الثلاثاء، 3 أغسطس 2021

33//2 البداية والنهاية لعماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ)

 33//2 البداية والنهاية لعماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ). 

 نِيَابَةُ تَنْكِزَ عَلَى الشَّامِ
 فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ دَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ تَنْكِزُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَالِكِيُّ النَّاصِرِيُّ نَائِبًا عَلَى دِمَشْقَ، بَعْدَ مَسْكِ نَائِبِ الْكَرَكِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ مَمَالِيكِ السُّلْطَانِ مِنْهُمُ الْحَاجُّ أَرُقْطَايْ، عَلَى خُبْزِ بَيْبَرْسَ الْعَلَائِيِّ، وَخَرَجَ النَّاسُ لِتَلَقِّيهِ، وَفَرِحُوا بِهِ كَثِيرًا، وَنَزَلَ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَوَقَعَ عِنْدَ قُدُومِهِ مَطَرٌ عَظِيمٌ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ آبٍ، وَحَضَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْخُطْبَةَ بِالْمَقْصُورَةِ، وَأُشْعِلَتْ لَهُ الشُّمُوعُ فِي طَرِيقِهِ، وَجَاءَ تَوْقِيعٌ لِابْنِ صَصْرَى بِإِعَادَةِ قَضَاءِ الْعَسْكَرِ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَنْظُرَ الْأَوْقَافَ فَلَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي الِاسْتِنَابَةِ فِي الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ عَلَى عَادَةِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ قُضَاةِ الشَّافِعِيَّةِ، وَجَاءَ مَرْسُومٌ لِشَمْسِ الدِّينِ أَبِي طَالِبِ بْنِ حُمَيْدٍ بِنَظَرِ الْجَيْشِ عِوَضًا عَنَ ابْنِ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ بِحُكْمِ إِقَامَتِهِ بِمِصْرَ، ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ وَصَلَ الصَّدْرُ مُعِينُ الدِّينِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ حَشِيشٍ نَاظِرُ الْجَيْشِ، وَجُعِلَ ابْنُ حُمَيْدٍ فِي وَظِيفَةِ ابْنِ الْبَدْرِ، وَسَافَرَ ابْنُ الْبَدْرِ عَلَى نَظَرِ جَيْشِ طَرَابُلُسَ، وَتَوَلَّى أَرْغُوَنُ نِيَابَةَ مِصْرَ، وَعَادَ فَخْرُ الدِّينِ كَاتِبُ الْمَمَالِيكِ إِلَى وَظِيفَتِهِ مَعَ اسْتِمْرَارِ قُطْبِ الدِّينِ بْنِ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ أَيْضًا مُبَاشِرًا مَعَهُ.

وَفِي هَذَا الشَّهْرِ قَامَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ قَوَامٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّالِحِينَ عَلَى ابْنِ زُهْرَةَ الْمَغْرِبِيِّ الَّذِي كَانَ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلَّاسَةِ، وَكَتَبُوا عَلَيْهِ مَحَاضِرَ تَتَضَمَّنُ اسْتِهَانَتَهُ بِالْمُصْحَفِ، وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ، فَأُحْضِرَ إِلَى دَارِ الْعَدْلِ، فَاسْتَسْلَمَ وَحُقِنَ دَمُهُ، وَعُزِّرَ تَعْزِيرًا بَلِيغًا عَنِيفًا، وَطِيفَ بِهِ فِي الْبَلَدِ بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ وَهُوَ مَكْشُوفُ الرَّأْسِ، وَوَجْهُهُ مَقْلُوبٌ، وَظَهْرُهُ مَضْرُوبٌ، يُنَادَى عَلَيْهِ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْعِلْمِ بِغَيْرِ مَعْرِفَةٍ. ثُمَّ حُبِسَ وَأُطْلِقَ، فَهَرَبَ إِلَى الْقَاهِرَةِ، ثُمَّ عَادَ عَلَى الْبَرِيدِ فِي شَعْبَانَ، وَرَجَعَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.
وَفِيهِ قَدِمَ بَهَادُرُآصْ مِنْ نِيَابَةِ صَفَدَ إِلَى دِمَشْقَ وَهَنَّأَهُ النَّاسُ. وَفِيهِ قَدِمَ كِتَابٌ مِنَ السُّلْطَانِ إِلَى دِمَشْقَ أَنْ لَا يُوَلَّى أَحَدٌ بِمَالٍ وَلَا بِرِشْوَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى وِلَايَةِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةِ، وَإِلَى وِلَايَةِ غَيْرِ الْأَهْلِ، فَقَرَأَهُ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ عَلَى السُّدَّةِ، وَبَلَّغَهُ عَنْهُ ابْنُ صَبِيحٍ الْمُؤَذِّنُ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ حَصَلَ لِلنَّاسِ خَوْفٌ بِدِمَشْقَ بِسَبَبِ أَنَّ التَّتَرَ قَدْ تَحَرَّكُوا لِلْمَجِيءِ إِلَى الشَّامِ، فَانْزَعَجَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ وَخَافُوا، وَتَحَوَّلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى الْبَلَدِ، وَازْدَحَمُوا فِي الْأَبْوَابِ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَثُرَتِ الْأَرَاجِيفُ بِأَنَّهُمْ قَدْ وَصَلُوا إِلَى الرَّحْبَةِ، وَكَذَلِكَ جَرَى، وَاشْتَهَرَ بِأَنَّ ذَلِكَ بِإِشَارَةِ قَرَاسُنْقُرَ وَذَوِيهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي رَمَضَانَ جَاءَ كِتَابُ السُّلْطَانِ أَنَّ مَنْ قَتَلَ لَا يَجْنِي أَحَدٌ عَلَيْهِ، بَلْ يُتَبَّعُ الْقَاتِلُ حَتَّى يُقْتَصَّ مِنْهُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، فَقَرَأَهُ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ عَلَى السُّدَّةِ بِحَضْرَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ تَنْكِزَ، وَسَبَبُهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، هُوَ أَمَرَ بِذَلِكَ وَبِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ قَبْلَهُ.
وَفِي أَوَّلِ رَمَضَانَ وَصَلَ التَّتَرُ إِلَى الرَّحْبَةِ فَحَاصَرُوهَا عِشْرِينَ يَوْمًا، وَقَاتَلَهُمْ نَائِبُهَا الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ مُوسَى الْأُزْكُشِيُّ خَمْسَةَ أَيَّامٍ قِتَالًا عَظِيمًا، وَمَنْعَهُمْ مِنْهَا، فَأَشَارَ رَشِيدُ الدَّوْلَةِ بِأَنْ يَنْزِلُوا إِلَى خِدْمَةِ السُّلْطَانِ خَرْبَنْدَا، وَيُهْدُوا لَهُ هَدِيَّةً، وَيَطْلُبُونَ مِنْهُ الْعَفْوَ، فَنَزَلَ الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ إِسْحَاقُ وَجَمَاعَةٌ، وَأَهْدَوْا لَهُ خَمْسَةَ رُءُوسِ خَيْلٍ وَعَشَرَةَ أَبَالِيجَ سُكَّرٍ، فَقَبِلَ ذَلِكَ وَرَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ، وَكَانَتْ بِلَادُ حَلَبَ وَحَمَاةَ وَحِمْصَ قَدْ أُجْلُوْا مِنْهَا، وَخَرِبَ أَكْثَرُهَا، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْهَا لَمَّا تَحَقَّقُوا رُجُوعَ التَّتَرِ عَنِ الرَّحْبَةِ، وَطَابَتِ الْأَخْبَارُ، وَسَكَنَتِ النُّفُوسُ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَتَرَكَتِ الْأَئِمَّةُ الْقُنُوتَ، وَخَطَبَ الْخَطِيبُ يَوْمَ الْعِيدِ، وَذَكَّرَ النَّاسَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ. وَكَانَ سَبَبُ رُجُوعِ التَّتَرِ قِلَّةَ الْعَلَفِ، وَغَلَاءَ الْأَسْعَارِ، وَمَوْتَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَأَشَارَ عَلَى سُلْطَانِهِمْ بِالرُّجُوعِ: الرَّشِيدُ وَجُوبَانُ.
وَفِي ثَامِنِ شَوَّالٍ دَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِدِمَشْقَ بِسَبَبِ خُرُوجِ السُّلْطَانِ مِنْ مِصْرَ لِأَجْلِ مُلَاقَاةِ التَّتَرِ، وَخَرَجَ الرَّكْبُ فِي نِصْفِ شَوَّالٍ وَأَمِيرُهُمْ حُسَامُ الدِّينِ لَاجِينُ الصَّغِيرُ، الَّذِي كَانَ وَالِيَ الْبَرِّ، وَقَدِمَتِ الْعَسَاكِرُ الْمَنْصُورَةُ الْمِصْرِيَّةُ أَرْسَالًا، وَكَانَ قُدُومُ السُّلْطَانِ وَدُخُولُهُ دِمَشْقَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ثَالِثِ عِشْرِينَ شَوَّالٍ

وَاحْتَفَلَ النَّاسُ لِدُخُولِهِ، فَنَزَلَ بِالْقَلْعَةِ وَقَدْ زُيِّنَ الْبَلَدُ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، ثُمَّ انْتَقَلَ بَعْدَ لَيْلَتِئِذٍ إِلَى الْقَصْرِ، وَصَلَّى الْجُمُعَةَ بِالْجَامِعِ بِالْمَقْصُورَةِ، وَخَلَعَ عَلَى الْخَطِيبِ، وَجَلَسَ فِي دَارِ الْعَدْلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَقَدِمَ وَزِيرُهُ أَمِينُ الْمُلْكِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ عِشْرِينَ الشَّهْرِ، وَقَدِمَ صُحْبَةَ السُّلْطَانِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ مُسْتَهَلِّ ذِي الْقَعْدَةِ، وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ عَنْهَا سَبْعَ سِنِينَ كَوَامِلَ، وَمَعَهُ أَخَوَاهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَخَرَجَ خَلْقٌ كَثِيرٌ لِتَلَقِّيهِ، وَسُرُّوا بِقُدُومِهِ وَعَافِيَتِهِ وَرُؤْيَتِهِ، وَاسْتَبْشَرُوا بِهِ حَتَّى خَرَجَ خَلْقٌ مِنَ النِّسَاءِ أَيْضًا لِرُؤْيَتِهِ، وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ صَحِبَهُ مَعَهُ مِنْ مِصْرَ، فَخَرَجَ مَعَهُ بِنِيَّةِ الْغَزَاةِ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ عَدَمَ الْغَزَاةِ وَأَنَّ التَّتَرَ رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ فَارَقَ الْجَيْشَ مِنْ غَزَّةَ، وَزَارَ الْقُدْسَ، وَأَقَامَ بِهِ أَيَّامًا، ثُمَّ سَافَرَ عَلَى عَجْلُونَ وَبِلَادِ السَّوَادِ وَزُرَعَ، وَوَصَلَ دِمَشْقَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَدَخَلَهَا فَوَجَدَ السُّلْطَانَ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الْحِجَازِ الشَّرِيفِ فِي أَرْبَعِينَ أَمِيرًا مِنْ خَوَاصِّهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَانِي ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمَّ إِنَّ الشَّيْخَ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى دِمَشْقَ وَاسْتِقْرَارِهِ بِهَا لَمْ يَزَلْ مُلَازِمًا لِاشْتِغَالِ النَّاسِ فِي سَائِرِ الْعُلُومِ، وَنَشْرِ الْعِلْمِ، وَتَصْنِيفِ الْكُتُبِ، وَإِفْتَاءِ النَّاسِ بِالْكَلَامِ وَالْكِتَابَةِ الْمُطَوِّلَةِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَفِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ يُفْتِي بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ مِنْ مُوَافَقَةِ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَفِي بَعْضِهَا يُفْتِي بِخِلَافِهِمْ وَبِخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي مَذَاهِبِهِمْ، وَلَهُ اخْتِيَارَاتٌ كَثِيرَةٌ مُجَلَّدَاتٌ عَدِيدَةٌ، أَفْتَى فِيهَا بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ. فَلَمَّا سَارَ السُّلْطَانُ إِلَى الْحَجِّ فَرَّقَ الْعَسَاكِرَ وَالْجُيُوشَ بِالشَّامِ، وَتَرَكَ أَرْغُوَنَ بِدِمَشْقَ.

وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لَبِسَ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ خِلْعَةَ وَكَالَةِ بَيْتِ الْمَالِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ الشَّرِيشِيِّ، وَحَضَرَ بِهَا الشُّبَّاكَ، وَتَكَلَّمَ الْوَزِيرُ أَمِينُ الْمُلْكِ فِي الْبَلَدِ، وَطَلَبَ مِنَ النَّاسِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَصَادَرَ، وَضَرَبَ، بِالْمَقَارِعِ، وَأَهَانَ جَمَاعَةً مِنَ الرُّؤَسَاءِ، مِنْهُمُ الصَّدْرُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ. وَفِيهِ عُيِّنَ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ جَهْبَلٍ لِتَدْرِيسِ الصَّلَاحِيَّةِ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ عِوَضًا عَنْ نَجْمِ الدِّينِ دَاوُدَ الْكُرْدِيِّ، تُوُفِّيَ، وَقَدْ كَانَ مُدَرِّسًا بِهَا مِنْ نَحْوِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَسَافَرَ ابْنُ جَهْبَلٍ إِلَى الْقُدْسِ بَعْدَ عِيدِ الْأَضْحَى.
وَفِيهَا مَاتَ مَلِكُ دَسْتِ الْقَفْجَاقِ الْمُسَمَّى طُقْطَايْ خَانْ، وَكَانَ لَهُ فِي الْمُلْكِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا، عَلَى دِينِ التَّتَرِ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْكَوَاكِبِ، يُعَظِّمُ الْمُجَسِّمَةَ، وَالْحُكَمَاءَ، وَالْأَطِبَّاءَ، وَيُكْرِمُ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ، كَانَ جَيْشُهُ هَائِلًا، لَا يَجْسُرُ أَحَدٌ عَلَى قِتَالِهِ لِكَثْرَةِ جَيْشِهِ، وَقُوَّتِهِمْ، وَعَدَدِهِمْ،

وَيُقَالُ: إِنَّهُ جَرَّدَ مَرَّةً تَجْرِيدَةً مِنْ كُلِّ عَشَرَةٍ مِنْ جَيْشِهِ وَاحِدًا، فَبَلَغَتِ التَّجْرِيدَةُ مِائَتَيْ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا، تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَامَ فِي الْمُلْكِ مِنْ بَعْدِهِ ابْنُ أَخِيهِ أُزْبَكْ خَانْ، وَكَانَ مُسْلِمًا، فَأَظْهَرَ دِينَ الْإِسْلَامِ بِبِلَادِهِ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أُمَرَاءِ الْكَفَرَةِ، وَعَلَتِ الشَّرِيعَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ عَلَى سَائِرِ الشَّرَائِعِ هُنَاكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ صَاحِبُ مَارِدِينَ، وَهُوَ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ غَازِي بْنُ الْمُظَفَّرِ قَرَا أَرْسَلَانَ بْنِ الْمَلِكِ السَّعِيدِ نَجْمِ الدِّينِ غَازِيِ بْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ نَاصِرِ الدِّينِ أُرْتُقَ بْنِ غَازِي بْنِ أَلْبِي بْنِ تَمُرْتَاشَ بْنِ غَازِي بْنِ أُرْتُقَ الْأَرْتَقِيُّ صَاحِبُ مَارِدِينَ مِنْ عِدَّةِ سِنِينَ، كَانَ شَيْخًا حَسَنًا مَهِيبًا، كَامِلَ الْخِلْقَةِ، بَدِينًا سَمِينًا، إِذَا رَكِبَ يَكُونُ خَلْفَهُ مِحَفَّةٌ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَمَسَّهُ لُغُوبٌ فَيَرْكَبَ فِيهَا، تُوُفِّيَ فِي تَاسِعِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَدُفِنَ فِي مَدْرَسَتِهِ تَحْتَ الْقَلْعَةِ، وَقَدْ بَلَغَ مِنَ الْعُمْرِ فَوْقَ السَّبْعِينَ، وَمَكَثَ فِي الْمُلْكِ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً، وَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ فِي الْمُلْكِ وَلَدُهُ الْعَادِلُ عَلِيٌّ، فَمَكَثَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ مَلَكَ أَخُوهُ الصَّالِحُ بْنُ الْمَنْصُورِ.

وَفِيهَا مَاتَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُطْلُوبَكُ الشَّيْخِيُّ، كَانَ مِنْ أُمَرَاءِ دِمَشْقَ الْكِبَارِ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ نُورُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُمَيْدٍ الثَّعْلَبِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، قَارِئُ الْحَدِيثِ بِالْقَاهِرَةِ وَمُسْنِدُهَا، رَوَى عَنِ ابْنِ الزَّبِيدِيِّ، وَابْنِ اللَّتِّيِّ، وَجَعْفَرٍ الْهَمَذَانِيِّ، وَابْنِ الشِّيرَازِيِّ، وَخَلْقٍ، وَقَدْ خَرَّجَ لَهُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ مَشْيَخَةً، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا، تُوُفِّيَ بُكْرَةَ الثُّلَاثَاءِ تَاسِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ هَائِلَةً حَافِلَةً.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ شِهَابُ الدِّينِ غَازِي بْنُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ دَاوُدَ بْنِ الْمُعَظَّمِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ رَجُلًا مُتَوَاضِعًا، تُوُفِّيَ بِمِصْرَ ثَانِيَ عَشَرَ رَجَبٍ، وَدُفِنَ بِالْقَاهِرَةِ.
قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ حَازِمٍ الْأَذْرَعِيُّ الْحَنَفِيُّ، كَانَ بَارِعًا فَاضِلًا، دَرَّسَ وَأَفْتَى، وَوَلِيَ

قَضَاءَ الْحَنَفِيَّةِ بِدِمَشْقَ سَنَةً ثُمَّ عُزِلَ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى تَدْرِيسِ الشِّبْلِيَّةِ مُدَّةً، ثُمَّ سَافَرَ إِلَى مِصْرَ، فَأَقَامَ بِسَعِيدِ السُّعَدَاءِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي عِشْرِينَ رَجَبٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمْ هُمْ، وَالسُّلْطَانُ فِي الْحِجَازِ لَمْ يَقْدَمْ بَعْدُ، وَقَدْ قَدِمَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قِجْلِيسُ يَوْمَ السَّبْتِ مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ مِنَ الْحِجَازِ، وَأَخْبَرَ بِسَلَامَةِ السُّلْطَانِ، وَأَنَّهُ فَارَقَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَأَنَّهُ قَدْ قَارَبَ الْبِلَادَ، فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ فَرَحًا بِسَلَامَتِهِ، ثُمَّ جَاءَ الْبَرِيدُ فَأَخْبَرَ بِدُخُولِهِ إِلَى الْكَرَكِ ثَانِيَ الْمُحَرَّمِ يَوْمَ الْأَحَدِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ حَادِيَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ دَخَلَ دِمَشْقَ، وَخَرَجَ النَّاسُ لِتَلَقِّيهِ عَلَى الْعَادَةِ، وَقَدْ رَأَيْتُهُ مَرْجِعَهُ مِنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ عَلَى شَفَتِهِ وَرَقَةٌ قَدْ أَلْصَقَهَا عَلَيْهَا، فَنَزَلَ بِالْقَصْرِ، وَصَلَّى الْجُمُعَةَ رَابِعَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ بِمَقْصُورَةِ الْخَطَابَةِ، وَكَذَلِكَ الْجُمُعَةُ الَّتِي تَلِيهَا، وَلَعِبَ فِي الْمَيْدَانِ بِالْكُرَةِ يَوْمَ السَّبْتِ النِّصْفِ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَوَلَّى نَظَرَ الدَّوَاوِينِ لِلصَّاحِبِ شَمْسِ الدِّينِ غِبْرِيَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ سَادِسَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، وَشَدَّ الدَّوَاوِينِ لِفَخْرِ الدِّينِ أَيَاسٍ الْأَعْسَرِيِّ عِوَضًا عَنِ الْقَرَمَانِيِّ، وَسَافَرَ الْقَرَمَانِيُّ إِلَى نِيَابَةِ الرَّحْبَةِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمَا وَعَلَى وَزِيرِهِ، وَخَلَعَ عَلَى ابْنِ صَصْرَى، وَعَلَى الْفَخْرِ كَاتِبِ الْمَمَالِيكِ، وَكَانَ مَعَ السُّلْطَانِ فِي الْحَجِّ، وَوَلَّى شَرَفَ الدِّينِ بْنَ

صَصْرَى حِجَابَةَ الدِّيوَانِ، وَبَاشَرَ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ نَظَرَ الْجَامِعِ، وَبَاشَرَ بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ عُلَيْمَةَ نَظَرَ الْأَوْقَافِ، وَالْمَنْكُورَسِيُّ شَدَّ الْأَوْقَافِ.
وَتَوَجَّهَ السُّلْطَانُ رَاجِعًا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بُكْرَةَ الْخَمِيسِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَتَقَدَّمَتِ الْجُيُوشُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَعَهُ.
وَفِي أَوَاخِرِ صَفَرٍ اجْتَازَ عَلَى الْبَرِيدِ فِي الرُّسْلِيَّةِ إِلَى مُهَنَّا الشَّيْخُ صَدَرُ الدِّينِ بْنُ الْوَكِيلِ، وَمُوسَى بْنُ مُهَنَّا، وَالْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ أَلْطُنْبُغَا، فَاجْتَمَعُوا بِهِ فِي تَدْمُرَ، ثُمَّ عَادَ أَلْطُنْبُغَا وَابْنُ الْوَكِيلِ إِلَى الْقَاهِرَةِ، ثُمَّ عَادَ صَدْرُ الدِّينِ إِلَى مُهَنَّا، وَرَجَعَ مِنْ عِنْدِهِ فِي رَجَبٍ إِلَى الْقَاهِرَةِ.
وَفِي أَوَاخِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ مُسِكَ أَمِينُ الْمُلْكِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْكُتَّابِ مَعَهُ، وَصُودِرُوا بِأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ، وَأُقِيمُ عِوَضَهُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ التُّرْكُمَانِيِّ الَّذِي كَانَ وَالِيَ الْبَحَرِيَّةِ. وَفِي رَجَبٍ كَمَلَتْ أَرْبَعَةُ مَجَانِيقَ، وَاحِدٌ لِقَلْعَةِ دِمَشْقَ، وَثَلَاثَةٌ تُحْمَلُ إِلَى الْكَرَكِ، وَرُمِيَ بِاثْنَيْنِ عَلَى بَابِ الْمَيْدَانِ، وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ تَنْكِزُ وَالْعَامَّةُ. وَفِي شَعْبَانَ تَكَامَلَ حَفْرُ النَّهْرِ الَّذِي عَمِلَهُ سَوْدِي نَائِبُ حَلَبَ بِهَا، وَكَانَ طُولُهُ مِنْ نَهْرِ السَّاجُورِ إِلَى نَهْرِ قُوَيْقٍ أَرْبَعِينَ أَلْفَ ذِرَاعٍ فِي عَرْضِ ذِرَاعَيْنِ وَعُمْقِ ذِرَاعَيْنِ، وَغُرِمَ عَلَيْهِ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَعَمِلَ بِالْعَدْلِ وَلَمْ يَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا.

وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَامِنِ شَوَّالٍ خَرَجَ الرَّكْبُ مِنْ دِمَشْقَ وَأَمِيرُهُ سَيْفُ الدِّينِ بَلَبَانُ التَّتَرِيُّ، وَحَجَّ صَاحِبُ حَمَاةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَخَلْقٌ مِنَ الرُّومِ وَالْغُرَبَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَصَلَ الْقَاضِيَ قُطْبُ الدِّينِ مُوسَى بْنُ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ مِنْ مِصْرَ عَلَى نَظَرِ الْجُيُوشِ الشَّامِيَّةِ كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَاحَ مُعِينُ الدِّينِ بْنُ الْحَشِيشِ إِلَى مِصْرَ فِي رَمَضَانَ صُحْبَةَ الصَّاحِبِ شَمْسِ الدِّينِ غِبْرِيَالَ، وَبَعْدَ وُصُولِ نَاظِرِ الْجُيُوشِ بِيَوْمَيْنِ وَصَلَتِ الْمَنَاشِيرُ بِمُقْتَضَى إِرَاكَةِ الْإِقْطَاعَاتِ الشَّامِيَّةِ عَلَى مَا رَآهُ السُّلْطَانُ بَعْدَ نَظَرِهِ فِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُحَدِّثُ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ التَّوْزَرِيُّ، بِمَكَّةَ يَوْمَ الْأَحَدِ حَادِيَ عَشَرَ

رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَأَجَازَهُ خَلْقٌ يَزِيدُونَ عَلَى أَلْفِ شَيْخٍ، وَقَرَأَ الْكُتُبَ الْكِبَارَ وَغَيْرَهَا، وَقَرَأَ " صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ " أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ مَرَّةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عِزُّ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَدْلِ شِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ إِلْيَاسَ الرَّهَاوِيُّ، كَانَ يُبَاشِرُ اسْتِيفَاءَ الْأَوْقَافِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَكَانَ مِنْ أَخِصَّاءِ أَمِينِ الْمُلْكِ، فَلَمَّا مُسِكَ بِمِصْرَ، أُرْسِلَ إِلَى هَذَا وَهُوَ مُعْتَقَلٌ بِالْعَذْرَاوِيَّةِ لِيَحْضُرَ عَلَى الْبَرِيدِ، فَمَرِضَ، فَمَاتَ بِالْمَدْرَسَةِ الْعَذْرَاوِيَّةِ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ طَبَرْزَدَ وَالْكِنْدِيِّ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِبَابِ الصَّغِيرِ، وَتَرَكَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدَيْنِ ذَكَرَيْنِ: جَمَالُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ، وَعِزُّ الدِّينِ.
الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الْمُقْرِئُ تَقِيُّ الدِّينِ الْمِقَصَّاتِيُّ، هُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْمُشَيِّعُ الْجَزَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْمِقَصَّاتِيِّ، نَائِبُ الْخَطَابَةِ، وَكَانَ يُقْرِئُ النَّاسَ

الْقِرَاءَاتِ مِنْ نَحْوِ خَمْسِينَ سَنَةً بِالْعِرَاقِ وَالشَّامِ، وَكَانَ شَيْخًا عَارِفًا بِالْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ وَغَيْرِهَا مِنَ الشَّوَاذِّ، وَلَهُ إِلْمَامٌ بِالنَّحْوِ، وَفِيهِ وَرَعٌ وَاجْتِهَادٌ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ السَّبْتِ حَادِي عِشْرِينَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ تُجَاهَ الرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمْ هُمْ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، إِلَّا الْوَزِيرَ أَمِينَ الْمُلْكِ، فَمَكَانَهَ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ التُّرْكُمَانِيِّ. وَفِي رَابِعِ الْمُحَرَّمِ عَادَ الصَّاحِبُ شَمْسُ الدِّينِ غِبْرِيَالُ مِنْ مِصْرَ عَلَى نَظَرِ الدَّوَاوِينِ، وَتَلَقَّاهُ أَصْحَابُهُ.
وَفِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ قُرِئَ كِتَابُ السُّلْطَانِ عَلَى السُّدَّةِ بِحَضْرَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ وَالْقُضَاةِ وَالْأُمَرَاءِ، يَتَضَمَّنُ إِطْلَاقَ الْبَوَاقِي مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ إِلَى آخِرِ سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ، فَتَضَاعَفَتِ الْأَدْعِيَةُ لِلسُّلْطَانِ، وَكَانَ الْقَارِئُ جَمَالَ الدِّينِ بْنَ الْقَلَانِسِيِّ، وَمُبَلِّغُهُ بَدْرَ الدِّينِ بْنَ صَبِيحٍ الْمُؤَذِّنُ، ثُمَّ قُرِئَ فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى مَرْسُومٌ آخَرُ، فِيهِ الْإِفْرَاجُ عَنِ الْمَسْجُونِينَ، وَأَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ سِوَى نِصْفِ دِرْهَمٍ، وَمَرْسُومٌ آخَرُ فِيهِ إِطْلَاقُ السُّخَّرِ وَالْقَصَبِ وَغَيْرِهِ عَنِ الْفَلَّاحِينَ، قَرَأَهُ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ، وَبَلَّغَهُ عَنْهُ أَمِينُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مُؤَذِّنِ النَّجِيبِيِّ.

وَفِي الْمُحَرَّمِ اسْتَحْضَرَ السُّلْطَانُ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ الْفَقِيهَ نُورَ الدِّينِ عَلِيًّا الْبَكْرِيَّ، وَهَمَّ بِقَتْلِهِ، فَشَفَعَ فِيهِ الْأُمَرَاءُ، فَنَفَاهُ وَمَنَعَهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي الْفَتْوَى وَالْعِلْمِ، وَكَانَ قَدْ هَرَبَ لَمَّا طُلِبَ مِنْ جِهَةِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، فَهَرَبَ وَاخْتَفَى، وَشَفَعَ فِيهِ أَيْضًا، ثُمَّ لَمَّا ظَفِرَ بِهِ السُّلْطَانُ الْآنَ وَأَرَادَ قَتْلَهُ شَفَعَ فِيهِ الْأُمَرَاءُ، فَنَفَاهُ وَمَنَعَهُ مِنَ الْكَلَامِ وَالْفَتْوَى، وَذَلِكَ لِاجْتِرَائِهِ وَتَسَرُّعِهِ عَلَى التَّكْفِيرِ وَالْقَتْلِ، وَالْجَهْلِ الْحَامِلِ لَهُ عَلَى هَذَا وَغَيْرِهِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ قَرَأَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ كِتَابًا سُلْطَانِيًّا عَلَى السُّدَّةِ بِحَضْرَةِ نَائِبِ السُّلْطَانِ الْقَاضِي، وَفِيهِ الْأَمْرُ بِإِطْلَاقِ ضَمَانِ الْقَوَّاسِينَ، وَضَمَانِ النَّبِيذِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَدَعَا النَّاسُ لِلسُّلْطَانِ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ اجْتَمَعَ الْقُضَاةُ بِالْجَامِعِ لِلنَّظَرِ فِي أَمْرِ الشُّهُودِ، وَنَهَوْهُمْ عَنِ الْجُلُوسِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي مَرْكَزَيْنِ، وَأَنْ لَا يَتَوَلَّوْا ثَبَاتَ الْكُتُبِ، وَلَا يَأْخُذُوا أَجْرًا عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَأَنْ لَا يَغْتَابُوا أَحَدًا، وَأَنْ يَتَنَاصَفُوا فِي الْمَعِيشَةِ، ثُمَّ جَلَسُوا مَرَّةً ثَانِيَةً لِذَلِكَ، وَتَوَاعَدُوا ثَالِثَةً، فَلَمْ يَتَّفِقِ اجْتِمَاعُهُمْ، وَلَمْ يُقْطَعْ أَحَدٌ مِنْ مَرْكَزِهِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ عُقِدَ مَجْلِسٌ فِي دَارِ ابْنِ صَصْرَى لِبَدْرِ الدِّينِ بْنِ بَصْخَانَ، وَأُنْكِرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، فَالْتَزَمَ بِتَرْكِ الْإِقْرَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ بَعْدَ أَيَّامٍ فِي الْإِقْرَاءِ، فَأُذِنَ لَهُ، فَجَلَسَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِالْجَامِعِ، وَصَارَتْ لَهُ حَلْقَةٌ عَلَى الْعَادَةِ.

وَفِي مُنْتَصَفِ رَجَبٍ تُوُفِّيَ نَائِبُ حَلَبَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ سَوْدِي، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ، وَوَلِيَ مَكَانَهُ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ أَلْطُنْبُغَا الصَّالِحِيُّ الْحَاجِبُ بِمِصْرَ قَبْلَ هَذِهِ النِّيَابَةِ.
وَفِي تَاسِعِ شَعْبَانَ خُلِعَ عَلَى الشَّرِيفِ شَرَفِ الدِّينِ عَدْنَانَ بِنِقَابَةِ الْأَشْرَافِ، بَعْدَ وَالِدِهِ أَمِينِ الدِّينِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَدْنَانَ الْحُسَيْنِيِّ، بِحُكْمِ وَفَاةِ أَبِيهِ فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي، وَقَدْ كَانَ رَئِيسًا كَبِيرًا.
وَفِي خَامِسِ شَوَّالٍ دُفِنَ الْمَلِكُ شَمْسُ الدِّينِ دُوبَاجُ بْنُ مَلِكْشَاهْ بْنِ رُسْتَمَ صَاحِبُ كَيْلَانَ بِتُرْبَتِهِ الْمَشْهُورَةِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَكَانَ قَدْ قَصَدَ الْحَجَّ فِي هَذَا الْعَامِ، فَلَمَّا كَانَ بِغَبَاغِبَ أَدْرَكَتْهُ مَنِيَّتُهُ يَوْمَ السَّبْتِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَحُمِلَ إِلَى دِمَشْقَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَدُفِنَ فِي هَذِهِ التُّرْبَةِ، اشْتُرِيَتْ لَهُ وَتُمِّمَتْ، وَجَاءَتْ حَسَنَةً، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ الْمُكَارِيَّةِ شَرْقِيَّ الْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ، وَكَانَ لَهُ فِي مَمْلَكَةِ كَيْلَانَ خَمْسٌ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَعُمِّرَ أَرْبَعًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَأَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ جَمَاعَةٌ، فَفُعِلَ ذَلِكَ. وَخَرَجَ الرَّكْبُ فِي ثَالِثِ شَوَّالٍ، وَأَمِيرُهُ سَيْفُ الدِّينِ سُنْقُرُ الْإِبْرَاهِيمِيُّ، وَقَاضِيهِ مُحْيِي الدِّينِ قَاضِي الزَّبَدَانِيِّ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَابِعِ ذِي الْقَعْدَةِ قَدِمَ الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْحَدَّادِ مِنَ الْقَاهِرَةِ مُتَوَلِّيًا حِسْبَةَ دِمَشْقَ، فَخُلِعَ عَلَيْهِ عِوَضًا عَنْ فَخْرِ الدِّينِ

سُلَيْمَانَ الْبُصْرَاوِيِّ، عُزِلَ، فَسَافَرَ سَرِيعًا إِلَى الْبَرِّيَّةِ لِيَشْتَرِيَ خَيْلًا لِلسُّلْطَانِ يُقَدِّمُهَا رِشْوَةً عَلَى الْمَنْصِبِ الْمَذْكُورِ، فَاتَّفَقَ مَوْتُهُ فِي الْبَرِّيَّةِ فِي سَابِعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ، وَحُمِلَ إِلَى بُصْرَى، فَدُفِنَ بِهَا عِنْدَ أَجْدَادِهِ فِي ثَامِنِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَكَانَ شَابًّا كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ، حَسَنَ الشَّكْلِ.
وَفِي أَوَاخِرِهِ مُسِكَ نَائِبُ صَفَدَ بَلَبَانُ طُرْنَا الْمَنْصُورِيُّ وَسُجِنَ، وَتَوَلَّى مَكَانَهُ سَيْفُ الدِّينِ بَلَبَانُ الْبَدْرِيُّ.
وَفِي سَادِسِ ذِي الْحِجَّةِ بَاشَرَ وِلَايَةَ الْبَرِّ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ مَعْبَدٍ الْبَعْلَبَكِّيُّ عِوَضًا عَنْ شَرَفِ الدِّينِ عِيسَى بْنِ الْبُرْطَاسِيِّ. وَفِي يَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى وَصَلَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ صُبْحٍ مِنْ مِصْرَ، وَقَدْ أُفْرِجَ عَنْهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ الْأُمَرَاءُ، وَفَرِحُوا بِهِ، وَهَنَّئُوهُ بِالسَّلَامَةِ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أُعِيدَ أَمِينُ الْمُلْكِ إِلَى نَظَرِ النُّظَّارِ بِمِصْرَ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ وَعَلَى الصَّاحِبِ ضِيَاءِ الدِّينِ النَّشَائِيِّ بِنَظَرِ الْخِزَانَةِ عِوَضًا عَنْ سَعْدِ الدِّينِ حَسَنِ بْنِ الْأَقْفَهْسِيِّ.
وَفِيهِ وَرَدَتِ الْبَرِيدِيَّةُ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ لِلْجُيُوشِ الشَّامِيَّةِ بِالْمَسِيرِ إِلَى حَلَبَ، وَأَنْ يَكُونَ مُقَدَّمُ الْعَسَاكِرِ كُلِّهَا تَنْكِزَ نَائِبَ الشَّامِ، وَقَدِمَ مِنْ مِصْرَ سِتَّةُ آلَافِ

مُقَاتِلٍ، عَلَيْهِمُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَكْتَمُرُ الْأَبُوبَكْرِيُّ، وَفِيهِمْ قِجْلِيسُ، وَبَدْرُ الدِّينِ الْوَزِيرِيُّ، وَكِشْلِي، وَابْنُ طَيْبَرْسَ، وَسَاطِي، وَابْنُ سَلَّارَ، وَغَيْرُهُمْ، فَتَقَدَّمُوا إِلَى الْبِلَادِ الْحَلَبِيَّةِ بَيْنَ يَدَيْ نَائِبِ الشَّامِ تَنْكِزَ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سَوْدِي، نَائِبُ حَلَبَ، فِي رَجَبٍ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي أَجْرَى فِيهَا نَهْرًا غَرِمَ عَلَيْهِ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ، حَمِيدَ الطَّرِيقَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي شَعْبَانَ تُوُفِّيَ الصَّاحِبُ شَرَفُ الدِّينِ يَعْقُوبُ بْنُ مُزْهِرٍ، وَكَانَ بَارًّا بِأَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَالشَّيْخُ رَشِيدُ الدِّينِ أَبُو الْفِدَاءِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ الْحَنَفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمُعَلِّمِ، كَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفْتِينَ، وَلَدَيْهِ عُلُومٌ شَتَّى، وَفَوَائِدُ،

وَفَرَائِدُ، وَعِنْدَهُ زُهْدٌ وَانْقِطَاعٌ عَنِ النَّاسِ، وَقَدْ دَرَّسَ بِالْبَلْخِيَّةِ مُدَّةً ثُمَّ تَرَكَهَا لِوَلَدِهِ، وَسَارَ إِلَى مِصْرَ، فَأَقَامَ بِهَا، وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْهِ قَضَاءُ دِمَشْقَ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ مِنَ الْعُمْرِ، تُوُفِّيَ سَحَرَ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ خَامِسِ رَجَبٍ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي شَوَّالٍ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ سُلَيْمَانُ التُّرْكُمَانِيُّ الْمُوَلَّهُ، الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ عَلَى مِصْطَبَةٍ بِالْعَلَبِيِّينَ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُقِيمًا بِطَهَّارَةِ بَابِ الْبَرِيدِ، وَكَانَ لَا يَتَحَاشَى مِنَ النَّجَاسَاتِ وَلَا يَتَّقِيهَا، وَلَا يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ وَلَا يَأْتِيهَا، وَكَانَ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ الْهَمَجِ لَهُ فِيهِ عَقِيدَةٌ، وَهَذِهِ قَاعِدَةُ الْهَمَجِ الرَّعَاعِ الَّذِينَ هُمْ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ مِنَ الْمُوَلَّهِينَ وَالْمَجَانِينِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُكَاشِفُ، وَأَنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ فِي يَوْمٍ كَثِيرِ الثَّلْجِ.
وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ تُوُفِّيَتِ الشَّيْخَةُ الصَّالِحَةُ الْعَابِدَةُ النَّاسِكَةُ أُمُّ زَيْنَبَ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبَّاسِ بْنِ أَبِي الْفَتْحِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيَّةُ، بِظَاهِرِ الْقَاهِرَةِ، وَشَهِدَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَتْ مِنَ الْعَالِمَاتِ الْفَاضِلَاتِ، تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَقُومُ

عَلَى الْأَحْمَدِيَّةِ فِي مُؤَاخَاتِهِمُ النِّسَاءَ وَالْمُرْدَانَ، وَتُنْكِرُ أَحْوَالَهُمْ وَأَحْوَالَ أَهْلِ الْبِدَعِ وَغَيْرِهِمْ، وَتَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَقَدْ كَانَتْ تَحْضُرُ مَجْلِسَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، فَاسْتَفَادَتْ مِنْهُ ذَلِكَ وَغَيْرَهُ، وَقَدْ سَمِعْتُ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ يُثْنِي عَلَيْهَا، وَيَصِفُهَا بِالْفَضِيلَةِ وَالْعِلْمِ، وَيَذْكُرُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَسْتَحْضِرُ كَثِيرًا مِنَ " الْمُغْنِي " أَوْ أَكْثَرَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ يَسْتَعِدُّ لَهَا مِنْ كَثْرَةِ مَسَائِلِهَا، وَحُسْنِ سُؤَالَاتِهَا، وَسُرْعَةِ فَهْمِهَا، وَهِيَ الَّتِي خَتَّمَتْ نِسَاءً كَثِيرًا الْقُرْآنَ، مِنْهُنَّ أُمُّ زَوْجَتِي عَائِشَةُ بِنْتُ صِدِّيقٍ، زَوْجَةُ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ الْمِزِّيِّ، وَهِيَ الَّتِي أَقَرَأَتِ ابْنَتَهَا زَوْجَتِي أَمَةَ الرَّحِيمِ زَيْنَبَ، رَحِمَهُنَّ اللَّهُ، وَأَكْرَمَهُنَّ بِرَحْمَتِهِ وَجَنَّتِهِ، آمِينَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ فِي الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.

فَتْحُ مَلَطْيَةَ
فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ خَرَجَ سَيْفُ الدِّينِ تَنْكِزُ بِالْجُيُوشِ قَاصِدًا مَلَطْيَةَ، وَخَرَجَتِ الْأَطْلَابُ عَلَى رَايَاتِهَا، وَأَبْرَزُوا مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعُدَدِ وَآلَاتِ الْحَرْبِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَخَرَجَ مَعَ الْجَيْشِ ابْنُ صَصْرَى؛ لِأَنَّهُ قَاضِي الْعَسَاكِرِ وَقَاضِي قُضَاةِ الشَّافِعِيَّةِ، فَسَارُوا حَتَّى دَخَلُوا حَلَبَ فِي الْحَادِي عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ، وَمِنْهَا وَصَلُوا فِي السَّادِسَ عَشَرَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، إِلَى مَلَطْيَةَ فَشَرَعُوا فِي مُحَاصَرَتِهَا فِي الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَقَدْ حُصِّنَتْ وَمُنِّعَتْ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُهَا، فَلَمَّا رَأَوْا كَثْرَةَ الْجَيْشِ، نَزَلَ مُتَوَلِّيهَا وَقَاضِيهَا وَطَلَبُوا الْأَمَانَ، فَأَمَّنُوا الْمُسْلِمِينَ وَدَخَلُوهَا، فَقَتَلُوا مِنَ الْأَرْمَنِ خَلْقًا وَمِنَ النَّصَارَى، وَأَسَرُوا ذُرِّيَّةً كَثِيرَةً، وَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، وَغَنِمُوا شَيْئًا كَثِيرًا، وَأُخِذَتْ أَمْوَالُ كَثِيرٍ مِنَ

الْمُسْلِمِينَ، وَرَجَعُوا عَنْهَا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعِ عِشْرِينَ الْمُحَرَّمِ إِلَى عَيْنِ تَابٍ، إِلَى مَرْجِ دَابِقٍ، وَزُيِّنَتْ دِمَشْقُ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ.
وَفِي أَوَّلِ صَفَرٍ رَحَلَ نَائِبُ مَلَطْيَةَ مُتَوَجِّهًا إِلَى السُّلْطَانِ. وَفِي نِصْفِ الشَّهْرِ وَصَلَ قَاضِيهَا الشَّرِيفُ شَمْسُ الدِّينِ وَمَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِهَا. وَفِي بُكْرَةِ نَهَارِ الْجُمُعَةِ سَادِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ نَائِبُهَا الْأَمِيرُ تَنْكِزُ النَّاصِرِيُّ، أَعَزَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي خِدْمَتِهِ الْجُيُوشُ الشَّامِيَّةُ وَالْمِصْرِيَّةُ، وَخَرَجَ النَّاسُ لِلْفُرْجَةِ عَلَيْهِمْ عَلَى الْعَادَةِ، وَأَقَامَ الْمِصْرِيُّونَ قَلِيلًا ثُمَّ تَرَحَّلُوا إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَقَدْ كَانَتْ مَلَطْيَةُ إِقْطَاعًا لِلْجُوبَانِ، أَطْلَقَهَا لَهُ مَلِكُ التَّتَرِ، فَاسْتَنَابَ بِهَا رَجُلًا كُرْدِيًّا، فَتَعَدَّى وَأَسَاءَ، وَظَلَمَ، وَكَاتَبَ أَهْلُهَا السُّلْطَانَ النَّاصِرَ، وَأَحَبُّوا أَنْ يَكُونُوا مِنْ رَعِيَّتِهِ، فَلَمَّا سَارُوا إِلَيْهَا وَأَخَذُوهَا، وَفَعَلُوا مَا فَعَلُوا فِيهَا - جَاءَهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْجُوبَانُ، فَعَمَّرَهَا وَرَدَّ إِلَيْهَا خَلْقًا مِنَ الْأَرْمَنِ وَغَيْرِهِمْ.
وَفِي التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ وَصَلَ إِلَيْنَا الْخَبَرُ بِمَسْكِ بَكْتَمُرَ الْحَاجِبِ، وَأَيْدُغْدِي شُقَيْرٍ، وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ مُسْتَهَلِّ هَذَا الشَّهْرِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى السُّلْطَانِ، فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَمَسَكَهُمْ، وَاحْتِيطَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَحَوَاصِلِهِمْ، وَظَهَرَ لِبَكْتَمُرَ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَأَمْتِعَةٌ، وَأَخْشَابٌ، وَحَوَاصِلُ

كَثِيرَةٌ، وَقَدِمَ قِجْلِيسُ مَنَ الْقَاهِرَةِ، فَاجْتَازَ بِدِمَشْقَ إِلَى نَاحِيَةِ طَرَابُلُسَ، ثُمَّ قَدِمَ سَرِيعًا وَمَعَهُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ تَمُرُ نَائِبُ طَرَابُلُسَ تَحْتَ الْحَوْطَةِ، وَمُسِكَ بِدِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَهَادُرُ آصُ الْمَنْصُورِيُّ، فَحُمِلَ الْأَوَّلُ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَجُعِلَ مَكَانَهُ فِي نِيَابَةِ طَرَابُلُسَ كُسْتَايْ، وَحُمِلَ الثَّانِي إِلَى الْكَرَكِ، وَحَزِنَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَدَعَوْا لَهُ. وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ قَدِمَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ مُيَسَّرٍ إِلَى دِمَشْقَ مُتَوَلِّيًا حِسْبَتَهَا، وَنَظَرَ الْأَوْقَافِ، وَانْصَرَفَ ابْنُ الْحَدَّادِ عَنِ الْحِسْبَةِ، وَبَهَاءُ الدِّينِ بْنُ عُلَيْمَةَ عَنْ نَظَرِ الْأَوْقَافِ.
وَفِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ ثَالِثَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى وَقَعَ حَرِيقٌ قُبَالَةَ مَسْجِدِ الشِّنْبَاشِيِّ دَاخِلَ بَابِ الصَّغِيرِ، احْتَرَقَ فِيهِ دَكَاكِينُ كَثِيرَةٌ، وَدَوْرٌ، وَأَمْوَالٌ، وَأَمْتِعَةٌ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَادِسَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ دَرَّسُ قَاضِي مَلَطْيَةَ الشَّرِيفُ شَمْسُ الدِّينِ بِالْمَدْرَسَةِ الْخَاتُونِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ - عِوَضًا عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ الْحَنَفِيِّ الْبُصْرَوِيِّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْأَعْيَانُ، وَهُوَ رَجُلٌ لَهُ فَضِيلَةٌ، وَحُسْنُ خُلُقٍ، كَانَ قَاضِيًا بِمَلَطْيَةَ وَخَطِيبًا بِهَا نَحَوًا مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً. وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ رَابِعِ جُمَادَى

الْآخِرَةِ أُعِيدَ ابْنُ الْحَدَّادِ إِلَى الْحِسْبَةِ، وَاسْتَمَرَّ ابْنُ مُيَسَّرٍ نَاظِرَ الْأَوْقَافِ. وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ تَاسِعِ جُمَادَى الْآخِرَةِ دَرَّسَ ابْنُ صَصْرَى بِالْأَتَابِكِيَّةِ عِوَضًا عَنِ الشَّيْخِ صَفِيِّ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ. وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْآخِرِ حَضَرَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ دَرْسَ الظَّاهِرِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ عِوَضًا عَنِ الْهِنْدِيِّ أَيْضًا، بِحُكْمِ وَفَاتِهِ، كَمَا سَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ أُخْرِجَ الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ نَائِبُ الْكَرَكِ مِنْ سِجْنِ الْقَاهِرَةِ، وَأُعِيدَ إِلَى الْإِمْرَةِ بِهَا. وَفِي شَعْبَانَ تَوَجَّهَ خَمْسَةُ آلَافٍ مِنْ بِلَادِ حَلَبَ، فَأَغَارُوا عَلَى بِلَادِ آمِدَ، وَفَتَحُوا بُلْدَانًا كَثِيرَةً، وَقَتَلُوا، وَسَبَوْا، وَعَادُوا، سَالِمِينَ، وَخَمَّسُوا مَا سَبَوْا، فَبَلَغَ سَهْمُ الْخُمْسِ أَرْبَعَةَ آلَافِ رَأْسٍ وَكُسُورًا.
وَفِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ وَصَلَ قَرَاسُنْقُرُ الْمَنْصُورِيُّ إِلَى بَغْدَادَ وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ الْخَاتُونُ بِنْتُ أَبْغَا مَلِكِ التَّتَرِ، وَجَاءَ فِي خِدْمَةِ خَرْبَنْدَا، وَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْغَارَةِ عَلَى أَطْرَافِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، وَوَثَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فِدَاوَيٌّ، مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ مِصْرَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَقُتِلَ الْفِدَاوِيُّ. وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَادِسِ عِشْرِينَ رَمَضَانَ دَرَّسَ بِالْعَادِلِيَّةِ الصَّغِيرَةِ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمِصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ كَاتِبِ قُطْلُوبَكْ، بِمُقْتَضَى نُزُولِ مُدَرِّسِهَا كَمَالِ الدِّينِ بْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ لَهُ عَنْهَا، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ، وَالْخَطِيبُ، وَابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ أَيْضًا.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ كَمَلَتْ عِمَارَةُ الْقَيْسَارِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالدَّهْشَةِ عِنْدَ الْوَرَّاقِينَ

وَاللَّبَّادِينَ، وَسَكَنَهَا التُّجَّارُ، فَتَمَيَّزَتْ بِذَلِكَ أَوْقَافُ الْجَامِعِ، وَذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ الصَّاحِبِ شَمْسِ الدِّينِ.
وَفِي ثَامِنِ شَوَّالٍ قُتِلَ أَحْمَدُ الرُّوَيْسُ، شُهِدَ عَلَيْهِ بِالْعَظَائِمِ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، وَاسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَاسْتِهَانَتِهِ وَتَنَقُّصِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَحَكَمَ الْمَالِكِيُّ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ وَإِنْ أَسْلَمَ، فَاعْتُقِلَ، ثُمَّ قُتِلَ، لَعَنَهُ اللَّهُ. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ كَانَ خُرُوجُ الرَّكْبِ الشَّامِيِّ، وَأَمِيرُهُ سَيْفُ الدِّينِ طَقْتَمُرُ الْمُوسَاوِيُّ، وَقَاضِيهِ قَاضِي مَلَطْيَةَ، وَحَجَّ فِيهِ قَاضِي حَمَاةَ، وَحَلَبَ، وَمَارِدِينَ، وَمُحْيِي الدِّينِ كَاتِبُ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ تَنْكِزَ، وَصِهْرُهُ فَخْرُ الدِّينِ الْمِصْرِيُّ، وَتَقِيُّ الدِّينِ الْفَاضِلِيُّ. وَفِي ثَامِنِ ذِي الْحِجَّةِ وُلِدَ لِلسُّلْطَانِ وَلَدٌ ذَكَرٌ، فَزُيِّنَتِ الْبِلَادُ لَهُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
شَرَفُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَدْلِ عِمَادِ الدِّينِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَتْحِ نَصْرِ اللَّهِ بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، ابْنُ الْقَلَانِسِيِّ، وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَبَاشَرَ نَظَرَ الْخَاصِّ، وَقَدْ شَهِدَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْقيمَةِ ثُمَّ تَرَكَهَا، وَقَدْ تَرَكَ أَوْلَادًا وَأَمْوَالًا جَمَّةً، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ السَّبْتِ ثَانِيَ عَشَرَ صَفَرٍ، وَدُفِنَ بَقَاسِيُونَ.

الشَّيْخُ صَفِيُّ الدِّينِ الْهِنْدِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأُرْمَوِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمُتَكَلِّمُ، وُلِدَ بِالْهِنْدِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ عَلَى جَدِّهِ لِأُمِّهِ، وَكَانَ فَاضِلًا، وَخَرَجَ مِنْ دِهْلَى فِي رَجَبٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ، فَحَجَّ وَجَاوَرَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ دَخَلَ الْيَمَنَ، فَأَعْطَاهُ مَلِكُهَا الْمُظَفَّرُ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، ثُمَّ دَخَلَ مِصْرَ فَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ سَافَرَ إِلَى الرُّومِ عَلَى طَرِيقِ أَنْطَاكِيَةَ، فَأَقَامَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً بِقُونِيَةَ، وَبِسِيوَاسَ خَمْسًا، وَبِقَيْسَارِيَّةَ سَنَةً، وَاجْتَمَعَ بِالْقَاضِي سِرَاجِ الدِّينِ فَأَكْرَمَهُ، ثُمَّ قَدِمَ إِلَى دِمَشْقَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ فَأَقَامَ بِهَا وَاسْتَوْطَنَهَا، وَدَرَّسَ فِي الرَّوَاحِيَّةِ، وَالدَّوْلَعِيَّةِ، وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَالْأَتَابِكِيَّةِ، وَصَنَّفَ فِي الْأُصُولِ وَالْكَلَامِ، وَتَصَدَّرَ لِلِاشْتِغَالِ وَالْإِفْتَاءِ، وَوَقَفَ كُتُبَهُ بِدَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ، وَكَانَ فِيهِ بِرٌّ وَصِلَةٌ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ تَاسِعِ عِشْرِينَ صَفَرٍ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ وَقْتَ مَوْتِهِ سِوَى الظَّاهِرِيَّةِ وَبِهَا مَاتَ، فَدَرَّسَ بَعْدَهُ فِيهَا ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ، وَأَخَذَ ابْنُ صَصْرَى الْأَتَابِكِيَّةَ.
الْقَاضِي الْمُسْنِدُ الْمُعَمَّرُ الرُّحْلَةُ، تَقِيُّ الدِّينِ سُلَيْمَانُ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ

عُمَرَ بْنِ الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، الْحَاكِمُ بِدِمَشْقَ، وُلِدَ فِي نِصْفِ رَجَبٍ سِنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ وَتَفَقَّهَ وَبَرَعَ، وَوَلِيَ الْحُكْمَ، وَحَدَّثَ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ، وَأَحْسَنِهِمْ خُلُقًا، وَأَكْثَرِهِمْ مُرُوءَةً، تُوُفِّيَ فَجْأَةً بَعْدَ مَرْجِعِهِ مِنَ الْبَلَدِ وَحُكْمِهِ بِالْجَوْزِيَّةِ، فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ بِالدَّيْرِ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ، وَمَاتَ عَقِيبَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ حَادِي عِشْرِينَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِتُرْبَةِ جَدِّهِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ عَلِيُّ بْنُ الشَّيْخِ عَلِيِّ الْحَرِيرِيُّ، كَانَ مُقَدَّمًا فِي طَائِفَتِهِ، مَاتَ أَبُوهُ وَعُمْرُهُ سَنَتَانِ، تُوُفِّيَ فِي قَرْيَةِ بُسْرَ فِي جُمَادَى الْأُولَى.
الْحَكِيمُ الْفَاضِلُ الْبَارِعُ بَهَاءُ الدِّينِ عَبْدُ السَّيِّدِ بْنُ الْمُهَذَّبِ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى، الطَّبِيبُ الْكَحَّالُ، الْمُتَشَرِّفُ بِالْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَرَأَ الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ؛ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ مُبَارَكًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهِمْ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ دَيَّانَ الْيَهُودِ، فَهَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَحَدِ سَادِسِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ مِنْ يَوْمِهِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ لَمَّا بَيَّنَ لَهُ بُطْلَانَ دِينِهِمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ، وَمَا بَدَّلُوهُ مِنْ كِتَابِهِمْ وَحَرَّفُوهُ مِنَ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَحُكَّامُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، غَيْرَ الْحَنْبَلِيِّ بِدِمَشْقَ، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ. وَفِي الْمُحَرَّمِ تَكَمَّلَتْ تَفْرِقَةُ الْمِثَالَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ بِمِصْرَ بِمُقْتَضَى إِرَاكَةِ الْأَخْبَازِ، وَعَرْضِ الْجَيْشِ عَلَى السُّلْطَانِ، وَأَبْطَلَ السُّلْطَانُ الْمَكْسَ بِسَائِرِ الْبِلَادِ الْقِبْلِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ. وَفِيهِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِبَعْلَبَكَّ بِسَبَبِ الْعَقَائِدِ، وَتَرَافَعُوا إِلَى دِمَشْقَ، فَحَضَرُوا بِدَارِ السَّعَادَةِ عِنْدَ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ تَنْكِزَ، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، وَانْفَصَلَ الْحَالُ عَلَى خَيْرٍ مِنْ غَيْرِ مُحَاقَقَةٍ وَلَا تَشْوِيشٍ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ سَادِسَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ سَادِسَ عَشَرَ صَفَرٍ قُرِئَ تَقْلِيدُ قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسِ الدِّينِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسَلَّمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ مَزْرُوعٍ الْحَنْبَلِيِّ بِقَضَاءِ الْحَنَابِلَةِ وَالنَّظَرِ فِي أَوْقَافِهِمْ، عِوَضًا عَنِ التَّقِيِّ سُلَيْمَانَ بِحُكْمِ وَفَاتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ،

وَتَارِيخُ التَّقْلِيدِ مِنْ سَادِسِ ذِي الْحِجَّةِ، وَقُرِئَ فِي الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ بِحُضُورِ الْقُضَاةِ، وَالصَّاحِبِ، وَالْأَعْيَانِ، ثُمَّ مَشَوْا مَعَهُ وَعَلَيْهِ الْخِلْعَةُ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّائِبِ وَرَاحَ إِلَى الصَّالِحِيَّةِ، ثُمَّ نَزَلَ مِنَ الْغَدِ إِلَى الْجَوْزِيَّةِ فَحَكَمَ بِهَا عَلَى عَادَةِ مَنْ تَقَدَّمَهُ، وَاسْتَنَابَ بَعْدَ أَيَّامٍ الشَّيْخَ شَرَفَ الدِّينِ بْنَ الْحَافِظِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ الْمَذْكُورِ وَصَلَ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّرِيشِيِّ مِنْ مِصْرَ عَلَى الْبَرِيدِ، وَمَعَهُ تَوْقِيعٌ بِعَوْدِ الْوَكَالَةِ إِلَيْهِ، فَخُلِعَ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ عَلَى النَّائِبِ وَالْخِلْعَةُ عَلَيْهِ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ مُسِكَ الْوَزِيرُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ، وَاعْتُقِلَ بِالْعَذْرَاوِيَّةِ، وَصُولِحَ بِخَمْسِينَ أَلْفًا، ثُمَّ أُطْلِقَ لَهُ مَا كَانَ أُخِذَ مِنْهُ، وَانْفَصَلَ مِنْ دِيوَانِ نَظَرِ الْخَاصِّ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ وَصَلَ مِنْ مِصْرَ الْأَمِيرُ فَضْلُ بْنُ عِيسَى وَمَعَهُ تَقْلِيدٌ بِإِمْرَةِ الْعَرَبِ عِوَضًا عَنْ أَخِيهِ مُهَنَّا بْنِ عِيسَى، وَأُجْرِيَ لَهُ وَلِابْنِ أَخِيهِ مُوسَى بْنِ مُهَنَّا إِقْطَاعَاتٌ جَيِّدَةٌ وَذَلِكَ بِسَبَبِ دُخُولِ مُهَنَّا إِلَى بِلَادِ التَّتَرِ وَاجْتِمَاعِهِ بِمُلْكِهِمْ خَرْبَنْدَا.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ السَّادِسِ عِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى بَاشَرَ ابْنُ صَصْرَى مَشْيَخَةَ الشُّيُوخِ بِالسُّمَيْسَاطِيَّةِ بِسُؤَالِ الصُّوفِيَّةِ، وَطَلَبِهِمْ لَهُ مِنْ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، فَحَضَرَهَا، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْأَعْيَانُ فِي هَذَا الْيَوْمِ، عِوَضًا عَنِ الشَّرِيفِ

شِهَابِ الدِّينِ أَبِي الْقَاسِمِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَحْيَى بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، وَهُوَ الْكَاشْغَرِيُّ، تُوُفِّيَ عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ بَاشَرَ بَهَاءُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَمَالِ الدِّينِ يَحْيَى، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيْمَةَ الْحَنَفِيُّ - وَهُوَ نَاظِرُ دِيوَانِ النَّائِبِ بِالشَّامِ - نَظَرَ الدَّوَاوِينِ عِوَضًا عَنْ شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْقَادِرِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ صَدَقَةَ بْنِ الْحَظِيرِيِّ الْحَاسِبِ الْكَاتِبِ، تُوُفِّيَ، وَقَدْ كَانَ مُبَاشِرًا عِدَّةً مِنَ الْجِهَاتِ الْكِبَارِ مِثْلَ نَظَرِ الْخِزَانَةِ، وَنَظَرِ الْجَامِعِ، وَنَظَرِ الْمَارَسْتَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ نَظَرُ الْمَارَسْتَانِ مِنْ يَوْمَئِذٍ بِأَيْدِي نُظَّارِ دِيوَانِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ مَنْ كَانَ، وَصَارَتْ عَادَةً مُسْتَمِرَّةً.
وَفِي رَجَبٍ نُقِلَ نَائِبُ حِمْصَ الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ قَرَطَايْ إِلَى نِيَابَةِ طَرَابُلُسَ عِوَضًا عَنِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ التُّرْكِسْتَانِيُّ بِحُكْمِ وَفَاتِهِ، وَوَلِيَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرُقْطَايْ نِيَابَةَ حِمْصَ وَسَارَ إِلَيْهَا مِنْ دِمَشْقَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ سَابِعِ رَجَبٍ، وَتَوَلَّى نِيَابَةَ الْكَرَكِ سَيْفُ الدِّينِ طُقْطَاي النَّاصِرِيُّ عِوَضًا عَنْ سَيْفِ الدِّينِ بَيْبُغَا.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ عَاشِرِ رَجَبٍ دَرَّسَ بالنَّجِيبِيَّةِ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ الدِّمَشْقِيُّ،

عِوَضًا عَنِ الصَّدْرِ بَهَاءِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ كَمَالِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ الظَّاهِرِ الْعَجَمِيِّ الْحَلَبِيِّ، سِبْطِ الصَّاحِبِ كَمَالِ الدِّينِ بْنِ الْعَدِيمِ، تُوُفِّيَ وَدُفِنَ عِنْدَ خَالِهِ وَوَالِدِهِ بِتُرْبَةِ الْعَدِيمِ.
وَفِي آوَاخِرِ شَعْبَانَ وَصَلَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنُ عِزِّ الدِّينِ يَحْيَى الْحَرَّانِيُّ أَخُو قَاضِي قُضَاةِ الْحَنَابِلَةِ بِمِصْرَ شَرَفِ الدِّينِ عَبْدِ الْغَنِيِّ إِلَى دِمَشْقَ مُتَوَلِّيًا نَظَرَ الْأَوْقَافِ بِهَا، عِوَضًا عَنِ الصَّاحِبِ عِزِّ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُيَسَّرٍ، تُوُفِّيَ فِي مُسْتَهَلِّ رَجَبٍ بِدِمَشْقَ، وَقَدْ بَاشَرَ نَظَرَ الدَّوَاوِينِ بِهَا، وَبِمِصْرَ، وَالْحِسْبَةَ، وَبِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مَعَهُ فِي آخِرِ وَقْتٍ سِوَى نَظَرِ الْأَوْقَافِ بِدِمَشْقَ، مَاتَ وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ، وَدُفِنَ بَقَاسِيُونَ.
وَفِي تَاسِعِ شَوَّالٍ خَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ وَأَمِيرُهُمْ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُوَنُ السِّلِحْدَارُ النَّاصِرِيُّ السَّاكِنُ عِنْدَ دَارِ الطِّرَازِ بِدِمَشْقَ، وَحَجَّ مِنْ مِصْرَ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُوَنُ الدَّوَادَارُ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ جَمَاعَةَ، وَقَدْ زَارَ الْقُدْسَ الشَّرِيفَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ وَفَاةِ وَلَدِهِ الْخَطِيبُ جَمَالُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ قَدْ رَأَسَ وَعَظُمَ شَأْنُهُ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ سَارَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ تَنْكِزُ إِلَى زِيَارَةِ الْقُدْسِ فَغَابَ عِشْرِينَ يَوْمًا. وَفِيهِ وَصَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَكْتَمُرُ الْحَاجِبُ إِلَى دِمَشْقَ مِنْ مِصْرَ، وَقَدْ

كَانَ مُعْتَقَلًا فِي السِّجْنِ، فَأُطْلِقَ وَأُكْرِمَ، وَوَلِيَ نِيَابَةَ صَفَدَ، فَسَارَ إِلَيْهَا بَعْدَ مَا قَضَى أَشْغَالَهُ بِدِمَشْقَ، وَنُقِلَ الْقَاضِي حُسَامُ الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ مِنْ قَضَاءِ صَفَدَ إِلَى قَضَاءِ طَرَابُلُسَ، وَأُعِيدَتْ وِلَايَةُ قَضَاءِ صَفَدَ إِلَى قَاضِي دِمَشْقَ، فَوَلَّى فِيهَا ابْنَ صَصْرَى شَرَفَ الدِّينِ النَّهَاوَنْدِيَّ، وَكَانَ مُتَوَلِّيًا طَرَابُلُسَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَوَصَلَ مَعَ بَكْتَمُرَ الْحَاجِبِ الطَّوَاشِيُّ ظَهِيرُ الدِّينِ مُخْتَارٌ الْمَعْرُوفُ بِالزُّرَعِيِّ، مُتَوَلِّيًا الْخِزَانَةَ بِالْقَلْعَةِ عِوَضًا عَنِ الطَّوَاشِيِّ ظِهِيرِ الدِّينِ مُخْتَارٍ الْبُلْبَيْسِيِّ، تُوُفِّيَ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ - أَعْنِي ذَا الْقِعْدَةِ - وَصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِمَوْتِ مَلِكِ التَّتَرِ خَرْبَنْدَا مُحَمَّدِ بْنِ أَرْغُوَنَ بْنِ أَبْغَا بْنِ هُولَاكُو قَانَ، مَلِكِ الْعِرَاقِ، وَخُرَاسَانَ، وَعِرَاقِ الْعَجَمِ، وَالرُّومِ، وَأَذْرَبِيجَانَ، وَبِلَادِ الْأُرَّانَةِ، وَدِيَارِ بَكْرٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِالْمَدِينَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا، الَّتِي يُقَالُ لَهَا: السُّلْطَانِيَّةُ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّلَاثِينَ مِنَ الْعُمْرِ، وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالْكَرَمِ، وَمُحِبَّةِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْعَمَائِرِ، وَأَظْهَرَ الرَّفْضَ فِي بِلَادِهِ، أَقَامَ سَنَةً عَلَى السُّنَّةِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ عَنْهَا إِلَى الرَّفْضِ

فَأَقَامَ شَعَائِرَهُ بِبِلَادِهِ، وَحَظِيَ عِنْدَهُ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ مُطَهَّرٍ الْحِلِّيُّ تِلْمِيذُ نَصِيرِ الدِّينِ الطَّوْسِيِّ، وَأَقْطَعَهُ عِدَّةَ بِلَادٍ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ الْفَاسِدِ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَرَتْ فِي أَيَّامِهِ فِتَنٌ كِبَارٌ، وَمَصَائِبُ عِظَامٌ، فَأَرَاحَ اللَّهُ مِنْهُ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ، وَقَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ بُو سَعِيدٍ وَلَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَمُدَبِّرُ الْجُيُوشِ وَالْمَمَالِكِ لَهُ الْأَمِيرُ جُوبَانُ، وَاسْتَمَرَّ فِي الْوِزَارَةِ عَلِيُّ شَاهْ التِّبْرِيزِيُّ، وَأَخَذَ أَهْلَ دَوْلَتِهِ بِالْمُصَادَرَةِ، وَقَتْلِ الْأَعْيَانِ مِمَّنِ اتَّهَمَهُمْ بِقَتْلِ أَبِيهِ مَسْمُومًا، وَلَعِبَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِهِ فِي أَوَّلِ دَوْلَتِهِ، ثُمَّ عَدَلَ إِلَى الْعَدْلِ وَإِقَامَةِ السُّنَّةِ، فَأَمَرَ بِإِعَادَةِ الْخُطْبَةِ بِالتَّرَضِّي عَنِ الشَّيْخَيْنِ أَوَّلًا، ثُمَّ عُثْمَانَ، ثُمَّ عَلِيٍّ - رِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ - فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَسَكَنَتْ بِذَلِكَ الْفِتَنُ وَالشُّرُورُ وَالْقِتَالُ الَّذِي كَانَ بَيْنَ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ بِهَرَاةَ، وَأَصْبَهَانَ، وَبَغْدَادَ، وِإِرْبِلَ، وَسَاوَةَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ صَاحِبُ مَكَّةَ الْأَمِيرُ حُمَيْضَةُ بْنُ أَبِي نُمَيٍّ الْحَسَنِيُّ قَدْ قَصَدَ مَلِكَ التَّتَرِ خَرْبَنْدَا لِيَنْصُرَهُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَسَاعَدَهُ الرَّوَافِضُ هُنَاكَ، وَجَهَّزُوا مَعَهُ جَيْشًا كَثِيفًا مِنْ خُرَاسَانَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَلَمَّا مَاتَ خَرْبَنْدَا بَطَلَ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَعَادَ حُمَيْضَةُ خَائِبًا خَاسِئًا، وَفِي صُحْبَتِهِ أَمِيرٌ مِنْ كِبَارِ الرَّوَافِضِ مِنَ التَّتَرِ يُقَالُ لَهُ: الدَّلْقَنْدِيُّ، وَقَدْ جَمَعَ لِحُمَيْضَةَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً لِيُقِيمَ الرَّفْضَ بِذَلِكَ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ، فَوَقَعَ بِهِمَا

الْأَمِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى أَخُو مُهَنَّا، وَقَدْ كَانَ فِي بِلَادِ التَّتَرِ أَيْضًا وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَكَسَرَهُمَا وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا، وَنَهَبَ مَا كَانَ مَعَهُمَا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَتَفَرَّقَ الرِّجَالُ، وَبَلَغَتْ أَخْبَارُ ذَلِكَ إِلَى الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَرَضِيَ عَنْهُ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ وَأَهْلُ دَوْلَتِهِ، وَغَسَلَ ذَلِكَ ذَنْبَهُ عِنْدَهُ، فَاسْتَدْعَى بِهِ السُّلْطَانُ إِلَى حَضْرَتِهِ، فَحَضَرَ سَامِعًا مُطِيعًا، فَأَكْرَمَهُ نَائِبُ الشَّامِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى السُّلْطَانِ أَكْرَمَهُ أَيْضًا، ثُمَّ إِنَّهُ اسْتَفْتَى الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ، وَكَذَلِكَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ يَسْأَلُهُ عَنِ الْأَمْوَالِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنَ الدَّلْقَنْدِيِّ، فَأَفْتَاهُمْ بِأَنَّهَا تُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ الَّتِي يَعُودُ نَفْعُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُعَدَّةً لِعِنَادِ الْحَقِّ، وَنُصْرَةِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ عَلَى السُّنَّةِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
خَرْبَنْدَا مَلِكُ التَّتَارِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَعِزُّ الدِّينِ بْنُ مُيَسَّرٍ، وَالشِّهَابُ الْكَاشْغَرِيُّ شَيْخُ الشُّيُوخِ، وَشَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْحَظِيرِيِّ، وَالْبَهَاءُ الْعَجَمِيُّ، مُدَرِّسُ النَّجِيبِيَّةِ.

وَفِيهَا قُتِلَ خَطِيبُ الْمِزَّةِ، قَتَلَهُ رَجُلٌ جَبَلِيٌّ، ضَرَبَهُ بِفَأْسِ اللِّجَامِ فِي رَأْسِهِ فِي السُّوقِ، فَبَقِيَ أَيَّامًا وَمَاتَ، وَأُخِذَ الْقَاتِلُ فَشُنِقَ فِي السُّوقِ الَّذِي قَتَلَ فِيهِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَحَدِ ثَالِثَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَدُفِنَ هُنَاكَ وَقَدْ جَاوَزَ السِّتِّينَ.
الشَّرَفُ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَبْشَاهْ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْهَمَذَانِيُّ، مَاتَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ النَّيْرَبِ، وَكَانَ مَشْهُورًا بِطِيبِ الْقِرَاءَةِ، وَحُسْنِ السِّيرَةِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَرَوَى " جُزْءَ ابْنِ عَرَفَةَ ".
صَاحِبُ " التَّذْكِرَةِ الْكِنْدِيَّةِ " الشَّيْخُ الْإِمَامُ، الْمُقْرِئُ، الْمُحَدِّثُ، النَّحْوِيُّ، الْأَدِيبُ، عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ الْمُظَفَّرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ بْنِ زَيْدِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ الْكِنْدِيُّ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ عَلَى أَزْيَدَ مِنْ مِائَتَيْ شَيْخٍ، وَقَرَأَ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ، وَحَصَّلَ عُلُومًا جَيِّدَةً، وَنَظَمَ الشِّعْرَ الْحَسَنَ الرَّائِقَ الْفَائِقَ، وَجَمَعَ كِتَابًا فِي نَحْوٍ مَنْ خَمْسِينَ مُجَلَّدًا، فِيهِ عُلُومٌ جَمَّةٌ، أَكْثَرُهَا أَدَبِيَّاتٌ، سَمَّاهُ " التَّذْكِرَةَ الْكِنْدِيَّةَ "، وَقَفَهَا بِالسُّمَيْسَاطِيَّةِ، وَكَتَبَ حَسَنًا، وَحَسَبَ جَيِّدًا، وَخَدَمَ فِي عِدَّةِ خِدَمٍ، وَوَلِيَ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ النَّفِيسِيَّةِ فِي مُدَّةِ عَشْرِ سِنِينَ، وَقَرَأَ

" صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ " مَرَّاتٍ عَدِيدَةً، وَأَسْمَعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ يَلُوذُ بِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَتُوُفِّيَ بِبُسْتَانِهِ عِنْدَ قُبَّةِ الْمُسَجِّفِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ عَشَرَ رَجَبٍ، وَدُفِنَ بِالْمِزَّةِ عَنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
الطَّوَاشِيُّ ظَهِيرُ الدِّينِ مُخْتَارٌ الْبُلْبَيْسِيُّ، الْخِزِنْدَارُ بِالْقَلْعَةِ، وَأَحَدُ أُمَرَاءِ الطَّبْلَخَانَاهْ بِدِمَشْقَ، كَانَ زَكِيًّا، خَيِّرًا، فَاضِلًا، يَحْفَظُ الْقُرْآنَ، وَيُؤَدِّيهِ بِصَوْتٍ طَيِّبٍ، وَوَقَفَ مَكْتَبًا لِلْأَيْتَامِ عَلَى بَابِ قَلْعَةِ دِمَشْقَ، وَرَتَّبَ لَهُمُ الْكُسْوَةَ وَالْجَامَكِيَّةَ، وَكَانَ يَمْتَحِنُهُمْ بِنَفْسِهِ، وَيَفْرَحُ بِهِمْ، وَعَمِلَ لَهُ تُرْبَةً خَارِجَ بَابِ الْجَابِيَةِ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا الْمُقْرِئِينَ، وَبَنَى عِنْدَهَا مَسْجِدًا حَسَنًا، وَوَقَفَهُ بِإِمَامٍ، وَهِيَ مِنْ أَوَائِلِ مَا عُمِلَ مِنَ التُّرَبِ بِذَلِكَ الْخَطِّ، وَدُفِنَ بِهَا فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ عَاشِرِ شَعْبَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ حَسَنَ الشَّكْلِ وَالْأَخْلَاقِ، عَلَيْهِ سَكِينَةٌ وَوَقَارٌ وَهَيْبَةٌ، وَلَهُ وَجَاهَةٌ فِي الدَّوْلَةِ، سَامَحَهُ اللَّهُ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ الْخِزَانَةَ سَمِيُّهُ ظَهِيرُ الدِّينِ مُخْتَارٌ الزُّرَعِيُّ.
الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَزِيرِيِّ، كَانَ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْمُقَدَّمِينَ، وَلَدَيْهِ فَضِيلَةٌ وَمَعْرِفَةٌ وَخِبْرَةٌ، وَقَدْ نَابَ عَنِ السُّلْطَانِ بِدَارِ الْعَدْلِ مَرَّةً بِمِصْرَ، وَكَانَ

حَاجِبَ الْمَيْسَرَةِ، وَتَكَلَّمَ فِي الْأَوْقَافِ، وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُضَاةِ وَالْمُدَرِّسِينَ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى دِمَشْقَ، فَمَاتَ بِهَا فِي سَادِسَ عَشَرَ شَعْبَانَ، وَدُفِنَ بِمَيْدَانِ الْحَصَا فَوْقَ خَانِ النَّجِيبِيِّ، وَخَلَّفَ تَرِكَةً عَظِيمَةً.
الشَّيْخَةُ الصَّالِحَةُ، سِتُّ الْوُزَرَاءِ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ الْمُنَجَّا، رَاوِيَةُ " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، وَغَيْرِهِ، جَاوَزَتِ التِّسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مِنَ الصَّالِحَاتِ، تُوُفِّيَتْ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ ثَامِنَ عَشَرَ شَعْبَانَ، وَدُفِنَتْ بِتُرْبَتِهِمْ بِالْقُرْبِ مِنَ الْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ بَقَاسِيُونَ.
الْقَاضِي مُحِبُّ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ، اسْتَنَابَهُ أَبُوهُ فِي أَيَّامِهِ، وَزَوَّجَهُ بِابْنَةِ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَدَرَّسَ بِالْكَهَّارِيَّةِ، وَرَأَسَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ تَاسِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ، وَقَدْ قَارَبَ السِّتِّينَ، وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ بِالْقَرَافَةِ.

الشَّيْخَةُ الصَّالِحَةُ الْمُعَمَّرَةُ، سِتُّ النِّعَمِ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدُوسٍ الْحَرَّانِيَّةُ، وَالِدَةُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، عَمَّرَتْ فَوْقَ السَّبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مِنَ الصَّالِحَاتِ، وَلَدَتْ تِسْعَةَ بَنِينَ، وَلَمْ تُرْزَقْ بِنْتًا قَطُّ، تُوُفِّيَتْ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ، وَدُفِنَتْ بِالصُّوفِيَّةِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَجَمٌّ غَفِيرٌ، رَحِمَهَا اللَّهُ.
الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَلَبِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ، الْكَاتِبُ الْفَاضِلُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبُصَيْصِ، شَيْخُ صِنَاعَةِ الْكِتَابَةِ فِي زَمَانِهِ، لَا سِيَّمَا فِي الْمُزَوَّجِ وَالْمُثَلَّثِ، وَقَدْ أَقَامَ يَكْتُبُ النَّاسَ خَمْسِينَ سَنَةً، وَأَنَا مِمَّنْ كَتَبَ عَلَيْهِ، أَثَابَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، وَكَانَ شَيْخًا حَسَنًا بَهِيَّ الْمَنْظَرِ، يَشْعُرُ جَيِّدًا، تُوُفِّيَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ عَاشِرِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ، وَلَهُ خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً.
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْمَوْصِلِيُّ، أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الْكَرَمِ، شَيْخُ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ مِحْرَابِ الصَّحَابَةِ، وَشَيْخُ مِيعَادِ ابْنِ عَامِرٍ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَقَدِ انْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً فِي التَّلْقِينِ وَالْقِرَاءَاتِ، وَخَتَّمَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ يُقْصَدُ لِذَلِكَ، وَيَجْمَعُ تَصْدِيقَاتٍ يَقُولُهَا الصِّبْيَانُ لَيَالِيَ خَتْمِهِمْ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ خَيِّرًا دَيِّنًا، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ سَابِعَ عَشَرَ ذِي

الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ، الزَّاهِدُ، الْمُقْرِئُ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْخَطِيبِ سَلَامَةَ بْنِ سَالِمِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ يَنْبُوبَ الْمَالِينِيُّ، أَحَدُ الصُّلَحَاءِ الْمَشْهُورِينَ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَأَقْرَأَ النَّاسَ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ يُفَصِّحُ الْأَوْلَادَ فِي الْحُرُوفِ الصَّعْبَةِ، وَكَانَ مُبْتَلَى فِي فَمِهِ، يَحْمِلُ طَاسَةً تَحْتَ فَمِهِ مِنْ كَثْرَةِ مَا يَسِيلُ مِنْهُ مِنَ الرِّيَالِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ بِأَرْبَعِ سِنِينَ، تُوُفِّيَ بِالْمَدْرَسَةِ الصَّارِمِيَّةِ يَوْمَ الْأَحَدِ ثَانِي عِشْرِينَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ بِالْقُرْبِ مِنَ الْقَلَنْدَرِيَّةِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ جِدًّا نَحْوٌ مَنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ صَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْوَكِيلِ، هُوَ الْعَلَّامَةُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ مُفْتِي الْمُسْلِمِينَ زَيْنِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ مَكِّيِّ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمُرَحِّلِ وَبِابْنِ الْوَكِيلِ، شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، وَأَشْهُرُهُمْ فِي وَقْتِهِ بِالْفَضِيلَةِ، وَكَثْرَةِ الِاشْتِغَالِ، وَالْمُطَالَعَةِ، وَالتَّحْصِيلِ، وَالِافْتِنَانِ فِي الْعُلُومِ الْعَدِيدَةِ، وَقَدْ أَجَادَ مَعْرِفَةَ الْمَذْهَبِ وَالْأَصْلَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي النَّحْوِ بِذَاكَ الْقَوِيِّ، فَكَانَ يَقَعُ مِنْهُ اللَّحْنُ

الْكَثِيرُ، مَعَ أَنَّهُ قَرَأَ فِيهِ " الْمُفَصَّلَ " لِلزَّمَخْشَرِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ مَحْفُوظَاتٌ كَثِيرَةٌ، وُلِدَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ عَلَى الْمَشَايِخِ، مِنْ ذَلِكَ " مُسْنَدُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَلَى ابْنِ عَلَّانَ، وَ " الْكُتُبُ السِّتَّةُ "، وَقُرِئَ عَلَيْهِ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " بِدَارِ الْحَدِيثِ عَنِ الْأَمِيرِ الْإِرْبِلِيِّ، وَالْعَامِرِيِّ، وَالْمِزِّيِّ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ عَلَى الْحَدِيثِ بِكَلَامٍ مَجْمُوعٍ مِنْ عُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الطِّبِّ وَالْفَلْسَفَةِ وَعِلْمِ الْكَلَامِ - وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعِلْمٍ - وَعُلُومِ الْأَوَائِلِ، وَكَانَ يُكْثِرُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ يَقُولُ الشِّعْرَ جَيِّدًا، وَلَهُ دِيوَانٌ مَجْمُوعٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَشْيَاءَ لَطِيفَةٍ، وَكَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَحْسُدُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ، وَآخَرُونَ يَحْسُدُونَهُ وَيُبْغِضُونَهُ، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ بِأَشْيَاءَ، وَيَرْمُونَهُ بِالْعَظَائِمِ، وَقَدْ كَانَ مُسْرِفًا عَلَى نَفْسِهِ، قَدْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فِيمَا يَتَعَاطَاهُ مِنَ الْقَاذُورَاتِ وَالْفَوَاحِشِ، وَكَانَ يَنْصِبُ الْعَدَاوَةَ لِلشَّيْخِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَيُنَاظِرُهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَحَافِلِ وَالْمَجَالِسِ، وَكَانَ يَعْتَرِفُ لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بِالْعُلُومِ الْبَاهِرَةِ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُجَاحِفُ عَنْ مَذْهَبِهِ وَنَاحِيَتِهِ وَهَوَاهُ، وَيُنَافِحُ عَنْ طَائِفَتِهِ، وَقَدْ كَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ يُثْنِي عَلَيْهِ، وَعَلَى عُلُومِهِ، وَفَضَائِلِهِ، وَيَشْهَدُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ إِذَا قِيلَ لَهُ عَنْ أَفْعَالِهِ وَأَعْمَالِهِ الْقَبِيحَةِ، وَكَانَ يَقُولُ: كَانَ مُخَلِّطًا عَلَى نَفْسِهِ، مُتَّبِعًا مُرَادَ الشَّيْطَانِ مِنْهُ، يَمِيلُ إِلَى الشَّهْوَةِ وَالْمُحَاضَرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ كَمَا يَقُولُ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ مِمَّنْ يَحْسُدُهُ وَيَتَكَلَّمُ فِيهِ. هَذَا أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ. وَقَدْ دَرَّسَ بِعِدَّةِ مَدَارِسَ بِمِصْرَ وَالشَّامِ، فَدَرَّسَ بِدِمَشْقَ بِالشَّامِيَّتَيْنِ، وَالْعَذْرَاوِيَّةِ، وَدَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ، وَوَلِيَ فِي وَقْتٍ الْخَطَابَةَ أَيَّامًا يَسِيرَةً كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ قَامَ الْخَلْقُ عَلَيْهِ وَأَخْرَجُوهَا مِنْ يَدِهِ، وَلَمْ يَرْقَ مِنْبَرَهَا، ثُمَّ خَالَطَ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ الْأَفْرَمَ، فَجَرَتْ لَهُ أُمُورٌ لَا يَحْسُنُ ذِكْرُهَا، وَلَا يَرْشُدُ أَمْرُهَا، ثُمَّ آلَ بِهِ الْحَالُ عَلَى أَنْ عَزَمَ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى حَلَبَ

لِاسْتِحْوَاذِهِ عَلَى قَلْبِ نَائِبِهَا، فَأَقَامَ بِهَا وَدَرَّسَ، ثُمَّ تَرَدَّدَ فِي الرُّسْلِيَّةِ بَيْنَ السُّلْطَانِ وَمُهَنَّا صُحْبَةَ أَرْغُوَنَ وَأَلْطُنْبُغَا، ثُمَّ اسْتَقَرَّ بِهِ الْمَنْزِلُ بِمِصْرَ، وَدَرَّسَ فِيهَا بِمَشْهَدِ الْحُسَيْنِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ بِهَا بُكْرَةَ نَهَارِ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعِ عِشْرِينَ ذِي الْحِجَّةِ، بِدَارِهِ، قَرِيبًا مِنْ جَامِعِ الْحَاكِمِ، وَدُفِنَ مِنْ يَوْمِهِ قَرِيبًا مِنَ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ بِتُرْبَةِ الْقَاضِي نَاظِرِ الْجَيْشِ بِالْقَرَافَةِ، وَلَمَّا بَلَغَتْ وَفَاتُهُ دِمَشْقَ صُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِهَا صَلَاةَ الْغَائِبِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ ثَالِثِ الْمُحَرَّمِ مِنَ السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَرَثَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ غَانِمٍ عَلَاءُ الدِّينِ، وَالْقَحْفَازِيُّ، وَالصَّفَدِيُّ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ عُشَرَائِهِ.
وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفُوعِيُّ، وَكِيلُ قِجْلِيسَ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى لَهُ الْبَاشُورَةَ عَلَى بَابِ الصَّغِيرِ بِالْبَرَّانِيَّةِ الْغَرْبِيَّةِ، وَكَانَتْ فِيهِ نَهْضَةٌ وَكِفَايَةٌ، وَكَانَ مِنْ بَيْتِ الرَّفْضِ، اتَّفَقَ أَنَّهُ اسْتَحْضَرَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ فَضَرَبَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَامَ النَّائِبُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِالْمَهَامِيزِ فِي وَجْهِهِ، فَرُفِعَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَهُوَ تَالِفٌ، فَمَاتَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَدُفِنَ مِنْ يَوْمِهِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَلَهُ دَارٌ ظَاهِرَ بَابِ الْفَرَادِيسِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَفِي صَفَرٍ شُرِعَ فِي عِمَارَةِ الْجَامِعِ الَّذِي أَنْشَأَهُ مَلِكُ الْأُمَرَاءِ سَيْفُ الدِّينِ تَنْكِزُ نَائِبُ الشَّامِ ظَاهِرَ بَابِ النَّصْرِ، تُجَاهَ حِكْرِ السِّمَاقِ عَلَى نَهْرِ بَانْيَاسَ بِدِمَشْقَ، وَتَرَدَّدَ الْقُضَاةُ وَالْعُلَمَاءُ فِي تَحْرِيرِ قِبْلَتِهِ، فَاسْتَقَرَّ الْحَالُ فِي أَمْرِهَا عَلَى مَا قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، وَشَرَعُوا فِي بِنَائِهِ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ وَمُسَاعَدَتِهِ لِنَائِبِهِ فِي ذَلِكَ.
وَفِي صَفَرٍ هَذَا جَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ بِمَدِينَةِ بَعْلَبَكَّ، أَهْلَكَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، وَخَرَّبَ دُورًا وَعَمَائِرَ كَثِيرَةً، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَابِعِ عِشْرِينَ صَفَرٍ.
وَمُلَخَّصُ ذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَهُمْ قَبْلَهُ رَعْدٌ وَبَرْقٌ عَظِيمٌ، مَعَهُمَا مَطَرٌ وَبَرَدٌ، فَسَالَتِ الْأَوْدِيَةُ، ثُمَّ جَاءَهُمْ بَعْدَهُ سَيْلٌ هَائِلٌ خَسَفَ مِنْ سُورِ الْبَلَدِ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ بِشَرْقٍ مِقْدَارَ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، مَعَ أَنَّ سُمْكَ الْحَائِطِ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ، وَحَمَلَ بُرْجًا صَحِيحًا، وَمَعَهُ مِنْ جَانِبَيْهِ بَعْضُ بَدْنِيَّتَيْنِ، فَحَمَلَهُ كَمَا هُوَ حَتَّى مَرَّ فَحَفَرَ فِي

الْأَرْضِ نَحْوَ خَمْسِمِائَةِ ذِرَاعٍ، سِعَةَ ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا، وَحَمَلَ السَّيْلُ ذَلِكَ إِلَى غَرْبِيِّ الْبَلَدِ، لَا يَمُرُّ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا أَتْلَفَهُ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا، فَأَتْلَفَ مَا يَزِيدُ عَلَى ثُلُثِهَا، وَدَخَلَ الْجَامِعَ فَارْتَفَعَ فِيهِ عَلَى قَامَةٍ وَنِصْفٍ، ثُمَّ قَوِيَ عَلَى حَائِطِهِ الْغَرْبِيِّ فَأَخْرَبَهُ، وَأَتْلَفَ جَمِيعَ مَا فِيهِ مِنَ الْحَوَاصِلِ، وَالْكُتُبِ، وَالْمَصَاحِفِ، وَأَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ رِبَاعِ الْجَامِعِ، وَهَلَكَ تَحْتَ الْهَدْمِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ، وَالْأَطْفَالِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَغَرِقَ فِي الْجَامِعِ الشَّيْخُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الشَّيْخِ عَلِيٍّ الْحَرِيرِيِّ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَيُقَالُ: جُمْلَةُ مَنْ هَلَكَ بِالْغَرَقِ فِي هَذِهِ الْكَائِنَةِ مَنْ أَهْلِ بَعْلَبَكَّ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ نَفْسًا سِوَى الْغُرَبَاءِ، وَجُمْلَةُ الدُّورِ الَّتِي خَرَّبَهَا وَالْحَوَانِيتِ الَّتِي أَتْلَفَهَا نَحْوٌ مَنْ سِتِّمِائَةِ دَارٍ وَحَانُوتٍ، وَجُمْلَةُ الْبَسَاتِينِ الَّتِي جَرَفَ أَشْجَارَهَا عِشْرُونَ بُسْتَانًا، وَمِنَ الطَّوَاحِينِ ثَمَانِيَةٌ سِوَى الْجَامِعِ وَالْأَمِينِيَّةِ، وَأَمَّا الْأَمَاكِنُ الَّتِي دَخَلَهَا وَأَتْلَفَ مَا فِيهَا وَلَمْ تَخْرَبْ فَكَثِيرٌ جِدًّا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ زَادَ النِّيلُ زِيَادَةً عَظِيمَةً لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا مِنْ مُدَدٍ، وَغَرَّقَ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَهَلَكَ فِيهَا نَاسٌ كَثِيرٌ أَيْضًا، وَغَرَّقَ مُنْيَةَ الشِّيرَجِ، فَهَلَكَ لِلنَّاسِ فِيهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

وَفِي مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْآخِرِ جَلَسَ السُّلْطَانُ بُو سَعِيدِ بْنُ خَرْبَنْدَا عَلَى تَخْتِ الْمَمْلَكَةِ بِالْمَدِينَةِ السُّلْطَانِيَّةِ. وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا أَغَارَ جَيْشُ حَلَبَ عَلَى مَدِينَةِ آمِدَ، فَنَهَبُوا، وَسَبَوْا، وَعَادُوا سَالِمِينَ. وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ تَاسِعِ عِشْرِينَ مِنْهُ قَدِمَ قَاضِي الْمَالِكِيَّةِ إِلَى الشَّامِ مِنْ مِصْرَ، وَهُوَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَلَامَةَ الْإِسْكَنْدَرِيُّ الْمَالِكِيُّ عَلَى قَضَاءِ دِمَشْقَ، عِوَضًا عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالِ الدِّينِ الزَّوَاوِيِّ لِضَعْفِهِ، وَاشْتِدَادِ مَرَضِهِ، فَالْتَقَاهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بِالْجَامِعِ ثَانِي يَوْمِ وُصُولِهِ، وَهُوَ مُؤَرَّخٌ بِثَانِي عَشَرَ الشَّهْرِ، وَقَدِمَ نَائِبُهُ الْفَقِيهُ نُورُ الدِّينِ السَّخَاوِيُّ، وَدَرَّسَ بِالْجَامِعِ فِي مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْأُولَى، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْفُقَهَاءُ، وَالْأَعْيَانُ، وَالْقُضَاةُ، وَشُكِرَتْ فَضَائِلُهُ، وَعُلُومُهُ، وَنَزَاهَتُهُ، وَصَرَامَتُهُ، وَدِيَانَتُهُ، وَبَعْدَ ذَلِكَ بِتِسْعَةِ أَيَّامٍ تُوُفِّيَ الزَّوَاوِيُّ الْمَعْزُولُ، وَقَدْ بَاشَرَ الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ ثَلَاثِينَ سَنَةً.
وَفِيهِ أُفْرِجَ عَنِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بَهَادُرَآصْ مِنْ سِجْنِ الْكَرَكِ، وَحُمِلَ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَأَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ، وَكَانَ سِجْنُهُ بِهَا مُطَاوَعَةً لِإِشَارَةِ نَائِبِ الشَّامِ بِسَبَبِ مَا كَانَ وَقَعَ بَيْنَهُمَا بِمَلَطْيَةَ.
وَخَرَجَ الْمَحْمَلُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ تَاسِعِ شَوَّالٍ، وَأَمِيرُ الْحَجِّ سَيْفُ الدِّينِ كُجْكُنُ

الْمَنْصُورِيُّ. وَمِمَّنْ حَجَّ قَاضِي الْقُضَاةِ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ صَصْرَى، وَابْنُ أَخِيهِ شَرَفُ الدِّينِ، وَكَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشِّيرَازِيِّ، وَالْقَاضِي جَلَالُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ، وَالشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَخَلْقٌ.
وَفِي سَادِسِ هَذَا الشَّهْرِ دَرَّسَ بِالْجَارُوخِيَّةِ الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ كَمَالِ الدِّينِ الشَّرِيشِيِّ بَعْدَ وَفَاةِ الشَّيْخِ شَرَفِ الدِّينِ بْنِ سَلَّامٍ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْأَعْيَانُ. وَفِي التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْهُ دَرَّسَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ بِالْعَذْرَاوِيَّةِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ سَلَّامٍ. وَفِيهِ دَرَّسَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِالْحَنْبَلِيَّةِ عَنْ إِذَنِ أَخِيهِ لَهُ فِي ذَلِكَ، بَعْدَ وَفَاةِ أَخِيهِمَا لِأُمِّهِمَا بَدْرِ الدِّينِ قَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، ثُمَّ سَافَرَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ إِلَى الْحَجِّ، وَحَضَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ الدَّرْسَ بِنَفْسِهِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَعْيَانِ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى عَادَ أَخُوهُ وَبَعْدَ عَوْدِهِ أَيْضًا، وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّهُ قَدْ أُبْطِلَتِ الْخُمُورُ وَالْفَوَاحِشُ كُلُّهَا مِنْ بِلَادِ السَّوَاحِلِ، وَطَرَابُلُسَ، وَغَيْرِهَا، وَوُضِعَتْ مُكُوسٌ كَثِيرَةٌ عَنِ النَّاسِ هُنَالِكَ، وَبُنِيَتْ بِقُرَى النُّصَيْرِيَّةِ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مَسْجِدٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي بُكْرَةِ نَهَارِ الثُّلَاثَاءِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ وَصَلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ، شَيْخُ الْكُتَّابِ، شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْحَلَبِيُّ عَلَى الْبَرِيدِ مِنْ مِصْرَ إِلَى دِمَشْقَ مُتَوَلِّيًا كِتَابَةَ السِّرِّ بِهَا، عِوَضًا عَنْ شَرَفِ الدِّينِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ فَضْلِ اللَّهِ

تُوُفِّيَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ يَوْمَ الْأَحَدِ دَرَّسَ بِالصِّمْصَامِيَّةِ الَّتِي جُدِّدَتْ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَقَدْ وَقَفَ عَلَيْهَا الصَّاحِبُ شَمْسُ الدِّينِ غِبْرِيَالُ دَرْسًا، وَدَرَّسَ بِهَا فِقْهًا، وَعَيَّنَ تَدْرِيسَهَا لِنَائِبِ الْحُكْمِ الْفَقِيهِ نُورِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ النَّصِيرِ الْمَالِكِيِّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَمِمَّنْ حَضَرَ عِنْدَهُ: الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَكَانَ يَعْرِفُهُ مِنْ إِسْكَنْدَرِيَّةَ. وَفِيهِ دَرَّسَ بِالدَّخْوَارِيَّةِ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ الْكَحَّالُ، وَرُتِّبَ فِي رِيَاسَةِ الطِّبِّ عِوَضًا عَنْ أَمِينِ الدِّينِ سُلَيْمَانَ الطَّبِيبِ، بِمَرْسُومِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ تَنْكِزَ، وَاخْتَارَهُ لِذَلِكَ.
وَاتَّفَقَ أَنَّهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ تَجَمَّعَ جَمَاعَةٌ مِنَ التُّجَّارِ بِمَارِدِينَ، وَانْضَافَ إِلَيْهِمْ خَلْقٌ مِنَ الْجُفَالِ مِنَ الْغُلَا قَاصِدِينَ بِلَادَ الشَّامِ، فَسَارُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِمَرْحَلَتَيْنِ مِنْ رَأْسِ الْعَيْنِ لَحِقَهُمْ سِتُّونَ فَارِسًا مِنَ التَّتَارِ، فَمَالُوا عَلَيْهِمْ بِالنُّشَّابِ، وَقَتَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ سِوَى صِبْيَانِهِمْ نَحْوَ سَبْعِينَ صَبِيًّا، فَقَالُوا: مَنْ يَقْتُلُ هَؤُلَاءِ ؟ فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: أَنَا، بِشَرْطِ أَنْ تَنْفِلُونِي بِمَالٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَقَتَلَهُمْ كُلَّهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ قُتِلَ مِنَ التُّجَّارِ سِتَّمِائَةٍ، وَمِنَ الْجُفَالِ ثَلَاثَمِائَةٍ مِنَ

الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَرَدَمُوا بِمَوْتَاهُمْ خَمْسَ صَهَارِيجَ هُنَاكَ حَتَّى امْتَلَأَتْ بِهِمْ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنَ الْجَمِيعِ سِوَى رَجُلٍ وَاحِدٍ تُرْكُمَانِيٍّ هَرَبَ، وَجَاءَ إِلَى رَأْسِ الْعَيْنِ، فَأَخْبَرَ النَّاسَ بِمَا رَأَى وَشَاهَدَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ الْمُؤْلِمِ، فَاجْتَهَدَ مُتَسَلِّمُ دِيَارِ بَكْرٍ سُوتَايْ فِي طَلَبِ أُولَئِكَ التَّتَرِ حَتَّى أَهْلَكَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، لَا جَمَعَ اللَّهُ بِهِمْ شَمَلًا، وَلَا بِهِمْ مَرْحَبًا وَلَا أَهْلًا، آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

صِفَةُ خُرُوجِ الْمَهْدِيِّ الضَّالِّ بِأَرْضِ جَبَلَةَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَتِ النُّصَيْرِيَّةُ عَنِ الطَّاعَةِ، فَأَقَامُوا مِنْ بَيْنِهِمْ رَجُلًا سَمَّوْهُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ الْمَهْدِيَّ الْقَائِمَ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَتَارَةً يَدَّعِي أَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَتَارَةً يَدَّعِي أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ صَاحِبُ الْبِلَادِ، وَصَرَّحَ بِكُفْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ النُّصَيْرِيَّةَ عَلَى الْحَقِّ، وَاحْتَوَى هَذَا الرَّجُلُ عَلَى عُقُولِ كَثِيرٍ مِنْ كِبَارِ النُّصَيْرِيَّةِ الضُّلَّالِ، وَعَيَّنَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ تَقْدِمَةَ أَلْفٍ، وَبِلَادًا كَثِيرَةً، وَنِيَابَةَ قَلْعَةٍ، وَحَمَلُوا عَلَى مَدِينَةِ

جَبَلَةَ، فَدَخَلُوهَا، وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا، وَخَرَجُوا مِنْهَا يَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا عَلِيٌّ، وَلَا حِجَابَ إِلَّا مُحَمَّدٌ، وَلَا بَابَ إِلَّا سَلْمَانُ، وَسَبُّوا الشَّيْخَيْنِ، وَصَاحَ أَهْلُ الْبَلَدِ: وَاإِسْلَامَاهُ، وَاسُلْطَانَاهُ، وَاأَمِيرَاهُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ نَاصِرٌ وَلَا مُنْجِدٌ، وَجَعَلُوا يَبْكُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَجَمَعَ هَذَا الضَّالُّ تِلْكَ الْأَمْوَالَ فَقَسَّمَهَا عَلَى أَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ، وَقَالَ لَهُمْ: لَمْ يَبْقَ لِلْمُسْلِمِينَ ذِكْرٌ وَلَا دَوْلَةٌ، وَلَوْ لَمْ يَبْقَ مَعِي سِوَى عَشَرَةِ نَفَرٍ لَمَلِكْنَا الْبِلَادَ كُلَّهَا.
وَنَادَى فِي تِلْكَ الْبِلَادِ: إِنَّ الْمُقَاسَمَةَ بِالْعُشْرِ لَا غَيْرُ لِيُرَغِّبَ الْفَلَّاحِينَ فِيهِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِخَرَابِ الْمَسَاجِدِ، وَاتِّخَاذِهَا خَمَّارَاتٍ، وَكَانُوا يَقُولُونَ لِمَنْ أَسَرُوهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا عَلِيٌّ، وَاسْجُدْ لِإِلَهِكَ الْمَهْدِيِّ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ حَتَّى يَحْقِنَ دَمَكَ، وَيَكْتُبَ لَكَ فَرْمَانَ. وَتَجَهَّزُوا، وَعَمِلُوا أَمْرًا عَظِيمًا جِدًّا، فَجُرِّدَتْ إِلَيْهِمُ الْعَسَاكِرُ، فَهَزَمُوهُمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَجَمًّا غَفِيرًا، وَقُتِلَ الْمَهْدِيُّ الَّذِي أَضَلَّهُمْ، وَهُوَ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُقَدَّمَهُمْ وَهَادِيَهُمِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [ الْحَجِّ: 3، 4 ].
وَفِيهَا حَجَّ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ مُهَنَّا وَوَلَدُهُ سُلَيْمَانُ، فِي سِتَّةِ آلَافٍ، وَأَخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ مُهَنَّا بِأَحَدٍ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ وَلَا الشَّامِيِّينَ، وَقَدْ كَانَ فِي الْمِصْرِيِّينَ قِجْلِيسُ وَغَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ بِهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الشَّيْخُ الصَّالِحُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُبُنِّيُّ، كَانَ فَاضِلًا، وَكَتَبَ حَسَنًا، نَسَخَ " التَّنْبِيهَ "، وَ " الْعُمْدَةَ "، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَكَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَيُقَابِلُونَ مَعَهُ، وَيُصَحِّحُونَ عَلَيْهِ، وَيَجْلِسُونَ إِلَيْهِ عِنْدَ صُنْدُوقٍ كَانَ لَهُ بِالْجَامِعِ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ سَادِسَ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ، وَقَدْ صَحَّحْتُ عَلَيْهِ فِي " الْعُمْدَةِ " وَغَيْرِهِ.
الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ الرُّومِيُّ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَرَاغِيُّ، دَرَّسَ بِالْمُعِينِيَّةِ، وَأَمَّ بِمِحْرَابِ الْحَنَفِيَّةِ بِمَقْصُورَتِهِمُ الْغَرْبِيَّةِ، إِذْ كَانَ مِحْرَابُهُمْ هُنَاكَ، وَتَوَلَّى مَشْيَخَةَ الْخَاتُونِيَّةِ، وَكَانَ يَؤُمُّ بِنَائِبِ السُّلْطَانِ الْأَفْرَمِ، وَكَانَ يَقْرَأُ حَسَنًا بِصَوْتٍ مَلِيحٍ، وَكَانَتْ لَهُ مَكَانَةٌ عِنْدَهُ، وَرُبَّمَا رَاحَ إِلَيْهِ الْأَفْرَمُ مَاشِيًا حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ زَاوِيَتَهُ الَّتِي أَنْشَأَهَا بِالشَّرَفِ الشَّمَالِيِّ عَلَى الْمَيْدَانِ الْكَبِيرِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ بِالْمُحَرَّمِ وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ قَامَ وَلَدَاهُ عِمَادُ الدِّينِ وَشَرَفُ الدِّينِ فِي وَظَائِفِهِ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَدْلُ الْأَمِينُ، فَخْرُ الدِّينِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْوَفَا بْنِ نِعْمَةِ اللَّهِ الْأَعْزَازِيُّ، كَانَ ذَا ثَرْوَةٍ مِنَ الْمَالِ، كَثِيرَ الْمُرُوءَةِ وَالتِّلَاوَةِ، أَدَّى الْأَمَانَةَ فِي سِتِّينَ

أَلْفَ دِينَارٍ وَجَوَاهِرَ، حَيْثُ لَا يَعْلَمُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، بَعْدَ مَا مَاتَ صَاحِبُهَا مُجَرَّدًا فِي الْغَزَاةِ، وَهُوَ عِزُّ الدِّينِ الْجِرَاحِيُّ نَائِبُ غَزَّةَ، أَوْدَعَهُ إِيَّاهَا فَأَدَّاهَا إِلَى أَهْلِهَا، أَثَابَهُ اللَّهُ؛ وَلِهَذَا لَمَّا مَاتَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ - حَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَجْتَمِعُوا فِي مِثْلِهَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ سُومَرَ الزَّوَاوِيُّ، قَاضِي الْمَالِكِيَّةِ بِدِمَشْقَ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، قَدِمَ مِصْرَ مِنَ الْمَغْرِبِ، وَاشْتَغَلَ بِهَا، وَأَخَذَ عَنْ مَشَايِخِهَا مِنْهُمُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ قَاضِيًا فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ تَقْرِيبًا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَأَقَامَ شِعَارَ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَعَمَّرَ الصِّمْصَامِيَّةَ فِي أَيَّامِهِ، وَجَدَّدَ عِمَارَةَ النُّورِيَّةِ، وَحَدَّثَ بِ " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "، وَ " مُوَطَّأِ مَالِكٍ "، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، وَكِتَابِ " الشِّفَا " لِلْقَاضِي عِيَاضٍ، وَعُزِلَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعِشْرِينَ يَوْمًا عَنِ الْقَضَاءِ، وَهَذَا مِنْ خَيْرِهِ حَيْثُ لَمْ يَمُتْ قَاضِيًا، تُوُفِّيَ بِالْمَدْرَسَةِ الصِّمْصَامِيَّةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ التَّاسِعِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ،

وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ تُجَاهَ مَسْجِدِ النَّارَنْجِ، وَحَضَرَ النَّاسُ جِنَازَتَهُ، وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ كَمَالِكٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَمْ يَبْلُغْ إِلَى سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِهِ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِهِ أَيْضًا.
الْقَاضِي الصَّدْرُ الرَّئِيسُ، رَئِيسُ الْكُتَّابِ، شَرَفُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ جَمَالِ الدِّينِ فَضْلِ اللَّهِ بْنِ مُجَلِّي الْقُرَشِيُّ، الْعَدَوِيُّ، الْعُمَرِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَخَدَمَ، وَارْتَفَعَتْ مَنْزِلَتُهُ حَتَّى كَتَبَ الْإِنْشَاءَ بِمِصْرَ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى كِتَابَةِ السِّرِّ بِدِمَشْقَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي ثَامِنِ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بَقَاسِيُونَ، وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ وَهُوَ مُمَتَّعٌ بِحَوَاسِّهِ وَقُوَاهُ، وَكَانَتْ لَهُ عَقِيدَةٌ حَسَنَةٌ فِي الْعُلَمَاءِ، وَلَا سِيَّمَا فِي ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَفِي الصُّلَحَاءِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ رَثَاهُ الشِّهَابُ مَحْمُودٌ كَاتِبُ السِّرِّ بَعْدَهُ بِدِمَشْقَ، وَعَلَاءُ الدِّينِ بْنُ غَانِمٍ، وَجَمَالُ الدِّينِ بْنُ نُبَاتَةَ.
الْفَقِيهُ الْإِمَامُ، الْعَالَمُ الْمُنَاظِرُ، شَرَفُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ الْإِمَامِ

كَمَالِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ سَلَّامٍ الدِّمَشْقِيُّ الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ، وَبَرَعَ، وَحَصَّلَ، وَدَرَسَ بِالْجَارُوخِيَّةِ، وَالْعَذْرَاوِيَّةِ، وَأَعَادَ بِالظَّاهِرِيَّةِ، وَأَفْتَى بِدَارِ الْعَدْلِ، وَكَانَ وَاسِعَ الصَّدْرِ، كَثِيرَ الْهِمَّةِ، كَرِيمَ النَّفْسِ، مَشْكُورًا فِي فَهْمِهِ، وَخَطِّهِ، وَحِفْظِهِ، وَفَصَاحَتِهِ، وَمُنَاظَرَتِهِ، تُوُفِّيَ فِي رَابِعِ عِشْرِينَ رَمَضَانَ، وَتَرَكَ أَوْلَادًا، وَدَيْنًا كَثِيرًا، فَوَفَّتْهُ عَنْهُ زَوْجَتُهُ بِنْتُ زُوَيْزَانَ، تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهَا، وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا.
الصَّاحِبُ أَنِيسُ الْمُلُوكِ، بَدْرُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِرْبَلِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ بِالْأَدَبِ فَحَصَلَ عَلَى جَانِبٍ جَيِّدٍ مِنْهُ، وَارْتَزَقَ عِنْدَ الْمُلُوكِ بِهِ، فَمِنْ رَقِيقِ شِعْرِهِ مَا أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ فِي تَرْجَمَتِهِ قَوْلُهُ:
وَمُدَامَةٍ حَمْرَاءَ تُشْ بِهُ خَدَّ مَنْ أَهْوَى وَدَمْعِي يَسْعَى بِهِ قَمَرٌ أَعَزُّ
عَلَيَّ مِنْ نَظَرِي وَسَمْعِي
وَقَوْلُهُ فِي مُغَنِّيَةٍ:
وَغَرِيرَةٍ هَيْفَاءَ نَاعِمَةِ السَّنَا طَوْعِ الْعِنَاقِ مَرِيضَةِ الْأَجْفَانِ
غَنَّتْ وَمَاسَ قِوامُهَا فَكَأَنَّهَا الْ وَرْقَاءُ تَسْجَعُ فَوْقَ غُصْنِ الْبَانِ

الصَّدْرُ الرَّئِيسُ، شَرَفُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ جَمَالِ الدِّينِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ شَرَفِ الدِّينِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَمِينِ الدِّينِ سَالِمِ بْنِ الْحَافِظِ بَهَاءِ الدِّينِ الْحَسَنِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ مَحْفُوظِ بْنِ صَصْرَى، بَاشَرَ عِدَّةَ جِهَاتٍ، وَخَرَجَ مَعَ خَالِهِ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنِ صَصْرَى إِلَى الْحِجَازِ الشَّرِيفِ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَرَدَى اعْتَرَاهُ مَرَضٌ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى مَاتَ، تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ مُلَبٍّ، فَشَهِدَ النَّاسُ جِنَازَتَهُ، وَغَبَطُوهُ بِهَذِهِ الْمَوْتَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرَ النَّهَارِ سَابِعِ ذِي الْحِجَّةِ، وَدُفِنَ ضُحَى يَوْمِ السَّبْتِ بِمَقْبَرَةِ الْحَجُونِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ
الْخَلِيفَةُ وَالسُّلْطَانُ هُمَا هُمَا، وَكَذَلِكَ النُّوَّابُ وَالْقُضَاةُ، سِوَى الْمَالِكِيِّ بِدِمَشْقَ، فَإِنَّهُ الْعَلَّامَةُ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ سَلَامَةَ، بَعْدَ الْقَاضِي جَمَالِ الدِّينِ الزَّوَاوِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَوَصَلَتِ الْأَخْبَارُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَبِلَادِ الشَّرْقِ: سِنْجَارَ، وَالْمَوْصِلَ، وَمَارِدِينَ، وَتِلْكَ النَّوَاحِي بِغَلَاءٍ عَظِيمٍ، وَفِنَاءٍ شَدِيدٍ، وَقِلَّةِ الْأَمْطَارِ، وَجَوْرِ التَّتَارِ، وَعَدَمِ الْأَقْوَاتِ، وَغَلَاءِ الْأَسْعَارِ، وَقِلَّةِ النَّفَقَاتِ، وَزَوَالِ النِّعَمِ، وَحُلُولِ النِّقَمِ، بِحَيْثُ إِنَّهُمْ أَكَلُوا مَا وَجَدُوهُ مِنَ الْجَمَادَاتِ، وَالْحَيَوَانَاتِ، وَالْمَيْتَاتِ، وَبَاعُوا حَتَّى أَوْلَادَهُمْ وَأَهَالِيَهُمْ، فَبِيعَ الْوَلَدُ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ كَانُوا لَا يَشْتَرُونَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ تَأَثُّمًا، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُصَرِّحُ بِأَنَّهَا نَصْرَانِيَّةٌ، لِيُشْتَرَى مِنْهَا وَلَدُهَا لِتَنْتَفِعَ بِثَمَنِهِ، وَيَحْصُلَ لَهَا مَنْ يُطْعِمُهُ فَيَعِيشُ، وَتَأْمَنَ عَلَيْهِ مِنَ الْهَلَاكِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَجَرَتْ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ أَحْوَالٌ صَعْبَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَتَنْبُو الْأَسْمَاعُ عَنْ وَصْفِهَا، وَقَدْ تَرَحَّلَتْ مِنْهُمْ فَرْقَةٌ قَرِيبُ الْأَرْبَعِمِائَةِ إِلَى نَاحِيَةِ مَرَاغَةَ، فَسَقَطَ عَلَيْهِمْ ثَلْجٌ أَهْلَكَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَصَحِبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فِرْقَةً مِنَ التَّتَارِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى

عَقَبَةٍ صَعِدَهَا التَّتَارُ، ثُمَّ مَنَعُوهُمْ أَنْ يَصْعَدُوهَا لِئَلَّا يَتَكَلَّفُوا بِهِمْ، فَمَاتُوا عَنْ آخِرِهِمْ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
وَفِي بُكْرَةِ الِاثْنَيْنِ السَّابِعِ مِنْ صَفَرٍ قَدِمَ الْقَاضِي كَرِيمُ الدِّينِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْعَلَمِ هِبَةِ اللَّهِ وَكِيلُ الْخَاصِّ السُّلْطَانِيِّ بِالْبِلَادِ جَمِيعِهَا - قَدِمَ إِلَى دِمَشْقَ فَنَزَلَ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ جَامِعِ الْقُبَيْبَاتِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: جَامِعُ كَرِيمِ الدِّينِ. وَرَاحَ لِزِيَارَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَتَصَدَّقَ بِصَدَقَاتٍ كَثِيرَةٍ وَافِرَةٍ، وَشَرَعَ فِي بِنَاءِ جَامِعِهِ بَعْدَ سَفَرِهِ.
وَفِي ثَانِي صَفَرٍ جَاءَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ بِبِلَادِ طَرَابُلُسَ عَلَى بُيُوتِ مُقَدَّمِ تُرْكُمَانَ، فَأَهْلَكَتْ لَهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْتِعَةِ، وَقَتَلَتْ أَمِيرًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: طَرَالِي، وَزَوْجَتَهُ، وَابْنَيْهِ، وَابْنَيِ ابْنَيْهِ، وَجَارِيَتَهُ، وَأَحَدَ عَشَرَ نَفْسًا، وَقَتَلَتْ جِمَالًا كَثِيرَةً وَغَيْرَهَا، وَكَسَرَتِ الْأَمْتِعَةَ وَالْأَثَاثَ، وَكَانَتْ تَرْفَعُ الْبَعِيرَ فِي الْهَوَاءِ مِقْدَارَ عَشَرَةِ أَرْمَاحٍ، ثُمَّ تُلْقِيهِ مُقَطَّعًا، ثُمَّ سَقَطَ بَعْدَ ذَلِكَ مَطَرٌ شَدِيدٌ، وَبَرَدٌ عَظِيمٌ، بِحَيْثُ أَتْلَفَ زُرُوعًا كَثِيرَةً فِي قُرًى عَدِيدَةٍ نَحْوٍ مَنْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ قَرْيَةً، حَتَّى إِنَّهَا لَا تُرَّدُ بِدَارِهَا.
وَفِي صَفَرٍ أُخْرِجَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طُغَاي الْخَاصِكِيُّ إِلَى نِيَابَةِ صَفَدَ، فَأُقِيمَ

بِهَا شَهْرَيْنِ، ثُمَّ مُسِكَ، وَالصَّاحِبُ أَمِينُ الْمُلْكِ إِلَى نَظَرِ الدَّوَاوِينِ بِطَرَابُلُسَ عَلَى مَعْلُومٍ وَافِرٍ.
قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ: وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ مُنْتَصَفِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ اجْتَمَعَ قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مُسَلَّمٍ بِالشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِتَرْكِ الْإِفْتَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، فَقَبِلَ الشَّيْخُ نَصِيحَتَهُ، وَأَجَابَ إِلَى مَا أَشَارَ بِهِ رِعَايَةً لِخَاطِرِهِ وَخَوَاطِرِ الْجَمَاعَةِ الْمُفْتِينَ، ثُمَّ وَرَدَ الْبَرِيدُ فِي مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْأُولَى بِكِتَابٍ مِنَ السُّلْطَانِ فِيهِ مَنْعُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ مِنَ الْإِفْتَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، وَعُقِدَ فِي ذَلِكَ مَجْلِسٌ، وَانْفَصَلَ الْحَالُ عَلَى مَا رَسَمَ بِهِ السُّلْطَانُ، وَنُودِيَ بِهِ فِي الْبَلَدِ، وَكَانَ قَبْلَ قُدُومِ الْمَرْسُومِ قَدِ اجْتَمَعَ بِالْقَاضِي ابْنِ مُسَلَّمٍ الْحَنْبَلِيِّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفْتِينَ الْكِبَارِ، وَقَالُوا لَهُ أَنْ يَنْصَحَ الشَّيْخَ فِي تَرْكِ الْإِفْتَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ، فَعَلِمَ الشَّيْخُ نَصِيحَتَهُ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ تَرْكَ ثَوَرَانِ فِتْنَةٍ وَشَرٍّ.
وَفِي عَاشِرِهِ جَاءَ الْبَرِيدُ إِلَى صَفَدَ بِمَسْكِ سَيْفِ الدِّينِ طُغَايْ، وَتَوْلِيَةِ بَدْرِ الدِّينِ الْقَرَمَانِيِّ نِيَابَةَ حِمْصَ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ كَانَ مَقْتَلُ رَشِيدِ الدَّوْلَةِ فَضْلِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْخَيْرِ بْنِ عَالِي الْهَمَذَانِيِّ، كَانَ أَصْلُهُ يَهُودِيًّا عَطَّارًا، فَتَقَدَّمَ بِالطِّبِّ، وَشَمِلَتْهُ السَّعَادَةُ حَتَّى صَارَ عِنْدَ خَرْبَنْدَا الْجُزْءَ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ، وَعَلَتْ رُتْبَتُهُ وَكَلِمَتُهُ، وَتَوَلَّى مَنَاصِبَ الْوُزَرَاءِ، وَحَصَلَ لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَالْأَمْلَاكِ، وَالسَّعَادَةِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، وَكَانَ قَدْ أَظْهَرَ

الْإِسْلَامَ، وَكَانَتْ لَدَيْهِ فَضَائِلُ جَمَّةٌ، وَقَدْ فَسَّرَ الْقُرْآنَ، وَصَنَّفَ كُتُبًا كَثِيرَةً، وَكَانَ لَهُ أَوْلَادٌ وَثَرْوَةٌ عَظِيمَةٌ، وَبَلَغَ الثَّمَانِينَ مِنَ الْعُمْرِ، وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ جَيِّدَةٌ يَوْمَ الرَّحْبَةِ، فَإِنَّهُ صَانَعَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَتْقَنَ الْقَضِيَّةَ فِي رُجُوعِ مَلِكِ التَّتَرِ عَنِ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ سَنَةَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ يُنَاصِحُ الْإِسْلَامَ، وَلَكِنْ قَدْ نَالَ مِنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَاتَّهَمُوهُ عَلَى الدِّينِ، وَتَكَلَّمُوا فِي تَفْسِيرِهِ هَذَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ مُخَبِّطًا مُخَلِّطًا، وَلَيْسَ لَدَيْهِ عِلْمٌ نَافِعٌ، وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ. وَلَمَّا تَوَلَّى بُو سَعِيدٍ الْمَمْلَكَةَ عَزَلَهُ، وَبَقِيَ مُدَّةً خَامِلًا، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ جُوبَانُ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ سَقَيْتَ السُّلْطَانَ خَرْبَنْدَا سُمًّا؟ فَقَالَ لَهُ: أَنَا كُنْتُ فِي غَايَةِ الْحَقَارَةِ وَالذِّلَّةِ، فَصِرْتُ فِي أَيَّامِهِ وَأَيَّامِ أَبِيهِ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ وَالْعِزَّةِ، فَكَيْفَ أَعْمَدُ إِلَى سَقْيِهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ! فَأُحْضِرَتِ الْأَطِبَّاءُ، فَذَكَرُوا صُورَةَ مَرَضِ خَرْبَنْدَا وَصِفَتَهُ، وَأَنَّ الرَّشِيدَ أَشَارَ بِإِسْهَالِهِ لِمَا عِنْدَهُ فِي بَاطِنِهِ مِنَ الْحَوَاصِلِ، فَانْطَلَقَ بَاطِنُهُ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ مَجْلِسًا، فَمَاتَ، فَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي الطِّبِّ، فَقَالَ: فَأَنْتَ إِذًا قَتَلْتَهُ، فَقَتَلَهُ وَوَلَدَهُ إِبْرَاهِيمَ، وَاحْتِيطَ عَلَى حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ، فَبَلَغَتْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَقُطِّعَتْ أَعْضَاؤُهُ، وَحُمِلَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا إِلَى بَلْدَةٍ، وَنُودِيَ عَلَى رَأْسِهِ بِتِبْرِيزَ: هَذَا رَأْسُ الْيَهُودِيِّ الَّذِي بَدَّلَ كَلَامَ اللَّهِ، لَعَنَهُ اللَّهُ. ثُمَّ أُحْرِقَتْ جُثَّتُهُ، وَكَانَ الْقَائِمُ عَلَيْهِ عَلِيَّ شَاهْ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ - أَعْنِي: جُمَادَى الْأُولَى - تَوَلَّى قَضَاءَ الْمَالِكِيَّةِ بِمِصْرَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ الْأَخْنَائِيُّ عِوَضًا عَنْ زَيْنِ الدِّينِ بْنِ مَخْلُوفٍ، تُوُفِّيَ

عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَلَهُ فِي الْحُكْمِ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ عَاشِرِ رَجَبٍ لَبِسَ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ الْمَلِكِ الْأَوْحَدِ خِلْعَةَ الْإِمْرَةِ بِمَرْسُومِ السُّلْطَانِ. وَفِي آخِرِ رَجَبٍ جَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ بِظَاهِرِ حِمْصَ، خَرَّبَ شَيْئًا يَسِيرًا، وَجَاءَ إِلَى الْبَلَدِ لِيَدْخُلَهَا، فَمَنَعَهُ الْخَنْدَقُ.
وَفِي شَعْبَانَ تَكَامَلَ بِنَاءُ الْجَامِعِ الَّذِي عَمَرَهُ تَنْكِزُ ظَاهِرَ بَابِ النَّصْرِ، وَأُقِيمَتِ الْجُمُعَةُ فِيهِ يَوْمَ عَاشِرِ شَعْبَانَ، وَخَطَبَ فِيهِ الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ بْنِ يَحْيَى الْحَنَفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْقَحْفَازِيِّ، مِنْ مَشَاهِيرِ الْفُضَلَاءِ ذَوِي الْفُنُونِ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ، وَالْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ، وَالْقُرَّاءُ، وَالْمُنْشِدُونَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا خَطَبَ بِجَامِعِ الْقُبَيْبَاتِ الَّذِي أَنْشَأَهُ كَرِيمُ الدِّينِ وَكِيلُ السُّلْطَانِ، وَحَضَرَ فِيهِ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَخَطَبَ فِيهِ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ الْوَزِيرِ الْحَرَّانِيُّ الْأَسَدِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وَهُوَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْكِبَارِ، ذَوِي الزَّهَادَةِ، وَالْعِبَادَةِ، وَالنُّسُكِ، وَالتَّوَجُّهِ، وَطِيبِ الصَّوْتِ، وَحُسْنِ السَّمْتِ.
وَفِي حَادِي عَشَرَ رَمَضَانَ خَرَجَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ النَّقِيبِ إِلَى حِمْصَ حَاكِمًا بِهَا، مَطْلُوبًا مَسْئُولًا، مَرْغُوبًا فِيهِ، وَخَرَجَ النَّاسُ لِتَوْدِيعِهِ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ حَصَلَ سَيْلٌ عَظِيمٌ بِسَلَمْيَةَ، وَمِثْلُهُ بِالشَّوْبَكِ.
وَخَرَجَ الْمَحْمَلُ فِي شَوَّالٍ وَأَمِيرُ الرَّكْبِ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ

مَعْبَدٍ وَالِي الْبَرِّ، وَقَاضِيهِ زَيْنُ الدِّينِ بْنُ قَاضِي الْخَلِيلِ الْحَاكِمِ بِحَلَبَ.
وَمِمَّنْ حَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ: الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ، وَكَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّرِيشِيِّ وَوَلَدُهُ، وَبَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْعَطَّارِ.
وَفِي الْحَادِي عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ انْتَقَلَ الْأَمِيرُ فَخْرُ الدِّينِ أَيَاسٌ الْأَعْسَرِيُّ مِنْ شَدِّ الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ إِلَى طَرَابُلُسَ أَمِيرًا. وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أُقِيمَتِ الْجُمُعَةُ فِي الْجَامِعِ الَّذِي أَنْشَأَهُ الصَّاحِبُ شَمْسُ الدِّينِ غِبْرِيَالُ - نَاظِرُ الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ - خَارِجَ بَابِ شَرْقِيٍّ، إِلَى جَانِبِ ضِرَارِ بْنِ الْأَزْوَرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِالْقُرْبِ مِنْ مَحَلَّةِ الْقَعَاطِلَةِ، وَخَطَبَ فِيهِ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ التَّدْمُرِيِّ، الْمَعْرُوفُ بِالْنَّيْرَبَانِيِّ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ ذَوِي الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَحَضَرَهُ الصَّاحِبُ الْمَذْكُورُ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ بَاشَرَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الذَّهَبِيُّ - الْمُحَدِّثُ الْحَافِظُ - مَشْيَخَةَ الْحَدِيثِ بِتُرْبَةِ أَمِّ الصَّالِحِ عِوَضًا عَنْ كَمَالِ الدِّينِ بْنِ الشَّرِيشِيِّ، تُوُفِّيَ بِطَرِيقِ الْحَجِّ فِي شَوَّالٍ، وَقَدْ كَانَ لَهُ فِي مَشْيَخَتِهَا ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَحَضَرَ عِنْدَ الذَّهَبِيِّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُضَاةِ.

وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ صَبِيحَةَ هَذَا الدَّرْسِ أُحْضِرَ الْفَقِيهُ زَيْنُ الدِّينِ بْنُ عُبَيْدَانَ الْحَنْبَلِيُّ مِنْ بَعْلَبَكَّ، وَحُوقِقَ عَلَى مَنَامٍ رَآهُ، زَعَمَ أَنَّهُ رَآهُ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، وَفِيهِ تَخْلِيطٌ وَتَخْبِيطٌ، وَكَلَامٌ كَثِيرٌ لَا يَصْدُرُ عَنْ مُسْتَقِيمِ الْمِزَاجِ، كَانَ كَتَبَهُ بِخَطِّهِ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَاسْتَسْلَمَهُ الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ، وَحَقَنَ دَمَهُ، وَعَزَّرَهُ، وَنُودِيَ عَلَيْهِ فِي الْبَلَدِ، وَمُنِعَ مِنَ الْفَتْوَى وَعُقُودِ الْأَنْكِحَةِ، ثُمَّ أُطْلِقَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ بُكْرَةً بَاشَرَ بَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ بَصْخَانَ مَشْيَخَةَ الْإِقْرَاءِ بِتُرْبَةِ أَمِّ الصَّالِحِ عِوَضًا عَنِ الشَّيْخِ مَجْدِ الدِّينِ التُّونِسِيِّ، تُوُفِّيَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْأَعْيَانُ وَالْفُضَلَاءُ، وَقَدْ حَضَرْتُهُ يَوْمَئِذٍ، وَقَبْلَ ذَلِكَ بَاشَرَ مَشْيَخَةَ الْإِقْرَاءِ بِالْأَشْرَفِيَّةِ عِوَضًا عَنَ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ خَرُوفٍ الْمَوْصِلِيِّ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَالِثِ عِشْرِينَ ذِي الْحِجَّةِ بَاشَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ، الْعَلَّامَةُ الْحَافِظُ الْحُجَّةُ، شَيْخُنَا وَمُفِيدُنَا، أَبُو الْحَجَّاجِ يُوسُفُ بْنُ الزَّكِيِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يُوسُفَ الْمِزِّيُّ - مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ عِوَضًا عَنْ كَمَالِ الدِّينِ بْنِ الشَّرِيشِيِّ، وَلَمْ يَحْضُرْ عِنْدَهُ كَبِيرُ أَحَدٍ لِمَا فِي نُفُوسِ بَعْضِ النَّاسِ مِنْ وِلَايَتِهِ لِذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَلَّهَا أَحَدٌ قَبْلَهُ أَحَقُّ بِهَا مِنْهُ، وَلَا أَحْفَظُ مِنْهُ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْهُمْ إِذْ لَمْ يَحْضُرُوا عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُوحِشُهُ إِلَّا حُضُورُهُمْ عِنْدَهُ، وَبُعْدُهُمْ عَنْهُ أُنْسٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الشَّيْخُ الصَّالِحُ، الْعَابِدُ النَّاسِكُ، الْوَرِعُ الزَّاهِدُ الْقُدْوَةُ، بَقِيَّةُ السَّلَفِ وَقُدْوَةُ الْخَلَفِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ الصَّالِحِ عُمَرَ بْنِ السَّيِّدِ الْقُدْوَةِ النَّاسِكِ الْكَبِيرِ الْعَارِفِ أَبِي بَكْرِ بْنِ قَوَامِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ قَوَامٍ الْبَالِسِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِبَالِسَ، وَسَمِعَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ طَبَرْزَدَ، وَكَانَ شَيْخًا جَلِيلًا بَشُوشَ الْوَجْهِ، حَسَنَ السَّمْتِ، مَقْصِدًا لِكُلِّ أَحَدٍ، كَثِيرَ الْوَقَارِ، عَلَيْهِ سِيمَا الْعِبَادَةِ وَالْخَيْرِ، وَكَانَ يَوْمَ قَازَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ كَانَ مَعَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ لَمَّا تَكَلَّمَ مَعَ قَازَانَ، فَحَكَى عَنْ كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ تَقِيِّ الدِّينِ لِقَازَانَ وَشَجَاعَتِهِ، وَجُرْأَتِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لِقَازانِ: أَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ مُسْلِمٌ وَمَعَكَ مُؤَذِّنُونَ، وَقَاضٍ، وَإِمَامٌ، وَشَيْخٌ، عَلَى مَا بَلَغَنَا، فَغَزَوْتَنَا، وَدَخَلْتَ بِلَادَنَا عَلَى مَاذَا ؟ وَأَبُوكَ وَجَدُّكَ هُولَاكُو كَانَا كَافِرَيْنِ، وَمَا غَزَوَا بِلَادَ الْإِسْلَامِ، بَلْ عَاهَدَا فَوَفَّيَا، وَأَنْتَ عَاهَدْتَ فَغَدَرْتَ، وَقُلْتَ فَمَا وَفَّيْتَ. قَالَ: وَجَرَتْ لَهُ مَعَ قَازَانَ، وَقُطْلُوشَاهْ، وَبُولَايْ، أُمُورٌ وَنُوَبٌ، قَامَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِيهَا كُلِّهَا لِلَّهِ، وَقَالَ الْحَقَّ، وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: وَقُرِّبَ إِلَى الْجَمَاعَةِ طَعَامٌ فَأَكَلُوا مِنْهُ إِلَّا ابْنَ تَيْمِيَّةَ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَأْكُلُ؟ فَقَالَ: كَيْفَ آكُلُ مِنْ طَعَامِكُمْ وَكُلُّهُ مِمَّا نَهَبْتُمْ مِنْ أَغْنَامِ النَّاسِ، وَطَبَخْتُمُوهُ بِمَا قَطَعْتُمْ مِنْ أَشْجَارِ النَّاسِ ؟ قَالَ: ثُمَّ إِنَّ قَازَانَ طَلَبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ،

فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا مَحْمُودٌ إِنَّمَا يُقَاتِلُ لِتَكُونَ كَلِمَتُكَ هِيَ الْعُلْيَا، وَلِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لَكَ - فَانْصُرْهُ، وَأَيِّدْهُ، وَمَلِّكْهُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَطَلَبًا لِلدُّنْيَا، وَلِتَكُونَ كَلِمَتُهُ هِيَ الْعُلْيَا، وَلِيُذِلَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، فَاخْذُلْهُ، وَزَلْزِلْهُ، وَدَمِّرْهُ، وَاقْطَعْ دَابِرَهُ. قَالَ: وَقَازَانُ يُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ. قَالَ: فَجَعَلْنَا نَجْمَعُ ثِيَابَنَا خَوْفًا مِنْ أَنْ تَتَلَوَّثَ بِدَمِهِ إِذَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ. قَالَ: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ لَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ نَجْمُ الدِّينِ ابْنُ صَصْرَى وَغَيْرُهُ: كِدْتَ أَنْ تُهْلِكَنَا، وَتُهْلِكَ نَفْسَكَ، وَاللَّهِ لَا نَصْحَبُكَ مِنْ هُنَا. فَقَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَا أَصْحَبُكُمْ. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا عُصْبَةً، وَتَأَخَّرَ هُوَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَتَسَامَعَتْ بِهِ الْخَوَاتِينُ وَالْأُمَرَاءُ مِنْ أَصْحَابِ قَازَانَ، فَأَتَوْهُ يَتَبَرَّكُونَ بِدُعَائِهِ، وَهُوَ سَائِرٌ إِلَى دِمَشْقَ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ إِلَّا فِي نَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ فِي رِكَابِهِ، وَكُنْتُ أَنَا مِنْ جُمْلَةِ مَنْ كَانَ مَعَهُ، وَأَمَّا أُولَئِكَ الَّذِينَ أَبَوْا أَنْ يَصْحَبُوهُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّتَرِ، فَشَلَّحُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ. هَذَا الْكَلَامُ أَوْ نَحْوُهُ. وَقَدْ سَمِعْتُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ مِنْ جَمَاعَةٍ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
تُوُفِّيَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ قَوَامٍ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ بِالزَّاوِيَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِهِمْ غَرْبِيَّ الصَّالِحِيَّةِ وَالنَّاصِرِيَّةِ وَالْعَادِلِيَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِهَا، وَدُفِنَ فِيهَا، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ وَدَفَنَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْجَمْعِ الشَّيْخُ تَقِيُّ

الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّهُ كَثِيرًا، وَلَمْ يَكُنْ لِلشَّيْخِ مُحَمَّدٍ مُرَتَّبٌ عَلَى الدَّوْلَةِ، وَلَا لِزَاوِيَتِهِ مُرَتَّبٌ وَلَا وَقْفٌ، وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَكَانَ يُزَارُ، وَكَانَ لَدَيْهِ عِلْمٌ وَفَضَائِلُ جَمَّةٌ، وَكَانَ فَهْمُهُ صَحِيحًا، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ، وَكَانَ حَسَنَ الْعَقِيدَةِ، وَطَوِيَّتُهُ صَحِيحَةٌ، وَكَانَ مُحِبًّا لِلْحَدِيثِ وَآثَارِ السَّلَفِ، كَثِيرَ التِّلَاوَةِ وَالْجَمْعِيَّةِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ صَنَّفَ جُزْءًا فِيهِ أَخْبَارٌ جَيِّدَةٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَبَلَّ ثَرَاهُ بِوَابِلِ الرَّحْمَةِ، آمِينَ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ، الْأَدِيبُ الْبَارِعُ، الشَّاعِرُ الْمُجِيدُ، تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الشَّيْخِ أَحْمَدَ بْنِ تَمَّامِ بْنِ حَسَّانَ التَّلِّيُّ ثُمَّ الصَّالِحِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، أَخُو الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ تَمَّامٍ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَصَحِبَ الْفُضَلَاءَ، وَكَانَ حَسَنَ الشَّكْلِ وَالْخُلُقِ، طَيِّبَ النَّفْسِ، مَلِيحَ الْمُجَاوَرَةِ وَالْمُجَالَسَةِ، كَثِيرَ الْمُفَاكَهَةِ، أَقَامَ مُدَّةً بِالْحِجَازِ، وَاجْتَمَعَ بِابْنِ سَبْعِينَ وَبِالتَّقِيِّ الْحَوْرَانِيِّ، وَأَخَذَ النَّحْوَ عَنِ ابْنِ مَالِكٍ، وَابْنِهِ بَدْرِ الدِّينِ، وَصَحِبَهُ مُدَّةً، وَقَدْ صَحِبَهُ الشِّهَابُ مَحْمُودٌ مُدَّةَ خَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ بِالزُّهْدِ وَالْفَرَاغِ مِنَ الدُّنْيَا، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ السَّبْتِ الثَّالِثِ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ،

وَدُفِنَ بِالسَّفْحِ، وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ قِطْعَةً مِنْ شِعْرِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
أَسُكَّانَ الْمَعَاهِدِ مِنْ فُؤَادِي لَكُمْ فِي خَافِقٍ مِنْهُ سُكُونُ أُكَرِّرُ فِيكُمُ أَبَدًا حَدِيثِي
فَيَحْلُو وَالْحَدِيثُ لَهُ شُجُونُ وَأَنْظِمُهُ عُقُودًا مِنْ دُمُوعِي
فَتَنْثُرُهُ الْمَحَاجِرُ وَالْجُفُونُ وَأَبْتَكِرُ الْمَعَانِي فِي هَوَاكُمْ
وَفِيكُمْ كُلُّ قَافِيَةٍ تَهُونُ وَأَسْأَلُ عَنْكُمُ الْبَاكِينَ سِرًّا
وَسِرُّ هَوَاكُمُ سِرٌّ مَصُونُ وَأَعْتَبِقُ النَّسِيمَ؛ لِأَنَّ فِيهِ
شَمَائَلَ مِنْ مَعَاطِفِكُمْ تَبِينُ فَكَمْ لِي فِي مَحَبَّتِكُمْ غَرَامٌ
وَكَمْ لِي فِي الْغَرَامِ بِكُمْ فُنُونُ

قَاضِي الْقُضَاةِ زَيْنُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ مَخْلُوفِ بْنِ نَاهَضِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ مُنْعِمِ

بْنِ خَلَفٍ النُّوَيْرِيُّ الْمَالِكِيُّ، الْحَاكِمُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ، وَحَصَّلَ، وَوَلِيَ الْحُكْمَ بَعْدَ ابْنِ شَاسٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ، وَطَالَتْ أَيَّامُهُ إِلَى هَذَا الْعَامِ، وَكَانَ غَزِيرَ الْمُرُوءَةِ وَالِاحْتِمَالِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْفُقَهَاءِ وَالشُّهُودِ وَمَنْ يَقْصِدُهُ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ حَادِيَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ الْمُقَطَّمِ بِمِصْرَ، وَتَوَلَّى الْحُكْمَ بَعْدَهُ بِمِصْرَ تَقِيُّ الدِّينِ الْأَخْنَائِيُّ الْمَالِكِيُّ.
الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْعَلَاءِ الْمُقْرِئُ الصَّيِّتُ الْمَشْهُورُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ شَعْلَانَ، وَكَانَ رَجُلًا جَيِّدًا فِي شُهُودِ الْمِسْمَارِيَّةِ، وَيُقْصَدُ لِلْخَتَمَاتِ لِطِيبِ صَوْتِهِ، تُوُفِّيَ وَهُوَ كَهْلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَالِثَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الزَّاهِدُ أَبُو الْوَلِيدِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنِ خَلَفِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عِيسَى بْنِ الْحَاجِّ التُّجِيبِيُّ الْقُرْطُبِيُّ ثُمَّ الْإِشْبِيلِيُّ، وُلِدَ بِإِشْبِيلِيَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ

وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُهُ بَيْتَ الْعِلْمِ وَالْخَطَابَةِ وَالْقَضَاءِ بِمَدِينَةِ قُرْطُبَةَ، فَلَمَّا أَخَذَهَا الْفِرَنْجُ انْتَقَلُوا إِلَى إِشْبِيلِيَةَ، وَتَمَحَّقَتْ أَمْوَالُهُمْ وَكُتُبُهُمْ، وَصَادَرَ ابْنُ الْأَحْمَرِ جَدَّهُ الْقَاضِيَ بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمَاتَ أَبُوهُ وَجَدُّهُ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَنَشَأَ يَتِيمًا، ثُمَّ حَجَّ وَأَقْبَلَ إِلَى الشَّامِ، فَأَقَامَ بِدِمَشْقَ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ، وَسَمِعَ مِنِ ابْنِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَتَبَ بِيَدِهِ نَحْوًا مِنْ مِائَةِ مُجَلَّدٍ إِعَانَةً لِوَلَدَيْهِ أَبِي عُمَرٍو وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الِاشْتِغَالِ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَدْرَسَةِ الصَّلَاحِيَّةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقْتَ الْأَذَانِ ثَامِنَ عَشَرَ رَجَبٍ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَدُفِنَ عِنْدَ الْفِنْدَلَاوِيِّ بِبَابِ الصَّغِيرِ بِدِمَشْقَ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ.
الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّرِيشِيِّ، أَحْمَدُ بْنُ الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ جَمَالِ الدِّينِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبِدِ اللَّهِ بْنِ سُحْمَانَ الْبَكْرِيُّ الْوَائِلِيُّ الشَّرِيشِيُّ، كَانَ أَبُوهُ مَالِكِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ، وَاشْتَغَلَ هُوَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَبَرَعَ، وَحَصَّلَ عُلُومًا كَثِيرَةً، وَكَانَ خَبِيرًا بِالْكِتَابَةِ مَعَ ذَلِكَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَتَبَ الطِّبَاقَ وَقَرَأَهُ بِنَفْسِهِ، وَأَفْتَى، وَدَرَّسَ، وَنَاظَرَ، وَبَاشَرَ عِدَّةَ مَدَارِسَ وَمَنَاصِبَ كِبَارٍ، أَوَّلَ مَا بَاشَرَ مَشْيَخَةَ الْحَدِيثِ بِتُرْبَةِ أَمِّ الصَّالِحِ بَعْدَ وَالِدِهِ مِنْ سَنَةِ

خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ عَنِ ابْنِ جَمَاعَةَ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَوَلِيَ وَكَالَةَ بَيْتِ الْمَالِ، وَقَضَاءَ الْعَسْكَرِ، وَنَظَرَ الْجَامِعِ مَرَّاتٍ، وَدَرَّسَ بِالشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَدَرَّسَ بِالنَّاصِرِيَّةِ عِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ انْتَزَعَهَا مِنْ يَدِهِ ابْنُ جَمَاعَةَ وَزَيْنُ الدِّينِ الْفَارِقِيُّ، فَاسْتَعَادَهَا مِنْهُمَا، وَبَاشَرَ مَشْيَخَةَ الرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ بَقَاسِيُونَ، مُدَّةً وَمَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ ثَمَانِ سِنِينَ، وَكَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ فِيمَا تَوَلَّاهُ مِنَ الْجِهَاتِ كُلِّهَا، وَقَدْ عَزَمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْحَجِّ، فَخَرَجَ بِأَهْلِهِ، فَأَدْرَكَتْهُ مَنِيَّتُهُ بِالْحَسَا فِي سَلْخِ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ هُنَاكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَتَوَلَّى بَعْدَهُ الْوَكَالَةَ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ، وَدَرَّسَ فِي النَّاصِرِيَّةِ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشِّيرَازِيِّ، وَبِدَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ الْحَافِظُ جَمَالُ الدِّينِ الْمِزِّيُّ، وَبِأُمِّ الصَّالِحِ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الذَّهَبِيُّ، وَبِالرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ وَلَدُهُ جَمَالُ الدِّينِ.
الشِّهَابُ الْمُقْرِئُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَحْمَدَ الْبَغْدَادِيُّ، نَقِيبُ الْمُتَعَمِّمِينَ، كَانَ عِنْدَهُ فَضَائِلُ جَمَّةٌ نَظْمًا وَنَثْرًا، مِمَّا يُنَاسِبُ الْوَقَائِعَ وَمَا يَحْضُرُ فِيهِ مِنَ التَّهَانِي وَالتَّعَازِي، وَيَعْرِفُ الْمُوسِيقَى، وَالشَّعْبَذَةَ، وَضَرْبَ الرَّمْلِ، وَيَحْضُرُ الْمَجَالِسَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى اللَّهْوِ، وَالْمُسْكِرِ، وَاللَّعِبِ، وَالْبَسْطِ، ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لِكِبَرِ سِنِّهِ، وَهُوَ مِمَّا يُقَالُ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ:.
ذَهَبْتُ عَنْ تَوْبَتِهِ سَائِلًا وَجَدْتُهَا تَوْبَةَ إِفْلَاسِ
وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِدِمَشْقَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ لَيْلَةَ السَّبْتِ

خَامِسِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ فِي قَبْرٍ أَعَدَّهُ لِنَفْسِهِ، عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، سَامَحَهُ اللَّهُ.
قَاضِي الْقُضَاةِ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ تَاجِ الدِّينِ أَبِي الْخَيْرِ سَلَامَةَ بْنِ زَيْنِ الدِّينِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ سَلَامَةَ الْإِسْكَنْدَرِيُّ الْمَالِكِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَبَرَعَ فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ، وَوَلِيَ نِيَابَةَ الْحُكْمِ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَحُمِدَتْ سِيرَتُهُ، وَدِيَانَتُهُ، وَصَرَامَتُهُ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى قَضَاءِ الشَّامِ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، فَبَاشَرَهَا أَحْسَنَ مُبَاشَرَةٍ سَنَةً وَنِصْفًا، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ بِالصِّمْصَامِيَّةِ بُكْرَةَ الْأَرْبِعَاءِ مُسْتَهَلِّ ذِي الْحِجَّةِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ الْفِنْدَلَاوِيِّ بِبَابِ الصَّغِيرِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَشَكَرَهُ النَّاسُ، وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَفِي مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ بِدِمَشْقَ، سَقَطَ بِسَبَبِهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْجُدْرَانِ، وَاقْتَلَعَتْ أَشْجَارًا كَثِيرَةً. وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَادِسِ عِشْرِينَ الْمُحَرَّمِ خُلِعَ عَلَى الْقَاضِي جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الْقَلَانِسِيِّ بِوَكَالَةِ بَيْتِ الْمَالِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ الشَّرِيشِيِّ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ خَامِسِ صَفَرٍ دَرَّسَ بِالنَّاصِرِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ ابْنُ صَصْرَى، عِوَضًا عَنِ ابْنِ الشَّرِيشِيِّ أَيْضًا، وَحَضَرَ عِنْدَهُ النَّاسُ عَلَى الْعَادَةِ. وَفِي عَاشِرِهِ بَاشَرَ شَدَّ الدَّوَاوِينِ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ الرَّحْبِيُّ، عِوَضًا عَنْ فَخْرِ الدِّينِ أَيَاسٍ، وَكَانَ آقُوشُ مُتَوَلِّيَ دِمَشْقَ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَوَلِيَ مَكَانَهُ بِالْبِلَادِ الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ طَرْقُشِيُّ السَّاكِنُ الْعُقَيْبَةِ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ نُودِيَ بِالْبَلَدِ أَنْ يَصُومَ النَّاسُ لِأَجْلِ الْخُرُوجِ إِلَى الِاسْتِسْقَاءِ، وَشُرِعَ فِي قِرَاءَةِ " الْبُخَارِيِّ "، وَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَدَعَوْا عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ وَبَعْدَ الْخُطَبِ، وَابْتَهَلُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الِاسْتِسْقَاءِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ

السَّبْتِ مُنْتَصَفِ صَفَرٍ - وَكَانَ سَابِعَ نَيْسَانَ - خَرَجَ أَهْلُ الْبَلَدِ بَرُمَّتِهِمْ إِلَى عِنْدِ مَسْجِدِ الْقَدَمِ، وَخَرَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْأُمَرَاءُ مُشَاةً يَبْكُونَ، وَيَتَضَرَّعُونَ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ هُنَالِكَ، وَكَانَ مَشْهَدًا عَظِيمًا، وَخَطَبَ بِالنَّاسِ الْقَاضِي صَدْرُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ الْجَعْفَرِيُّ، وَأَمَّنَ النَّاسُ عَلَى دُعَائِهِ وَرَجَعُوا، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي جَاءَهُمُ الْغَيْثُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ، لَا بِحَوْلِهِمْ وَلَا بِقُوَّتِهِمْ، فَفَرِحَ النَّاسُ فَرَحًا شَدِيدًا، وَعَمَّ الْبِلَادَ كُلَّهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي أَوَاخِرِ الشَّهْرِ شَرَعُوا فِي إِصْلَاحِ رُخَامِ الْجَامِعِ وَتَرْمِيمِهِ، وَجَلْيِ أَبْوَابِهِ، وَتَحْسِينِ مَا فِيهِ.
وَفِي رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ دَرَّسَ بِالنَّاصِرِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ، ابْنُ الشِّيرَازِيِّ بِتَوْقِيعٍ سُلْطَانِيٍّ، وَأَخَذَهَا مِنِ ابْنِ صَصْرَى، وَبَاشَرَهَا إِلَى أَنْ مَاتَ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَادِسَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى بَاشَرَ ابْنُ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ فَخْرُ الدِّينِ - أَخُو نَاظِرِ الْجَيْشِ - الْحِسْبَةَ بِدِمَشْقَ، عِوَضًا عَنِ ابْنِ الْحَدَّادِ، وَبَاشَرَ ابْنُ الْحَدَّادِ نَظَرَ الْجَامِعِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ، وَخُلِعَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا.
وَفِي بُكْرَةِ الثُّلَاثَاءِ خَامِسِ جُمَادَى الْآخِرَةِ قَدِمَ مِنْ مِصْرَ إِلَى دِمَشْقَ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ مُعِينِ الدِّينِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الشَّيْخِ زَكِيِّ الدِّينِ ظَافِرٍ الْهَمْدَانِيُّ الْمَالِكِيُّ - عَلَى قَضَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بِالشَّامِ، عِوَضًا عَنِ ابْنِ سَلَامَةَ، تُوُفِّيَ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَلَكِنَّ تَقْلِيدَ هَذَا مُؤَرَّخٌ بِآخِرِ رَبِيعٍ

الْأَوَّلِ، وَلَبِسَ الْخِلْعَةَ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بِالْجَامِعِ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ دَرَّسَ بِالْخَاتُونِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْفُوَيْرَةِ الْحَنَفِيُّ، وَعُمْرُهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، عِوَضًا عَنِ الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ قَاضِي مَلَطْيَةَ، تُوُفِّيَ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ خَامِسِ رَمَضَانَ وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ سَيْلٌ عَظِيمٌ أَتْلَفَ لِلنَّاسِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَارْتَفَعَ حَتَّى دَخَلَ مِنْ بَابِ الْفَرَجِ، وَوَصَلَ إِلَى الْعُقَيْبَةِ، وَانْزَعَجَ النَّاسُ لَهُ، وَانْتَقَلُوا مِنْ أَمَاكِنِهِمْ، وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ كَانَ مَطَرًا وَقَعَ بِأَرْضِ آبِلِ السُّوقِ وَالْحُسَيْنِيَّةِ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ بَاشَرَ طَرْقُشِيُّ شَدَّ الدَّوَاوِينِ بَعْدَ مَوْتِ جَمَالِ الدِّينِ الرَّحْبِيِّ، وَبَاشَرَ وِلَايَةَ الْمَدِينَةِ صَارِمُ الدِّينِ الْجُوكَنْدَارُ، وَخُلِعَ عَلَيْهِمَا.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ اجْتَمَعَ الْقُضَاةُ وَأَعْيَانُ الْفُقَهَاءِ عِنْدَ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَقُرِئَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ مِنَ السُّلْطَانِ يَتَضَمَّنُ مَنْعَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْفُتْيَا فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ، وَانْفَصَلَ الْمَجْلِسُ عَلَى تَأْكِيدِ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ تَاسِعِ شَوَّالٍ خَطَبَ الْقَاضِي صَدْرُ الدِّينِ الدَّارَانِيُّ عِوَضًا عَنْ

بَدْرِ الدِّينِ بْنِ نَاصِرِ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، بِجَامِعِ جِرَاحٍ، وَكَانَ فِيهِ خَطِيبًا قَبْلَهُ، فَتَوَلَّاهُ بَدْرُ الدِّينِ حَسَنٌ الْعَقْرَبَانِيُّ، وَاسْتَمَرَّ وَلَدُهُ فِي خَطَابَةِ دَارِيَّا الَّتِي كَانَتْ بِيَدِ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ عَاشِرِهِ خَرَجَ الرَّكْبُ وَأَمِيرُهُمْ عِزُّ الدِّينِ أَيْبَكَ الْمَنْصُورِيُّ أَمِيرُ عَلَمٍ.
وَحَجَّ فِيهَا صَدْرُ الدِّينِ قَاضِي الْقُضَاةِ الْحَنَفِيُّ، وَبُرْهَانُ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الْحَقِّ، وَشَرَفُ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَنَجْمُ الدِّينِ الدِّمَشْقِيُّ وَهُوَ قَاضِي الرَّكْبِ، وَرَضِيُّ الدِّينِ الْمِنْطِيقِيُّ، وَشَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْوَزِيرِ خَطِيبُ جَامِعِ الْقُبَيْبَاتِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَشِيقٍ الْمَالِكِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.
وَفِيهَا حَجَّ سُلْطَانُ الْإِسْلَامِ الْمَلِكُ النَّاصِرُ مُحَمَّدُ بْنُ قَلَاوُونَ، وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَوَكِيلُهُ كَرِيمُ الدِّينِ، وَفَخْرُ الدِّينِ كَاتِبُ الْمَمَالِيكِ، وَكَاتِبُ السِّرِّ ابْنُ الْأَثِيرِ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ، وَصَاحِبُ حَمَاةَ الْمَلِكُ عِمَادُ الدِّينِ، وَالصَّاحِبُ شَمْسُ الدِّينِ غِبْرِيَالُ، فِي خِدْمَةِ السُّلْطَانِ، وَكَانَ فِي خِدْمَتِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَعْيَانِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ التَّتَارِ، بِسَبَبِ أَنَّ سُلْطَانَهُمْ بُو سَعِيدٍ كَانَ قَدْ ضَاقَ ذَرْعًا بِجُوبَانَ، وَعَجَزَ عَنْ مَسْكِهِ، فَانْتَدَبَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَنْ

أَمْرِهِ مِنْهُمْ أَبُو يَحْيَى خَالُ أَبِيهِ، وَدُقْمَاقُ، وَقَرْمَشِيُّ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَكَابِرِ الدَّوْلَةِ، وَأَرَادُوا كَبْسَ جُوبَانَ، فَهَرَبَ وَجَاءَ إِلَى السُّلْطَانِ، فَانْتَهَى إِلَيْهِ مَا كَانَ مِنْهُمْ، وَفِي صُحْبَتِهِ الْوَزِيرُ عَلِيُّ شَاهْ، وَلَمْ يَزَلْ بِالسُّلْطَانِ حَتَّى رَضِيَ عَنْ جُوبَانَ، وَأَمَدَّهُ بِجَيْشٍ كَثِيفٍ، وَرَكِبَ السُّلْطَانُ مَعَهُ أَيْضًا، وَالْتَقَوْا مَعَ أُولَئِكَ، فَكَسَرُوهُمْ وَأَسَرُوهُمْ، وَتَحَكَّمَ فِيهِمْ جُوبَانُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ إِلَى آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ أَمِيرًا.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الشَّيْخُ الْمُقْرِئُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ فَزَارَةَ بْنِ بَدْرٍ الْكَفْرِيُّ الْحَنَفِيُّ، وُلِدَ تَقْرِيبًا فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ " كِتَابَ التِّرْمِذِيِّ "، وَقَرَأَ الْقِرَاءَاتِ، وَتَفَرَّدَ بِهَا مُدَّةً يَشْتَغِلُ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَجَمَعَ عَلَيْهِ السَّبْعَ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ طَالِبًا، وَكَانَ يَعْرِفُ النَّحْوَ، وَالْأَدَبَ، وَفُنُونًا كَثِيرَةً، وَكَانَتْ مُجَالَسَتُهُ حَسَنَةً، وَلَهُ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ، دَرَّسَ بِالطَّرْخَانِيَّةِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ عَنِ الْأَذْرَعِيِّ مُدَّةَ وِلَايَتِهِ، وَكَانَ خَيِّرًا مُبَارَكًا، وَأَضَرَّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَانْقَطَعَ فِي بَيْتِهِ مُوَاظِبًا عَلَى

التِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ وَإِقْرَاءِ الْقُرْآنِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَالِثَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الظُّهْرِ يَوْمَئِذٍ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَدُفِنَ بَقَاسِيُونَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ جَاءَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ تَاجِ الدِّينِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَامِدٍ التِّبْرِيزِيِّ الشَّافِعِيِّ، الْمَعْرُوفِ بِالْأَفْضَلِيِّ، بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الْحَجِّ بِبَغْدَادَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ صَفَرٍ، وَكَانَ صَالِحًا فَقِيهًا مُبَارَكًا، وَكَانَ يُنْكِرُ عَلَى رَشِيدِ الدَّوْلَةِ وَيَحُطُّ عَلَيْهِ، وَلَمَّا قُتِلَ قَالَ: كَانَ قَتْلُهُ أَنْفَعَ مِنْ قَتْلِ مِائَةِ أَلْفِ نَصْرَانِيٍّ. وَكَانَ رَشِيدُ الدَّوْلَةِ يُرِيدُ أَنْ يَتَرَضَّاهُ فَلَا يَقْبَلُ، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا، وَلَمَّا تُوُفِّيَ دُفِنَ بِتُرْبَةِ الشُّونِيزِيِّ، وَكَانَ قَدْ قَارَبَ السِّتِّينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحْيِي الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مُفَضَّلِ بْنِ فَضْلِ اللَّهِ الْمِصْرِيُّ، كَاتِبُ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ، وَمُسْتَوْفِي الْأَوْقَافِ، كَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ، مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، فِيهِ كَرَمٌ وَخِدْمَةٌ كَثِيرَةٌ لِلنَّاسِ، تُوُفِّيَ رَابِعَ عِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ ابْنِ هِلَالٍ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَلَهُ سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَبَاشَرَ بَعْدَهُ فِي وَظِيفَتِهِ أَمِينُ الدِّينِ بْنُ النَّحَّاسِ.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ غُرْلُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَادِلِيُّ، كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الدَّوْلَةِ وَمِنَ

الْأُمَرَاءِ الْمُقَدَّمِينَ الْأُلُوفِ، وَقَدْ نَابَ بِدِمَشْقَ عَنْ أُسْتَاذِهِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ كَتْبُغَا نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَأَوَّلِ سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ، وَاسْتَمَرَّ أَمِيرًا كَبِيرًا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي سَلْخِ جُمَادَى الْأُولَى يَوْمِ الْخَمِيسِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِشَمَالِيِّ جَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ بَقَاسِيُونَ، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا نَاصِحًا لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، مَاتَ فِي عَشْرِ السِّتِّينَ.
الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ الرَّحْبِيُّ الْمَنْصُورِيُّ، وَلِيَ دِمَشْقَ مُدَّةً طَوِيلَةً، كَانَ أَصْلُهُ مِنْ قُرَى إِرْبِلَ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا، فَسُبِيَ وَأُبِيعَ مِنْ نَائِبِ الرَّحْبَةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ فَأَعْتَقَهُ وَأَمَّرَهُ، وَتَوَلَّى الْوِلَايَةَ بِدِمَشْقَ نَحْوًا مِنْ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى شَدِّ الدَّوَاوِينِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ وَفَاتِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ حَادِي عِشْرِينَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ، وَكَانَ مَحْبُوبًا إِلَى الْعَامَّةِ مُدَّةَ وِلَايَتِهِ.
الْخَطِيبُ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّطِيفِ بْنِ الْمُغَيْزِلِ الْحَمَوِيُّ، لَهُ تَصَانِيفُ وَفَوَائِدُ، وَكَانَ خَطِيبَ جَامِعِ السُّوقِ الْأَسْفَلِ بِحَمَاةَ، وَسَمِعَ مِنِ ابْنِ طَبَرْزَدَ، تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ.

الْعَلَّامَةُ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُسَلَّمِ بْنِ عَلِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ الشَّافِعِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بِنْتِ أَبِي سَعْدٍ الْمِصْرِيِّ، سَمَعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ مِنْ ثِقَاتِ الْعُلَمَاءِ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ بِالْقَاهِرَةِ مُدَّةً، وَوَلِيَ مَكَانَهُ فِي مِيعَادِ جَامِعِ طُولُونَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْقُونَوِيُّ شَيْخُ الشُّيُوخِ، وَفِي مِيعَادِ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ عَلَّانَ، كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْأَحَدِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِمِصْرَ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ تِسْعُونَ سَنَةً.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عُمَرَ الْمَنْبِجِيُّ، لَهُ زَاوِيَةٌ بِالْحُسَيْنِيَّةِ يُزَارُ فِيهَا، وَلَا يَخُرَجُ مِنْهَا إِلَّا إِلَى الْجُمُعَةِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِزَاوِيَتِهِ الْمَذْكُورَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْمُعَمَّرُ الرُّحْلَةُ عِيسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعَالِي بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَطَّافِ بْنِ مُبَارَكِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْجَيْشِ الْمَقْدِسِيُّ

الصَّالِحِيُّ الْمُطْعِمُ، رَاوِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " وَغَيْرِهِ، وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ مِنْ مَشَايِخَ عِدَّةٍ، وَتَرْجَمَهُ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ فِي " تَارِيخِهِ "، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ رَابِعَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الظُّهْرِ فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ بِالْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ، وَدُفِنَ بِالسَّاحَةِ بِالْقُرْبِ مِنْ تُرْبَةِ الْمُوَلَّهِينَ وَلَهُ أَرْبَعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَحُكَّامُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَكَانَ السُّلْطَانُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْحَجِّ، وَعَادَ إِلَى الْقَاهِرَةِ يَوْمَ السَّبْتِ ثَانِيَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَرَجَعَ الصَّاحِبُ شَمْسُ الدِّينِ عَلَى طَرِيقِ الشَّامِ وَفِي صُحْبَتِهِ الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ الْخَزِنْدَارُ، وَعَادَ صَاحِبُ حَمَاةَ مَعَ السُّلْطَانِ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ، وَلَقَّبَهُ بِالْمَلِكِ الْمُؤَيَّدِ، وَرَسَمَ أَنْ يُخْطَبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ حَمَاةَ وَأَعْمَالِهَا، وَأَنْ يُخَاطَبَ بِالْمَقَامِ الْعَالِي الْمَوْلَوِيِّ السُّلْطَانِيِّ الْمَلَكِيِّ الْمُؤَيَّدِيِّ، عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ عَمُّهُ الْمَنْصُورُ.
وَفِيهَا عَمَرَ ابْنُ الْمَرْجَانِيِّ شِهَابُ الدِّينِ مَسْجِدَ الْخَيْفِ، وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا. وَفِي الْمُحَرَّمِ اسْتَقَالَ أَمِينُ الْمُلْكِ مِنْ نَظَرِ طَرَابُلُسَ وَأَقَامَ بِالْقُدْسِ.
وَفِي آخِرِ صَفَرٍ بَاشَرَ نِيَابَةَ الْحُكْمِ الْمَالِكِيِّ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقَفَصِيُّ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ مَعَ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفِ الدِّينِ مِنْ مِصْرَ. وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ ضُرِبَتْ عُنُقُ شَخْصٍ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ

الرُّومِيُّ، وَكَانَ غُلَامًا لِبَعْضِ التُّجَّارِ، وَكَانَ قَدْ لَزِمَ الْجَامِعَ، ثُمَّ ادَّعَى النُّبُوَّةَ، فَاسْتُتِيبَ، فَلَمْ يَرْجِعْ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَكَانَ أَشْقَرَ أَزْرَقَ الْعَيْنَيْنِ جَاهِلًا، وَكَانَ قَدْ خَالَطَهُ شَيْطَانٌ حَسَّنَ لَهُ ذَلِكَ، وَاضْطَرَبَ عَقْلُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ شَيْطَانٌ إِنْسِيٌّ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِي رَبِيعٍ الْآخِرِ عُقِدَ عَقْدُ السُّلْطَانِ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي قَدِمَتْ مِنْ بِلَادِ الْقَبْجَاقِ، وَهِيَ مِنْ بَنَاتِ الْمُلُوكِ، وَخُلِعَ عَلَى الْقَاضِي بَدْرِ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ، وَكَاتِبِ السِّرِّ وَكَرِيمِ الدِّينِ وَجَمَاعَةِ الْأُمَرَاءِ. وَوَصَلَتِ الْعَسَاكِرُ فِي هَذَا الشَّهْرِ إِلَى بِلَادِ سِيسَ، وَغَرِقَ فِي نَهْرِ جَاهَانَ مَنْ عَسْكَرِ طَرَابُلُسَ نَحْوٌ مِنْ أَلْفِ فَارِسٍ، وَجَاءَتْ مَرَاسِيمُ السُّلْطَانِ فِي هَذَا الشَّهْرِ إِلَى الشَّامِ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى أَخْبَازِ آلِ مُهَنَّا، وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ لِغَضَبِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ قُدُومِ وَالِدِهِمْ مُهَنَّا عَلَى السُّلْطَانِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعِ عِشْرِينَ جُمَادَى الْأُولَى دَرَّسَ بِالرُّكْنِيَّةِ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ الْأَسْمَرُ الْحَنَفِيُّ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ الْجَوْهَرِيَّةُ لِشَمْسِ الدِّينِ الرَّقِّيِّ الْأَعْرَجِ، وَتَدْرِيسُ جَامِعِ الْقَلْعَةِ لِعِمَادِ الدِّينِ بْنِ مُحْيِي الدِّينِ الطَّرَسُوسِيِّ، الَّذِي وَلِيَ قَضَاءَ الْحَنَفِيَّةِ بَعْدَ هَذَا، وَأُخِذَ مِنَ الرَّقِّيِّ إِمَامَةُ مَسْجِدِ نُورِ الدِّينِ بِحَارَةِ الْيَهُودِ

لِعِمَادِ الدِّينِ بْنِ الْكَيَّالِ، وَإِمَامَةُ الرَّبْوَةِ لِلشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الصِّينِيِّ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ اجْتَمَعَتِ الْجُيُوشُ الْإِسْلَامِيَّةُ بِأَرْضِ حَلَبَ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ نَائِبُ حَلَبَ أَلْطُنْبُغَا، وَفِيهِمْ نَائِبُ طَرَابُلُسَ شِهَابُ الدِّينِ قَرَطَايْ، فَدَخَلُوا بِلَادَ الْأَرْمَنِ مِنْ بَابِ إِسْكَنْدَرُونَةَ، فَفَتَحُوا الثَّغْرَ، ثُمَّ تَلَّ حَمْدُونَ، ثُمَّ خَاضُوا جَاهَانَ فَغَرِقَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، ثُمَّ سَلَّمَ اللَّهُ، ثُمَّ وَصَلُوا إِلَى سِيسَ فَحَاصَرُوهَا، وَضَيَّقُوا عَلَى أَهْلِهَا، وَأَحْرَقُوا دَارَ الْمَلِكِ الَّتِي فِي الْبَلَدِ، وَقَطَعُوا أَشْجَارَ الْبَسَاتِينِ، وَسَاقُوا الْأَبْقَارَ وَالْجَوَامِيسَ وَالْأَغْنَامَ، وَكَذَلِكَ فَعَلُوا بِطَرَسُوسَ، وَخَرَّبُوا الضِّيَاعَ وَالْأَمَاكِنَ، وَأَحْرَقُوا الزُّرُوعَ، ثُمَّ رَجَعُوا فَخَاضُوا النَّهْرَ الْمَذْكُورَ فَلَمْ يَغْرَقْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَأَخْرَجُوا بَعْدَ رُجُوعِهِمْ مُهَنَّا وَأَوْلَادَهُ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَسَاقُوا خَلْفَهُمْ إِلَى عَانَةَ وَحَدِيثَةَ، ثُمَّ بَلَغَ الْجُيُوشَ مَوْتُ صَاحِبِ سِيسَ وَقِيَامُ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَشَنُّوا الْغَارَاتِ عَلَى بِلَادِهِ وَتَابَعُوهَا، وَغَنِمُوا وَأَسَرُوا وَسَلِمُوا، إِلَّا فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ، فَإِنَّهُ قُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ.

وَفِي أَوَائِلِ هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْفِرَنْجِ، فَنَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَمْسِينَ أَلْفًا وَأَكْثَرَ، وَأَسَرُوا خَمْسَةَ آلَافٍ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْقَتْلَى خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الْإِفْرَنْجِ، وَغَنِمُوا شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ، يُقَالُ: كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا غَنِمُوا سَبْعُونَ قِنْطَارًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ جَيْشُ الْإِسْلَامِ يَوْمَئِذٍ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ غَيْرَ الرُّمَاةِ، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ سِوَى أَحَدَ عَشَرَ قَتِيلًا، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ مَا وَقَعَ وَعَجِيبِ مَا سُمِعَ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَانِي عِشْرِينَ رَجَبٍ عُقِدَ مَجْلِسٌ بِدَارِ السَّعَادَةِ لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ بِحَضْرَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَاجْتَمَعَ فِيهِ الْقُضَاةُ وَالْمُفْتُونَ مِنَ الْمَذَاهِبِ، وَحَضَرَ الشَّيْخُ، وَعَاتَبُوهُ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى الْإِفْتَاءِ بِمَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ، ثُمَّ حُبِسَ الشَّيْخُ يَوْمَئِذٍ بِالْقَلْعَةِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أُضِيفَ شَدُّ الْأَوْقَافِ إِلَى الْأَمِيرِ عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ مَعْبَدٍ مَعَ مَا بِيَدِهِ مِنْ وِلَايَةِ الْبَرِّ، وَعُزِلَ بَدْرُ الدِّينِ الْمَنْكُورَسِيُّ عَنِ الشَّدِّ.
وَفِي أَوَاخِرِ شَعْبَانَ مُسِكَ الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ الْجَاوِلِيُّ نَائِبُ غَزَّةَ، وَحُمِلَ

إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ اتُّهِمَ بِأَنَّهُ يُرِيدُ الدُّخُولَ إِلَى بِلَادِ الْيَمَنِ، وَاحْتِيطَ عَلَى أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَكَانَ لَهُ بِرٌّ وَإِحْسَانٌ وَمَعْرُوفٌ وَأَوْقَافٌ، وَقَدْ بَنَى بِغَزَّةَ جَامِعًا حَسَنًا مَلِيحًا.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أَرَاقَ مَلِكُ التَّتَرِ بُو سَعِيدٍ الْخُمُورَ، وَأَبْطَلَ الْخَانَاتِ، وَأَظْهَرَ الْعَدْلَ وَالْإِحْسَانَ إِلَى الرَّعَايَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَصَابَهُمْ بَرَدٌ عَظِيمٌ، وَجَاءَهُمْ سَيْلٌ هَائِلٌ، فَلَجَئُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَابْتَهَلُوا إِلَيْهِ فَسَلِمُوا، فَتَابُوا وَأَنَابُوا، وَعَمِلُوا الْخَيْرَ عَقِيبَ ذَلِكَ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَوَّالٍ جَرَى الْمَاءُ بِالنَّهْرِ الْكَرِيمِيِّ الَّذِي اشْتَرَاهُ كَرِيمُ الدِّينِ بِخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَأَجْرَاهُ فِي جَدْوَلٍ إِلَى جَامِعِهِ بِالْقُبَيْبَاتِ، فَعَاشَ بِهِ النَّاسُ، وَحَصَلَ بِهِ أُنْسٌ لِأَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَنُصِبَتْ عَلَيْهِ الْأَشْجَارُ وَالْبَسَاتِينُ، وَعُمِلَ حَوْضٌ كَبِيرٌ تُجَاهَ الْجَامِعِ مِنَ الْغَرْبِ يَشْرَبُ مِنْهُ النَّاسُ وَالدَّوَابُّ، وَهُوَ حَوْضٌ كَبِيرٌ، وَعُمِلَ مِطْهَرَةٌ، وَحَصَلَ بِذَلِكَ نَفْعٌ كَثِيرٌ وَرِفْقٌ زَائِدٌ. أَثَابَهُ اللَّهُ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ فِي حَادِيَ عَشَرَ شَوَّالٍ وَأَمِيرُهُ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ بْنُ الْأَوْحَدِ، وَفِيهِ زَيْنُ الدِّينِ كَتْبُغَا الْحَاجِبُ، وَالشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ، وَالْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْعِزِّ، وَقَاضِي حَمَاةَ شَرَفُ الدِّينِ بْنُ الْبَازِرِيِّ، وَقُطْبُ الدِّينِ بْنُ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ، وَبَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْعَطَّارِ، وَعَلَاءُ الدِّينِ بْنُ غَانِمٍ، وَنُورُ الدِّينِ السَّخَاوِيُّ، وَهُوَ قَاضِي الرَّكْبِ، وَمِنَ الْمِصْرِيِّينَ قَاضِي الْحَنَفِيَّةِ ابْنُ الْحَرِيرِيِّ، وَقَاضِي الْحَنَابِلَةِ، وَمَجْدُ الدِّينِ حَرْمِيٌّ، وَالشَّرَفُ عِيسَى الْمَالِكِيُّ،

وَهُوَ قَاضِي الرَّكْبِ. وَفِيهِ كَمَلَتْ عِمَارَةُ الْحَمَّامِ الَّذِي عَمَرَهُ أُلْجَيْبُغَا غَرْبِيَّ دَارِ الطُّعْمِ، وَدَخَلَهُ النَّاسُ.
وَفِي أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ مِنْ عِنْدِ مَلِكِ التَّتَرِ الْخَوَاجَا مَجْدُ الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتٍ السَّلَامِيُّ، وَفِي صُحْبَتِهِ هَدَايَا وَتُحَفٌ لِصَاحِبِ مِصْرَ مِنْ مَلِكِ التَّتَرِ، وَاشْتَهَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ لِيُصْلِحَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّتَرِ، فَتَلَقَّاهُ الْجُنْدُ وَالدَّوْلَةُ، وَنَزَلَ بِدَارِ السَّعَادَةِ يَوْمًا وَاحِدًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى مِصْرَ.
وَفِيهَا وَقَفَ النَّاسُ بِعَرَفَاتٍ مَوْقِفًا عَظِيمًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ، أَتَوْهُ مِنْ جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَكَانَ مَعَ الْعِرَاقِيِّينَ مَحَامِلُ كَثِيرَةٌ، مِنْ جُمْلَتِهَا مَحْمَلٌ قُوِّمَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الذَّهَبِ وَاللَّآلِئِ بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ مِصْرِيَّةٍ، وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الدِّهِسْتَانِيُّ، وَكَانَ قَدْ أَسَنَّ وَعُمِّرَ، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّ عُمْرَهُ كَانَ حِينَ أَخَذَتِ التَّتَرُ بَغْدَادَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ تَحْتَ قُبَّةِ النَّسْرِ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ بِزَاوِيَتِهِ الَّتِي عِنْدَ سُوقِ الْخَيْلِ بِدِمَشْقَ، وَدُفِنَ بِهَا وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ مِائَةٌ وَأَرْبَعُ سِنِينَ، كَمَا قَالَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ عَلِيٍّ الشَّحَّامُ الْمُقْرِئُ، شَيْخُ مِيعَادِ ابْنِ عَامِرٍ

وَكَانَ شَيْخًا حَسَنًا بَهِيًّا، مُوَاظِبًا عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي لَيْلَةِ تُوُفِّيَ الدِّهِسْتَانِيُّ الْمَذْكُورُ، أَوْ قَبْلَهُ بِلَيْلَةٍ. رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الصَّائِغُ اللُّغَوِيُّ، هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ سِبَاعِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْجُذَامِيُّ الْمِصْرِيُّ الْأَصْلِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى دِمَشْقَ، وُلِدَ تَقْرِيبًا سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِمِصْرَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ أَدِيبًا فَاضِلًا بَارِعًا فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، وَعِلْمِ الْعَرُوضِ، وَالْبَدِيعِ، وَالنَّحْوِ، وَاللُّغَةِ، وَقَدِ اخْتَصَرَ " صِحَاحَ الْجَوْهَرِيِّ "، وَشَرَحَ " مَقْصُورَةَ ابْنِ دُرَيْدٍ "، وَلَهُ قَصِيدَةٌ تَائِيَّةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى أَلْفَيْ بَيْتٍ فَأَكْثَرَ، ذَكَرَ فِيهَا الْعُلُومَ وَالصَّنَائِعَ، وَكَانَ حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، لَطِيفَ الْمُحَاوِرَةِ وَالْمُحَاضِرَةِ، وَكَانَ يَسْكُنُ بَيْنَ دَرْبِ الْحَبَّالِينَ وَالْفَرَاشِ عِنْدَ بُسْتَانِ الْقِطِّ. تُوُفِّيَ بِدَارِهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَالِثِ شَعْبَانَ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَحُكَّامُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهَا فُتِحَ حَمَّامُ الزَّيْتِ الَّذِي فِي رَأْسِ دَرْبِ الْحَجَرِ جَدَّدَ عِمَارَتَهُ رَجُلٌ سَامَرِّيٌّ بَعْدَ مَا كَانَ قَدْ دَرَسَ وَدَثَرَ مِنْ زَمَانِ الْخُوَارَزْمِيَّةِ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَهُوَ حَمَّامٌ جَيِّدٌ مُتَّسِعٌ.
وَفِي سَادِسِ الْمُحَرَّمِ وَصَلَتْ هَدِيَّةٌ مِنْ مَلِكِ التَّتَارِ بُو سَعِيدٍ إِلَى السُّلْطَانِ صَنَادِيقُ وَتُحَفٌ وَدَقِيقٌ. وَفِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ خَرَجَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ السِّجْنِ بِالْقَلْعَةِ بِمَرْسُومِ السُّلْطَانِ، وَتَوَجَّهَ إِلَى دَارِهِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُقَامِهِ بِالْقَلْعَةِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي رَابِعِ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ الْقَاضِي كَرِيمُ الدِّينِ وَكِيلُ السُّلْطَانِ، فَنَزَلَ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَقَدِمَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ عَوَضٍ الْحَاكِمُ الْحَنْبَلِيُّ بِمِصْرَ، وَهُوَ نَاظِرُ الْخِزَانَةِ أَيْضًا، فَنَزَلَ بِالْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي لِلشَّافِعِيَّةِ، فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا، ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى مِصْرَ جَاءَ فِي بَعْضِ أَشْغَالِ السُّلْطَانِ وِزَارَ الْقُدْسَ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ كَانَ السُّلْطَانُ قَدْ حَفَرَ بِرْكَةً قَرِيبًا مِنَ الْمَيْدَانِ،

وَكَانَ فِي جِوَارِهَا كَنِيسَةٌ، فَأَمَرَ الْوَالِي بِهَدْمِهَا، فَلَمَّا هُدِمَتْ تَسَلَّطَ الْحَرَافِيشُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الْكَنَائِسِ بِمِصْرَ يَهْدِمُونَ مَا قَدَرُوا، عَلَيْهِ فَانْزَعَجَ السُّلْطَانُ مِنْ ذَلِكَ، وَسَأَلَ الْقُضَاةَ: مَاذَا يَجِبُ عَلَى مَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ مِنْهُمْ ؟ فَقَالُوا يُعَذَّرُ، فَأَخْرَجَ جَمَاعَةً مِنَ السُّجُونِ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَتْلٌ، فَقَطَعَ وَصَلَبَ وَخَزَمَ وَعَاقَبَ مُوهِمًا أَنَّهُ إِنَّمَا عَاقَبَ مَنْ تَعَاطَى تَخْرِيبَ الْكَنَائِسِ، فَسَكَنَ النَّاسُ، وَأَمِنَتِ النَّصَارَى، وَظَهَرُوا بَعْدَ مَا كَانُوا قَدِ اخْتَفَوْا أَيَّامًا.
وَفِيهِ ثَارَتِ الْحَرَامِيَّةُ بِبَغْدَادَ، وَنَهَبُوا سُوقَ الثُّلَاثَاءِ وَقْتَ الظُّهْرِ، فَثَارَ النَّاسُ وَرَاءَهُمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَةٍ، وَأَسَرُوا آخَرِينَ.
قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ - وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْتُ -: وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ السَّادِسِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى خَرَجَ الْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ، وَالْمُفْتُونَ إِلَى الْقَابُونِ، وَوَقَفُوا عَلَى قِبْلَةِ الْجَامِعِ الَّذِي أَمَرَ بِبِنَائِهِ الْقَاضِي كَرِيمُ الدِّينِ وَكِيلُ السُّلْطَانِ بِالْمَكَانِ الْمَذْكُورِ، وَحَرَّرُوا قِبْلَتَهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ تَكُونَ مِثْلَ قِبْلَةِ جَامِعِ دِمَشْقَ. وَفِيهِ وَقَعَتْ مُرَاجَعَةٌ بَيْنَ الْأَمِيرِ جُوبَانَ أَحَدِ الْمُقَدَّمِينَ الْكِبَارِ بِدِمَشْقَ وَبَيْنَ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ تَنْكِزَ، فَمُسِكَ جُوبَانُ، وَرُفِعَ إِلَى الْقَلْعَةِ لَيْلَتَيْنِ، ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى الْقَاهِرَةِ، فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ أُعْطِيَ خُبْزًا يَلِيقُ بِهِ.
وَذَكَرَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ أَنَّ فِي هَذَا الشَّهْرِ وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ فِي الْقَاهِرَةِ فِي

الدُّورِ الْحَسَنَةِ، وَالْأَمَاكِنِ الْمَلِيحَةِ الْمُرْتَفِعَةِ، وَبَعْضِ الْمَسَاجِدِ، وَحَصَلَ لِلنَّاسِ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ ذَلِكَ، وَقَنَتُوا فِي الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ كَشَفُوا عَنِ الْقَضِيَّةِ فَإِذَا هُوَ مِنْ فِعْلِ النَّصَارَى بِسَبَبِ مَا كَانَ أُحْرِقَ لَهُمْ مِنْ كَنَائِسِهِمْ وَهُدِمَ، فَقَتَلَ السُّلْطَانُ بَعْضَهُمْ، وَأَلْزَمَ النَّصَارَى أَنْ يَلْبَسُوا الزُّرْقَةَ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَثِيَابِهِمْ كُلِّهَا، وَأَنْ يَحْمِلُوا الْأَجْرَاسَ فِي الْحَمَّامَاتِ، وَأَنْ لَا يُسْتَخْدَمُوا فِي شَيْءٍ مِنَ الْجِهَاتِ، فَسَكَنَ الْأَمْرُ وَبَطَلَ الْحَرِيقُ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ خَرَّبَ مَلِكُ التَّتَارِ بُو سَعِيدٍ الْبَازَارَ، وَزَوَّجَ الْخَوَاطِئَ، وَأَرَاقَ الْخُمُورَ، وَعَاقَبَ فِي ذَلِكَ أَشَدَّ الْعُقُوبَةِ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، وَدَعَوْا لَهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَسَامَحَهُ.
وَفِي الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ أُقِيمَتِ الْجُمُعَةُ بِجَامِعِ الْقَصَبِ، وَخَطَبَ بِهِ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْمَنَاخِلِيُّ. وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ تَاسِعِ عِشْرِينَ جُمَادَى الْآخِرَةِ فُتِحَ الْحَمَّامُ الَّذِي أَنْشَأَهُ تَنْكِزُ تُجَاهَ جَامِعِهِ، وَأُكْرِيَ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا لِحُسْنِهِ، وَكَثْرَةِ ضَوْئِهِ، وَرُخَامِهِ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ تَاسِعَ عَشَرَ رَجَبٍ خُرِّبَتْ كَنِيسَةُ الْقَرَّائِينَ الَّتِي

تُجَاهَ حَارَةِ الْيَهُودِ، بَعْدَ إِثْبَاتِ كَوْنِهَا مُحْدَثَةً، وَجَاءَتِ الْمَرَاسِيمُ السُّلْطَانِيَّةُ بِذَلِكَ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ نَفَذَتِ الْهَدَايَا مِنَ السُّلْطَانِ إِلَى بُو سَعِيدٍ مَلِكِ التَّتَرِ، صُحْبَةَ الْخَوَاجَا مَجْدِ الدِّينِ السُّلَامِيِّ، وَفِيهَا خَمْسُونَ جَمَلًا وَخُيُولٌ وَحِمَارٌ عَتَّابِيٌّ.
وَفِي مُنْتَصَفِ رَمَضَانَ أَقُيِمَتِ الْجُمُعَةُ بِالْجَامِعِ الْكَرِيمِيِّ بِالْقَابُونِ، وَشَهِدَهَا يَوْمَئِذٍ الْقُضَاةُ، وَالصَّاحِبُ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ.
قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ: وَقَدِمَ دِمَشْقَ الْإِمَامُ قِوَامُ الدِّينِ أَمِيرُ كَاتِبِ بْنُ الْأَمِيرِ الْعَمِيدِ عُمَرَ الْإِتْقَانِيُّ الْفَارَابِيُّ، مُدَرِّسُ مَشْهَدِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ بِبَغْدَادَ، فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ، وَقَدْ حَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَتَوَجَّهَ إِلَى مِصْرَ، وَأَقَامَ بِهَا أَشْهُرًا، ثُمَّ مَرَّ بِدِمَشْقَ مُتَوَجِّهًا إِلَى بَغْدَادَ، فَنَزَلَ بِالْخَاتُونِيَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ ذُو فُنُونٍ وَبَحْثٍ وَأَدَبٍ وَفِقْهٍ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ عَاشِرِ شَوَّالٍ، وَأَمِيرُهُ شَمْسُ الدِّينِ حَمْزَةُ التُّرْكُمَانِيُّ، وَقَاضِيهِ نَجْمُ الدِّينِ الدِّمَشْقِيُّ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ تَنْكِزُ نَائِبُ الشَّامِ وَفِي صُحْبَتِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهِ، وَقَدِمَ مِنْ مِصْرَ الْأَمِيرُ رُكْنُ الدِّينِ بَيْبَرْسُ الْحَاجِبُ لِيَنُوبَ عَنْهُ فِي غَيْبَتِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ، فَنَزَلَ بِالنَّجِيبِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ.

وَمِمَّنْ حَجَّ فِيهَا الْخَطِيبُ جَلَالُ الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ، وَعِزُّ الدِّينِ حَمْزَةُ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ، وَابْنُ الْعِزِّ شَمْسُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ، وَالْقَاضِي جَلَالُ الدِّينِ بْنُ حُسَامِ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ، وَبَهَاءُ الدِّينِ ابْنُ عُلَيْمَةَ، وَالشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ.
وَدَرَّسَ ابْنُ جَمَاعَةَ بِزَاوِيَةِ الشَّافِعِيِّ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ ثَامِنَ عَشَرَ شَوَّالٍ عِوَضًا عَنْ شِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيِّ لِسُوءِ تَصَرُّفِهِ، وَخُلِعَ عَلَى ابْنِ جَمَاعَةَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْعَامَّةِ مَا يُشَابِهُ جَمِيعَةَ الْجُمُعَةِ، وَأُشْعِلَتْ شُمُوعٌ كَثِيرَةٌ فَرَحًا بِزَوَالِ الْمَعْزُولِ.
قَالَ الْبِرْزَالِيُّ - وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْتُ -: وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ سَادِسَ عَشَرَ شَوَّالٍ ذَكَرَ الدَّرْسَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ، الْمُحَدِّثُ بِالْمَدْرَسَةِ الْكَهَّارِيَّةِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ الْأَنْصَارِيِّ أَيْضًا، وَحَضَرَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْقُونَوِيُّ، وَرَوَى فِي الدَّرْسِ حَدِيثَ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ، عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنِ جَمَاعَةَ.
وَفِي شَوَّالٍ عُزِلَ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ مَعْبَدٍ عَنْ وِلَايَةِ الْبَرِّ وَشَدِّ الْأَوْقَافِ، وَتَوَلَّى وِلَايَةَ الْوُلَاةِ بِالْبِلَادِ الْقِبْلِيَّةِ بِحَوْرَانَ عِوَضًا عَنْ بَكْتَمُرَ لِسَفَرِهِ إِلَى الْحِجَازِ، وَبَاشَرَ أَخُوهُ بَدْرُ الدِّينِ شَدَّ الْأَوْقَافِ، وَالْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ الطَّرْقُشِيُّ وِلَايَةَ الْبَرِّ مَعَ شَدِّ الدَّوَاوِينِ، وَتَوَجَّهَ ابْنُ الْأَنْصَارِيِّ إِلَى حَلَبَ مُتَوَلِّيًا وَكَالَةَ بَيْتِ الْمَالِ عِوَضًا عَنْ تَاجِ الدِّينِ أَخِي شَرَفِ الدِّينِ يَعْقُوبَ نَاظِرِ حَلَبَ، بِحُكْمِ وِلَايَةِ التَّاجِ الْمَذْكُورِ

نَظَرَ الْكَرَكِ.
وَفِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ رَكِبَ الْأَمِيرُ تَمُرْتَاشُ بْنُ جُوبَانَ نَائِبُ بُو سَعِيدٍ عَلَى بِلَادِ الرُّومِ مِنْ قَيْسَارِيَّةَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ مِنَ التَّتَارِ وَالتُّرْكُمَانِ وَالْقَرَمَانِ، وَدَخَلَ بِلَادَ سِيسَ، فَقَتَلَ، وَسَبَى، وَحَرَّقَ، وَخَرَّبَ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ لِنَائِبِ حَلَبَ أَلْطُنْبُغَا لِيُجَهِّزَ لَهُ جَيْشًا يَكُونُ عَوْنًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ مَرْسُومِ السُّلْطَانِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْمُقْرِئُ، بَقِيَّةُ السَّلَفِ، عَفِيفُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَقِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْأَحَدِ بْنِ عَلِيٍّ الْقُرَشِيُّ الْمَخْزُومِيُّ الدَّلَاصِيُّ، شَيْخُ الْحَرَمِ بِمَكَّةَ، أَقَامَ فِيهِ أَزْيَدَ مِنْ سِتِّينَ سَنَةً يُقْرِئُ النَّاسَ الْقُرْآنَ احْتِسَابًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ بِمَكَّةَ، وَلَهُ أَزْيَدُ مِنْ تِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْفَاضِلُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الْهَمَذَانِيُّ، أَبُوهُ الصَّالِحِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالسَّكَاكِينِيِّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِالصَّالِحِيَّةِ، وَقَرَأَ بِالرِّوَايَاتِ، وَاشْتَغَلَ فِي مُقَدِّمَةٍ فِي النَّحْوِ، وَنَظَمَ قَوِيًّا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَخَرَّجَ لَهُ ابْنُ الْفَخْرِ الْبَعْلَبَكِّيُّ جُزْءًا عَنْ شُيُوخِهِ، ثُمَّ دَخَلَ فِي التَّشَيُّعِ، فَقَرَأَ عَلَى أَبِي صَالِحٍ الْحَلَبِيِّ شَيْخِ الشِّيعَةِ،

وَصَحِبَ ابْنَ عَدْنَانَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ أَوْلَادُهُ، وَطَلَبَهُ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ الْأَمِيرُ مَنْصُورُ بْنُ جَمَّازٍ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ نَحَوًا مِنْ سَبْعِ سِنِينَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ وَقَدْ ضَعُفَ، وَثَقُلَ سَمْعُهُ، وَلَهُ سُؤَالٌ فِي الْجَبْرِ، أَجَابَهُ فِيهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَكَلَّ عَنْهُ غَيْرُهُ. وَظَهَرَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كِتَابٌ فِيهِ انْتِصَارٌ لِلْيَهُودِ وَأَهْلِ الْأَدْيَانِ الْفَاسِدَةِ، فَغَسَلَهُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ لَمَّا قَدِمَ دِمَشْقَ قَاضِيًا - وَكَانَ بِخَطِّهِ، وَلَمَّا مَاتَ لَمْ يَشْهَدْ جِنَازَتَهُ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مُسَلَّمٍ. تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَادِسَ عَشَرَ صَفَرٍ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَقُتِلَ ابْنُهُ فِيمَا بَعْدُ عَلَى قَذْفِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ وَغَيْرَهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ وَقَبَّحَ قَاذِفَهُنَّ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُسْتَهَلِّ رَمَضَانَ صُلِّيَ بِدِمَشْقَ عَلَى غَائِبَيْنِ هُمَا الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ، أَحَدُ الْعُبَّادِ وَالزُّهَّادِ الَّذِينَ يُقْصِدُونَ لِلزِّيَارَةِ، وَعَلَى الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الزَّيْلَعِيِّ، تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ أَيْضًا، وَهُوَ مِنَ الصَّالِحِينَ أَيْضًا، وَعَلَى جَمَاعَةٍ تُوُفُّوا بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، مِنْهُمْ أَبُو

عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ فَرِحُونَ مُدَرِّسُ الْمَالِكِيَّةِ بِهَا، وَالشَّيْخُ يَحْيَى الْكُرْدِيُّ، وَالشَّيْخُ حَسَنٌ الْمَغْرِبِيُّ الْسَّقَّا.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ الْأَنْصَارِيُّ، إِمَامُ مَشْهِدِ عَلِيٍّ مِنْ جَامِعِ دِمَشْقَ، كَانَ بَشُوشَ الْوَجْهِ، مُتَوَاضِعًا، حَسَنَ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ، مُلَازِمًا لِإِقْرَاءِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِالْجَامِعِ، وَكَانَ يَؤُمُّ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ وَهُوَ وَالِدُ الْعَلَّامَةِ بَهَاءِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ مُدَرِّسِ الْأَمِينِيَّةِ وَمُحْتَسِبِ دِمَشْقَ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ رَابِعِ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ.
الْأَمِيرُ حَاجِبُ الْحُجَّابِ زَيْنُ الدِّينِ كَتْبُغَا الْمَنْصُورِيُّ، حَاجِبُ دِمَشْقَ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ وَأَكْثَرِهِمْ بِرًّا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، يُحِبُّ الْخِتَمَ وَالْمَوَاعِيدَ وَالْمَوَالِدَ، وَسَمَاعَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَيُكْرِمُ أَهْلَ ذَلِكَ، وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ كَثِيرًا، وَكَانَ مُلَازِمًا لِشَيْخِنَا أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ كَثِيرًا، وَكَانَ يَحُجُّ وَيَتَصَدَّقُ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرَ النَّهَارِ، ثَامِنِ عِشْرِينَ شَوَّالٍ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِتُرْبَتِهِ قِبْلِيَّ الْقُبَيْبَاتِ، وَشَهِدَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

وَالشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ الْمَقْدِسِيِّ، وَالشَّيْخُ سَعْدُ الدِّينِ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى الْمَقْدِسِيُّ، وَالِدُ الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ الْمُحَدِّثِ الْمَشْهُورِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ سَيْفُ الدِّينِ النَّاسِخُ، الْمُنَادِي عَلَى الْكُتُبِ.
وَالشَّيْخُ أَحْمَدُ الْحَرَّامُ، الْمُقْرِئُ عَلَى الْجَنَائِزِ، وَكَانَ يُكَرِّرُ عَلَيَّ " التَّنْبِيهَ "، وَيَسْأَلُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْهَا مَا هُوَ حَسَنٌ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِحَسَنٍ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ.
اسْتَهَلَّتْ وَأَرْبَابُ الْوِلَايَاتِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، سِوَى وَالِي الْبَرِّ بِدِمَشْقَ، فَإِنَّهُ عَلَمُ الدِّينِ طَرْقُشِيُّ، وَقَدْ صُرِفَ ابْنُ مَعْبَدٍ إِلَى وِلَايَةِ حَوْرَانَ لِشَهَامَتِهِ، وَصَرَامَتِهِ، وَدِيَانَتِهِ، وَأَمَانَتِهِ.
وَفِي رَابِعَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ حَصَلَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِدِمَشْقَ، وَقَى اللَّهُ شَرَّهَا. وَقَدِمَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ تَنْكِزُ مِنَ الْحِجَازِ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ حَادِيَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ غَيْبَتِهِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَقَدِمَ لَيْلًا لِئَلَّا يَتَكَلَّفَ أَحَدٌ لِقُدُومِهِ، وَسَافَرَ نَائِبُ الْغَيْبَةِ عَنْهُ قَبْلَ وُصُولِهِ بِيَوْمَيْنِ لِئَلَّا يُكَلِّفَهُ بِهَدِيَّةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَقَدْ قَدِمَ مُغْلَطَايْ عَبْدُ الْوَاحِدِ الْجَمَدَارُ، أَحَدُ الْأُمَرَاءِ بِمِصْرَ بِخِلْعَةٍ سَنِيَّةٍ مِنَ السُّلْطَانِ لِتَنْكِزَ، فَلَبِسَهَا وَقَبَّلَ الْعَتَبَةَ الشَّرِيفَةَ عَلَى الْعَادَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَادِسِ صَفَرٍ دَرَّسَ الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ الْقَحْفَازِيُّ بِالظَّاهِرِيَّةِ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ خَطِيبُ جَامِعِ تَنْكِزَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَدَرَّسَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [ النِّسَاءِ: 58 ]. وَذَلِكَ

بَعْدَ وَفَاةِ الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الْعِزِّ الْحَنَفِيِّ، تُوُفِّيَ فِي مَرْجِعِهِ مِنَ الْحِجَازِ، وَبَاشَرَ بَعْدَهُ نِيَابَةَ الْقَضَاءِ عِمَادُ الدِّينِ الطَّرَسُوسِيُّ، وَهُوَ زَوْجُ ابْنَتِهِ، وَكَانَ يَنُوبُ عَنْهُ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ، فَاسْتَمَرَّ بَعْدَهُ، ثُمَّ وَلِيَ الْحُكْمَ بَعْدَ مُسْتَنِيبِهِ فِيهَا. وَفِيهِ قَدِمَ الْخُوَارَزْمِيُّ حَاجِبًا عِوَضًا عَنْ كَتْبُغَا.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قَدِمَ إِلَى دِمَشْقَ الشَّيْخُ قِوَامُ الدِّينِ مَسْعُودُ بْنُ الشَّيْخِ بُرْهَانِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ الشَّيْخِ شَرَفِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ الْكَرْمَانِيُّ الْحَنَفِيُّ، فَنَزَلَ بِالْقَصَّاعِينَ، وَتَرَدَّدَ إِلَيْهِ الطَّلَبَةُ، وَدَخَلَ إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ وَاجْتَمَعَ بِهِ وَهُوَ شَابٌّ، مَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِمِائَةٍ، وَقَدِ اجْتَمَعْتُ بِهِ، وَكَانَ عِنْدَهُ مُشَارَكَةٌ فِي الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ، وَدَعْوَاهُ أَوْسَعُ مِنْ مَحْصُولِهِ، وَكَانَتْ لِأَبِيهِ وَجَدِّهِ مُصَنَّفَاتٌ، ثُمَّ صَارَ بَعْدَ مُدَّةٍ إِلَى مِصْرَ، وَمَاتَ بِهَا كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ تَكَامَلَ فَتْحُ آيَاسَ وَمُعَامَلَتِهَا، وَانْتِزَاعُهَا مِنْ أَيْدِي الْأَرْمَنِ، وَأُخِذَ الْبُرْجُ الْأَطْلَسُ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فِي الْبَحْرِ رَمْيَةٌ وَنِصْفٌ، فَأَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَخَرَّبُوهُ، وَكَانَتْ حِجَارَتُهُ مَطْلِيَّةٌ بِالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ،

وَعَرْضُ سُورِهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا بِالنَّجَارِيِّ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ غَنَائِمَ كَثِيرَةً جِدًّا، وَحَاصَرُوا كُوَارَةَ، فَقَوِيَ عَلَيْهِمُ الْحَرُّ وَالذُّبَابُ، فَرَسَمَ السُّلْطَانُ بِعُودِهِمْ، فَحَرَّقُوا مَا كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْمَجَانِيقِ، وَأَخَذُوا حَدِيدَهَا، وَأَقْبَلُوا سَالِمِينَ غَانِمِينَ، وَكَانَ مَعَهُمْ خَلْقٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعِينَ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى كَمَلَ بَسْطُ دَاخِلِ الْجَامِعِ، فَاتَّسَعَ عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنْ حَصَلَ حَرَجٌ بِحَمْلِ الْأَمْتِعَةِ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَمُرُّونَ وَسَطَ الرِّوَاقَاتِ وَيَخْرُجُونَ مِنْ بَابِ الْبَرَّادَةِ، وَمَنْ شَاءَ اسْتَمَرَّ يَمْشِي إِلَى الْبَابِ الْآخَرِ بِنَعْلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا سِوَى الْمَقْصُورَةِ، لَا يُمْكِنُ أَحَدًا الدُّخُولُ إِلَيْهَا بِالْمَدَاسَاتِ، بِخِلَافِ بَاقِي الرُّوَاقَاتِ، فَأَمَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِتَكْمِيلِ بَسْطِهِ، بِإِشَارَةِ نَاظِرِهِ ابْنِ مَرَاجِلَ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ رَجَعَتِ الْعَسَاكِرُ مِنْ بِلَادِ سِيسَ وَمُقَدَّمُهُمْ آقُوشُ نَائِبُ الْكَرَكِ.
وَفِي آخِرِ رَجَبٍ بَاشَرَ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَهْبَلٍ نِيَابَةَ الْحُكْمِ عَنِ ابْنِ صَصْرَى عِوَضًا عَنِ الدَّارَانِيِّ الْجَعْفَرِيِّ، وَاسْتَغْنَى الدَّارَانِيُّ بِخُطْبَةِ جَامِعِ الْعُقَيْبَةِ عَنْهَا.

وَفِي ثَالِثَ عَشَرَ رَجَبٍ رَكِبَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ إِلَى خِدْمَةِ السُّلْطَانِ، فَأَكْرَمَهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَعَادَ فِي أَوَّلِ شَعْبَانَ، فَفَرِحَ بِهِ النَّاسُ.
وَفِي رَجَبٍ كَمَلَتْ عِمَارَةُ الْحَمَّامِ الَّذِي بَنَاهُ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ صُبْحٍ جِوَارَ دَارِهِ شَمَالِيَّ الشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ تَاسِعِ شَعْبَانَ عَقَدَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَرْغُوَنَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ عَقْدَهُ عَلَى ابْنَةِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ، وَخُتِنَ فِي هَذَا الْيَوْمِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَوْلَادِ الْأُمَرَاءِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَدَّ سِمَاطًا عَظِيمًا، وَنُثِرَتِ الْفِضَّةُ عَلَى رُءُوسِ الْمُطَهَّرِينَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَرَسَمَ السُّلْطَانُ فِي هَذَا الشَّهْرِ بِوَضْعِ الْمَكْسِ عَنِ الْمَأْكُولَاتِ بِمَكَّةَ، وَعَوَّضَ صَاحِبَهَا عَنْ ذَلِكَ بِإِقْطَاعٍ فِي بِلَادِ الصَّعِيدِ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ كَمَلَتْ عِمَارَةُ الْحَمَّامِ الَّذِي بَنَاهُ بَهَاءُ الدِّينِ ابْنُ عُلَيْمَةَ بِزُقَاقِ الْمَاجِيَّةِ مِنْ قَاسِيُونَ بِالْقُرْبِ مِنْ سَكَنِهِ، وَانْتَفَعَ بِهِ أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَامِنَ شَوَّالٍ وَأَمِيرُهُ سَيْفُ الدِّينِ بُلْطَى نَائِبُ الرَّحْبَةِ، وَكَانَ سَكَنُهُ دَاخِلَ بَابِ الْجَابِيَةِ بِدَرْبِ ابْنِ صَبْرَةَ، وَقَاضِيهِ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ النَّقِيبِ قَاضِي حِمْصَ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْعِزِّ الْحَنَفِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ شَرَفِ الدِّينِ أَبِي الْبَرَكَاتِ مُحَمَّدِ بْنِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ أَبِي الْعِزِّ بْنِ صَالِحِ بْنِ أَبِي الْعِزِّ بْنِ وُهَيْبِ بْنِ عَطَاءِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ جَابِرِ بْنِ وُهَيْبٍ الْأَذْرَعِيُّ الْحَنَفِيُّ، أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ وَأَئِمَّتِهِمْ وَفُضَلَائِهِمْ فِي فُنُونٍ مِنَ الْعُلُومِ مُتَعَدِّدَةٍ، حَكَمَ نِيَابَةً نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ سَدِيدَ الْأَحْكَامِ، مَحْمُودَ السِّيرَةِ، جَيِّدَ الطَّرِيقَةِ، كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ، كَثِيرَ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ، وَخَطَبَ بِجَامِعِ الْأَفْرَمِ مُدَّةً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ بِهِ، وَدَرَّسَ بِالْمُعَظَّمِيَّةِ، وَالْيَغْمُورِيَّةِ، وَالْقِلِيجِيَّةِ، وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَكَانَ نَاظِرَ أَوْقَافِهَا، وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالْإِفْتَاءِ، وَكَانَ كَبِيرًا مُعَظَّمًا مَهِيبًا، تُوُفِّيَ بَعْدَ مَرْجِعِهِ مِنَ الْحَجِّ بِأَيَّامٍ قَلَائِلَ يَوْمَ الْخَمِيسِ سَلْخِ الْمُحَرَّمِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ بَعْدَ الظُّهْرِ بِجَامِعِ الْأَفْرَمِ، وَدُفِنَ عِنْدَ الْمُعَظَّمِيَّةِ عِنْدَ أَقَارِبِهِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً، وَشَهِدَ لَهُ النَّاسُ بِالْخَيْرِ، وَغَبَطُوهُ بِهَذِهِ الْمَوْتَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ بِالظَّاهِرِيَّةِ الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ الْقَحْفَازِيُّ، وَفِي الْمُعَظَّمِيَّةِ وَالْقِلِيجِيَّةِ وَالْخَطَابَةِ بِجَامِعِ الْأَفْرَمِ ابْنُهُ عَلَاءُ الدِّينِ، وَبَاشَرَ بَعْدَهُ نِيَابَةَ الْحُكْمِ الْقَاضِي عِمَادُ الدِّينِ الطَّرَسُوسِيُّ مُدَرِّسُ الْقَلْعَةِ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ بَقِيَّةُ السَّلَفِ، رَضِيُّ الدِّينِ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ

مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الطَّبَرِيُّ الْمَكِّيُّ الشَّافِعِيُّ، إِمَامُ الْمَقَامِ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ شُيُوخِ بَلَدِهِ وَالْوَارِدَيْنِ إِلَيْهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رِحْلَةٌ، وَكَانَ يُفْتِي النَّاسَ مِنْ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَيُذْكَرُ أَنَّهُ اخْتَصَرَ " شَرْحَ السُّنَّةِ " لِلْبَغَوِيِّ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى. تُوُفِّيَ يَوْمَ السَّبْتِ بَعْدَ الظُّهْرِ ثَامِنِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بِمَكَّةَ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ، وَكَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَشَايِخِ.
شَيْخُنَا الزَّاهِدُ الْوَرِعُ بَقِيَّةُ السَّلَفِ زَكِيُّ الدِّينِ أَبُو يَحْيَى زَكَرِيَّا بْنُ يُوسُفَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَامِدٍ الْبَجَلِيُّ الشَّافِعِيُّ، نَائِبُ الْخَطَابَةِ، وَمُدَرِّسُ الطَّيِّبَةِ وَالْأَسَدِيَّةِ، وَلَهُ حَلْقَةٌ لِلِاشْتِغَالِ بِالْجَامِعِ يَحْضُرُ بِهَا عِنْدَهُ الطَّلَبَةُ، وَكَانَ يَشْتَغِلُ فِي الْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا، مُوَاظِبًا عَلَى ذَلِكَ. تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ قَرِيبًا مِنْ شَيْخِهِ الْعَلَّامَةِ تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
نَصِيرُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَجِيهِ الدِّينِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ

عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مَعَالِي بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الرَّبَعِيُّ التَّغْلِبِيُّ التَّكْرِيتِيُّ، أَحَدُ صُدُورِ دِمَشْقَ، قَدِمَ أَبُوهُ قَبْلَهُ إِلَيْهَا، وَعَظُمَ فِي أَيَّامِ الظَّاهِرِ وَقَبْلَهُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي حُدُودِ سَنَةِ خَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَلَهُمُ الْأَمْوَالُ الْكَثِيرَةُ وَالنِّعْمَةُ الْبَاذِخَةُ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ عِشْرِينَ رَجَبٍ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ حَادِيَ عَشَرَ شَوَّالٍ تُوُفِّيَ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَغْرِبِيِّ، التَّاجِرُ السَّفَّارُ، بَانِي خَانِ الصَّنَمَيْنِ الَّذِي عَلَى جَادَّةِ الطَّرِيقِ لِلسَّبِيلِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَقَبَّلَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي أَحْسَنِ الْأَمَاكِنِ وَأَنْفَعِهَا.
الشَّيْخُ الْجَلِيلُ الزَّاهِدُ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَقْدِسِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عَبُّودٍ الْمِصْرِيُّ، كَانَتْ لَهُ وَجَاهَةٌ وَإِقْدَامٌ عَلَى الدَّوْلَةِ، تُوُفِّيَ بُكْرَةَ الْجُمُعَةِ ثَالِثِ عِشْرِينَ شَوَّالٍ، وَدُفِنَ بِزَاوِيَتِهِ، وَقَامَ بَعْدَهُ فِيهَا ابْنُ أَخِيهِ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ مُحْيِي الدِّينِ أَبُو الْهُدَى أَحْمَدُ ابْنُ الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ أَبِي شَامَةَ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَأَسْمَعَهُ أَبُوهُ عَلَى الْمَشَايِخِ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، وَاشْتَغَلَ بِالْفِقْهِ، وَكَانَ يَنْسَخُ، وَيُكْثِرُ التِّلَاوَةَ، وَيَحْضُرُ الْمَدَارِسَ وَالسَّبْعَ

الْكَبِيرَ، تُوُفِّيَ فِي سَابِعِ عِشْرِينَ شَوَّالٍ، وَدُفِنَ عِنْدَ وَالِدِهِ بِمَقَابِرِ بَابِ الْفَرَادِيسِ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ جَلَالُ الدِّينِ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ زَيْنِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعُقَيْلِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْقَلَانِسِيِّ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ مِنِ ابْنِ عَبْدِ الدَّائِمِ " جُزْءَ ابْنِ عَرَفَةَ "، وَرَوَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَسَمِعَ عَلَى غَيْرِهِ أَيْضًا، وَاشْتَغَلَ بِصِنَاعَةِ الْكِتَابَةِ وَالْإِنْشَاءِ، ثُمَّ انْقَطَعَ وَتَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ، وَبَنَى لَهُ الْأُمَرَاءُ بِمِصْرَ زَوِايَةً، وَتَرَدَّدُوا إِلَيْهِ، وَكَانَ فِيهِ بَشَاشَةٌ وَفَصَاحَةٌ، وَكَانَ ثَقِيلَ السَّمْعِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْقُدْسِ، وَقَدِمَ دِمَشْقَ مَرَّةً، فَاجْتَمَعَ بِهِ النَّاسُ وَأَكْرَمُوهُ، وَحَدَّثَ بِهَا ثُمَّ عَادَ إِلَى الْقُدْسِ، وَتُوُفِّيَ بِهِ لَيْلَةَ الْأَحَدِ ثَالِثِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ مَامَلَّا، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ خَالُ الْمُحْتَسِبِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ الْقَلَانِسِيِّ، وَهَذَا خَالُ الصَّاحِبِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ مَرَاجِلَ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ قُطْبُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْقَادِرِ السُّنْبَاطِيُّ الْمِصْرِيُّ، اخْتَصَرَ " الرَّوْضَةَ "، وَصَنَّفَ كِتَابَ " تَصْحِيحَ التَّعْجِيزِ "، وَدَرَّسَ بِالْفَاضِلِيَّةِ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ بِمِصْرَ، وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْفُقَهَاءِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ

الْجُمُعَةِ رَابِعَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً، وَحَضَرَ بَعْدَهُ تَدْرِيسَ الْفَاضِلِيَّةِ ضِيَاءُ الدِّينِ الْمُنَادِي نَائِبُ الْحُكْمِ بِالْقَاهِرَةِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ ابْنُ جَمَاعَةَ وَالْأَعْيَانُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ يَوْمَ الْأَحَدِ فِي كَانُونَ الْأَصَمِّ، وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، غَيْرَ أَنَّ وَالِيَ الْبَرِّ بِدِمَشْقَ هُوَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَانِيُّ، بَاشَرَهَا فِي صَفَرٍ مِنَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ. وَفِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَاشَرَ وِلَايَةَ دِمَشْقَ الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ بَرْقٍ، عِوَضًا عَنْ صَارِمِ الدِّينِ الْجُوكَنْدَارِ.
وَفِي صَفَرٍ عُوفِيَ الْقَاضِي كَرِيمُ الدِّينِ - وَكِيلُ السُّلْطَانِ - مِنْ مَرَضٍ كَانَ قَدْ أَصَابَهُ، فَزُيِّنَتِ الْقَاهِرَةُ، وَأُشْعِلَتِ الشُّمُوعُ، وَجُمِعَ الْفُقَرَاءُ بِالْمَارَسْتَانِ الْمَنْصُورِيِّ لِيَأْخُذُوا مِنْ صَدَقَتِهِ، فَمَاتَ بَعْضُهُمْ مِنَ الزِّحَامِ.
وَفِي سَلْخِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ دَرَّسَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْمُحَدِّثُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ الشَّافِعِيُّ بِالْمَنْصُورِيَّةِ بِالْقَاهِرَةِ، عِوَضًا عَنِ الْقَاضِي جَمَالِ الدِّينِ الزُّرَعِيِّ، بِمُقْتَضَى انْتِقَالِهِ إِلَى دِمَشْقَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ عَلَاءُ الدِّينِ شَيْخُ الشُّيُوخِ الْقُونَوِيُّ الشَّافِعِيُّ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ بِجَامِعِ الْحَاكِمِ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَدْلَانَ بِالْعِزِّيَّةِ، وَكَانَتْ وِلَايَةُ الْقَاضِي جَمَالِ الدِّينِ الزُّرَعِيِّ لِقَضَاءِ الشَّامِ

عِوَضًا عَنِ النَّجْمِ ابْنِ صَصْرَى فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ رَابِعِ عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ بِمِصْرَ، وَكَانَ قُدُومُهُ إِلَى دِمَشْقَ آخِرَ نَهَارِ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعِ جُمَادَى الْأُولَى، فَنَزَلَ الْعَادِلِيَّةَ، وَقَدْ قَدِمَ عَلَى الْقَضَاءِ، وَمَشْيَخَةِ الشُّيُوخِ، وَقَضَاءِ الْعَسَاكِرِ، وَتَدْرِيسِ الْعَادِلِيَّةِ، وَالْغَزَّالِيَّةِ، وَالْأَتَابِكِيَّةِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مُسِكَ الْقَاضِي كَرِيمُ الدِّينِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ السَّدِيدِ، وَكِيلُ السُّلْطَانِ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْمَنْزِلَةِ وَالْمَكَانَةِ عِنْدَ السُّلْطَانِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ غَيْرُهُ مِنَ الْوُزَرَاءِ الْكِبَارِ، وَاحْتِيطَ عَلَى أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَرُسِمَ عَلَيْهِ عِنْدَ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، ثُمَّ رُسِمَ لَهُ أَنْ يَكُونَ بِتُرْبَتِهِ الَّتِي بِالْقَرَافَةِ، ثُمَّ نُفِيَ إِلَى الشَّوْبَكِ، وَأُنْعِمَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَالِ، ثُمَّ أُذِنَ لَهُ بِالْإِقَامَةِ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ بِرِبَاطِهِ. وَمُسِكَ ابْنُ أَخِيهِ كَرِيمُ الدِّينِ الصَّغِيرُ نَاظِرُ الدَّوَاوِينِ، وَأُخِذَتْ أَمْوَالُهُ، وَحُبِسَ فِي بُرْجٍ، وَفَرِحَ الْعَامَّةُ بِذَلِكَ، وَدَعَوْا لِلسُّلْطَانِ بِسَبَبِ مَسْكِهِمَا، ثُمَّ أُخْرِجَ إِلَى صَفَدَ.
وَطُلِبَ مِنَ الْقُدْسِ أَمِينُ الْمُلْكِ عَبْدُ اللَّهِ، فَوَلِيَ الْوِزَارَةَ بِمِصْرَ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ، وَفَرِحَ الْعَامَّةُ بِذَلِكَ، وَأَشْعَلُوا لَهُ الشُّمُوعَ، وَطُلِبَ الصَّاحِبُ شَمْسُ الدِّينِ غِبْرِيَالُ مِنْ دِمَشْقَ، فَرَكِبَ وَمَعَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ خُوِّلَ أَمْوَالَ كَرِيمِ الدِّينِ الْكَبِيرِ، وَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ مُكَرَّمًا، وَقَدِمَ الْقَاضِي مُعِينُ الدِّينِ بْنُ الْحَشِيشِ عَلَى نَظَرِ الْجُيُوشِ الشَّامِيَّةِ، عِوَضًا عَنِ الْقُطْبِ ابْنِ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ،

عُزِلَ عَنْهَا، وَرُسِمَ عَلَيْهِ فِي الْعَذْرَاوِيَّةِ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ أُذِنَ لَهُ فِي الِانْصِرَافِ إِلَى مَنْزِلِهِ مَصْرُوفًا عَنْهَا.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى عُزِلَ طُرْقُشِيُّ عَنْ شَدِّ الدَّوَاوِينِ، وَتَوَلَّاهَا الْأَمِيرُ بَكْتَمُرُ وَالِي الْوُلَاةِ. وَفِي ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَةِ بَاشَرَ الْقَاضِي ابْنُ جَهْبَلٍ نِيَابَةَ الْحُكْمِ عَنِ الزُّرَعِيِّ، وَكَانَ قَدْ بَاشَرَ قَبْلَهَا بِأَيَّامٍ نَظَرَ الْأَيْتَامِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ هِلَالٍ. وَفِي شَعْبَانَ أُعِيدَ طُرْقُشِيُّ إِلَى الشَّدِّ، وَسَافَرَ بَكْتَمُرُ إِلَى نِيَابَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَكَانَ بِهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ.
وَفِي رَمَضَانَ قَدِمَ جَمَاعَةٌ مِنْ حُجَّاجِ الشَّرْقِ وَفِيهِمْ بِنْتُ الْمَلِكِ أَبْغَا بْنِ هُولَاكُو، وَأُخْتُ أَرْغُونَ، وَعَمَّةُ قَازَانَ وَخَرْبَنْدَا، فَأُكْرِمَتْ، وَأُنْزِلَتْ بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، وَأُجْرِيَتْ عَلَيْهَا الْإِقَامَاتُ وَالنَّفَقَاتُ إِلَى أَوَانِ الْحَجِّ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَامِنِ شَوَّالٍ، وَأَمِيرُهُ قُطْلِيجَا الْأَبُو بَكْرِي الَّذِي بِالْقَصَّاعِينَ، وَقَاضِي الرَّكْبِ شَمْسُ الدِّينِ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ مُسَلَّمٍ الْحَنْبَلِيُّ، وَحَجَّ مَعَهُمْ جَمَالُ الدِّينِ الْمِزِّيُّ، وَعِمَادُ الدِّينِ بْنُ الشَّيْرَجِيِّ، وَفُوِّضَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ إِلَى شَرَفِ الدِّينِ بْنِ سَعْدِ بْنِ نَجِيحٍ، كَذَا أَخْبَرَنِي بِهِ شِهَابُ الدِّينِ الظَّاهِرِيُّ. وَمِنَ الْمِصْرِيِّينَ قَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ، وَوَلَدُهُ عِزُّ الدِّينِ وَفَخْرُ الدِّينِ كَاتِبُ الْمَمَالِيكِ، وَشَمْسُ الدِّينِ الْحَارِثِيُّ، وَشِهَابُ الدِّينِ الْأَذْرَعِيُّ، وَعَلَاءُ الدِّينِ الْفَارِسِيُّ.

وَفِي شَوَّالٍ بَاشَرَ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ الظَّاهِرِيَّةِ بِالْقَاهِرَةِ بَعْدَ وَفَاةِ زَكِيِّ الدِّينِ الْمُنَادِي، وَيُقَالُ لَهُ: عَبْدُ الْعَظِيمِ بْنُ الْحَافِظِ شَرَفِ الدِّينِ الدِّمْيَاطِيُّ. ثُمَّ انْتُزِعَتْ مِنَ السُّبْكِيِّ لِفَتْحِ الدِّينِ بْنِ سَيِّدِ النَّاسِ الْيَعْمُرِيِّ، بَاشَرَهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ مُسْتَهَلِّ ذِي الْحِجَّةِ خُلِعَ عَلَى قُطْبِ الدِّينِ ابْنِ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ، وَأُعِيدَ إِلَى نَظَرِ الْجَيْشِ مُصَاحِبًا لِمُعِينِ الدِّينِ بْنِ الْحَشِيشِ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَيْدَةٍ اسْتَقَلَّ قُطْبُ الدِّينِ بِالنَّظَرِ وَحْدَهُ، وَعُزِلَ ابْنُ حَشِيشٍ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْإِمَامُ الْمُؤَرِّخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْفُوَطِيِّ أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي الْمَعَالِي الشَّيْبَانِيُّ الْبَغْدَادِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْفُوَطِيِّ، وَهُوَ جَدُّهُ لِأُمِّهِ، وُلِدَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِبَغْدَادَ، وَأُسِرَ فِي وَاقِعَةِ التَّتَرِ، ثُمَّ تَخَلَّصَ مِنَ الْأَسْرِ، فَكَانَ مُشَارِفًا عَلَى الْكُتُبِ بِالْمُسْتَنْصِرِيَّةِ، وَقَدْ صَنَّفَ تَارِيخًا فِي خَمْسٍ وَخَمْسِينَ مُجَلَّدًا، وَآخَرَ فِي نَحْوِ عِشْرِينَ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَشِعْرٌ حَسَنٌ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ الْجَوْزِيِّ،

تُوُفِّيَ ثَالِثَ الْمُحَرَّمِ وَدُفِنَ بِالشُّونَيْزِيَّةِ.
قَاضِي الْقُضَاةِ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ صَصْرَى، أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْعَدْلِ عِمَادِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَدْلِ أَمِينِ الدِّينِ سَالِمِ بْنِ الْحَافِظِ الْمُحَدِّثِ بَهَاءِ الدِّينِ أَبِي الْمَوَاهِبِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ مَحْفُوظِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَصْرَى التَّغْلِبِيُّ الرَّبَعِيُّ الشَّافِعِيُّ، قَاضِي الْقُضَاةِ بِالشَّامِ، وُلِدَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ، وَحَصَّلَ، وَكَتَبَ عَنِ الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ بْنِ خَلِّكَانَ " وَفَيَاتِ الْأَعْيَانِ "، وَسَمِعَهَا عَلَيْهِ، وَتَفَقَّهَ بِالشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ، وَعَلَى أَخِيهِ شَرَفِ الدِّينِ فِي النَّحْوِ، وَكَانَ لَهُ يَدٌ فِي الْإِنْشَاءِ وَحُسْنِ الْعِبَارَةِ، وَدَرَّسَ بِالْعَادِلِيَّةِ الصَّغِيرَةِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ، وَبِالْأَمِينِيَّةِ سَنَةَ تِسْعِينَ، وَبِالْغَزَّالِيَّةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ، وَتَوَلَّى قَضَاءَ الْعَسَاكِرِ فِي دَوْلَةِ الْعَادِلِ كَتْبُغَا، ثُمَّ تَوَلَّى قَضَاءَ الشَّامِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِمِائَةٍ بَعْدَ ابْنِ جَمَاعَةَ حِينَ طُلِبَ لِقَضَاءِ مِصْرَ بَعْدَ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ، ثُمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِ مَشْيَخَةُ الشُّيُوخِ مَعَ تَدْرِيسِ الْعَادِلِيَّةِ، وَالْغَزَّالِيَّةِ، وَالْأَتَابِكِيَّةِ، وَكُلُّهَا مَنَاصِبُ دُنْيَوِيَّةٌ، انْسَلَخَ مِنْهَا وَانْسَلَخَتْ مِنْهُ، وَمَضَى عَنْهَا وَتَرَكَهَا لِغَيْرِهِ، وَأَكْبَرُ أُمْنِيَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَوَلَّاهَا وَهِيَ:

مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقٍ
وَقَدْ كَانَ رَئِيسًا مُحْتَشِمًا، وَقُورًا كَرِيمًا، جَمِيلَ الْأَخْلَاقِ، مُعَظَّمًا عِنْدَ السُّلْطَانِ وَالدَّوْلَةِ، تُوُفِّيَ فَجْأَةً بِبُسْتَانِهِ بِالسَّهْمِ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ سَادِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ، وَالْقُضَاةُ، وَالْأُمَرَاءُ، وَالْأَعْيَانُ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ عِنْدَ الرُّكْنِيَّةِ.
عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْمُنَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَحْلَةَ الدِّمَشْقِيُّ الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَرَأَ " الْمُحَرَّرَ "، وَلَازَمَ الشَّيْخَ زَيْنَ الدِّينِ الْفَارِقِيَّ، وَدَرَّسَ بِالدَّوْلَعِيَّةِ وَالرُّكْنِيَّةِ، وَكَانَ نَاظِرَ بَيْتِ الْمَالِ، وَابْتَنَى دَارًا حَسَنَةً إِلَى جَانِبِ الرُّكْنِيَّةِ، وَمَاتَ وَتَرَكَهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ بِالدَّوْلَعِيَّةِ الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ بْنُ جُمْلَةَ، وَبِالرُّكْنِيَّةِ رُكْنُ الدِّينِ الْخُرَاسَانِيُّ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قُتِلَ الشَّيْخُ ضِيَاءُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ الدَّرْبَنْدِيُّ النَّحْوِيُّ، كَانَ قَدِ اضْطَرَبَ عَقْلُهُ، فَسَافَرَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى الْقَاهِرَةِ، فَأَشَارَ شَيْخُ الشُّيُوخِ

الْقُونَوِيُّ أَنْ يُودَعَ بِالْمَارَسْتَانِ فَلَمْ يُوَافَقْ، ثُمَّ دَخَلَ إِلَى الْقَلْعَةِ وَبِيَدِهِ سَيْفٌ مَسْلُولٌ فَقَتَلَ نَصْرَانِيًّا، فَحُمِلَ إِلَى السُّلْطَانِ، وَظَنُّوهُ جَاسُوسًا، فَأَمَرَ بِشَنْقِهِ فَشُنِقَ، وَكُنْتُ مِمَّنَ اشْتَغَلَ عَلَيْهِ فِي النَّحْوِ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْمُقْرِئُ الْفَاضِلُ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ الطَّبِيبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحِلِّيُّ الْعَزِيزِيُّ الْفَوَارِسِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْحَلَبِيَّةِ، سَمِعَ مِنْ خَطِيبِ مَرْدَا وَابْنِ عَبْدِ الدَّائِمِ، وَاشْتَغَلَ، وَحَصَّلَ، وَأَقْرَأَ النَّاسَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عَنْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالسَّفْحِ.
شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَطِينَةَ الزُّرَعِيُّ، التَّاجِرُ الْمَشْهُورُ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْبَضَائِعِ وَالْمَتَاجِرِ، قِيلَ: بَلَغَتْ زَكَاةُ مَالِهِ فِي سَنَةِ قَازَانَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَتُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ الَّتِي بِبَابِ بُسْتَانِهِ الْمُسَمَّى بِالْمَرْفَعِ عِنْدَ ثَوْرَا فِي طَرِيقِ الْقَابُونِ، وَهِيَ تُرْبَةٌ هَائِلَةٌ، وَكَانَتْ لَهُ أَمْلَاكٌ.
الْقَاضِي الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخَابُورِيُّ، قَاضِي بَعْلَبَكَّ، وَأَكْبَرُ أَصْحَابِ الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ، قَدِمَ مِنْ بَعْلَبَكَّ لِيَتَلَقَّى

الْقَاضِي الزُّرَعِيَّ، فَمَاتَ بِالْمَدْرَسَةِ الْبَادَرَائِيَّةِ لَيْلَةَ السَّبْتِ سَابِعِ جُمَادَى الْأُولَى، وَدُفِنَ بَقَاسِيُونَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ سَبْعُونَ سَنَةً أَضْغَاثُ حِلْمٍ.
الشَّيْخُ الْمُعَمَّرُ الْمُسِنُّ جَمَالُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ إِلْيَاسَ بْنِ الرَّشِيدِ الْبَعْلَبَكِّيُّ، التَّاجِرُ، وُلِدَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ فِي ثَانِيَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى، عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ وَسَنَةٍ، وَدُفِنَ بِبَابِ سَطْحَا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُحَدِّثُ اللُّغَوِيُّ الْمُفِيدُ صَفِيُّ الدِّينِ أَبُو الثَّنَاءِ مَحْمُودُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَامِدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْحُسَيْنِ الْأُرْمَوِيُّ الصُّوفِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ، وَطَلَبَ، وَكَتَبَ الْكَثِيرَ، وَذَيَّلَ عَلَى " النِّهَايَةِ " لِابْنِ الْأَثِيرِ، وَكَانَ قَدْ قَرَأَ " التَّنْبِيهَ "، وَاشْتَغَلَ بِاللُّغَةِ، فَحَصَّلَ مِنْهَا طَرَفًا جَيِّدًا، ثُمَّ اضْطَرَبَ عَقْلُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ، وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ السَّوْدَاءُ، وَكَانَ يُفِيقُ مِنْهَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ فَيُذَاكِرُ صَحِيحًا ثُمَّ يَعْتَرِضُهُ الْمَرَضُ الْمَذْكُورُ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ

السَّنَةِ فِي الْمَارَسْتَانِ النُّورِيِّ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ.
الْخَاتُونُ الْمَصُونَةُ خَاتُونُ بِنْتُ الْمَلِكِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَادِلِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ شَاذِي، بِدَارِهَا، وَتُعْرَفُ بِدَارِ كَافُورٍ، كَانَتْ رَئِيسَةً مُحْتَرَمَةً، وَلَمْ تَتَزَوَّجْ قَطُّ، وَلَيْسَ فِي طَبَقَتِهَا مِنْ بَنِي أَيُّوبَ غَيْرُهَا فِي هَذَا الْحِينِ، تُوُفِّيَتَ يَوْمَ الْخَمِيسِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَدُفِنَتْ بِتُرْبَةِ أَمِّ الصَّالِحِ، رَحِمَهَا اللَّهُ.
شَيْخُنَا الْجَلِيلُ الْمُسْنِدُ الْمُعَمَّرُ الرُّحْلَةُ، بَهَاءُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ الشَّيْخِ بَدْرِ الدِّينِ أَبِي غَالِبٍ الْمُظَفَّرِ بْنِ نَجْمِ الدِّينِ بْنِ أَبِي الثَّنَاءِ مَحْمُودِ بْنِ تَاجِ الْأُمَنَاءِ أَبِي الْفَضْلِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَسَاكِرَ الدِّمَشْقِيُّ الطَّبِيبُ الْمُعَمَّرُ، وُلِدَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ حُضُورًا وَسَمَاعًا عَلَى الْكَثِيرِ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَقَدْ خَرَّجَ لَهُ الْحَافِظُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ مَشْيَخَةً سَمِعْنَاهَا عَلَيْهِ فِي سَنَةِ وَفَاتِهِ، وَكَذَلِكَ خَرَّجَ لَهُ الْحَافِظُ صَلَاحُ الدِّينِ الْعَلَائِيُّ عَوَالِيَ مِنْ حَدِيثِهِ، وَكَتَبَ لَهُ الْمُحَدِّثُ الْمُفِيدُ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ طُغْرِيلَ مَشْيَخَةً فِي سَبْعِ مُجَلَّدَاتٍ، تَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَسَبْعِينَ شَيْخًا سَمَاعًا وَإِجَازَةً، وَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَسَمِعَهَا الْحَافِظُ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الْبِرْزَالِيُّ: وَقَدْ قَرَأْتُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ مُجَلَّدًا بِحَذْفِ الْمُكَرَّرَاتِ، وَمِنَ الْأَجْزَاءِ

خَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ جُزْءًا بِالْمُكَرَّرَاتِ. قَالَ: وَكَانَ قَدِ اشْتَغَلَ بِالطِّبِّ، وَكَانَ يُعَالِجُ النَّاسَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ، وَكَانَ يَحْفَظُ كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْحِكَايَاتِ وَالْأَشْعَارِ، وَلَهُ نَظْمٌ، وَخَدَمَ فِي عِدَّةِ جِهَاتٍ الْكِتَابَةَ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ، وَلَزِمَ بَيْتَهُ وَإِسْمَاعَ الْحَدِيثِ، وَتَفَرَّدَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ سَهْلًا فِي التَّسْمِيعِ، وَوَقَفَ آخِرَ عُمْرِهِ دَارَهُ دَارَ حَدِيثٍ، وَخَصَّ الْحَافِظَ الْبِرْزَالِيَّ وَالْمِزِّيَّ بِشَيْءٍ مِنْ بِرِّهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَقْتَ الظُّهْرِ خَامِسِ عِشْرِينَ شَعْبَانَ، وَدُفِنَ بَقَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْوَزِيرُ ثُمَّ الْأَمِيرُ نَجْمُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ فَخْرِ الدِّينِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الْبُصْرَاوِيُّ الْحَنَفِيُّ، دَرَّسَ بِبُصْرَى بَعْدَ عَمِّهِ الْقَاضِي صَدْرِ الدِّينِ الْحَنَفِيِّ، ثُمَّ وَلِيَ الْحِسْبَةَ بِدِمَشْقَ وَنَظَرَ الْخِزَانَةِ، ثُمَّ وَلِيَ الْوِزَارَةَ، ثُمَّ سَأَلَ الْإِقَالَةَ مِنْهَا فَعُوِّضَ بِإِمْرِيَّةِ عَشَرَةٍ عَنْهَا بِإِقْطَاعٍ هَائِلٍ، وَعُومِلَ فِي ذَلِكَ مُعَامَلَةَ الْوُزَرَاءِ فِي حُرْمَتِهِ وَلُبْسَتِهِ، حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ بِبُصْرَى يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَامِنِ عِشْرِينَ شَعْبَانَ، وَدُفِنَ هُنَاكَ، وَكَانَ كَرِيمًا مُمَدَّحًا وَهَّابًا كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ، وَتَرَكَ مَالًا وَأَوْلَادًا، ثُمَّ تَفَانَوْا كُلُّهُمْ بَعْدَهُ، وَتَفَرَّقَتْ أَمْوَالُهُ، وَنُكِحَتْ نِسَاؤُهُ، وَسُكِنَتْ مَنَازِلُهُ.
الْأَمِيرُ صَارِمُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ قَرَاسُنْقُرَ الْجُوكَنْدَارُ، مُشِدُّ الْخَاصِّ، ثُمَّ

وَلِيَ دِمَشْقَ وِلَايَةً، ثُمَّ عُزِلَ عَنْهَا قَبْلَ مَوْتِهِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، تُوُفِّيَ تَاسِعَ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ الْمُشَرَّفَةِ الْمُبَيَّضَةِ شَرْقِيَّ مَسْجِدِ النَّارَنْجِ كَانَ قَدْ أَعَدَّهَا لِنَفْسِهِ.
الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْأَعْقَفُ الْحَرِيرِيُّ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ حَامِدِ بْنِ سَعِيدٍ التَّنُوخِيُّ الْحَرِيرِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ فِي صِبَاهُ عَلَى الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ فِي " التَّنْبِيهِ "، ثُمَّ صَحِبَ الْحَرِيرِيَّةَ وَخَدَمَهُمْ، وَلَزِمَ مُصَاحِبَةَ الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ بْنِ إِسْرَائِيلَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَحَجَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَكَانَ مَلِيحَ الشَّكْلِ، كَثِيرَ التَّوَدُّدِ إِلَى النَّاسِ، حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَحَدِ ثَالِثِ عِشْرِينَ رَمَضَانَ بِزَاوِيَتِهِ بِالْمِزَّةِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَتِهِ بِالْمِزَّةِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَامِنِ عِشْرِينَ رَمَضَانَ صُلِّيَ بِدِمَشْقَ عَلَى غَائِبٍ، وَهُوَ الشَّيْخُ هَارُونُ الْمَقْدِسِيُّ، تُوُفِّيَ بِبَعْلَبَكَّ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَكَانَ صَالِحًا مَشْهُورًا عِنْدَ الْفُقَرَاءِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَالِثِ ذِي الْقَعْدَةِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ الْمُقْرِئُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ غُصْنٍ الْأَنْصَارِيُّ الْقَصْرِيُّ ثُمَّ السَّبْتِيُّ، بِالْقُدْسِ، وَدُفِنَ بِمَامَلَّا، وَكَانَتْ لَهُ جِنَازَةٌ حَافِلَةٌ، حَضَرَهَا كَرِيمُ الدِّينِ وَالنَّاسُ مُشَاةً، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَ شَيْخًا مَهِيبًا، أَحْمَرَ اللِّحْيَةِ مِنَ الْحِنَّاءِ، اجْتَمَعْتُ بِهِ، وَبَحَثْتُ مَعَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حِينَ زُرْتُ الْقُدْسَ الشَّرِيفَ،

وَهِيَ أَوَّلُ زِيَارَةٍ زُرْتُهُ، وَكَانَ مَالِكِيَّ الْمَذْهَبِ، قَدْ قَرَأَ " الْمُوَطَّأَ " فِي ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ، وَأَخَذَ النَّحْوَ عَنِ الْأُسْتَاذِ ابْنِ أَبِي الرَّبِيعِ شَارِحِ " الْجُمَلِ " لِلزَّجَّاجِيِّ مِنْ طَرِيقِ شُرَيْحٍ.
شَيْخُنَا الْأَصِيلُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عِمَادِ الدِّينِ أَبِي الْفَضْلِ مُحَمَّدِ بْنِ شَمْسِ الدِّينِ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ بُنْدَارِ بْنِ مَمِيلٍ الشِّيرَازِيُّ، مَوْلِدُهُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَأَسْمَعَ، وَأَفَادَ فِي عِلَّتِهِ شَيْخَنَا الْمِزِّيَّ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، قَرَأَ عَلَيْهِ عِدَّةَ أَجْزَاءٍ بِنَفْسِهِ، أَثَابَهُ اللَّهُ، وَكَانَ شَيْخًا حَسَنًا خَيِّرًا مُبَارَكًا مُتَوَاضِعًا، يُذَهِّبُ الرَّبَعَاتِ وَالْمَصَاحِفَ، لَهُ فِي ذَلِكَ يَدٌ طُولَى، وَلَمْ يَتَدَنَّسْ بِشَيْءٍ مِنَ الْوِلَايَاتِ، وَلَا تَدَنَّسَ بِشَيْءٍ مِنْ وَظَائِفِ الْمَدَارِسِ وَلَا الشَّهَادَاتِ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ بِبُسْتَانِهِ مِنَ الْمِزَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِهَا، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ سَعْدٍ الزُّرَعِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، قَيِّمُ الْجَوْزِيَّةِ، كَانَ رَجُلًا صَالِحًا مُتَعَبِّدًا قَلِيلَ التَّكَلُّفِ، وَكَانَ فَاضِلًا، وَقَدْ سَمِعَ شَيْئًا مِنْ " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " عَنِ الرَّشِيدِيِّ الْعَامِرِيِّ، تُوُفِّيَ فَجْأَةً

لَيْلَةَ الْأَحَدِ تَاسِعَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ بِالْمَدْرَسَةِ الْجَوْزِيَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الظُّهْرِ بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً، وَأَثْنَى عَلَيْهِ النَّاسُ خَيْرًا رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ وَالِدُ الْعَلَّامَةِ شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ صَاحِبِ الْمُصَنَّفَاتِ الْكَثِيرَةِ النَّافِعَةِ الْكَافِيَةِ.
الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ شَرَفِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مَعْبَدٍ الْبَعْلَبَكِّيُّ، أَحَدُ أُمَرَاءِ الطَّبْلَخَانَاهْ، كَانَ وَالِدُهُ تَاجِرَا بِبَعْلَبَكَّ، فَنَشَأَ وَلَدُهُ هَذَا وَاتَّصَلَ بِالدَّوْلَةِ، وَعَلَتْ مَنْزِلَتُهُ حَتَّى أُعْطِيَ طَّبْلَخَانَهْ، وَبَاشَرَ وِلَايَةَ الْبَرِّ بِدِمَشْقَ مَعَ شَدِّ الْأَوْقَافِ، ثُمَّ صُرِفَ إِلَى وِلَايَةِ الْوُلَاةِ بِحَوْرَانَ، فَاعْتَرَضَهُ مَرَضٌ، وَكَانَ سَبْطَ الْبَدَنِ عَبْلَهُ، فَسَأَلَ أَنْ يُقَالَ فَأُجِيبَ، فَأَقَامَ بِبُسْتَانِهِ بِالْمِزَّةِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي خَامِسِ عِشْرِينَ ذِي الْحِجَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ هُنَاكَ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الْمِزَّةِ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ وَأَحْسَنِهِمْ، مَعَ دِيَانَةٍ وَخَيْرٍ، سَامَحَهُ اللَّهُ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ تُوُفِّيَ الْفَقِيهُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْأَحَدِ بْنِ سَعْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْقَاهِرِ بْنِ عَبْدِ

الْأَحَدِ بْنِ عُمَرَ الْحَرَّانِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ النَّجِيحِ، تُوُفِّيَ فِي وَادِي بَنِيَ سَالِمٍ، فَحُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَغُسِّلَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ فِي الرَّوْضَةِ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ شَرْقِيَّ قَبْرِ عَقِيلٍ، فَغَبَطَهُ النَّاسُ بِهَذِهِ الْمَوْتَةِ وَهَذَا الْقَبْرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ مِمَّنْ غَبَطَهُ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مُسَلَّمٍ قَاضِي الْحَنَابِلَةِ، فَمَاتَ بَعْدَهُ، وَدُفِنَ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ بَعْدَهُ بِثَلَاثِ سِنِينَ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَجَاءَ يَوْمَ حَضَرَ جِنَازَةُ الشَّيْخِ شَرَفِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ الْمَذْكُورِ شَرَفُ الدِّينِ بْنُ أَبِي الْعِزِّ الْحَنَفِيُّ قَبْلَ ذَلِكَ بِجُمْعَةٍ، مَرْجِعَهُ مِنَ الْحَجِّ بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَنْ مَكَّةَ بِمَرْحَلَتَيْنِ، فَغَبَطَ الْمَيِّتَ الْمَذْكُورَ بِتِلْكَ الْمَوْتَةِ، فَرُزِقَ مِثْلَهَا بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ كَانَ شَرَفُ الدِّينِ بْنُ نَجِيحٍ هَذَا قَدْ صَحِبَ شَيْخَنَا الْعَلَّامَةَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ، وَكَانَ مَعَهُ فِي مَوَاطِنَ كِبَارٍ صَعْبَةٍ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِقْدَامَ عَلَيْهَا إِلَّا الْأَبْطَالُ الْخُلَّصُ الْخَوَاصُّ، وَسُجِنَ مَعَهُ، وَكَانَ مِنْ خُدَّامِهِ وَخَوَاصِّ أَصْحَابِهِ، يَنَالُ فِيهِ الْأَذَى، وَأُوذِيَ بِسَبَبِهِ مَرَّاتٍ، وَكُلُّ مَا لَهُ فِي ازْدِيَادٍ وَمَحَبَّةٍ فِيهِ وَصَبْرٍ عَلَى أَذَى أَعْدَائِهِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ فِي نَفْسِهِ وَعِنْدَ النَّاسِ جَيِّدًا مَشْكُورَ السِّيرَةِ، جَيِّدَ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ، عَظِيمَ الدِّيَانَةِ وَالزُّهْدِ وَلِهَذَا كَانَتْ عَاقِبَتُهُ هَذِهِ الْمَوْتَةَ عَقِيبَ الْحَجِّ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِرَوْضَةِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ - بَقِيعِ الْغَرْقَدِ - بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَخُتِمَ لَهُ بِصَالِحِ عَمَلِهِ، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ يَتَمَنَّى أَنْ يَمُوتَ عَقِيبَ عَمَلٍ صَالِحٍ يَعْمَلُهُ، وَكَانَتْ لَهُ جِنَازَةٌ حَافِلَةٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمَلِكُ النَّاصِرُ، وَنَائِبُهُ بِمِصْرَ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُوَنُ، وَوَزِيرُهُ أَمِينُ الْمُلْكِ، وَقُضَاتُهُ بِمِصْرَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَنَائِبُهُ بِالشَّامِ تَنْكِزُ، وَقُضَاةُ الشَّامِ الشَّافِعِيُّ جَمَالُ الدِّينِ الزُّرَعِيُّ، وَالْحَنَفِيُّ الصَّدْرُ عَلِيٌّ الْبُصْرَاوِيُّ، وَالْمَالِكِيُّ شَرَفُ الدِّينِ الْهَمْدَانِيُّ، وَالْحَنْبَلِيُّ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مُسَلَّمٍ، وَخَطِيبُ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ جَلَالُ الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ، وَوَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ، وَمُحْتَسِبُ الْبَلَدِ فَخْرُ الدِّينِ ابْنُ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ، وَنَاظِرُ الدَّوَاوِينِ شَمْسُ الدِّينِ غِبْرِيَالُ، وَمُشِدُّ الدَّوَاوِينِ عَلَمُ الدِّينِ طُرْقُشِيُّ، وَنَاظِرُ الْجَيْشِ قُطْبُ الدِّينِ ابْنُ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ وَمُعِينُ الدِّينِ بْنُ الْحَشِيشِ، وَكَاتِبُ السِّرِّ شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودٌ، وَنَقِيبُ الْأَشْرَافِ شَرَفُ الدِّينِ بْنُ عَدْنَانَ، وَنَاظِرُ الْجَامِعِ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْحَدَّادِ، وَنَاظِرُ الْخِزَانَةِ عِزُّ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ، وَوَالِي الْبَرِّ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ الْمَرْوَانِيِّ، وَوَالِي دِمَشْقَ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ بَرْقٍ.
وَفِي خَامِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَاشَرَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ الْحِسْبَةَ عِوَضًا

عَنْ فَخْرِ الدِّينِ ابْنِ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ، وَبَاشَرَ ابْنُ الْقَلَانِسِيِّ الْحِسْبَةَ مَعَ نَظَرِ الْخِزَانَةِ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ حُمِلَ كَرِيمُ الدِّينِ - وَكِيلُ السُّلْطَانِ - مِنَ الْقُدْسِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَاعْتُقِلَ، ثُمَّ أُخِذَتْ مِنْهُ أَمْوَالٌ وَذَخَائِرُ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ نُفِيَ إِلَى الصَّعِيدِ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ نَفَقَاتٌ سُلْطَانِيَّةٌ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنْ عَيَالِهِ، وَطُلِبَ كَرِيمُ الدِّينِ الصَّغِيرُ، وَصُودِرَ بِأَمْوَالٍ جَمَّةٍ، وَحُبِسَ ثُمَّ أُطْلِقَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ قُرِئَ كِتَابُ السُّلْطَانِ بِالْمَقْصُورَةِ مِنَ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ بِحَضْرَةِ النَّائِبِ وَالْقُضَاةِ، يَتَضَمَّنُ إِطْلَاقَ مَكْسِ الْغَلَّةِ بِالشَّامِ الْمَحْرُوسِ جَمِيعِهِ، فَكَثُرَتِ الْأَدْعِيَةُ لِلسُّلْطَانِ مِنَ الْخَوَاصِّ، وَالْعَوَامِّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدِمَ الْبَرِيدُ إِلَى نَائِبِ الشَّامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَامِسِ عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْآخِرِ بِعَزْلِ قَاضِي الشَّافِعِيَّةِ الزُّرَعِيِّ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَامْتَنَعَ بِنَفْسِهِ مِنَ الْحُكْمِ، وَأَقَامَ بِالْعَادِلِيَّةِ بَعْدَ الْعَزْلِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى الْأَتَابِكِيَّةِ، وَاسْتَمَرَّتْ بِيَدِهِ مَشْيَخَةُ الشُّيُوخِ وَتَدْرِيسِ الْأَتَابِكِيَّةِ، وَاسْتَدْعَى نَائِبُ السَّلْطَنَةِ شَيْخَنَا الْإِمَامَ الزَّاهِدَ بُرْهَانَ الدِّينِ الْفَزَارِيَّ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ فَامْتَنَعَ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ فَأَبَى وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِهِ أَعْيَانَ النَّاسِ إِلَى الْمَدْرَسَةِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ بِكُلِّ حِيلَةٍ فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ الْوِلَايَةِ، وَصَمَّمَ أَشَدَّ التَّصْمِيمِ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا عَنْ مُرُوءَتِهِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ قَدِمَ الْبَرِيدُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِطَلَبِ الْخَطِيبِ جَلَالِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِتَوْلِيَةِ قَضَاءِ الشَّامِ. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ خُلِعَ عَلَى الصَّدْرِ تَقِيِّ الدِّينِ

سُلَيْمَانَ بْنِ مَرَاجِلَ بِنَظَرِ الْجَامِعِ عِوَضًا عَنْ بَدْرِ الدِّينِ بْنِ الْحَدَّادِ، تُوُفِّيَ، وَأُخِذَ مِنِ ابْنِ مَرَاجِلَ نَظَرُ الْمَارَسْتَانِ الصَّغِيرِ لِبَدْرِ الدِّينِ بْنِ الْعَطَّارِ.
وَخَسَفَ الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ بَعْدَ الْعَشَاءِ، فَصَلَّى الْخَطِيبُ صَلَاةَ الْكُسُوفِ بِأَرْبَعِ سُوَرٍ: ق، وَاقْتَرَبَتْ، وَالْوَاقِعَةِ، وَالْقِيَامَةِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَشَاءَ، ثُمَّ خَطَبَ بَعْدَهَا لِلْكُسُوفِ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ الصُّبْحَ، ثُمَّ رَكِبَ عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى مِصْرَ، فَرُزِقَ مِنَ السُّلْطَانِ قَبُولًا، وَوَلَّاهُ بَعْدَ أَيَّامٍ الْقَضَاءَ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى الشَّامِ فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي خَامِسِ رَجَبٍ عَلَى الْقَضَاءِ مَعَ الْخَطَابَةِ، وَتَدْرِيسِ الْعَادِلِيَّةِ، وَالْغَزَّالِيَّةِ، فَبَاشَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ الْأَمِينِيَّةُ، فَدَرَّسَ فِيهَا جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ مَعَ وَكَالَةِ بَيْتِ الْمَالِ، وَأُضِيفَ إِلَيْهِ قَضَاءُ الْعَسَاكِرِ، وَخُوطِبَ بِقَاضِي الْقُضَاةِ جَلَالِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ.
وَفِيهَا قَدِمَ مَلِكُ التَّكْرُورِ إِلَى الْقَاهِرَةِ بِسَبَبِ الْحَجِّ فِي خَامِسِ عِشْرِينَ رَجَبٍ، فَنَزَلَ بِالْقَرَافَةِ وَمَعَهُ مِنَ الْمَغَارِبَةِ وَالْخَدَمِ نَحْوٌ مَنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَمَعَهُمْ ذَهَبٌ كَثِيرٌ بِحَيْثُ إِنَّهُ نَزَلَ سِعْرُ الذَّهَبِ دِرْهَمَيْنِ، وَيُقَالُ لَهُ: الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ مُوسَى بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ شَابٌّ جَمِيلُ الصُّورَةِ، لَهُ مَمْلَكَةٌ مُتَّسِعَةٌ مَسِيرَةَ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَيُذْكَرُ أَنَّ تَحْتَ يَدِهِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ مَلِكًا، كُلُّ مَلِكٍ تَحْتَ يَدِهِ خَلْقٌ

وَعَسَاكِرُ، وَلَمَّا دَخَلَ إِلَى قَلْعَةِ الْجَبَلِ لِيُسَلِّمَ عَلَى السُّلْطَانِ أُمِرَ بِتَقْبِيلِ الْأَرْضِ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَأَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ، وَلَمْ يُمَكَّنْ مِنَ الْجُلُوسِ أَيْضًا حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ السُّلْطَانِ، وَأُحْضِرَ لَهُ حِصَانٌ أَشْهَبُ بِزُنَّارِيٍّ أَطْلَسَ أَحْمَرَ، وَهُيِّئَتْ لَهُ هُجُنٌ وَآلَاتٌ كَثِيرَةٌ تَلِيقُ بِمِثْلِهِ، وَأَرْسَلَ هُوَ أَيْضًا إِلَى السُّلْطَانِ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، مِنْ جُمْلَتِهَا أَرْبَعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَإِلَى النَّائِبِ بِنَحْوِ عَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَتُحَفٌ كَثِيرَةٌ.
وَفِي شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ زَادَ النِّيلُ بِمِصْرَ زِيَادَةً عَظِيمَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا مِنْ نَحْوِ مِائَةِ سَنَةٍ أَوْ أَزْيَدَ مِنْهَا، وَمَكَثَ عَلَى الْأَرَاضِي نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ، وَغَرَّقَ أَقْصَابًا كَثِيرَةً، وَلَكِنْ كَانَ نَفْعُهُ أَعْظَمَ مِنْ ضَرَرِهِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَامِنَ عَشَرَ شَعْبَانَ اسْتَنَابَ الْقَاضِي جَلَالُ الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ نَائِبَيْنِ فِي الْحُكْمِ، وَهُمَا يُوسُفُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جُمْلَةَ الْمَحَجِّيُّ الصَّالِحِيُّ، وَقَدْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمِصْرِيُّ، وَحَكَمَا يَوْمَئِذٍ بِالْعَادِلِيَّةِ، وَمِنَ الْغَدِ جَاءَ الْبَرِيدُ وَمَعَهُ تَقْلِيدُ قَضَاءِ

حَلَبَ لِلشَّيْخِ كَمَالِ الدِّينِ بْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ، فَاسْتَدْعَاهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ، وَفَاوَضَهُ فِي ذَلِكَ فَامْتَنَعَ، فَرَاجَعَهُ النَّائِبُ ثُمَّ رَاجَعَ السُّلْطَانَ، فَجَاءَ الْبَرِيدُ فِي ثَانِيَ عَشَرَ رَمَضَانَ بِإِمْضَاءِ الْوِلَايَةِ، فَشَرَعَ لِلتَّأَهُّبِ لِبِلَادِ حَلَبَ، وَتَمَادَى فِي ذَلِكَ حَتَّى كَانَ خُرُوجُهُ إِلَيْهَا فِي بُكْرَةِ يَوْمِ الْخَمِيسِ رَابِعَ عَشَرَ شَوَّالٍ، وَدَخَلَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ سَادِسِ عِشْرِينَ شَوَّالٍ، فَأُكْرِمَ إِكْرَامًا زَائِدًا، وَدَرَّسَ بِهَا، وَأَلْقَى عُلُومًا أَكْبَرَ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَحَصَلَ لَهُمُ الشَّرَفُ بِفُنُونِهِ وَفَوَائِدِهِ، وَحَصَلَ لِأَهْلِ الشَّامِ الْأَسَفُ عَلَى دُرُوسِهِ الْأَنِيقَةِ الْفَائِقَةِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الشَّاعِرُ، وَهُوَ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ الْخَيَّاطُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ مُطَوَّلَةٍ، أَوَّلُهَا قَوْلُهُ:
أَسِفَتْ لِفَقْدِكَ جِلَّقُ الْفَيْحَاءُ وَتَبَاشَرَتْ بِقُدُومِكَ الشَّهْبَاءُ
وَفِي ثَامِنِ رَمَضَانَ عُزِلَ أَمِينُ الْمُلْكِ عَنْ وِزَارَةِ مِصْرَ، وَأُضِيفَتِ الْوِزَارَةُ إِلَى الْأَمِيرِ عَلَاءِ الدِّينِ مُغْلَطَاي الْجَمَّالِيِّ أُسْتَادَارِ السُّلْطَانِ. وَفِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ طُلِبَ الصَّاحِبُ شَمْسُ الدِّينِ غِبْرِيَالُ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَتَوَلَّى بِهَا نَظَرَ الدَّوَاوِينِ عِوَضًا عَنْ كَرِيمِ الدِّينِ الصَّغِيرِ، وَقَدِمَ كَرِيمُ الدِّينِ الْمَذْكُورُ إِلَى دِمَشْقَ مُبَاشِرًا بِهَا نَظَرَ الدَّوَاوِينِ، فَقَدِمَهَا فِي شَوَّالٍ، فَنَزَلَ بِدَارِ الْعَدْلِ مَنَ الْقَصَّاعِينَ.
وَوَلِيَ سَيْفُ الدِّينِ قُدَيْدَارُ وِلَايَةَ مِصْرَ، وَهُوَ شَهْمٌ سَفَّاكٌ لِلدِّمَاءِ، فَأَرَاقَ

الْخُمُورَ، وَأَحْرَقَ الْحَشِيشَةَ، وَأَمْسَكَ الشُّطَّارَ، وَاسْتَقَامَتْ بِهِ أَحْوَالُ الْقَاهِرَةِ وَمِصْرَ، وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ مُلَازِمًا لِابْنِ تَيْمِيَّةَ مُدَّةَ مُقَامِهِ بِمِصْرَ.
وَفِي رَمَضَانَ قَدِمَ إِلَى مِصْرَ الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ الشَّحَّامِ الْمَوْصِلِيُّ مِنْ بِلَادِ السُّلْطَانِ أُزْبَكَ، وَعِنْدَهُ فُنُونٌ مِنْ عِلْمِ الطِّبِّ وَغَيْرِهِ، وَمَعَهُ كِتَابٌ بِالْوَصِيَّةِ بِهِ، فَأُعْطِيَ تَدْرِيسَ الظَّاهِرِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، نَزَلَ لَهُ عَنْهَا جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ، فَبَاشَرَهَا فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْحِجَّةِ، ثُمَّ دَرَّسَ بِالْجَارُوخِيَّةِ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ فِي تَاسِعِ شَوَّالٍ وَأَمِيرُهُ كُوكَنْجِيَارُ الْمُحَمَّدِيُّ، وَقَاضِيهِ شِهَابُ الدِّينِ الظَّاهِرِيُّ. وَمِمَّنْ خَرَجَ إِلَى الْحَجِّ بُرْهَانُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ، وَشِهَابُ الدِّينِ قَرَطَاي النَّاصِرِيُّ نَائِبُ طَرَابُلُسَ، وَصَارُوجَا وَشِهْرَى وَغَيْرُهُمْ.
وَفِي نِصْفِ شَوَّالٍ زَادَ السُّلْطَانُ فِي عِدَّةِ الْفُقَهَاءِ بِمَدْرَسَتِهِ النَّاصِرِيَّةِ، كَانَ فِيهَا مَنْ كُلِّ مَذْهَبٍ ثَلَاثُونَ ثَلَاثُونَ، فَزَادَهُمْ إِلَى أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ، وَزَادَهُمْ فِي الْجَوَامِكِ أَيْضًا.
وَفِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ وُجِدَ كَرِيمُ الدِّينِ الْكَبِيرُ وَكِيلُ السُّلْطَانِ قَدْ شَنَقَ نَفْسَهُ دَاخِلَ خِزَانَةٍ لَهُ قَدْ أَغْلَقَهَا عَلَيْهِ مِنْ دَاخِلٍ، رَبَطَ حَلْقَهُ فِي حَبْلٍ، كَانَ تَحْتَ رِجْلَيْهِ قَفَصٌ، فَدَفَعَ الْقَفَصَ بِرِجْلَيْهِ، فَمَاتَ فِي مَدِينَةِ أُسْوَانَ، وَسَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ.
وَفِي سَابِعَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ زُيِّنَتْ دِمَشْقُ بِسَبَبِ عَافِيَةِ السُّلْطَانِ مِنْ مَرَضٍ كَانَ قَدْ أَشْفَى مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ دَرَّسَ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ

بِالظَّاهِرِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ، سَافَرَ عَلَى قَضَاءِ حَلَبَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقَاضِي الْقَزْوِينِيُّ.
وَجَاءَ كِتَابٌ صَادِقٌ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْمَوْلَى شَمْسِ الدِّينِ بْنِ سِنَانٍ، يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّ الْأَمِيرَ جُوبَانَ أَعْطَى الْأَمِيرَ مُحَمَّدَ حُسَيْنَاهْ قَدَحًا فِيهِ خَمْرٌ لِيَشْرَبَهُ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ، وَأَقْسَمَ، فَأَبَى أَشَدَّ الْإِبَاءِ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ لَمْ تَشْرَبْهَا كَلَّفْتُكَ أَنْ تَحْمِلَ ثَلَاثِينَ تُومَانًا، فَقَالَ: نَعَمْ، أَحْمِلُ وَلَا أَشْرَبُهَا، فَكَتَبَ عَلَيْهِ حُجَّةً بِذَلِكَ، وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى أَمِيرٍ آخَرَ يُقَالُ لَهُ: يَلْبَى، فَاسْتَقْرَضَ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَالَ؛ ثَلَاثِينَ تُومَانًا، فَأَبَى أَنْ يُقْرِضَهُ إِلَّا بِرِبْحِ عَشَرَةِ تَوَامِينَ، فَاتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، فَبَعَثَيَلْبَى إِلَى جُوبَانَ يَقُولُ لَهُ: الْمَالُ الَّذِي طَلَبْتَهُ مِنْ حُسَيْنَاهْ عِنْدِي، فَإِنْ رَسَمْتَ حَمَلْتُهُ إِلَى الْخِزَانَةِ الشَّرِيفَةِ، وَإِنْ رَسَمْتَ تُفَرِّقُهُ عَلَى الْجَيْشِ، فَأَرْسَلَ جُوبَانُ إِلَى مُحَمَّدِ حُسَيْنَاهْ فَأَحْضَرَهُ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: تَزِنُ أَرْبَعِينَ تُومَانًا وَلَا تَشْرَبُ قَدَحًا مَنْ خَمْرٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَمَزَّقَ الْحُجَّةَ الْمُكْتَتَبَةَ عَلَيْهِ، وَحَظِيَ عِنْدَهُ، وَحَكَّمَهُ فِي أُمُورِهِ كُلِّهَا، وَوَلَّاهُ وِلَايَاتٍ كِبَارًا، وَحَصَلَ لِجُوبَانَ إِقْلَاعٌ وَإِنَابَةٌ، وَرُجُوعٌ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا كَانَ يَتَعَاطَاهُ، رَحِمَ اللَّهُ حُسَيْنَاهْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ فِتْنَةٌ بِأَصْبَهَانَ قُتِلَ بِسَبَبِهَا أُلُوفٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَاسْتَمَرَّتِ

الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ شُهُورًا، وَفِيهَا كَانَ غَلَاءٌ مُفْرِطٌ بِدِمَشْقَ، بَلَغَتِ الْغِرَارَةُ مِائَتَيْنِ وَعِشْرِينَ، وَقَلَّتِ الْأَقْوَاتُ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَقَامَ لِلنَّاسِ مَنْ يَحْمِلُ لَهُمُ الْغَلَّةَ مِنْ مِصْرَ لَاشْتَدَّ الْغَلَاءُ وَزَادَ أَضْعَافَ ذَلِكَ، وَكَانَ مَاتَ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ مُدَّةَ شُهُورٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَإِلَى أَثْنَاءِ سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، حَتَّى قَدِمَتِ الْغَلَّاتُ، وَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
تُوُفِّيَ فِي مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ بَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مَمْدُودِ بْنِ أَحْمَدَ الْحَنَفِيُّ، قَاضِي قَلْعَةِ الرُّومِ بِالْحِجَازِ الشَّرِيفِ، وَقَدْ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا، حَجَّ مَرَّاتٍ عَدِيدَةً، وَرُبَّمَا أَحْرَمَ مِنْ قَلْعَةِ الرُّومِ، وَأَحْرَمَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِدِمَشْقَ صَلَاةَ الْغَائِبِ، وَعَلَى شَرَفِ الدِّينِ بْنِ الْعِزِّ، وَعَلَى شَرَفِ الدِّينِ بْنِ نَجِيحٍ، تُوُفُّوا فِي أَقَلِّ مِنْ نِصْفِ شَهْرٍ، كُلُّهُمْ بِطَرِيقِ الْحِجَازِ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنَ الْحَجِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ غَبَطُوا ابْنَ نَجِيحٍ صَاحِبَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ بِتِلْكَ الْمَوْتَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَرُزِقُوهَا، فَمَاتُوا عَقِيبَ عَمَلِهِمُ الصَّالِحِ بَعْدَ الْحَجِّ.
الْجِهَةُ الْكَبِيرَةُ خَوَنْدُ بِنْتُ نُوكَايْ، زَوْجَةُ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ، وَقَدْ

كَانَتْ زَوْجَةَ أَخِيهِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ، ثُمَّ هَجَرَهَا النَّاصِرُ وَأَخْرَجَهَا مِنَ الْقَلْعَةِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهَا حَافِلَةً، وَدُفِنَتْ بِتُرْبَتِهَا الَّتِي أَنْشَأَتْهَا.
الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ فَرْعُوشَ، وَيُقَالُ لَهُ: اللَّبَّادُ، وَيُعْرَفُ بِالْمُوَلَّهِ، كَانَ يُقْرِئُ النَّاسَ بِالْجَامِعِ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقَدْ قَرَأْتُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَانَ يُعَلِّمُ الصِّغَارَ الْحُرُوفَ الْمُشِقَّةَ، كَالرَّاءِ وَنَحْوِهَا، وَكَانَ مُتَقَلِّلًا مِنَ الدُّنْيَا، لَا يَقْتَنِي شَيْئًا، وَلَيْسَ لَهُ بَيْتٌ وَلَا خِزَانَةٌ، إِنَّمَا كَانَ يَأْكُلُ فِي السُّوقِ وَيَنَامُ فِي الْجَامِعِ، تُوُفِّيَ فِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ، وَدُفِنَ فِي بَابِ الْفَرَادِيسِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ تُوُفِّيَ بِمِصْرَ الشَّيْخُ أَيُّوبُ السُّعُودِيُّ، وَقَدْ قَارَبَ الْمِائَةَ، أَدْرَكَ الشَّيْخَ أَبَا السُّعُودِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ مَشْهُودَةً، وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ شَيْخِهِ بِالْقَرَافَةِ، وَكَتَبَ عَنْهُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ فِي حَيَاتِهِ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّحْبِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ مِثْلَ جِنَازَتِهِ بِالْقَاهِرَةِ مُنْذُ سَكَنَهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ نُورُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ جِبْرِيلَ الْبَكْرِيُّ الْمِصْرِيُّ الشَّافِعِيُّ، لَهُ تَصَانِيفُ، وَقَرَأَ " مُسْنَدَ الشَّافِعِيِّ " عَلَى وَزِيرَةَ

بِنْتِ الْمُنَجَّا، ثُمَّ إِنَّهُ أَقَامَ بِمِصْرَ، وَقَدْ كَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ يُنْكِرُ عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، فَأَرَادَ بَعْضُ الدَّوْلَةِ قَتْلَهُ، فَهَرَبَ وَاخْتَفَى، كَمَا تَقَدَّمَ لَمَّا كَانَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ مُقِيمًا بِمِصْرَ، وَمَا مِثَالُهُ إِلَّا مِثَالُ سَاقِيَةٍ ضَعِيفَةٍ كَدِرَةٍ، لَاطَمَتْ بَحْرًا عَظِيمًا صَافِيًا، أَوْ رَمَلَةٍ أَرَادَتْ زَوَالَ جَبَلٍ، وَقَدْ أَضْحَكَ الْعُقَلَاءَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَرَادَ السُّلْطَانُ قَتْلَهُ، فَشَفَعَ فِيهِ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ، ثُمَّ أَنْكَرَ مَرَّةً شَيْئًا عَلَى الدَّوْلَةِ فَنُفِيَ مِنَ الْقَاهِرَةِ إِلَى بَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا: دَهْرُوطُ، فَكَانَ بِهَا حَتَّى تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ سَابِعِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ مَشْهُورَةً غَيْرَ مَشْهُودَةٍ، وَكَانَ شَيْخُهُ يُنْكِرُ عَلَيْهِ إِنْكَارَهُ عَلَى ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَيَقُولُ لَهُ: أَنْتَ لَا تُحْسِنُ أَنْ تَتَكَلَّمَ.
الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْبَاجُرْبَقِيُّ، الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْفِرْقَةُ الضَّالَّةُ الْبَاجُرْبَقِيَّةُ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمْ إِنْكَارُ الصَّانِعِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، وَقَدْ كَانَ وَالِدُهُ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عُمَرَ الْمَوْصِلِيُّ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَدَرَّسَ فِي أَمَاكِنَ بِدِمَشْقَ، وَنَشَأَ وَلَدُهُ هَذَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَاشْتَغَلَ بَعْضَ شَيْءٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى السُّلُوكِ، وَلَازَمَهُ جَمَاعَةٌ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ وَيَزُورُونَهُ مِمَّنْ هُوَ

عَلَى طَرِيقَتِهِ، وَآخَرُونَ لَا يَفْهَمُونَهُ، ثُمَّ حَكَمَ الْقَاضِي الْمَالِكِيُّ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ، فَهَرَبَ إِلَى الشَّرْقِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَثْبَتَ عَدَاوَةً بَيْنِهِ وَبَيْنَ الشُّهُودِ، فَحَكَمَ الْحَنْبَلِيُّ بِحَقْنِ دَمِهِ، فَأَقَامَ بِالْقَابُونِ مُدَّةَ سِنِينَ حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ سَادِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَغَارَةِ الدَّمِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ فِي قُبَّةٍ فِي أَعْلَى ذَيْلِ الْجَبَلِ تَحْتَ الْمَغَارَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ سِتُّونَ سَنَةً.
شَيْخُنَا الْقَاضِي الْمُعَمَّرُ الْفَقِيهُ مُحْيِي الدِّينِ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ الْفَاضِلِ جَمَالِ الدِّينِ إِسْحَاقَ بْنِ خَلِيلِ بْنِ فَارِسٍ الشَّيْبَانِيُّ الشَّافِعِيُّ، اشْتَغَلَ عَلَى النَّوَاوِيِّ، وَلَازَمَ الْمَقْدِسِيَّ، وَوَلِيَ الْحُكْمَ بِزُرَعَ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ قَامَ بِدِمَشْقَ يَشْتَغِلُ فِي الْجَامِعِ، وَدَرَّسَ فِي الصَّارِمِيَّةِ، وَأَعَادَ فِي مَدَارِسَ عِدَّةٍ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي سَلْخِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَدُفِنَ بَقَاسِيُونَ وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَسَمِعَ كَثِيرًا، وَخَرَّجَ لَهُ الذَّهَبِيُّ شَيْئًا، وَسَمِعْنَا عَلَيْهِ " الدَّارَقُطْنِيَّ " وَغَيْرَهُ.
الْفَقِيهُ الْكَبِيرُ الصَّدْرُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْخَطِيبُ بِالْجَامِعِ بَدْرُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَدَّادِ الْآمِدِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ، وَحَفِظَ " الْمُحَرَّرَ " فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَبَرَعَ عَلَى ابْنِ

حَمْدَانَ، وَشَرَحَهُ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ سِنِينَ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ حَمْدَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ كَثِيرًا وَعَلَى ذِهْنِهِ وَذَكَائِهِ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالْكِتَابَةِ، وَلَزِمَ خِدْمَةَ الْأَمِيرِ قَرَاسُنْقُرَ بِحَلَبَ، فَوَلَّاهُ نَظَرَ الْأَوْقَافِ وَخَطَابَةَ حَلَبَ بِجَامِعِهَا الْأَعْظَمِ، ثُمَّ لَمَّا صَارَ إِلَى دِمَشْقَ وَلَّاهُ الْخَطَابَةَ، فَاسْتَمَرَّ خَطِيبًا فِيهَا اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ أُعِيدَ إِلَيْهَا جَلَالُ الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ، ثُمَّ وَلِيَ نَظَرَ الْمَارَسْتَانِ وَوَلِيَ الْحِسْبَةَ وَنَظَرَ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَعُيِّنَ لِقَضَاءِ الْحَنَابِلَةِ فِي وَقْتٍ، ثُمَّ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْكَاتِبُ الْمُفِيدُ قُطْبُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلِ بْنِ فَضْلِ اللَّهِ الْمِصْرِيُّ، أَخُو مُحْيِي الدِّينِ كَاتِبِ تَنْكِزَ، وَوَالِدُ الصَّاحِبِ عَلَمِ الدِّينِ كَانَ خَبِيرًا بِالْكِتَابَةِ، وَقَدْ وَلِيَ اسْتِيفَاءَ الْأَوْقَافِ بَعْدَ أَخِيهِ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ أَخِيهِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ صِنَاعَةَ الْكِتَابَةِ وَغَيْرَهَا، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ ثَانِي رَجَبٍ، وَعُمِلَ عَزَاؤُهُ بِالسُّمَيْسَاطِيَّةِ، وَكَانَ مُبَاشِرَ أَوْقَافِهَا.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ مَلِكُ الْعَرَبِ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُهَنَّا، أَخُو مُهَنَّا، تُوُفِّيَ بِسَلَمْيَةَ يَوْمَ السَّبْتِ سَابِعِ رَجَبٍ، وَقَدْ جَاوَزَ السِّتِّينَ، كَانَ مَلِيحَ الشَّكْلِ، حَسَنَ السِّيرَةِ، عَاقِلًا عَارِفًا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى دِمَشْقَ بِمَوْتِ الْوَزِيرِ الْكَبِيرِ تَاجِ الدِّينِ

عَلِيِّ شَاهْ بْنِ أَبِي بَكْرٍ التِّبْرِيزِيِّ، وَزِيرِ بُو سَعِيدٍ بَعْدَ قَتْلِ سَعْدِ الدِّينِ السَّاوِيِّ، وَكَانَ شَيْخًا جَلِيلًا، فِيهِ دِينٌ وَخَيْرٌ، وَحُمِلَ إِلَى تِبْرِيزَ فَدُفِنَ بِهَا فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَكْتَمُرُ، وَالِي الْوُلَاةِ، صَاحِبُ الْأَوْقَافِ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى مِنْ ذَلِكَ مَدْرَسَةٌ بِالصَّلْتِ، وَلَهُ دَرْسٌ بِمَدْرَسَةِ أَبِي عُمَرَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، تُوُفِّيَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَهُوَ نَائِبُهَا فِي خَامِسِ رَمَضَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
شَرَفُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ زَيْنِ الدِّينِ بْنِ الْمُنَجَّا بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ الْمُنَجَّا التَّنُوخِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، أَخُو قَاضِي الْقُضَاةِ عَلَاءِ الدِّينِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَدَرَّسَ، وَأَفْتَى، وَصَحِبَ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ، وَكَانَ فِيهِ دِينٌ، وَمَوَدَّةٌ، وَكَرَمٌ، وَقَضَاءُ حُقُوقٍ كَثِيرَةٍ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ رَابِعِ شَوَّالٍ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ بِالصَّالِحِيَّةِ.
الشَّيْخُ حَسَنٌ الْكُرْدِيُّ الْمُوَلَّهُ، كَانَ يُخَالِطُ النَّجَاسَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ وَيَمْشِي حَافِيًا، وَرُبَّمَا تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنَ الْهَذَيَانَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ عِلْمَ الْمُغَيَّبَاتِ، وَلِبَعْضِ النَّاسِ فِيهِ اعْتِقَادَاتٌ، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَهْلِ الْعَمَى

وَالضَّلَالَاتِ، مَاتَ فِي شَوَّالٍ.
كَرِيمُ الدِّينِ الَّذِي كَانَ وَكِيلَ السُّلْطَانِ، عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْعَلَمِ هِبَةِ اللَّهِ الْمُسْلِمَانِيُّ، حَصَلَ لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَالتَّقَدُّمِ، وَالْمَكَانَةِ الْخَطِيرَةِ عِنْدَ السُّلْطَانِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهِ فِي دَوْلَةِ الْأَتْرَاكِ، وَقَدْ وَقَفَ الْجَامِعَيْنِ بِدِمَشْقَ أَحَدُهُمَا بِالْقُبَيْبَاتِ وَالْحَوْضِ الْكَبِيرِ الَّذِي تُجَاهَ بَابِ الْجَامِعِ، وَاشْتَرَى لَهُ نَهْرَ مَاءٍ بِخَمْسِينَ أَلْفًا، فَانْتَفَعَ بِهِ النَّاسُ انْتِفَاعًا كَثِيرًا، وَوَجَدُوا رِفْقًا، وَالثَّانِي الَّذِي بِالْقَابُونِ، وَلَهُ صَدَقَاتٌ كَثِيرَةٌ، تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ وَعَفَا عَنْهُ، وَقَدْ مُسِكَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، فَصُودِرَ ثُمَّ نُفِيَ إِلَى الشَّوْبَكِ، ثُمَّ إِلَى الْقُدْسِ، ثُمَّ الصَّعِيدِ، فَخَنَقَ نَفْسَهُ - كَمَا قِيلَ - فِي عِمَامَتِهِ بِمَدِينَةِ أُسْوَانَ، وَذَلِكَ فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ، وَقَدْ كَانَ حَسَنَ الشَّكْلِ، تَامَّ الْقَامَةِ، وَوُجِدَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ذَخَائِرُ كَثِيرَةٌ، سَامَحَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْعَطَّارِ، شَيْخُ دَارِ الْحَدِيثِ النُّورِيَّةِ، وَمُدَرِّسُ الْقُوصِيَّةِ بِالْجَامِعِ، وُلِدَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ عَلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَالِمِ الْعَلَّامَةِ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَاوِيِّ، وَلَازَمَهُ حَتَّى كَانَ يُقَالُ لَهُ: مُخْتَصَرُ النَّوَاوِيِّ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتُ، وَفَوَائِدُ وَمَجَامِيعُ، وَتَخَارِيجُ، وَبَاشَرَ مَشْيَخَةَ النُّورِيَّةِ مِنْ سَنَةِ

أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، مُدَّةَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْهَا مُسْتَهَلِّ ذِي الْحِجَّةِ، فَوَلِيَ بَعْدَهُ النُّورِيَّةَ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ، وَتَوَلَّى الْقُوصِيَّةَ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ حِرْزِ اللَّهِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ بَقَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَحُكَّامُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَأَوَّلُهَا يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ.
وَفِي خَامِسِ صَفَرٍ مِنْهَا قَدِمَ إِلَى دِمَشْقَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ مَحْمُودٌ الْأَصْبَهَانِيُّ بَعْدَ مَرْجِعِهِ مِنَ الْحَجِّ وَزِيَارَةِ الْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاضِلٌ لَهُ مُصَنَّفَاتُ مِنْهَا " شَرْحُ مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ "، وَ " شَرْحُ التَّجْرِيدِ "، وَغَيْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ شَرَحَ " الْحَاجِبِيَّةَ " أَيْضًا، وَجَمَعَ تَفْسِيرًا بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ إِلَى مِصْرَ، وَلَمَّا قَدِمَ إِلَى دِمَشْقَ أُكْرِمَ، وَاشْتَغَلَ عَلَيْهِ الطَّلَبَةُ، وَكَانَ حَظِيًّا عِنْدَ الْقَاضِي جَلَالِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَرَكَ الْكُلَّ، وَصَارَ يَتَرَدَّدُ إِلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَسَمِعَ عَلَيْهِ مِنْ مُصَنَّفَاتِهِ، وَرَدِّهِ عَلَى أَهْلِ الْكَلَامِ، وَلَازَمَهُ مُدَّةً، فَلَمَّا مَاتَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ تَحَوَّلَ إِلَى مِصْرَ وَجَمَعَ التَّفْسِيرَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ جَرَّدَ السُّلْطَانُ تَجْرِيدَةً نَحْوَ خَمْسَةِ آلَافٍ إِلَى الْيَمَنِ صُحْبَةَ الْأَمِيرِ رُكْنِ الدِّينِ بَيْبَرْسَ الْحَاجِبِ، وَسَيْفِ الدِّينِ طِينَالَ الْحَاجِبِ أَيْضًا نَجْدَةً لِصَاحِبِ الْيَمَنِ لِخُرُوجِ عَمِّهِ عَلَيْهِ، وَصَحِبَهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْحُجَّاجِ مِنْهُمُ

الشَّيْخُ فَخْرُ الدِّينِ النُّوَيْرِيُّ.
وَفِيهَا مُنِعَ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ مُرِّيٍّ الْبَعْلَبَكِّيُّ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى النَّاسِ بِمِصْرَ عَلَى طَرِيقَةِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَعَزَّرَهُ الْقَاضِي الْمَالِكِيُّ بِسَبَبِ مَسْأَلَةِ الِاسْتِغَاثَةِ، وَحَضَرَ الْمَذْكُورُ بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، ثُمَّ سُفِّرَ إِلَى الشَّامِ بِأَهْلِهِ فَنَزَلَ بِبِلَادِ الْخَلِيلِ، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ، وَانْتَزَحَ إِلَى بِلَادِ الشَّرْقِ، وَأَقَامَ بِسِنْجَارَ وَمَارِدِينَ وَمُعَامَلَتِهِمَا، يَتَكَلَّمُ وَيَعِظُ النَّاسَ إِلَى أَنْ مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ عَادَ نَائِبُ الشَّامِ مِنْ مِصْرَ وَقَدْ أَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ وَالْأُمَرَاءُ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى وَقَعَ بِمِصْرَ مَطَرٌ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، بِحَيْثُ زَادَ النِّيلُ بِسَبَبِهِ أَرْبَعَ أَصَابِعَ، وَتَغَيَّرَ أَيَّامًا. وَفِيهِ زَادَتْ دِجْلَةُ بِبَغْدَادَ حَتَّى غَرَّقَتْ مَا حَوْلَ بَغْدَادَ، وَانْحَصَرَ النَّاسُ بِهَا سِتَّةَ أَيَّامٍ لَمْ تُفْتَحْ أَبْوَابُهَا، وَبَقِيَتْ مِثْلَ السَّفِينَةِ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ، وَغَرِقَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفَلَّاحِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَتَلِفَ لِلنَّاسِ مَا لَا يَعْلَمُ قِيمَتَهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَوَدَّعَ أَهْلُ الْبَلَدِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَجَئُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَحَمَلُوا الْمَصَاحِفَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَحَمَلَ النَّاسُ فِي سَدِّ السُّكُورِ بِأَنْفُسِهِمْ، حَتَّى الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَكَانَ وَقْتًا عَجِيبًا، ثُمَّ لَطَفَ اللَّهُ بِهِمْ، فَغِيضَ الْمَاءُ وَتَنَاقَصَ،

وَتَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِمُ الْجَائِزَةِ وَغَيْرِ الْجَائِزَةِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ غَرِقَ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ نَحْوٌ مِنْ سِتَّةِ آلَافٍ وَسِتِّمِائَةِ بَيْتٍ، وَإِلَى عَشَرَةِ سِنِينَ لَا يَرْجِعُ مَا غَرِقَ.
وَفِي أَوَائِلِ جُمَادَى الْآخِرَةِ فَتَحَ السُّلْطَانُ خَانَقَاهْ سِرْيَاقُوسَ الَّتِي أَنْشَأَهَا، وَسَاقَ إِلَيْهَا خَلِيجًا، وَبَنَى عِنْدَهَا مَحِلَّةً، وَحَضَرَ بِهَا وَمَعَهُ الْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ، وَالْأُمَرَاءُ، وَغَيْرُهُمْ، وَوَلِيَهَا مَجْدُ الدِّينِ الْأَقْصُرَائِيُّ، وَعَمِلَ السُّلْطَانُ بِهَا وَلِيمَةً عَظِيمَةً، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ وَكِيرَةٌ، وَسَمِعَ عَلَى قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنِ جَمَاعَةَ عِشْرِينَ حَدِيثًا بِقِرَاءَةِ وَلَدِهِ عِزِّ الدِّينِ بِحَضْرَةِ الدَّوْلَةِ مِنْهُمْ أَرْغُوَنُ النَّائِبُ، وَشَيْخُ الشُّيُوخِ الْقُونَوِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَخُلِعَ عَلَى الْقَارِئِ عِزِّ الدِّينِ، وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ ثَنَاءً زَائِدًا، وَأُجْلِسَ مُكَرَّمًا، وَخُلِعَ أَيْضًا عَلَى وَالِدِهِ ابْنِ جَمَاعَةَ وَعَلَى الْمَالِكِيِّ، وَشَيْخِ الشُّيُوخِ، وَعَلَى مَجْدِ الدِّينِ الْأَقْصُرَائِيِّ شَيْخِ الْخَانَقَاهْ الْمَذْكُورَةِ، وَغَيْرِهِمْ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ عَشَرَ رَجَبٍ دَرَّسَ بِقُبَّةِ الْمَنْصُورِيَّةِ فِي الْحَدِيثِ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ بْنُ الْكَتَّانِيِّ الدِّمَشْقِيُّ، بِإِشَارَةِ نَائِبِ الْكَرَكِ وَأَرْغُوَنَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ النَّاسُ، وَكَانَ فَقِيهًا جَيِّدًا، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ مِنْ فَنِّهِ وَلَا مَنْ شُغْلِهِ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ قَدِمَ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُرَحِّلِ مِنْ مِصْرَ عَلَى تَدْرِيسِ الشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَكَانَتْ بِيَدِ ابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ، فَانْتَقَلَ إِلَى قَضَاءِ حَلَبَ، فَدَرَّسَ بِهَا فِي خَامِسِ شَعْبَانَ، وَحَضَرَ الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ.

وَفِي سَلْخِ رَجَبٍ قَدِمَ الْقَاضِي عِزُّ الدِّينِ بْنُ بَدْرِ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ مِنْ مِصْرَ وَمَعَهُ وَلَدُهُ، وَفِي صُحْبَتِهِ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ الدِّمْيَاطِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الطَّلَبَةِ بِسَبَبِ سَمَاعِ الْحَدِيثِ، فَقَرَأَ بِنَفْسِهِ وَقَرَأَ النَّاسُ لَهُ وَاعْتَنَوْا بِأَمْرِهِ، وَسَمِعْنَا مَعَهُمْ وَبِقِرَاءَتِهِ شَيْئًا كَثِيرًا، نَفْعَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَرَءُوا وَبِمَا سَمِعُوا، وَنَفَعَ بِهِمْ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِيَ عَشَرَ شَوَّالٍ دَرَّسَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ بِالرَّوَاحِيَّةِ بَعْدَ ذَهَابِ ابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ إِلَى حَلَبَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَكَانَ فِيهِمْ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَجَرَى يَوْمَئِذٍ بَحْثٌ فِي " الْعَامِّ إِذَا خُصَّ "، وَفِي " الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ النَّفْيِ "، وَوَقَعَ انْتِشَارٌ، وَطَالَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَتَكَلَّمَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ كَلَامًا أَبْهَتَ الْحَاضِرِينَ.
وَتَأَخَّرَ ثُبُوتُ عِيدِ الْفِطْرِ إِلَى قَرِيبِ الظُّهْرِ يَوْمَ الْعِيدِ، فَلَمَّا ثَبَتَ دَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَصَلَّى الْخَطِيبُ الْعِيدَ مِنَ الْغَدِ بِالْجَامِعِ، وَلَمْ يَخْرُجِ النَّاسُ إِلَى الْمُصَلَّى، وَتَغَضَّبَ النَّائِبُ عَلَى الْمُؤَذِّنِينَ، وَسَجَنَ بَعْضَهُمْ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ فِي عَاشِرِهِ، وَأَمِيرُهُ صَلَاحُ الدِّينِ بْنُ أَيْبَكَ الطَّوِيلُ، وَفِي الرَّكْبِ صَلَاحُ الدِّينِ بْنُ الْأَوْحَدِ، وَالْمَنْكُورَسِيُّ، وَقَاضِيهِ شِهَابُ الدِّينِ الظَّاهِرِيُّ.

وَفِي سَابِعَ عَشَرَهُ دَرَّسَ بِالرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ بَقَاسِيُونَ حُسَامُ الدِّينِ الْقَرْمِيُّ، الَّذِي كَانَ قَاضِيَ طَرَابُلُسَ، قَايَضَهُ بِهَا جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّرِيشِيِّ إِلَى تَدْرِيسِ الْمَسْرُورِيَّةِ، وَكَانَ قَدْ جَاءَ تَوْقِيعُهُ بِالْعَذْرَاوِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ، فَوَقَفَ فِي طَرِيقِهِ قَاضِي الْقُضَاةِ جَلَالُ الدِّينِ وَنَائِبَاهُ ابْنُ جُمْلَةَ، وَالْفَخْرُ الْمِصْرِيُّ، وَعَقَدَ لَهُ وَلِكَمَالِ الدِّينِ بْنِ الشِّيرَازِيِّ مَجْلِسًا، وَمَعَهُ تَوْقِيعٌ بِالشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، فَعُطِّلَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُظْهِرَا اسْتِحْقَاقَهُمَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَصَارَتِ الْمَدْرَسَتَانِ الْعَذْرَاوِيَّةُ وَالشَّامِيَّةُ لِابْنِ الْمُرَحِّلِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَعُوِّضَ الْقَرْمِيُّ بِالْمَسْرُورِيَّةِ، فَقَايَضَ مِنْهَا لِابْنِ الشَّرِيشِيِّ إِلَى الرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ، فَدَرَّسَ بِهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقَاضِي جَلَالُ الدِّينِ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ ابْنُ الشَّرِيشِيِّ بِالْمَسْرُورِيَّةِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ النَّاسُ أَيْضًا.
وَفِيهِ عَادَتِ التَّجْرِيدَةُ الْيَمَنِيَّةُ، وَقَدْ فُقِدَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْغِلْمَانِ وَغَيْرِهِمْ، فَحُبِسَ مُقَدَّمُهُمُ الْكَبِيرُ رُكْنُ الدِّينِ بَيْبَرْسُ لِسُوءِ سِيرَتِهِ فِيهِمْ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الصَّيَّاحُ، وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُنِيرٍ الْبَعْلَبَكِّيُّ، كَانَ مَشْهُورًا بِالصَّلَاحِ، وَكَانَ مُقِيمًا بِالْمِئْذَنَةِ الشَّرْقِيَّةِ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ بِالْبَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً، وَحَمَلَهُ النَّاسُ عَلَى

الرُّءُوسِ وَالْأَصَابِعِ، وَكَانَ مُلَازِمًا لِمَجْلِسِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ. إِبْرَاهِيمُ الْمُوَلَّهُ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الْقَمِينِيُّ لِإِقَامَتِهِ بِالْقَمَامِينَ خَارِجَ بَابِ شَرْقِيٍّ، وَرُبَّمَا كَاشَفَ بَعْضَ شَيْءٍ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَقَدِ اسْتَتَابَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَضَرَبَهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَمُخَالَطَةِ الْقَاذُورَاتِ، وَجَمْعِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ حَوْلَهُ فِي الْأَمَاكِنِ النَّجِسَةِ، تُوُفِّيَ كَهْلًا فِي هَذَا الشَّهْرِ.
الشَّيْخُ عَفِيفُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ الصِّقِلِّيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ، إِمَامُ مَسْجِدِ الرَّأْسِ، آخِرُ مِنْ حَدَّثَ عَنِ ابْنِ الصَّلَاحِ بِبَعْضِ " سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ "، سَمِعْنَا عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا، تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ الزَّاهِدُ النَّاسِكُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى بْنِ أَحْمَدَ الْجَزَرِيُّ، الَّذِي كَانَ مُقِيمًا بِمَشْهَدِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ جَامِعِ دِمَشْقَ، كَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْكِبَارِ، مُبَارَكًا خَيِّرًا، عَلَيْهِ سَكِينَةٌ وَوَقَارٌ، وَكَانَتْ لَهُ مُطَالَعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَلَهُ فَهْمٌ جَيِّدٌ وَعَقْلٌ صَحِيحٌ، وَكَانَ مِنَ الْمُلَازِمِينَ لِمَجَالِسِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَكَانَ يَنْقُلُ مِنْ كَلَامِهِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً وَيَفْهَمُهَا، يَعْجِزُ عَنْهَا كِبَارُ الْفُقَهَاءِ،

تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ سَادِسِ عِشْرِينَ صَفَرٍ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً مَحْمُودَةً.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْكَبِيرُ الْمُعَمَّرُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ الصَّائِغِ الْمُقْرِئُ الْمِصْرِيُّ الشَّافِعِيُّ، آخِرُ مَنْ بَقِيَ مِنْ مَشَايِخِ الْقُرَّاءِ، وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَالِمِ بْنِ مَكِّيٍّ، تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً، قَارَبَ التِّسْعِينَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مِنْهَا سِوَى سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ قَرَأَ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ مِمَّنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ صَدْرُ الدِّينِ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ تَمَّامِ بْنِ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ السُّبْكِيُّ الشَّافِعِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَبَرَعَ فِي الْأُصُولِ وَالْفِقْهِ، وَدَرَّسَ بِالسَّيْفِيَّةِ، وَبَاشَرَهَا بَعْدَهُ ابْنُ أَخِيهِ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ الَّذِي تَوَلَّى قَضَاءَ الشَّامِ فِيمَا بَعْدُ.
الشِّهَابُ مَحْمُودٌ، هُوَ الصَّدْرُ الْكَبِيرُ، الشَّيْخُ الْإِمَامُ، الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ، شَيْخُ صِنَاعَةِ الْإِنْشَاءِ، الَّذِي لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الْقَاضِي الْفَاضِلِ مِثْلُهُ فِي صَنْعَةِ الْإِنْشَاءِ، وَلَهُ خَصَائِلُ لَيْسَتْ لِلْفَاضِلِ، مِنْ كَثْرَةِ النَّظْمِ وَالْقَصَائِدِ الْمُطَوَّلَةِ الْحَسَنَةِ الْبَلِيغَةِ، فَهُوَ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو الثَّنَاءِ مَحْمُودُ بْنُ سَلْمَانَ بْنِ فَهْدٍ الْحَلَبِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ، وُلِدَ

سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِحَلَبَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَعُنِيَ بِاللُّغَةِ وَالْأَدَبِ وَالشِّعْرِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْفَضَائِلِ، بَارِعًا فِي عِلْمِ الْإِنْشَاءِ نَظْمًا وَنَثْرًا، وَلَهُ فِي ذَلِكَ كُتُبٌ وَمُصَنَّفَاتٌ حَسَنَةٌ فَائِقَةٌ، وَقَدْ مَكَثَ فِي دِيوَانِ الْإِنْشَاءِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً، ثُمَّ عَمِلَ كِتَابَةَ السِّرِّ بِدِمَشْقَ نَحْوًا مِنْ ثَمَانِي سِنِينَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ السَّبْتِ ثَانِي عِشْرِينَ شَعْبَانَ فِي مَنْزِلِهِ قُرْبَ بَابِ النَّاطِفَانِيِّينَ، وَهِيَ دَارُ الْقَاضِي الْفَاضِلِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةٍ لَهُ أَنْشَأَهَا بِالْقُرْبِ مِنَ الْيَغْمُورِيَّةِ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
شَيْخُنَا الْمُسْنِدُ الْمُعَمَّرُ الرُّحْلَةُ، عَفِيفُ الدِّينِ إِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْآمِدِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ الْحَنَفِيُّ، شَيْخُ دَارِ الْحَدِيثِ الظَّاهِرِيَّةِ، وُلِدَ فِي حُدُودِ الْأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ عَلَى جَمَاعَةٍ كَثِيرِينَ مِنْهُمْ يُوسُفُ بْنُ خَلِيلٍ، وَمَجْدُ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَكَانَ شَيْخًا حَسَنًا بَهِيَّ الْمَنْظَرِ، سَهْلَ الْإِسْمَاعِ، يُحِبُّ الرِّوَايَةَ، وَلَدَيْهِ فَضِيلَةٌ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ ثَانِي عِشْرِينَ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بَقَاسِيُونَ، وَهُوَ وَالِدُ فَخْرِ الدِّينِ نَاظِرِ الْجُيُوشِ وَالْجَامِعِ.
وَقَبْلَهُ بِيَوْمٍ تُوُفِّيَ الصَّدْرُ مُعِينُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ زُغَيْبٍ الرَّحْبِيُّ، أَحَدُ كِبَارِ التُّجَّارِ الْأُمَنَاءِ.

وَفِي رَمَضَانَ تُوُفِّيَ الْبَدْرُ الْعَوَّامُ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَابَا الْحَلَبِيُّ، وَكَانَ فَرْدًا فِي الْعَوْمِ وَطِيبِ الْأَخْلَاقِ، انْتَفَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ التُّجَّارِ فِي بَحْرِ الْيَمَنِ، كَانَ مَعَهُمْ فَغَرِقَ بِهِمُ الْمَرْكَبُ، فَلَجَئُوا إِلَى صَخْرَةٍ فِي الْبَحْرِ، فَكَانُوا عَلَيْهَا، فَخَلَّصَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى يَدَيْهِ وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى السَّاحِلِ، وَكَانُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ، ثُمَّ إِنَّهُ غَطَسَ فَاسْتَخْرَجَ لَهُمْ أَمْوَالًا مِنْ قَرَارِ الْبَحْرِ بَعْدَ أَنْ أَفْلَسُوا وَكَادُوا أَنْ يَهْلِكُوا، وَكَانَ فِيهِ دِيَانَةٌ وَصِيَانَةٌ، وَقَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَحَجَّ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَعَاشَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ يَسْمَعُ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ كَثِيرًا.
وَفِيهِ تُوُفِّيَ الشِّهَابُ أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ الْأَمْشَاطِيُّ، الْأَدِيبُ فِي الْأَزْجَالِ، وَالْمُوَشَّحَاتِ، وَالْمَوَالِيَا، وَالدُّوبَيْتِ، وَالْبَلَالِيقِ، وَكَانَ أُسْتَاذَ أَهْلِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ، مَاتَ فِي عَشْرِ السِّتِّينَ.
الْقَاضِي الْإِمَامُ الْعَالِمُ الزَّاهِدُ، صَدْرُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ بْنُ هِلَالِ بْنِ شِبْلِ بْنِ فَلَاحِ بْنِ خَصِيبٍ الْجَعْفَرِيُّ الشَّافِعِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِخَطِيبِ دَارَيَّا، وُلِدَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ

وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِقَرْيَةِ بُسْرَا مِنْ عَمَلِ السَّوَادِ، وَقَدِمَ مَعَ وَالِدِهِ، فَقَرَأَ بِالصَّالِحِيَّةِ عَلَى الشَّيْخِ نَصْرِ بْنِ عُبَيْدٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيِّ، وَالشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ، وَتَوَلَّى خَطَابَةَ دَارَيَّا، وَأَعَادَ بِالنَّاصِرِيَّةِ، وَتَوَلَّى نِيَابَةَ الْقَضَاءِ لِابْنِ صَصْرَى مُدَّةً، وَكَانَ مُتَزَهِّدًا لَا يَتَنَعَّمُ بِحَمَّامٍ وَلَا كَتَّانٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَمْ يُغَيِّرْ مَا اعْتَادَهُ فِي الْبِرِّ، وَكَانَ مُتَوَاضِعًا، وَهُوَ الَّذِي اسْتَسْقَى بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ، فَسُقُوا كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَانَ يَذْكُرُ لَهُ نَسَبًا إِلَى جَعْفَرٍ الطَّيَّارِ، بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَبًا، ثُمَّ وَلِيَ خَطَابَةَ الْعُقَيْبَةَ، فَتَرَكَ نِيَابَةَ الْحُكْمِ، وَقَالَ: هَذِهِ تَكْفِي. إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ ثَامِنِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ مَشْهُودَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَتَوَلَّى بَعْدَهُ الْخَطَابَةَ وَلَدُهُ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ.
ابْنُ صَبِيحٍ الْمُؤَذِّنُ، الرَّئِيسُ بِالْعُرُوسِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ مَعَ الْبُرْهَانِ، وَهُوَ بَدْرُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ صَبِيحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّفْلِيسِيُّ، مَوْلَاهُمُ الْمُقْرِئُ الْمُؤَذِّنُ، كَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَوْتًا فِي زَمَانِهِ،

وَأَطْيَبِهِمْ نَغْمَةً، وُلِدَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ تَقْرِيبًا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ، وَمِمَّنْ سَمِعَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الدَّائِمِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَحَدَّثَ، وَكَانَ رَجُلًا حَسَنًا، أَبُوهُ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ اسْمُهَا شَامَةُ بِنْتُ كَامِلِ الدِّينِ التَّفْلِيسِيِّ، امْرَأَةُ فَخْرِ الدِّينِ الْكَرْخِيِّ، وَبَاشَرَ مُشَارَفَةَ الْجَامِعِ وَقِرَاءَةَ الْمُصْحَفِ، وَأَذَّنَ عِنْدَ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ مُدَّةً، وَتُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ بِالطَّوَاوِيسِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ الْعُقَيْبَةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الْفَرَادِيسِ.
خَطَّابٌ بَانِي خَانِ خَطَّابٍ، الَّذِي بَيْنَ الْكُسْوَةِ وَغَبَاغِبِ، الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ عِزُّ الدِّينِ خَطَّابُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ مُرْتَعِشٍ الْعِرَاقِيُّ، كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا لَهُ ثَرْوَةٌ مِنَ الْمَالِ كَبِيرَةٌ، وَأَمْلَاكٌ وَأَمْوَالٌ، وَلَهُ حَمَّامٌ بِحِكْرِ السِّمَاقِ، وَقَدْ عَمَرَ الْخَانَ الْمَشْهُورَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى نَاحِيَةِ الْكَتِفِ الْمِصْرِيِّ، مِمَّا يَلِي غَبَاغِبَ، وَهُوَ بِمَرْجِ الصُّفَّرِ، وَقَدْ حَصَلَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُسَافِرِينَ بِهِ رِفْقٌ، تُوُفِّيَ فِي تَاسِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا تُوُفِّيَ رَجُلٌ آخَرُ اسْمُهُ رُكْنُ الدِّينِ خَطَّابُ بْنُ الصَّاحِبِ كَمَالِ الدِّينِ أَحْمَدَ ابْنِ أُخْتِ ابْنِ خَطَّابٍ الرُّومِيُّ السِّيوَاسِيُّ، لَهُ خَانَقَاهْ بِبَلَدِهِ

بِسِيوَاسَ، عَلَيْهَا أَوْقَافٌ كَثِيرَةٌ وَبِرٌّ وَصَدَقَةٌ، تُوُفِّيَ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى الْحِجَازِ الشَّرِيفِ بِالْكَرَكِ، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنْ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ بِمُؤْتَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ تُوُفِّيَ بَدْرُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ كَمَالِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْفَتْحِ بْنِ أَبِي الْوَحْشِ أَسَدِ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ سَلْمَانَ بْنِ فِتْيَانَ الشَّيْبَانِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْعَطَّارِ، وُلِدَ سَنَةَ سَبْعِينَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَكَتَبَ الْخَطَّ الْمَنْسُوبَ، وَاشْتَغَلَ " بِالتَّنْبِيهِ "، وَنَظَمَ الشِّعْرَ، وَوَلِيَ كِتَابَةَ الدَّرَجِ، ثُمَّ نَظَرَ الْجَيْشِ وَنَظَرَ الْأَشْرَافِ، وَكَانَتْ لَهُ حُظْوَةٌ فِي أَيَّامِ الْأَفْرَمِ، ثُمَّ حَصَلَ لَهُ خُمُولٌ قَلِيلٌ، وَكَانَ مُتْرَفًا مُنَعَّمًا، لَهُ ثَرْوَةٌ، وَرِيَاسَةٌ، وَتَوَاضُعٌ، وَحُسْنُ سِيرَةٍ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ بِتُرْبَتِهِمْ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ مُتَوَّجٍ الْحَارِثِيُّ، قَاضِي الزَّبَدَانِيِّ مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ الْكَرَكِ، وَبِهَا مَاتَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَاشْتَغَلَ، وَكَانَ حَسَنَ الْأَخْلَاقِ مُتَوَاضِعًا، وَهُوَ وَالِدُ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ قَاضِي الزَّبَدَانِيِّ مُدَرِّسِ الظَّاهِرِيَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، سِوَى كَاتِبِ السِّرِّ بِدِمَشْقَ شِهَابِ الدِّينِ مَحْمُودٍ، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ، وَوَلِيَ الْمَنْصِبَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ الصَّدْرُ شَمْسُ الدِّينِ.
وَفِيهَا تَحَوَّلَ التُّجَّارُ فِي قُمَاشِ النِّسَاءِ الْمَخِيطِ مِنَ الدَّهْشَةِ الَّتِي لِلْجَامِعِ إِلَى دَهْشَةِ سُوقِ عَلِيٍّ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ ثَامِنِ الْمُحَرَّمِ بَاشَرَ مَشْيَخَةَ الْحَدِيثِ الظَّاهِرِيَّةَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ جَهْبَلٍ، بَعْدَ وَفَاةِ الْعَفِيفِ إِسْحَاقَ، وَتَرَكَ تَدْرِيسَ الصَّلَاحِيَّةِ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَاخْتَارَ دِمَشْقَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ.
وَفِي أَوَّلِهَا فُتِحَ الْحَمَّامُ الَّذِي بَنَاهُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ جُوبَانُ جِوَارَ دَارِهِ، بِالْقُرْبِ مِنْ دَارِ الْجَالِقِ، وَلَهُ بَابَانِ، أَحَدُهُمَا إِلَى نَاحِيَةِ مَسْجِدِ الْوَزِيرِ، وَحَصَلَ بِهِ نَفْعٌ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ قَدِمَ الصَّاحِبُ غِبْرِيَالُ مِنْ مِصْرَ عَلَى الْبَرِيدِ، مُتَوَلِّيًا نَظَرَ الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ عَلَى عَادَتِهِ، وَانْفَصَلَ عَنْهَا الْكَرِيمُ الصَّغِيرُ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِهِ.

وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ حَادِي عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بُكْرَةَ النَّهَارِ ضُرِبَتْ عُنُقُ نَاصِرِ ابْنِ الشَّرَفِ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْهِيتِيِّ بِسُوقِ الْخَيْلِ، عَلَى كُفْرِهِ، وَاسْتِهَانَتِهِ، وَاسْتِهْتَارِهِ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَصُحْبَتِهِ الزَّنَادِقَةِ كَالنَّجْمِ بْنِ خَلِّكَانَ، وَالشَّمْسِ مُحَمَّدٍ الْبَاجُرْبَقِيِّ، وَابْنِ الْمِعْمَارِ الْبَغْدَادِيِّ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ فِيهِ انْحِلَالٌ وَزَنْدَقَةٌ مَشْهُورٌ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ.
قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ: وَرُبَّمَا زَادَ هَذَا الْمَذْكُورُ الْمَضْرُوبُ الْعُنُقِ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ وَالتَّلَاعُبِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَالِاسْتِهَانَةِ بِالنُّبُوَّةِ وَالْقُرْآنِ. قَالَ: وَحَضَرَ قَتْلَهُ الْعُلَمَاءُ، وَالْأَكَابِرُ، وَأَعْيَانُ الدَّوْلَةِ. قَالَ: وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ حَفِظَ " التَّنْبِيهَ " فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْخِتَمِ بِصَوْتٍ حَسَنٍ، وَعِنْدَهُ نَبَاهَةٌ وَفَهْمٌ، وَكَانَ مُنَزَّلًا فِي الْمَدَارِسِ وَالتُّرَبِ، ثُمَّ إِنَّهُ انْسَلَخَ مِنْ ذَلِكَ جَمِيعِهِ، وَكَانَ قَتْلُهُ عِزًّا لِلْإِسْلَامِ، وَذُلًّا لِلزَّنَادِقَةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ.
قُلْتُ: وَقَدْ شَهِدْتُ قَتْلَهُ، كَانَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ حَاضِرًا يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ أَتَاهُ وَقَرَّعَهُ عَلَى مَا كَانَ يَصْدُرُ مِنْهُ قَبْلَ قَتْلِهِ، ثُمَّ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَأَنَا مُشَاهِدٌ ذَلِكَ.
وَفِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ رُسِمَ بِإِخْرَاجِ الْكِلَابِ مِنْ مَدِينَةِ دِمَشْقَ، فَجُعِلُوا فِي الْخَنْدَقِ ظَاهِرَ بَابِ الصَّغِيرِ مِنْ نَاحِيَةِ بَابِ شَرْقِيٍّ، الذُّكُورُ عَلَى حِدَةٍ، وَالْإِنَاثُ عَلَى حِدَةٍ، وَأُلْزِمَ أَصْحَابُ الدَّكَاكِينِ بِذَلِكَ، وَشَدَّدُوا فِي أَمْرِهِمْ أَيَّامًا.

وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ وَلِيَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ مُعِيدُ الْبَادَرَائِيَّةِ مَشْيَخَةَ الصَّلَاحِيَّةِ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَسَافَرَ إِلَيْهَا.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ عُزِلَ قَرَطَايْ عَنْ نِيَابَةِ طَرَابُلُسَ، وَوَلِيَهَا طِينَالُ، وَقَدِمَ قَرَطَايْ عَلَى خُبْزِ الْقَرَمَانِيِّ بِدِمَشْقَ، بِحُكْمِ سَجْنِ الْقَرَمَانِيِّ بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ.
قَالَ الْبِرْزَالِيُّ: وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ السَّادِسِ مِنْ شَعْبَانَ اعْتُقِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ، حَضَرَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ تَنْكِزَ مُشِدُّ الْأَوْقَافِ، وَابْنُ الْخَطِيرِ أَحَدُ الْحُجَّابِ بِدِمَشْقَ، وَأَخْبَرَاهُ أَنَّ مَرْسُومَ السُّلْطَانِ وَرَدَ بِذَلِكَ، وَأَحْضَرَا مَعَهُمَا مَرْكُوبًا لِيَرْكَبَهُ، فَأَظْهَرَ السُّرُورَ وَالْفَرَحَ بِذَلِكَ، وَقَالَ: أَنَا كُنْتُ مُنْتَظِرًا لِذَلِكَ، وَهَذَا فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَمَصْلَحَةٌ كَبِيرَةٌ. وَرَكِبُوا جَمِيعًا مِنْ دَارِهِ إِلَى بَابِ الْقَلْعَةِ، وَأُخْلِيَتْ لَهُ قَاعَةٌ، وَأُجْرِيَ إِلَيْهَا الْمَاءُ، وَرُسِمَ لَهُ بِالْإِقَامَةِ فِيهَا، وَأَقَامَ مَعَهُ أَخُوهُ زَيْنُ الدِّينِ يَخْدُمُهُ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ، وَرُسِمَ لَهُ مَا يَقُومُ بِكِفَايَتِهِ.
قَالَ الْبِرْزَالِيُّ: وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَاشِرِ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ قُرِئَ بِجَامِعِ دِمَشْقَ الْكِتَابُ السُّلْطَانِيُّ الْوَارِدُ بِاعْتِقَالِهِ وَمَنْعِهِ مِنَ الْفُتْيَا، وَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ سَبَبُهَا فُتْيَا وُجِدَتْ بِخَطِّهِ فِي الْمَنْعِ مِنَ السَّفَرِ وَإِعْمَالِ الْمَطِيِّ إِلَى زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقُبُورِ الصَّالِحِينَ.

قَالَ: وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ مُنْتَصَفِ شَعْبَانَ أَمَرَ قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّافِعِيُّ بِحَبْسِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ فِي سِجْنِ الْحُكْمِ، وَذَلِكَ بِمَرْسُومِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَإِذْنِهِ لَهُ فِيهِ فِيمَا تَقْتَضِيهِ الشَّرِيعَةُ فِي أَمْرِهِمْ، وَعُزِّرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَلَى دَوَابَّ وَنُودِيَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أُطْلِقُوا سِوَى شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ، فَإِنَّهُ حُبِسَ فِي الْقَلْعَةِ، وَسَكَنَتِ الْقَضِيَّةُ.
قَالَ: وَفِي أَوَّلِ رَمَضَانَ وَصَلَتِ الْأَخْبَارُ إِلَى دِمَشْقَ أَنَّهُ أُجْرِيَتْ عَيْنُ مَاءٍ إِلَى مَكَّةَ، شَرَّفَهَا اللَّهُ، وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهَا انْتِفَاعًا كَثِيرًا، وَهَذِهِ الْعَيْنُ تُعْرَفُ قَدِيمًا بِعَيْنِ بَاذَانَ، أَجْرَاهَا جُوبَانُ مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ حَتَّى دَخَلَتْ إِلَى نَفْسِ مَكَّةَ، وَوَصَلَتْ إِلَى عِنْدِ الصَّفَا وَبَابِ إِبْرَاهِيمَ، وَاسْتَقَى النَّاسُ مِنْهَا، فَقِيرُهُمْ وَغَنِيُّهُمْ، وَضَعِيفُهُمْ وَشَرِيفُهُمْ، كُلُّهُمْ فِيهَا سَوَاءٌ، وَارْتَفَقَ أَهْلُ مَكَّةَ بِذَلِكَ رِفْقًا كَثِيرًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَكَانُوا قَدْ شَرَعُوا فِي حَفْرِهَا وَتَجْدِيدِهَا فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى الْعَشْرِ الْأُخِرِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَاتَّفَقَ أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتِ الْآبَارُ الَّتِي فِي مَكَّةَ قَدْ يَبِسَتْ وَقَلَّ مَاؤُهَا، وَقَلَّ مَاءُ زَمْزَمَ أَيْضًا، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَطَفَ بِالنَّاسِ بِإِجْرَاءِ هَذِهِ الْقَنَاةِ لَنَزَحَ عَنْ مَكَّةَ أَهْلُهَا، أَوْ لَهَلَكَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُقِيمُ بِهَا، وَأَمَّا الْحَجِيجُ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ فَحَصَلَ لَهُمْ بِهَا رِفْقٌ عَظِيمٌ زَائِدٌ عَنِ الْوَصْفِ، كَمَا شَاهَدْنَا ذَلِكَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ عَامَ حَجَجْنَا.
وَجَاءَ كِتَابُ السُّلْطَانِ إِلَى نَائِبِهِ بِمَكَّةَ بِإِخْرَاجِ الزَّيْدِيِّينَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ فِيهِ إِمَامٌ وَلَا مُجْتَمَعٌ، فَفُعِلَ ذَلِكَ.

وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ رَابِعِ شَعْبَانَ دَرَّسَ بِالشَّامِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ جَهْبَلٍ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقَزْوِينِيُّ الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ، عِوَضًا عَنِ الشَّيْخِ أَمِينِ الدِّينِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الدُّرِّ إِمَامِ مَسْجِدِ ابْنِ هِشَامٍ، تُوُفِّيَ، ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ جَاءَ تَوْقِيعٌ بِوِلَايَةِ الْقَاضِي الشَّافِعِيِّ، فَبَاشَرَهَا فِي عِشْرِينَ رَمَضَانَ.
وَفِي عَاشِرِ شَوَّالٍ خَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ، وَأَمِيرُهُ سَيْفُ الدِّينِ جُوبَانُ، وَحَجَّ عَامَئِذٍ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مُسَلَّمٍ قَاضِي الْحَنَابِلَةِ، وَبَدْرُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ جَلَالِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ، وَمَعَهُ تُحَفٌ وَهَدَايَا وَأُمُورٌ تَتَعَلَّقُ بِالْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أَرْغُوَنَ نَائِبِ مِصْرَ، فَإِنَّهُ حَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَمَعَهُ أَوْلَادُهُ وَزَوْجَتُهُ بِنْتُ السُّلْطَانِ، وَحَجَّ فَخْرُ الدِّينِ ابْنُ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ، وَصَدْرُ الدِّينِ الْمَالِكِيُّ، وَفَخْرُ الدِّينِ الْبَعْلَبَكِّيُّ، وَغَيْرُهُمْ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ عَاشِرِ ذِي الْقَعْدَةِ دَرَّسَ بِالْحَنْبَلِيَّةِ بُرْهَانُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ هِلَالٍ الزُّرَعِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، عِوَضًا عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ، وَكَانَ ابْنُ الْخَطِيرِ الْحَاجِبُ قَدْ دَخَلَ عَلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ قَبْلَ هَذَا بِيَوْمٍ، فَاجْتَمَعَ بِهِ وَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ بِأَمْرِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، ثُمَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ دَخَلَ إِلَيْهِ الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ بْنُ جُمْلَةَ، وَنَاصِرُ الدِّينِ مُشِدُّ

الْأَوْقَافِ، وَسَأَلَاهُ عَنْ مَضْمُونِ قَوْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ الزِّيَارَةِ، فَكَتَبَ ذَلِكَ فِي دَرَجٍ، وَكَتَبَ تَحْتَهُ قَاضِي الشَّافِعِيَّةِ بِدِمَشْقَ: قَابَلْتُ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ الْمَكْتُوبِ عَلَى خَطِّ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فَصَحَّ... إِلَى أَنْ قَالَ: وَإِنَّمَا الْمَحَزُّ جَعَلُهُ زِيَارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - مَعْصِيَةً بِالْإِجْمَاعِ مَقْطُوعًا. فَانْظُرِ الْآنَ هَذَا التَّحْرِيفَ عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ جَوَابَهُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ فِيهِ مَنْعُ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَإِنَّمَا فِيهِ ذِكْرُ قَوْلَيْنِ فِي شَدِّ الرِّحَالِ وَالسَّفَرِ إِلَى مُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَزِيَارَةِ الْقُبُورِ مِنْ غَيْرِ شَدِّ رَحْلٍ إِلَيْهَا مَسْأَلَةٌ، وَشَدُّ الرَّحْلِ لِمُجَرَّدِ الزِّيَارَةِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى، وَالشَّيْخُ لَمْ يَمْنَعِ الزِّيَارَةَ الْخَالِيَةَ عَنْ شَدِّ رَحْلٍ، بَلْ يَسْتَحِبُّهَا وَيَنْدُبُ إِلَيْهَا، وَكُتُبُهُ وَمَنَاسِكُهُ تَشْهَدُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ إِلَى هَذِهِ الزِّيَارَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الْفُتْيَا، وَلَا قَالَ: إِنَّهَا مَعْصِيَةٌ، وَلَا حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهَا، وَلَا هُوَ جَاهِلٌ بِقَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْآخِرَةَ.
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [ الشُّعَرَاءِ: 227 ].
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ رَابِعَ عَشَرَ الْقَعْدَةِ فُتِحَتِ الْمَدْرَسَةُ الْحِمْصِيَّةُ تُجَاهَ الشَّامِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ، وَدَرَّسَ بِهَا مُحْيِي الدِّينِ الطَّرَابُلُسِيُّ، وَكَانَ قَاضِيَ حِصْنِ عَكَّارَ، وَيُلَقَّبُ بِأَبِي رَبَاحٍ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ سَافَرَ الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ الزُّرَعِيُّ مِنَ الْأَتَابِكِيَّةِ إِلَى مِصْرَ،

وَنَزَلَ عَنْ تَدْرِيسِهَا لِمُحْيِي الدِّينِ بْنِ جَهْبَلٍ. وَفِي ثَانِيَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ دَرَّسَ بالنَّجِيبِيَّةِ ابْنُ قَاضِي الزَّبَدَانِيِّ عِوَضًا عَنِ الدِّمَشْقِيِّ نَائِبِ الْحُكْمِ مَاتَ بِالْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَةِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
ابْنُ الْمُطَهَّرِ الشِّيعِيُّ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو مَنْصُورٍ حَسَنُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مُطَهَّرٍ الْحِلِّيُّ الْعِرَاقِيُّ الشِّيعِيُّ، شَيْخُ الرَّوَافِضِ بِتِلْكَ النَّوَاحِي، وَلَهُ التَّصَانِيفُ الْكَثِيرَةُ، يُقَالُ: تَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مُجَلَّدًا، وَعِدَّتُهَا خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ مُصَنَّفًا، فِي الْفِقْهِ، وَالنَّحْوِ، وَالْأُصُولِ، وَالْفَلْسَفَةِ، وَالرَّفْضِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كِبَارٍ وَصِغَارٍ؛ فَمِنْ أَشْهَرِهَا بَيْنَ الطَّلَبَةِ " شَرْحُ مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ " فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَيْسَ بِذَاكَ الْفَائِقِ، وَرَأَيْتُ لَهُ مُجَلَّدَيْنِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى طَرِيقَةِ " الْمَحْصُولِ " وَ " الْأَحْكَامِ "، وَلَا بَأْسَ بِهَا فَإِنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى نَقْلٍ كَثِيرٍ وَتَوَجُّهٍ جَيِّدٍ، وَلَهُ كِتَابُ " مِنْهَاجِ الِاسْتِقَامَةِ فِي إِثْبَاتِ الْإِمَامَةِ " خَبَطَ فِيهِ فِي الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، وَلَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَتَوَجَّهُ، إِذْ خَرَجَ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ، وَقَدِ انْتَدَبَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي مُجَلَّدَاتٍ، أَتَى فِيهَا بِمَا يُبْهِرُ الْعُقُولَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَلِيحَةِ الْحَسَنَةِ، وَهُوَ كِتَابٌ حَافِلٌ.
وُلِدَ ابْنُ الْمُطَهَّرِ - الَّذِي لَمْ تَطْهُرْ خَلَائِقُهُ، وَلَمْ يَتَطَهَّرْ مِنْ دَنَسِ

الرَّفْضِ - فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ سَابِعِ عِشْرِينَ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ عِشْرِينَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ اشْتِغَالُهُ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَاشْتَغَلَ عَلَى النَّصِيرِ الطُّوسِيِّ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَلَمَّا تَرَفَّضَ الْمَلِكُ خَرْبَنْدَا، حَظِيَ عِنْدَهُ ابْنُ الْمُطَهَّرِ وَسَادَ جَدًّا، وَأَقْطَعَهُ بِلَادًا كَثِيرَةً.
الشَّمْسُ الْكَاتِبُ مُحَمَّدُ بْنُ أَسَدٍ الْحَرَّانِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالنَّجَّارِ، كَانَ يَجْلِسُ لِيَكْتُبَ النَّاسُ عَلَيْهِ بِالْمَدْرَسَةِ الْقِلِّيجِيَّةِ، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ.
الْعِزُّ حَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ زُفَرَ الْإِرْبِلِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ، كَانَ يَعْرِفُ طَرَفًا صَالِحًا مِنَ النَّحْوِ، وَالْحَدِيثِ، وَالتَّارِيخِ، وَكَانَ مُقِيمًا بِدُوَيْرَةِ حَمَدٍ صُوفِيًّا بِهَا، وَكَانَ حَسَنَ الْمُجَالَسَةِ، أَثْنَى عَلَيْهِ الْبِرْزَالِيُّ فِي نَقْلِهِ وَحُسْنِ مَعْرِفَتِهِ، مَاتَ بِالْمَارَسْتَانِ الصَّغِيرِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَمِينُ الدِّينِ سَالِمُ بْنُ أَبِي الدُّرِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدِّمَشْقِيُّ الشَّافِعِيُّ، مُدَرِّسُ الشَّامِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ، أَخَذَهَا مِنِ ابْنِ الْوَكِيلِ قَهْرًا، وَهُوَ إِمَامُ مَسْجِدِ ابْنِ هِشَامٍ، وَمُحَدِّثُ الْكُرْسِيِّ بِهِ، كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ، وَحَصَّلَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَعَادَ، وَأَفْتَى،

وَدَرَّسَ، وَكَانَ خَبِيرًا بِالْمُحَاكَمَاتِ، وَكَانَ فِيهِ مُرُوءَةٌ وَعَصَبِيَّةٌ لِمَنْ يَقْصِدُهُ، تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ.
الشَّيْخُ حَمَّادٌ، وَهُوَ الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ الزَّاهِدُ، حَمَّادٌ الْحَلَبِيُّ الْقَطَّانُ، كَانَ كَثِيرَ التِّلَاوَةِ وَالصَّلَاةِ، مُوَاظِبًا عَلَى الْإِقَامَةِ بِجَامِعِ التَّوْبَةِ بِالْعُقَيْبَةِ بِالزَّاوِيَةِ الْغَرْبِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ، يُقْرِئُ الْقُرْآنَ، وَيُكْثِرُ الصِّيَامَ، وَيَتَرَدَّدُ النَّاسُ إِلَيْهِ لِلزِّيَارَةِ، مَاتَ وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ سَنَةً، عَلَى هَذَا الْقَدَمِ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ عِشْرِينَ شَعْبَانَ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ، وَهُوَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ بَقِيَّةُ السَّلَفِ، قُطْبُ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ مُوسَى بْنُ الشَّيْخِ الْفَقِيهِ الْحَافِظِ الْكَبِيرِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَعْلَبَكِّيُّ الْيُونِينِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِدَارِ الْفَاضِلِ بِدِمَشْقَ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَأَحْضَرَهُ وَالِدُهُ إِلَى الْمَشَايِخِ، وَاسْتَجَازَ لَهُ، وَبَحَثَ، وَاخْتَصَرَ " مِرْآةَ الزَّمَانِ " لِلسِّبْطِ، وَذَيَّلَ عَلَيْهَا ذَيْلًا حَسَنًا مُرَتَّبًا، أَفَادَ فِيهِ وَأَجَادَ، بِعِبَارَةٍ حَسَنَةٍ سَهْلَةٍ، بِإِنْصَافٍ وَسَتْرٍ، وَأَتَى فِيهِ بِأَشْيَاءَ حَسَنَةٍ، وَأَشْيَاءَ فَائِقَةٍ رَائِقَةٍ، وَكَانَ كَثِيرَ التِّلَاوَةِ، حَسَنَ الْهَيْئَةِ، مُتَقَلِّلًا فِي مَلْبَسِهِ وَمَأْكَلِهِ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ ثَالِثَ

عَشَرَ شَوَّالٍ، وَدُفِنَ بِبَابِ سَطْحَا عِنْدَ أَخِيهِ الشَّيْخِ شَرَفِ الدِّينِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ مُسَلَّمٍ، شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُسَلَّمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ مَزْرُوعِ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّالِحِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ سِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَمَاتَ أَبُوهُ - وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ - سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ فَنَشَأَ يَتِيمًا فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ، ثُمَّ اشْتَغَلَ، وَحَصَّلَ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَانْتَصَبَ لِلْإِفَادَةِ وَالِاشْتِغَالِ، فَطَارَ ذِكْرُهُ، فَلَمَّا مَاتَ التَّقِيُّ سُلَيْمَانُ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَلِيَ قَضَاءَ الْحَنَابِلَةِ، فَبَاشَرَهُ أَتَمَّ مُبَاشَرَةٍ، وَخُرِّجَتْ لَهُ تَخَارِيجُ كَثِيرَةٌ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ خَرَجَ لِلْحَجِّ فَتَمَرَّضَ فِي الطَّرِيقِ، فَوَرَدَ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ - عَلَى سَاكِنِهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ - يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَزَارَ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَلَّى فِي مَسْجِدِهِ، وَكَانَ بِالْأَشْوَاقِ إِلَى ذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ تَمَنَّى ذَلِكَ لَمَّا مَاتَ ابْنُ نَجِيحٍ وَدُفِنَ فِي الْبَقِيعِ، فَمَاتَ فِي عَشِيَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرَّوْضَةِ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ إِلَى جَانِبِ قَبْرِ شَرَفِ الدِّينِ بْنِ نَجِيحٍ - الَّذِي كَانَ قَدْ غَبَطَهُ بِمَوْتِهِ هُنَاكَ سَنَةَ حَجَّ هُوَ، وَهُوَ قَبْلَ هَذِهِ الْحِجَّةِ - شَرْقِيَّ قَبْرِ عَقِيلٍ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بَعْدَهُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ التَّقِيِّ سُلَيْمَانَ.
الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمُحْسِنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ مَعَالِي الدِّمَشْقِيُّ

الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ عَلَى الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ، وَحَصَّلَ وَبَرَعَ، وَوَلِيَ الْإِعَادَةَ، ثُمَّ الْحُكْمَ بِالْقُدْسِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ فَدَرَّسَ بالنَّجِيبِيَّةِ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ عَنِ ابْنِ صَصْرَى مُدَّةً، تُوُفِّيَ بالنَّجِيبِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ يَوْمَ الْأَحَدِ ثَامِنِ عِشْرِينَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ الْعَصْرَ بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ.
ابْنُ قَاضِي شُهْبَةَ، الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ، شَيْخُ الطَّلَبَةِ وَمُفِيدُهُمْ، كَمَالُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْقَاضِي شَرَفِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ ذُؤَيْبٍ الْأَسَدِيُّ الشُّهْبِيُّ الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ بِحَوْرَانَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَدِمَ دِمَشْقَ، وَاشْتَغَلَ عَلَى الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ وَلَازَمَهُ، وَانْتَفَعَ بِهِ، وَأَعَادَ بِحَلْقَتِهِ، وَتَخَرَّجَ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَازَمَ أَخَاهُ الشَّيْخَ شَرَفَ الدِّينِ، وَأَخَذَ عَنْهُ النَّحْوَ وَاللُّغَةَ، وَكَانَ بَارِعًا فِي الْفِقْهِ وَالنَّحْوِ، لَهُ حَلْقَةٌ يَشْتَغِلُ فِيهَا تُجَاهَ مِحْرَابِ الْحَنَابِلَةِ، وَكَانَ يَعْتَكِفُ جَمِيعَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ قَطُّ، وَكَانَ حَسَنَ الْهَيْئَةِ وَالشَّيْبَةِ، حَسَنَ الْعَيْشِ وَالْمَلْبَسِ، مُتَقَلِّلًا مِنَ الدُّنْيَا، لَهُ مَعْلُومٌ يَقُومُ بِكِفَايَتِهِ مِنْ إِعَادَاتٍ وَفِقَاهَاتٍ وَتَصْدِيرٍ بِالْجَامِعِ، وَلَمْ يُدَّرِسْ قَطُّ وَلَا أَفْتَى، مَعَ أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ يَصْلُحُ أَنْ يَأْذَنَ فِي الْإِفْتَاءِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتَوَرَّعُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَسَمِعَ " الْمُسْنَدَ " لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَتُوُفِّيَ بِالْمَدْرَسَةِ الْمُجَاهِدِيَّةِ - وَبِهَا كَانَتْ إِقَامَتُهُ - لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ حَادِي عِشْرِينَ ذِي الْحِجَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الشَّرَفِ يَعْقُوبَ بْنِ فَارِسٍ الْجَعْبَرِيِّ، التَّاجِرِ بِفُرْجَةِ ابْنِ عَمُودٍ، وَكَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ، وَيَؤُمُّ بِمَسْجِدِ الْقَصَبِ، وَيَصْحَبُ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ وَالْقَاضِي نَجْمَ الدِّينِ الدِّمَشْقِيَّ، وَقَدْ حَصَّلَ أَمْوَالًا وَأَمْلَاكًا وَثَرْوَةً، وَهُوَ وَالِدُ صَاحِبِنَا الْفَقِيهِ الْمُشْتَغِلِ الْمُحَصَّلِ الزَّكِيِّ بَدْرِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ خَالِ الْوَلَدِ عُمَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَاجُّ أَبُو بَكْرِ بْنُ تِيمَرَازَ الصَّيْرَفِيُّ، كَانَتْ لَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَدَائِرَةٌ وَمَكَارِمٌ، وَبِرٌّ وَصَدَقَاتٌ، وَلَكِنَّهُ انْكَسَرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَعُمِّرَ، وَكَادَ أَنْ يَنْكَشِفَ، فَجَبَرَهُ اللَّهُ بِالْوَفَاةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ.
اسْتَهَلَّتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْحُكَّامُ، وَالْخَلِيفَةُ، وَالسُّلْطَانُ، وَالنُّوَّابُ، وَالْقُضَاةُ، وَالْمُبَاشِرُونَ، هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، سِوَى الْحَنْبَلِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِي الْعَشْرِ مِنَ الْمُحَرَّمِ دَخَلَ مِصْرَ أَرْغُوَنُ نَائِبُ مِصْرَ، فَمُسِكَ فِي حَادِيَ عَشَرَهُ، فَحُبِسَ أَيَّامًا ثُمَّ أُطْلِقَ، وَبَعَثَهُ السُّلْطَانُ إِلَى حَلَبَ نَائِبًا، فَاجْتَازَ بِدِمَشْقَ بُكْرَةَ الْجُمُعَةِ ثَانِي عِشْرِينَ الْمُحَرَّمِ، فَأَنْزَلَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِدَارِهِ الْمُجَاوِرَةِ لِجَامِعِهِ، فَبَاتَ بِهَا لَيْلَةً، ثُمَّ سَافَرَ إِلَى حَلَبَ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَهُ بِيَوْمٍ قَدْ سَافَرَ مِنْ دِمَشْقَ أُلْجَايْ الدَّوَادَارُ إِلَى مِصْرَ، وَفِي صُحْبَتِهِ نَائِبُ حَلَبَ عَلَاءُ الدِّينِ أَلْطُنْبُغَا مَعْزُولًا عَنْهَا إِلَى حُجُوبِيَّةِ الْحُجَّابِ بِمِصْرَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ تَاسِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قُرِئَ تَقْلِيدُ قَاضِي قُضَاةِ الْحَنَابِلَةِ عِزِّ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ التَّقِيِّ سُلَيْمَانَ بْنِ حَمْزَةَ الْمَقْدِسِيِّ، عِوَضًا عَنِ ابْنِ مُسَلَّمٍ، بِمَقْصُورَةِ الْخَطَابَةِ بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ، وَحَكَمَ، وَقُرِئَ قَبْلَ ذَلِكَ بِالصَّالِحِيَّةِ.
وَفِي أَوَاخِرِ هَذَا الشَّهْرِ وَصَلَ الْبَرِيدُ بِتَوْلِيَةِ ابْنِ النَّقِيبِ الْحَاكِمِ بِحِمْصَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِطَرَابُلُسَ، وَنُقِلَ الَّذِي بِهَا إِلَى حِمْصَ نَائِبًا عَنْ قَاضِي دِمَشْقَ، وَهُوَ نَاصِرُ ابْنُ مَحْمُودٍ الزُّرَعِيُّ.

وَفِي سَادِسِ عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْآخِرِ عَادَ تَنْكِزُ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ تَكْرِيمٌ مِنَ السُّلْطَانِ. وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ حَصَلَتْ زَلْزَلَةٌ بِالشَّامِ وَقَى اللَّهُ شَرَّهَا.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْأُولَى بَاشَرَ نِيَابَةَ الْحَنْبَلِيِّ الْقَاضِي بُرْهَانُ الدِّينِ الزُّرَعِيُّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُضَاةِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُنْتَصَفِ جُمَادَى الْآخِرَةِ جَاءَ الْبَرِيدُ بِطَلَبِ الْقَاضِي الْقَزْوِينِيِّ الشَّافِعِيِّ إِلَى مِصْرَ، فَدَخَلَهَا فِي مُسْتَهَلِّ رَجَبٍ، فَخُلِعَ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ قُضَاةِ مِصْرَ، مَعَ تَدْرِيسِ النَّاصِرِيَّةِ، وَالصَّالِحِيَّةِ، وَدَارِ الْحَدِيثِ الْكَامِلِيَّةِ، عِوَضًا عَنْ بَدْرِ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ لِأَجْلِ كِبَرِ سِنِّهِ، وَضَعْفِ نَفْسِهِ، وَضَرَرِ عَيْنَيْهِ، فَجَبَرُوا خَاطِرَهُ، فَرُتِّبَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةُ أَرَادِبَّ قَمْحٍ فِي الشَّهْرِ، مَعَ تَدْرِيسِ زَاوِيَةِ الشَّافِعِيِّ، وَأُرْسِلَ وَلَدُهُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْقَزْوِينِيِّ إِلَى دِمَشْقَ خَطِيبًا بِالْأُمَوِيِّ، وَعَلَى تَدْرِيسِ الشَّامِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ، عَلَى قَاعِدَةِ وَالِدِهِ جَلَالِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ فِي ذَلِكَ، فَخُلِعَ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ ثَامِنِ عِشْرِينِهِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْأَعْيَانُ.
وَفِي رَجَبٍ كَانَ عُرْسُ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ قَوْصُونَ السَّاقِي النَّاصِرِيِّ عَلَى بِنْتِ السُّلْطَانِ، وَقَدْ كَانَ وَقْتًا مَشْهُودًا، خُلِعَ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالْأَكَابِرِ، وَفِي صَبِيحَةِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ عُقِدَ عَقْدُ الْأَمِيرِ شِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَمِيرِ بَكْتَمُرَ السَّاقِي عَلَى بِنْتِ تَنْكِزَ نَائِبِ الشَّامِ، وَكَانَ السُّلْطَانُ وَكِيلَ أَبِيهَا تَنْكِزَ، وَالْعَاقِدُ

ابْنَ الْحَرِيرِيِّ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ، وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فِي كُلْفَةٍ كَثِيرَةٍ.
وَفِي رَجَبٍ جَرَتْ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَذَلِكَ فِي سَابِعِ رَجَبٍ، وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَخَاصَمَ هُوَ وَرَجُلٌ مِنَ الْفِرَنْجِ عَلَى بَابِ الْبَحْرِ، فَضَرَبَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِنَعْلٍ، فَرُفِعَ الْأَمْرُ إِلَى الْوَالِي، فَأَمَرَ بِغَلْقِ بَابِ الْبَلَدِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: إِنَّ لَنَا أَمْوَالًا وَعَبِيدًا خَارِجَ الْبَلَدِ، وَقَدْ أَغْلَقْتَ الْبَابَ قَبْلَ وَقْتِهِ، فَفَتَحَهُ، فَخَرَجَ النَّاسُ فِي زَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ نَحْوُ عَشَرَةٍ، وَنُهِبَتْ عَمَائِمُ، وَثِيَابٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ ذَهَبُوا إِلَى دَارِ الْوَالِي فَأَحْرَقُوهَا، وَثَلَاثَ دُورٍ لِبَعْضِ الظَّلَمَةِ، وَجَرَتْ أَحْوَالٌ صَعْبَةٌ، وَنُهِبَتْ أَمَاكِنُ، وَكَسَرَتِ الْعَامَّةُ بَابَ سِجْنِ الْوَالِي فَخَرَجَ مِنْهُ مَنْ فِيهِ، فَبَلَغَ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ، فَاعْتَقَدَ النَّائِبُ أَنَّهُ السِّجْنُ الَّذِي فِيهِ الْأُمَرَاءُ، فَأَمَرَ بِوَضْعِ السَّيْفِ فِي الْبَلَدِ وَتَخْرِيبِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْخَبَرَ بَلَغَ السُّلْطَانَ، فَأَرْسَلَ الْوَزِيرَ طَيْبُغَا الْجَمَّالِيَّ سَرِيعًا، فَوَصَلَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ، فَضَرَبَ وَصَادَرَ، وَضَرَبَ الْقَاضِي وَنَائِبَهُ، وَعَزَلَهُمْ، وَأَهَانَ خَلْقًا مِنَ الْأَكَابِرِ، وَصَادَرَهُمْ بِأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا، وَعُزِلَ الْمُتَوَلِّي ثُمَّ أُعِيدَ، ثُمَّ تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِهَا عَلَمُ الدِّينِ الْأَخْنَائِيُّ الشَّافِعِيُّ الَّذِي تَوَلَّى دِمَشْقَ فِيمَا بَعْدُ، وَعُزِلَ قَاضِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ الْمَالِكِيُّ وَنَائِبَاهُ، وَوُضِعَتِ السَّلَاسِلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُهِينُوا، وَضُرِبَ ابْنُ التِّنِّيسِيِّ غَيْرَ مَرَّةٍ.

وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ عِشْرِينَ شَعْبَانَ وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ قَاضِي قُضَاةِ حَلَبَ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ عَلَى الْبَرِيدِ، فَأَقَامَ بِدِمَشْقَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مِصْرَ لِيَتَوَلَّى قَضَاءَ قُضَاةِ الشَّامِ بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ، فَاتَّفَقَ مَوْتُهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْقَاهِرَةِ: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ [ سَبَأٍ: 54 ].
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَادِسِ عِشْرِينَ شَعْبَانَ بَاشَرَ صَدْرُ الدِّينِ الْمَالِكِيُّ مَشْيَخَةَ الشُّيُوخِ مُضَافًا إِلَى قَضَاءِ قُضَاةِ الْمَالِكِيَّةِ، وَحَضَرَ النَّاسُ عِنْدَهُ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بِذَلِكَ بَعْدَ انْفِصَالِ الزُّرَعِيِّ عَنْهَا إِلَى مِصْرَ.
وَفِي نِصْفِ رَمَضَانَ وَصَلَ قَاضِي الْحَنَفِيَّةِ بِدِمَشْقَ لِقَضَاءِ الْقُضَاةِ عِمَادُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الطَّرَسُوسِيُّ، الَّذِي كَانَ نَائِبًا لِقَاضِي الْقُضَاةِ صَدْرِ الدِّينِ عَلِيٍّ الْبُصْرَوِيِّ، فَخَلَفَهُ بَعْدَهُ بِالْمَنْصِبِ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بِالْجَامِعِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ، وَبَاشَرَ الْحُكْمَ، وَاسْتَنَابَ الْقَاضِي عِمَادَ الدِّينِ ابْنَ الْعِزِّ، وَدَرَّسَ بِالنُّورِيَّةِ مَعَ الْقَضَاءِ، وَشُكِرَتْ سِيرَتُهُ.
وَفِي رَمَضَانَ قَدِمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُسَارَى مَعَ تُجَّارِ الْفِرَنْجِ، فَأُنْزِلُوا بِالْمَدْرَسَةِ الْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ، وَاسْتَفَكُّوا مِنْ دِيوَانِ الْأَسْرَى بِنَحْوٍ مَنْ سِتِّينَ أَلْفًا، وَكَثُرَتِ الْأَدْعِيَةُ لِمَنْ كَانَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ.
وَفِي ثَامِنِ شَوَّالٍ خَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ إِلَى الْحِجَازِ، وَأَمِيرُهُ سَيْفُ الدِّينِ بَلَبَانُ الْمُحَمَّدِيُّ، وَقَاضِيهِ بَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَاضِي حَرَّانَ.

وَفِي شَوَّالٍ وَصَلَ تَقْلِيدُ قَضَاءِ الشَّافِعِيَّةِ بِدِمَشْقَ لِبَدْرِ الدِّينِ ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ الصَّائِغِ، وَالْخِلْعَةُ مَعَهُ، فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَصَمَّمَ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ الدَّوْلَةُ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَكَثُرَ بُكَاؤُهُ، وَتَغَيَّرَ مِزَاجُهُ وَاغْتَاظَ، فَلَمَّا أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ رَاجَعَ تَنْكِزُ السُّلْطَانَ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ شَهْرُ ذِي الْقَعْدَةِ اشْتَهَرَ تَوْلِيَةُ عَلَاءِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْقُونَوِيِّ قَضَاءَ الشَّامِ، فَسَارَ إِلَيْهَا مِنْ مِصْرَ، وَزَارَ الْقُدْسَ، وَدَخَلَ دِمَشْقَ بُكْرَةَ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَاجْتَمَعَ بِنَائِبِ السَّلْطَنَةِ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَلَبِسَ الْخِلْعَةَ مِنْ هُنَالِكَ، وَرَكِبَ مَعَهُ الْحُجَّابُ وَالدَّوْلَةُ إِلَى الْعَادِلِيَّةِ، فَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بِهَا، وَحَكَمَ بِهَا عَلَى الْعَادَةِ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِهِ وَبِحُسْنِ سَمْتِهِ، وَطِيبِ لَفْظِهِ، وَمَلَاحَةِ شَمَائِلِهِ، وَتَوَدُّدِهِ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ مَشْيَخَةَ الشُّيُوخِ بِدِيَارِ مِصْرَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ الْأَقْصُرَائِيُّ الصُّوفِيُّ شَيْخُ سِرْيَاقُوسَ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَالِثِ عِشْرِينَ ذِي الْقَعْدَةِ لَبِسَ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ الْخِلْعَةَ بِكِتَابَةِ السِّرِّ عِوَضًا عَنْ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الشِّهَابِ مَحْمُودٍ، وَاسْتَمَرَّ وَلَدُهُ شَرَفُ الدِّينِ فِي كِتَابَةِ الدَّسْتِ. وَفِي هَذِهِ الْمُدَّةِ تَوَلَّى قَضَاءَ حَلَبَ

عِوَضًا عَنِ ابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ الْقَاضِي فَخْرُ الدِّينِ بْنُ الْبَارِزِيِّ. وَفِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ كَمَلَ تَرْخِيمُ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ - أَعْنِي: حَائِطَهُ الشَّمَالِيَّ - وَجَاءَ تَنْكِزُ حَتَّى نَظَرَ إِلَيْهِ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَشَكَرَ نَاظِرَهُ تَقِيَّ الدِّينِ بْنَ مَرَاجِلَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَضْحَى جَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ إِلَى مَدِينَةِ بُلْبَيْسَ، فَهَرَبَ أَهْلُهَا مِنْهَا، وَتَعَطَّلَتِ الصَّلَاةُ وَالْأَضَاحِي فِيهَا، وَلَمْ يُرَ مِثْلُهُ مِنْ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةٍ، وَخَرَّبَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ حَوَاصِلِهَا وَبَسَاتِينِهَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْأَمِيرُ أَبُو يَحْيَى زَكَرِيَّا بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي حَفْصٍ الْهِنْتَاتِيُّ اللِّحْيَانِيُّ الْمَغْرِبِيُّ، أَمِيرُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وُلِدَ بِتُونُسَ قَبْلَ سَنَةِ خَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَرَأَ الْفِقْهَ وَالْعَرَبِيَّةَ، وَكَانَ مُلُوكُ تُونُسَ تُعَظِّمُهُ وَتُكْرِمُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَيْتِ الْمُلْكِ وَالْإِمْرَةِ وَالْوِزَارَةِ، ثُمَّ بَايَعَهُ أَهْلُ تُونُسَ عَلَى الْمُلْكِ فِي سَنَةِ

إِحْدَى عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَكَانَ شُجَاعًا مِقْدَامًا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَبْطَلَ ذِكْرَ ابْنِ التُّومَرْتِ مِنَ الْخُطْبَةِ، مَعَ أَنَّ جَدَّهُ أَبَا حَفْصٍ الْهِنْتَاتِيَّ كَانَ مِنْ أَخَصِّ أَصْحَابِ ابْنِ التُّومَرْتِ، تُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِمَدِينَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ ضِيَاءُ الدِّينِ أَبُو الْفِدَاءِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِزِّ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ رَضِيِّ الدِّينِ أَبِي الْفَضْلِ الْمُسَلَّمِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ نَصْرٍ الدِّمَشْقِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْحَمَوِيِّ، كَانَ هُوَ وَأَبُوهُ وَجَدُّهُ مِنَ الْكُتَّابِ الْمَشْهُورِينَ الْمَشْكُورِينَ، وَكَانَ هُوَ كَثِيرَ التِّلَاوَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْبِرِّ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَخَرَّجَ لَهُ الْبِرْزَالِيُّ مَشْيَخَةً سَمِعْنَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ مِنْ صُدُورِ أَهْلِ دِمَشْقَ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ضَحْوَةَ يَوْمِ السَّبْتِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ، وَحَجَّ وَجَاوَرَ وَأَقَامَ بِالْقُدْسِ مُدَّةً، مَاتَ وَلَهُ ثِنْتَانِ وَتِسْعُونَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ وَالِدَهُ حِينَ وُلِدَ لَهُ، فَتَحَ الْمُصْحَفَ يَتَفَاءَلُ فَإِذَا قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [ إِبْرَاهِيمَ: 39 ] فَسَمَّاهُ إِسْمَاعِيلَ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ آخَرُ فَسَمَّاهُ إِسْحَاقَ، وَهَذَا مِنَ الِاتِّفَاقِ الْحَسَنِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْمُجَارِفِيُّ، عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ هُوسٍ الْهِلَالِيُّ، أَصْلُ جَدِّهِ مِنْ

قَرْيَةِ آبِلِ السُّوقِ، وَأَقَامَ وَالِدُهُ بِالْقُدْسِ، وَحَجَّ هُوَ مَرَّةً، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ سَنَةً ثُمَّ حَجَّ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا مَشْهُورًا، وَيُعْرَفُ بِالْمُجَارِفِيِّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَجْرُفُ الْأَزِقَّةَ وَيُصْلِحُ الرِّصْفَانَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ يُكْثِرُ التَّهْلِيلَ وَالذِّكْرَ جَهْرَةً، وَكَانَ عَلَيْهِ هَيْبَةٌ وَوَقَارٌ، وَيَتَكَلَّمُ كَلَامًا فِيهِ تَخْوِيفٌ وَتَحْذِيرٌ مِنَ النَّارِ وَعَوَاقِبِ الرَّدَى، وَكَانَ مُلَازِمًا لِمَجَالِسِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ثَالِثِ عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ الشَّيْخِ مُوَفَّقِ الدِّينِ بِالسَّفْحِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً جِدًّا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَلِكُ الْكَامِلُ نَاصِرُ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمَلِكِ السَّعِيدِ فَتْحِ الدِّينِ عَبْدِ الْمَلِكِ ابْنِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ أَبِي الْجَيْشِ بْنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، أَحَدُ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ وَأَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، كَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الْبَلَدِ ذَكَاءً، وَفِطْنَةً، وَحُسْنَ عِشْرَةٍ، وَلَطَافَةِ كَلَامٍ، بِحَيْثُ يَسْرُدُ كَثِيرًا مِنَ الْكَلَامِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْثَالِ مِنْ قُوَّةِ ذِهْنِهِ وَحَذَاقَةِ فَهْمِهِ، وَكَانَ رَئِيسًا مَنْ أَجْوَادِ النَّاسِ، تُوُفِّيَ عَشِيَّةَ الْأَرْبِعَاءِ عِشْرِينَ جُمَادَى الْأُولَى، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ظُهْرَ الْخَمِيسِ بِصَحْنِ الْجَامِعِ تَحْتَ النَّسْرِ، ثُمَّ أَرَادُوا دَفْنَهُ عِنْدَ جَدِّهِ لِأُمِّهِ الْمَلِكِ الْكَامِلِ فَلَمْ يَتَيَسَّرْ ذَلِكَ، فَدُفِنَ بِتُرْبَةِ أُمِّ الصَّالِحِ، سَامَحَهُ اللَّهُ، وَكَانَ لَهُ سَمَاعٌ كَثِيرٌ، سَمِعْنَا عَلَيْهِ مِنْهُ، وَكَانَ يَحْفَظُ تَارِيخًا جَيِّدًا، وَقَامَ وَلَدُهُ الْأَمِيرُ صَلَاحُ الدِّينِ مَكَانَهُ فِي إِمْرَةِ الطَّبْلَخَانَاهْ، وَجُعِلَ أَخُوهُ فِي عَشَرَتِهِ، وَلَبِسَا الْخِلَعَ السُّلْطَانِيَّةَ بِذَلِكَ.

الشَّيْخُ الْإِمَامُ نَجْمُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْحَزْمِ الْقُرَشِيُّ الْمَخْزُومِيُّ الْقَمُولِيُّ، كَانَ مِنْ أَعْيَانِ الشَّافِعِيَّةِ، وَشَرَحَ " الْوَسِيطَ "، وَشَرَحَ " الْحَاجِبِيَّةَ " فِي مُجَلَّدَيْنِ، وَدَرَّسَ، وَحَكَمَ بِمِصْرَ، وَكَانَ مُحْتَسِبًا بِهَا أَيْضًا، وَكَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ فِيهَا، وَقَدْ تَوَلَّى بَعْدَهُ الْحُكْمَ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ عَقِيلٍ، وَالْحِسْبَةَ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ فَارِ السُّقُوفِ، تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُوسَى بْنِ خَلَفٍ الْحِزَامِيُّ، أَحَدُ مَشَاهِيرِ الصَّالِحِينَ بِمِصْرَ، تُوُفِّيَ بِالرَّوْضَةِ فِي مُنْتَصَفِ رَجَبٍ، وَحُمِلَ إِلَى شَاطِئِ النِّيلِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَحُمِلَ عَلَى الرُّءُوسِ وَالْأَصَابِعِ، وَدُفِنَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ، وَكَانَ مِمَّنْ يُقْصَدُ لِلزِّيَارَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْقَاضِي عِزُّ الدِّينِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَضِرِ الْهَكَّارِيُّ الشَّافِعِيُّ، قَاضِي الْمَحَلَّةِ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ، وَلَهُ تَصْنِيفٌ عَلَى حَدِيثِ الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ، يُقَالُ: إِنَّهُ اسْتَنْبَطَ فِيهِ أَلْفَ حُكْمٍ. تُوُفِّيَ فِي

رَمَضَانَ، وَقَدْ كَانَ حَصَّلَ كُتُبًا كَثِيرَةً جَيِّدَةً، مِنْهَا " التَّهْذِيبُ " لِشَيْخِنَا الْمِزِّيِّ.
الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ كَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي بْنُ الشَّيْخِ عَلَاءِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ خَطِيبِ زَمْلَكَا عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ خَلَفِ بْنِ نَبْهَانَ الْأَنْصَارِيُّ الشَّافِعِيُّ، ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ، شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ بِالشَّامِ وَغَيْرِهَا، انْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الْمَذْهَبِ تَدْرِيسًا، وَإِفْتَاءً، وَمُنَاظَرَةً، وَيُقَالُ فِي نَسَبِهِ: السِّمَاكِيُّ، نِسْبَةً إِلَى أَبِي دُجَانَةَ سِمَاكِ بْنِ خَرَشَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وُلِدَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ ثَامِنِ شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَاشْتَغَلَ عَلَى الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ، وَفِي الْأُصُولِ عَلَى الْقَاضِي بَهَاءِ الدِّينِ بْنِ الزَّكِيِّ، وَفِي النَّحْوِ عَلَى بَدْرِ الدِّينِ بْنِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ، وَبَرَعَ، وَحَصَّلَ، وَسَادَ أَقْرَانَهُ مِنْ أَهْلِ مَذْهَبِهِ، وَحَازَ قَصَبَ السَّبْقِ عَلَيْهِمْ بِذِهْنِهِ الْوَقَّادِ فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ الَّذِي أَسْهَرَهُ وَمَنْعَهُ الرُّقَادَ، وَعِبَارَتِهِ الَّتِي هِيَ أَشْهَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مُعْتَادٍ، وَخَطِّهِ الَّذِي هُوَ أَنْضَرُ مِنْ أَزَاهِيرِ الْوِهَادِ، وَقَدْ دَرَّسَ بِعِدَّةِ مَدَارِسَ بِمَدِينَةِ دِمَشْقَ، وَبَاشَرَ عِدَّةَ جِهَاتٍ كِبَارٍ كَنَظَرِ الْخِزَانَةِ، وَنَظَرِ الْمَارَسْتَانِ النُّورِيِّ، وَدِيوَانِ الْمَلِكِ السَّعِيدِ، وَوَكَالَةِ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَهُ تَعَالِيقُ مُفِيدَةٌ، وَاخْتِيَارَاتٌ حَمِيدَةٌ سَدِيدَةٌ، وَمُنَاظَرَاتٌ سَعِيدَةٌ، وَمِمَّا عَلَّقَهُ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ " شَرْحِ الْمِنْهَاجِ " لِلنَّوَوِيِّ، وَمُجَلَّدٌ كَبِيرٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ،

وَأَمَّا دُرُوسُهُ فِي الْمَحَافِلِ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ دَرَّسَ أَحْسَنَ مِنْهَا، وَلَا أَجْلَى مِنْ عِبَارَتِهِ، وَحُسْنِ تَقْرِيرِهِ، وَجَوْدَةِ احْتِرَازَاتِهِ، وَصِحَّةِ ذِهْنِهِ، وَقُوَّةِ قَرِيحَتِهِ، وَحُسْنِ نَظْمِهِ، وَقَدْ دَرَّسَ بِالشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَالْعَذْرَاوِيَّةِ، وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَالْجَوَّانِيَّةِ، وَالرَّوَاحِيَّةِ، وَالْمَسْرُورِيَّةِ، فَكَانَ يُعْطِي كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَقَّهَا، بِحَيْثُ كَانَ يَكَادُ يَنْسَخُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الدُّرُوسِ مَا قَبْلَهُ مَنْ حُسْنِهِ وَفَصَاحَتِهِ، وَلَا يَهُولُهُ تَعْدَادُ الدُّرُوسِ وَكَثْرَةُ الْفُقَهَاءِ وَالْفُضَلَاءِ، بَلْ كُلَّمَا كَانَ الْجَمْعُ أَكْثَرَ وَالْفُضَلَاءُ أَكْبَرَ كَانَ الدَّرْسُ أَنْضَرَ وَأَنْظَرَ، وَأَجْلَى وَأَنْصَحَ وَأَفْصَحَ. ثُمَّ لَمَّا انْتَقَلَ إِلَى قَضَاءِ حَلَبَ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْمَدَارِسِ الْعَدِيدَةِ عَامَلَهُ مُعَامَلَةَ مِثْلِهَا، وَأَوْسَعَ فِي الْفَضِيلَةِ جَمِيعَ أَهْلِهَا، وَسَمِعُوا مِنَ الْعُلُومِ مَا لَمْ يَسْمَعُوا هُمْ وَلَا آبَاؤُهُمْ، ثُمَّ طُلِبَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِيُوَلَّى الشَّامِيَّةَ دَارَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، فَعَاجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهَا، فَمَرِضَ وَهُوَ سَائِرٌ عَلَى الْبَرِيدِ تِسْعَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ عَقَبَ الْمَرَضَ بُحْرَانُ الْحِمَامِ، فَقَبَضَهُ هَاذِمُ اللَّذَّاتِ، وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الشَّهَوَاتِ وَالْإِرَادَاتِ،وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ وَكَانَ مِنْ نِيَّتِهِ الْخَبِيثَةِ إِذَا

رَجَعَ إِلَى الشَّامِ مُتَوَلِّيًا أَنْ يُؤْذِيَ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ، فَدَعَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ أَمَلَهُ وَمُرَادَهُ، فَتُوُفِّيَ فِي سَحَرِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَادِسَ عَشَرَ شَهْرِ رَمَضَانَ بِمَدِينَةِ بُلْبَيْسَ، وَحُمِلَ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ جِوَارَ قُبَّةِ الشَّافِعِيِّ، تَغَمَّدَهُمَا اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ.
الْحَاجُّ عَلِيٌّ الْمُؤَذِّنُ الْمَشْهُورُ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، الْحَاجُّ عَلِيُّ بْنُ نُوحِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ الْكَتَّانِيُّ، كَانَ أَبُوهُ مِنْ خِيَارِ الْمُؤَذِّنِينَ، فِيهِ صَلَاحٌ وَدِينٌ، وَلَهُ قَبُولٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ جَهْوَرَهُ، وَفِيهِ تَوَدُّدٌ وَخِدْمَةٌ وَكَرَمٌ، وَحَجَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَسَمِعَ مِنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ وَغَيْرِهِ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ غُدْوَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ فَضْلُ ابْنُ الشَّيْخِ الرَّجِيحِيِّ التُّونُسِيُّ، وَأُجْلِسَ أَخُوهُ يُوسُفُ مَكَانَهُ بِالزَّاوِيَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ الْأَحْدَاثُ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا
فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا كَانَتْ وَفَاةُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ.
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَحُكَّامُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، سِوَى نَائِبِ مِصْرَ، وَقَاضِي حَلَبَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي الْمُحَرَّمِ دَرَّسَ بِحَلْقَةِ صَاحِبِ حِمْصَ الشَّيْخُ الْحَافِظُ صَلَاحُ الدِّينِ الْعَلَائِيُّ، نَزَلَ لَهُ عَنْهَا شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْفُقَهَاءُ وَالْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَذَكَرَ دَرْسًا حَسَنًا مُفِيدًا. وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ رَابِعِ الْمُحَرَّمِ حَضَرَ قَاضِي الْقُضَاةِ عَلَاءُ الدِّينِ الْقُونَوِيُّ مَشْيَخَةَ الشُّيُوخِ بِالسُّمَيْسَاطِيَّةِ عِوَضًا عَنِ الْقَاضِي الْمَالِكِيِّ شَرَفِ الدِّينِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْفُقَهَاءُ وَالصُّوفِيَّةُ عَلَى الْعَادَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ ثَامِنَ عَشَرَ صَفَرٍ دَرَّسَ بِالْمَسْرُورِيَّةِ تَقِيُّ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الشَّيْخِ كَمَالِ الدِّينِ بْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ عِوَضًا عَنْ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الشَّرِيشِيِّ بِحُكْمِ انْتِقَالِهِ إِلَى قَضَاءِ حِمْصَ، وَحَضَرَ النَّاسُ عِنْدَهُ وَتَرَحَّمُوا عَلَى وَالِدِهِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ خَامِسِ عِشْرِينَ صَفَرٍ وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ صَاحِبُ بِلَادِ الرُّومِ تَمُرْتَاشُ بْنُ جُوبَانَ قَاصِدًا إِلَى مِصْرَ، فَخَرَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْجَيْشُ

لِتَلَقِّيهِ، وَهُوَ شَابٌّ حَسَنُ الصُّورَةِ، تَامُّ الشَّكْلِ، مَلِيحُ الْوَجْهِ. وَلَمَّا انْتَهَى إِلَى السُّلْطَانِ بِمِصْرَ أَكْرَمَهُ، وَأَعْطَاهُ تَقْدِمَةَ أَلْفٍ، وَفَرَّقَ أَصْحَابَهُ عَلَى الْأُمَرَاءِ، فَأُكْرِمُوا إِكْرَامًا زَائِدًا، وَكَانَ سَبَبَ قُدُومِهِ إِلَى مِصْرَ أَنَّ صَاحِبَ الْعِرَاقِ الْمَلِكُ بُو سَعِيدٍ كَانَ قَدْ قَتَلَ أَخَاهُ خَوَاجَا دِمَشْقَ فِي شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، فَهَمَّ وَالِدُهُ جُوبَانُ بِمُحَارَبَةِ السُّلْطَانِ بُو سَعِيدٍ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ جُوبَانُ إِذْ ذَاكَ مُدَبِّرَ الْمَمَالِكِ، فَخَافَ تَمُرْتَاشُ هَذَا عِنْدَ ذَلِكَ مِنَ السُّلْطَانِ، فَفَرَّ هَارِبًا بِدَمِهِ إِلَى السُّلْطَانِ النَّاصِرِ بِمِصْرَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تَوَجَّهَ نَائِبُ الشَّامِ سَيْفُ الدِّينِ تَنْكِزُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِزِيَارَةِ السُّلْطَانِ، فَأَكْرَمَهُ، وَاحْتَرَمَهُ، وَاشْتَرَى فِي هَذِهِ السَّفْرَةِ دَارَ الْفُلُوسِ الَّتِي بِالْقُرْبِ مِنَ الْبُزُورِيِّينَ وَالْجَوْزِيَّةِ، وَهِيَ شَرْقِيِّهِمَا، وَقَدْ كَانَ سُوقُ الْبُزُورِيَّةِ الْيَوْمَ يُسَمَّى سُوقَ الْقَمْحِ، فَاشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ، وَعَمَرَهَا دَارًا هَائِلَةً لَيْسَبِدِمَشْقَ دَارٌ أَحْسَنَ مِنْهَا، وَسَمَّاهَا دَارَ الذَّهَبِ، وَهَدَمَ حَمَّامَ سُوَيْدٍ تِلْقَاءَهَا، وَجَعَلَهُ دَارَ قُرْآنٍ وَحَدِيثٍ، وَجَاءَتْ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ أَيْضًا، وَوَقَفَ عَلَيْهَا أَمَاكِنَ، وَرَتَّبَ فِيهَا الْمَشَايِخَ وَالطَّلَبَةَ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَاجْتَازَ بِرُجُوعِهِ مِنْ مِصْرَ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَزَارَهُ، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ حَمَّامٍ بِهِ، وَبِبِنَاءِ دَارِ حَدِيثٍ أَيْضًا وَخَانَقَاهْ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَصَلَتِ الْقَنَاةُ إِلَى الْقُدْسِ الشَّرِيفِ الَّتِي أَمَرَ بِعِمَارَتِهَا

وَتَجْدِيدِهَا سَيْفُ الدِّينِ قُطْلُبَكَّ، فَقَامَ بِعِمَارَتِهَا مَعَ وُلَاةِ تِلْكَ النَّوَاحِي، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِهَا، وَدَخَلَتْ حَتَّى إِلَى وَسَطِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَعُمِلَ بِهِ بِرْكَةٌ هَائِلَةٌ، وَهِيَ مُرَخَّمَةٌ مَا بَيْنَ الصَّخْرَةِ وَالْأَقْصَى، وَكَانَ ابْتِدَاءُ عَمَلِهَا مِنْ شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ.
وَفِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عُمِّرَ سُقُوفُ رُوَاقَاتِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ وَأَبْوَابُهُ، وَعُمِّرَتْ بِمَكَّةَ طَهَّارَةٌ مِمَّا يَلِي بَابَ بَنِي شَيْبَةَ.
قَالَ الْبِرْزَالِيُّ: وَفِي هَذَا الشَّهْرِ كَمَلَتْ عِمَارَةُ الْحَمَّامِ الَّذِي بِسُوقِ بَابِ تُومَاءَ، وَلَهُ بَابَانِ.
قَالَ: وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ نُقِضَ التَّرْخِيمُ الَّذِي بِحَائِطِ جَامِعِ دِمَشْقَ الْقِبْلِيِّ مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ مِمَّا يَلِي بَابَ الزِّيَادَةِ، فَوَجَدُوا الْحَائِطَ مُتَجَافِيًا، فَخِيفَ مِنْ أَمْرِهِ، وَحَضَرَ تَنْكِزُ بِنَفْسِهِ وَمَعَهُ الْقُضَاةُ وَأَرْبَابُ الْخِبْرَةِ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى نَقْضِهِ وَإِصْلَاحِهِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ سَابِعِ عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَكَتَبَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ إِلَى السُّلْطَانِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ وَيَسْتَأْذِنُهُ فِي عِمَارَتِهِ، فَجَاءَ الْمَرْسُومُ بِالْإِذْنِ فِي ذَلِكَ، فَشَرَعَ فِي نَقْضِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَامِسِ عِشْرِينَ جُمَادَى الْأُولَى، وَشَرَعُوا فِي عِمَارَتِهِ يَوْمَ الْأَحَدِ تَاسِعَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَعُمِلَ مِحْرَابٌ فِيمَا بَيْنَ بَابِ الزِّيَادَةِ وَمَقْصُورَةِ الْخَطَابَةِ يُضَاهِي مِحْرَابَ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ

جَدُّوا وَلَازَمُوا فِي عِمَارَتِهِ، وَتَبَرَّعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِالْعَمَلِ فِيهِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ، فَكَانَ يَعْمَلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ أَزْيَدُ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ، حَتَّى كَمَلَتْ عِمَارَةُ الْجِدَارِ، وَأُعِيدَتْ طَاقَاتُهُ وَسُقُوفُهُ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَذَلِكَ بِهِمَّةِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ مَرَاجِلَ، وَهَذَا مِنَ الْعَجَبِ، فَإِنَّهُ نُقِضَ الْجِدَارُ وَمَا يُسَامِتُهُ مِنَ السَّقْفِ، وَأُعِيدَ فِي مُدَّةٍ لَا يَتَخَيَّلُ إِلَى أَحَدٍ أَنَّ عَمَلَهُ يَفْرُغُ فِيمَا يُقَارِبُ هَذِهِ الْمُدَّةِ جَزْمًا، وَسَاعَدَهُمْ عَلَى سُرْعَةِ الْإِعَادَةِ حِجَارَةٌ وَجَدُوهَا فِي أَسَاسِ الصَّوْمَعَةِ الْغَرْبِيَّةِ الَّتِي عِنْدَ الْغَزَّالِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْ هَذَا الْمَعْبَدِ صَوْمَعَةٌ كَمَا فِي الْغَرْبِيَّةِ وَالشَّرْقِيَّةِ الْقِبْلِيَّتَيْنِ مِنْهُ، فَأُبِيدَتِ الشَّمَالِيَّتَانِ قَدِيمًا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمَا مِنْ مُدَّةِ أُلُوفٍ مِنَ السِّنِينَ سِوَى أُسِّ هَذِهِ الْمِئْذَنَةِ الْغَرْبِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ، فَكَانَتْ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى إِعَادَةِ هَذَا الْجِدَارِ سَرِيعًا، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ نَاظِرَ الْجَامِعِ ابْنَ مَرَاجِلَ لَمْ يَنْقُصْ أَحَدًا مِنْ أَرْبَابِ الْمُرَتَّبَاتِ عَلَى الْجَامِعِ شَيْئًا مَعَ هَذِهِ الْعِمَارَةِ.
وَفِي لَيْلَةِ السَّبْتِ خَامِسِ جُمَادَى الْأُولَى وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِالْفَرَّائِينَ، وَاتَّصَلَ بِالرَّمَّاحِينَ، وَاحْتَرَقَتِ الْقَيْسَارِيَّةُ وَالْمَسْجِدُ الَّذِي هُنَاكَ، وَهَلَكَ لِلنَّاسِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفِرَاءِ وَالْجُوخِ وَالْأَقْمِشَةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَاشَرِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ صُلِّيَ عَلَى الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الْحَرِيرِيِّ قَاضِي قُضَاةِ الْحَنَفِيَّةِ بِمِصْرَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْغَائِبِ بِدِمَشْقَ. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ قَدِمَ الْبَرِيدُ بِطَلَبِ بُرْهَانِ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ الْحَقِّ الْحَنَفِيِّ إِلَى مِصْرَ لِيَلِيَ الْقَضَاءَ بِهَا

بَعْدَ ابْنِ الْحَرِيرِيِّ، فَخَرَجَ مُسَافِرًا إِلَيْهَا، وَدَخَلَ مَصْرَ فِي خَامِسِ عِشْرِينَ جُمَادَى الْأُولَى، وَاجْتَمَعَ بِالسُّلْطَانِ، فَوَلَّاهُ الْقَضَاءَ، وَأَكْرَمَهُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ بَغْلَةً بِزُنَّارِيٍّ، وَحَكَمَ بِالْمَدْرَسَةِ الصَّالِحِيَّةِ بِحَضْرَةٍ الْقُضَاةِ وَالْحُجَّابِ، وَرُسِمَ لَهُ بِجَمِيعِ جِهَاتِ ابْنِ الْحَرِيرِيِّ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ تَاسِعِ جُمَادَى الْآخِرَةِ أُخْرِجَ مَا كَانَ عِنْدَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْكُتُبِ، وَالْأَوْرَاقِ، وَالدَّوَاةِ، وَالْقَلَمِ، وَمُنِعَ مِنَ الْكُتُبِ وَالْمُطَالَعَةِ، وَحُمِلَتْ كُتُبُهُ فِي مُسْتَهَلِّ رَجَبٍ إِلَى خِزَانَةِ الْكُتُبِ بِالْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ، قَالَ الْبِرْزَالِيُّ: وَكَانَتْ نَحْوَ سِتِّينَ مُجَلَّدًا، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ رَبْطَةَ كَرَارِيسَ، فَنَظَرَ الْقُضَاةُ وَالْفُقَهَاءُ فِيهَا وَتَفَرَّقُوهَا بَيْنَهُمْ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَجَابَ لِمَا كَانَ رَدَّ عَلَيْهِ التَّقِيُّ بْنُ الْأَخْنَائِيِّ الْمَالِكِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الزِّيَارَةِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَاسْتَجْهَلَهُ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ قَلِيلُ الْبِضَاعَةِ فِي الْعِلْمِ، فَطَلَعَ الْأَخْنَائِيُّ إِلَى السُّلْطَانِ وَشَكَاهُ، فَرَسَمَ السُّلْطَانُ عِنْدَ ذَلِكَ بِإِخْرَاجِ مَا عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ مَا كَانَ، كَمَا ذَكَرْنَا.
وَفِي أَوَاخِرِهِ رُسِمَ لِعَلَاءِ الدِّينِ بْنِ الْقَلَانِسِيِّ فِي الدَّسْتِ مَكَانَ أَخِيهِ جَمَالِ الدِّينِ تَوْقِيرًا لِخَاطِرِهِ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومُهُ عَلَى قَضَاءِ الْعَسَاكِرِ وَالْوَكَالَةِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ثَالِثِ عِشْرِينَ رَجَبٍ رُسِمَ لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ الْحَنَفِيِّ وَالْمَالِكِيِّ

وَالْحَنْبَلِيِّ بِالصَّلَاةِ فِي الْحَائِطِ الْقِبْلِيِّ مِنَ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، فَعُيِّنَ الْمِحْرَابُ الْجَدِيدُ الَّذِي بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالْمَقْصُورَةِ لِلْإِمَامِ الْحَنَفِيِّ، وَعُيِّنَ مِحْرَابُ الصَّحَابَةِ لِلْمَالِكِيِّ، وَعُيِّنَ مِحْرَابُ مَقْصُورَةِ الْخَضِرِ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ الْمَالِكِيُّ لِلْحَنْبَلِيِّ، وَعُوِّضَ إِمَامُ مِحْرَابِ الصَّحَابَةِ بِالْكَلَّاسَةِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي حَالِ الْعِمَارَةِ قَدْ بَلَغَ مِحْرَابَ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الْمَقْصُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِهِمْ، وَمِحْرَابَ الْحَنَابِلَةِ مِنْ خَلْفِهِمْ فِي الرُّوَاقِ الثَّالِثِ الْغَرْبِيِّ - وَكَانَا بَيْنَ الْأَعْمِدَةِ - فَنُقِلَتْ تِلْكَ الْمَحَارِيبُ، وَعُوِّضُوا بِالْمَحَارِيبِ الْمُسْتَقِرَّةِ بِالْحَائِطِ الْقِبْلِيِّ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
وَفِي الْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ مُسِكَ الْأَمِيرُ تَمُرْتَاشُ بْنُ جُوبَانَ الَّذِي أَتَى هَارِبًا إِلَى السُّلْطَانِ النَّاصِرِ بِمِصْرَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَحُبِسُوا بِقَلْعَةِ مِصْرَ، فَلَمَّا كَانَ ثَانِي شَوَّالٍ أُظْهِرَ مَوْتُهُ، يُقَالُ: إِنَّهُ قَتَلَهُ السُّلْطَانُ، وَأَرْسَلَ رَأْسَهُ إِلَى بُو سَعِيدٍ صَاحِبِ الْعِرَاقِ ابْنِ خَرْبَنْدَا مَلِكِ التَّتَارِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِي شَوَّالٍ خَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ وَأَمِيرُهُ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَمِيرِ شَمْسِ الدِّينِ لُؤْلُؤٍ الْحَلَبِيُّ أَحَدُ أُمَرَاءِ دِمَشْقَ، وَقَاضِيهِ قَاضِي قُضَاةِ الْحَنَابِلَةِ عِزُّ الدِّينِ بْنُ التَّقِيِّ سُلَيْمَانَ.
وَمِمَّنْ حَجَّ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ الْبَشْمَقْدَارُ، وَالْأَمِيرُ قَبْجَقُ، وَالْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ بْنُ النَّجِيبِيِّ، وَتَقِيُّ الدِّينِ بْنُ السَّلْعُوسِ، وَبَدْرُ الدِّينِ بْنُ الصَّائِغِ، وَابْنَا

جَهْبَلٍ، وَالْفَخْرُ الْمِصْرِيُّ، وَالشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ، وَشِهَابُ الدِّينِ الظَّاهِرِيُّ.
وَقَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ حَكَمَ الْقَاضِي الْمَنْفَلُوطِيُّ الَّذِي كَانَ حَاكِمًا بِبَعْلَبَكَّ بِدِمَشْقَ نِيَابَةً عَنْ شَيْخِهِ قَاضِي الْقُضَاةِ عَلَاءِ الدِّينِ الْقُونَوِيِّ، وَكَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ، تَأَلَّمَ أَهْلُ بَعْلَبَكَّ لِفَقْدِهِ، فَحَكَمَ بِدِمَشْقَ عِوَضًا عَنِ الْقُونَوِيِّ بِسَبَبِ عَزْمِهِ عَلَى الْحَجِّ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ الْفَخْرُ مِنَ الْحَجِّ عَادَ إِلَى الْحُكْمِ، وَاسْتَمَرَّ الْمَنْفَلُوطِيُّ يَحْكَمُ أَيْضًا، فَصَارُوا ثَلَاثَةَ نُوَّابٍ: ابْنُ جُمْلَةَ، وَالْفَخْرُ الْمِصْرِيُّ، وَالْمَنْفَلُوطِيُّ.
وَسَافَرَ الْقَاضِي مُعِينُ الدِّينِ بْنُ الْحَشِيشِ فِي ثَانِي عِشْرِينَ شَوَّالٍ إِلَى الْقَاهِرَةِ لِيَنُوبَ عَنِ الْقَاضِي فَخْرِ الدِّينِ كَاتِبِ الْمَمَالِيكِ إِلَى حِينِ رُجُوعِهِ مِنَ الْحِجَازِ، فَلَمَّا وَصَلَ وَلِيَ حِجَابَةَ دِيوَانِ الْجَيْشِ، وَاسْتَمَرَّ هُنَاكَ، وَاسْتَقَلَّ قُطْبُ الدِّينِ ابْنُ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ بِنَظَرِ الْجَيْشِ بِدِمَشْقَ عَلَى عَادَتِهِ.
وَفِي شَوَّالٍ خُلِعَ عَلَى أَمِينِ الْمُلْكِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَوُلِّيَ نَظَرَ الدَّوَاوِينِ، فَبَاشَرَهُ شَهْرًا وَيَوْمَيْنِ، وَعُزِلَ عَنْهُ.

ذِكْرُ وَفَاةِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ فِي " تَارِيخِهِ ": وَفِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ الْعِشْرِينَ مِنْ

ذِي الْقَعْدَةِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْفَقِيهُ الْحَافِظُ الْقُدْوَةُ، شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ شَيْخِنَا الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ الْمُفْتِي شِهَابِ الدِّينِ أَبِي الْمَحَاسِنِ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مَجْدِ الدِّينِ أَبِي الْبَرَكَاتِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ، ابْنِ تَيْمِيَّةَ الْحَرَّانِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ، بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ بِالْقَاعَةِ الَّتِي كَانَ مَحْبُوسًا فِيهَا، وَحَضَرَ جَمْعٌ كَثِيرٌ إِلَى الْغَايَةِ إِلَى الْقَلْعَةِ، فَأُذِنَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَجَلَسَ جَمَاعَةٌ عِنْدَهُ قَبْلَ الْغُسْلِ، وَقَرَءُوا الْقُرْآنَ، وَتَبَرَّكُوا بِرُؤْيَتِهِ وَتَقْبِيلِهِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، وَحَضَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ النِّسَاءِ فَفَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ انْصَرَفُوا، وَاقْتُصِرَ عَلَى مَنْ يُغَسِّلُهُ، فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ ذَلِكَ أُخْرِجَ وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ بِالْقَلْعَةِ وَالطَّرِيقِ إِلَى الْجَامِعِ، وَامْتَلَأَ الْجَامِعُ وَصَحْنُهُ، وَالْكَلَّاسَةُ، وَبَابُ الْبَرِيدِ، وَبَابُ السَّاعَاتِ، إِلَى اللَّبَّادِينَ وَالْفَوَّارَةِ، وَحَضَرَتِ الْجِنَازَةُ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ النَّهَارِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَوُضِعَتْ فِي الْجَامِعِ وَالْجُنْدُ يَحْفَظُونَهَا مِنَ النَّاسِ مِنْ شِدَّةِ الزِّحَامِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ أَوَّلًا بِالْقَلْعَةِ، تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ تَمَّامٍ، ثُمَّ صُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ عَقِيبَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَحُمِلَ مِنْ بَابِ الْبَرِيدِ، وَاشْتَدَّ الزِّحَامُ، وَأَلْقَى النَّاسُ عَلَى نَعْشِهِ مَنَادِيلَهُمْ وَعَمَائِمَهُمْ لِلتَّبَرُّكِ، وَصَارَ النَّعْشُ عَلَى الرُّءُوسِ، تَارَةً يَتَقَدَّمُ وَتَارَةً يَتَأَخَّرُ، وَخَرَجَ النَّاسُ مِنَ الْجَامِعِ مِنْ أَبْوَابِهِ كُلِّهَا مِنْ شِدَّةِ الزِّحَامِ، وَكَانَ الْمُعْظَمُ مِنَ الْأَبْوَابِ الْأَرْبَعَةِ بَابِ الْفَرَجِ الَّذِي أُخْرِجَتْ مِنْهُ الْجِنَازَةُ، وَبَابِ الْفَرَادِيسِ، وَبَابِ النَّصْرِ، وَبَابِ الْجَابِيَةِ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ بِسُوقِ الْخَيْلِ، وَتَقَدَّمَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ هُنَاكَ أَخُوهُ زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَحُمِلَ إِلَى مَقْبَرَةِ الصُّوفِيَّةِ، فَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ أَخِيهِ شَرَفِ الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ،

وَكَانَ دَفْنُهُ وَقْتَ الْعَصْرِ أَوْ قَبْلَهَا بِيَسِيرٍ، وَغَلَّقَ النَّاسُ حَوَانِيتَهُمْ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنِ الْحُضُورِ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ أَوْ مَنْ عَجَزَ لِأَجْلِ الزِّحَامِ، وَحَضَرَهَا نِسَاءٌ كَثِيرٌ بِحَيْثُ حُزِرْنَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَأَمَّا الرِّجَالُ فَحُزِرُوا بِسِتِّينَ أَلْفًا وَأَكْثَرَ إِلَى مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَشَرِبَ جَمَاعَةٌ الْمَاءَ الَّذِي فَضَلَ مِنْ غُسْلِهِ، وَاقْتَسَمَ جَمَاعَةٌ بَقِيَّةَ السِّدْرِ الَّذِي غُسِّلَ بِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الطَّاقِيَّةَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ دُفِعَ فِيهَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْخَيْطَ الَّذِي كَانَ فِيهِ الزِّئْبَقُ الَّذِي كَانَ فِي عُنُقِهِ بِسَبَبِ الْقَمْلِ، دُفِعَ فِيهِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَحَصَلَ فِي الْجِنَازَةِ ضَجِيجٌ وَبُكَاءٌ وَتَضَرُّعٌ، وَخُتِمَتْ لَهُ خَتَمَاتٌ كَثِيرَةٌ بِالصَّالِحِيَّةِ وَالْبَلَدِ، وَتَرَدَّدَ النَّاسُ إِلَى قَبْرِهِ أَيَّامًا كَثِيرَةً لَيْلًا وَنَهَارًا، وَرُئِيَتْ لَهُ مَنَامَاتٌ كَثِيرَةٌ صَالِحَةٌ، وَرَثَاهُ جَمَاعَةٌ بِقَصَائِدَ جَمَّةٍ.
وَكَانَ مَوْلِدُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ عَاشِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بِحَرَّانَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَدِمَ مَعَ وَالِدِهِ وَأَهْلِهِ إِلَى دِمَشْقَ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنِ ابْنِ عَبْدِ الدَّائِمِ، وَابْنِ أَبِي الْيُسْرِ، وَابْنِ عَبْدٍ، وَالشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ الْحَنْبَلِيِّ، وَالْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ بْنِ عَطَاءٍ الْحَنَفِيِّ، وَالشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الصَّيْرَفِيِّ، وَمَجْدِ الدِّينِ بْنِ عَسَاكِرَ، وَالشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ الْبَغْدَادِيِّ، وَالنَّجِيبِ بْنِ الْمِقْدَادِ، وَابْنِ أَبِي الْخَيْرِ، وَابْنِ عَلَّانَ، وَابْنِ أَبِي بَكْرٍ الْهَرَوِيِّ، وَالْكَمَالِ عَبْدِ الرَّحِيمِ،

وَالْفَخْرِ عَلِيٍّ، وَابْنِ شَيْبَانَ، وَالشَّرَفِ بْنِ الْقَوَّاسِ، وَزَيْنَبَ بِنْتِ مَكِّيٍّ، وَخَلْقٍ كَثِيرٍ، وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ الْكَثِيرَ، وَطَلَبَ الْحَدِيثَ، وَكَتَبَ الطِّبَاقَ وَالْأَثْبَاتَ، وَلَازَمَ السَّمَاعَ بِنَفْسِهِ مُدَّةَ سِنِينَ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالْعُلُومِ، وَكَانَ ذَكِيًّا كَثِيرَ الْمَحْفُوظِ، فَصَارَ إِمَامًا فِي التَّفْسِيرِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، عَارِفًا بِالْفِقْهِ وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَصْلَيْنِ وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَمَا تَكَلَّمَ مَعَهُ فَاضِلٌ فِي فَنٍّ مِنَ الْفُنُونِ الْعِلْمِيَّةِ إِلَّا ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ الْفَنَّ فَنُّهُ، وَرَآهُ عَارِفًا بِهِ مُتْقِنًا لَهُ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَكَانَ حَافِظًا لَهُ مَتْنًا وَإِسْنَادًا، مُمَيِّزًا بَيْنَ صَحِيحِهِ وَسَقِيمِهِ، عَارِفًا بِرِجَالِهِ مُتَضَلِّعًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَهُ تَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ وَتَعَالِيقُ مُفِيدَةٌ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، كَمَّلَ مِنْهَا جُمْلَةً وَبُيِّضَتْ وَكُتِبَتْ عَنْهُ، وَجُمْلَةٌ كَبِيرَةٌ لَمْ يُكْمِلْهَا، وَجُمْلَةٌ كَمَّلَهَا وَلَكِنْ لَمْ تُبَيَّضْ.
وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَعَلَى فَضَائِلِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ عَصْرِهِ، مِثْلُ الْقَاضِي الْخُوِيِّيِّ، وَابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَابْنِ النَّحَّاسِ، وَابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.
وَوُجِدَتْ بِخَطِّ ابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ أَنَّهُ اجْتَمَعَتْ فِيهِ شُرُوطُ الِاجْتِهَادِ عَلَى وَجْهِهَا، وَأَنَّ لَهُ الْيَدَ الطُّولَى فِي حُسْنِ التَّصْنِيفِ، وَجَوْدَةِ الْعِبَارَةِ، وَالتَّرْتِيبِ وَالتَّقْسِيمِ وَالتَّبْيِينِ، وَكَتَبَ عَلَى مُصَنَّفٍ لَهُ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ:
مَاذَا يَقُولُ الْوَاصِفُونَ لَهُ وَصِفَاتُهُ جَلَّتْ عَنِ الْحَصْرِ هُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ قَاهِرَةٌ
هُوَ بَيْنَنَا أُعْجُوبَةُ الدَّهْرِ هُوَ آيَةٌ فِي الْخَلْقِ ظَاهِرَةٌ
أَنْوَارُهَا أَرْبَتْ عَلَى الْفَجْرِ
وَهَذَا الثَّنَاءُ عَلَيْهِ وَكَانَ عُمْرُهُ نَحْوَ الثَّلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ

وَصُحْبَةٌ مِنَ الصِّغَرِ، وَسَمَاعُ الْحَدِيثِ وَالطَّلَبُ مِنْ نَحْوِ خَمْسِينَ سَنَةً، وَلَهُ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ، وَأَسْمَاءُ مُصَنَّفَاتِهِ وَسِيرَتُهُ وَمَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَالدَّوْلَةِ، وَحَبْسُهُ مَرَّاتٍ، وَأَحْوَالُهُ، لَا يَحْتَمِلُ ذِكْرَ جَمِيعِهَا هَذَا الْمَوْضِعُ فِي هَذَا الْكِتَابِ.
وَلَمَّا مَاتَ كُنْتُ غَائِبًا عَنْ دِمَشْقَ بِطَرِيقِ الْحِجَازِ الشَّرِيفِ، وَبَلَغَنَا خَبَرُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ يَوْمًا لَمَّا وَصَلْنَا إِلَى تَبُوكَ، وَحَصَلَ التَّأَسُّفُ لِفَقْدِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، هَذَا لَفْظُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ " تَارِيخِهِ ".
ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ فِي " تَارِيخِهِ " بَعْدَ إِيرَادِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ جِنَازَةَ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ وَعِظَمَهَا، وَجِنَازَةَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِبَغْدَادَ وَشُهْرَتَهَا، وَقَوْلَهُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ الْبِدَعِ يَوْمُ الْجَنَائِزِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ جِنَازَةَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ كَانَتْ هَائِلَةً عَظِيمَةً بِسَبَبِ كَثْرَةِ أَهْلِ بَلَدِهِ وَاجْتِمَاعِهِمْ لِذَلِكَ، وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُوُفِّيَ بِبَلَدِهِ دِمَشْقَ، وَأَهْلُهَا لَا يَعْشُرُونَ أَهْلَ بَغْدَادَ كَثْرَةً، وَلَكِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا لِجِنَازَتِهِ اجْتِمَاعًا لَوْ جَمَعَهُمْ سُلْطَانٌ قَاهِرٌ وَدِيوَانٌ حَاصِرٌ لَمَا بَلَغُوا هَذِهِ الْكَثْرَةَ الَّتِي انْتَهَوْا إِلَيْهَا، هَذَا مَعَ أَنَّهُ مَاتَ بِالْقَلْعَةِ مَحْبُوسًا مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ يَذْكُرُونَ عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِمَّا يَنْفِرُ مِنْهَا أَهْلُ الْأَدْيَانِ، وَاتَّفَقَ وَفَاتُهُ فِي سَحَرِ لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ الْمَذْكُورِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ مُؤَذِّنُ الْقَلْعَةِ عَلَى الْمَنَارَةِ بِهَا، وَتَكَلَّمَ بِهِ الْحُرَّاسُ عَلَى الْأَبْرِجَةِ، فَمَا أَصْبَحَ النَّاسُ إِلَّا وَقَدْ تَسَامَعُوا بِهَذَا الْخَطْبِ الْعَظِيمِ وَالْأَمْرِ الْجَسِيمِ، فَبَادَرَ النَّاسُ عَلَى الْفَوْرِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ حَوْلَ الْقَلْعَةِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ أَمْكَنَهُمُ الْمَجِيءُ مِنْهُ، حَتَّى مِنَ الْغُوطَةِ وَالْمَرْجِ، وَلَمْ يَطْبُخْ أَهْلُ

الْأَسْوَاقِ شَيْئًا، وَلَا فَتَحُوا كَثِيرًا مِنَ الدَّكَاكِينِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُفْتَحَ أَوَائِلَ النَّهَارِ عَلَى الْعَادَةِ، وَكَانَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ سَيْفُ الدِّينِ تَنْكِزُ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ يَتَصَيَّدُ، فَحَارَتِ الدَّوْلَةُ مَاذَا يَصْنَعُونَ، وَجَاءَ الصَّاحِبُ شَمْسُ الدِّينِ غِبْرِيَالُ إِلَى نَائِبِ الْقَلْعَةِ، فَعَزَّاهُ فِيهِ، وَجَلَسَ عِنْدَهُ، وَفَتَحَ بَابَ الْقَلْعَةِ وَبَابَ الْقَاعَةِ لِمَنْ يَدْخُلُ مِنَ الْخَوَاصِّ وَالْأَصْحَابِ وَالْأَحْبَابِ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَ الشَّيْخِ فِي قَاعَتِهِ خَلْقٌ مِنْ أَخِصَّاءِ أَصْحَابِهِ مِنَ الْبَلَدِ وَالصَّالِحِيَّةِ، وَجَلَسُوا حَوْلَهُ وَهُمْ يَبْكُونَ وَيُثْنُونَ، وَكُنْتُ فِي مَنْ حَضَرَ هُنَاكَ مَعَ شَيْخِنَا الْحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِزِّيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِ الشَّيْخِ وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ بِعَذَبَةٍ مَغْرُوزَةٍ، وَقَدْ عَلَاهُ الشَّيْبُ أَكْثَرَ مِمَّا فَارَقْنَاهُ. وَأَخْبَرَ الْحَاضِرِينَ أَخُوهُ زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَرَأَ هُوَ وَالشَّيْخُ مُنْذُ دَخَلَا الْقَلْعَةَ ثَمَانِينَ خَتْمَةً، وَشَرَعَا فِي الْحَادِيَةِ وَالثَّمَانِينَ، فَانْتَهَيْنَا فِيهَا إِلَى آخِرِ " اقْتَرَبَتْ " فَشَرَعَ عِنْدَ ذَلِكَ الشَّيْخَانِ الصَّالِحَانِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُحِبِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ الزُّرَعِيُّ الضَّرِيرُ - وَكَانَ الشَّيْخُ يُحِبُّ قِرَاءَتَهُمَا - فَابْتَدَآ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ " الرَّحْمَنِ " حَتَّى خَتَمُوا الْقُرْآنَ وَأَنَا حَاضِرٌ أَسْمَعُ وَأَرَى.
ثُمَّ شَرَعُوا فِي غُسْلِ الشَّيْخِ - وَخَرَجْتُ إِلَى مَسْجِدٍ هُنَاكَ - وَلَمْ يَمْكُثْ عِنْدَهُ إِلَّا مِنْ سَاعَدَ فِي تَغْسِيلِهِ، وَفِيهِمْ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ، فَمَا فُرِغَ مِنْهُ حَتَّى امْتَلَأَتِ الْقَلْعَةُ بِالرِّجَالِ، وَكَذَلِكَ مَا حَوْلَهَا إِلَى الْجَامِعِ، فَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِدَرَكَاتِ الْقَلْعَةِ، وَضَجَّ النَّاسُ بِالْبُكَاءِ وَالثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّرَحُّمِ، ثُمَّ سَارُوا بِهِ إِلَى الْجَامِعِ، فَسَلَكُوا طَرِيقَ الْعِمَادِيَّةِ عَلَى الْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ، ثُمَّ عَطَفُوا إِلَى بَابِ الْبَرِيدِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ سُوَيْقَةَ بَابِ الْبَرِيدِ كَانَتْ قَدْ

هُدِمَتْ لِتُصْلَحَ، وَدَخَلُوا بِالْجِنَازَةِ إِلَى الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَالْخَلَائِقُ فِيهِ لَا يَعْلَمُ عِدَّتَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَصَرَخَ صَارِخٌ: هَكَذَا تَكُونُ جَنَائِزُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، فَتَبَاكَى النَّاسُ عِنْدَ سَمَاعِ ذَلِكَ الصَّارِخِ، وَوُضِعَ الشَّيْخُ فِي مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ مِمَّا يَلِي الْمَقْصُورَةَ، وَجَلَسَ النَّاسُ عَلَى غَيْرِ صُفُوفٍ، بَلْ مَرْصُوصِينَ لَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنَ السُّجُودِ إِلَّا بِكُلْفَةٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَذَانِ الظُّهْرِ بِقَلِيلٍ، وَجَاءَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَكَثُرُوا كَثْرَةً لَا تُوصَفُ، فَلَمَّا أُذِّنَ الظُّهْرُ وَفُرِغَ مِنَ الْأَذَانِ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ عَلَى السُّدَّةِ بِخِلَافِ الْعَادَةِ لِيُسْرِعُوا بِالنَّاسِ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ خَرَجَ نَائِبُ الْخَطِيبِ لِغَيْبَتِهِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ إِمَامًا، وَهُوَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ الْخَرَّاطِ، ثُمَّ خَرَجَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَامِعِ وَالْبَلَدِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَاجْتَمَعُوا بِسُوقِ الْخَيْلِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَعَجَّلَ إِلَى مَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ، وَالنَّاسُ فِي بُكَاءٍ وَتَهْلِيلٍ، وَدُعَاءٍ وَثَنَاءٍ وَتَأَسُّفٍ، وَالنِّسَاءُ فَوْقَ الْأَسْطِحَةِ مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْمَقْبَرَةِ يَبْكِينَ وَيَدْعِينَ.
وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ بِدِمَشْقَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ حِينَ كَانَ النَّاسُ بِهَا كَثِيرًا جِدًّا، ثُمَّ دُفِنَ عِنْدَ أَخِيهِ قَرِيبًا مِنْ أَذَانِ الْعَصْرِ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنَ النَّاسِ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ الضُّعَفَاءِ وَالْمُخَدَّرَاتِ، وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ تَخَلَّفَ عَنِ الْحُضُورِ فِي جَنَازَتِهِ إِلَّا النَّفَرَ الْيَسِيرَ، وَتَرَدَّدَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ بُرْهَانُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ إِلَى الْمَقْبَرَةِ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ وَكُلَّ يَوْمٍ بُكْرَةَ النَّهَارِ، وَيَعُودُ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى حِمَارِهِ، وَعَلَيْهِ الْجَلَالَةُ وَالْوَقَارُ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

وَعُمِلَتْ لَهُ خَتَمَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَرُئِيَتْ لَهُ مَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ عَجِيبَةٌ، وَرُثِيَ بِأَشْعَارٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا. وَقَدْ أُفْرِدَتْ لَهُ تَرَاجِمُ كَثِيرَةٌ، وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُضَلَاءِ وَغَيْرُهُمْ، وَسَنَحْصُرُ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ تَرْجَمَةً وَجِيزَةً فِي ذِكْرِ مَنَاقِبِهِ، وَفَضَائِلِهِ، وَشَجَاعَتِهِ، وَكَرَمِهِ، وَنُصْحِهِ، وَزَهَادَتِهِ، وَعِبَادَتِهِ، وَعُلُومِهِ الْكَثِيرَةِ الْمُحَرَّرَةِ، وَمُصَنَّفَاتِهِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ فِي الْعُلُومِ، وَمُفْرَدَاتِهِ فِي الِاخْتِيَارَاتِ الَّتِي نَصَرَهَا وَأَفْتَى بِهَا.
وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ، وَمِمَّنْ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ، وَقَدْ صَحَّ فِي الْبُخَارِيِّ:إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ. وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: كُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إِلَّا صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ.
وَفِي السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ نَقَلَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ سَيْفُ الدِّينِ تَنْكِزُ حَوَاصِلَهُ وَأَمْوَالَهُ مِنْ دَارِ الذَّهَبِ دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ إِلَى الدَّارِ الَّتِي أَنْشَأَهَا، وَكَانَتْ تُعْرَفُ بِدَارِ فُلُوسٍ، فَسُمِّيَتْ دَارَ الذَّهَبِ، وَعَزَلَ خَزِنْدَارَهُ نَاصِرَ الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ عِيسَى، وَوَلَّى مَكَانَهُ مَمْلُوكَهُ أَبَاجِي.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، جَاءَ إِلَى مَدِينَةِ عَجْلُونَ سَيْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ، فَهَدَمَ مِنْ جَامِعِهَا وَأَسْوَاقِهَا وَرِبَاعِهَا وَدُورِهَا شَيْئًا كَثِيرًا، وَغَرِقَ سَبْعَةُ نَفَرٍ، وَهَلَكَ لِلنَّاسِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْغَلَّاتِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْمَوَاشِي مَا يُقَارِبُ قِيمَتُهُ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ أَلْزَمَ الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْقُونَوِيُّ جَمَاعَةَ الشُّهُودِ بِسَائِرِ الْمَرَاكِزِ أَنْ يُرْسِلُوا فِي عَمَائِمِهِمُ الْعَذَبَاتِ لِيَتَمَيَّزُوا بِذَلِكَ عَنْ عَوَامِّ النَّاسِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ أَيَّامًا ثُمَّ تَضَرَّرُوا مِنْ ذَلِكَ، فَأَرْخَصَ لَهُمْ فِي تَرْكِهَا، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَمَرَّ بِهَا.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ عِشْرِينَ ذِي الْحِجَّةِ أُفْرِجَ عَنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَالِمِ الْعَلَّامَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ، وَكَانَ مُعْتَقَلًا بِالْقَلْعَةِ أَيْضًا، مِنْ بَعْدِ اعْتِقَالِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بِأَيَّامٍ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ إِلَى هَذَا الْحِينِ.
وَجَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ السُّلْطَانَ أَفْرَجَ عَنِ الْجَاوِلِيِّ، وَالْأَمِيرِ فَرَجِ بْنِ قَرَاسُنْقُرَ، وَلَاجِينَ الْمَنْصُورِيِّ، وَأُحْضِرُوا بَعْدَ الْعِيدِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ.
وَفِيهِ وَصَلَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ الْأَمِيرِ الْكَبِيرِ جُوبَانَ نَائِبِ السُّلْطَانِ بُو سَعِيدٍ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ، وَوَفَاةِ قَرَاسُنْقُرَ الْمَنْصُورِيِّ أَيْضًا، كِلَاهُمَا فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَجُوبَانُ هَذَا هُوَ الَّذِي سَاقَ الْقَنَاةَ الْوَاصِلَةَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَدْ غَرِمَ عَلَيْهَا أَمْوَالًا جَزِيلَةً كَثِيرَةً، وَلَهُ تُرْبَةٌ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَمَدْرَسَتُهُ مَشْهُورَةٌ، وَلَهُ آثَارٌ حَسَنَةٌ، وَكَانَ جَيِّدَ الْإِسْلَامِ، لَهُ هِمَّةٌ عَالِيَةٌ، وَقَدْ دَبَّرَ الْمَمَالِكَ فِي أَيَّامِ بُو سَعِيدٍ مُدَّةً طَوِيلَةً عَلَى السَّدَادِ، ثُمَّ أَرَادَ بُو سَعِيدٍ مَسْكَهُ فَتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا سَلَفَ، ثُمَّ إِنَّ بُو سَعِيدٍ قَتَلَ ابْنَهُ خَوَاجَا دِمَشْقَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، فَفَرَّ ابْنُهُ الْآخَرُ تَمُرْتَاشُ هَارِبًا إِلَى سُلْطَانِ مِصْرَ، فَآوَاهُ شَهْرًا، ثُمَّ تَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَ

الْمَلِكَيْنِ فِي قَتْلِهِ، فَقَتَلَهُ صَاحِبُ مِصْرَ فِيمَا قِيلَ، وَأَرْسَلَ بِرَأْسِهِ إِلَيْهِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُوهُ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ.
وَأَمَّا قَرَاسُنْقُرُ الْمَنْصُورِيُّ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ كِبَارِ أُمَرَاءِ مِصْرَ وَالشَّامِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَتَلَ الْأَشْرَفَ خَلِيلَ بْنَ الْمَنْصُورِ، كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ وَلِيَ نِيَابَةَ مِصْرَ مُدَّةً، ثُمَّ صَارَ إِلَى نِيَابَةِ دِمَشْقَ، ثُمَّ إِلَى نِيَابَةِ حَلَبَ، ثُمَّ فَرَّ إِلَى التَّتَارِ هُوَ وَالْأَفْرَمُ وَالزَّرَدْكَاشُ، فَآوَاهُمْ مَلِكُ التَّتَارِ خَرْبَنْدَا وَأَكْرَمَهُمْ، وَأَقْطَعَهُمْ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَتَزَوَّجَ قَرَاسُنْقُرُ بِنْتَ هُولَاكُو، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَرَاغَةَ، بَلَدِهِ الَّتِي كَانَ حَاكِمًا بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ نَحْوُ تِسْعِينَ سَنَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي الْحَوَادِثِ، وَسَنُفْرِدُ لَهُ تَرْجَمَةً عَلَى حِدَةٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرِيفُ الْعَالِمُ الزَّاهِدُ الْمُحَدِّثُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْمُحْسِنِ الْعَلَوِيُّ الْحُسَيْنِيُّ الْغَرَّافِيُّ الْإِسْكَنْدَرِيُّ الشَّافِعِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَحَفِظَ " الْوَجِيزَ " فِي الْفِقْهِ، وَ " الْإِيضَاحَ " فِي النَّحْوِ، وَكَانَ زَاهِدًا مُتَقَلِّلًا مِنَ الدُّنْيَا، وَبَلَغَ تِسْعِينَ سَنَةً وَعَقْلُهُ وَعِلْمُهُ وَذِهْنُهُ ثَابِتٌ مُتَيَقِّظٌ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَامِسِ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بَيْنَ

الْمَاوِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّمْسُ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى التَّدْمُرِيُّ، كَانَتْ فِيهِ شَهَامَةٌ وَصَرَامَةٌ، وَكَانَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ كَالْمُنَفِّذِ لِمَا يُأْمَرُ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ، وَيُرْسِلُهُ إِلَى الْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ وَمُرُوءَةٌ، يُبَلِّغُ رِسَالَتَهُ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ، تُوُفِّيَ فِي الْخَامِسِ مِنْ صَفَرٍ بِالْقُبَيْبَاتِ، وَدُفِنَ عِنْدَ الْجَامِعِ الْكَرِيمِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ أَبُو بَكْرِ بْنُ شَرَفِ بْنِ مُحْسِنِ بْنِ مَعْنِ بْنِ عَمَّارٍ الصَّالِحِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ صُحْبَةَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَالْمِزِّيِّ، وَكَانَ مِمَّنْ يُحِبُّ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ، وَكَانَ مَعَهُمَا كَالْخَادِمِ لَهُمَا، وَكَانَ فَقِيرًا ذَا عِيَالٍ، يَتَنَاوَلُ مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ مَا يَقُومُ بِأَوَدِهِ، وَأَقَامَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ بِحِمْصَ، وَكَانَ فَصِيحًا مُفَوَّهًا، لَهُ تَعَالِيقُ وَتَصَانِيفُ فِي الْأُصُولِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ لَهُ عِبَادَةٌ وَفِيهِ خَيْرٌ وَصَلَاحٌ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِلَى الْعَصْرِ مِنْ حِفْظِهِ، وَقَدِ اجْتَمَعْتُ بِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ صُحْبَةَ شَيْخِنَا الْمِزِّيِّ حِينَ قَدِمَ مِنْ حِمْصَ، فَكَانَ قَوِيَّ الْعِبَارَةِ فَصِيحَهَا، مُتَوَسِّطًا فِي الْعِلْمِ، لَهُ مَيْلٌ إِلَى التَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ فِي الْأَحْوَالِ، وَالْأَعْمَالِ، وَالْقُلُوبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ يُكْثِرُ

ذِكْرَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، تُوُفِّيَ بِحِمْصَ فِي الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ كَانَ الشَّيْخُ يَحُضُّ النَّاسَ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَكَانَ يُعْطِيهِ وَيَرْفِدُهُ.
ابْنُ الدَّوَالِيبِيِّ الْبَغْدَادِيُّ، الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَالِمُ الْعَابِدُ الرُّحْلَةُ الْمُسْنِدُ الْمُعَمِّرُ عَفِيفُ الدِّينِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمُحْسِنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْغَفَّارِ الْبَغْدَادِيُّ الْأَزَجِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الدَّوَالِيبِيِّ، شَيْخُ دَارِ الْحَدِيثِ الْمُسْتَنْصِرِيَّةِ، وُلِدَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَلَهُ إِجَازَاتٌ عَالِيَةٌ، وَاشْتَغَلَ بِحِفْظِ " الْخِرَقِيِّ "، وَكَانَ فَاضِلًا فِي النَّحْوِ وَغَيْرِهِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا، جَاوَزَ التِّسْعِينَ، وَصَارَ رُحْلَةَ الْعِرَاقِ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ رَابِعَ عِشْرِينَ جُمَادَى الْأُولَى، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مَقَابِرِ الشُّهَدَاءِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ أَجَازَنِي فِيمَنْ أَجَازَ مِنْ مَشَايِخِ بَغْدَادَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْحَرِيرِيِّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ صَفِيِّ الدِّينِ أَبِي عَمْرٍو عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْأَنْصَارِيُّ الْحَنَفِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ، وَقَرَأَ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهل التأويل يتعرون أمام قانوني الحق والميزان

    بسم الله الرحمن الرحيم خلاصة قانون الحق = أن الله خلق السماوات والارض وما فيهم وما بينهم وما لأجلهم بقدر قام في وقت محدد وزمن مع...