءِ بِمَدْرَسَتِهِ، وَزَارَ الْقُدْسَ الشَّرِيفَ وَصَامَ بِهِ شَهْرَ رَمَضَانَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْقَاهِرَةِ فَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ بِالْقُرْبِ مِنَ التُّرْبَةِ الْفَاضِلِيَّةِ، وَكَانَ دَيِّنًا خَاشِعًا نَاسِكًا كَثِيرَ الْوَقَارِ، لَا يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَكَانَ يَتَمَثَّلُ كَثِيرًا بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ، وَهِيَ لُغْزٌ فِي النَّعْشِ، وَهِيَ لِغَيْرِهِ:
أَتَعْرِفُ شَيْئًا فِي السَّمَاءِ يَطِيرُ إِذَا سَارَ صَاحَ النَّاسُ حَيْثُ يَسِيرُ فَتَلْقَاهُ مَرْكُوبًا وَتَلْقَاهُ رَاكِبًا
وَكُلُّ أَمِيرٍ يَعْتَلِيهِ أَسِيرُ يَحُثُّ عَلَى التَّقْوَى وَيُكْرَهُ قُرْبُهُ
وَتَنْفِرُ مِنْهُ النَّفْسُ وَهْوَ نَذِيرُ وَلَمْ يَسْتَزِرْ عَنْ رَغْبَةٍ فِي زِيَارَةٍ
وَلَكِنْ عَلَى رَغْمِ الْمَزُورِ يَزُورُ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الزَّلَّاقَةِ بِبِلَادِ الْأَنْدَلُسِ شَمَالِيَّ قُرْطُبَةَ بِمَرْجِ الْحَدِيدِ، كَانَتْ وَقْعَةً عَظِيمَةً، نَصَرَ اللَّهُ فِيهَا الْإِسْلَامَ وَخَذَلَ فِيهَا عَبَدَةَ الصُّلْبَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفُنْشَ مَلِكَ الْفِرِنْجِ بِبِلَادِ الْأَنْدَلُسِ وَمَقَرُّ مُلْكِهِ بِمَدِينَةِ طُلَيْطُلَةَ كَتَبَ إِلَى الْأَمِيرِ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ مَلِكِ الْمَغْرِبِ يَسْتَنْخِيهِ وَيَسْتَدْعِيهِ وَيَسْتَحِثُّهُ إِلَيْهِ، فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ فِيهِ تَأْنِيبٌ وَتَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ، فَكَتَبَ السُّلْطَانُ يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ فِي رَأْسِ كِتَابِهِ فَوْقَ خَطِّهِ: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [ النَّمْلِ: 27 ]

ثُمَّ نَهَضَ مِنْ فَوْرِهِ بِجُنُودِهِ وَعَسَاكِرِهِ حَتَّى قَطَعَ الزُّقَاقَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، فَالْتَقَوْا فِي الْمَكَانِ الْمُتَقَدَّمِ ذِكْرُهُ، فَكَانَتِ الدَّائِرَةُ أَوَّلًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ أَلْفًا، ثُمَّ كَانَتْ أَخِيرًا عَلَى الْكَافِرِينَ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ وَكَسَرَهُمْ وَخَذَلَهُمْ أَقْبَحَ كَسْرَةٍ، وَشَرَّ هَزِيمَةٍ وَأَشْنَعَهَا، فَقُتِلَ مِنْهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ وَثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا، وَأُسِرَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا ; مِنْ ذَلِكَ مِائَةُ أَلْفِ خَيْمَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ خَيْمَةً، وَمِنَ الْخَيْلِ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفَ فَرَسٍ، وَمِنَ الْبِغَالِ مِائَةُ أَلْفِ بَغْلٍ، وَمِنَ الْحُمُرِ مِثْلُهَا، وَمِنَ السِّلَاحِ التَّامِّ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَمِنَ الْعُدَدِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَمَلَكَ عَلَيْهِمْ مِنْ حُصُونِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَحَاصَرَ مَدِينَتَهُمْ طُلَيْطُلَةَ مُدَّةً، ثُمَّ لَمْ يَفْتَحْهَا،

فَانْفَصَلَ عَنْهَا رَاجِعًا إِلَى بِلَادِهِ.
وَلَمَّا حَصَلَ لَلْفُنْشِ مَا حَصَلَ حَلَقَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ، وَنَكَّسَ صَلِيبَهُ وَرَكِبَ حِمَارًا، وَحَلَفَ لَا يَرْكَبُ فَرَسًا وَلَا يَتَلَذَّذُ بِطَعَامٍ، وَلَا يَنَامُ مَعَ امْرَأَةٍ حَتَّى تَنْصُرَهُ النَّصْرَانِيَّةُ، فَجَمَعَ مِنَ الْجُنُودِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَاسْتَعَدَّ لَهُ السُّلْطَانُ يَعْقُوبُ، فَالْتَقَيَا فَاقْتَتَلَا قِتَالًا عَظِيمًا، فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ أَقْبَحَ مِنْ هَزِيمَتِهِمُ الْأُولَى وَغَنِمُوا مِنْهُمْ نَظِيرَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَوْ أَكْثَرَ، وَاسْتَحْوَذَ السُّلْطَانُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَعَاقِلِهِمْ وَقِلَاعِهِمْ؛ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ بِيعَ الْأَسِيرُ بِدِرْهَمٍ، وَالْحِصَانُ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، وَالْخَيْمَةُ بِدِرْهَمٍ، وَالسَّيْفُ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَسَمَ السُّلْطَانُ هَذِهِ الْغَنَائِمَ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، فَاسْتَغْنَى الْمُجَاهِدُونَ إِلَى الْأَبَدِ، ثُمَّ طَلَبَتِ الْفِرِنْجُ مِنَ السُّلْطَانِ الْأَمَانَ فَهَادَنَهُمْ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ خَمْسَ سِنِينَ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَيُورقِيُّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الْمُلَثَّمُ. ظَهَرَ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَأَحْدَثَ أُمُورًا فَظِيعَةً فِي غَيْبَةِ السُّلْطَانِ وَاشْتِغَالِهِ بِقِتَالِ الْفِرِنْجِ مُدَّةَ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَظَهَرَ هَذَا الْمَارِقُ الْمَيُورقِيُّ بِالْبَادِيَةِ، وَعَاثَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَتَمَلَّكَ بِلَادًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا اسْتَحْوَذَ جَيْشُ الْخَلِيفَةِ عَلَى بِلَادِ الرَّيِّ وَأَصْبَهَانَ وَهَمَذَانَ وَخُوزِسْتَانَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَقَوِيَ جَانِبُ الْخِلَافَةِ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْمَمَالِكِ. وَفِيهَا خَرَجَ الْعَزِيزُ مِنْ مِصْرَ قَاصِدًا دِمَشْقَ لِيَأْخُذَهَا مِنْ يَدِ أَخِيهِ الْأَفْضَلِ، وَكَانَ الْأَفْضَلُ قَدْ تَابَ وَأَنَابَ وَأَقْلَعَ عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الشَّرَابِ وَاللَّهْوِ

وَاللَّعِبِ، وَأَقْبَلَ عَلَى الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ، وَشَرَعَ بِكِتَابَةِ مُصْحَفٍ بِيَدِهِ وَحَسُنَتْ طَرِيقَتُهُ، غَيْرَ أَنَّ وَزِيرَهُ الضِّيَاءَ الْجَزَرِيَّ يُفْسِدُ عَلَيْهِ دَوْلَتَهُ وَيُكَدِّرُ عَلَيْهِ صَفْوَتَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ الْأَفْضَلَ إِقْبَالُ أَخِيهِ نَحْوَهُ سَارَ سَرِيعًا إِلَى عَمِّهِ الْعَادِلِ وَهُوَ بِجَعْبَرَ فَاسْتَنْجَدَهُ، فَسَارَ مَعَهُ وَسَبَقَهُ إِلَى دِمَشْقَ، وَرَاحَ الْأَفْضَلُ أَيْضًا إِلَى أَخِيهِ الظَّاهِرِ بِحَلَبَ فَسَارَا جَمِيعًا نَحْوَ دِمَشْقَ، فَلَمَّا سَمِعَ الْعَزِيزُ بِذَلِكَ وَقَدِ اقْتَرَبَ مِنْ دِمَشْقَ كَرَّ رَاجِعًا سَرِيعًا إِلَى مِصْرَ، وَرَكِبَ وَرَاءَهُ الْعَادِلُ وَالْأَفْضَلُ لِيَأْخُذَا مِنْهُ دِيَارَ مِصْرَ، وِقَدِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَكُونَ ثُلُثُ مِصْرَ لِلْعَادِلِ وَثُلُثَاهَا لِلْأَفْضَلِ، ثُمَّ بَدَا لِلْعَادِلِ فِي ذَلِكَ فَأَرْسَلَ لِلْعَزِيزِ يُثَبِّتُهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْأَفْضَلِ يُثَبِّطُهُ، وَأَقَامَا عَلَى بِلْبِيسَ أَيَّامًا حَتَّى خَرَجَ إِلَيْهِمَا الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنْ جِهَةِ الْعَزِيزِ، فَوَقَّعَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنْ يَرْجِعَ الْقُدْسَ وَمُعَامَلَتَهَا لِلْأَفْضَلِ، وَيَسْتَقِرَّ الْعَادِلُ مُقِيمًا بِمِصْرَ عَلَى إِقْطَاعِهِ الْقَدِيمِ، فَأَقَامَ الْعَادِلُ بِهَا طَمَعًا فِيهَا، وَرَجَعَ الْأَفْضَلُ إِلَى دِمَشْقَ بَعْدَمَا خَرَجَ الْعَزِيزُ لِتَوْدِيعِهِ، وَهِيَ هُدْنَةٌ عَلَى قَذًى، وَصُلْحٌ عَلَى دَخَنٍ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

عَلِيُّ بْنُ حَسَّانَ بْنِ مُسَافِرٍ
أَبُو الْحَسَنِ، الْكَاتِبُ الْبَغْدَادِيُّ، كَانَ أَدِيبًا شَاعِرًا، مِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
نَفَى رُقَادِي وَمَضَى بَرْقٌ بِسَلْعٍ وَمَضَا لَاحَ كَمَا سَلَّتْ يَدُ الْ
أَسْوَدِ عَضْبًا أَبْيَضَا

كَأَنَّهُ الْأَشْهَبُ فِي
الْنَّقْعِ إِذَا مَا رَكَضَا يَبْدُو كَمَا تَخْتَلِفُ الرِّ
يحُ عَلَى جَمْرِ الْغَضَا فَتَحْسَبُ الزِّنْجِيَّ أَبَ
دَى نَظَرًا وَغَمَّضَا أَوْ شُعْلَةُ النَّارِ عَلَا
لَهِيبُهَا وَانْخَفَضَا آهٍ لَهُ مِنْ بَارِقٍ
ضَاءَ عَلَى ذَاتِ الْأَضَا أَذْكَرْنِي عَهْدًا مَضَى
عَلَى الْغُوَيْرِ وَانْقَضَى فَقَالَ لِي قَلْبِي أَتُو
صِي حَاجَةً وَأَعْرَضَا يَطْلُبُ مَنْ أَمْرَضَهُ
فَدَيْتُ ذَاكَ الْمُمْرِضَا يَا غَرَضَ الْقَلْبِ لَقَدْ
غَادَرْتَ قَلْبِي غَرَضَا لِأَسْهُمٍ كَأَنَّمَا
يُرْسِلُهَا صَرْفُ الْقَضَا فَبِتُّ لَا أَرْتَابُ فِي
أَنَّ رُقَادِي قَدْ قَضَى حَتَّى قَفَا اللَّيْلُ وَكَادَ
اللَّيْلُ أَنْ يَنْقَرِضَا وَأَقْبَلَ الصُّبْحُ لِأَطْ
رَافِ الدُّجَا مُبَيِّضَا وَسَلَّ فِي الشَّرْقِ عَلَى الْ
غَرْبِ ضِيَاءً وَانْقَضَى

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي رَجَبٍ مِنْهَا أَقَبْلَ الْعَزِيزُ صُحْبَةَ عَمِّهِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ فِي عَسَاكِرَ، فَدَخَلَا دِمَشْقَ قَهْرًا، وَأَخْرَجَا مِنْهَا الْأَفْضَلَ وَوَزِيرَهُ الَّذِي أَسَاءَ تَدْبِيرَهُ، وَصَلَّى الْعَزِيزُ عِنْدَ تُرْبَةِ وَالِدِهِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَخُطِبَ لَهُ بِدِمَشْقَ، وَدَخَلَ إِلَى الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ وَجَلَسَ فِي دَارِ الْعَدْلِ لِلْحُكْمِ وَالْفَصْلِ، كُلُّ هَذَا وَأَخُوهُ الْأَفْضَلُ حَاضِرٌ عِنْدَهُ فِي الْخِدْمَةِ، وَأَمَرَ الْقَاضِيَ مُحْيِي الدِّينِ بْنَ الزَّكِيِّ بِتَأْسِيسِ االْمَدْرَسَةِ الْعَزِيزِيَّةِ إِلَى جَانِبِ تُرْبَةِ أَبِيهِ، وَكَانَتْ دَارًا لِلْأَمِيرِ عِزِّ الدِّينِ شَامَةَ، ثُمَّ اسْتَنَابَ عَلَى دِمَشْقَ عَمَّهُ الْمَلِكَ الْعَادِلَ، وَرَجَعَ إِلَى مِصْرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ تَاسِعَ شَعْبَانَ، وَالسِّكَّةُ وَالْخُطْبَةُ لَهُ، وَصُولِحَ الْأَفْضَلُ عَنْ دِمَشْقَ عَلَى صَرْخَدَ وَهَرَبَ وَزِيرُهُ ابْنُ الْأَثِيرِ االْجَزَرِيُّ إِلَى جَزِيرَتِهِ، وَقَدْ أَتْلَفَ نَفْسَهُ وَمُلْكَهُ بِجَرِيرَتِهِ، وَانْتَقَلَ الْأَفْضَلُ إِلَى صَرْخَدَ بِأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ وَأَخِيهِ قُطْبُ الدِّينِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ سَوْدَاءُ مُدْلَهِمَّةٌ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ، وَمَعَهَا رَمْلٌ أَحْمَرُ، حَتَّى احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى السُّرُجِ بِالنَّهَارِ، وَفِيهَا وَلِيَ قِوَامُ الدِّينِ أَبُو طَالِبٍ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ زِيَادَةَ كِتَابَ الْإِنْشَاءِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ بَلِيغًا، وَلَيْسَ هُوَ كَالْفَاضِلِ، وَفِيهَا دَرَّسُ مُجِيرُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودُ بْنُ الْمُبَارَكِ بِالنِّظَامِيَّةِ،

وَكَانَ فَاضِلًا مُنَاظِرًا.
وَفِيهَا قُتِلَ رَئِيسُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَصْبَهَانَ صَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّطِيفِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّطِيفِ بْنِ ثَابِتٍ الْخُجَنْدِيُّ، قَتَلَهُ فَلَكُ الدِّينِ سُنْقُرُ الطَّوِيلُ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ زَوَالِ مُلْكِ أَصْبَهَانَ عَنِ الدِّيوَانِ.
وَفِيهَا مَاتَ الْوَزِيرُ ; وَزِيرُ الْخِلَافَةِ.
مُؤَيِّدُ الدِّينِ أَبُو الْفَضْلِ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْقَصَّابِ، وَكَانَ أَبُوهُ يَبِيعُ اللَّحْمَ فِي بَعْضِ أَسْوَاقِ بَغْدَادَ، فَتَقَدَّمَ وَسَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِهَمَذَانَ وَقَدْ أَعَادَ رَسَاتِيقَ كَثِيرَةً مِنْ بِلَادِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا إِلَى دِيوَانِ الْخِلَافَةِ، وَكَانَ نَاهِضًا ذَا هِمَّةٍ عَالِيَةٍ، وَلَهُ صَرَامَةٌ وَشَهَامَةٌ وَشِعْرٌ جَيِّدٌ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
الْفَخْرُ مَحْمُودُ بْنُ عَلِيٍّ.
النَّوْقَانِيُّ الشَّافِعِيُّ، عَائِدًا مِنِ الْحَجِّ.
وَالشَّاعِرُ: أَبُو الْغَنَائِمِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ
ابْنُ الْمُعَلِّمِ الْهُرْثِيُّ مِنْ قُرَى وَاسِطٍ، عَنْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ شَاعِرًا فَصِيحًا، وَكَانَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ يَسْتَشْهِدُ فِي

مَجَالِسِهِ بِشَيْءٍ مِنْ لَطَائِفِ أَشْعَارِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ السَّاعِي قِطْعَةً جَيِّدَةً مِنْ شِعْرِهِ الْحَسَنِ الْمَلِيحِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْفَقِيهُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْحَسَنِ الْبَغْدَادِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْعَرِّيفِ.
وَيُلَقَّبُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، كَانَ حَنْبَلِيًّا ثُمَّ اشْتَغَلَ شَافِعِيًّا عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ فَضْلَانَ، وَهُوَ الَّذِي لَقَّبَهُ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ تَكْرَارِهِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ صَارَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ إِلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِيَّةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ أَبُو شُجَاعٍ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ الدَّهَّانِ الْفَرَضِيُّ الْحَاسِبُ الْمُؤَرِّخُ الْبَغْدَادِيُّ، قَدِمَ دِمَشْقَ وَامْتَدَحَ الشَّيْخَ أَبَا الْيُمْنِ الْكِنْدِيَّ زَيْدَ بْنَ الْحَسَنِ فَقَالَ:
يَا زَيْدُ زَادَكَ رَبِّي مِنْ مَوَاهِبِهِ نَعْمَاءَ يَقْصُرُ عَنْ إِدْرَاكِهَا الْأَمَلُ لَا بَدَّلَ اللَّهُ حَالًا قَدْ حَبَاكَ بِهَا
مَا دَارَ بَيْنَ النُّحَاةِ الْحَالُ وَالْبَدَلُ النَّحْوُ أَنْتَ أَحَقُّ الْعَالِمِينَ بِهِ
أَلَيْسَ بِاسْمِكَ فِيهِ يُضْرَبُ الْمَثَلُ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهل التأويل يتعرون أمام قانوني الحق والميزان

    بسم الله الرحمن الرحيم خلاصة قانون الحق = أن الله خلق السماوات والارض وما فيهم وما بينهم وما لأجلهم بقدر قام في وقت محدد وزمن مع...