:27//1 البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْفَرَجِ بْنِ شُقَيْرٍ أَبُو بَكْرٍ النَّحْوِيُّ
كَانَ عَالِمًا بِمَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَلَهُ فِيهِ تَصَانِيفُ.
أَحْمَدُ بْنُ مَهْدِيِّ بْنِ رُسْتُمَ
الْعَابِدُ الزَّاهِدُ، أَنْفَقَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ
دِرْهَمٍ، وَمَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا يَأْوِي إِلَى فِرَاشٍ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ بِسَنَدِهِ عَنْهُ، أَنَّهُ جَاءَتْهُ
امْرَأَةٌ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَالَتْ لَهُ: إِنِّي قَدِ امْتُحِنْتُ بِمِحْنَةٍ،
أُكْرِهْتُ عَلَى الزِّنَى وَأَنَا حُبْلَى مِنْهُ، وَقَدْ تَسَتَّرْتُ بِكَ
وَزَعَمْتُ أَنَّكَ زَوْجِي، وَأَنَّ هَذَا الْحَمْلَ مِنْكَ، فَاسْتُرْنِي
سَتَرَكَ اللَّهُ وَلَا تَفْضَحْنِي. فَسَكَتَ عَنْهَا، فَلَمَّا وَضَعَتْ
جَاءَنِي أَهْلُ الْمَحَلَّةِ وَإِمَامُ مَسْجِدِهِمْ يُهَنِّئُونَنِي
بِالْوَلَدِ، فَأَظْهَرْتُ الْبِشْرَ، وَبَعَثْتُ فَاشْتَرَيْتُ بِدِينَارَيْنِ
شَيْئًا حُلْوًا وَجَعَلْتُ أُرْسِلُ إِلَيْهَا مَعَ إِمَامِ الْمَسْجِدِ كُلَّ
شَهْرٍ دِينَارَيْنِ صِفَةَ نَفَقَةِ الْوَلَدِ، وَأَقُولُ: أَقْرِئْهَا مِنِّي
السَّلَامَ، فَإِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي مَا فَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا.
فَمَكَثَتْ كَذَلِكَ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلُودُ، فَجَاءُونِي
يُعَزُّونَنِي فِيهِ، فَأَظْهَرْتُ التَّغَمُّمَ وَالْحُزْنَ عَلَيْهِ، ثُمَّ
جَاءَتْنِي الْمَرْأَةُ بِالدَّنَانِيرِ الَّتِي كُنْتُ أُرْسِلُ بِهَا إِلَيْهَا
قَدْ جَعَلَتْهَا عِنْدَهَا، فَقَالَتْ لِي: سَتَرَكَ اللَّهُ وَجَزَاكَ خَيْرًا،
وَهَذِهِ الدَّنَانِيرُ الَّتِي كُنْتَ تُرْسِلُ بِهَا. فَقُلْتُ: يَا هَذِهِ،
إِنِّي إِنَّمَا كُنْتُ
أُرْسِلُ
بِهَا صِلَةً لِلْوَلَدِ، فَخُذِيهَا فَافْعَلِي بِهَا مَا شِئْتِ.
بَدْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ خَلَفِ بْنِ خَالِدِ بْنِ رَاشِدِ بْنِ الضَّحَّاكِ
بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُحَرِّقِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، أَبُو
الْقَاسِمِ اللَّخْمِيُّ الْقَاضِي الْكُوفِيُّ
نَزَلَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ
سَمَاعُهُ لِلْحَدِيثِ بَعْدَ مَا جَاوَزَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ ثِقَةً
نَبِيلًا، عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ وَسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِالْكُوفَةِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ بْنِ
سَابُورَ بْنِ شَاهِنْشَاهْ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ بِنْتِ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
- وَقِيلَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ - وَمِائَتَيْنِ، وَرَأَى أَبَا عُبَيْدٍ الْقَاسِمَ
بْنَ سَلَّامٍ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَسَمِعَ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ،
وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ،
وَخَلَفِ بْنِ هِشَامٍ الْبَزَّارِ، وَخَلْقٍ، وَكَانَ مَعَهُ جُزْءٌ فِيهِ
سَمَاعُهُ مِنَ ابْنِ مَعِينٍ، فَأَخَذَهُ مِنْهُ مُوسَى بْنُ هَارُونَ
الْحَافِظُ، فَرَمَاهُ فِي دِجْلَةَ، وَقَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ
الثَّلَاثَةِ ؟! وَقَدْ تَفَرَّدَ عَنْ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ شَيْخًا، وَكَانَ
ثِقَةً حَافِظًا ضَابِطًا، رَوَى عَنِ الْحُفَّاظِ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ.
قَالَ مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْحَافِظُ: كَانَ ابْنُ مَنِيعٍ ثِقَةً صَدُوقًا،
فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ
هَاهُنَا
نَاسًا يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَقَالَ: يَحْسُدُونَهُ، ابْنُ مَنِيعٍ لَا يَقُولُ
إِلَّا الْحَقَّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ: يَدْخُلُ فِي الصَّحِيحِ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ الْبَغَوِيُّ، قَلَّمَا يَتَكَلَّمُ عَلَى
الْحَدِيثِ، فَإِذَا تَكَلَّمَ كَانَ كَلَامُهُ كَالْمِسْمَارِ فِي السَّاجِ.
وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي " كَامِلِهِ " فَتَكَلَّمَ فِيهِ،
وَقَالَ: حَدَّثَ بِأَشْيَاءَ أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَعَهُ طَرَفٌ مِنْ
مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَانِيفِ. وَقَدِ انْتُدِبَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
لِلرَّدِّ عَلَى ابْنِ عَدِيٍّ فِي هَذَا الْكَلَامِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ
لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ مِنْهَا، وَقَدِ اسْتَكْمَلَ مِائَةَ سَنَةٍ وَثَلَاثَ
سِنِينَ وَشُهُورًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ صَحِيحُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ
وَالْأَسْنَانِ، يَطَأُ الْإِمَاءَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَغْدَادَ، وَدُفِنَ
بِمَقْبَرَةِ بَابِ التِّبْنِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ الشَّهِيدُ
الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ الْهَرَوِيُّ
يُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي سَعْدٍ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، وَحَدَّثَ عَنْهُ ابْنُ الْمُظَفَّرِ
الْحَافِظُ، وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ،
لَهُ مُنَاقَشَاتٌ عَلَى بِضْعَةٍ وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا مِنْ " صَحِيحِ
مُسْلِمٍ
"، قَتَلَتْهُ الْقَرَامِطَةُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَتَلُوا، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ،
وَجَعَلَ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ مُتَقَلَّبَهُ وَمَثْوَاهُ.
الْكَعْبِيُّ الْمُتَكَلِّمُ
هُوَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَحْمُودٍ الْبَلْخِيُّ
الْكَعْبِيُّ، نِسْبَةً إِلَى بَنِي كَعْبٍ، وَهُوَ أَحَدُ مَشَايِخِ
الْمُعْتَزِلَةِ، وَتُنْسَبُ إِلَيْهِ الطَّائِفَةُ الْكَعْبِيَّةُ مِنْهُمْ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ مِنْ كِبَارِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَلَهُ
اخْتِيَارَاتٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ ; مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ
أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى تَقَعُ بِلَا اخْتِيَارٍ مِنْهُ وَلَا مَشِيئَةٍ.
هَكَذَا أَوْرَدَهُ عَنْهُ، وَقَدْ خَالَفَ الْكَعْبِيُّ نَصَّ الْقُرْآنِ فِي
غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
وَيَخْتَارُ [ الْقَصَصِ: 68 ] وَقَالَ: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [
الْأَنْعَامِ: 112 ] وَقَالَ: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [
السَّجْدَةِ: 13 ] وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا
مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا
تَدْمِيرًا [ الْإِسْرَاءِ: 16 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ
بِالضَّرُورَةِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ وَزِيرَهُ أَبَا عَلِيِّ بْنِ
مُقْلَةَ، فَكَانَتْ مُدَّةُ وِزَارَتِهِ سَنَتَيْنِ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَاسْتَوْزَرَ مَكَانَهُ سُلَيْمَانَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ
مَخْلَدٍ، وَجَعَلَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى نَاظِرًا مَعَهُ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا أُحْرِقَتْ دَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ،
وَكَانَ قَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَانْتَهَبَ النَّاسُ
أَخْشَابَهَا وَمَا وَجَدُوا فِيهَا مِنْ حَدِيدٍ وَرَصَاصٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَصَادَرَهُ الْخَلِيفَةُ بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِيهَا طَرَدَ الْخَلِيفَةُ الرَّجَّالَةَ الَّذِينَ كَانُوا بِدَارِ
الْخِلَافَةِ عَنْ بَغْدَادَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَدُّوا الْمُقْتَدِرَ
إِلَى الْخِلَافَةِ شَرَعُوا يُنَفِّسُونَ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ عَلَيْهِ ;
يَقُولُونَ: مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سُلِّطَ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَصْعَدَ الْحِمَارَ
إِلَى السَّطْحِ يَقْدِرُ يُنْزِلُهُ. فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِمْ عَنْ بَغْدَادَ وَمَنْ
أَقَامَ مِنْهُمْ عُوقِبَ، فَأُحْرِقَتْ دَوْرٌ كَثِيرَةٌ مِنْ قَرَابَاتِهِمْ،
وَاحْتَرَقَ بَعْضُ نِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، فَخَرَجُوا مِنْهَا فِي غَايَةِ
الْإِهَانَةِ، فَنَزَلُوا وَاسِطًا وَتَغَلَّبُوا عَلَيْهَا، وَأَخْرَجُوا
عَامِلَهَا مِنْهَا، فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ فَأَوْقَعَ بِهِمْ
بَأْسًا شَدِيدًا، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقَا كَثِيرًا، فَلَمْ تَقُمْ لَهُمْ
بَعْدَ ذَلِكَ رَايَةٌ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ بْنَ
حَمْدَانَ عَنِ الْمَوْصِلِ وَوَلَّى
عَلَيْهَا
عَمَّيْهِ سَعِيدًا وَنَصْرًا ابْنَيْ حَمْدَانَ. وَوَلَّاهُ دِيَارَ رَبِيعَةَ
نَصِيبِينَ وَسِنْجَارَ وَالْخَابُورَ وَرَأْسَ الْعَيْنِ وَمَعَهَا
مَيَّافَارِقِينَ وَأَرْزَنَ، ضَمِنَ ذَلِكَ مِنَ الْخَلِيفَةِ بِمَالٍ يَحْمِلُهُ
فِي كُلِّ سَنَةٍ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى خَرَجَ رَجُلٌ بِبِلَادِ الْبَوَازِيجِ يُقَالُ لَهُ:
صَالِحُ بْنُ مَحْمُودٍ. فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي مَالِكٍ،
ثُمَّ سَارَ إِلَى سِنْجَارَ، فَحَاصَرَهَا، فَدَخَلَهَا، وَأَخَذَ شَيْئًا
كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهَا، وَخَطَبَ بِهَا خُطْبَةً، وَوَعَظَ فِيهَا وَذَكَّرَ
وَحَذَّرَ، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا قَالَ: نَتَوَلَّى الشَّيْخَيْنِ،
وَنَتَبَرَّأُ مِنَ الْخَبِيثَيْنِ، وَلَا نَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
ثُمَّ سَارَ فَعَاثَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا. فَانْتُدِبَ لَهُ نَصْرُ بْنُ
حَمْدَانَ، فَقَاتَلَهُ، فَأُسِرَ صَالِحُ بْنُ مَحْمُودٍ وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ،
فَحُمِلَ إِلَى بَغْدَادَ فَدَخَلَهَا، وَقَدِ اشْتُهِرَ شُهْرَةً فَظِيعَةً.
وَخَرَجَ آخَرُ بِبِلَادِ الْمَوْصِلِ فَاتَّبَعَهُ أَلْفُ رَجُلٍ، فَحَاصَرَ
أَهْلَ نَصِيبِينَ فَخَرَجُوا إِلَيْهِ فَاقْتَتَلُوا مَعَهُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ
مِائَةً وَأَسَرَ أَلْفًا، ثُمَّ بَاعَهُمْ نُفُوسَهُمْ، وَصَادَرَ أَهْلَهَا
بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَانْتُدِبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بْنُ
حَمْدَانَ، فَقَاتَلَهُ فَظَفِرَ بِهِ فَأَسَرَهُ، وَسَيَّرَهُ إِلَى بَغْدَادَ
أَيْضًا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا خَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى ابْنِهِ هَارُونَ، وَرَكِبَ مَعَهُ الْوَزِيرُ
وَالْجَيْشُ، وَأَعْطَاهُ نِيَابَةَ فَارِسَ وَكَرْمَانَ وَسِجِسْتَانَ
وَمُكْرَانَ، وَخَلَعَ عَلَى ابْنِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ الرَّاضِي، وَجَعَلَهُ
نَائِبَ بِلَادِ الْمَغْرِبِ وَمِصْرَ وَالشَّامِ، وَيَكُونُ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ
يَسُدُّ عَنْهُ أُمُورَهَا.
وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ السَّمِيعِ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ الْهَاشِمِيُّ، وَخَرَجَ الْحَجِيجُ بِخُفَارَةٍ وَبَذْرَقَةٍ حَتَّى
سَلِمُوا فِي الذَّهَابِ وَالْإِيَابِ مِنَ الْقَرَامِطَةِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُهْلُولِ بْنِ حَسَّانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ أَبُو
جَعْفَرَ التَّنُوخِيُّ
الْقَاضِي الْحَنَفِيُّ، الْعَدْلُ الثِّقَةُ الرَّضِيُّ، وَكَانَ فَقِيهًا ثِقَةً
نَبِيلًا، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَرَوَى عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ حَدِيثًا
وَاحِدًا، وَكَانَ عَالِمًا بِالنَّحْوِ، فَصِيحَ الْعِبَارَةِ، جَيِّدَ الشِّعْرِ،
مَحْمُودًا فِي الْأَحْكَامِ. اتَّفَقَ أَنَّ السَّيِّدَةَ أُمَّ الْمُقْتَدِرِ
وَقَفَتْ وَقْفًا، وَجَعَلَ الْحَاكِمُ هَذَا عِنْدَهُ نُسْخَةً بِهِ فِي سَلَّةِ
الْحُكْمِ، ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَنْقُضَ ذَلِكَ الْوَقْفَ، فَطَلَبَتِ
الْحَاكِمَ وَأَنْ يُحْضِرَ مَعَهُ كِتَابَ الْوَقْفِ، لِتَأْخُذَهُ مِنْهُ
فَتَعْدِمَهُ، فَلَمَّا حَضَرَ مِنْ وَرَاءِ السِّتَارَةِ، فَهِمَ الْمَقْصُودَ،
فَقَالَ لَهَا: لَا يُمْكِنُ هَذَا ; لِأَنِّي خَازِنُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِمَّا
أَنْ تَعْزِلُونِي عَنِ الْقَضَاءِ وَتُوَلُّوا عَلَى هَذَا غَيْرِي، وَإِمَّا
أَنْ تَتْرُكُوا هَذَا الَّذِي تُرِيدُونَهُ، فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ وَأَنَا
حَاكِمٌ. فَشَكَتْهُ إِلَى وَلَدِهَا الْمُقْتَدِرِ، فَشَفَعَ عِنْدَهُ
الْمُقْتَدِرُ فِي ذَلِكَ، فَذَكَرَ لَهُ صُورَةَ الْحَالِ فَرَجَعَ إِلَى أُمِّهِ
فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِمَّنْ يُرْغَبُ فِيهِ، وَلَا سَبِيلَ
إِلَى عَزْلِهِ وَلَا التَّلَاعُبِ بِهِ. فَرَضِيَتْ عَنْهُ، وَبَعَثَتْ
تَشْكُرُهُ عَلَى مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَنْ قَدَّمَ أَمْرَ اللَّهِ
عَلَى
أَمْرِ
الْعِبَادِ كَفَاهُ اللَّهُ شَرَّهُمْ. وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ أَبُو مُحَمَّدٍ
مَوْلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، رَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَكَتَبَ
وَسَمِعَ وَحَفِظَ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْحِفَّاظِ وَشُيُوخِ الرِّوَايَةِ،
وَكَتَبَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكَابِرِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ تَدُلُّ عَلَى
حِفْظِهِ وَفِقْهِهِ وَفَهْمِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْكُوفَةِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً.
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ بَشَّارِ بْنِ زِيَادٍ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْعَلَّافِ، الضَّرِيرُ النَّهْرَوَانِيُّ، الشَّاعِرُ
الْمَشْهُورُ، وَكَانَ أَحَدَ سُمَّارِ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ،
وَلَهُ مَرْثَاةٌ طَنَّانَةٌ فِي هِرٍّ لَهُ قَتَلَهُ جِيرَانُهُ ; لِأَكْلِهِ
أَفْرَاخَ الْحَمَامِ مِنْ أَبْرَاجِهِمْ، وَفِيهَا آدَابٌ وَرِقَّةٌ، وَيُقَالُ:
إِنَّهُ أَرَادَ بِهَا رِثَاءَ ابْنِ الْمُعْتَزِّ لَكِنَّهُ لَمْ يَتَجَاسَرْ
أَنْ يَنْسِبَهَا إِلَيْهِ مِنَ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ حِينَ
قَتَلَهُ، وَأَوَّلُهَا:
يَا هِرُّ فَارَقْتَنَا وَلَمْ تَعُدِ وَكُنْتَ عِنْدِي بِمَنْزِلِ الْوَلَدِ
وَهِيَ خَمْسَةٌ وَسِتُّونَ بَيْتًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ الْحَجِيجُ بَغْدَادَ وَقَدْ
خَرَجَ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ إِلَى الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جَيْشٍ
كَثِيفٍ، خَوْفًا مِنَ الْقَرَامِطَةِ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ،
وَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ يَوْمَئِذٍ، وَضُرِبَتِ الْخِيَامُ وَالْقِبَابُ لِمُؤْنِسٍ
الْخَادِمِ، وَقَدْ بَلَغَ مُؤْنِسًا فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ أَنَّ
الْقَرَامِطَةَ أَمَامَهُ، فَعَدَلَ بِالنَّاسِ عَنْ جَادَّةِ الطَّرِيقِ،
فَأَخَذَ بِهِمْ فِي شِعَابٍ وَأَوْدِيَةٍ، فَتَاهُوا هُنَالِكَ أَيَّامًا،
فَشَاهَدَ النَّاسُ هُنَالِكَ عَجَائِبَ وَغَرَائِبَ ; رَأَوْا عِظَامًا فِي
غَايَةِ الضَّخَامَةِ، وَشَاهَدُوا نَاسًا قَدْ مُسِخُوا حِجَارَةً، وَرَأَى
بَعْضُهُمُ امْرَأَةً وَاقِفَةً عَلَى تَنُّورٍ قَدْ مُسِخَتْ حَجَرًا
وَالتَّنُّورَ قَدْ صَارَ حَجَرًا، وَحَمَلَ مُؤْنِسٌ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا
كَثِيرًا إِلَى الْحَضْرَةِ لِيُصَدَّقَ مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ. ذَكَرَهُ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ ". فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ مِنْ
قَوْمِ عَادٍ أَوْ مِنْ ثَمُودَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمُقْتَدِرُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَسَنِ الْوَزِيرَ بَعْدَ
سَنَةٍ وَشَهْرَيْنِ وَتِسْعَةِ أَيَّامٍ، وَاسْتَوْزَرَ مَكَانَهُ أَبَا
الْقَاسِمِ عَبِيدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الْكَلْوَذَانِيَّ، ثُمَّ عَزَلَهُ
بَعْدَ شَهْرَيْنِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَاسْتَوْزَرَ الْحُسَيْنَ بْنَ
الْقَاسِمِ، ثُمَّ عَزَلَهُ أَيْضًا.
وَفِيهَا
وَقَعَتْ وَحْشَةٌ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَمُؤْنِسٍ الْخَادِمِ، بِسَبَبِ أَنَّ
الْخَلِيفَةَ وَلَّى الْحِسْبَةَ لِرَجُلٍ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتَ،
وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الشُّرْطَةِ أَيْضًا، فَقَالَ مُؤْنِسٌ: إِنَّ الْحِسْبَةَ
لَا يَتَوَلَّاهَا إِلَّا الْقُضَاةُ وَالْعُدُولُ، وَهَذَا لَا يَصْلُحُ لَهَا،
وَلَمْ يَزَلْ بِالْخَلِيفَةِ حَتَّى عَزَلَ مُحَمَّدَ بْنَ يَاقُوتَ عَنِ
الْحِسْبَةِ وَالشُّرْطَةِ أَيْضًا، وَانْصَلَحَ الْحَالُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ
تَجَدَّدَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُمَا فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَمَا زَالَتْ تَتَزَايَدُ حَتَّى آلَ الْحَالُ إِلَى قَتْلِ الْمُقْتَدِرِ
بِاللَّهِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْقَعَ ثَمِلٌ مُتَوَلِّي طَرَسُوسَ بِالرُّومِ وَقْعَةً
عَظِيمَةً جِدًّا، قَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرَ نَحْوًا مِنْ
ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَغَنِمَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالدِّيبَاجِ شَيْئًا
كَثِيرًا جِدًّا، ثُمَّ أَوْقَعَ بِهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً كَذَلِكَ. وَكَتَبَ
ابْنُ الدَّيْرَانِيِّ الْأَرْمَنِيُّ إِلَى الرُّومِ يَحُضُّهُمْ عَلَى
الدُّخُولِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَوَعَدَهُمْ مِنْهُ النَّصْرَ
وَالْإِعَانَةَ، فَدَخَلُوا فِي جَحَافِلَ كَثِيرَةٍ جِدًّا، وَانْضَافَ
إِلَيْهِمُ الْأَرْمَنُ، فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ مُفْلِحٌ، غُلَامُ يُوسُفَ بْنِ
أَبِي السَّاجِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ نَائِبُ أَذْرَبِيجَانَ وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ
كَثِيرٌ مِنَ الْمُطَّوِّعَةِ، فَقَصَدَ أَوَّلًا بِلَادَ ابْنِ الدَّيْرَانِيِّ،
فَقَتَلَ مِنَ الْأَرْمَنِ نَحْوًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ، وَأَسَرَ خَلْقًا
كَثِيرًا، وَغَنِمَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا، وَتَحَصَّنَ ابْنُ
الدَّيْرَانِيِّ بِقَلْعَةٍ لَهُ هُنَالِكَ، وَجَاءَتِ الرُّومُ، فَوَصَلُوا إِلَى
سُمَيْسَاطَ فَحَاصَرُوهَا، فَبَعَثَ أَهْلُهَا يَسْتَصْرِخُونَ بِسَعِيدِ بْنِ
حَمْدَانَ نَائِبِ الْمَوْصِلِ فَسَارَ إِلَيْهِمْ مُسْرِعًا، فَوَجَدَ الرُّومَ
قَدْ كَادُوا يَفْتَحُونَهَا، فَلَمَّا عَلِمُوا بِقُدُومِهِ أَجْلَوْا عَنْهَا
وَاجْتَازُوا بِمَلَطْيَةَ فَنَهَبُوهَا، وَرَجَعُوا خَاسِئِينَ إِلَى
بِلَادِهِمْ، وَمَعَهُمُ ابْنُ نَفِيسٍ الْمُتَنَصِّرُ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
بَغْدَادَ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ. وَرَكِبَ ابْنُ حَمْدَانَ فِي
آثَارِ الرُّومِ، فَدَخَلَ
بِلَادَهُمْ،
فَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَغَنِمَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَوَّالٍ جَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ
إِلَى تَكْرِيتَ ارْتَفَعَ فِي أَسْوَاقِهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ شِبْرًا، وَغَرِقَ
بِسَبَبِهِ أَرْبَعُمِائَةِ دَارٍ، وَخَلْقٌ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ،
حَتَّى كَانَ الْمُسْلِمُونَ وَالنَّصَارَى يُدْفَنُونَ جَمِيعًا، لَا يُعْرَفُ
هَذَا مِنْ هَذَا.
قَالَ: وَفِيهَا هَاجَتْ بِالْمَوْصِلِ رِيحٌ فِيهَا حُمْرَةٌ، ثُمَّ اسْوَدَّتْ
حَتَّى كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يُبْصِرُ صَاحِبَهُ، وَظَنَّ النَّاسُ أَنَّ
الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ، ثُمَّ انْجَلَى ذَلِكَ بِمَطَرٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحُسَيْنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْأَنْطَاكِيُّ
قَاضِي ثُغُورِ الشَّامِ يُعْرَفُ بِابْنِ الصَّابُونِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً
نَبِيلًا، قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا.
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَرْبِ بْنِ عِيسَى، أَبُو عُبَيْدِ بْنِ
حَرْبُوَيْهِ
الْقَاضِي بِمِصْرَ، تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِمِصْرَ مُدَّةً طَوِيلَةً جِدًّا،
وَكَانَ ثِقَةً عَالِمًا جَلِيلًا، مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ وَأَعْدَلِهِمْ،
وَكَانَ يَتَفَقَّهُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي ثَوْرٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي
"
طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ " بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ وَكِفَايَةٌ، وَقَدِ
اسْتَعْفَى عَنِ الْقَضَاءِ، فَعُزِلَ عَنْهُ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ بِهَا
فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي صَفَرٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ
الْإِصْطَخْرِيُّ، وَدُفِنَ بِدَارِهِ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ
فِي الصَّحِيحِ، وَلَعَلَّهُ مَاتَ قَبْلَهُ بِعِشْرِينَ سَنَةً، وَذَكَرَ مِنْ
جَلَالَتِهِ وَفَضْلِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيُّ
الزَّاهِدُ
حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَخْطُ فِيهَا خُطْوَةً
لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَا نَظَرَ فِي شَيْءٍ فَاسْتَحْسَنَهُ ; حَيَاءً مِنَ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ مَكَثَ ثَلَاثِينَ سَنَةً لَمْ يُمْلِ عَلَى مَلَكَيْهِ
قَبِيحًا.
مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ أَبُو الْحُسَيْنِ الْوَرَّاقُ
صَاحِبُ أَبِي عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيِّ، وَكَانَ فَقِيهًا يَتَكَلَّمُ عَلَى
الْمُعَامَلَاتِ.
وَمِنْ جَيِّدِ كَلَامِهِ قَوْلُهُ: مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ مُحَرَّمٍ،
أَوْرَثَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ حِكْمَةً عَلَى لِسَانِهِ يَهْتَدِي بِهَا
سَامِعُوهُ، وَمَنْ غَضَّ نَفْسَهُ عَنْ شُبْهَةٍ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ نُورًا
يَهْتَدِي بِهِ إِلَى طَرِيقِ مَرْضَاةِ اللَّهِ.
يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، أَبُو زَكَرِيَّا الْفَارِسِيُّ
كَتَبَ بِمِصْرَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا حَسَنَ
الصَّلَاةِ، عَدْلًا عِنْدَ الْحُكَّامِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، وَكَانَ سَبَبُ
ذَلِكَ أَنَّ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ مُغَاضِبًا لِلْخَلِيفَةِ فِي مَمَالِيكِهِ وَحَشَمِهِ،
مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْمَوْصِلِ وَرَدَّ مِنْ أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ مَوْلَاهُ
بُشْرَى إِلَى الْمُقْتَدِرِ لِيَسْتَعْلِمَ لَهُ، وَبَعَثَ مَعَهُ رِسَالَةً
يُخَاطِبُ بِهَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا وَصَلَ أَمْرُهُ الْوَزِيرَ
الْحُسَيْنَ بْنَ الْقَاسِمِ - وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ أَعْدَاءِ مُؤْنِسٍ - بِأَنْ
يُؤَدِّيَهَا إِلَيْهِ، فَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا إِلَّا إِلَى الْخَلِيفَةِ،
فَأَحْضَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَهَا لِلْوَزِيرِ،
فَامْتَنَعَ، وَقَالَ: مَا أَمَرَنِي صَاحِبِي بِهَذَا. فَشَتَمَهُ الْوَزِيرُ
وَشَتَمَ صَاحِبَهُ، وَأَمَرَ بِضَرْبِهِ وَمُصَادَرَتِهِ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَأَخَذَ خَطَّهُ بِهَا، وَأَمَرَ بِنَهْبِ دَارِهِ، ثُمَّ أَمَرَ
الْوَزِيرُ بِالْقَبْضِ عَلَى أَقْطَاعِ مُؤْنِسٍ وَأَمْلَاكِهِ وَأَمْلَاكِ مَنْ
مَعَهُ، فَحُصِّلَ مِنْ ذَلِكَ مَالٌ عَظِيمٌ، وَارْتَفَعَ أَمْرُ الْوَزِيرِ
عِنْدَ الْمُقْتَدِرِ، وَلَقَّبَهُ عَمِيدَ الدَّوْلَةِ، وَضَرَبَ اسْمَهُ عَلَى
الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَتَمَكَّنَ مِنَ الْأُمُورِ جِدًّا، فَعَزَلَ
وَوَلَّى، وَقَطَعَ وَوَصَلَ، وَفَرِحَ بِنَفْسِهِ حِينًا قَلِيلًا. وَأَرْسَلَ
إِلَى هَارُونَ بْنِ غَرِيبٍ فِي الْحَالِ، وَإِلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتَ
يَسْتَحْضِرُهُمَا إِلَى الْحَضْرَةِ، عِوَضًا عَنْ مُؤْنِسٍ، فَصَمَّمَ
الْمُظَفَّرُ مُؤْنِسٌ فِي مَسِيرِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ وَجَعَلَ يَقُولُ
لِأُمَرَاءَ الْأَعْرَابِ: إِنَّ الْخَلِيفَةَ قَدْ وَلَّانِي الْمَوْصِلَ
وَدِيَارَ رَبِيعَةَ. فَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ،
وَجَعَلَ يُنْفِقُ فِيهِمُ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ، وَلَهُ إِلَيْهِمْ قَبْلَ
ذَلِكَ أَيَادٍ سَابِغَةٌ.
وَقَدْ كَتَبَ الْوَزِيرُ إِلَى آلِ حَمْدَانَ - وَهُمْ وَلَاةُ الْمَوْصِلِ
وَتِلْكَ النَّوَاحِي - يَأْمُرُهُمْ بِمُحَارَبَةِ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ
فَرَكِبُوا إِلَيْهِ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَوَاجَهَهُمْ مُؤْنِسٌ فِي
ثَمَانِمِائَةٍ مِنْ مَمَالِيكِهِ وَخَدَمِهِ، فَهَزَمَهُمْ وَلَمْ يُقْتَلْ
مِنْهُمْ سِوَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُقَالُ لَهُ: دَاوُدُ، كَانَ مِنْ أَشْجَعِهِمْ،
وَقَدْ كَانَ مُؤْنِسٌ رَبَّاهُ وَهُوَ صَغِيرٌ. وَدَخَلَ مُؤْنِسٌ الْمَوْصِلَ
فَقَصَدَتْهُ الْعَسَاكِرُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يَدْخُلُونَ فِي طَاعَتِهِ ;
لِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ وَالشَّامِ
وَمِصْرَ وَمِنَ الْأَعْرَابِ، حَتَّى صَارَ فِي جَحَافِلَ مِنَ الْجُنُودِ.
وَأَمَّا الْوَزِيرُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ، فَإِنَّهُ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ
وَعَجْزُهُ، فَعَزَلَهُ الْمُقْتَدِرُ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَوَلَّى مَكَانَهُ
الْفَضْلَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ، فَكَانَ آخِرَ وُزَرَاءِ
الْمُقْتَدِرِ. وَأَقَامَ مُؤْنِسٌ بِالْمَوْصِلِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ رَكِبَ
فِي الْجُيُوشِ فِي شَوَّالٍ قَاصِدًا بَغْدَادَ ; لِيُطَالِبَ الْمُقْتَدِرَ
بِأَرْزَاقِ الْأَجْنَادِ وَإِنْصَافِهِمْ، فَسَارَ - وَقَدْ بَعَثَ بَيْنَ
يَدَيْهِ الطَّلَائِعَ - حَتَّى جَاءَ فَنَزَلَ بِبَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ مِنْ
بَغْدَادَ وَقَابَلَهُ عِنْدَهُ ابْنُ يَاقُوتَ وَهَارُونُ بْنُ غَرِيبٍ - عَنْ
كُرْهٍ مِنْهُ - وَأُشِيرَ عَلَى الْخَلِيفَةِ بِأَنْ يَسْتَدِينَ مِنْ
وَالِدَتِهِ مَا يُنْفِقُ فِي الْأَجْنَادِ، فَقَالَ: لَمْ يَبْقَ عِنْدَهَا
شَيْءٌ، وَعَزَمَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الْهَرَبِ إِلَى وَاسِطٍ وَأَنْ يَتْرُكَ
بَغْدَادَ لِمُؤْنِسٍ حَتَّى يَتَرَاجَعَ أَمْرُ النَّاسِ، ثُمَّ يَعُودُ
إِلَيْهَا. فَرَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ ابْنُ يَاقُوتَ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ
بِمُوَاجَهَةِ مُؤْنِسٍ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُمْ مَتَى مَا رَأَوْهُ كَرُّوا
كُلُّهُمْ إِلَيْهِ، وَتَرَكُوا مُؤْنِسًا، فَرَكِبَ وَهُوَ كَارِهٌ، وَبَيْنَ
يَدَيْهِ الْفُقَهَاءُ، وَمَعَهُمُ
الْمَصَاحِفُ مُنَشَّرَةً، وَعَلَيْهِ الْبُرْدُ وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَوَقَفَ عَلَى تَلٍّ عَالٍ بَعِيدٍ مِنَ الْمَعْرَكَةِ وَنُودِيَ فِي جَيْشِهِ: مَنْ جَاءَ بِرَأْسٍ فَلَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، وَمَنْ جَاءَ بِأَسِيرٍ فَلَهُ عَشْرَةُ دَنَانِيرَ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ أُمَرَاؤُهُ يَعْزِمُونَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ، فَامْتَنَعَ مِنَ التَّقَدُّمِ إِلَى مَحَلَّةِ الْمَعْرَكَةِ، ثُمَّ أَلَحُّوا عَلَيْهِ، فَجَاءَ بَعْدَ تَمَنُّعٍ شَدِيدٍ، فَمَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ حَتَّى انْهَزَمُوا وَفَرُّوا رَاجِعِينَ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ وَلَا عَطَفُوا عَلَيْهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَهُ مِنْ أُمَرَاءِ مُؤْنِسٍ عَلِيُّ بْنُ يَلْبَقَ، فَلَمَّا رَآهُ تَرَجَّلَ، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَشَارَ عَلَيْكَ بِالْخُرُوجِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، ثُمَّ وَكَّلَ بِهِ قَوْمًا مِنَ الْمَغَارِبَةِ الْبَرْبَرِ، فَلَمَّا تَرَكَهُمْ وَإِيَّاهُ شَهَرُوا عَلَيْهِ السِّلَاحَ، فَقَالَ لَهُمْ: وَيْلَكُمْ ! أَنَا الْخَلِيفَةُ. فَقَالُوا: قَدْ عَرَفْنَاكَ يَا سَفِلَةُ، إِنَّمَا أَنْتَ خَلِيفَةُ إِبْلِيسَ، تُنَادِي فِي جَيْشِكَ: مَنْ جَاءَ بِرَأْسٍ فَلَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، وَمَنْ جَاءَ بِأَسِيرٍ فَلَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ ؟! وَضَرَبَهُ أَحَدُهُمْ بِسَيْفِهِ عَلَى عَاتِقِهِ، فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ، وَذَبَحَهُ آخَرُ، وَتَرَكُوا جُثَّتَهُ، وَقَدْ سَلَبُوهُ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ عَلَيْهِ، حَتَّى سَرَاوِيلَهُ، وَبَقِيَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ مُجَدَّلًا عَلَى الْأَرْضِ، حَتَّى جَاءَ رَجُلٌ فَغَطَّى عَوْرَتَهُ بِحَشِيشٍ، ثُمَّ دَفَنَهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَعَفَّا أَثَرَهُ. وَأَخَذَتِ الْمَغَارِبَةُ رَأْسَ الْمُقْتَدِرِ عَلَى خَشَبَةٍ قَدْ رَفَعُوهَا وَهُمْ يَلْعَنُونَهُ، فَلَمَّا انْتَهَوْا بِهِ إِلَى مُؤْنِسٍ - وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا الْوَقْعَةَ - فَحِينَ نَظَرَ إِلَى رَأْسِ الْمُقْتَدِرِ لَطَمَ رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ، وَقَالَ: وَيْلَكُمْ ! لَمْ آمُرْكُمْ بِهَذَا، لَعَنَكُمُ اللَّهُ قَتَلْتُمُوهُ ! وَاللَّهِ لَنُقْتَلَنَّ كُلَّنَا. ثُمَّ رَكِبَ وَوَقَفَ عِنْدَ دَارِ الْخِلَافَةِ حَتَّى لَا تُنْهَبَ، وَهَرَبَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ الْمُقْتَدِرِ وَهَارُونُ بْنُ غَرِيبٍ وَابْنَا رَائِقٍ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَكَانَ صَنِيعُ مُؤْنِسٍ هَذَا سَبَبًا لِطَمَعِ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ فِي الْخُلَفَاءِ، وَضَعْفِ أَمْرِ الْخِلَافَةِ جِدًّا، مَعَ مَا كَانَ الْمُقْتَدِرُ يَعْتَمِدُهُ مِنَ التَّبْذِيرِ وَالتَّفْرِيطِ فِي الْأَمْوَالِ، وَطَاعَةِ النِّسَاءِ، وَعَزْلِ الْوُزَرَاءِ، حَتَّى
قِيلَ
إِنَّ جُمْلَةَ مَا صَرَفَهُ فِي الْوُجُوهِ الْفَاسِدَةِ وَالتَّبْذِيرِ مَا
يُقَارِبُ ثَمَانِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ
هُوَ جَعْفَرٌ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ بْنُ الْمُعْتَضِدِ
بِاللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ
بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْمَهْدِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ يُكَنَّى أَبَا الْفَضْلِ
الْعَبَّاسِيَّ، مَوْلِدُهُ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ
رَمَضَانَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ
اسْمُهَا شَغَبُ، وَلُقِّبَتْ فِي خِلَافَةِ وَلَدِهَا بِالسَّيِّدَةِ، بُويِعَ
لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَخِيهِ الْمُكْتَفِي يَوْمَ الْأَحَدِ لِأَرْبَعَ
عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ،
وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةٍ وَشَهْرٍ وَأَيَّامٍ ; وَلِهَذَا
أَرَادَ الْجُنْدُ خَلْعَهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ
مُحْتَجِّينَ بِصِغَرِهِ وَعَدَمِ بُلُوغِهِ، وَتَوْلِيَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمُعْتَزِّ، فَلَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ، وَانْتَقَضَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ
كَمَا ذَكَرْنَا. ثُمَّ لَمَّا كَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ مِنْ سَنَةِ
سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، أَحْضَرَهُ مُؤْنِسٌ وَاجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ
وَالْقُوَّادُ وَأَلْزَمُوهُ بِخَلْعِ نَفْسِهِ، وَأَحْضَرُوا أَخَاهُ مُحَمَّدَ
بْنَ الْمُعْتَضِدِ، فَبَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ وَلَقَّبُوهُ الْقَاهِرَ، فَلَمْ
يَتِمَّ ذَلِكَ سِوَى يَوْمَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ الْمُقْتَدِرُ إِلَى الْخِلَافَةِ
كَمَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ كَانَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِ، حَسَنَ
الْوَجْهِ
وَالْعَيْنَيْنِ، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، حَسَنَ الشَّعْرِ،
مُدَوَّرَ الْوَجْهِ، مُشْرَبًا بِحُمْرَةٍ، حَسَنَ الْخُلُقِ، قَدْ شَابَ
رَأْسُهُ وَعَارِضَاهُ، وَقَدْ كَانَ كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا، لَهُ عَقْلٌ
جَيِّدٌ وَفَهْمٌ وَافِرٌ وَذِهْنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ كَانَ كَثِيرَ التَّحَجُّبِ وَالتَّوَسُّعِ فِي النَّفَقَاتِ، وَزَادَ فِي
رُسُومِ الْخِلَافَةِ وَأُمُورِ الرِّيَاسَةِ، وَمَا زَادَ شَيْءٌ إِلَّا نَقَصَ.
كَانَ فِي دَارِهِ أَحَدَ عَشَرَ أَلْفِ خَادِمٍ خَصِيٍّ، غَيْرَ الصَّقَالِبَةِ
وَالرُّومِ وَالسُّودَانِ، وَكَانَ لَهُ دَارٌ يُقَالُ لَهَا: دَارُ الشَّجَرَةِ،
فِيهَا مِنَ الْأَثَاثِ وَالْأَمْتِعَةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، كَمَا ذَكَرْنَا
ذَلِكَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ حِينَ قَدِمَ رَسُولُ مَلِكِ الرُّومِ.
وَقَدْ رَكِبَ الْمُقْتَدِرُ يَوْمًا فِي حَرَّاقَةٍ، وَجَعَلَ يَسْتَعْجِلُ
الطَّعَامَ فَأَبْطَئُوا بِهِ، فَقَالَ لِمَلَّاحِ حَرَّاقَتِهِ: وَيْلَكَ !
أَعِنْدَكَ شَيْءٌ نَأْكُلُهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَتَاهُ بِشَيْءٍ مِنْ لَحْمِ
الْجَدْيِ وَخُبْزٍ حَسَنٍ وَمُلُوحَاتٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَأَعْجَبَهُ، ثُمَّ
اسْتَدْعَاهُ، فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ مِنَ الْحَلْوَاءِ ; فَإِنِّي لَا
أُحِسُّ بِالشِّبَعِ حَتَّى آكُلَ شَيْئًا مِنَ الْحَلْوَاءِ ؟ فَقَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا حَلَاوَتُنَا التَّمْرُ وَالْكَسْبُ. فَقَالَ:
هَذَا شَيْءٌ لَا أُطِيقُهُ. ثُمَّ جِيءَ بِطَعَامِهِ، فَأَكَلَ مِنْهُ وَأُتِيَ
بِالْحَلْوَاءِ، فَأَكَلَ وَأَطْعَمَ الْمَلَّاحِينَ، وَأَمَرَ بِتَرْتِيبِ
حَلَاوَةٍ تُعْمَلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَكُونُ فِي الْحَرَّاقَةِ بِنَحْوِ
مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، إِذَا اتَّفَقَ رُكُوبُهُ فِيهَا يَأْكُلُ مِنْهَا، فَكَانَ
الْمَلَّاحُ يَأْخُذُ ذَلِكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مُدَّةَ سِنِينَ مُتَعَدِّدَةٍ،
وَلَمْ يَتَّفِقْ رُكُوبُ الْمُقْتَدِرِ فِيهَا مَرَّةً أُخْرَى.
وَقَدْ أَرَادَ بَعْضُ خَوَاصِّهِ أَنْ يُطَهِّرَ وَلَدَهُ، فَعَمِلَ أَشْيَاءَ
هَائِلَةً، ثُمَّ طَلَبَ مِنْ أُمِّ
الْخَلِيفَةِ
أَنْ يُعَارَ الْقَرْيَةَ الَّتِي عُمِلَتْ فِي طُهُورِ الْمُقْتَدِرِ مِنْ فِضَّةٍ
; لِيَرَاهَا النَّاسُ فِي هَذَا الْمُهِمِّ، فَتَلَطَّفَتْ أُمُّ الْمُقْتَدِرِ
عِنْدَهُ حَتَّى أَطْلَقَهَا لَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَكَانَتْ صِفَةَ قَرْيَةٍ
مِنَ الْقُرَى كُلُّهَا مِنْ فِضَّةٍ، بُيُوتُهَا، وَأَهَالِيهَا، وَأَبْقَارُهَا،
وَأَغْنَامُهَا، وَجِمَالُهَا، وَخُيُولُهَا، وَزُرُوعُهَا، وَثِمَارُهَا،
وَأَنْهَارُهَا، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِي الْقُرَى، الْجَمِيعُ
مِنْ فِضَّةٍ مُصَوَّرٌ، وَأَمَرَ بِنَقْلِ سِمَاطِهِ إِلَى دَارِ هَذَا
الرَّجُلِ، وَأَنْ لَا يُكَلَّفَ شَيْئًا مِنَ الْمَطَاعِمِ سِوَى سَمَكٍ طَرِيٍّ
فَاشْتَرَى الرَّجُلُ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ سَمَكًا، وَكَانَ جُمْلَةُ مَا
أُنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى سِمَاطِ الْمُقْتَدِرِ يَوْمَئِذٍ أَلْفًا
وَخَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ.
وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ
وَأَرْبَابِ الْوَظَائِفِ، وَكَانَ كَثِيرَ التَّنَفُّلِ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ
وَالْعِبَادَةِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُؤْثِرًا لِشَهَوَاتِهِ، مُطِيعًا
لِحَظِيَّاتِهِ، كَثِيرَ التَّلَوُّنِ وَالْوِلَايَةِ وَالْعَزْلِ، وَمَا زَالَ
ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى كَانَ هَلَاكُهُ عَلَى يَدَيْ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ كَمَا
ذَكَرْنَا، فَقُتِلَ عِنْدَ بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ
شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ عِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ -
وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَمَانٍ وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَشَهْرٌ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ،
وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ
شَهْرًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَكَانَ أَكْثَرَ مُدَّةً مِمَّنْ
تَقَدَّمَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ.
خِلَافَةُ الْقَاهِرِ
لَمَّا قُتِلَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ كَمَا ذَكَرْنَا عَزْمَ مُؤْنِسٌ
الْخَادِمُ عَلَى تَوْلِيَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ
الْمُقْتَدِرِ بَعْدَ أَبِيهِ ; لِيُطَيِّبَ قَلْبَ أُمِّ الْمُقْتَدِرِ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ جُمْهُورُ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النُّوبَخْتِيُّ: بَعْدَ التَّعَبِ وَالْكَدِّ نُبَايِعُ لِخَلِيفَةٍ لَهُ أَمٌّ وَخَالَاتٌ يُطِيعُهُنَّ وَيُشَاوِرُهُنَّ ؟! ثُمَّ أَحْضَرَ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُعْتَضِدِ - وَهُوَ أَخُو الْمُقْتَدِرِ - فَبَايَعَهُ الْقُضَاةُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْوُزَرَاءُ، وَلَقَّبُوهُ الْقَاهِرَ بِاللَّهِ، وَذَلِكَ فِي سَحَرِ يَوْمِ الْخَمِيسِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، سَنَةَ عِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَاسْتُوزِرَ لَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ، ثُمَّ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ثُمَّ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْخَصِيبُ وَشَرَعَ الْقَاهِرُ فِي مُصَادَرَةِ أَصْحَابِ الْمُقْتَدِرِ وَتَتَبُّعِ أَوْلَادِهِ، وَاسْتَدْعَى بِأُمِّ الْمُقْتَدِرِ وَهِيَ مَرِيضَةٌ بِالِاسْتِسْقَاءِ، وَقَدْ تَزَايَدَ بِهَا الْوَجَعُ مِنْ شِدَّةِ جَزَعِهَا عَلَى وَلَدِهَا حِينَ بَلَغَهَا قَتْلُهُ، وَكَيْفَ بَقِيَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ، فَبَقِيَتْ أَيَّامًا لَا تَأْكُلُ شَيْئًا، ثُمَّ وَعَظَهَا النِّسَاءُ حَتَّى أَكَلَتْ شَيْئًا يَسِيرًا مِنَ الْخُبْزِ وَالْمِلْحِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ اسْتَدْعَى بِهَا الْقَاهِرُ، فَقَرَّرَهَا عَلَى أَمْوَالِهَا، فَذَكَرَتْ لَهُ مَا يَكُونُ لِلنِّسَاءِ مِنَ الْحُلِيِّ وَالْمَصَاغِ وَالثِّيَابِ، وَلَمْ تُقِرَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْجَوَاهِرِ، وَقَالَتْ لَهُ: لَوْ كَانَ عِنْدِي مِنْ هَذَا شَيْءٌ مَا سَلَّمْتُ وَلَدِي. فَأَمَرَ بِضَرْبِهَا وَعُلِّقَتْ بِرِجْلَيْهَا وَمَسَّهَا بِعَذَابٍ شَدِيدٍ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَأَشْهَدَتْ عَلَى نَفْسِهَا بِبَيْعِ أَمْلَاكِهَا، فَأَخَذَهُ الْجُنْدُ مِمَّا يُحَاسِبُونَ بِهِ مِنْ أَرْزَاقِهِمْ، وَأَرَادَهَا عَلَى بَيْعِ أَوْقَافِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ، وَأَبَتْ أَشَدَّ الْإِبَاءِ، وَاسْتَدْعَى الْقَاهِرُ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَوْلَادِ الْمُقْتَدِرِ، مِنْهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ الرَّاضِي، وَهَارُونُ، وَالْعَبَّاسُ، وَعَلِيٌّ، وَالْفَضْلُ، وَإِبْرَاهِيمُ، فَأَمَرَ بِمُصَادَرَتِهِمْ وَحَبْسِهِمْ وَسَلَّمَهُمْ إِلَى حَاجِبِهِ عَلِيِّ بْنِ يَلْبَقَ، وَتَمَكَّنَ الْوَزِيرُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ، فَعَزَلَ وَوَلَّى، وَأَخَذَ وَأَعْطَى أَيَّامًا، وَمَنَعَ
بَنِي
الْبَرِيدِيِّ مِنْ أَعْمَالِهِمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ جَوْصَاءَ، أَبُو الْحَسَنِ الدِّمَشْقِيُّ
أَحَدُ الْمُحَدِّثِينَ الْحُفَّاظِ، وَالرُّوَاةِ الْأَيْقَاظِ.
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَطْحَاءَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مُقْلَةَ، أَبُو إِسْحَاقَ التَّمِيمِيُّ
الْمُحْتَسِبُ بِبَغْدَادَ، رَوَى عَنْ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ
حَرْبٍ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ ثِقَةً فَاضِلًا، مَرَّ يَوْمًا عَلَى بَابِ
الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ وَالْخُصُومُ عُكُوفٌ عَلَى
بَابِهِ، وَالشَّمْسُ قَدِ ارْتَفَعَتْ عَلَيْهِمْ، فَبَعَثَ حَاجِبَهُ إِلَيْهِ
يَقُولُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تَخْرُجَ فَتَفْصِلَ بَيْنَهُمْ، وَإِمَّا أَنْ
تَبْعَثَ فَتَعْتَذِرَ إِلَيْهِمْ إِنْ كَانَ لَكَ عُذْرٌ، حَتَّى يَعُودُوا
إِلَيْكَ بَعْدَ هَذَا الْوَقْتِ.
أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ، هُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ
صَالِحِ بْنِ خَيْرَانَ أَبُو عَلِيٍّ، الْفَقِيهُ الْكَبِيرُ الْوَرِعُ
الْبَارِعُ، عُرِضَ عَلَيْهِ مَنْصِبُ
الْقَضَاءِ
فَلَمْ يَقْبَلْ، فَخَتَمَ الْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى عَلَى بَابِهِ،
فَبَقِيَ كَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَمْ يَجِدْ أَهْلُهُ مَاءً إِلَّا
مِنْ بُيُوتِ الْجِيرَانِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ يَتَمَنَّعُ عَلَيْهِ
وَعَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَلِ لَهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ الْوَزِيرُ: إِنَّمَا
أَرَدْنَا أَنْ نُعَلِّمَ النَّاسَ أَنَّ بِبَلَدِنَا وَفِي مَمْلَكَتِنَا مَنْ
عُرِضَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْقُضَاةِ شَرْقًا وَغَرْبًا فَلَمْ يَقْبَلْ. وَقَدْ
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ
فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَدِيٍّ، الْفَقِيهُ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْحُفَّاظِ الْمُحَدِّثِينَ، وَقَدْ
ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ".
الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ الْمَالِكِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ
أَبُو عُمَرَ الْقَاضِي بِبَغْدَادَ وَمُعَامَلَاتِهَا فِي سَائِرِ الْبِلَادِ،
كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَفَصَاحَةً وَبَلَاغَةً
وَعَقْلًا وَرِيَاسَةً، بِحَيْثُ كَانَ يُضْرَبُ بِعَقْلِهِ وَحِلْمِهِ الْمَثَلُ،
وَقَدْ رَوَى الْكَثِيرَ عَنِ الْمَشَايِخِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَحَمَلَ النَّاسُ عَنْهُ عِلْمًا كَثِيرًا مِنَ
الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، وَقَدْ جُمِعَ لَهُ قَضَاءُ الْقُضَاةِ فِي سَنَةِ سَبْعَ
عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَجَمَعَ مُسْنَدًا
حَافِلًا، وَكَانَ إِذَا جَلَسَ لِلْحَدِيثِ، جَلَسَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ
عَنْ يَمِينِهِ، وَهُوَ
قَرِيبٌ
مِنْ سِنِّ أَبِيهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ ابْنُ صَاعِدٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ أَبُو
بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، وَسَائِرُ الْحُفَّاظِ حَوْلَ سَرِيرِهِ مِنْ كُلِّ
جَانِبٍ.
قَالُوا: وَلَمْ يُنْتَقَدْ عَلَيْهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِهِ أَخْطَأَ فِيهِ.
قُلْتُ: وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ صَوَابِ أَحْكَامِهِ قَتْلُهُ الْحُسَيْنَ بْنَ
مَنْصُورٍ الْحَلَّاجَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ
تِسْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ كَانَ جَمِيلَ الْأَخْلَاقِ، حَسَنَ الْمُعَاشَرَةِ، اجْتَمَعَ يَوْمًا
عِنْدَ أَصْحَابِهِ، فَجِيءَ بِثَوْبٍ فَاخِرٍ لِيَشْتَرِيَهُ بِنَحْوٍ مَنْ
خَمْسِينَ دِينَارًا، فَاسْتَحْسَنَهُ الْحَاضِرُونَ، فَاسْتَدْعَى
بِالْقَلَانِسِيِّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْطَعَ ذَلِكَ الثَّوْبَ قَلَانِسَ بِعَدَدِ
الْحَاضِرِينَ. وَلَهُ مَنَاقِبُ وَمَحَاسِنُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ
وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ: مَا
فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِدَعْوَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ
إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا أَحْضَرَ الْخَلِيفَةُ رَجُلًا كَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ
بِدِجْلَةَ، فَضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَلْفَ سَوْطٍ، ثُمَّ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ
وَقُطِعَتْ أَيْدِيَ أَصْحَابِهِ وَأَرْجُلُهُمْ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ بِإِبْطَالِ الْخَمْرِ وَالْمَغَانِي
وَالْقِيَانِ، وَأَمَرَ بِبَيْعِ الْجَوَارِي الْمُغَنِّيَاتِ فِي سُوقِ النَّخْسِ
عَلَى أَنَّهُنَّ سَوَاذِجُ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَإِنَّمَا فَعَلَ
الْقَاهِرُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ كَانَ مُحِبًّا لِلْغِنَاءِ، فَأَرَادَ أَنْ
يَشْتَرِيَ الْجَوَارِيَ الْمُغَنِّيَاتِ بِأَرْخَصِ الْأَثْمَانِ، نُعَوذُ
بِاللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ.
وَفِيهَا أَشَاعَتِ الْعَامَّةُ بَيْنَهُمْ بِأَنَّ الْحَاجِبَ عَلِيَّ بْنِ
يَلْبَقَ يُرِيدُ أَنْ يَلْعَنَ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْمَنَابِرِ، فَلَمَّا بَلَغَ
ذَلِكَ الْحَاجِبَ بَعَثَ إِلَى رَئِيسِ الْحَنَابِلَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ
الْبَرْبَهَارِيِّ الْوَاعِظِ لِيُقَابِلَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَهَرَبَ وَاخْتَفَى،
فَأَمَرَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَحُدِرُوا إِلَى الْبَصْرَةِ.
وَفِيهَا عَظَّمَ الْخَلِيفَةُ وَزِيرَهُ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُقْلَةَ وَخَاطَبَهُ
بِالِاحْتِرَامِ وَالْإِكْرَامِ، ثُمَّ إِنَّ الْوَزِيرَ وَمُؤْنِسًا الْخَادِمَ
وَعْلَيَّ بْنَ يَلْبَقَ وَجَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ اشْتَوَرُوا فِيمَا
بَيْنَهُمْ عَلَى خَلْعِ الْقَاهِرِ بِاللَّهِ وَتَوْلِيَةِ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ
الْمُكْتَفِي، وَبَايَعُوهُ فِيمَا
بَيْنَهُمْ سِرًّا، وَضَيَّقُوا عَلَى الْقَاهِرِ بِاللَّهِ فِي رِزْقِهِ وَمَنْ يَجْتَمِعُ بِهِ، وَأَرَادُوا الْقَبْضَ عَلَيْهِ سَرِيعًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ عَلَى يَدَيْ طَرِيفٍ السُّبْكَرِيِّ، فَسَعَى فِي الْقَبْضِ عَلَيْهِمْ، فَوَقَعَ فِي مَخَالِيبِهِ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ الْمُظَفَّرُ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ وَأَمَرَ بِحَبْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ، وَالِاحْتِيَاطِ عَلَى دُورِهِ وَأَمْلَاكِهِ، وَكَانَتْ فِيهِ عَجَلَةٌ وَجُرْأَةٌ وَهَوَجٌ وَخَرَقٌ شَدِيدٌ، وَجَعَلَ فِي مَنْزِلَتِهِ - إِمْرَةِ الْأُمَرَاءِ وَرِيَاسَةِ الْجَيْشِ - طَرِيفًا السُّبْكَرِيَّ، وَقَدْ كَانَ أَحَدَ الْأُمَرَاءِ عِنْدَ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَبَضَ عَلَى يَلْبَقَ، وَاخْتَفَى وَلَدُهُ عَلِيُّ بْنُ يَلْبَقَ، وَكَذَا هَرَبَ الْوَزِيرُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ، فَاسْتَوْزَرَ بَدَلَهُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي مُسْتَهَلِّ شَعْبَانَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ بِتَحْرِيقِ دَارِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ، وَوَقَعَ النَّهْبُ بِبَغْدَادَ، وَهَاجَتِ الْفِتْنَةُ، وَأَمَرَ الْقَاهِرُ بِأَنْ يُجْعَلَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ الْمُكْتَفِي بَيْنَ حَائِطَيْنِ، وَيُسَدَّ عَلَيْهِ بِالْآجُرِّ وَالْكِلْسِ وَهُوَ حَيٌّ، فَمَاتَ، وَأُرْسِلَ إِلَى الْمُخْتَفِينَ فَنَادَى: إِنَّ مَنْ أَخْفَاهُمْ خُرِّبَتْ دَارُهُ. فَوَقَعَ بِعَلِيِّ بْنِ يَلْبَقَ فَقَتَلَهُ، ذُبِحَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا تُذْبَحُ الشَّاةُ، فَأُخِذَ رَأْسُهُ فِي طَسْتٍ، وَدَخَلَ الْقَاهِرُ بِنَفْسِهِ عَلَى أَبِيهِ يَلْبَقَ، فَوَضَعَ الرَّأْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ بَكَى، وَأَخَذَ يُقَبِّلُهُ وَيَتَرَشَّفُهُ، فَأَمَرَ بِذَبْحِهِ أَيْضًا فَذُبِحَ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّأْسَيْنِ فِي طَسْتَيْنِ، فَدَخَلَ بِهِمَا عَلَى مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ فَلَمَّا رَآهُمَا تَشَهَّدَ وَلَعَنَ قَاتِلَهُمَا، فَقَالَ الْقَاهِرُ عِنْدَ ذَلِكَ: جُرُّوا بِرِجْلِ الْكَلْبِ. فَأُخِذَ فَذُبِحَ أَيْضًا، وَأُخِذَ رَأْسُهُ فَوُضِعَ فِي طَسْتٍ، وَطِيفَ بِالرُّءُوسِ فِي بَغْدَادَ وَنُودِيَ عَلَيْهِمْ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ يَخُونُ الْإِمَامَ، وَيَسْعَى فِي الدَّوْلَةِ فَسَادًا. ثُمَّ أُعِيدَتِ الرُّءُوسُ إِلَى خَزَائِنِ السِّلَاحِ.
وَفِي
ذِي الْقَعْدَةِ قَبَضَ الْقَاهِرُ عَلَى الْوَزِيرِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ
بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَسَجَنَهُ، وَكَانَ مَرِيضًا
بِالْقُولَنْجِ، فَبَقِيَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَمَاتَ، فَكَانَتْ
وِزَارَتُهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَاسْتَوْزَرَ
مَكَانَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ
الْخَصِيبِيَّ، ثُمَّ قَبَضَ عَلَى طَرِيفٍ السَّبْكَرِيِّ وَسَجَنَهُ، فَلَمْ
يَزَلِ السَّبْكَرِيُّ فِيهِ حَتَّى خُلِعَ الْقَاهِرُ.
وَفِيهَا جَاءَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ تِكِينِ الْخَاصَّةِ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَأَنَّ
ابْنَهُ مُحَمَّدًا قَدْ قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ فِيهَا، وَسَارَتِ الْخِلَعُ
إِلَيْهِ مِنَ الْقَاهِرِ بِاللَّهِ تَنْفِيذًا لِوِلَايَتِهِ وَاسْتِقْرَارِهَا.
ذِكْرُ ابْتِدَاءِ أَمْرِ بَنِي بُوَيْهِ وَظُهُورِ
دَوْلَتِهِمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
وَهُمْ ثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ ; عِمَادُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ،
وَرُكْنُ الدَّوْلَةِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ، وَمُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَبُو
الْحَسَنِ أَحْمَدُ، أَوْلَادُ أَبِي شُجَاعٍ بُوَيْهِ بْنِ فَنَّاخُسْرُو بْنِ
تَمَّامِ بْنِ كُوهَى بْنِ شِيرِزِيلَ الْأَصْغَرِ بْنِ شِيرِكِنْدَةَ بْنِ
شِيرِزِيلَ الْأَكْبَرِ بْنِ شِيرَانَ شَاهِ بْنِ شِيرَفَنَّهِ بْنِ سَسْتَانَ
شَاهَ بْنِ سِيسَ بْنِ فَيْرُوزَ بْنِ
شَرْوَزِيلَ بْنِ سَسْنَاذَرَ بْنِ بَهْرَامَ جُورَ الْمَلِكِ بْنِ يَزْدَجِرْدَ الْمَلِكِ بْنِ سَابُورَ الْمَلِكِ بْنِ سَابُورَ ذِي الْأَكْتَافِ الْفَارِسِيِّ. كَذَا نَسَبَهُمُ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا فِي " كِتَابِهِ ". وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُمُ: الدَّيَالِمَةُ ; لِأَنَّهُمْ جَاوَرُوا الدَّيْلَمَ، وَكَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مُدَّةً، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُمْ أَبُو شُجَاعٍ بُوَيْهِ فَقِيرًا مُدْقِعًا، يَصْطَادُ السَّمَكَ وَيَحْتَطِبُ بَنُوهُ الْحَطَبَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَمَاتَتِ امْرَأَتُهُ، وَخَلَّفَتْ لَهُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادَ الثَّلَاثَةَ، فَحَزِنَ عَلَيْهَا، فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ شَهْرِيَارُ بْنُ رُسْتُمَ الدَّيْلَمِيُّ، إِذْ مَرَّ مُنَجِّمٌ فَاسْتَدْعَاهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي رَأَيْتُ مَنَامًا غَرِيبًا ; رَأَيْتُ كَأَنِّي أَبُولُ فَخَرَجَ مِنْ ذَكَرِي نَارٌ عَظِيمَةٌ حَتَّى كَادَتْ تَبْلُغُ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ انْفَرَقَتْ ثَلَاثَ شُعَبٍ، ثُمَّ انْتَشَرَتْ كُلُّ شُعْبَةٍ إِلَى شُعَبٍ كَثِيرَةٍ، فَأَضَاءَتِ الدُّنْيَا بِتِلْكَ النَّارِ، وَرَأَيْتُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ قَدْ خَضَعَتْ لِهَذِهِ النَّارِ. فَقَالَ لَهُ الْمُنَجِّمُ: هَذَا مَنَامٌ عَظِيمٌ لَا أُفَسِّرُهُ لَكَ إِلَّا بِمَالٍ جَزِيلٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا شَيْءَ عِنْدِي أُعْطِيكَ، وَلَا أَمْلِكُ غَيْرَ فَرَسِي هَذِهِ. فَقَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ مِنْ صُلْبِكَ ثَلَاثَةُ مُلُوكٍ، ثُمَّ يَكُونُ مِنْ سُلَالَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُلُوكٌ عِدَّةٌ. فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ ! أَتَسْخَرُ بِي ؟ وَأَمَرَ بَنِيهِ فَصَفَعُوهُ، ثُمَّ أَعْطَاهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالَ لَهُمُ الْمُنَجِّمُ: اذْكُرُوا هَذَا إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ مُلُوكٌ. وَخَرَجَ وَتَرَكَهُمْ. وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةَ الثَّلَاثَةَ كَانُوا عِنْدَ مَلِكٍ يُقَالُ لَهُ: مَاكَانُ بْنُ كَالِي. فِي بِلَادِ
طَبَرِسْتَانَ
فَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ مَرْدَاوِيجُ، فَضَعُفَ أَمْرُ مَاكَانَ، فَشَاوَرُوهُ فِي
مُفَارَقَتِهِ حَتَّى يَكُونَ مِنْ أَمْرِهِ خَيْرٌ، فَخَرَجُوا عَنْهُ وَمَعَهُمْ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَصَارُوا إِلَى مَرْدَاوِيجَ، فَأَكْرَمَهُمْ
وَاسْتَعْمَلَهُمْ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الْبُلْدَانِ، فَأَعْطَى عِمَادَ
الدَّوْلَةِ عَلِيَّ بْنَ بُوَيْهِ نِيَابَةَ الْكَرَجِ، فَأَحْسَنَ فِيهَا
السِّيرَةَ، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ النَّاسُ وَأَحَبُّوهُ، فَحَسَدَهُ مَرْدَاوِيجُ،
وَبَعَثَ إِلَيْهِ يَعْزِلُهُ عَنْهَا، وَيَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ، فَامْتَنَعَ
مِنَ الْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَصَارَ إِلَى أَصْبَهَانَ فَحَارَبَهُ نَائِبُهَا،
فَقَهَرَهُ عِمَادُ الدَّوْلَةِ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا كَانَ مَعَهُ
تِسْعُمِائَةِ فَارِسٍ، فَرَدَّ بِهَا عَشْرَةَ آلَافٍ، وَعَظُمَ فِي أَعْيُنِ
النَّاسِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مَرْدَاوِيجَ قَلِقَ مِنْهُ، وَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ جَيْشًا، فَأَخْرَجُوهُ مِنْ أَصْبَهَانَ وَقَصَدَ أَرَّجَانَ
فَأَخَذَهَا مِنْ نَائِبِهَا، وَحُصِّلَ لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ
جِدًّا، ثُمَّ أَخَذَ بُلْدَانًا كَثِيرَةً، وَاشْتُهِرَ أَمْرُهُ وَبَعُدَ
صِيتُهُ وَحَسُنَتْ سِيرَتُهُ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنَ الْجُنْدِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَقَدْ آلَ بِهِمُ الْحَالُ إِلَى أَنْ مَلَكُوا
بَغْدَادَ مِنْ أَيْدِي الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ، لَهُمُ الْقَطْعُ
وَالْوَصْلُ، وَالْوِلَايَةُ وَالْعَزْلُ، وَإِلَيْهِمْ تُجْبَى الْأَمْوَالُ،
وَيُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ وَالْأَحْوَالِ، عَلَى مَا
سَنَذْكُرُ ذَلِكَ مَبْسُوطًا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَالْمَحْمُودُ عَلَى
كُلِّ حَالٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الطَّحَاوِيُّ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ، أَبُو جَعْفَرٍ
الطَّحَاوِيُّ
نِسْبَةً إِلَى طَحَا وَهِيَ قَرْيَةٌ بِصَعِيدِ مِصْرَ، الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ،
صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ الْمُفِيدَةِ وَالْفَوَائِدِ، وَهُوَ أَحَدُ الثِّقَاتِ
الْأَثْبَاتِ، وَالْحُفَّاظِ الْجَهَابِذَةِ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ الْمُزَنِيِّ -
رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَذَكَرَ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ أَنَّهُ وُلِدَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ
وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " أَنَّ سَبَبَ
انْتِقَالِهِ إِلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَرُجُوعِهِ عَنْ مَذْهَبِ خَالِهِ
الْمُزَنِيِّ، أَنَّ خَالَهُ قَالَ لَهُ يَوْمًا: وَاللَّهِ لَا يَجِيءُ مِنْكَ
شَيْءٌ. فَغَضِبَ وَاشْتَغَلَ عَلَى أَبِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ
الْحَنَفِيِّ، حَتَّى بَرَعَ وَفَاقَ أَهْلَ زَمَانِهِ، وَصَنَّفَ كُتُبًا
كَثِيرَةً مِنْهَا " أَحْكَامُ الْقُرْآنِ " وَ " اخْتِلَافُ
الْعُلَمَاءِ " وَ " مَعَانِي الْآثَارِ " وَ " التَّارِيخُ
الْكَبِيرُ " وَلَهُ فِي الشُّرُوطِ كِتَابٌ، وَكَانَ بَارِعًا فِيهَا.
وَقَدْ كَتَبَ لِلْقَاضِي أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدَةَ،
وَعَدَّلَهُ الْقَاضِي أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ. وَكَانَ يَقُولُ: رَحِمَ
اللَّهُ الْمُزَنِيَّ، لَوْ كَانَ حَيًّا لَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ،
وَقَبْرُهُ مَشْهُورٌ بِهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَتَرْجَمَهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدِمَ دِمَشْقَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ
وَمِائَتَيْنِ،
وَأَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ قَاضِيهَا أَبِي خَازِمٍ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ النَّضْرِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ زَرْبِيٍّ، أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي حَامِدٍ
صَاحِبُ بَيْتِ الْمَالِ، سَمِعَ عَبَّاسًا الدُّورِيَّ وَخَلْقًا، وَعَنْهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا جَوَادًا مُمَدَّحًا،
اتَّفَقَ فِي أَيَّامِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَانَتْ لَهُ
جَارِيَةٌ يُحِبُّهَا حُبًّا شَدِيدًا، فَرَكِبَتْهُ دُيُونٌ كَثِيرَةٌ اقْتَضَى
الْحَالُ أَنْ بَاعَ تِلْكَ الْجَارِيَةَ فِي الدَّيْنِ، فَلَمَّا قَبَضَ
ثَمَنَهَا نَدِمَ نَدَامَةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَبَقِيَ مُتَحَيِّرًا فِي
أَمْرِهِ، فَبَاعَهَا الَّذِي كَانَتْ عِنْدَهُ، فَبَلَغَ سَيِّدَهَا أَنَّ
الْجَارِيَةَ قَدِ اشْتَرَاهَا ابْنُ أَبِي حَامِدٍ صَاحِبُ بَيْتِ الْمَالِ،
فَتَشَفَّعَ إِلَيْهِ بِبَعْضِ أَصْحَابِهِ فِي أَنْ يَرُدَّهَا إِلَيْهِ
بِثَمَنِهَا، فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شُعُورٌ بِهَا،
وَذَلِكَ أَنَّ امْرَأَتَهُ كَانَتِ اشْتَرَتْهَا لَهُ، وَلَمْ تُعْلِمْهُ بَعْدُ
بِأَمْرِهَا حَتَّى تَحِلَّ مِنَ اسْتِبْرَائِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ
آخِرَهُ، فَلَبَّسُوهَا الْحُلِيَّ وَالْمَصَاغَ، وَصَنَعُوهَا لَهُ، وَحِينَ
شُفِعَ عِنْدَهُ فِي أَمْرِهَا بُهِتَ ; لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهَا، ثُمَّ دَخَلَ
يَسْتَكْشِفُ خَبَرَهَا مِنْ مَنْزِلِهِ، فَإِذَا بِهَا قَدْ هُيِّئَتْ لَهُ
وَزُخْرِفَتْ، فَفَرِحَ فَرَحًا شَدِيدًا إِذْ وَجَدَهَا، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
الرَّجُلِ، فَأَخْرَجَهَا مَعَهُ وَهُوَ يُظْهِرُ السُّرُورَ، فَقَالَ
لِسَيِّدِهَا: هَذِهِ جَارِيَتُكَ ؟ فَلَمَّا رَآهَا اضْطَرَبَ كَلَامُهُ،
وَاخْتَلَطَ فِي عَقْلِهِ مِمَّا رَأَى مِنْ حُسْنِ مَنْظَرِهَا وَهَيْئَتِهَا،
وَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: خُذْهَا، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا. فَفَرِحَ الْفَتَى
فَرَحًا شَدِيدًا، وَقَالَ: يَا سَيِّدِي، تَأْمُرُ مَنْ يَحْمِلُ مَعِي الْمَالَ
؟ فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهِ، وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْهُ، فَإِنِّي
أَخْشَى
إِنْ لَمْ يَبْقَ مَعَكَ شَيْءٌ أَنْ تَبِيعَهَا ثَانِيَةً مِمَّنْ لَا يَرُدُّهَا
عَلَيْكَ. فَقَالَ: يَا سَيِّدِي، فَهَذَا الْحُلِيُّ وَالْمَصَاغُ الَّذِي
عَلَيْهَا ؟ فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ وَهَبْنَاهُ لَهَا لَا نَعُودُ فِيهِ أَبَدًا.
فَاشْتَدَّ فَرَحُ الْفَتَى، وَأَخَذَهَا مَعَهُ، فَلَمَّا وَدَّعَ ابْنُ أَبِي
حَامِدٍ قَالَ لِلْجَارِيَةِ: أَيُّمَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْكِ ; نَحْنُ أَوْ
سَيِّدُكِ هَذَا ؟ فَقَالَتْ: أَمَّا أَنْتُمْ فَأَغْنَيْتُمُونِي، فَجَزَاكُمُ
اللَّهُ خَيْرًا، وَأَمَّا سَيِّدِي هَذَا، فَلَوْ أَنِّي مَلَكْتُ مِنْهُ مَا
مَلَكَ مِنِّي لَمْ أَبِعْهُ بِالْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ. فَاسْتَحْسَنَ
الْحَاضِرُونَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهَا مَعَ صِغَرِ سِنِّهَا.
شَغَبُ أُمُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ الْمُلَقَّبَةُ
بِالسَّيِّدَةِ
كَانَ دَخْلُ أَمْلَاكِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَتْ
تَتَصَدَّقُ بِأَكْثَرِ ذَلِكَ عَلَى الْحَجِيجِ فِي أَشْرِبَةٍ وَأَزْوَادٍ
وَأَطِبَّاءَ يَكُونُونَ مَعَهُمْ، وَتَسْهِيلِ الطُّرُقَاتِ وَالْمَوَارِدِ.
وَكَانَتْ فِي غَايَةِ الْحِشْمَةِ وَالرِّيَاسَةِ وَنُفُوذِ الْكَلِمَةِ أَيَّامَ
خِلَافَةِ وَلَدِهَا، فَلَمَّا قُتِلَ كَانَتْ مَرِيضَةً فَزَادَهَا مَرَضًا إِلَى
مَرَضِهَا، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْقَاهِرِ فِي الْخِلَافَةِ - وَهُوَ
ابْنُ زَوْجِهَا الْمُعْتَضِدِ وَأَخُو ابْنِهَا، وَقَدْ كَانَتْ حَضَنَتْهُ حِينَ
تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ، وَخَلَّصَتْهُ مِنَ ابْنِهَا لَمَّا كَانَ مُؤْنِسٌ قَدْ
بَايَعَهُ وَلَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ - عَاقَبَهَا الْقَاهِرُ عُقُوبَةً عَظِيمَةً
جِدًّا، حَتَّى كَانَ يُعَلِّقُهَا بِرِجْلِهَا وَرَأْسُهَا مَنْكُوسٌ، فَرُبَّمَا
بَالَتْ، فَيَنْحَدِرُ عَلَى وَجْهِهَا ; لِيُقَرِّرَهَا عَلَى الْأَمْوَالِ
الَّتِي فِي يَدِهَا، فَلَمْ يَجِدْ لَهَا شَيْئًا سِوَى ثِيَابِهَا وَمَصَاغِهَا
وَحُلِيِّهَا فِي صَنَادِيقَ لَهَا، قِيمَتُهَا مِائَةُ أَلْفٍ وَثَلَاثُونَ
أَلْفَ دِينَارٍ، وَجَمِيعُ مَا كَانَ يَدْخُلُهَا تَتَصَدَّقُ بِهِ، وَوَقَفَتْ
شَيْئًا كَثِيرًا، وَلَكِنْ كَانَ لَهَا
أَمَلَاكٌ
أَمَرَ بِبَيْعِهَا، وَأَتَى بِالشُّهُودِ لِيَشْهَدُوا عَلَيْهَا بِالتَّوْكِيلِ
فِي بَيْعِهَا، فَامْتَنَعَ الشُّهُودُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حَتَّى
يُحَلُّوهَا، فَرُفِعَ السِّتْرُ بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ، فَقَالُوا لَهَا: أَنْتِ
شَغَبُ جَارِيَةُ الْمُعْتَضِدِ أُمُّ جَعْفَرٍ الْمُقْتَدِرِ ؟ فَبَكَتْ بُكَاءً
طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَتْ: نَعَمْ. وَكَتَبُوا حِلْيَتَهَا، عَجُوزٌ، سَمْرَاءُ
اللَّوْنِ، دَقِيقَةُ الْجَبِينِ. وَبَكَى الشُّهُودُ وَتَفَكَّرُوا فِي تَقَلُّبِ
الزَّمَانِ، وَتَنَقُّلِ الْحَدَثَانِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهَا فِي جُمَادَى
الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَتْ بِالرُّصَافَةِ. رَحِمَهَا اللَّهُ.
عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ سَلَامِ بْنِ
خَالِدِ بْنِ حُمْرَانَ بْنِ أَبَانٍ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَهُوَ
أَبُو هَاشِمِ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الْجَبَائِيُّ
الْمُتَكَلِّمُ ابْنُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعْتَزِلِيُّ ابْنُ الْمُعْتَزِلِيِّ، وَإِلَيْهِ
تُنْسَبُ الْبَهْشَمِيَّةُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةُ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي
الِاعْتِزَالِ كَمَا لِأَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَتُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَكَانَ لَهُ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو
عَلِيٍّ. دَخَلَ يَوْمًا عَلَى الصَّاحِبِ بْنِ عَبَّادَ فَأَكْرَمَهُ
وَاحْتَرَمَهُ، وَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: ( لَا أَعْرِفُ ) نِصْفُ
الْعِلْمِ. فَقَالَ: صَدَقْتَ وَسَبَقَكَ أَبُوكَ إِلَى النِّصْفِ الْآخَرِ !
مُحَمَّدُ
بْنُ الْحَسَنِ بْنِ دُرَيْدِ بْنِ عَتَاهِيَةَ أَبُو بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ
الْأَزْدِيُّ
اللُّغَوِيُّ النَّحْوِيُّ الشَّاعِرُ صَاحِبُ الْمَقْصُورَةِ، وُلِدَ
بِالْبَصْرَةِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَتَنَقَّلَ فِي
الْبِلَادِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ ذَوِي
الْيَسَارِ وَقَدِمَ بَغْدَادَ وَقَدْ أَسَنَّ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ
تُوُفِّيَ. رَوَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَخِي الْأَصْمَعِيِّ، وَأَبِي
حَاتِمٍ، وَالرِّيَاشِيِّ. وَعَنْهُ أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ وَأَبُو بَكْرِ
بْنُ شَاذَانَ وَأَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَرْزُبَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
وَيُقَالُ: كَانَ أَعْلَمَ الشُّعَرَاءِ وَأَشْعَرَ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ كَانَ
مُتَهَتِّكًا فِي الشَّرَابِ، قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْأَزْهَرِيُّ: دَخَلْتُ
عَلَيْهِ فَوَجَدْتُهُ سَكْرَانَ، فَلَمْ أَعُدْ إِلَيْهِ.
وَسُئِلَ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، فَقَالَ: تَكَلَّمُوا فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ
شَاهِينَ: كُنَّا نَدْخُلُ عَلَيْهِ، فَنَسْتَحِي مِمَّا نَرَى مِنَ الْعِيدَانِ
الْمُعَلَّقَةِ وَالشَّرَابِ الْمُصَفَّى، وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ وَقَارَبَ
الْمِائَةَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ
بَقِيَتْ مِنْ شَعْبَانَ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ كَانَتْ وَفَاةُ أَبِي هَاشِمِ بْنِ أَبِي عَلِيٍّ،
فَصُلِّيَ عَلَيْهِمَا مَعًا، وَدُفِنَا فِي مَقْبَرَةِ الْخَيْزُرَانِيَّةِ،
وَقَالَ النَّاسُ: مَاتَ الْيَوْمَ عِلْمُ اللُّغَةِ، وَعِلْمُ الْكَلَامِ.
وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمًا مَطِيرًا. وَمِنْ مُصَنَّفَاتِ ابْنِ دُرَيْدٍ "
الْجَمْهَرَةُ " فِي اللُّغَةِ، فِي نَحْوِ عَشْرِ مُجَلَّدَاتٍ، وَكِتَابُ
" الْمَطَرِ " وَالْمَقْصُورَةُ وَالْقَصِيدَةُ الْأُخْرَى فِي
الْمَقْصُورِ وَالْمَمْدُودِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، سَامِحَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا قَصَدَ مَلِكُ الرُّومِ مَلَطْيَةَ فِي خَمْسِينَ أَلْفًا، فَحَاصَرَهَا،
ثُمَّ أَعْطَاهُمُ الْأَمَانَ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنْهُمْ، فَقَتَلَ خَلْقًا
كَثِيرًا، وَأَسَرَ مَا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ مَرْدَاوِيجَ قَدْ تَسَلَّمَ أَصْبَهَانَ
وَانْتَزَعَهَا مِنْ عَلِيِّ بْنِ بُوَيْهِ، وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ بُوَيْهِ
تَوَجَّهَ إِلَى أَرَّجَانَ فَأَخَذَهَا، وَقَدْ أَرْسَلَ ابْنُ بُوَيْهِ إِلَى
الْحَضْرَةِ الْخَلِيفِيَّةِ بِالطَّاعَةِ وَالْمَعُونَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ
يُقَبِّلَ الْعَتَبَةَ الشَّرِيفَةَ وَيَحْضُرَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ إِنْ
رَسَمَ، أَوْ يَذْهَبَ إِلَى شِيرَازَ فَيَكُونَ مَعَ يَاقُوتَ. ثُمَّ اتَّفَقَ
الْحَالُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ صَارَ إِلَى شِيرَازَ وَأَخَذَهَا مِنْ نَائِبِهَا
يَاقُوتَ بَعْدَ قِتَالٍ عَظِيمٍ ظَفِرَ فِيهِ ابْنُ بُوَيْهِ بِيَاقُوتَ
وَأَصْحَابِهِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا، وَأَسَرَ جَمَاعَةً، فَلَمَّا
تَمَكَّنَ أَطْلَقَهُمْ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ، وَعَدَلَ
فِي النَّاسِ.
وَكَانَتْ مَعَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ قَدِ اسْتَفَادَهَا مِنْ أَصْبَهَانَ وَقَبْلَهَا
مِنَ الْكَرَجِ وَمِنْ هَمَذَانَ وَغَيْرِهَا. إِلَّا أَنَّهُ كَانَ كَرِيمًا
جَوَادًا مِعْطَاءً لِلْجُيُوشِ الَّذِينَ قَدِ الْتَفُّوا عَلَيْهِ، ثُمَّ
إِنَّهُ
أَمْلَقَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَهُوَ بِشِيرَازَ، وَطَالَبَهُ الْجُنْدُ
بِأَرْزَاقِهِمْ، وَخَافَ أَنْ يَنْحَلَّ نِظَامُ أَمْرِهِ، فَاسْتَلْقَى يَوْمًا
عَلَى قَفَاهُ مُفَكِّرًا فِي أَمْرِهِ، وَإِذَا حَيَّةٌ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ
سَقْفِ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَدَخَلَتْ فِي آخَرَ، فَأَمَرَ بِنَزْعِ
تِلْكَ السُّقُوفِ، فَوَجَدَ هُنَاكَ مَكَانًا فِيهِ مِنَ الذَّهَبِ شَيْءٌ
كَثِيرٌ جِدًّا نَحْوٌ مِنْ خَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَنْفَقَ فِي
جَيْشِهِ مَا أَرَادَ، وَبَقِيَ عِنْدَهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ.
وَرَكِبَ ذَاتَ يَوْمٍ يَتَفَرَّجُ فِي خَرَابِ الْبَلَدِ، وَيَنْظُرُ إِلَى
أَبْنِيَةِ الْأَوَائِلِ، وَيَتَّعِظُ بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُ، فَانْخَسَفَتِ
الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِ قَائِمَةِ جَوَادِهِ، فَأَمَرَ فَحُفِرَ هُنَالِكَ فَوَجَدَ
مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا أَيْضًا.
وَاسْتَعْمَلَ عِنْدَ رَجُلٍ خَيَّاطٍ قُمَاشًا لِيَلْبَسَهُ، فَاسْتَبْطَأَهُ
فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ تَهَدَّدَهُ، وَكَانَ
الرَّجُلُ أَصَمَّ لَا يَسْمَعُ جَيِّدًا، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا لِابْنِ
يَاقُوتَ عِنْدِي سِوَى اثْنَيْ عَشَرَ صُنْدُوقًا، لَا أَدْرِي مَا فِيهَا.
فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهَا فَإِذَا فِيهَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ تُقَارِبُ
ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَاطَّلَعَ عَلَى وَدَائِعَ كَانَتْ لِيَعْقُوبَ وَعَمْرٍو ابْنَيِ اللَّيْثِ،
فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ كَثْرَةً، فَقَوِيَ
أَمْرُهُ، وَعَظُمَ سُلْطَانُهُ جِدًّا، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْأُمُورِ
الْمُقَدَّرَةِ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ بِهِمْ مِنَ السَّعَادَةِ
الدُّنْيَوِيَّةِ. وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [ الْقَصَصِ: 68 ]
وَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [ الرُّومِ: 4 ].
وَكَتَبَ إِلَى الرَّاضِي وَوَزِيرِهِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ يَطْلُبُ أَنْ
يُقَاطَعَ عَلَى مَا قِبَلَهُ مِنَ الْبِلَادِ عَلَى أَلْفِ أَلْفٍ فِي كُلِّ
سَنَةٍ، فَأَجَابَهُ الرَّاضِي إِلَى ذَلِكَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ
وَاللِّوَاءِ
وَأُبَّهَةِ الْمُلْكِ.
وَفِيهَا قَتَلَ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ أَمِيرَيْنِ كَبِيرَيْنِ ; وَهَمَا
إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النُّوبَخْتِيُّ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ قَدْ أَشَارَ
عَلَى الْأُمَرَاءِ بِخِلَافَةِ الْقَاهِرِ، وَأَبُو السَّرَايَا بْنُ حَمْدَانَ
أَصْغَرُ وَلَدِ أَبِيهِ، وَكَانَ فِي نَفْسِ الْقَاهِرِ مِنْهُمَا ; بِسَبَبِ
أَنَّهُمَا زَايَدَاهُ مَرَّةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ فِي
جَارِيَتَيْنِ مُغَنِّيَتَيْنِ، فَاسْتَدْعَاهُمَا إِلَى الْمُسَامَرَةِ
فَتَطَيَّبَا وَحَضَرَا، فَأَمَرَ بِإِلْقَائِهِمَا فِي بِئْرٍ هُنَالِكَ،
فَتَضَرَّعَا إِلَيْهِ فَلَمْ يَرْحَمْهُمَا، بَلْ أُلْقِيَا فِيهَا، وَطَيَّنَهَا
عَلَيْهِمَا.
ذِكْرُ خَلْعِ الْقَاهِرِ وَسَمْلِ عَيْنَيْهِ
وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْوَزِيرَ أَبَا عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ كَانَ قَدْ
هَرَبَ مِنَ الْقَاهِرِ حِينَ قَبَضَ عَلَى مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ، وَاخْتَفَى فِي
دَارِهِ، وَكَانَ يُرَاسِلُ الْجُنْدَ وَيُكَاتِبُهُمْ وَيُغْرِيهِمْ
بِالْقَاهِرِ، وَيُخَوِّفُهُمْ سَطْوَتَهُ وَإِقْدَامَهُ وَسُرْعَةَ بَطْشِهِ،
وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْقَاهِرَ قَدْ أَعَدَّ لِأَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ أَمَاكِنَ
يَسْجِنُهُمْ فِيهَا، فَهَيَّجَهُمْ ذَلِكَ، وَأَشَبَهُمْ عَلَى الْقَبْضِ عَلَى
الْقَاهِرِ، فَاجْتَمَعُوا، وَأَجْمَعُوا رَأْيَهُمْ عَلَى مُنَاجَزَتِهِ فِي
هَذِهِ السَّاعَةِ، وَرَكِبُوا مَعَ الْأَمِيرِ الْمَعْرُوفِ بِسِيمَا، وَقَصَدُوا
دَارَ الْخِلَافَةِ فَأَحَاطُوا بِهَا، ثُمَّ هَجَمُوا عَلَى الْقَاهِرِ مِنْ
سَائِرِ أَبْوَابِهَا، فَخَرَجَ الْوَزِيرُ الْخَصِيبِيُّ مُسْتَتِرًا فِي زِيِّ
امْرَأَةٍ، وَانْهَزَمَ الْقَاهِرُ وَهُوَ مَخْمُورٌ، فَاخْتَفَى فِي سَطْحِ
حَمَّامٍ، فَظَهَرُوا عَلَيْهِ فَقَبَضُوهُ وَحَبَسُوهُ فِي مَكَانِ طَرِيفٍ
السُّبْكَرِيِّ، وَأَخْرَجُوا طَرِيفًا، وَاضْطَرَبَتْ بَغْدَادُ وَنُهِبَتْ،
وَذَلِكَ يَوْمَ
السَّبْتِ
لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ
أَحْضَرُوهُ، فَسَمَلُوا عَيْنَيْهِ حَتَّى سَالَتَا عَلَى خَدَّيْهِ، وَارْتُكِبَ
مِنْهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ
أَرْسَلُوهُ، فَكَانَ تَارَةً يُحْبَسُ، وَتَارَةً يُخَلَّى سَبِيلُهُ، وَقَدْ
تَأَخَّرَ مَوْتُهُ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
وَافْتَقَرَ حَتَّى قَامَ يَوْمًا بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ، فَسَأَلَ فَأَعْطَاهُ
رَجُلٌ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا
الصَّنِيعِ التَّشْنِيعَ عَلَى الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ إِذَا ذَكَرْنَا وَفَاتَهُ.
خِلَافَةُ الرَّاضِي بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ
لَمَّا خَلَعَتِ الْجُنْدُ الْقَاهِرَ وَسَمَلُوهُ، أَحْضَرُوا أَبَا الْعَبَّاسِ
مُحَمَّدَ بْنَ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، فَبَايَعُوهُ عَلَى الْخِلَافَةِ،
وَلَقَّبُوهُ الرَّاضِي بِاللَّهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصُّولِيُّ قَدْ أَشَارَ
بِأَنْ يُلَقَّبَ بِالْمَرْضِيِّ بِاللَّهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ وَعَدَلَ إِلَى هَذَا
اللَّقَبِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لَسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى
الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ - وَجَاءُوا بِالْقَاهِرِ وَهُوَ أَعْمَى قَدْ سُمِلَتْ
عَيْنَاهُ، فَأُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ،
وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، فَقَامَ الرَّاضِي بِأَعْبَائِهَا، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْخُلَفَاءِ
عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ،
فَوَلَّاهُ الْوِزَارَةَ، وَجَعَلَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى
نَاظِرًا
عَلَيْهِ، وَأَطْلَقَ كُلَّ مَنْ كَانَ فِي حَبْسِ الْقَاهِرِ، وَاسْتَدْعَى
عِيسَى طَبِيبَ الْقَاهِرِ، فَصَادَرَهُ بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَتَسَلَّمَ
مِنْهُ الْوَدِيعَةَ الَّتِي كَانَ الْقَاهِرُ أَوْدَعَهَا عِنْدَهُ، وَكَانَتْ
جُمْلَةً مُسْتَكْثِرَةً مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنَّفَائِسِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَظُمَ أَمْرُ مَرْدَاوِيجَ بِأَصْبَهَانَ، وَتَحَدَّثَ
النَّاسُ أَنَّهُ يُرِيدُ قَصْدَ بَغْدَادَ وَأَنَّهُ مُمَالِئٌ لِصَاحِبِ
الْبَحْرَيْنِ وَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى رَدِّ الدَّوْلَةِ مِنَ الْعَرَبِ إِلَى
الْعَجَمِ، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِي رَعِيَّتِهِ، لَا سِيَّمَا فِي خَوَاصِّهِ
مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَتَمَالَئُوا عَلَى قَتْلِهِ فَقَتَلُوهُ - قَبَّحَهُ اللَّهُ
- وَكَانَ الْقَائِمُ بِأَعْبَاءِ ذَلِكَ أَخَصَّ مَمَالِيكِهِ وَأَحْظَاهُمْ
عِنْدَهُ، وَهُوَ بَجْكَمُ - بَيَّضَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَهَذَا الْأَمِيرُ هُوَ
الَّذِي اسْتَنْقَذَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مِنْ أَيْدِي الْقَرَامِطَةِ،
وَافْتَدَاهُ مِنْهُمْ بِخَمْسِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، بَذَلَهَا لَهُمْ حَتَّى
رَدُّوهُ إِلَى مَكَّةَ كَمَا سَيَأْتِي. وَلَمَّا قُتِلَ مَرْدَاوِيجُ بْنُ
زَيَّارٍ الدَّيْلَمِيُّ، عَظُمَ أَمْرُ عَلِيِّ بْنِ بُوَيْهِ، وَارْتَفَعَ قَدْرُهُ
بَيْنَ النَّاسِ، وَعَلَا شَأْنُهُ فِي الْمُلُوكِ، وَسَيَأْتِي مَا آلَ إِلَيْهِ
حَالُهُ.
وَلَمَّا خُلِعَ الْقَاهِرُ وَوَلِّيَ الرَّاضِي، طَمِعَ هَارُونُ بْنُ غَرِيبٍ
فِي الْخِلَافَةِ ; لِكَوْنِهِ ابْنَ خَالِ الْمُقْتَدِرِ، وَكَانَ نَائِبًا عَلَى
مَاهِ الْكُوفَةِ الدِّينَوَرِ وَمَاسَبَذَانَ، فَدَعَا إِلَى ذَلِكَ وَاتَّبَعَهُ
خَلْقٌ مِنَ الْجُنْدِ وَالْأُمَرَاءِ، وَجَبَى الْأَمْوَالَ، وَاسْتَفْحَلَ
أَمْرُهُ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَقَصَدَ بَغْدَادَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ
بْنُ يَاقُوتَ رَأْسُ الْحَجَبَةِ فِي جَمِيعِ جَيْشِ بَغْدَادَ فَاقْتَتَلُوا
هُنَالِكَ، فَخَرَجَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ هَارُونُ بْنُ غَرِيبٍ يَتَقَصَّدُ
لَعَلَّهُ
يَعْمَلُ حِيلَةً فِي أَسْرِ مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتَ، فَتَقَنْطَرَ بِهِ
فَرَسُهُ، فَسَقَطَ فِي نَهْرٍ، فَضَرَبَهُ غُلَامٌ لَهُ حَتَّى قَتَلَهُ،
وَأَخَذَ رَأْسَهُ، وَجَاءَ بِهِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتَ، فَانْهَزَمَ
أَصْحَابُ هَارُونَ، وَرَجَعَ مُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتَ، فَدَخَلَ بَغْدَادَ
وَرَأْسُ هَارُونَ بْنِ غَرِيبٍ يُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى رُمْحٍ، فَفَرِحَ
النَّاسُ بِذَلِكَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِيهَا ظَهَرَ رَجُلٌ بِبَغْدَادَ يُعَرَفُ بِأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيٍّ الشَّلْمَغَانِيِّ، وَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ أَبِي الْعَزَاقِرِ. فَذُكِرَ
عَنْهُ أَنَّهُ يَدَّعِي مَا كَانَ يَدَّعِيهِ الْحَلَّاجُ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ،
وَكَانَ قَدْ مُسِكَ فِي دَوْلَةِ الْمُقْتَدِرِ عِنْدَ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ،
وَاتُّهِمَ بِأَنَّهُ يَقُولُ بِالتَّنَاسُخِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ. وَلَمَّا
كَانَتْ هَذِهِ الْمَرَّةُ أَحْضَرَهُ الرَّاضِي، وَادَّعَى عَلَيْهِ بِمَا ذُكِرَ
عَنْهُ، فَأَنْكَرَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِأَشْيَاءَ، فَأَفْتَى قَوْمٌ أَنَّ دَمَهُ
حَلَالٌ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، فَضُرِبَ ثَمَانِينَ
سَوْطًا، ثُمَّ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَصُلِبَ، وَأُلْحِقَ بِالْحَلَّاجِ -
قَبَّحَهُمَا اللَّهُ - وَقُتِلَ مَعَهُ صَاحِبُهُ ابْنُ أَبِي عَوْنٍ لَعَنَهُ
اللَّهُ، وَكَانَ هَذَا اللَّعِينُ مِنْ جُمْلَةِ طَائِفَةٍ قَدِ اتَّبَعُوهُ
وَصَدَّقُوهُ فِيمَا يَزْعُمُهُ مِنَ الْكُفْرِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
وَقَدْ بَسَطَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ " مَذْهَبَ هَؤُلَاءِ
الْكَفَرَةِ بَسْطًا جَيِّدًا، وَشَبَّهَ مَذْهَبَهُمْ بِمَذْهَبِ
النَّصِيرِيَّةِ، لَعَنَهُمَا اللَّهُ أَجْمَعِينَ.
وَادَّعَى رَجُلٌ بِبِلَادِ الشَّاشِ النُّبُوَّةَ، وَأَظْهَرَ مَخَارِيقَ
وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنَ الْحِيَلِ،
فَجَاءَتْهُ
الْجُيُوشُ فَقَاتَلُوهُ، فَقَتَلُوهُ، وَانْطَفَأَ خَبَرُهُ وَاضْمَحَلَّ
أَمْرُهُ.
وَفَاةُ الْمَهْدِيِّ صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ، أَوَّلُ خُلَفَاءِ الْفَاطِمِيِّينَ
فِيمَا زَعَمُوا
وَفِيهَا مَاتَ أَبُو مُحَمَّدٍ عُبَيْدُ اللَّهِ، الْمُدَّعِي أَنَّهُ عَلَوِيٌّ
- الْمُلَقَّبُ بِالْمَهْدِيِّ - بَانِي الْمَهْدِيَّةِ بِمَدِينَتِهِ
الْمَهْدِيَّةِ عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ، مُنْذُ
دَخَلَ رَقَّادَةَ وَادَّعَى الْإِمَامَةَ، أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً
وَشَهْرًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَهُوَ أَوَّلُ الْخُلَفَاءِ الْفَاطِمِيِّينَ.
وَقَدْ كَانَ شَهْمًا شُجَاعًا، ظَفِرَ بِجَمَاعَةٍ مِمَّنْ خَالَفَهُ وَنَاوَأَهُ
وَقَاتَلَهُ وَعَادَاهُ، وَقَدْ قَامَ بِأَمْرِ الْخِلَافَةِ مِنْ بَعْدِهِ
وَلَدُهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْمُلَقَّبُ بِالْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ
اللَّهِ وَحِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهُ، كَتَمَ مَوْتَهُ سَنَةً حَتَّى دَبَّرَ مَا
أَرَادَهُ مِنَ الْأُمُورِ، ثُمَّ أَظْهَرَ ذَلِكَ، وَعَزَّاهُ النَّاسُ فِيهِ،
وَقَدْ كَانَ شَهْمًا شُجَاعًا كَأَبِيهِ، فَتَحَ الْبِلَادَ، وَأَرْسَلَ
السَّرَايَا إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، وَرَامَ أَخْذَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا جَرَى ذَلِكَ عَلَى يَدَيِ ابْنِ
ابْنِهِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ الَّذِي بَنَى الْقَاهِرَةَ الْمُعِزِّيَةَ،
كَمَا سَنَذْكُرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ
الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ ": وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي
نَسَبِ الْمَهْدِيِّ هَذَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا جِدًّا ; فَقَالَ صَاحِبُ "
تَارِيخِ الْقَيْرَوَانِ ": هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ التَّقِيِّ، وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْوَفِيِّ، أَحْمَدَ
بْنِ الرَّضِيِّ عَبْدِ اللَّهِ، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ يُقَالُ لَهُمُ:
الْمَسْتُورُونَ ; لِخَوْفِهِمْ مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَالرَّضِيُّ
عَبْدُ اللَّهِ هَذَا هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ
الصَّادِقِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَالْمُحَقِّقُونَ يُنْكِرُونَ دَعْوَاهُ فِي
النَّسَبِ.
قُلْتُ: قَدْ كَتَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَالْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالْقُدُورِيُّ
أَنَّ هَؤُلَاءِ أَدْعِيَاءُ، لَيْسَ لَهُمْ نَسَبٌ صَحِيحٌ فِيمَا يَزْعُمُونَهُ،
وَأَنَّ وَالِدَ عُبَيْدِ اللَّهِ هَذَا كَانَ يَهُودِيًّا صَبَّاغًا
بِسَلَمْيَةَ، وَقِيلَ: كَانَ اسْمُهُ سَعِيدًا، وَإِنَّمَا لُقِّبَ بِعُبَيْدِ
اللَّهِ. وَكَانَ زَوْجُ أُمِّهِ الْحُسَيْنَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحَ، وَسُمِّي الْقَدَّاحَ ; لِأَنَّهُ
كَانَ كَحَّالًا يَقْدَحُ الْعُيُونَ، وَكَانَ الَّذِي وَطَّأَ لَهُ الْأَمْرَ
بِتِلْكَ الْبِلَادِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيُّ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ،
ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ فَلَمَّا قَدِمَ مِنْ بِلَادِ الْمَشْرِقِ وَقَعَ فِي يَدِ
صَاحِبِ سِجِلْمَاسَةَ
فَسَجَنَهُ،
فَلَمْ يَزَلِ الشِّيعِيُّ حَتَّى اسْتَنْقَذَهُ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْأَمْرَ،
ثُمَّ نَدِمَ الشِّيعِيُّ وَهَمَّ بِقَتْلِهِ، فَفَطِنَ عُبَيْدُ اللَّهِ لَهُ
فَقَتَلَهُ وَقَتَلَ مَعَهُ أَخَاهُ. وَيُقَالُ: إِنَّ الشِّيعِيَّ لَمَّا دَخَلَ
السِّجْنَ وَجَدَ صَاحِبَ سِجِلْمَاسَةَ قَدْ قَتَلَهُ، وَوَجَدَ فِي السَّجْنِ
رَجُلًا مَجْهُولًا، فَأَخْرَجَهُ لِلنَّاسِ، وَقَالَ: هَذَا هُوَ الْمَهْدِيُّ،
وَرَوَّجَ بِهِ الْأَمْرَ، فَهَؤُلَاءِ مِنْ سُلَالَتِهِ. حَكَاهُ الْقَاضِي ابْنُ
خَلِّكَانَ
وَكَانَ مَوْلِدُ الْمُهْدِيِّ هَذَا فِي سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقِيلَ:
قَبْلَهَا، وَقِيلَ: بَعْدَهَا. بِسَلَمْيَةَ، وَقِيلَ: بِالْكُوفَةِ. وَأَوَّلُ
مَا دُعِيَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ رَقَّادَةَ وَالْقَيْرَوَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
لِتِسْعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ،
بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ سِجِلْمَاسَةَ وَكَانَ ظُهُورُهُ بِهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ
مِنَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ، وَزَالَتْ دَوْلَةُ بَنِي
الْعَبَّاسِ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ مِنْ هَذَا الْحِينِ إِلَى أَنْ هَلَكَ
الْعَاضِدُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَهْدِيَّةِ - الَّتِي بَنَاهَا فِي أَيَّامِهِ -
لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِلنِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَقَدْ جَاوَزَ السِّتِّينَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ
الْأُمُورِ، وَسَيَفْصِلُ بَيْنَ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ، يَوْمَ الْبَعْثِ
وَالنُّشُورِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ
قَاضِي مِصْرَ، حَدَّثَ
عَنْ
أَبِيهِ بِكُتُبِهِ الْمَشْهُورَةِ، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ عَلَى قَضَاءِ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ
وَقِيلَ: اسْمُهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ. وَيُقَالُ: الْحَسَنُ بْنُ هَمَّامٍ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، أَصْلُهُ مِنْ بَغْدَادَ وَسَكَنَ مِصْرَ، وَكَانَ مِنْ
أَبْنَاءِ الرُّؤَسَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْكَتَبَةِ، وَصَحِبَ الْجُنَيْدَ،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَحَفِظَ مِنْهُ كَثِيرًا، وَتَفَقَّهَ بِإِبْرَاهِيمَ
الْحَرْبِيِّ، وَأَخَذَ النَّحْوَ عَنْ ثَعْلَبٍ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ
وَالْبِرِّ لِلْفُقَرَاءِ، وَكَانَ إِذَا أَعْطَى الْفَقِيرَ شَيْئًا جَعَلَهُ فِي
كَفِّهِ، ثُمَّ يَتَنَاوَلُهُ الْفَقِيرُ، يُرِيدُ أَنْ لَا تَكُونَ يَدُ
الْفَقِيرِ تَحْتَ يَدِهِ.
وَمِنْ
شِعْرِهِ:
وَلَوْ مَضَى الْكُلُّ مِنِّي لَمْ يَكُنْ عَجَبًا وَإِنَّمَا عَجَبِي فِي
الْبَعْضِ كَيْفَ بَقِي أَدْرِكْ بَقِيَّةَ رُوحٍ مَنْكَ قَدْ تَلِفَتْ
قَبْلَ الْفِرَاقِ فَهَذَا آخِرُ الرَّمَقِ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَعْرُوفُ بِخَيْرٍ النَّسَّاجِ أَبُو الْحَسَنِ
الصُّوفِيُّ
مِنْ كِبَارِ الْمَشَايِخِ ذَوِي الْأَحْوَالِ الصَّالِحَةِ وَالْكَرَامَاتِ
الْمَشْهُورَةِ، أَدْرَكَ سَرِيًّا السَّقَطِيَّ وَغَيْرَهُ مِنْ مَشَايِخِ
الْقَوْمِ، وَعَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ
نَظَرَ إِلَى زَاوِيَةِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: قِفْ رَحِمَكَ اللَّهُ، فَإِنَّكَ
عَبْدٌ مَأْمُورٌ، وَأَنَا عَبْدٌ مَأْمُورٌ، وَمَا أُمِرْتَ بِهِ لَا يَفُوتُ،
وَمَا أُمِرْتُ بِهِ يَفُوتُ. ثُمَّ قَامَ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى وَتَمَدَّدَ
فَمَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ:
مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ فَقَالَ: اسْتَرَحْنَا مِنْ دُنْيَاكُمُ الْوَضِرَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا أُحْضِرَ ابْنُ شَنَبُوذَ الْمُقْرِئُ، فَأَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ عَلَيْهِ حُرُوفًا انْفَرَدَ بِهَا، فَاعْتَرَفَ
بِبَعْضِهَا، وَأَنْكَرَ بَعْضَهَا، فَاسْتُتِيبَ مِنْ ذَلِكَ، وَاسْتُكْتِبَ
بِخَطِّهِ بِالرُّجُوعِ عَمَّا نُقِمَ عَلَيْهِ، وَضُرِبَ سَبْعَ دُرَرٍ
بِإِشَارَةِ الْوَزِيرِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ، وَنُفِيَ إِلَى الْبَصْرَةِ
أَوْ غَيْرِهَا، فَدَعَا عَلَى الْوَزِيرِ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ وَيُشَتَّتَ
شَمْلُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ عَمَّا قَرِيبٍ.
وَفِيهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ نَادَى بَدْرٌ الْخَرْشَنِيُّ صَاحِبُ
الشُّرْطَةِ فِي الْجَانِبَيْنِ مِنْ بَغْدَادَ أَنْ لَا يَجْتَمِعُ اثْنَانِ مِنْ
أَصْحَابِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْبَرْبَهَارِيِّ الْوَاعِظِ الْحَنْبَلِيِّ، وَحَبَسَ
مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَاسْتَتَرَ الْبَرْبَهَارِيُّ، فَلَمْ يَظْهَرْ مُدَّةً.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": وَفِي شَهْرِ أَيَّارَ
تَكَاثَفَتِ الْغُيُومُ، وَاشْتَدَّ الْحَرُّ جِدًّا، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ يَوْمٍ
مِنْهُ - وَهُوَ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ - هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ جِدًّا، وَأَظْلَمَتْ وَاسْوَدَّتْ إِلَى
بَعْدِ الْعَصْرِ،
ثُمَّ
خَفَّتْ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى بَعْدِ عَشَاءِ الْآخِرَةِ.
وَفِيهَا اسْتَبْطَأَ الْأَجْنَادُ أَرْزَاقَهُمْ، فَقَصَدُوا دَارَ الْوَزِيرِ
أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ، فَنَقَبُوهَا وَأَخَذُوا مَا فِيهَا.
وَوَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ فِي طَرِيقِ الْبَزَّازِينَ، فَاحْتَرَقَ بِسَبَبِهِ
لِلنَّاسِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، فَعَوَّضَ عَلَيْهِمُ الرَّاضِي بِاللَّهِ بَعْضَ مَا
كَانَ ذَهَبَ لَهُمْ.
وَفِي رَمَضَانَ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى بَيْعَةِ جَعْفَرِ
بْنِ الْمُكْتَفِي وَظَهَرَ الْوَزِيرُ عَلَى أَمْرِهِمْ، فَحَبَسَ جَعْفَرًا،
وَنُهِبَتْ دَارُهُ، وَحَبَسَ جَمَاعَةً مِمَّنْ كَانَ بَايَعَهُ، وَانْطَفَأَتْ
نَارُهُ.
وَخَرَجَ الْحُجَّاجُ فِي خُفَارَةِ الْأَمِيرِ لُؤْلُؤٍ، فَاعْتَرَضَهُمْ أَبُو
طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ - لَعَنَهُ اللَّهُ -
فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ، وَرَجَعَ مَنِ انْهَزَمَ مِنْهُمْ إِلَى بَغْدَادَ
وَبَطَلَ الْحَجُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ طَرِيقِ الْعِرَاقِ، وَكَانَ
قَتْلُهُ لَهُمْ فِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي
الْقَعْدَةِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بِعَيْنِهَا تَسَاقَطَتْ
كَوَاكِبُ كَثِيرَةٌ بِبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ عَلَى صِفَةٍ لَمْ يُرَ مَثْلُهَا
وَلَا مَا يُقَارِبُهَا. قَالَ: وَغَلَا السِّعْرُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، حَتَّى
بِيعَ الْكُرُّ مِنَ الْحِنْطَةِ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا.
وَفِيهَا
عَلَى الصَّحِيحِ كَانَ مَقْتَلُ مَرْدَاوِيجَ بْنِ زِيَّارَ الدَّيْلَمِيِّ،
وَكَانَ قَبَّحَهُ اللَّهُ سَيِّئَ السِّيرَةِ وَالسَّرِيرَةِ، يَزْعُمُ أَنَّ
رُوحَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ حَلَّتْ فِيهِ، وَلَهُ سَرِيرٌ مِنْ ذَهَبٍ
يَجْلِسُ عَلَيْهِ وَالْأَتْرَاكُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُمُ الْجِنُّ
الَّذِينَ سُخِّرُوا لِسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، وَكَانَ يُسِيءُ الْمُعَامَلَةَ
لَهُمْ، وَيَحْتَقِرُهُمْ غَايَةَ الِاحْتِقَارِ، فَمَا زَالَ ذَلِكَ دَأْبُهُ
حَتَّى أَمْكَنَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، فَقَتَلُوهُ فِي حَمَّامٍ، وَكَانَ الَّذِي
مَالَأَ عَلَى قَتْلِهِ غُلَامُهُ بَجْكَمُ التُّرْكِيُّ - جَزَاهُ اللَّهُ عَنِ
الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ خَيْرًا - وَكَانَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ
رَهِينَةً عِنْدَهُ، فَلَمَّا قُتِلَ أُطْلِقَ مِنَ السِّجْنِ وَالْقَيْدِ،
فَذَهَبَ إِلَى أَخِيهِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ
الْأَتْرَاكِ مَعَهُ إِلَى أَخِيهِ، وَالْتَفَّتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مَنَ الْأَتْرَاكِ
عَلَى بَجْكَمَ، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى بَغْدَادَ بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ لَهُ فِي
ذَلِكَ، ثُمَّ صُرِفُوا إِلَى الْبَصْرَةِ فَكَانُوا بِهَا.
وَأَمَّا الدَّيْلَمُ فَإِنَّهُمْ بَعَثُوا إِلَى أَخِي مَرْدَاوِيجَ، وَهُوَ
وُشْمَكِيرُ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ تَلَقَّوْهُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ
حُفَاةً مُشَاةً، فَمَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَذْهَبَ مُلْكُهُمْ،
فَانْتُدِبَ لِمُحَارَبَتِهِ السَّعِيدُ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ
نَائِبُ خُرَاسَانَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ،
فَانْتَزَعَ مِنْهُ بُلْدَانًا هَائِلَةً.
وَفِيهَا بَعَثَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ الْفَاطِمِيُّ جَيْشًا مِنْ
إِفْرِيقِيَّةَ فِي الْبَحْرِ إِلَى نَاحِيَةِ الْفِرِنْجِ، فَافْتَتَحُوا
مَدِينَةَ جَنَوَةَ وَغَنِمُوا غَنَائِمَ كَثِيرَةً وَثَرْوَةً، وَرَجَعُوا
سَالِمِينَ غَانِمِينَ.
وَفِيهَا بَعَثَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ أَخَاهُ رُكْنَ الدَّوْلَةِ
إِلَى أَصْبَهَانَ فَاسْتَوْلَى
عَلَيْهَا
وَعَلَى بِلَادِ الْجَبَلِ، وَاتَّسَعَتْ مَمْلَكَةُ عِمَادِ الدَّوْلَةِ،
وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَعَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُ.
وَفِيهَا كَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِخُرَاسَانَ، وَفِنَاءٌ كَثِيرٌ، بِحَيْثُ كَانَ
يَهُمُّهُمْ أَمْرُ دَفْنِ الْمَوْتَى.
وَفِيهَا قَتَلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ نَائِبُ الْمَوْصِلِ عَمَّهُ أَبَا الْعَلَاءِ سَعِيدَ
بْنَ حَمْدَانَ ; لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنْهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ وَزِيرَهُ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُقْلَةَ فِي جُيُوشٍ، فَهَرَبَ مِنْهُ
نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا طَالَ مُقَامُ ابْنِ مُقْلَةَ بِالْمَوْصِلِ رَجَعَ
إِلَى بَغْدَادَ فَاسْتَقَرَّتْ يَدُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ عَلَى الْمَوْصِلِ
وَبَعَثَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَسْأَلُ أَنْ يَضْمَنَ تِلْكَ النَّاحِيَةَ،
فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَى مَا كَانَ.
وَخَرَجَ الْحَجِيجُ، فَلَقِيَهُمُ الْقُرْمُطَيْ فِي الْقَادِسِيَّةِ
فَقَاتَلُوهُ، فَظَفِرَ بِهِمْ، فَسَأَلُوهُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ عَلَى أَنْ
يَرْجِعُوا إِلَى بَغْدَادَ فَرَجَعُوا، وَتَعَطَّلَ عَلَيْهِمُ الْحَجُّ
عَامَهُمْ ذَلِكَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
نِفْطَوَيْهِ النَّحْوِيُّ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ بْنِ
سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي
صُفْرَةَ الْأَزْدِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَتَكِيُّ الْمَعْرُوفُ
بِنِفْطَوَيْهِ
النَّحْوِيِّ، لَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَرَوَى عَنِ
الْمَشَايِخِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ الثِّقَاتُ مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ صَدُوقًا،
وَلَهُ أَشْعَارٌ حَسَنَةٌ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ نِفْطَوَيْهِ أَنَّهُ مَرَّ يَوْمًا عَلَى بَقَّالٍ،
فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى دَرْبِ الرَّءَّاسِينَ
- يَعْنِي دَرْبَ الرَّوَّاسِينَ - فَالْتَفَتَ الْبَقَّالُ إِلَى جَارِهِ،
فَقَالَ لَهُ: قَبَّحَ اللَّهُ غُلَامِي، أَبْطَأَ عَلَيَّ بِالسِّلْقِ، وَلَوْ
كَانَ عِنْدِي لَصَفَعْتُ هَذَا بِجُرْزَةٍ مِنْهُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ
نِفْطَوَيْهِ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ.
تُوُفِّيَ نِفْطَوَيْهِ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَلَاثٍ
وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْبَرْبَهَارِيُّ رَئِيسُ
الْحَنَابِلَةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الْكُوفَةِ.
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ لَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْقَالِي فِي " الْأَمَالِي ":
قَلْبِي أَرَقُّ عَلَيْهِ مِنْ خَدَّيْكَا وَقُوَايَ أَوْهَى مِنْ قُوَى
جَفْنَيْكَا لِمَ لَا تَرِقُّ لِمَنْ يُعَذِّبُ نَفْسَهُ
ظُلْمًا وَيَعْطِفُهُ هَوَاهُ عَلَيْكَا
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وُفِي نِفْطَوَيْهِ يَقُولُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْوَاسِطِيُّ،
الْمُتَكَلِّمُ الْمَشْهُورُ، صَاحِبُ " الْإِمَامَةِ " وَ "
إِعْجَازِ الْقُرْآنِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ:
مَنْ
سَرَّهُ أَنْ لَا يَرَى فَاسِقًا فَلْيَجْتَهِدْ أَنْ لَا يَرَى نِفْطَوَيْهْ
أَحْرَقَهُ اللَّهُ بِنِصْفِ اسْمِهِ وَصَيَّرَ الْبَاقِي صُرَاخًا عَلَيْهْ
قَالَ الثَّعَالِبِيُّ: إِنَّمَا سُمِّيَ نِفْطَوَيْهِ لِدَمَامَتِهِ
وَأُدْمَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: لَا يُعْرَفُ مَنِ اسْمُهُ
إِبْرَاهِيمُ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سِوَاهُ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ، أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ
حَدَّثَ عَنْ سَيَّارِ بْنِ نَصْرٍ الْحَلَبِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ ثِقَةً فَاضِلًا فَقِيهًا شَافِعِيًّا.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَدِيٍّ، أَبُو نُعَيْمٍ
الْإِسْتِرَابَاذِيُّ
الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا، تُوُفِّيَ عَنْ ثَلَاثٍ
وَثَمَانِينَ سَنَةً.
عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو الْحَسَنِ
الْبَلْخِيُّ
كَانَ مِنَ الْجَوَّالِينَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا،
سَمِعَ أَبَا حَاتِمٍ الرَّازِيَّ وَغَيْرَهُ، وَعَنْهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ
وَغَيْرُهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَسَدٍ، أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْبُسْتُنْبَانِ، سَمِعَ الزُّبَيْرَ بْنَ بِكَارٍ
وَغَيْرَهُ، وَعَنْهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ. جَاوَزَ الثَّمَانِينَ
سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا جَاءَتِ الْجُنْدُ، فَأَحْدَقُوا بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَقَالُوا:
لِيَخْرُجْ إِلَيْنَا الْخَلِيفَةُ الرَّاضِي بِنَفْسِهِ فَيُصَلِّ بِالنَّاسِ.
فَخَرَجَ فَصَلَّى بِهِمْ وَخَطَبَهُمْ، وَقَبَضَ الْغِلْمَانُ عَلَى الْوَزِيرِ
أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ، وَسَأَلُوا مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يَسْتَوْزِرَ
غَيْرَهُ، فَرَدَّ الْخِيَرَةَ إِلَيْهِمْ، فَاخْتَارُوا عَلِيَّ بْنَ عِيسَى،
فَلَمْ يَقْبَلْ، وَأَشَارَ بِأَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عِيسَى
فَاسْتَوْزَرَهُ، وَأُحْرِقَتْ دَارُ ابْنِ مُقْلَةَ، وَسُلِّمَ هُوَ إِلَى عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عِيسَى، فَضُرِبَ ضَرْبًا عَنِيفًا، وَأُخِذَ خَطُّهُ بِأَلْفِ
أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ عَجَزَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عِيسَى، فَعُزِلَ بَعْدَ
خَمْسِينَ يَوْمًا، وَقُلِّدَ الْوِزَارَةَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
الْقَاسِمِ الْكَرْخِيُّ، فَصَادَرَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى بِمِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَصَادَرَ أَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عِيسَى بِسَبْعِينَ أَلْفِ
دِينَارٍ، ثُمَّ عُزِلَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ، وَقُلِّدَ
سُلَيْمَانُ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ عُزِلَ بِأَبِي الْفَتْحِ الْفَضْلِ بْنِ
جَعْفَرِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَلَكِنْ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَأُحْرِقَتْ
دَارُهُ كَمَا أُحْرِقَتْ دَارُ ابْنِ مُقْلَةَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أُحْرِقَتْ
تِلْكَ فِيهِ، بَيْنَهُمَا سَنَةٌ وَاحِدَةٌ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ تَخْبِيطِ
الْأَتْرَاكِ وَالْغِلْمَانِ. وَلَمَّا أُحْرِقَتْ دَارُ ابْنِ مُقْلَةَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى بَعْضِ جُدْرَانِهَا:
أَحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالْأَيَّامِ إِذْ حَسُنَتْ وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي
بِهِ الْقَدَرُ
وَسَالَمَتْكَ
اللَّيَالِي فَاغْتَرَرْتَ بِهَا
وَعِنْدَ صَفْوِ اللَّيَالِي يَحْدُثُ الْكَدَرُ
وَضَعُفَ أَمْرُ الْخِلَافَةِ جِدًّا، وَبَعَثَ الرَّاضِي إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ
رَائِقٍ - وَكَانَ بِوَاسِطٍ - يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ ; لِيُوَلِّيَهُ إِمْرَةَ
الْأُمَرَاءِ بِبَغْدَادَ، وَأَمْرَ الْخَرَاجِ وَالْمُعَاوِنِ فِي جَمِيعِ
الْبِلَادِ وَالدَّوَاوِينِ، وَأَمَرَ أَنْ يُخْطَبَ لَهُ عَلَى جَمِيعِ
الْمَنَابِرِ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ، فَقَدِمَ ابْنُ رَائِقٍ إِلَى
بَغْدَادَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَمَعَهُ الْأَمِيرُ بَجْكَمُ التُّرْكِيُّ
غُلَامُ مَرْدَاوِيجَ، وَهُوَ الَّذِي سَاعَدَ عَلَى قَتْلِهِ وَأَرَاحَ
الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ، وَاسْتَحْوَذَ ابْنُ رَائِقٍ عَلَى أَمْرِ الْعِرَاقِ
بِكَمَالِهِ، وَنَقَلَ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى دَارِهِ، وَلَمْ يَبْقَ
لِلْوَزِيرِ تَصَرُّفٌ فِي شَيْءٍ بِالْكُلِّيَّةِ، وَوَهَى أَمْرُ الْخِلَافَةِ
جِدًّا، وَاسْتَقَلَّ نُوَّابُ الْأَطْرَافِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا، وَلَمْ يَبْقَ
لِلْخَلِيفَةِ حَكْمٌ فِي غَيْرِ بَغْدَادَ وَمُعَامَلَاتِهَا، وَمَعَ هَذَا
لَيْسَ لَهُ مَعَ ابْنِ رَائِقٍ نُفُوذٌ فِي شَيْءٍ، وَلَا كَلِمَةٌ تُطَاعُ،
وَإِنَّمَا يَحْمِلُ إِلَيْهِ ابْنُ رَائِقٍ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالنَّفَقَاتِ وَغَيْرِهَا، وَهَكَذَا صَارَ أَمْرُ مَنْ جَاءَ
بَعْدَهُ مِنْ أُمَرَاءِ الْأُمَرَاءِ. وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْأَطْرَافِ،
فَالْبَصْرَةُ مَعَ ابْنِ رَائِقٍ هَذَا، وَأَمْرُ خُوزِسْتَانَ فِي يَدَيْ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، وَقَدْ غَلَبَ يَاقُوتُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى
مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنْ مَمْلَكَةِ تُسْتَرَ وَغَيْرِهَا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى
حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ، وَأَمْرُ فَارِسَ إِلَى عِمَادِ الدَّوْلَةِ أَبِي
الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ بُوَيْهِ، وَالرَّيُّ وَأَصْبَهَانُ وَالْجَبَلُ بِيَدِ
أَخِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ ابْنِ بُوَيْهِ، وَمُنَازِعُهُ فِي ذَلِكَ وُشْمَكِيرُ
أَخُو مَرْدَاوِيجَ، وَكَرْمَانُ بِيَدِ أَبِي عَلِيٍّ مُحَمَّدِ بْنِ إِلْيَاسَ
بْنِ الْيَسَعَ، وَبِلَادُ الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةُ وَدِيَارُ بَكْرٍ وَمُضَرُ
وَرَبِيعَةُ مَعَ بَنِي حَمْدَانَ، وَمِصْرُ وَالشَّامُ فِي يَدِ مُحَمَّدِ بْنِ
طُغْجٍ، وَبِلَادُ إِفْرِيقِيَّةَ وَالْمَغْرِبُ فِي يَدِ
الْقَائِمِ
بِأَمْرِ اللَّهِ بْنِ الْمَهْدِيِّ الْمُدَّعِي أَنَّهُ فَاطِمِيٌّ، وَقَدْ
تَلَقَّبَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْأَنْدَلُسُ فِي يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ مُحَمَّدٍ، الْمُلَقَّبِ بِالنَّاصِرِ الْأُمَوِيِّ، وَخُرَاسَانُ وَمَا
وَرَاءَ النَّهْرِ فِي يَدِ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ، وَطَبَرِسْتَانُ
وَجُرْجَانُ فِي يَدِ الدَّيْلَمِ، وَالْبَحْرَيْنِ وَالْيَمَامَةُ وَهَجَرُ فِي
يَدِ أَبِي طَاهِرٍ سُلَيْمَانِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ
الْقِرْمِطِيِّ، لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا وَقَعَ بِبَغْدَادَ غَلَاءٌ عَظِيمٌ وَفَنَاءٌ كَثِيرٌ، بِحَيْثُ عُدِمَ
الْخُبْزُ مِنْهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَمَاتَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ، وَأَكْثَرُ ذَلِكَ كَانَ فِي الضُّعَفَاءِ، وَكَانَ الْمَوْتَى
يُلْقَوْنَ فِي الطُّرُقَاتِ لَيْسَ لَهُمْ مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِهِمْ، وَيُحْمَلُ
عَلَى الْجِنَازَةِ الْوَاحِدَةِ الِاثْنَانُ مِنَ الْمَوْتَى، وَرُبَّمَا يُوضَعُ
بَيْنَهُمْ صَبِيٌّ، وَرُبَّمَا حُفِرَتِ الْحُفْرَةُ الْوَاحِدَةُ فَتُوَسَّعُ
حَتَّى يُوضَعَ فِيهَا جَمَاعَةٌ، وَمَاتَ مِنْ أَصْبَهَانَ نَحْوُ مِائَتَيْ
أَلْفِ إِنْسَانٍ.
وَوَقَعَ فِيهَا حَرِيقٌ بِعُمَانَ احْتَرَقَ فِيهِ مِنَ السُّودَانِ أَلْفٌ،
وَمِنَ الْبِيضَانِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا احْتَرَقَ فِيهِ
أَرْبَعُمِائَةِ حِمْلِ كَافُورٍ.
وَعَزَلَ الْخَلِيفَةُ أَحْمَدَ بْنَ كَيْغَلَغَ عَنْ نِيَابَةِ الشَّامِ
وَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى ابْنِ طُغْجٍ نَائِبِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَفِيهَا وُلِدَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ أَبُو شُجَاعٍ فَنَّاخُسْرُو بْنُ رُكْنِ
الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ بأَصْبَهَانَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
ابْنُ مُجَاهِدٍ الْمُقْرِئُ
أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُجَاهِدٍ
الْمُقْرِئُ،
أَحَدُ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ. حَدَّثَ عَنْ خَلْقٍ كَثِيرٍ، وَرَوَى
عَنْهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا، سَكَنَ
الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ مَنْ بَغْدَادَ وَكَانَ ثَعْلَبٌ يَقُولُ: مَا بَقِيَ فِي
عَصْرِنَا أَحَدٌ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنْهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ، وَأُخْرِجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَقْرَأُ،
فَقَالَ لَهُ: أَمَا مُتَّ ؟ فَقَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ كُنْتُ أَدْعُو اللَّهَ
عَقِبَ كُلِّ خَتْمَةٍ أَنْ أَكُونَ مِمَّنْ يَقْرَأُ فِي قَبْرِهِ، فَأَنَا
مِمَّنْ يَقْرَأُ فِي قَبْرِهِ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
جَحْظَةُ، الشَّاعِرُ الْبَرْمَكِيُّ
أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُوسَى بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ
الْبَرْمَكِيُّ، أَبُو الْحَسَنِ النَّدِيمُ الْمَعْرُوفُ بِجَحْظَةَ، الشَّاعِرُ
الْمَاهِرُ الْأَدِيبُ الْأَخْبَارِيُّ، ذُو الْفُنُونِ فِي الْعُلُومِ
وَالنَّوَادِرِ الْحَاضِرَةِ، وَكَانَ جَيِّدَ الْغِنَاءِ، وَمِنْ شِعْرِهِ:
قَدْ نَادَتِ الدُّنْيَا عَلَى نَفْسِهَا لَوْ كَانَ فِي الْعَالَمِ مَنْ يَسْمَعُ
كَمْ وَاثِقٍ فِي الْعُمْرِ وَارَيْتُهُ
وَجَامِعٍ بَدَّدْتُ مَا يَجْمَعُ
وَكَتَبَ لَهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ رُقْعَةً عَلَى صَيْرَفِيٍّ بِمَالٍ أَطْلَقَهُ
لَهُ، فَلَمْ يَتَحَصَّلْ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ قَبَضُهَا،
فَكَتَبَ إِلَى الْمَلِكِ يَذْكُرُ لَهُ صُورَةَ الْحَالِ:
إِذَا
كَانَتْ صِلَاتُكُمْ رِقَاعًا تُخَطَّطُ بِالْأَنَامِلِ وَالْأَكُفِّ
وَلَمْ تُجْدِ الرُّقَاعُ عَلَيَّ نَفْعًا فَهَا خَطِّي خُذُوهُ بِأَلْفِ أَلْفِ
وَمِنْ شَعْرِهِ يَهْجُو صَدِيقًا لَهُ، وَيَذُمُّهُ عَلَى شِدَّةِ بُخْلِهِ
وَحِرْصِهِ:
لَنَا صَاحِبٌ مِنْ أَبْرَعِ النَّاسِ فِي الْبُخْلِ وَأَفْضَلِهِمْ فِيهِ
وَلَيْسَ بِذِي فَضْلِ
دَعَانِي كَمَا يَدْعُو الصَّدِيقُ صَدِيقَهُ فَجِئْتُ كَمَا يَأْتِي إِلَى
مِثْلِهِ مِثْلِي
فَلَمَّا جَلَسْنَا لِلْغَدَاءِ رَأَيْتُهُ يَرَى أَنَّمَا مِنْ بَعْضِ
أَعْضَائِهِ أَكْلِي
وَيَغْتَاظُ أَحْيَانًا وَيَشْتِمُ عَبْدَهُ وَأَعْلَمُ أَنَّ الْغَيْظَ
وَالشَّتْمَ مِنْ أَجْلِي
أَمُدُّ يَدِي سِرًّا لِآكُلَ لُقْمَةً فَيَلْحَظُنِي شَزْرًا فَأَعْبَثُ
بِالْبَقْلِ
إِلَى أَنْ جَنَتْ كَفِّي لِحِينِي جِنَايَةً وَذَلِكَ أَنَّ الْجُوعَ أَعْدَمَنِي
عَقْلِي
فَأَهْوَتْ يَمِينِي نَحْوَ رِجْلِ دَجَاجَةٍ فَجُرَّتْ كَمَا جَرَّتْ يَدِي
رِجْلَهَا رِجْلِي
وَمِنْ قَوِيِّ شِعْرِهِ وَجِيدِهِ قَوْلُهُ:
رَحَلْتُمْ فَكَمْ مِنْ أَنَّةٍ بَعْدَ حَنَّةٍ مُبَيِّنَةٍ لِلنَّاسِ حُزْنِي
عَلَيْكُمُ
وَقَدْ كُنْتُ أَعْتَقْتُ الْجُفُونَ مِنَ الْبُكَا فَقَدْ رَدَّهَا فِي الرِّقِّ
شَوْقِي إِلَيْكُمُ
وَمِمَّا أَوْرَدَهُ لَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ مِنَ الشَّعْرِ الرَّائِقِ
قَوْلُهُ:
فَقُلْتُ لَهَا بَخِلْتِ عَلَيَّ يَقْظَى فَجُودِي فِي الْمَنَامِ لِمُسْتَهَامِ
فَقَالَتْ
لِي وَصِرْتَ تَنَامُ أَيْضًا وَتَطْمَعُ أَنْ أَزُورَكَ فِي الْمَنَامِ
قَالَ: وَإِنَّمَا لَقَّبَهُ بِجَحْظَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ.
وَذَلِكَ لِسُوءِ مَنْظَرِهِ، كَمَا قَالَ فِيهِ بَعْضُ مَنْ هَجَاهُ:
نُبِّئْتُ جَحْظَةَ يَسْتَعِيرُ جُحُوظَهُ مِنْ فِيلِ شِطْرَنْجَ وَمِنْ سَرَطَانِ
وَارَحْمَتَا لِمُنَادِمِيهِ تَحَمَّلُوا أَلَمَ الْعُيُونِ لِلَذَّةِ الْآذَانِ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَعِشْرِينَ.
وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، بِوَاسِطٍ، وَحُمِلَ
إِلَى بَغْدَادَ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ.
ابْنُ الْمُغَلِّسِ الْفَقِيهُ الظَّاهِرِيُّ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغَلِّسِ أَبُو الْحَسَنِ،
الْفَقِيهُ الظَّاهِرِيُّ، الْمَشْهُورُ، لَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْمُفِيدَةُ فِي
مَذْهَبِهِ، أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ دَاوُدَ، وَرَوَى عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَعَلِيِّ بْنِ دَاوُدَ
الْقَنْطَرِيِّ، وَأَبِي قِلَابَةَ الرَّقَاشِيِّ، وَآخَرِينَ. وَكَانَ فَقِيهًا
ثِقَةً فَاضِلًا، وَهُوَ الَّذِي نَشَرَ عِلْمَ دَاوُدَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ.
تُوفِّيَ بِالسَّكْتَةِ.
أَبُو
بَكْرِ بْنُ زِيَادٍ النَّيْسَابُورِيُّ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادِ بْنِ وَاصِلِ بْنِ مَيْمُونٍ أَبُو
بَكْرٍ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ، مَوْلَى أَبَانِ بْنِ
عُثْمَانَ، رَحَلَ إِلَى الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ، وَسَكَنَ بَغْدَادَ
وَحَدَّثَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ وَعَبَّاسٍ الدُّورِيِّ،
وَخَلْقٍ، وَعَنْهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ.
قَالَ الدَّرَاقُطْنِيُّ: لَمْ نَرَ فِي مَشَايِخِنَا أَحْفَظَ مِنْهُ
لِلْأَسَانِيدِ وَالْمُتُونِ، وَكَانَ أَفْقَهَ الْمَشَايِخِ، جَالَسَ
الْمُزَنِيَّ وَالرَّبِيعَ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ: كُنَّا نَحْضُرُ مَجْلِسَ ابْنِ
زِيَادٍ، وَكَانَ يُحْزَرُ مَنْ يَحْضُرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْمَحَابِرِ
ثَلَاثِينَ أَلْفًا.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْمَالِينِيُّ، أَنَا يُوسُفُ بْنُ
عُمَرَ بْنِ مَسْرُورٍ، سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنِ زِيَادٍ النَّيْسَابُورِيَّ،
يَقُولُ: أَعْرِفُ مَنْ قَامَ اللَّيْلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، لَمْ يَنَمْ إِلَّا
جَاثِيًا، وَيَتَقَوَّتْ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ حَبَّاتٍ، وَيُصَلِّي صَلَاةَ
الْغَدَاةِ بِطَهَارَةِ الْعِشَاءِ. ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا هُوَ، هَذَا كُلُّهُ
قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ أُمَّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَيْشِ أَقُولُ لِمَنْ زَوَّجَنِي
! ثُمَّ قَالَ فِي إِثْرِ هَذَا: مَا أَرَادَ إِلَّا الْخَيْرَ. تُوُفِّيَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
عَفَّانُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَيُّوبَ أَبُو الْحَسَنِ
التَّاجِرُ، أَقَامَ بِمِصْرَ، وَأَوْقَفَ بِهَا
أَوْقَافًا
دَارَّةً عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَعَلَى سُلَالَةِ الْعَشَرَةِ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ. وَكَانَ تَاجِرًا مُوَسَّعًا عَلَيْهِ، مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ عِنْدَ
الْحُكَّامِ، تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ
عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي بِشْرٍ إِسْحَاقُ بْنُ سَالِمِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُوسَى بْنِ بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيِّ، قِدَمَ بَغْدَادَ وَأَخَذَ الْحَدِيثَ
عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى السَّاجِيِّ، وَتَفَقَّهَ بِابْنِ سُرَيْجٍ. وَقَدْ
ذَكَرْنَا تَرَجَمَتَهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ".
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " أَنَّهُ
كَانَ يَجْلِسُ فِي حَلْقَةِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَقَدْ
كَانَ مُعْتَزِلِيًّا قَبْلَ ذَلِكَ، فَتَابَ مِنْهُ بِالْبَصْرَةِ فَوْقَ
الْمِنْبَرِ، ثُمَّ أَظْهَرَ فَضَائِحَهُمْ وَقَبَائِحَهُمْ، وَذُكِرَ لَهُ مِنَ
التَّصَانِيفِ " الْمُوجَزُ " وَغَيْرُهُ. وَحَكَى عَنِ ابْنِ حَزْمٍ
أَنَّهُ صَنَّفَ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ تَصْنِيفًا، وَذَكَرَ أَنَّ مُغَلَّهُ فِي
كُلِّ سَنَةٍ كَانَ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَكْثَرِ
النَّاسِ دُعَابَةً، وَأَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقِيلَ:
سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي
سَنَةِ ثَلَاثِينَ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ بِضْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو ذَرٍّ التَّمِيمِيُّ
كَانَ رَئِيسَ جُرْجَانَ
سَمِعَ
الْكَثِيرَ، وَتَفَقَّهَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَتْ دَارُهُ مَجْمَعَ
الْعُلَمَاءِ، وَلَهُ إِفْضَالٌ كَثِيرٌ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ
زَمَانِهِ. هَارُونُ بْنُ الْمُقْتَدِرِ
أَخُو الْخَلِيفَةِ الرَّاضِي، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا،
فَحَزِنَ عَلَيْهِ أَخُوهُ الرَّاضِي، وَأَمَرَ بِنَفْيِ بَخْتَيْشُوعَ بْنِ
يَحْيَى الْمُتَطَبِّبَ إِلَى الْأَنْبَارِ ; لِأَنَّهُ اتُّهِمَ فِي عِلَاجِهِ،
ثُمَّ شَفَعَتْ فِيهِ أُمُّ الرَّاضِي، فَرَدَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا خَرَجَ الْخَلِيفَةُ الرَّاضِي وَأَمِيرُ الْأُمَرَاءِ
مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ مِنْ بَغْدَادَ قَاصِدِينَ وَاسِطًا ; لِقِتَالِ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ نَائِبِ الْأَهْوَازِ، الَّذِي قَدْ تَجَبَّرَ
بِهَا، وَمَنَعَ الْخَرَاجَ، فَلَمَّا سَارَ ابْنُ رَائِقٍ إِلَى وَاسِطٍ خَرَجَ
عَلَيْهِ الْحُجَرِيَّةُ وَقَاتَلُوهُ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ بَجْكَمَ
فَطَحَنَهُمْ، وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى بَغْدَادَ فَتَلَقَّاهُمْ لُؤْلُؤُ
أَمِيرُ الشُّرْطَةِ، فَاحْتَاطَ عَلَى أَكْثَرِهِمْ، وَنُهِبَتْ دَوْرُهُمْ،
وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ رَأْسٌ يَرْتَفِعُ، وَقُطِعَتْ أَرْزَاقُهُمْ مِنْ بَيْتِ
الْمَالِ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ وَابْنُ رَائِقٍ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ
يَتَهَدَّدَانِهِ، فَأَجَابَ إِلَى حَمْلِ كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ
وَسِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ، يَقُومُ بِحَمْلِ كُلِّ شَهْرٍ عَلَى حِدَتِهِ،
وَإِلَى أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا إِلَى قِتَالِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ،
فَلَمَّا رَجَعَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بَغْدَادَ لَمْ يَحْمِلْ شَيْئًا، وَلَمْ
يَبْعَثْ أَحَدًا، ثُمَّ بَعَثَ ابْنُ رَائِقٍ بَجْكَمَ وَبَدْرًا الْخَرْشَنِيَّ
لِقِتَالِ الْبَرِيدِيِّ، فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ وَخُطُوبٌ، وَأُمُورٌ
يَطُولُ ذِكْرُهَا. ثُمَّ لَجَأَ الْبَرِيدِيُّ إِلَى عِمَادِ الدَّوْلَةِ
وَاسْتَجَارَ بِهِ، وَاسْتَحْوَذَ بَجْكَمُ عَلَى بِلَادِ الْأَهْوَازِ، وَجَعَلَ
إِلَيْهِ ابْنُ رَائِقٍ خَرَاجَهَا، وَكَانَ بَجْكَمُ هَذَا شُجَاعًا فَاتِكًا.
وَفِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ خَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى بَجْكَمَ، وَعَقَدَ لَهُ
الْإِمَارَةَ بِبَغْدَادَ، وَوَلَّاهُ نِيَابَةَ الْمَشْرِقِ إِلَى خُرَاسَانَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو حَامِدِ بْنُ الشَّرْقِيِّ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، أَبُو
حَامِدِ بْنُ الشَّرْقِيِّ
مُوَلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ حَافِظًا، كَبِيرَ
الْقَدْرِ، كَثِيرَ الْحِفْظِ، كَثِيرَ الْحَجِّ، رَحَلَ إِلَى الْأَمْصَارِ،
وَجَابَ الْأَقْطَارَ، وَسَمِعَ مِنَ الْكِبَارِ. نَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ
خُزَيْمَةَ يَوْمًا فَقَالَ: حَيَاةُ أَبِي حَامِدٍ تَحْجُزُ بَيْنَ النَّاسِ
وَبَيْنَ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْخَزَّازُ
النَّحْوِيُّ
حَدَّثَ عَنِ الْمُبَرِّدِ وَثَعْلَبٍ، وَكَانَ ثِقَةً، لَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي
عُلُومِ الْقُرْآنِ غَزِيرَةُ الْفَوَائِدِ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى، أَبُو الطِّيبِ النَّحْوِيُّ
ابْنُ الْوَشَّاءِ، لَهُ مُصَنَّفَاتٌ مَلِيحَةٌ فِي الْأَخْبَارِ، وَقَدْ حَدَّثَ
عَنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ وَالْمُبَرِّدِ وَثَعْلَبٍ وَغَيْرِهِمْ.
مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ هَارُونَ أَبُو بَكْرٍ الْعَسْكَرِيُّ
الْفَقِيهُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي ثَوْرٍ، رَوَى عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ
وَعَبَّاسٍ الدُّورِيِّ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ والْآجُرِّيُّ وَغَيْرُهُمَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ مَلِكِ الرُّومِ إِلَى الْخَلِيفَةِ الرَّاضِي
مَكْتُوبٌ بِالرُّومِيَّةِ وَالتَّفْسِيرُ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَأَمَّا الرُّومِيُّ
فَبِالذَّهَبِ وَالْعَرَبِيُّ بِالْفِضَّةِ، وَحَاصِلُهُ طَلَبُ الْهُدْنَةِ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَوَجَّهَ مَعَ الْكِتَابِ بِهَدَايَا وَأَلْطَافٍ كَثِيرَةٍ
فَاخِرَةٍ، فَأَجَابَهُ الْخَلِيفَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَفُودِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
سِتَّةُ آلَافِ أَسِيرٍ، مَا بَيْنَ ذِكَرٍ وَأُنْثَى عَلَى نَهْرِ
الْبَدَنْدُونِ.
وَفِيهَا ارْتَحَلَ الْوَزِيرُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ الْفُرَاتِ مِنْ بَغْدَادَ
إِلَى الشَّامِ وَتَرَكَ الْوِزَارَةَ، فَوَلِيَهَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ،
وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ ضَعِيفَةً جِدًّا، لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَعَ
ابْنِ رَائِقٍ وَطَلَبَ مِنَ ابْنِ رَائِقٍ أَنْ يَفْرُغَ لَهُ عَنْ أَمْلَاكِهِ،
فَجَعَلَ يُمَاطِلُهُ، فَكَتَبَ إِلَى بَجْكَمَ يُطْمِعُهُ فِي بَغْدَادَ وَأَنْ
يَكُونَ عِوَضًا عَنِ ابْنِ رَائِقٍ، وَكَتَبَ ابْنُ مُقْلَةَ أَيْضًا إِلَى
الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ ابْنَ رَائِقٍ وَابْنَ
مُقَاتِلٍ، وَيَضْمَنَهُمْ بِأَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ
رَائِقٍ، فَأَخَذَهُ، فَقَطَعَ يَدَهُ، وَقَالَ: هَذَا أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ،
ثُمَّ جَعَلَ يُحَسِنُ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يَسْتَوْزِرَهُ، وَأَنَّ قَطْعَ يَدِهِ
لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْكِتَابَةِ، وَأَنَّهُ يَشُدُّ الْقَلَمَ عَلَى يَدِهِ
الْيُمْنَى الْمَقْطُوعَةِ
فَيَكْتُبُ
بِهَا. ثُمَّ بَلَغَ ابْنَ رَائِقٍ أَنَّهُ قَدْ كَتَبَ إِلَى بَجْكَمَ بِمَا
تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ فَقَطَعَ لِسَانَهُ،
وَسَجَنَهُ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَنْ يَخْدُمُهُ، فَكَانَ
يَسْتَقِي الْمَاءَ بِنَفْسِهِ ; يَتَنَاوَلُ الْحَبْلَ مِنَ الْبِئْرِ بِيَدِهِ
الْيُسْرَى، ثُمَّ يُمْسِكُهُ بِفِيهِ، وَلَقِيَ شِدَّةً وَعَنَاءً، وَمَاتَ فِي
مَحْبِسِهِ هَذَا وَحِيدًا، فَدُفِنَ هُنَاكَ، ثُمَّ سَأَلَ أَهْلَهُ نَقْلَهُ
فَدُفِنَ فِي دَارِهِ، ثُمَّ نُقِلَ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَاتَّفَقَ لَهُ
أَشْيَاءُ غَرِيبَةٌ ; مِنْهَا أَنَّهُ وَزَرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَعُزِلَ ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ، وَوَلِيَ لِثَلَاثَةٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَدُفِنَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ،
وَسَافَرَ فِي عُمْرِهِ ثَلَاثَ سَفْرَاتٍ ; مَرَّتَيْنِ مَنْفِيًّا، وَمَرَّةً
فِي وِزَارَتِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِيهَا دَخَلَ بَجْكَمُ بَغْدَادَ فَقَلَّدَهُ الرَّاضِي إِمْرَةَ الْأُمَرَاءِ
مَكَانَ ابْنِ رَائِقٍ، وَقَدْ كَانَ بَجْكَمُ هَذَا مِنْ غِلْمَانِ أَبِي عَلِيٍّ
الْعَارِضِ وَزِيرِ مَاكَانَ بْنِ كَالِي الدَّيْلَمِيِّ، فَاسْتَوْهَبَهُ مَا
كَانُ مِنَ الْوَزِيرِ، فَوَهَبَهُ لَهُ، ثُمَّ فَارَقَ مَا كَانَ، وَلَحِقَ
بِمَرْدَاوِيجَ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَتَلَهُ فِي الْحَمَّامِ، كَمَا
تَقَدَّمَ.
وَسَكَنَ بَجْكَمُ بِدَارِ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ وَعَظُمَ أَمَرُهُ جِدًّا،
وَانْفَصَلَ ابْنُ رَائِقٍ وَكَانَتْ أَيَّامُهُ سَنَةً وَعَشْرَةَ أَشْهُرٍ
وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَفِيهَا بَعَثَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ أَخَاهُ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ،
فَأَخَذَ بِلَادَ الْأَهْوَازِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ،
وَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ بَجْكَمَ، وَأَعَادَهَا إِلَيْهِ.
وَفِيهَا اسْتَوْلَى لَشْكَرَى أَحَدُ أُمَرَاءِ وُشْمَكِيرَ الدَّيْلَمَيِّ عَلَى
بِلَادِ
أَذْرَبِيجَانَ
وَانْتَزَعَهَا مِنْ رُسْتُمَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْكُرْدِيِّ، أَحَدِ أَصْحَابِ
ابْنِ أَبِي السَّاجِ، بَعْدَ قِتَالٍ طَوِيلٍ.
وَفِيهَا اضْطَرَبَ أَمْرُ الْقَرَامِطَةِ جِدًّا، وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا،
وَانْكَفُّوا بِسَبَبِ قِلَّتِهِمْ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ،
وَلَزِمُوا بَلَدَهُمْ هَجَرَ لَا يَرُومُونَ مِنْهُ انْتِقَالًا إِلَى غَيْرِهِ.
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْأَنْدَلُسِيُّ
كَانَ أَبُوهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ
أَدْخَلَ فِقْهَ مَالِكٍ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ
بِهَا فَلَمْ يَقْبَلْ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا خَرَجَ الرَّاضِي بِاللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ
بَغْدَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ لِمُحَارَبَةِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ الْحَسَنِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ نَائِبِهَا، وَبَيْنَ يَدَيْهِ بَجْكَمُ أَمِيرُ
الْأُمَرَاءِ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحُسَيْنِ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
يُوسُفَ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَادَ وَلَدَهُ الْقَاضِي أَبَا نَصْرٍ
يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ، عَنْ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ لَهُ بِذَلِكَ. وَكَانَ عَالِمًا
وَفَاضِلًا، وَلَمَّا انْتَهَى بَجْكَمُ إِلَى الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ وَاقَعَ
الْحَسَنَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ، فَهَزَمَ بَجْكَمُ الْحَسَنَ بْنَ
حَمْدَانَ، وَقَرَّرَ الْخَلِيفَةُ أَمْرَ الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ.
وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ فَإِنَّهُ اغْتَنَمَ غَيْبَةَ الْخَلِيفَةِ عَنْ
بَغْدَادَ وَاسْتَجَاشَ بِأَلْفٍ مِنَ الْقَرَامِطَةِ، وَجَاءَ فَدَخَلَ بِهِمْ
بَغْدَادَ فَأَكْثَرَ فِيهَا الْفَسَادَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِدَارِ
الْخِلَافَةِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ مِنْهُ الْمُصَالَحَةَ
وَالْعَفْوَ عَمَّا جَنَى، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ قَاضِي
الْقُضَاةِ أَبَا الْحُسَيْنِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، وَتَرَحَّلَ
ابْنُ رَائِقٍ عَنْ بَغْدَادَ وَدَخَلَهَا الْخَلِيفَةُ فِي جُمَادَى الْأُولَى
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ.
وَنَزَلَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ آذَارَ -
وَذَلِكَ فِي جُمَادَى
الْأُولَى
- مَطَرٌ عَظِيمٌ وَبَرَدٌ كِبَارٌ، كُلُّ وَاحِدَةٍ نَحْوُ الْأُوقِيَّتَيْنِ،
وَاسْتَمَرَّ فَسَقَطَ بِسَبَبِهِ دُورٌ كَثِيرَةٌ مِنْ بَغْدَادَ. وَظَهَرَ
جَرَادٌ كَثِيرٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ الْحَجُّ مِنْ جِهَةِ دَرْبِ
الْعِرَاقِ قَدْ تَعَطَّلَ مِنْ سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ إِلَى
هَذِهِ السَّنَةِ، فَشَفَعَ الشَّرِيفُ أَبُو عَلِيٍّ عُمَرُ بْنُ يَحْيَى
الْعَلَوِيُّ عِنْدَ الْقَرَامِطَةِ، وَكَانُوا يُحِبُّونَهُ لِشَجَاعَتِهِ
وَكَرَمِهِ، فِي أَنْ يُمَكِّنُوا الْحَجِيجَ مِنَ الْحَجِّ، وَأَنْ يَكُونَ
لَهُمْ عَلَى كُلِّ جَمَلٍ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، وَعَلَى الْمَحْمَلِ سَبْعَةُ
دَنَانِيرَ، فَخَرَجَ النَّاسُ لِلْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ،
فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ خَرَجَ الشَّيْخُأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِهِمْ طَالَبُوهُ
بِالْخُفَارَةِ، فَثَنَى رَأْسَ رَاحِلَتِهِ وَرَجَعَ، وَقَالَ: مَا رَجَعْتُ
شُحًّا، وَلَكِنْ سَقَطَ عَنِّي وُجُوبُ الْحَجِّ بِطَلَبِ هَذِهِ الْخُفَارَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِالْأَنْدَلُسِ، وَذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيَّ، صَاحِبَ الْأَنْدَلُسِ، الْمُلَقَّبَ بِالنَّاصِرِ
لِدِينِ اللَّهِ، قَتَلَ وَزِيرَهُ أَحْمَدَ، فَغَضِبَ لَهُ أَخُوهُ أُمَيَّةُ
بْنُ إِسْحَاقَ - وَكَانَ نَائِبًا عَلَى مَدِينَةِ شَنْتَرِينَ - فَارْتَدَّ
وَدَخَلَ بِلَادِ النَّصَارَى، وَاجْتَمَعَ بِمَلِكِهِمْ رُدْمِيرَ، وَدَلَّهُ
عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فِي الْجَلَالِقَةِ،
فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْأُمَوِيُّ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ بَأْسًا شَدِيدًا، وَقَتَلَ
مِنَ الْجَلَالِقَةِ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ كَرَّ الْفِرِنْجُ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا قَرِيبًا مِمَّنْ قُتِلُوا
مِنْهُمْ، ثُمَّ وَالَى الْمُسْلِمُونَ الْغَارَاتِ عَلَى بِلَادِ الْجَلَالِقَةِ،
فَقَتَلُوا مِنْهُمْ أُمَمًا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، ثُمَّ نَدِمَأُمَيَّةُ بْنُ
إِسْحَاقَ عَلَى مَا صَنَعَ، وَطَلَبَ الْأَمَانَ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالْأَمَانِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ قَبَّلَهُ
وَاحْتَرَمَهُ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ دُحَيْمٍ، أَبُو عَلِيٍّ الدِّمَشْقِيُّ
مِنْ أَبْنَاءِ الْمُحَدِّثِينَ، وَكَانَ أَخْبَارِيًّا، لَهُ فِي ذَلِكَ
مُصَنَّفَاتٌ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ الْبَيْرُوتِيِّ
وَغَيْرِهِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ فِي مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ
أَنَافَ عَلَى الثَّمَانِينَ سَنَةً.
الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ بِشْرٍ،
أَبُو عَلِيٍّ الْكَوْكَبِيُّ الْكَاتِبُ
صَاحِبُ الْأَخْبَارِ وَالْآدَابِ، رَوَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ
وَأَبِي الْعَيْنَاءِ وَابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، وَرَوَى عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
وَغَيْرُهُ.
عُثْمَانُ بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو عَمْرٍو الْبَلَوِيُّ
الْمَغْرِبِيُّ الْأَشَجُّ
وَيُعْرَفُ بِأَبِي الدُّنْيَا، قَدِمَ هَذَا الرَّجُلُ بَغْدَادَ بَعْدَ
الثَّلَاثِمِائَةٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ وُلِدَ أَوَّلَ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ
الصَّدِيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَأَنَّهُ وَفَدَ هُوَ
وَأَبَوْهُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
فَأَصَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ عَطَشٌ شَدِيدٌ فَذَهَبَ
يَرْتَادُ
لِأَبِيهِ مَاءً، فَرَأَى عَيْنًا، فَشَرِبَ مِنْهَا وَاغْتَسَلَ، ثُمَّ جَاءَ
إِلَى أَبِيهِ لِيَسْقِيَهُ، فَمَاتَ أَبُوهُ، وَقَدِمَ هُوَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، فَأَرَادَ أَنْ يُقَبِّلَ رُكْبَتَهُ، فَصَدَمَهُ الرِّكَابُ،
فَشَجَّ رَأْسَهُ، فَكَانَ يُعْرَفُ بِالْأَشَجِّ.
وَصَدَّقَهُ فِي هَذَا الزَّعْمِ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَرَوَوْا عَنْهُ نُسْخَةً
فِيهَا أَحَادِيثُ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ عَلِيٍّ ; مِمَّنْ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ
الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُفِيدِ، وَرَوَاهَا عَنْهُ، وَلَكِنْ
كَانَ الْمُفِيدُ مُتَّهَمًا بِالتَّشَيُّعِ، فَسُمِحَ لَهُ فِي ذَلِكَ
لِانْتِسَابِهِ إِلَى عَلِيٍّ، وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُحَدِّثِينَ قَدِيمًا
وَحَدِيثًا فَكَذَّبُوهُ فِي ذَلِكَ، وَرَدُّوا عَلَيْهِ كَذِبَهُ، وَنَصُّوا
عَلَى أَنَّ النُّسْخَةَ الَّتِي رَوَاهَا مَوْضُوعَةٌ، مِنْهُمُ الْحَافِظُ أَبُو
طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السِّلَفِيُّ، وَأَشْيَاخُنَا الَّذِينَ
أَدْرَكْنَاهُمْ ; شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَالْجَهْبَذُ أَبُو
الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ، وَالْحَافِظُ مُؤَرِّخُ الْإِسْلَامِ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الذَّهَبِيُّ، وَقَدْ حَرَّرْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِي " التَّكْمِيلِ
". وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ الْمُفِيدُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْأَشَجَّ هَذَا مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ
وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى بَلَدِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلٍ، أَبُو بَكْرٍ
الْخَرَائِطِيُّ
صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ، أَصَّلُهُ مِنْ أَهْلِ سُرَّ مَنْ رَأَى، وَسَكَنَ
الشَّامَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنِ الْحَسَنِ
بْنِ
عَرَفَةَ وَغَيْرِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
الْحَافِظُ الْكَبِيرُ ابْنُ الْحَافِظِ الْكَبِيرِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الرَّازِيُّ
صَاحِبُ كِتَابِ " الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ " وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ
الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَلَهُ التَّفْسِيرُ الْحَافِلُ
الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَى النَّقْلِ الْكَامِلِ، الَّذِي يُرْبِي فِيهِ عَلَى
تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَهُ كِتَابُ "
الْعِلَلِ " الْمُصَنَّفَةِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى أَبْوَابِ الْفِقْهِ،
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ النَّافِعَةِ، وَكَانَ مِنَ الْعِبَادَةِ
وَالزَّهَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالْحِفْظِ وَالْكَرَامَاتِ الْكَثِيرَةِ
الْمَشْهُورَةِ عَلَى جَانِبٍ كَبِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَكْرَمَ
مَثْوَاهُ.
وَقَدْ صَلَّى مَرَّةً، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَعْضِ مَنْ
صَلَّى مَعَهُ: لَقَدْ أَطَلْتَ عَلَيْنَا، وَقَدْ سَبَّحْتُ فِي سُجُودِي
سَبْعِينَ مَرَّةً، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَكِنِّي وَاللَّهِ مَا سَبَّحْتُ
إِلَّا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَتَهَدَّمَ سُورُ بَعْضِ بِلَادِ الثُّغُورِ
فَتَكَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ يَوْمًا عَلَى النَّاسِ
وَحَثَّهُمْ عَلَى عِمَارَتِهِ ; فَقَالَ: مَنْ يَعْمُرُهُ وَأَضْمَنُ لَهُ عَلَى
اللَّهِ الْجَنَّةَ ؟ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ التُّجَّارِ، فَقَالَ: اكْتُبْ لِي
بِخَطِّكَ هَذَا الضَّمَانَ، وَهَذِهِ أَلْفُ دِينَارٍ لِعِمَارَتِهِ. فَكَتَبَ
لَهُ رُقْعَةً بِذَلِكَ، وَعَمَرَ ذَلِكَ السُّورَ. ثُمَّ اتَّفَقَ مَوْتُ ذَلِكَ
الرَّجُلِ عَمَّا قَرِيبٍ، فَلَمَّا حَضَرَ النَّاسُ جِنَازَتَهُ طَارَتْ مِنْ
كَفَنِهِ رُقْعَةٌ، وَهِيَ
الَّتِي كَانَ كَتَبَهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَإِذَا فِي ظَهْرِهَا مَكْتُوبٌ: قَدْ أَمْضَيْنَا لَكَ هَذَا الضَّمَانَ، وَلَا تَعُدْ إِلَى ذَلِكَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ ": فِي غُرَّةِ
الْمُحَرَّمِ مِنْهَا ظَهَرَتْ فِي الْجَوِّ حُمْرَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ نَاحِيَةِ
الشَّمَالِ وَالْمَغْرِبِ، وَفِيهَا أَعْمِدَةٌ بِيضٌ عَظِيمَةٌ كَثِيرَةُ
الْعَدَدِ.
وَفِيهَا وَصَلَ الْخَبَرُ بِأَنَّ رُكْنَ الدَّوْلَةِ أَبَا عَلِيٍّ الْحَسَنَ
بْنَ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيَّ وَصَلَ إِلَى وَاسِطٍ فَرَكِبَ الْخَلِيفَةُ
وبَجْكَمُ لِقِتَالِهِ فَانْصَرَفَ رَاجِعًا، وَرَجَعَا إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ مَدِينَةَ
أَصْبَهَانَ أَخَذَهَا مِنْ وُشْمَكِيرَ أَخِي مَرْدَاوِيجَ ; لِقِلَّةِ جَيْشِهِ
فِي ذَلِكَ الْحِينِ.
وَفِي شَعْبَانَ زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً، وَانْتَشَرَتْ فِي الْجَانِبِ
الْغَرْبِيِّ، وَسَقَطَتْ دَوْرٌ كَثِيرَةٌ، وَانْبَثَقَ بَثْقٌ مِنْ نَوَاحِي
الْأَنْبَارِ فَغَرَّقَ قُرًى كَثِيرَةً، وَهَلَكَ بِسَبَبِهِ حَيَوَانَاتٌ
وَسِبَاعٌ كَثِيرَةٌ فِي الْبَرِّيَّةِ.
وَفِيهَا تَزَوَّجَ بَجْكَمُ بِسَارَةَ بِنْتِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْبَرِيدِيِّ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ الْوَزِيرُ
يَوْمَئِذٍ بِبَغْدَادَ، ثُمَّ صُرِفَ عَنِ الْوِزَارَةِ بِسُلَيْمَانَ بْنِ
الْحَسَنِ، وَضَمِنَ الْبَرِيدِيُّ بِلَادَ وَاسِطٍ وَأَعْمَالَهَا بِسِتِّمِائَةِ
أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِيهَا
تُوُفِّيَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحُسَيْنِ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
يُوسُفَ، وَتَوَلَّى مَكَانَهُ وَلَدُهُ أَبُو نَصْرٍ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ الرَّاضِي يَوْمَ الْخَمِيسِ لِخَمْسٍ
بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْهَا. وَلَمَّا خَرَجَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْبَرِيدِيُّ إِلَى وَاسِطٍ كَتَبَ إِلَى بَجْكَمَ يَحُثُّهُ عَلَى الْخُرُوجِ
إِلَى بِلَادِ الْجَبَلِ ; لِيَفْتَحَهَا وَيُسَاعِدُهُ هُوَ عَلَى أَخْذِ
الْأَهْوَازِ مِنْ يَدِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ
مَقْصُودُهُ أَنْ يَسْتَغْيِبَهُ عَنْ بَغْدَادَ لِيَأْخُذَهَا، فَلَمَّا
انْفَصَلَ بَجْكَمُ بِالْجُنُودِ بَلَغَهُ مَا يُؤَمِّلُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْبَرِيدِيُّ مِنَ الْمَكِيدَةِ، فَرَجَعَ سَرِيعًا إِلَى بَغْدَادَ وَرَكِبَ فِي
جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَيْهِ، وَأَخَذَ الطُّرُقَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ; لِئَلَّا
يَشْعُرَ بِهِ إِلَّا وَهُوَ عِنْدَهُ عَلَى حَافَّةِ السَّفِينَةِ، فَاتَّفَقَ
أَنَّهُ كَانَ رَاكِبًا فِي زَوْرَقٍ، وَعِنْدَهُ كَاتِبٌ لَهُ، إِذْ سَقَطَتْ
حَمَامَةٌ عَلَى جَانِبِ السَّفِينَةِ فِي ذَنَبِهَا كِتَابٌ، فَأَخَذَهُ
بَجْكَمُ، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ كِتَابٌ مِنْ هَذَا الْكَاتِبِ إِلَى بَعْضِ
أَصْحَابِ الْبَرِيدِيِّ يُعْلِمُهُمْ بِخَبَرِ بَجْكَمَ، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ
! أَهَذَا خَطُّكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِنْكَارِ، فَأَمَرَ
بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ، وَأُلْقِيَ فِي دِجْلَةَ، وَحِينَ أَحَسَّ الْبَرِيدِيُّ
بِقُدُومِ بَجْكَمَ هَرَبَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَلَمْ يُقِمْ بِهَا أَيْضًا،
فَاسْتَوْلَى بَجْكَمُ عَلَى بِلَادِ وَاسِطٍ وَتَسَلَّطَ الدَّيْلَمُ عَلَى
جَيْشِهِ الَّذِينَ خَلَّفَهُمْ بِالْجَبَلِ، فَفَرُّوا سِرَاعًا إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ عَلَى بِلَادِ الشَّامِ
فَدَخَلَ حِمْصَ أَوَّلًا
فَأَخَذَهَا،
ثُمَّ جَاءَ إِلَى دِمَشْقَ وَعَلَيْهَا بَدْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْإِخْشِيدِيُّ الْمَعْرُوفُ بِبُدَيْرٍ، مِنْ جِهَةِ الْإِخْشِيدِ مُحَمَّدِ
بْنِ طُغْجٍ، فَأَخْرَجَهُ ابْنُ رَائِقٍ مِنْهَا قَهْرًا، وَاسْتَوْلَى
عَلَيْهَا.
ثُمَّ رَكِبَ فِي جَيْشٍ إِلَى الرَّمْلَةِ فَأَخَذَهَا، ثُمَّ قَصَدَ عَرِيشَ
مِصْرَ ; لِيَدْخُلَهَا، فَلَقِيَهُ مُحَمَّدُ بْنُ طُغْجٍ، فَاقْتَتَلَا هُنَاكَ،
فَهَزَمَهُ ابْنُ رَائِقٍ وَاشْتَغَلَ أَصْحَابُهُ بِالنَّهْبِ، وَنَزَلُوا فِي
خِيَامِ الْمِصْرِيِّينَ، فَكَرَّ عَلَيْهِمُ الْمِصْرِيُّونَ، فَقَتَلُوهُمْ
قَتْلًا عَظِيمًا، وَهَرَبَ مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ
أَصْحَابِهِ، فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي أَسْوَأِ حَالَةٍ وَشَرِّهَا، وَسَيَّرَ
إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ طُغْجٍ أَخَاهُ نَصْرَ بْنَ طُغْجٍ فِي جَيْشٍ،
فَاقْتَتَلُوا عِنْدَ اللَّجُّونِ فِي رَابِعِ ذِي الْحِجَّةِ، فَهُزِمَ
الْمِصْرِيُّونَ وَقُتِلَ أَخُو الْإِخْشِيدِ فِيمَنْ قُتِلَ، فَغَسَّلَهُ
مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ وَكَفَّنَهُ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى أَخِيهِ بِمِصْرَ،
وَأَرْسَلَ مَعَهُ وَلَدَهُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَحْلِفُ لَهُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ
قَتْلَهُ، وَهَذَا وَلَدِي فَاقْتَدْ مِنْهُ. فَأَكْرَمَ الْإِخْشِيدُ وَلَدَ
مُحَمَّدِ بْنِ رَائِقٍ، وَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ تَكُونَ الرَّمْلَةُ وَمَا
بَعْدَهَا إِلَى دِيَارِ مِصْرَ لِلْإِخْشِيدِ، وَيَحْمِلَ إِلَيْهِ الْإِخْشِيدُ
فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمَا
بَعْدَ الرَّمْلَةِ يَكُونُ لِمُحَمَّدِ بْنِ رَائِقٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ:
جَعْفَرُ الْمُرْتَعِشُ أَبُو مُحَمَّدٍ
أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ،
وَقَالَ
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ،
أَبُو مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُورِيُّ كَانَ مِنْ ذَوِي الْأَمْوَالِ، فَتَخَلَّى
عَنْهَا، وَصَحِبَ الْجُنَيْدَ وَأَبَا حَفْصٍ وَأَبَا عُثْمَانَ، وَأَقَامَ
بِبَغْدَادَ حَتَّى صَارَ شَيْخَ الصُّوفِيَّةِ، فَكَانَ يُقَالُ: عَجَائِبُ
بَغْدَادَ ثَلَاثٌ: إِشَارَاتُ الشِّبْلِيِّ، وَنُكَتُ الْمُرْتَعِشِ،
وَحِكَايَاتُ جَعْفَرٍ الْخَوَّاصِ
سَمِعْتُ أَبَا الْفَرَجِ الصَّائِغِ يَقُولُ: قَالَ الْمُرْتَعِشُ: مَنْ ظَنَّ
أَنَّ أَفْعَالَهُ تُنْجِيهِ مِنَ النَّارِ أَوْ تُبَلِّغُهُ الرِّضْوَانَ، فَقَدْ
جَعَلَ لِنَفْسِهِ وَلِفِعْلِهِ خَطَرًا، وَمَنِ اعْتَمَدَ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ
بَلَّغَهُ اللَّهُ أَقْصَى مَنَازِلِ الرِّضْوَانِ.
وَقِيلَ لِلْمُرْتَعِشِ: إِنْ فُلَانًا يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ. فَقَالَ: إِنَّ
مُخَالَفَةَ الْهَوَى أَعْظَمُ مِنَ الْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ.
وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَهُوَ بِمَسْجِدِ الشُّونِيزِيَّةِ، حَسِبُوا مَا
عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَإِذَا عَلَيْهِ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَقَالَ:
بِيعُوا خُرَيْقَاتِي هَذِهِ وَاقْضُوا بِهَا دَيْنِي، وَأَرْجُو أَنْ يَرْزُقَنِي
اللَّهُ كَفَنًا، وَقَدْ سَأَلْتُ اللَّهَ ثَلَاثًا ; سَأَلْتُهُ أَنْ يُمِيتَنِي
وَأَنَا فَقِيرٌ، وَأَنْ يَجْعَلَ وَفَاتِي فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، فَإِنِّي
صَحِبْتُ فِيهِ أَقْوَامًا، وَأَنْ يَجْعَلَ عِنْدِي مَنْ آنَسُ بِهِ وَأُحِبُّهُ.
ثُمَّ غَمَّضَ عَيْنَيْهِ وَمَاتَ.
أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ، الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ
عِيسَى بْنِ الْفَضْلِ بْنِ بَشَّارٍ
أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، وَكَانَ
زَاهِدًا
وَرِعًا
نَاسِكًا عَابِدًا، وَلِيَ الْقَضَاءَ بِقُمَّ، ثُمَّ حِسْبَةَ بَغْدَادَ فَكَانَ
يَدُورُ بِهَا وَيُصَلِّي عَلَى بَغْلَتِهِ وَهُوَ سَائِرٌ بَيْنَ الْأَزِقَّةِ،
وَكَانَ مُتَقَلِّلًا جِدًّا. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي " طَبَقَاتِ
الشَّافِعِيَّةِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَلَهُ كِتَابُ " الْقَضَاءِ "
لَمْ يُصَنَّفْ مِثْلُهُ فِي بَابِهِ. تُوُفِّيَ وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْمُزَيِّنُ الصَّغِيرُ
أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، أَصْلُهُ مِنْ بَغْدَادَ وَصَحِبَ الْجُنَيْدَ
وَسَهْلًا التُّسْتَرِيَّ، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ حَتَّى تُوفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَالَ، وَيَحْكِي عَنْ نَفْسِهِ: وَرَدْتُ بِئْرًا فِي أَرْضِ
تَبُوكَ فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهَا زَلِقْتُ فَسَقَطْتُ فِي الْبِئْرِ، وَلَيْسَ
أَحَدٌ يَرَانِي، فَلَمَّا كُنْتُ فِي أَسْفَلِهِ إِذَا فِيهَا مِصْطَبَةٌ
فَعَلَوْتُهَا، وَقُلْتُ: إِنْ مُتُّ لَا أُفْسِدُ عَلَى النَّاسِ الْمَاءَ،
وَسَكَنَتْ نَفْسِي وَطَابَتْ لِلْمَوْتِ، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذَا أَفْعَى
قَدْ تَدَلَّتْ عَلَيَّ فَلَفَّتْ عَلَيَّ ذَنَبَهَا، ثُمَّ رَفَعَتْنِي حَتَّى
أَخْرَجَتْنِي إِلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَانْسَابَتْ فَلَمْ أَدْرِ أَيْنَ
ذَهَبَتْ، وَلَا مِنْ أَيْنَ جَاءَتْ.
وَفِي مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ آخَرُ يُقَالُ لَهُ: أَبُو جَعْفَرٍ الْمُزَيِّنُ
الْكَبِيرُ، جَاوَرَ بِمَكَّةَ، وَمَاتَ بِهَا أَيْضًا، وَكَانَ مِنَ الْعُبَّادِ.
رَوَى
الْخَطِيبُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي عَلِيٍّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ
الطَّبَرِيَّ، عَنْ جَعْفَرٍ الْخُلْدِيِّ، قَالَ: وَدَّعْتُ فِي بَعْضِ حَجَّاتِي
الْمُزَيِّنَ الْكَبِيرَ، فَقُلْتُ لَهُ: زَوِّدْنِي. فَقَالَ لِي: إِذَا فَقَدْتَ
شَيْئًا، فَقُلْ: يَا جَامِعَ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، إِنَّ اللَّهَ
لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، اجْمَعْ بَيْنِي وَبَيْنَ كَذَا. فَإِنَّ اللَّهَ
يَجْمَعُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، قَالَ: فَجِئْتُ إِلَى
الْكَتَّانِيِّ، فَوَدَّعْتُهُ، وَسَأَلْتُهُ أَنْ يُزَوِّدَنِي، فَأَعْطَانِي
خَاتَمًا عَلَى فَصِّهِ نَقْشٌ، فَقَالَ: إِذَا اغْتَمَمْتَ فَانْظُرْ إِلَى هَذَا
الْفَصِّ يَزُلْ غَمُّكَ، قَالَ: فَكُنْتُ لَا أَدْعُو بِذَلِكَ الدُّعَاءِ إِلَّا
اسْتُجِيبَ لِي وَلَا أَنْظُرُ إِلَى ذَلِكَ الْفَصِّ إِلَّا زَالَ عَنِّي مَا
أَجِدُهُ، فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ فِي سُمَيْرِيَّةٍ إِذْ هَبَّتْ رِيحٌ
شَدِيدَةٌ، فَأَخْرَجْتُ الْخَاتَمَ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمْ أَدْرِ كَيْفَ
ذَهَبَ، فَجَعَلْتُ أَدْعُو بِذَلِكَ الدُّعَاءِ يَوْمِي كُلَّهُ، فَلَمَّا
رَجَعْتُ إِلَى الْمَنْزِلِ، فَتَّشْتُ الْمَتَاعَ الَّذِي فِي الْمَنْزِلِ،
فَإِذَا الْخَاتَمُ فِي بَعْضِ ثِيَابِي الَّتِي كَانَتْ بِالْمَنْزِلِ.
صَاحِبُ كِتَابِ " الْعِقْدِ الْفَرِيدِ " أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ
بْنِ حَبِيبِ بْنِ حُدَيْرِ بْنِ سَالِمٍ، أَبُو عُمَرُ الْقُرْطُبِيُّ
مَوْلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ الْأُمَوِيِّ، كَانَ مِنَ
الْفُضَلَاءِ الْمُكْثِرِينَ، وَالْعُلَمَاءِ بِأَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ
وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَكِتَابُهُ " الْعِقْدُ " يَدُلُّ عَلَى
فَضَائِلَ جَمَّةٍ،
وَعُلُومٍ
كَثِيرَةٍ مُهِمَّةٍ، وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ كَثِيرٌ مِنْ كَلَامِهِ عَلَى تَشَيُّعٍ
فِيهِ، وَمَيْلٍ إِلَى الْحَطِّ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَهَذَا عَجِيبٌ مِنْهُ ;
لِأَنَّهُ أَحَدُ مَوَالِيهِمْ، وَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ
يُوَالِيهِمْ لَا مِمَّنْ يُعَادِيهِمْ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ حَسَنٍ. ثُمَّ أَوْرَدَ
مِنْهُ أَشْعَارًا فِي التَّغَزُّلِ فِي الْمُرْدَانِ وَالنِّسْوَانِ أَيْضًا،
وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ،
وَتُوُفِّيَ بِقُرْطُبَةَ يَوْمَ الْأَحَدِ ثَامِنَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
عُمَرُ بْنُ أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، أَبُو الْحُسَيْنِ
الْأَزْدِيُّ
الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ الْقَاضِي ابْنُ الْقَاضِي، نَابَ عَنْ أَبِيهِ
وَعُمْرُهُ عِشْرُونَ سَنَةً، وَكَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ
وَالْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالْفَرَائِضِ وَالْحِسَابِ وَاللُّغَةِ
وَالنَّحْوِ وَالشِّعْرِ. وَصَنَّفَ مُسْنَدًا، وَرُزِقَ قُوَّةَ الْفَهْمِ
وَجَوْدَةَ الْقَرِيحَةِ، وَشَرَفَ الْأَخْلَاقِ، وَلَهُ الشِّعْرُ الرَّائِقُ
الْحَسَنُ، وَكَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ فِي الْقَضَاءِ، عَدْلًا ثِقَةً
إِمَامًا.
قَالَ الْخَطِيبُ: أَخْبَرْنَا أَبُو الطِّيبِ الطَّبَرَيُّ: سَمِعْتُ الْمُعَافَى
بْنَ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيَّ يَقُولُ: كُنَّا نَجْلِسُ فِي حَضْرَةِ الْقَاضِي
أَبِي الْحُسَيْنِ، فَجِئْنَا يَوْمًا نَنْتَظِرُهُ عَلَى الْعَادَةِ، فَجَلَسْنَا
عِنْدَ بَابِهِ، وَإِذَا أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ كَأَنَّ لَهُ حَاجَةً، إِذْ وَقَعَ
غُرَابٌ عَلَى نَخْلَةٍ فِي الدَّارِ، فَصَرَخَ ثُمَّ طَارَ. فَقَالَ
الْأَعْرَابِيُّ: هَذَا الْغُرَابُ يَقُولُ إِنَّ
صَاحِبَ
هَذِهِ الدَّارِ يَمُوتُ بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ. قَالَ: فَزَبَرْنَاهُ، فَقَامَ
وَانْصَرَفَ، ثُمَّ خَرَجَ الْإِذْنُ مِنَ الْقَاضِي إِلَيْنَا أَنْ هَلُمُّوا
فَادْخُلُوا، فَدَخَلْنَا، فَإِذَا بِهِ مُتَغَيِّرُ اللَّوْنِ مُغْتَمٌّ،
فَقُلْنَا: مَا الْخَبَرُ ؟ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ فِي الْمَنَامِ
شَخْصًا يَقُولُ:
مَنَازِلَ آلِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَلَى أَهْلِيكِ وَالنِّعَمِ السَّلَامُ
وَقَدْ ضَاقَ لِذَلِكَ صَدْرِي. قَالَ: فَدَعَوْنَا لَهُ وَانْصَرَفْنَا. فَلَمَّا
كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ دُفِنَ.
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ لِيَوْمِ الْخَمِيسِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ
شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ
سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ أَبُو نَصْرٍ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ الْقَضَاءَ.
قَالَ الصُّولِيُّ: بَلَغَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ مِنَ الْعِلْمِ مَبْلَغًا
عَظِيمًا مَعَ حَدَاثَةِ السِّنِّ، وَحِينَ تُوُفِّيَ كَانَ الرَّاضِي يَبْكِي
عَلَيْهِ بِحَضْرَتِنَا وَيَقُولُ: كُنْتُ أَضِيقُ بِالشَّيْءِ ذَرْعًا
فَيُوَسِّعُهُ عَلَيَّ. ثُمَّ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا بَقِيتُ بَعْدَهُ.
ابْنُ شَنَبُوذَ الْمُقْرِئُ، مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ
الصَّلْتِ، أَبُو الْحَسَنِ الْمُقْرِئُ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ شَنَبُوذَ، رَوَى عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ، وَبِشْرِ
بْنِ مُوسَى وَخَلْقٍ، وَكَانَ يَخْتَارُ حُرُوفًا أَنْكَرَهَا أَهْلُ زَمَانِهِ
عَلَيْهِ، وَصَنَّفَ أَبُو بَكْرِ بْنُ
الْأَنْبَارِيِّ
كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، كَيْفَ
أَنَّهُ عُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ فِي دَارِ الْوَزِيرِ أَبِي عَلِيٍّ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ، وَأَنَّهُ ضُرِبَ حَتَّى رَجَعَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ
الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ الَّتِي أَنْكَرَهَا الْقُرَّاءُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ
عَلَيْهِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي صَفَرٍ مِنْهَا، وَقَدْ دَعَا ابْنُ شَنَبُوذَ
عَلَى ابْنِ مُقْلَةَ حِينَ أَمَرَ بِضَرْبِهِ، فَلَمْ يُفْلِحِ ابْنُ مُقْلَةَ
بَعْدَهَا.
ابْنُ مُقْلَةَ الْوَزِيرُ أَحَدُ الْكُتَّابِ الْمَشَاهِيرِ، مُحَمَّدُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَلِيٍّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
مُقْلَةَ الْوَزِيرِ
وَقَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ عُمْرِهِ ضَعِيفَ الْحَالِ، ثُمَّ آلَ بِهِ الْحَالُ
إِلَى أَنْ وَلِيَ الْوِزَارَةَ لِثَلَاثَةٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَهُمُ
الْمُقْتَدِرُ، وَالْقَاهِرُ، وَالرَّاضِي، وَعُزِلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقُطِعَتْ
يَدُهُ وَلِسَانُهُ فِي آخِرِ أَمْرِهِ وَحُبِسَ، فَكَانَ يَسْتَقِي الْمَاءَ
بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَأَسْنَانِهِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يَكْتُبُ بِيَدِهِ
الْيُمْنَى بَعْدَ قَطْعِهَا، كَمَا كَانَ يَكْتُبُ وَهِيَ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ
كَانَ خَطُّهُ مِنْ أَقْوَى الْخُطُوطِ، كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ، وَقَدْ
بَنَى لَهُ دَارًا فِي زَمَانِ وِزَارَتِهِ، فَجَمَعَ عِنْدَ بِنَائِهَا خَلْقًا
مِنَ الْمُنَجِّمِينَ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ تُبْنَى فِي الْوَقْتِ
الْفُلَانِيِّ، فَأَسَّسَ جُدْرَانَهَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ، كَمَا أَشَارُوا،
فَمَا لَبِثَ بَعْدَ اسْتِتْمَامِهَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى خُرِّبَتْ وَصَارَتْ
كَوْمًا، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ وَذَكَرْنَا مَا كَتَبُوا عَلَى جُدْرَانِهَا،
وَقَدْ
كَانَ
لَهُ بُسْتَانٌ كَبِيرٌ جِدًّا، فِيهِ عِدَّةُ أَجْرِبَةٍ - أَيْ فَدَادِينَ -
وَعَلَيْهِ جَمِيعِهِ شَبَكَةٌ مِنْ إِبْرَيْسَمٍ، وَفِيهِ مِنَ الطُّيُورِ
الْقَمَارِيِّ وَالْهَزَارِ وَالْبَبْغِ وَالْبَلَابِلِ وَالطَّوَاوِيسِ
وَالْقَبْجِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَفِي أَرْضِهِ مِنَ الْغِزْلَانِ، وَبَقَرِ
الْوَحْشِ وَحَمِيرِهِ، وَالنَّعَامِ وَالْإِبِلِ شَيْءٌ كَثِيرٌ أَيْضًا. ثُمَّ
صَارَ هَذَا كُلُّهُ عَمَّا قَرِيبٍ بَعْدَ النُّضْرَةِ وَالْبَهَاءِ إِلَى
الْهَلَاكِ وَالْفَنَاءِ. وَقَدْ أَنْشَدَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ حِينَ بَنَى
دَارَهُ:
قُلْ لِابْنِ مُقْلَةَ مَهْلًا لَا تَكُنْ عَجِلًا وَاصْبِرْ فَإِنَّكَ فِي
أَضْغَاثِ أَحْلَامِ
تَبْنِي بِأَنْقَاضِ دُورِ النَّاسِ مُجْتَهِدًا دَارًا سَتُنْقَضُ أَيْضًا بَعْدَ
أَيَّامِ
مَا زِلْتَ تَخْتَارُ سَعْدَ الْمُشْتَرِيِّ لَهَا فَلَمْ تُوَقَّ بِهِ مِنْ
نَحْسِ بَهْرَامِ
إِنَّ الْقُرَانَ وَبَطْلَيْمُوسَ مَا اجْتَمَعَا فِي حَالِ نَقْضٍ وَلَا فِي
حَالِ إِبْرَامِ
فَعُزِلَ ابْنُ مُقْلَةَ عَنْ وِزَارَتِهِ، وَخُرِّبَتْ دَارُهُ، وَأُتْلِفَتْ
أَشْجَارُهُ، وَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ قُطِعَ لِسَانُهُ، وَأُغْرِمَ بِأَلْفِ
أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ سُجِنَ وَحْدَهُ، مَعَ الْكِبَرِ وَالضَّعْفِ
وَالضَّرُورَةِ، فَكَانَ يَسْتَقِي الْمَاءَ لِنَفْسِهِ مِنْ بِئْرٍ عَمِيقٍ،
فَكَانَ يَمُدُّ الْحَبْلَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى، وَيُمْسِكُهُ بِفِيهِ. وَقَاسَى
جَهْدًا جَهِيدًا، بَعْدَمَا ذَاقَ عَيْشًا رَغِيدًا، وَمِنْ شِعْرِهِ حِينَ
قُطِعَتْ يَدُهُ:
مَا سَئمْتُ الْحَيَاةَ لَكَنْ تَوَثَّقْتُ بِأَيْمَانِهِمْ فَبَانَتْ يَمِينِي
بِعْتُ دِينِي لَهُمْ بِدُنْيَايَ حَتَّى حَرَمُونِي دُنْيَاهُمْ بَعْدَ دِينِي
وَلَقَدْ
حُطْتُ مَا اسْتَطَعْتُ بِجَهْدِي حِفْظَ أَرْوَاحِهِمْ فَمَا حَفَظُونِي
لَيْسَ بَعْدَ الْيَمِينِ لَذَّةُ عَيْشٍ يَا حَيَاتِي بَانَتْ يَمِينِي فَبِينِي
وَكَانَ يَبْكِي عَلَى يَدِهِ كَثِيرًا، وَيَقُولُ: بَعْدَمَا خَدَمْتُ بِهَا
ثَلَاثَةً مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَكَتَبْتُ بِهَا الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ، تُقْطَعُ
كَمَا تُقْطَعُ أَيْدِيَ اللُّصُوصِ ! ثُمَّ يُنْشِدُ:
إِذَا مَا مَاتَ بَعْضُكَ فَابْكِ بَعْضًا فَإِنَّ الْبَعْضَ مِنْ بَعْضٍ قَرِيبُ
وَقَدْ مَاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَحْبِسِهِ هَذَا، وَدُفِنَ فِي دَارِ
السُّلْطَانِ، ثُمَّ سَأَلَ وَلَدَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ أَنْ يُحَوَّلَ فَأُجِيبَ،
فَنَبَشُوهُ وَدَفَنَهُ وَلَدُهُ عِنْدَهُ فِي دَارِهِ، ثُمَّ سَأَلَتْ زَوْجَتُهُ
الْمَعْرُوفَةُ بِالدِّينَارِيَّةِ أَنْ يُدْفَنَ فِي دَارِهَا، فَنُبِشَ وَدُفِنَ
عِنْدَهَا، فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ أَيْضًا. مَاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَهُ
مِنَ الْعُمُرِ سِتٌّ وَخَمْسُونَ سَنَةً.
أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
بَشَّارِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ بَيَانِ بْنِ سَمَاعَةَ بْنِ فَرْوَةَ بْنِ قَطَنِ
بْنِ دِعَامَةَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ
صَاحِبُ كِتَابِ " الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الْمُصَنَّفَاتِ، وَكَانَ مِنْ بُحُورِ الْعِلْمِ فِي اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ. سَمِعَ الْكَدِيمِيَّ وَإِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي وَثَعْلَبًا
وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا أَدِيبًا، دَيِّنًا فَاضِلًا، مِنْ أَهْلِ
السُّنَّةِ، مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالنَّحْوِ وَالْأَدَبِ وَأَكْثَرِهِمْ
حِفْظًا لَهُ، وَكَانَتْ لَهُ مِنَ الْمَحَافِيظِ مُجَلَّدَاتٌ عَظِيمَةٌ
كَثِيرَةٌ
أَحْمَالُ
أَجْمَالٍ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا التَّقَالِيَ، وَلَا يَشْرَبُ مَاءً إِلَى
قَرِيبِ الْعَصْرِ ; مُرَاعَاةً لِحِفْظِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ
مِائَةً وَعِشْرِينَ تَفْسِيرًا. وَحَفِظَ تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا فِي لَيْلَةٍ،
وَكَانَ يَحْفَظُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ عَشْرَةَ آلَافِ وَرَقَةٍ. وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ لَيْلَةَ عِيدِ النَّحْرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
أُمُّ عِيسَى بِنْتُ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ
كَانَتْ عَالِمَةً فَاضِلَةً، تُفْتِي فِي الْفِقْهِ. تُوُفِّيَتْ فِي رَجَبٍ مِنْهَا،
وَدُفِنَتْ إِلَى جَانِبِ أَبِيهَا، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُنْتَصَفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ
الرَّاضِي بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ
الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ
الْمُوَفَّقِ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ بْنِ
الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ
الْعَبَّاسِيِّ، اسْتُخْلِفَ بَعْدَ عَمِّهِ الْقَاهِرِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ
جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأُمُّهُ
أُمُّ وَلَدٍ رُومِيَّةٌ تُسَمَّى ظَلُومَ، كَانَ مَوْلِدُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ
سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سِتَّ سِنِينَ
وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَعُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ إِحْدَى
وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ.
وَكَانَ أَسْمَرَ رَقِيقَ السُّمْرَةِ، دُرِّيَّ اللَّوْنِ، أَسْوَدَ الشَّعْرِ
سَبْطَهُ، قَصِيرَ الْقَامَةِ، نَحِيفَ الْجِسْمِ، فِي وَجْهِهِ طُولٌ، وَفِي
مُقَدَّمِ لِحْيَتِهِ تَمَامٌ، وَفِي شَعْرِهَا رِقَّةٌ. هَكَذَا وَصَفَهُ مَنْ
شَاهَدَهُ.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: كَانَ لِلرَّاضِي فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ وَخَتَمَ
الْخُلَفَاءَ فِي أُمُورٍ عِدَّةٍ ; فَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ آخِرَ خَلِيفَةٍ لَهُ
شِعْرٌ مُدَوَّنٌ، وَآخِرَ خَلِيفَةٍ انْفَرَدَ بِتَدْبِيرِ
الْجُيُوشِ
وَالْأَمْوَالِ، وَآخِرَ خَلِيفَةٍ خَطَبَ عَلَى مِنْبَرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ،
وَآخِرَ خَلِيفَةٍ جَالَسَ الْجُلَسَاءَ وَوَصَلَ إِلَيْهِ النُّدَمَاءُ، وَآخِرَ
خَلِيفَةٍ كَانَتْ نَفَقَتُهُ وَجَوَائِزُهُ وَعَطَايَاهُ وَجِرَايَاتُهُ
وَخَزَائِنُهُ وَمَطَابِخُهُ وَمَجَالِسُهُ وَخَدَمُهُ وَحُجَّابُهُ وَأُمُورُهُ،
كُلُّ ذَلِكَ يَجْرِي عَلَى تَرْتِيبِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْخُلَفَاءِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا.
وَمِنْ جِيدِ كَلَامِهِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى
الصُّولِيُّ: لِلَّهِ أَقْوَامٌ هُمْ مَفَاتِيحُ الْخَيْرِ، وَأَقْوَامٌ
مَفَاتِيحُ الشَّرِّ، فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا قَصَدَ بِهِ أَهْلَ
الْخَيْرِ، وَجَعَلَهُ الْوَسِيلَةَ إِلَيْنَا، فَنَقْضِي حَاجَتَهُ، فَهُوَ
الشَّرِيكُ فِي الثَّوَابِ وَالشُّكْرِ، وَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ شَرًّا
عَدَلَ بِهِ إِلَى غَيْرِنَا، فَهُوَ الشَّرِيكُ فِي الْوِزْرِ وَالْإِثْمِ،
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَمِنْ أَلْطَفِ الِاعْتِذَارَاتِ مَا كَتَبَ بِهِ الرَّاضِي إِلَى أَخِيهِ
الْمُتَّقِي، وَهُمَا فِي الْمَكْتَبِ - وَكَانَ الْمُتَّقِي قَدِ اعْتَدَى عَلَى
الرَّاضِي، وَالرَّاضِي هُوَ الْكَبِيرُ مِنْهُمَا - فَكَتَبَ إِلَيْهِ الرَّاضِي:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَنَا مُعْتَرِفٌ لَكَ بِالْعُبُودِيَّةِ
فَرْضًا، وَأَنْتَ مُعْتَرِفٌ لِي بِالْأُخُوَّةِ فَضْلًا، وَالْعَبْدُ يُذْنِبُ
وَالْمَوْلَى يَعْفُو، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرَ:
يَا ذَا الَّذِي يَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ شَيْ اعْتِبْ فَعُتْبَاكَ حَبِيبٌ إِلَيْ
أَنْتَ عَلَى أَنَّكَ لِي ظَالِمٌ
أَعَزُّ خَلْقِ اللَّهِ طُرًّا عَلَيْ
قَالَ: فَجَاءَ إِلَيْهِ أَخُوهُ الْمُتَّقِي، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ يُقَبِّلُ
يَدَيْهِ، وَتَعَانَقَا وَاصْطَلَحَا.
وَمِنْ
لَطِيفِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي "
الْكَامِلِ ":
يَصْفَرُّ وَجْهِي إِذَا تَأَمَّلَهُ طَرْفِي وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ خَجَلَا
حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي بِوَجْنَتِهِ مِنْ دَمِ جِسْمِي إِلَيْهِ قَدْ نُقِلَا
قَالَ: وَمِمَّا رَثَى بِهِ أَبَاهُ الْمُقْتَدِرَ:
وَلَوْ أَنَّ حَيًّا كَانَ قَبْرًا لِمَيِّتٍ لَصَيَّرْتُ أَحْشَائِي لِأَعْظُمِهِ
قَبْرَا
وَلَوْ أَنَّ عُمْرِي كَانَ طَوْعَ مَشِيئَتِي وَسَاعَدَنِي الْمَقْدُورُ
قَاسَمْتُهُ الْعُمْرَا
بِنَفْسِي ثَرًى ضَاجَعْتُ فِي تُرْبِهِ الْبِلَى لَقَدْ ضَمَّ مِنْكَ الْغَيْثَ
وَاللَّيْثَ وَالْبَدْرَا
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ لَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ":
لَا تَعْذِلِي كَرَمِي عَلَى الْإِسْرَافِ رِبْحُ الْمَحَامِدِ مَتْجَرُ
الْأَشْرَافِ
أَجْرِي كَآبَائِي الْخَلَائِفِ سَابِقًا وَأَشِيدُ مَا قَدْ أَسَّسَتْ أَسْلَافِي
إِنِّي مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَكُفُّهُمْ مُعْتَادَةُ الْإِخْلَافِ
وَالْإِتْلَافِ
وَمِنْ شِعْرِهِ الَّذِي رَوَاهُ الْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ
بْنِ يَحْيَى الصُّولِيِّ النَّدِيمِ عَنْهُ قَوْلُهُ:
كُلُّ
صَفْوٍ إِلَى كَدَرْ كُلُّ أَمْنٍ إِلَى حَذَرْ
وَمَصِيرُ الشَّبَابِ لِلْ مَوْتِ فِيهِ أَوِ الْكِبَرْ
دَرَّ دَرُّ الْمَشِيبِ مِنْ وَاعِظٍ يُنْذِرُ الْبَشَرْ
أَيُّهَا الْآمِلُ الَّذِي تَاهَ فِي لُجَّةِ الْغَرَرْ
أَيْنَ مَنُ كَانَ قَبْلَنَا دَرَسَ الْعَيْنُ وَالْأَثَرْ
سَيَرُدُّ الْمُعَارَ مَنْ عُمْرُهُ كُلُّهُ خَطَرْ
رَبِّ إِنِّي ذَخَرْتُ عِنْ دَكَ أَرْجُوكَ مُدَّخَرْ
إِنَّنِي مُؤْمِنُّ بِمَا بَيَّنَ الْوَحْيِ فِي السُّوَرْ
وَاعْتِرَافِي بِتَرْكِ نَفْ عِي وَإِيثَارِيَ الضَّرَرْ
رَبِّ فَاغْفِرْ لِيَ الْخَطِي ئَةَ يَا خَيْرَ مَنْ غَفَرْ
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِعِلَّةِ الِاسْتِسْقَاءِ فِي لَيْلَةِ السَّادِسِ
عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ
إِلَى بَجْكَمَ وَهُوَ بِوَاسِطٍ ; لِيَعْهَدَ إِلَى وَلَدِهِ الْأَصْغَرِ أَبِي
الْفَضْلِ، فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ ذَلِكَ، وَبَايَعَ النَّاسُ أَخَاهُ الْمُتَّقِي
لِلَّهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُقْتَدِرِ. وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا
مَقْدُورًا.
ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمُتَّقِي أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ
لَمَّا مَاتَ أَخُوهُ الرَّاضِي اجْتَمَعَ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ بِدَارِ
بَجْكَمَ، وَاشْتَوَرُوا فِيمَنْ يُوَلُّونَ عَلَيْهِمْ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ
كُلُّهُمْ عَلَى الْمُتَّقِي لِلَّهِ إِبْرَاهِيمَ هَذَا، فَأَحْضَرُوهُ إِلَى
دَارِ الْخِلَافَةِ، وَأَرَادُوا بَيْعَتَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ صَلَاةَ
الِاسْتِخَارَةِ، وَهُوَ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَصْعَدْ إِلَى الْكُرْسِيِّ
بَعْدُ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّرِيرِ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ، وَكَانَ ذَلِكَ
يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَلَمْ يُغَيِّرْ
عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا، وَلَا غَدَرَ بِأَحَدٍ، حَتَّى وَلَا عَلَى سُرِّيَّتِهِ
لَمْ يُغَيِّرْهَا، وَلَمْ يَتَسَرَّ عَلَيْهَا.
وَكَانَ كَمَا سُمِّيَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ ; كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ
وَالتَّعَبُّدِ، وَقَالَ: لَا أُرِيدُ أَحَدًا مِنَ الْجُلَسَاءِ، حَسْبِيَ
الْمُصْحَفُ نَدِيمِي، لَا أُرِيدُ نَدِيمًا غَيْرَهُ، فَقَعَدَ عَنْهُ
الْجُلَسَاءُ وَالنُّدَمَاءُ وَالْتَفُّوا عَلَى بَجْكَمَ، وَكَانَ يُجَالِسُهُمْ
فَيُحَادِثُونَهُ وَيَتَنَاشَدُونَ عِنْدَهُ الْأَشْعَارَ، فَكَانَ لَا يَفْهَمُ
كَثِيرَ شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُونَ ; لِعُجْمَتِهِ، وَكَانَ فِي جُمْلَتِهِمْ
سِنَانُ بْنُ ثَابِتٍ الصَّابِئُ الْمُتَطَبِّبُ، وَكَانَ بَجْكَمُ يَشْكُو
إِلَيْهِ قُوَّةَ النَّفْسِ الْغَضَبِيَّةَ فِيهِ، فَكَانَ سِنَانٌ يُهَذِّبُ مِنْ
أَخْلَاقِهِ وَيُسَكِّنُ جَأْشَهُ، وَيُرَوِّضُ نَفْسَهُ حَتَّى
يَسْكُنَ
عَنْ بَعْضِ مَا كَانَ يَتَعَاطَاهُ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَكَانَ الْمُتَّقِي
لِلَّهِ حَسَنَ الْوَجْهِ، مُعْتَدِلَ الْخُلُقِ، قَصِيرَ الْأَنْفِ، أَبْيَضَ
مُشْرَبًا حُمْرَةً، وَفِي شِعْرِهِ شُقْرَةٌ وَجُعُودَةٌ، كَثُّ اللِّحْيَةِ،
أَشْهَلُ الْعَيْنَيْنِ، أَبِيُّ النَّفْسِ، لَمْ يَشْرَبِ النَّبِيذَ قَطُّ،
فَالْتَقَى فِيهِ الِاسْمُ وَالْفِعْلُ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْمُتَّقِي فِي الْخِلَافَةِ أَنْفَذَ الرُّسُلَ وَالْخِلَعَ
إِلَى بَجْكَمَ وَهُوَ بِوَاسِطٍ، وَنَفَذَتِ الْمُكَاتَبَاتُ إِلَى الْآفَاقِ
بِوِلَايَةِ الْمُتَّقِي لِلَّهِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَحَارَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ وبَجْكَمُ
بِنَاحِيَةِ الْأَهْوَازِ، فَقُتِلَ بَجْكَمُ فِي الْحَرْبِ، وَاسْتَظْهَرَ
الْبَرِيدِيُّ عَلَيْهِ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، فَاحْتَاطَ الْخَلِيفَةُ عَلَى
حَوَاصِلِ بَجْكَمَ، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِهِ أَلْفُ
أَلْفِ دِينَارٍ وَمِائَتَا أَلْفِ دِينَارٍ. وَكَانَتْ أَيَّامُ بَجْكَمَ عَلَى
بَغْدَادَ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَتِسْعَةَ أَيَّامٍ.
ثُمَّ إِنَّ الْبَرِيدِيَّ حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِبَغْدَادَ، فَأَنْفَقَ
الْخَلِيفَةُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً فِي الْجُنْدِ لِيَمْنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ،
وَرَكِبَ بِنَفْسِهِ، فَخَرَجَ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ لِيَمْنَعَهُ مِنْ
ذَلِكَ، فَخَالَفَهُ الْبَرِيدِيُّ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ فِي ثَانِي رَمَضَانَ،
وَنَزَلَ بِالشُّفَيْعِيِّ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ الْمُتَّقِي ذَلِكَ بَعْثَ
إِلَيْهِ يُهَنِّئُهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْأَطْعِمَةِ، وَخُوطِبَ
بِالْوَزِيرِ، وَلَمْ يُخَاطَبْ بِإِمْرَةِ الْأُمَرَاءِ، فَأَرْسَلَ
الْبَرِيدِيُّ يَطْلُبُ مِنَ الْخَلِيفَةِ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ،
فَامْتَنَعَ الْخَلِيفَةُ مِنْ ذَلِكَ، فَبَعَثَ يَتَهَدَّدُهُ وَيَتَوَعَّدُهُ
وَيُذَكِّرُهُ مَا حَلَّ بِالْمُعْتَزِّ وَالْمُسْتَعِينِ وَالْمُهْتَدِي،
وَاخْتَلَفَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ كَانَ آخِرَ ذَلِكَ أَنْ بَعَثَ
إِلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ
بِذَلِكَ قَهْرًا، وَلَمْ يَتَّفِقِ اجْتِمَاعُ الْخَلِيفَةِ وَالْبَرِيدِيِّ
بِبَغْدَادَ حَتَّى خَرَجَ الْبَرِيدِيُّ مِنْهَا إِلَى وَاسِطٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ
ثَارَتْ عَلَيْهِ الدَّيَالِمَةُ، وَالْتَفُّوا عَلَى كَبِيرِهِمْ كُورْتَكِينَ،
وَرَامُوا حَرِيقَ دَارِ الْبَرِيدِيِّ حِينَ قَبَضَ الْمَالَ مِنَ الْخَلِيفَةِ
وَلَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا، وَكَانَتِ الْبَجْكَمِيَّةُ طَائِفَةً أُخْرَى قَدِ
اخْتَلَفَتْ مَعَهُ أَيْضًا، وَهُمْ وَالدَّيَالِمُ قَدْ صَارُوا حِزْبَيْنِ،
فَانْهَزَمَ الْبَرِيدِيُّ مِنْ بَغْدَادَ يَوْمَ سَلْخِ رَمَضَانَ، فَاسْتَوْلَى
كُورْتَكِينُ عَلَى الْأُمُورِ بِبَغْدَادَ، وَدَخَلَ إِلَى الْمُتَّقِي،
فَقَلَّدَهُ إِمْرَةَ الْأُمَرَاءِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَاسْتَدْعَى الْمُتَّقِي
لِلَّهِ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى وَأَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَفَوَّضَ إِلَى
عَبْدِ الرَّحْمَنِ تَدْبِيرَ الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ بِوِزَارَةٍ،
ثُمَّ قَبَضَ كُورْتَكِينُ عَلَى رَئِيسِ الْأَتْرَاكِ تَكِينَكَ غُلَامِ بَجْكَمَ
وَغَرَّقَهُ. ثُمَّ تَظَلَّمَتِ الْعَامَّةُ مِنَ الدَّيْلَمِ ; أَنَّهُمْ
يَأْخُذُونَ مِنْهُمْ دُورَهُمْ، فَشَكَوَا ذَلِكَ إِلَى كُورْتَكِينَ، فَلَمْ
يُشْكِهِمْ، فَمَنَعَتِ الْعَامَّةُ الْخُطَبَاءَ أَنْ يُصَلُّوا فِي
الْجَوَامِعِ، وَاقْتَتَلَ الدَّيْلَمُ وَالْعَامَّةُ، فَقُتِلَ مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ.
وَكَانَ الْخَلِيفَةُ قَدْ كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ رَائِقٍ
صَاحِبِ الشَّامِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ لِيُخَلِّصَهُ مِنَ الدَّيْلَمِ
وَالْبَرِيدِيِّ، فَرَكِبَ إِلَى بَغْدَادَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ،
وَمَعَهُ جَيْشٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ صَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَتْرَاكِ
الْبَجْكَمِيَّةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَحِينَ وَصَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ حَادَ عَنْ
طَرِيقِهِ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ، فَتَرَاسَلَا ثُمَّ اصْطَلَحَا،
وَحَمَلَ ابْنُ حَمْدَانَ إِلَى ابْنِ رَائِقٍ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَلَمَّا
اقْتَرَبَ ابْنُ رَائِقٍ مِنْ بَغْدَادَ خَرَجَ كُورْتَكِينُ فِي جَيْشِهِ
لِيُقَاتِلَهُ، فَدَخَلَ ابْنُ رَائِقٍ بَغْدَادَ مِنْ غَرْبِيِّهَا، وَرَجَعَ
كُورْتَكِينُ بِجَيْشِهِ مِنْ شَرْقِيِّهَا، ثُمَّ تَصَافُّوا بِبَغْدَادَ
لِلْقِتَالِ، فَسَاعَدَتِ الْعَامَّةُ ابْنَ رَائِقٍ عَلَى كُورْتَكِينَ،
فَانْهَزَمَ الدَّيْلَمُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَهَرَبَ
كُورْتَكِينُ
فَاخْتَفَى، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ ابْنِ رَائِقٍ عَلَى بَغْدَادَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ، وَرَكِبَ هُوَ وَإِيَّاهُ فِي دِجْلَةَ، وَظَفِرَ ابْنُ رَائِقٍ
بِكُورْتَكِينَ، فَأَوْدَعَهُ السِّجْنَ الَّذِي فِي دَارِ الْخِلَافَةِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ
جُمَادَى الْأُولَى حَضَرَ النَّاسُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِجَامِعِ بَرَاثَا،
وَقَدْ كَانَ الْمُقْتَدِرُ أَحْرَقَ هَذَا الْمَسْجِدَ ; لِأَنَّهُ كُبِسَ
فَوُجِدَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الشِّيعَةِ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِلسَّبِّ
وَالشَّتْمِ، فَلَمْ يَزَلْ خَرَابًا حَتَّى عَمَّرَهُ بَجْكَمُ فِي أَيَّامِ
الرَّاضِي، ثُمَّ أَمَرَ الْمُتَّقِي بِوَضْعِ مِنْبَرٍ فِيهِ كَانَ عَلَيْهِ
اسْمُ الرَّشِيدِ، وَصَلَّى النَّاسُ فِيهِ هَذِهِ الْجُمُعَةَ، قَالَ: فَلَمْ
يَزَلْ تُقَامُ فِيهِ إِلَى مَا بَعْدَ سَنَةِ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ فِي لَيْلَةِ سَابِعِهِ
كَانَتْ لَيْلَةُ بَرْدٍ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ، فَسَقَطَتِ الْقُبَّةُ الْخَضْرَاءُ
مِنْ قَصْرِ الْمَنْصُورِ، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْقُبَّةُ تَاجَ بَغْدَادَ
وَعَلَمَ الْبَلَدِ، وَمَأْثُرَةً مِنْ مَآثِرِ بَنِي الْعَبَّاسِ عَظِيمَةً،
بُنِيَتْ أَوَّلَ مُلْكِهِمْ، وَكَانَ بَيْنَ بِنَائِهَا وَسُقُوطِهَا مِائَةٌ
وَسَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَخَرَجَ التَّشْرِينَانِ وَالْكَانُونَانِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ وَلَمْ تُمْطَرْ بَغْدَادُ فِيهَا بِشَيْءٍ سِوَى مَطَرَةٍ
وَاحِدَةٍ لَمْ يَسِلْ مِنْهَا مِيزَابٌ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ
حَتَّى
بِيعَ الْكُرُّ بِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ دِينَارًا، وَوَقَعَ الْفَنَاءُ فِي
النَّاسِ حَتَّى كَانَ الْجَمَاعَةُ يُدْفَنُونَ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ مِنْ
غَيْرِ غُسْلٍ وَلَا صَلَاةٍ، وَبِيعَ الْعَقَارُ وَالْأَثَاثُ بِأَرْخَصِ
الْأَسْعَارِ، وَاشْتُرِيَ بِالدِّرْهَمِ مَا كَانَ يُسَاوِي الدِّينَارَ،
وَرَأَتِ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
مَنَامِهَا، وَهُوَ يَأْمُرُهَا بِخُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّحْرَاءِ لِصَلَاةِ
الِاسْتِسْقَاءِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِامْتِثَالِ ذَلِكَ، فَصَلَّى النَّاسُ
وَاسْتَسْقَوْا، فَجَاءَتِ الْأَمْطَارُ، فَزَادَتِ الْفُرَاتَ شَيْئًا لَمْ يُرَ
مِثْلُهُ، وَغَرِقَتِ الْعَبَّاسِيَّةُ، وَدَخَلَ الْمَاءُ شَوَارِعَ بِبَغْدَادَ،
فَسَقَطَتِ الْقَنْطَرَةُ الْعَتِيقَةُ وَالْجَدِيدَةُ، وَقَطَعَتِ الْأَكْرَادُ
عَلَى قَافِلَةٍ مَنْ خُرَاسَانَ الطَّرِيقَ، فَأَخَذُوا مِنْهُمْ مَا قِيمَتُهُ
ثَلَاثَةُ آلَافِ دِينَارٍ، وَكَانَ أَكْثَرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ بَجْكَمَ
التُّرْكِيِّ.
وَخَرَجَ النَّاسُ لِلْحَجِّ، فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ رَجَعُوا مِنْ
أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، بِسَبَبِ رَجُلٍ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ قَدْ ظَهَرَ
بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، وَخَرَجَ عَنِ
الطَّاعَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَوْمَرْدَ
الْفَقِيهُ، أَحَدُ أَصْحَابِ ابْنِ سُرَيْجٍ، خَرَجَ مِنَ الْحَمَّامِ، فَسَقَطَ
عَلَيْهِ، فَمَاتَ مِنْ فَوْرِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
بَجْكَمُ التُّرْكِيُّ
الَّذِي تَوَلَّى إِمْرَةَ الْأُمَرَاءِ بِبَغْدَادَ قَبْلَ بَنِي بُوَيْهِ،
وَكَانَ عَاقِلًا يَفْهَمُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِهَا، يَقُولُ:
أَخَافُ أَنْ أُخْطِئَ، وَالْخَطَأُ مِنَ الرَّئِيسِ قَبِيحٌ.
وَكَانَ
مَعَ ذَلِكَ يُحِبُّ الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ، وَكَانَ كَثِيرَ الْأَمْوَالِ
وَالصَّدَقَاتِ، ابْتَدَأَ بِعَمَلِ مَارَسْتَانَ بِبَغْدَادَ فَلَمْ يَتِمَّ،
فَجَدَّدَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ.
وَكَانَ يَقُولُ: الْعَدْلُ أَرْبَحُ لِلسُّلْطَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَكَانَ يَدْفِنُ أَمْوَالًا كَثِيرَةً فِي الصَّحَارِي، فَلَمَّا مَاتَ لَمْ
يُدْرَ أَيْنَ هِيَ.
وَكَانَ نُدَمَاءُ الرَّاضِي قَدِ انْحَدَرُوا إِلَى بَجْكَمَ وَهُوَ بِوَاسِطٍ،
وَكَانَ قَدْ ضَمِنَهَا بِثَمَانِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَكَانُوا
يُسَامِرُونَهُ كَالْخَلِيفَةِ، فَكَانَ لَا يَفْهَمُ أَكْثَرَ مَا يَقُولُونَ،
وَرَاضَ لَهُ مِزَاجَهُ الطَّبِيبُ سِنَانُ بْنُ ثَابِتٍ الصَّابِئُ حَتَّى لَانَ
خُلُقُهُ، وَحَسُنَتْ سِيرَتُهُ، وَقَلَّتْ سَطْوَتُهُ، وَلَكِنْ لَمْ يُعَمَّرْ
إِلَّا قَلِيلًا بَعْدَ ذَلِكَ.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ مَرَّةً رَجُلٌ فَوَعَظَهُ فَأَبْكَاهُ، فَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفِ
دِرْهَمٍ، فَلَحِقَهُ بِهَا الْغُلَامُ، فَقَالَ بَجْكَمُ لِجُلَسَائِهِ: مَا
أَظُنُّهُ يَقْبَلُهَا وَلَا يُرِيدُهَا، وَمَا يَصْنَعُ هَذَا بِالدُّنْيَا ؟
هَذَا مُحَرَّقٌ بِالْعِبَادَةِ. فَرَجَعَ الْغُلَامُ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ،
فَقَالَ: قَبِلَهَا ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ بَجْكَمُ: كُلُّنَا صَيَّادُونَ
وَلَكِنَّ الشِّبَاكَ تَخْتَلِفُ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَسَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ خَرَجَ يَتَصَيَّدُ، فَلَقِيَ طَائِفَةً مِنَ
الْأَكْرَادِ، فَاسْتَهَانَ بِهِمْ، فَقَاتَلُوهُ فَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ
فَقَتَلَهُ. وَكَانَتْ إِمْرَتُهُ عَلَى بَغْدَادَ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةَ
أَشْهُرٍ وَتِسْعَةَ أَيَّامٍ، وَخَلَّفَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ مَا
يُنَيِّفُ عَلَى أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، أَخَذَهَا الْمُتَّقِي لِلَّهِ
كُلَّهَا.
أَبُو
مُحَمَّدٍ الْبَرْبَهَارِيُّ الْوَاعِظُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ أَبُو
مُحَمَّدٍ الْبَرْبَهَارِيُّ
الْعَالَمُ الزَّاهِدُ الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ الْوَاعِظُ، صَاحَبُ
الْمَرُّوذِيَّ وَسَهْلًا التُّسْتَرِيَّ، وَتَنَزَّهَ عَنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ -
وَكَانَ سَبْعِينَ أَلْفًا - لِأَمَرٍ كَرِهَهُ. وَكَانَ شَدِيدًا عَلَى أَهْلِ
الْبِدَعِ وَالْمَعَاصِي، وَكَانَ كَبِيرَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ
وَالْعَامَّةِ، وَقَدْ عَطَسَ يَوْمًا وَهُوَ يَعِظُ النَّاسَ، فَشَمَّتَهُ الْحَاضِرُونَ،
ثُمَّ شَمَّتَهُ مَنْ سَمِعَهُمْ، حَتَّى شَمَّتَهُ أَهْلُ بَغْدَادَ فَانْتَهَتِ
الضَّجَّةُ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَغَارَ الْخَلِيفَةُ مِنْ ذَلِكَ،
وَتَكَلَّمَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَرْبَابِ الدَّوْلَةِ فَطُلِبَ فَاسْتَتَرَ
عِنْدَ أُخْتِ تُوزُونَ شَهْرًا، ثُمَّ أَخَذَهُ الْقِيَامُ فَمَاتَ عِنْدَهَا،
فَأَمَرَتْ خَادِمَهَا أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَامْتَلَأَتِ
الدَّارُ رِجَالًا عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ بِيضٌ، فَدَفَنَتْهُ عِنْدَهَا، ثُمَّ
أَوْصَتْ أَنْ تُدْفَنَ عِنْدَهُ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ سِتًّا
وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُهْلُولِ أَبُو بَكْرٍ
الْأَزْرَقُ
لِأَنَّهُ كَانَ أَزْرَقَ الْعَيْنَيْنِ، التَّنُوخِيُّ الْكَاتِبُ، سَمِعَ
جَدَّهُ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ بَكَّارٍ
وَالْحَسَنَ بْنَ عَرَفَةَ وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَ خَشِنَ الْعَيْشِ، كَثِيرَ الصَّدَقَةِ، يُقَالُ: إِنَّهُ تَصَدَّقَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ. وَكَانَ أَمَّارًا بِالْمَعْرُوفِ نِهَّاءً عَنِ الْمُنْكَرِ، رَوَى عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ ثِقَةً عَدْلًا. تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا ظَهَرَ كَوْكَبٌ بِذَنَبٍ،
رَأْسُهُ إِلَى الْغَرْبِ، وَذَنَبُهُ إِلَى الشَّرْقِ، وَكَانَ عَظِيمًا جِدًّا،
وَذَنَبُهُ مُنْتَشِرٌ، وَبَقِيَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا إِلَى أَنِ اضْمَحَلَّ.
قَالَ: وَفِي نِصْفِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَلَغَ الْكُرُّ مِنَ الْحِنْطَةِ مِائَتَيْ
دِينَارٍ وَعَشَرَةَ دَنَانِيرَ، وَمِنَ الشَّعِيرِ مِائَةً وَعِشْرِينَ
دِينَارًا، ثُمَّ بَلَغَ كُرُّ الْحِنْطَةِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ
دِينَارًا، وَأَكَلَ الضُّعَفَاءُ الْمَيْتَةَ، وَدَامَ الْغَلَاءُ وَكَثُرَ
الْمَوْتُ، وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ، وَشُغِلَ النَّاسُ بِالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ،
وَتُرِكَ دَفْنُ الْمَوْتَى، وَشُغِلَ النَّاسُ عَنِ الْمَلَاهِي وَاللَّعِبِ.
قَالَ: ثُمَّ جَاءَ مَطَرٌ كَأَفْوَاهِ الْقِرَبِ وَبَلَغَتْ زِيَادَةُ دِجْلَةَ
عِشْرِينَ ذِرَاعًا وَثُلُثًا.
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ " أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ
رَائِقٍ - الَّذِي هُوَ أَمِيرُ الْأُمَرَاءِ بِبَغْدَادَ حِينَئِذٍ - وَقَعَتْ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ الَّذِي بِوَاسِطٍ وَحْشَةٌ
بِسَبَبِ مَنْعِ الْبَرِيدِيِّ الْخَرَاجَ الَّذِي عِنْدَهُ، فَرَكَّبَ إِلَيْهِ
ابْنُ رَائِقٍ لِيَتَسَلَّمَ مَا عِنْدَهُ مِنَ
الْمَالِ،
فَوَقَعَتْ مُصَالَحَةٌ، وَرَجَعَ ابْنُ رَائِقٍ فَطَالَبَهُ الْجُنْدُ
بِأَرْزَاقِهِمْ، وَضَاقَ عَلَيْهِ حَالُهُ، وَتَحَيَّزَ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْأَتْرَاكِ إِلَى الْبَرِيدِيِّ، فَضَعُفَ جَانِبُ ابْنِ رَائِقٍ فَكَاتَبَ
الْبَرِيدِيَّ بِالْوِزَارَةِ بِبَغْدَادَ، ثُمَّ قَطَعَ اسْمَ الْوِزَارَةِ
عَنْهُ، فَاشْتَدَّ حَنَقُ الْبَرِيدِيِّ، وَعَزَمَ عَلَى أَخْذِ بَغْدَادَ
فَبَعَثَ أَخَاهُ أَبَا الْحُسَيْنِ فِي جَيْشٍ، فَتَحَصَّنَ ابْنُ رَائِقٍ مَعَ الْخَلِيفَةِ
بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَنَصَبَ فِيهَا الْمَجَانِيقَ وَالْعَرَّادَاتِ، وَعَلَى
دِجْلَةَ أَيْضًا، فَاضْطَرَبَتْ بَغْدَادُ وَنَهَبَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
لَيْلًا وَنَهَارًا، وَجَاءَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَخُو أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْبَرِيدِيِّ بِمَنْ مَعَهُ، فَقَاتَلَهُمُ النَّاسُ فِي الْبَرِّ وَفِي
دِجْلَةَ، وَتَفَاقَمَ الْحَالُ، وَاشْتَدَّ الْخَطْبُ جِدًّا، مَعَ الْغَلَاءِ
وَالْوَبَاءِ وَالْفِنَاءِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ وَابْنَ رَائِقٍ انْهَزَمَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ -
وَمَعَ الْخَلِيفَةِ ابْنُهُ أَبُو مَنْصُورٍ - فِي عِشْرِينَ فَارِسًا،
فَقَصَدُوا نَحْوَ الْمَوْصِلِ وَاسْتَحْوَذَ أَبُو الْحُسَيْنِ عَلَى دَارِ
الْخِلَافَةِ، فَقَتَلَ أَصْحَابُ الْبَرِيدِيِّ مَنْ وَجَدُوا بِدَارِ
الْخِلَافَةِ مِنَ الْحَاشِيَةِ، وَنَهَبُوهَا حَتَّى وَصَلَ النَّهْبُ إِلَى
الْحَرِيمِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْقَاهِرِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ أَعْمَى
مَكْفُوفٌ، وَأَخْرَجُوا كُورْتَكِينَ مِنَ الْحَبْسِ، فَبَعَثَهُ أَبُو
الْحُسَيْنِ إِلَى أَخِيهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، فَكَانَ آخِرَ
الْعَهْدِ بِهِ وَنَهَبُوا بَغْدَادَ جِهَارًا عَلَانِيَةً، وَنَزَلَ أَبُو
الْحُسَيْنِ بِدَارِ مُؤْنِسٍ الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا ابْنُ رَائِقٍ وَكَانُوا
يَكْبِسُونَ الدُّورَ وَيَأْخُذُونَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، فَكَثُرَ الْجَوْرُ،
وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ جِدًّا، وَضَرَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْمَكْسَ عَلَى
الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَذَاقَ أَهْلُ بَغْدَادَ لِبَاسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ. وَكَانَ مَعَ أَبِي الْحُسَيْنِ فِي الْجَيْشِ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ
مِنَ الْقَرَامِطَةِ، فَأَفْسَدُوا فِي الْبَلَدِ فَسَادًا عَظِيمًا، فَوَقَعَتْ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَتْرَاكِ حُرُوبٌ طَوِيلَةٌ شَدِيدَةٌ، فَغَلَبَتْهُمُ
التُّرْكُ،
وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ بَغْدَادَ وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْعَامَّةِ
وَالدَّيْلَمِ أَيْضًا.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّ الْحَالُ أَيْضًا، وَنُهِبَتِ
الْمَسَاكِنُ، وَكُبِسَ أَهْلُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَخَرَجَتِ الْجُنْدُ مِنْ
أَصْحَابِ الْبَرِيدِيِّ، فَنَهَبُوا الْغَلَّاتِ مِنَ الْقُرَى
وَالْحَيَوَانَاتِ، وَجَرَى ظُلْمٌ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا ; لِيَعْلَمَ الظَّلَمَةُ
أَنَّ أَخْبَارَهُمْ تُنْقَلُ وَتَبْقَى بَعْدَهُمْ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ،
فَرُبَّمَا تَرَكُوا الظُّلْمَ لِهَذَا إِنْ لَمْ يَتْرُكُوهُ لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ.
وَقَدْ كَانَ الْخَلِيفَةُ أَرْسَلَ وَهُوَ بِبَغْدَادَ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ
بْنِ حَمْدَانَ نَائِبِ الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ يَسْتَمِدُّهُ، وَيَسْتَجِيشُ
بِهِ عَلَى الْبَرِيدِيِّ، فَأَرْسَلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أَخَاهُ سَيْفَ
الدَّوْلَةِ عَلِيًّا فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَلَمَّا كَانَ بِتَكْرِيتَ إِذَا
الْخَلِيفَةُ وَابْنُ رَائِقٍ قَدْ هَرَبَا، فَرَجَعَ مَعَهُمَا سَيْفُ
الدَّوْلَةِ إِلَى أَخِيهِ، وَقَدَّمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ لِلْخَلِيفَةِ
الْمُتَّقِي لِلَّهِ خِدْمَةً عَظِيمَةً فِي مَسِيرِهِ هَذَا، وَلَمَّا وَصَلُوا
إِلَى الْمَوْصِلِ خَرَجَ عَنْهَا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، فَنَزَلَ شَرْقِيَّهَا،
وَأَرْسَلَ التُّحَفَ وَالضِّيَافَاتِ، وَلَمْ يَجِئْ خَوْفًا مِنَ الْغَائِلَةِ
مِنْ جِهَةِ ابْنِ رَائِقٍ نَائِبِ الْعِرَاقِ وَصَاحِبِ الشَّامِ فَأَرْسَلَ
الْخَلِيفَةُ وَلَدَهُ أَبَا مَنْصُورٍ وَمَعَهُ ابْنُ رَائِقٍ لِلسَّلَامِ عَلَى
نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَأَمَرَ أَنْ يُنْثَرَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ عَلَى رَأْسِ
وَلَدِ الْخَلِيفَةِ، وَجَلَسَا عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَا لِيَرْجِعَا،
فَرَكِبَ ابْنُ الْخَلِيفَةِ، وَأَرَادَ ابْنُ رَائِقٍ أَنْ يَرْكَبَ مَعَهُ،
فَقَالَ لَهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ: اجْلِسِ الْيَوْمَ عِنْدِي حَتَّى نُفَكِّرَ
فِيمَا نَصْنَعُ
فِي
أَمْرِنَا هَذَا. فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِابْنِ الْخَلِيفَةِ، وَاسْتَرَابَ
الْأَمْرَ، فَقَبَضَ ابْنُ حَمْدَانَ بِكُمِّهِ، فَجَبَذَهُ ابْنُ رَائِقٍ مِنْهُ،
فَانْقَطَعَ كُمُّهُ، وَرَكِبَ سَرِيعًا، فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ، فَأَمَرَ
نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِسَبْعٍ
بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى ابْنِ
حَمْدَانَ فَاسْتَحْضَرَهُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَلَقَّبَهُ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ
يَوْمَئِذٍ، وَجَعَلَهُ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ، وَخَلَعَ عَلَى أَخِيهِ أَبِي
الْحَسَنِ عَلِيٍّ، وَلَقَّبَهُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ يَوْمَئِذٍ أَيْضًا، وَلَمَّا قُتِلَ
ابْنُ رَائِقٍ، وَبَلَغَ خَبَرُ قَتْلِهِ إِلَى صَاحِبِ مِصْرَ الْإِخْشِيدِ
مُحَمَّدِ بْنِ طُغْجٍ، رَكِبَ إِلَى دِمَشْقَ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ
يَزْدَادَ نَائِبِ ابْنِ رَائِقٍ وَلَمْ يَنْتَطِحْ فِيهَا عَنْزَانِ.
وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ مَقْتَلِهِ إِلَى بَغْدَادَ فَارَقَ أَكْثَرُ الْأَتْرَاكِ
أَبَا الْحُسَيْنِ الْبَرِيدِيَّ لِسُوءِ سِيرَتِهِ، وَخُبْثِ سَرِيرَتِهِ،
قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَقَصَدُوا الْخَلِيفَةَ وَابْنَ حَمْدَانَ فِي الْمَوْصِلِ
فَقَوِيَ بِهِمْ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، وَرَكِبَ هُوَ وَالْخَلِيفَةُ الْمُتَّقِي
لِلَّهِ إِلَى بَغْدَادَ فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنْهَا، هَرَبَ عَنْهَا أَبُو
الْحُسَيْنِ الْبَرِيدِيُّ، وَدَخَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَّقِي لِلَّهِ إِلَى
بَغْدَادَ وَمَعَهُ بَنُو حَمْدَانَ فِي جُيُوشٍ كَثِيرَةٍ، وَذَلِكَ فِي شَوَّالٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَفَرِحَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَبَعَثَ
إِلَى أَهْلِهِ - وَقَدْ كَانَ أَخْرَجَهُمْ إِلَى سَامَرَّاءَ - فَرَدَّهُمْ،
وَتَرَاجَعَ أَعْيَانُ النَّاسِ إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَمَا كَانُوا قَدْ رَحَلُوا
عَنْهَا، وَرَدَّ الْخَلِيفَةُ أَبَا إِسْحَاقَ الْقَرَارِيطِيَّ إِلَى
الْوِزَارَةِ وَوَلَّى تُوزُونَ شُرْطَةَ جَانِبَيْ بَغْدَادَ وَبَعَثَ نَاصِرُ
الدَّوْلَةِ
أَخَاهُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ فِي جَيْشٍ وَرَاءَ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَرِيدِيِّ،
فَلَقِيَهُ عِنْدَ الْمَدَائِنِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فِي أَيَّامٍ
نَحِسَاتٍ، ثُمَّ كَانَ آخِرَ الْأَمْرِ أَنِ انْهَزَمَ أَبُو الْحُسَيْنِ إِلَى
أَخِيهِ بِوَاسِطٍ، وَقَدْ رَكِبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِنَفْسِهِ، فَنَزَلَ
الْمَدَائِنَ قُوَّةً لِأَخِيهِ.
وَقَدِ انْهَزَمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ مَرَّةً مِنْ أَبِي الْحُسَيْنِ فَرَدَّهُ
أَخُوهُ، وَزَادَهُ جَيْشًا آخَرَ حَتَّى كَسَرَ الْبَرِيدِيَّ، وَأَسَرَ
جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ
غَفِيرٌ، ثُمَّ أَرْسَلَ أَخَاهُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ إِلَى وَاسِطٍ لِقِتَالِ
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، فَانْهَزَمَ مِنْهُ الْبَرِيدِيُّ وَأَخُوهُ
إِلَى الْبَصْرَةِ وَتَسَلَّمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ وَاسِطًا، وَسَيَأْتِي مَا
كَانَ مِنْ خَبَرِهِ مَعَ الْبَرِيدِيِّ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، فَإِنَّهُ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ فَدَخَلَهَا فِي
ثَالِثِ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْأَسَارَى عَلَى الْجِمَالِ،
فَفَرِحَ النَّاسُ وَاطْمَأَنُّوا، وَنَظَرَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ،
وَأَصْلَحَ مِعْيَارَ الدِّينَارِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَجَدَهُ قَدْ غُيِّرَ عَمَّا
كَانَ عَلَيْهِ، فَضَرَبَ دَنَانِيرَ سَمَّاهَا الْإِبْرِيزِيَّةَ، فَكَانَتْ
تُبَاعُ كُلُّ دِينَارٍ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا كَانَ يُبَاعُ
الَّتِي قَبْلَهَا بِعَشْرَةٍ.
وَعَزَلَ الْخَلِيفَةُ بَدْرًا الْخَرْشَنِيَّ عَنِ الْحِجَابَةِ، وَوَلَّاهَا
سَلَامَةَ الطُّولُونِيَّ، وَجَعَلَ بَدْرًا عَلَى طَرِيقِ الْفُرَاتِ، فَسَارَ
إِلَى الْإِخْشِيدِ فَأَكْرَمَهُ وَاسْتَنَابَهُ عَلَى دِمَشْقَ فَمَاتَ بِهَا.
وَفِيهَا وَصَلَتِ الرُّومُ إِلَى قَرِيبِ حَلَبَ، فَقَتَلُوا خَلْقًا، وَأَسَرُوا
نَحْوًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفِ إِنْسَانٍ. فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا دَخَلَ الثَّمِلِيُّ مِنْ طَرَسُوسَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَقَتَلَ
وَسَبَى وَغَنِمَ وَسَلِمَ، وَأَسَرَ مِنْ بَطَارِقَتِهِمُ الْمَشْهُورِينَ
فِيهِمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيُّ
أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، صَحِبَ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَغَيْرَهُ
مِنْ أَئِمَّةِ الْقَوْمِ، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ حَتَّى مَاتَ بِهَا.
وَمِنْ كَلَامِهِ الْحَسَنِ قَوْلُهُ: مَفَاوِزُ الدُّنْيَا تُقْطَعُ
بِالْأَقْدَامِ، وَمَفَاوِزُ الْآخِرَةِ تُقْطَعُ بِالْقُلُوبِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدِ
بْنِ أَبَانٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الضَّبِّيُّ الْقَاضِي الْمَحَامِلِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْمُحَدِّثُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَأَدْرَكَ خَلْقًا
مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَرَوَى عَنْ
جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَخَلْقٌ، وَكَانَ
يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ نَحْوٌ مِنْ عَشْرَةِ آلَافٍ، وَكَانَ صَدُوقًا دَيِّنًا
فَقِيهًا مُحَدِّثًا، وَلِيَ قَضَاءَ الْكُوفَةِ سِتِّينَ سَنَةً، وَأُضِيفَ
إِلَيْهِ قَضَاءُ فَارِسَ وَأَعْمَالُهَا، ثُمَّ اسْتَعْفَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ،
وَلَزِمَ مَنْزِلَهُ، وَاقْتَصَرَ عَلَى إِسْمَاعِ الْحَدِيثِ. وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ
سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ تَنَاظَرَ هُوَ وَبَعْضُ الشِّيعَةِ بِحَضْرَةِ بَعْضِ الْأَكَابِرِ،
فَجَعَلَ الشِّيعِيُّ يَذْكُرُ مَوَاقِفَ عَلَيٍّ يَوْمَ بِدْرٍ وَأُحُدٍ
وَالْخَنْدَقِ وَخَيْبَرَ وَحُنَيْنٍ وَشَجَاعَتَهُ، ثُمَّ قَالَ
لِلْمَحَامِلِيِّ: أَتَعْرِفُهَا ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ أَتَعْرِفُ أَيْنَ
كَانَ الصَّدِّيقُ يَوْمَ بِدْرٍ ؟ كَانَ
مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرِيشِ بِمَنْزِلَةِ
الرَّئِيسِ الَّذِي يُحَامَى عَنْهُ كَمَا يُحَامَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيٌّ فِي مَقَامِ الْمُبَارَزَةِ، وَلَوْ فُرِضَ
أَنَّهُ انْهَزَمَ أَوْ قُتِلَ، لَمْ يُهْزَمِ الْجَيْشُ بِسَبَبِهِ، فَأُفْحِمَ
الشِّيعِيُّ. وَقَالَ لَهُ الْمَحَامِلِيُّ: وَقَدْ قَدَّمَهُ الَّذِينَ رَوَوْا
لَنَا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، حَيْثُ لَا مَالَ لَهُ وَلَا عَبِيدَ وَلَا عَشِيرَةَ تَمْنَعُهُ
وَتُحَاجِفُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَدَّمُوهُ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ خَيْرُهُمْ،
فَأُفْحِمَ أَيْضًا.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلٍ أَبُو الْحَسَنِ الصَّائِغُ
أَحَدُ الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ أَصْحَابِ الْكَرَامَاتِ. رُوِيَ عَنْ مُمْشَادَ
الدِّينَوَرِيِّ أَنَّهُ شَاهَدَ أَبَا الْحَسَنِ الصَّائِغَ يُصَلِّي فِي
الصَّحْرَاءِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، وَنَسْرٌ قَدْ نَشَرَ جَنَاحَيْهِ يُظِلُّهُ
مِنَ الْحَرِّ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الْأَشْعَرِيُّ الْمُتَكَلِّمُ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ، وَكَانَ
مُوَلِدُهُ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ.
قُلْتُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ،
كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ النَّضْرِ الْهَرَوِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ،
وَكَانَ
مَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَخَذَ عَنِ الرَّبِيعِ
بْنِ سُلَيْمَانَ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ.
قُلْتُ: وَقَدْ تُوُفِّيَ فِيهَا أَبُو حَامِدِ بْنُ بِلَالٍ، وَزَكَرِيَّا بْنُ
أَحْمَدَ الْبَلْخِيُّ، وَعَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ سَلَامَةَ الْحَافِظُ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ الْأَمِيرُ، وَالشَّيْخُ أَبُو صَالِحٍ مُفْلِحٌ
الْحَنْبَلِيُّ، وَاقِفُ مَسْجِدِ أَبِي صَالِحٍ ظَاهِرَ بَابِ شَرْقِيٍّ مِنْ
دِمَشْقَ وَكَانَتْ لَهُ كَرَامَاتٌ وَأَحْوَالٌ وَمَقَامَاتٌ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ أَبِي صَالِحٍ الدِّمَشْقِيِّ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ
الْمَسْجِدُ ظَاهِرَ بَابِ شَرْقِيٍّ بِدِمَشْقَ:
مُفْلِحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو صَالِحٍ الْمُتَعَبِّدُ، صَحِبَ الشَّيْخَ
أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ سَيِّدٍ حَمْدَوَيْهِ الدِّمَشْقِيَّ، وَتَأَدَّبَ
بِهِ، وَرَوَى عَنْهُ الْمُوَحِّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُرِّيِّ، وَأَبُو
الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْقُجَّةِ قَيِّمُ الْمَسْجِدِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ
دَاوُدَ الدِّينَوَرِيُّ الدُّقِّيُّ.
رَوَى
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الدُّقِّيِّ، عَنِ الشَّيْخِ أَبِي
صَالِحٍ قَالَ: كُنْتُ أَطُوفُ بِجَبَلِ اللُّكَّامِ ; أَطْلُبُ الزُّهَّادَ،
فَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى صَخْرَةٍ مُطْرِقًا، فَقُلْتُ لَهُ: مَا
تَصْنَعُ هَاهُنَا ؟ فَقَالَ: أَنْظُرُ وَأَرْعَى. فَقُلْتُ لَهُ: لَا أَرَى
بَيْنَ يَدَيْكَ إِلَّا الْحِجَارَةَ. فَقَالَ: أَنْظُرُ خَوَاطِرَ قَلْبِي،
وَأَرْعَى أَوَامِرَ رَبِّي، وَبِحَقِّ الَّذِي أَظْهَرَكَ عَلَيَّ إِلَّا جُزْتَ عَنِّي.
فَقُلْتُ لَهُ: كَلِّمْنِي بِشَيْءٍ أَنْتَفِعُ بِهِ حَتَّى أَمْضِيَ. فَقَالَ
لِي: مَنْ لَزِمَ الْبَابَ أُثْبِتَ فِي الْخَدَمِ، وَمَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ
الذُّنُوبِ أَكْثَرَ النَّدَمَ، وَمَنِ اسْتَغْنَى بِاللَّهِ أَمِنَ الْعَدَمَ.
ثُمَّ تَرَكَنِي وَمَضَى.
وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: مَكَثْتُ سِتَّةَ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ
لَمْ آكُلْ وَلَمْ أَشْرَبْ، وَلَحِقَنِي عَطَشٌ عَظِيمٌ، فَجِئْتُ النَّهْرَ
الَّذِي وَرَاءَ الْمَسْجِدِ، فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ، فَتَذَكَّرْتُ
قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [ هُودٍ: 7 ] فَذَهَبَ عَنِّي
الْعَطَشُ، فَمَكَثْتُ تَمَامَ الْعَشْرَةِ أَيَّامٍ.
وَعَنْهُ قَالَ: مَكَثْتُ مَرَّةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَمْ أَشْرَبْ مَاءً،
فَلَقِيَنِي الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَيِّدٍ حَمْدَوَيْهِ، فَأَخَذَ
بِيَدِي وَأَدْخَلَنِي مَنْزِلَهُ، وَجَاءَنِي بِمَاءٍ، وَقَالَ لِي: اشْرَبْ،
فَشَرِبْتُ، فَأَخَذَ فَضْلَتِي وَذَهَبَ إِلَى امْرَأَتِهِ، وَقَالَ لَهَا:
اشْرَبِي فَضْلَ رَجُلٍ قَدْ مَكَثَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَمْ يَشْرَبِ الْمَاءَ.
قَالَ أَبُو صَالِحٍ: وَلَمْ يَكُنِ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ مِنِّي أَحَدٌ إِلَّا
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَمِنْ
كَلَامِ أَبِي صَالِحٍ: الدُّنْيَا حَرَامٌ عَلَى الْقُلُوبِ، حَلَالٌ عَلَى
النُّفُوسِ ; لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ
رَأْسِكَ، فَيَحْرُمُ عَلَيْكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ قَلْبِكَ.
وَكَانَ يَقُولُ: الْبَدَنُ لِبَاسُ الْقَلْبِ، وَالْقَلْبُ لِبَاسُ الْفُؤَادِ،
وَالْفُؤَادُ لِبَاسُ الضَّمِيرِ، وَالضَّمِيرُ لِبَاسُ السِّرِّ، وَالسِّرُّ
لِبَاسُ الْمَعْرِفَةِ.
وَلِأَبِي صَالِحٍ مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ كَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى وَاسِطٍ وَقَدِ انْهَزَمَ
عَنْهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ وَأَخُوهُ أَبُو الْحُسَيْنِ، ثُمَّ
اخْتَلَفَ التُّرْكُ عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَمَالُوا إِلَى تُوزُونَ وَهُمَّ
بِالْقَبْضِ عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ قَاصِدًا إِلَى
بَغْدَادَ وَبَلَغَ أَخَاهُ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَسَنَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ الْمُلَقَّبَ بِأَمِيرِ الْأُمَرَاءِ بِبَغْدَادَ
الْخَبَرُ، فَخَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَنُهِبَتْ دَارُهُ
بِبَغْدَادَ، وَكَانَتْ إِمَارَةُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ عَلَى بَغْدَادَ ثَلَاثَةَ
عَشَرَ شَهْرًا وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَجَاءَ أَخُوهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بَعْدَ
خُرُوجِهِ مِنْهَا، فَنَزَلَ بِبَابِ حَرْبٍ، وَطَلَبَ مِنَ الْخَلِيفَةِ
الْمُتَّقِي لِلَّهِ أَنْ يَمُدَّهُ بِمَالٍ يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى حَرْبِ
تُوزُونَ فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَفَرَّقَهَا فِي
أَصْحَابِهِ. وَحِينَ سَمِعَ بِقُدُومِ تُوزُونَ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ
وَدَخَلَهَا تُوزُونُ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَخَلَعَ
عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ، وَجَعَلَهُ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ
بِبَغْدَادَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ رَجَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ إِلَى
وَاسِطٍ وَأَخْرَجَ مَنْ كَانَ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ تُوزُونَ وَكَانَ فِي أَسْرِ
تُوزُونَ غُلَامٌ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ يُقَالُ لَهُ: ثِمَالٌ. فَأَرْسَلَهُ إِلَى
مَوْلَاهُ، فَحَسُنَ مُوقِعُ ذَلِكَ عِنْدَ آلِ حَمْدَانَ.
وَفِيهَا
كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِبِلَادِ نَسَا سَقَطَ مِنْهَا عِمَارَاتٌ
كَثِيرَةٌ، وَهَلَكَ بِسَبَبِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ بِبَغْدَادَ فِي أَيْلُولَ وَتِشْرِينَ حَرٌّ
شَدِيدٌ يَأْخُذُ بِالْأَنْفَاسِ، وَفِي صَفَرٍ وَرَدَ الْخَبَرُ بِوُرُودِ
الرُّومِ إِلَى أَرْزَنَ وَمَيَّافَارِقِينَ، وَأَنَّهُمْ سَبَوْا وَأَحْرَقُوا.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عُقِدَ عَقْدُ أَبِي مَنْصُورٍ
إِسْحَاقِ بْنِ الْخَلِيفَةِ الْمُتَّقِي لِلَّهِ عَلَى عُلْوِيَّةَ بِنْتِ
نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ، عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ وَأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَوَلِيَ الْعَقْدَ عَلَى الْجَارِيَةِ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُوسَى الْهَاشِمِيُّ، وَلَمْ يَحْضُرْ
نَاصِرُ الدَّوْلَةِ. وَضَرَبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ سِكَّةً، زَادَ فِي
الْكِتَابَةِ عَلَيْهَا: عَبْدُ آلِ مُحَمَّدٍ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي آذَارَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ غَلَتِ
الْأَسْعَارُ حَتَّى أَكَلَ النَّاسُ الْكِلَابَ، وَوَقَعَ الْوَبَاءُ فِي
النَّاسِ، وَوَافَى مِنَ الْجَرَادِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، حَتَّى بِيعَ مِنْهُ
كُلُّ خَمْسِينَ رِطْلًا بِدِرْهَمٍ، فَارْتَفَقَ النَّاسُ بِهِ فِي الْغَلَاءِ.
وَفِيهَا وَرَدَ كِتَابُ مَلِكِ الرُّومِ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ فِيهِ
مِنْدِيلًا بِكَنِيسَةِ الرُّهَا كَانَ الْمَسِيحُ قَدْ مَسَحَ وَجْهَهُ بِهِ،
فَصَارَتْ صُورَةُ وَجْهِهِ فِيهِ، وَيَعِدُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ إِذَا
أُرْسِلَ إِلَيْهِ يَبْعَثُ مِنْ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ خَلْقًا كَثِيرًا،
فَأَحْضَرَ الْخَلِيفَةُ الْعُلَمَاءَ فَاسْتَشَارَهُمْ فِي ذَلِكَ ; فَمِنْ
قَائِلٍ: نَحْنُ أَحَقُّ بِعِيسَى مِنْهُمْ، وَفِي بَعْثِهِ إِلَيْهِمْ
غَضَاضَةٌ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَوَهْنٌ. فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْوَزِيرُ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْقَاذُ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي
الْكُفَّارِ خَيْرٌ وَأَنْفَعُ لِلنَّاسِ مِنْ بَقَاءِ ذَلِكَ الْمِنْدِيلِ
بِتِلْكَ الْكَنِيسَةِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِإِرْسَالِ ذَلِكَ الْمِنْدِيلِ
إِلَيْهِمْ، وَتَخْلِيصِ الْأَسَارَى مِنْ أَيْدِيهِمْ.
قَالَ الصُّولِيُّ: وَوَصَلَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْقِرْمِطِيَّ وُلِدَ لَهُ
مَوْلُودٌ، فَأَهْدَى إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ هَدَايَا
عَظِيمَةً، مِنْهَا مَهْدٌ مِنْ ذَهَبٍ، مُرَصَّعٌ بِالْجَوْهَرِ. وَكَثُرَ
الرَّفْضُ بِبَغْدَادَ، فَنُودِيَ بِهَا: مَنْ ذَكَرَ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ
بِسُوءٍ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ.
وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَى عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ خِلَعًا،
فَقَبِلَهَا وَلَبِسَهَا بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ السَّامَانِيِّ
صَاحِبِ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَقَدْ مَرِضَ قَبْلَ مَوْتِهِ
بِالسِّلِّ سَنَةً وَشَهْرًا، وَاتَّخَذَ فِي دَارِهِ بَيْتًا سَمَّاهُ بَيْتَ
الْعِبَادَةِ، فَكَانَ يَلْبَسُ ثِيَابًا نِظَافًا، وَيَمْشِي إِلَيْهِ حَافِيًا،
وَيُصَلِّي فِيهِ، وَيَتَضَرَّعُ وَيُكْثِرُ الصَّلَاةَ، وَكَانَ يَجْتَنِبُ
الْمُنْكِرَاتِ وَالْآثَامَ إِلَى أَنْ مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَامَ
بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ نُوحُ بْنُ نَصْرٍ السَّامَانِيُّ وَلُقِّبَ
بِالْأَمِيرِ الْحَمِيدِ، فَقَتَلَ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ النَّسَفِيَّ -
وَكَانَ قَدْ طُعِنَ فِيهِ عِنْدَهُ - وَصَلَبَهُ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سِنَانُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ قُرَّةَ الصَّابِئُ
أَبُو سَعِيدٍ الْمُتَطَبِّبُ، أَسْلَمَ عَلَى يَدِ الْقَاهِرِ بِاللَّهِ، وَلَمْ
يُسْلِمْ وَلَدُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَقَدْ كَانَ مُقَدَّمًا
فِي الطِّبِّ وَفِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِعِلَّةِ الذَّرَبِ، فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُ صِنَاعَتُهُ
شَيْئًا حِينَ جَاءَهُ الْمَوْتُ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ
فِي هَذَا الْمَعْنَى:
قُلْ لِلَّذِي صَنَعَ الدَّوَاءَ بِكَفِّهِ أَتَرُدُّ مَقْدُورًا عَلَيْكَ قَدْ
جَرَى مَاتَ الْمُدَاوَى وَالْمُدَاوِي وَالَّذِي
صَنَعَ الدَّوَاءَ بِكَفِّهِ وَمَنِ اشْتَرَى
أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ
ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " وَفَاةَ
الْأَشْعَرِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ، وَحَطَّ عَلَيْهِ كَمَا
جَرَتِ عَادَةُ الْحَنَابِلَةِ، يَتَكَلَّمُونَ فِي الْأَشْعَرِيَّةِ قَدِيمًا
وَحَدِيثًا. وَذَكَرَ أَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَنَّهُ
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَنَّهُ صَحِبَ الْجُبَّائِيَّ أَرْبَعِينَ
سَنَةً، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَأَنَّهُ تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ، وَدُفِنَ
بِمَشْرَعَةِ الرَّوَايَا.
مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ بْنِ الصَّلْتِ السَّدُوسَيُّ
مَوْلَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ
سَمِعَ جَدَّهُ وَعَبَّاسًا الدُّورِيَّ وَغَيْرَهُمَا، وَعَنْهُ أَبُو عُمَرَ
بْنُ مَهْدِيٍّ، وَكَانَ ثِقَةً.
وَرَوَى الْخَطِيبُ أَنَّ وَالِدَ مُحَمَّدٍ هَذَا حِينَ وُلِدَ أَخَذَ طَالَعَ
مَوْلِدِهِ الْمُنَجِّمُونَ، فَحَسَبُوا عُمْرَهُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يَعِيشُ
كَذَا وَكَذَا. فَأَرْصَدَ لَهُ أَبُوهُ حُبًّا، فِيهِ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ
عُمْرِهِ دِينَارٌ، ثُمَّ أَرْصَدَ لَهُ حُبًّا آخَرَ كَذَلِكَ، ثُمَّ آخَرَ
كَذَلِكَ، فَكَانَ يَعْدِلُ كُلَّ يَوْمٍ بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ، وَمَعَ هَذَا
مَا أَفَادَهُ شَيْئًا، بَلِ افْتَقَرَ حَتَّى صَارَ يَسْتَعْطِي مِنَ النَّاسِ،
وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَ السَّمَاعِ عَلَيْهِ بِلَا إِزَارٍ، يَتَصَدَّقُ
عَلَيْهِ أَهِلُ الْمَجْلِسِ بِشَيْءٍ يَقُومُ بِأَوَدِهِ. وَالسَّعِيدُ مَنْ
أَسْعَدَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ حَفْصٍ أَبُو عُمَرَ الدُّورِيُّ الْعَطَّارُ
كَانَ يَسْكُنُ الدُّورَ، وَهِيَ مَحَلَّةٌ بِطَرَفِ بَغْدَادَ سَمِعَ الْحَسَنَ
بْنَ عَرَفَةَ وَالزُّبَيْرَ بْنَ بَكَّارٍ وَمُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ وَغَيْرَهُمْ،
وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ ثِقَةً،
فَهِمًا، وَاسِعَ الرِّوَايَةِ، مَشْكُورَ الدِّيَانَةِ، مَشْهُورًا
بِالْعِبَادَةِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَدِ اسْتَكْمَلَ سَبْعًا وَتِسْعِينَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ
وَأَحَدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا.
الْمَجْنُونُ
الْبَغْدَادِيُّ
رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ الشَّبْلِيِّ، قَالَ:
رَأَيْتُ مَجْنُونًا عِنْدَ جَامِعِ الرُّصَافَةِ وَهُوَ عُرْيَانٌ، وَهُوَ
يَقُولُ: أَنَا مَجْنُونُ اللَّهِ، أَنَا مَجْنُونُ اللَّهِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا
لَكَ ؟ أَلَا تَسْتَتِرُ وَتَدْخُلُ الْجَامِعَ وَتُصَلِّي ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يَقُولُونَ زُرْنَا وَاقْضِ وَاجِبَ حَقِّنَا وَقَدْ أَسْقَطَتْ حَالِي
حُقُوقَهُمْ عَنِّي
إِذَا هُمْ رَأَوْا حَالِي وَلَمْ يَأْنَفُوا لَهَا وَلَمْ يَأْنَفُوا مِنْهَا
أَنِفْتُ لَهُمْ مِنِّي
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ مُغَاضِبًا
لِتُوزُونَ أَمِيرِ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ بِوَاسِطٍ، وَقَدْ زَوَّجَ
ابْنَتَهُ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، وَصَارَا يَدًا وَاحِدَةً
عَلَى الْخَلِيفَةِ، وَأَرْسَلَ ابْنُ شِيرَزَادَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ إِلَى
بَغْدَادَ فَأَفْسَدَ فِيهَا وَقَطَعَ وَوَصَلَ، وَاسْتَقَلَّ بِالْأُمُورِ مِنْ
غَيْرِ مُرَاجَعَةِ الْمُتَّقِي لِلَّهِ فَغَضِبَ الْمُتَّقِي، وَخَرَجَ مِنْهَا
مُغَاضِبًا بِأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ وَوَزِيرِهِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ
الْأُمَرَاءِ وَأَعْيَانِ أَهْلِ بَغْدَادَ قَاصِدًا بَنِي حَمْدَانَ،
فَتَلَقَّاهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى تَكْرِيتَ ثُمَّ جَاءَهُ نَاصِرُ
الدَّوْلَةِ وَهُوَ بِتَكْرِيتَ أَيْضًا، وَحِينَ خَرَجَ الْمُتَّقِي مِنْ
بَغْدَادَ أَكْثَرَ ابْنُ شِيرَزَادَ الْفَسَادَ، وَظَلَمَ أَهْلَهَا
وَصَادَرَهُمْ، وَأَرْسَلَ يُعْلِمُ تُوزُونَ فَأَقْبَلَ مُسْرِعًا نَحْوَ تَكْرِيتَ
فَتَوَاقَعَ هُوَ وَسَيْفُ الدَّوْلَةِ، فَهَزَمَ تُوزُونُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ،
وَأَخَذَ مُعَسْكَرَهُ وَمُعَسْكَرَ أَخِيهِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ كَرَّ
إِلَيْهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، فَهَزَمَهُ تُوزُونُ أَيْضًا، وَانْهَزَمَ
الْخَلِيفَةُ الْمُتَّقِي وَنَاصِرُ الدَّوْلَةِ وَسَيْفُ الدَّوْلَةِ مِنَ
الْمَوْصِلِ إِلَى نَصِيبِينَ وَجَاءَ تُوزُونُ، فَدَخَلَ الْمَوْصِلَ وَأَرْسَلَ
إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ رِضَاهُ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ، يَقُولُ: لَا
سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنْ تُصَالِحَ بَنِي حَمْدَانَ. فَاصْطَلَحُوا،
وَضَمِنَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِلَادَ الْمَوْصِلِ بِثَلَاثَةِ آلَافِ أَلْفٍ
وَسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ، وَرَجَعَ تُوزُونُ إِلَى بَغْدَادَ وَأَقَامَ الْخَلِيفَةُ
عِنْدَ بَنِي حَمْدَانَ.
وَفِي غَيْبَةِ تُوزُونَ عَنْ وَاسِطٍ أَقْبَلَ إِلَيْهَا مُعِزُّ الدَّوْلَةِ
بْنُ بُوَيْهِ فِي خَلْقٍ مِنَ الدَّيْلَمِ
كَثِيرِينَ،
فَانْحَدَرَ تُوزُونُ مُسْرِعًا إِلَى وَاسِطٍ فَاقْتَتَلَ مَعَ مُعِزِّ
الدَّوْلَةِ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَكَانَ آخِرَ الْأَمْرِ أَنِ انْهَزَمَ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ، وَنُهِبَتْ حَوَاصِلُهُ، وَقُتِلَ مِنْ جَيْشِهِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَشْرَافِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ عَاوَدَ تُوزُونَ
مَا كَانَ يَعْتَرِيهِ مِنْ مَرَضِ الصَّرَعِ، فَشُغِلَ بِنَفْسِهِ، فَرَجَعَ
إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِيهَا قَتَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ أَخَاهُ أَبَا يُوسُفَ،
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَلَّ مَا فِي يَدِهِ مِنَ
الْأَمْوَالِ، فَكَانَ يَسْتَقْرِضُ مِنْ أَخِيهِ أَبِي يُوسُفَ، فَيُقْرِضُهُ
الْقَلِيلَ ثُمَّ يُشَنِّعُ عَلَيْهِ وَيَذُمُّ تَصَرُّفَهُ، فَمَالَ الْجُنْدُ إِلَى
أَبِي يُوسُفَ، وَأَعْرَضُوا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَخَشِيَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ أَنْ يُبَايِعُوهُ وَيَتْرُكُوهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ طَائِفَةً مِنْ
غِلْمَانِهِ فَقَتَلُوهُ غِيلَةً، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى دَارِهِ، وَأَخَذَ
جَمِيعَ حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ فَكَانَ قِيمَةُ مَا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ مِنَ
الْأَمْوَالِ يُقَارِبُ ثَلَاثَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَلَمْ يُمَتَّعْ
بَعْدَهُ إِلَّا ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، مَرِضَ فِيهَا مَرَضًا شَدِيدًا
بِالْحُمَّى الْحَادَّةِ، حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، فَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ أَخُوهُ أَبُو الْحُسَيْنِ، قَبَّحَهُ
اللَّهُ، فَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَصْحَابِهِ، فَثَارُوا بِهِ فَلَجَأَ إِلَى
الْقَرَامِطَةِ، فَاسْتَجَارَ بِهِمْ، فَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ أَبُو
الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ فِي بِلَادِ وَاسِطٍ
وَالْبَصْرَةِ وَتِلْكَ النَّوَاحِي مِنَ الْأَهْوَازِ وَغَيْرِهَا.
وَأَمَّا الْخَلِيفَةُ الْمُتَّقِي لِلَّهِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَقَامَ عِنْدَ آلِ
حَمْدَانَ بِالْمَوْصِلِ ظَهَرَ لَهُ مِنْهُمْ تَضَجُّرٌ، وَأَنَّهُمْ يَرْغَبُونَ
فِي مُفَارَقَتِهِ، فَكَتَبَ إِلَى تُوزُونَ فِي الصُّلْحِ فَاجْتَمَعَ تُوزُونُ
مَعَ الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ بِبَغْدَادَ، وَقَرَأُوا كِتَابَ الْخَلِيفَةِ،
وَقَابَلَهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَحَلَفَ لَهُ وَوَضَعَ خَطَّهُ بِالْإِقْرَارِ
لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ بِالْإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ
وَالْخُضُوعِ،
فَكَانَ مِنَ الْخَلِيفَةِ وَدُخُولِهِ إِلَى بَغْدَادَ مَا سَيَأْتِي فِي
السَّنَةِ الْآتِيَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الرُّوسِ فِي الْبَحْرِ إِلَى
نُوَاحِي أَذْرَبِيجَانَ فَقَصَدُوا بَرْدَعَةَ فَحَاصَرُوهَا، فَلَمَّا ظَفِرُوا
بِأَهْلِهَا قَتَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ، وَسَبَوْا
مَنِ اسْتَحْسَنُوا مِنْ نِسَائِهِمْ، ثُمَّ مَالُوا إِلَى مَرَاغَةَ فَوَجَدُوا
بِهَا ثِمَارًا كَثِيرَةً، فَأَكَلُوا مِنْهَا، فَأَصَابَهُمْ وَبَاءٌ شَدِيدٌ،
فَمَاتَ أَكْثَرُهُمْ، فَكَانَ إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمْ دَفَنُوا مَعَهُ سِلَاحَهُ
وَمَالَهُ، فَيَأْخُذُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِمُ الْمَرْزُبَانُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، فَقَاتَلَهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا أَيْضًا، مَعَ
مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْوَبَاءِ الشَّدِيدِ، وَطَهَّرَ اللَّهُ تِلْكَ الْبِلَادَ
مِنْهُمْ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ جَاءَ الدُّمُسْتُقُ مَلِكُ
الرُّومِ إِلَى رَأْسِ الْعَيْنِ فِي ثَمَانِينَ أَلْفًا، فَدَخَلَهَا وَنَهَبَ
مَا فِيهَا، وَقَتَلَ أَهْلَهَا وَسَبَى مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ
أَلْفًا، وَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَقَصَدَتْهُ الْأَعْرَابُ مِنْ
كُلِّ وَجْهٍ، فَقَاتَلُوهُ قِتَالًا عَظِيمًا حَتَّى انْجَلَى عَنْهَا.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا غَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ جِدًّا،
وَكَثُرَتِ الْأَمْطَارُ جِدًّا حَتَّى تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ، وَمَاتَ كَثِيرٌ
مِنَ النَّاسِ تَحْتَ الْهَدْمِ، وَتَعَطَّلَتْ كَثِيرٌ مِنَ الْحَمَّامَاتِ
وَالْمَسَاجِدِ مِنْ قِلَّةِ النَّاسِ، وَنَقَصَتْ قِيمَةُ الْعَقَارِ حَتَّى
كَانَ يُبَاعُ بِالدِّرْهَمِ مَا كَانَ يُسَاوِي الدِّينَارَ، وَخَلَتْ أَكْثَرُ
الدُّورِ، فَكَانَ الْمُلَّاكُ يُعْطُونَ مَنْ يَسْكُنُهَا أُجْرَةً لِيَحْفَظَهَا
عَلَيْهِمْ مِنَ الدَّاخِلِينَ إِلَيْهَا لِتَخْرِيبِهَا. وَكَثُرَتِ الْكَبَسَاتُ
مِنَ اللُّصُوصِ بِاللَّيْلِ، حَتَّى كَانَ النَّاسُ يَتَحَارَسُونَ بِالْبُوقَاتِ
وَالطُّبُولِ، وَكَثُرَتِ الْفِتَنُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ
أَعْمَالِنَا.
وَفِي
رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَفَاةُ أَبِي طَاهِرٍ سُلَيْمَانَ بْنِ
أَبِي سَعِيدٍ الْحَسَنِ الْجَنَّابِيِّ الْهَجَرِيِّ الْقِرْمِطِيِّ رَئِيسِ
الْقَرَامِطَةِ، لَعَنَهُ اللَّهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَتَلَ الْحَجِيجَ حَوْلَ
الْكَعْبَةِ وَفِيهَا، وَسَلَبَهَا سُتُورَهَا وَبَابَهَا وَحِلْيَتَهَا،
وَاقْتَلَعَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مِنْ رُكْنِهَا، وَحَمَلَهُ إِلَى بَلَدِهِ
هَجَرَ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كُلِّهَا عِنْدَهُ مِنْ سَنَةِ سَبْعَ
عَشْرَةَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَمْ يَرُدَّهُ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ كَمَا سَيَأْتِي. وَلَمَّا مَاتَ أَبُو طَاهِرٍ هَذَا قَامَ
بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ فِي الْقَرَامِطَةِ إِخْوَتُهُ الثَّلَاثَةُ ; وَهُمْ
أَبُو الْعَبَّاسِ الْفَضْلُ، وَأَبُو الْقَاسِمِ سَعِيدٌ، وَأَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ،
بَنُو أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَكَانَ أَبُو
الْعَبَّاسِ ضَعِيفَ الْبَدَنِ، مُقْبِلًا عَلَى قِرَاءَةِ الْكُتُبِ، وَكَانَ
أَبُو يَعْقُوبَ مُقْبِلًا عَلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَمَعَ هَذَا كَلِمَةُ
الثَّلَاثَةِ وَاحِدَةٌ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي شَيْءٍ، وَكَانَ لَهُمْ سَبْعَةٌ
مِنَ الْوُزَرَاءِ مُتَّفِقُونَ أَيْضًا، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ.
وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ كَمَا
ذَكَرْنَا، فَاسْتَرَاحَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذَا وَهَذَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عُقْدَةَ الْحَافِظُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَبُو الْعَبَّاسِ الْكُوفِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُقْدَةَ، لُقِّبَ أَبُوهُ بِذَلِكَ مِنْ أَجْلِ تَعْقِيدِهِ
فِي التَّصْرِيفِ وَالنَّحْوِ، وَكَانَ عُقْدَةُ وَرِعًا نَاسِكًا، وَكَانَ أَبُو
الْعَبَّاسِ بْنُ عُقْدَةَ مِنَ الْحُفَّاظِ الْكِبَارِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ
الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ فَسَمِعَ مِنْ خَلَائِقَ مِنَ الْمَشَايِخِ،
وَسَمِعَ
مِنْهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ الْجِعَابِيِّ وَابْنُ
عَدِيٍّ وَابْنُ الْمُظَفَّرِ وَابْنُ شَاهِينَ.
قَالَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْكُوفَةِ أَنَّهُ لَمْ يُرَ مِنْ
زَمَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِلَى زَمَانِ ابْنِ عُقْدَةَ أَحْفَظُ مِنْهُ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ نَحْوًا مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ،
مِنْهَا ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ فِي فَضَائِلِ أَهْلِ الْبَيْتِ، بِمَا فِيهَا مِنَ
الصِّحَاحِ وَالضِّعَافِ، وَكَانَتْ كُتُبُهُ سِتَّمِائَةِ حِمْلِ جَمَلٍ، وَكَانَ
يُنْسَبُ مَعَ هَذَا كُلِّهِ إِلَى التَّشَيُّعِ.
قَالَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ رَجُلَ سُوءٍ.
وَنَسَبَهُ ابْنُ عَدِيٍّ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّي النَّسْخَ لِأَشْيَاخٍ،
وَيَأْمُرُهُمْ بِرِوَايَتِهَا.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ حَمْزَةَ بْنَ يُوسُفَ، سَمِعْتُ أَبَا عُمَرَ بْنَ حَيُّوَيْهِ يَقُولُ:
كَانَ ابْنُ عُقْدَةَ يَجْلِسُ فِي جَامِعِ بَرَاثَا يُمْلِي مَثَالِبَ
الصَّحَابَةِ - أَوْ قَالَ: الشَّيْخَيْنِ - فَتَرَكْتُ حَدِيثَهُ لَا أُحَدِّثُ
عَنْهُ بِشَيْءٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ حَرَّرْتُ الْكَلَامَ فِيهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي كِتَابِي
" التَّكْمِيلِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا.
أَحْمَدُ
بْنُ عَامِرِ بْنِ بِشْرِ بْنِ حَامِدٍ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَرُّوذِيُّ
نِسْبَةً إِلَى مَرْوِالرُّوذِ - وَالرُّوذُ النَّهْرُ - الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ
تِلْمِيذُ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، نِسْبَةً إِلَى مَرْوِ
الشَّاهِجَانِ، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ تِلْكَ. شَرَحَ " مُخْتَصَرَ
الْمُزَنِيِّ " وَلَهُ كِتَابُ " الْجَامِعِ " فِي الْمَذْهَبِ، وَصَنَّفَ
فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَكَانَ إِمَامًا لَا يُشَقُّ غُبَارُهُ. تُوُفِّيَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا رَجَعَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَّقِي إِلَى بَغْدَادَ وَخُلِعَ مِنَ
الْخِلَافَةِ وَسُمِلَتْ عَيْنَاهُ. كَانَ الْمُتَّقِي وَهُوَ مُقِيمٌ
بِالْمَوْصِلِ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى الْإِخْشِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ طُغْجٍ صَاحِبِ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ
وَقَدِمَ عَلَيْهِ فِي الْمُنْتَصَفِ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَخَضَعَ لِلْخَلِيفَةِ غَايَةَ الْخُضُوعِ، وَكَانَ يَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ
كَمَا يَقُومُ الْغِلْمَانُ، وَيَمْشِي وَالْخَلِيفَةُ رَاكِبٌ، ثُمَّ عَرَضَ
عَلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ مَعَهُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، أَوْ يُقِيمَ
بِبِلَادِ الشَّامِ فَأَبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْمُقَامِ
بِمَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَلَا يَذْهَبُ إِلَى تُوزُونَ بِبَغْدَادَ،
وَحَذَّرَهُ مِنْ تُوزُونَ وَمَكْرِهِ وَخَدِيعَتِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَكَذَلِكَ
أَشَارَ عَلَى الْوَزِيرِ أَبِي حُسَيْنِ بْنِ مُقْلَةَ فَلَمْ يَسْمَعْ،
فَأَهْدَى ابْنُ طُغْجٍ لِلْخَلِيفَةِ هَدَايَا كَثِيرَةً فَاخِرَةً، وَكَذَلِكَ
إِلَى الْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ وَالْوَزِيرِ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى
بِلَادِهِ. وَقَدِ اجْتَازَ بِحَلَبَ، فَانْحَازَ عَنْهَا صَاحِبُهَا أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ، وَكَانَ ابْنُ مُقَاتِلٍ بِهَا،
فَأَرْسَلَهُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ نَائِبًا عَنْهُ حَتَّى يَعُودَ
إِلَيْهَا.
وَأَمَّا
الْخَلِيفَةُ فَإِنَّهُ رَكِبَ مِنَ الرَّقَّةِ فِي دِجْلَةَ إِلَى بَغْدَادَ
وَأَرْسَلَ إِلَى تُوزُونَ فَاسْتَوْثَقَ مِنْهُ مَا كَانَ حَلَفَ لَهُ مِنَ
الْأَيْمَانِ، فَأَكَّدَهَا وَقَرَّرَهَا، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهَا خَرَجَ
إِلَيْهِ تُوزُونُ وَمَعَهُ الْعَسَاكِرُ، فَلَمَّا رَأَى الْخَلِيفَةَ قَبَّلَ
الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَظْهَرَ لَهُ أَنَّهُ قَدْ وَفَّى لَهُ بِمَا كَانَ
حَلَفَ عَلَيْهِ، وَأَنْزَلَهُ فِي مَضْرِبِهِ، ثُمَّ جَاءَ فَاحْتَاطَ عَلَى مَنْ
مَعَهُ مِنَ الْكُبَرَاءِ، وَأَمَرَ بِسَمْلِ عَيْنَيِ الْخَلِيفَةِ فَسُمِلَتْ
عَيْنَاهُ، فَصَاحَ صَيْحَةً عَظِيمَةً سَمِعَهَا الْحُرَمُ، فَضَجَّتِ
الْأَصْوَاتُ بِالْبُكَاءِ، فَأَمَرَ تُوزُونُ بِضَرْبِ الدَّبَادِبِ ; حَتَّى لَا
تُسْمَعَ أَصْوَاتُ الْحُرَمِ، ثُمَّ انْحَدَرَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى بَغْدَادَ
فَبَايَعَ لِلْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ، فَكَانَتْ خِلَافَةُ الْمُتَّقِي لِلَّهِ
ثَلَاثَ سِنِينَ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ: وَأَحَدَ
عَشَرَ شَهْرًا. وَسَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ.
خِلَافَةُ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُكْتَفِي بْنِ الْمُعْتَضِدِ
لَمَّا رَجَعَ تُوزُونُ إِلَى بَغْدَادَ وَقَدْ خَلَعَ الْمُتَّقِيَ لِلَّهِ
وَسَمَلَهُ، اسْتَدْعَى بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُكْتَفِي، فَبَايَعَهُ عَلَى
الْخِلَافَةِ، وَلُقِّبَ بِالْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ، وَذَلِكَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ
مِنْ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَجَلَسَ تُوزُونُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَخَلَعَ
عَلَيْهِ الْمُسْتَكْفِي خِلْعَةً سَنِيَّةً، وَكَانَ الْمُسْتَكْفِي مَلِيحَ
الشَّكْلِ رَبْعَةً، حَسَنَ الْجِسْمِ وَالْوَجْهِ، أَبْيَضَ اللَّوْنِ
مُشْرَبًا
حُمْرَةً، أَكْحَلَ، أَقْنَى الْأَنْفِ، خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ، وَكَانَ عُمْرُهُ
يَوْمَ بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَحْضَرَ
الْمُتَّقِيَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَايَعَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ الْبُرْدَةَ
وَالْقَضِيبَ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا الْفَرَجِ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ
السَّامَرِّيَّ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا
الَّذِي يَتَوَلَّى الْأُمُورَ ابْنُ شِيرَزَادَ، وَحَبَسَ الْمُتَّقِي فِي
السِّجْنِ، وَطَلَبَ الْمُسْتَكْفِي أَبَا الْقَاسِمِ الْفَضْلَ بْنَ
الْمُقْتَدِرِ - وَهُوَ الَّذِي وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلُقِّبَ
الْمُطِيعَ لِلَّهِ - فَاخْتَفَى مِنْهُ، وَلَمْ يَظْهَرْ مُدَّةَ خِلَافَةِ
الْمُسْتَكْفِي، فَأَمَرَ الْمُسْتَكْفِي بِهَدْمِ دَارِهِ الَّتِي عِنْدَ
دِجْلَةَ.
مَوْتُ الْقَائِمِ الْفَاطِمِيِّ وَوِلَايَةُ وَلَدِهِ
الْمَنْصُورِ
وَفِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - وَالصَّحِيحُ فِي شَوَّالٍ مِنَ الَّتِي
بَعْدَهَا - تُوُفِّيَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ الْقَاسِمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ،
وَقَدْ عَهِدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ الْمَنْصُورِ إِسْمَاعِيلَ، فَكَتَمَ
مَوْتَ أَبِيهِ مُدَّةً حَتَّى اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ، ثُمَّ أَظْهَرَهُ. وَقَدْ
كَانَ أَبُو يَزِيدَ الْخَارِجِيُّ قَدْ حَارَبَهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَأَخَذَ مِنْهُمْ مُدُنًا كِبَارًا، وَكَسَرُوهُ مِرَارًا مُتَعَدِّدَةً، ثُمَّ
يَثُورُ عَلَيْهِمْ، وَيَجْمَعُ الرِّجَالَ وَيُقَاتِلُهُمْ بِمَنْ قَدَرَ
عَلَيْهِ، فَانْتَدَبَ الْمَنْصُورُ لِقِتَالِ أَبِي يَزِيدَ بِنَفْسِهِ، وَرَكِبَ
فِي الْجُيُوشِ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدْ بَسَطَهَا
ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ ". وَقَدِ انْهَزَمَ فِي بَعْضِ
الْأَحْيَانِ جَيْشُ الْمَنْصُورِ عَنْهُ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا فِي عِشْرِينَ
نَفْسًا، فَقَاتَلَ بِنَفْسِهِ قِتَالًا عَظِيمًا، فَهَزَمَ أَبَا يَزِيدَ
بَعْدَمَا كَادَ يَقْتُلُهُ، وَثَبَتَ الْمَنْصُورُ ثَبَاتًا عَظِيمًا، فَعَظُمَ
فِي أَعْيُنِ
النَّاسِ،
وَزَادَتْ حُرْمَتُهُ وَهَيْبَتُهُ، وَاسْتَنْقَذَ بِلَادَ الْقَيْرَوَانِ مِنْهُ،
وَمَا زَالَ يُحَارِبُهُ الْمَنْصُورُ حَتَّى ظَفِرَ بِهِ وَقَتَلَهُ. وَلَمَّا
جِيءَ بِرَأْسِهِ سَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ أَبُو يَزِيدَ
هَذَا قَبِيحَ الشَّكْلِ، أَعْرَجَ، قَصِيرًا، خَارِجِيًّا شَدِيدًا، يَرَى
تَكْفِيرَ أَهْلِ الْمِلَّةِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ أَبُو الْحُسَيْنِ
الْبَرِيدِيُّ وَصُلِبَ ثُمَّ أُحْرِقَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدِمَ بَغْدَادَ
يَسْتَنْجِدُ بَتُوزُونَ وَأَبِي جَعْفَرِ بْنِ شِيرَزَادَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ،
فَوَعَدُوهُ النَّصْرَ، ثُمَّ شَرَعَ يُفْسِدُ مَا بَيْنَ تُوزُونَ وَابْنِ
شِيرَزَادَ، فَعَلِمَ بِذَلِكَ ابْنُ شِيرَزَادَ، فَأَمَرَ بِسَجْنِهِ وَضَرْبِهِ،
وَأَحْضَرَ لَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فُتْيَا عَلَيْهَا خُطُوطُ الْفُقَهَاءِ
بِإِبَاحَةِ دَمِهِ، فَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ
وَصَلْبِهِ، ثُمَّ أَحْرَقَهُ، وَانْقَضَتْ أَيَّامُ الْبَرِيدِيِّينَ وَزَالَتْ
دَوْلَتُهُمْ، لَا جَمَعَ اللَّهُ بِهِمْ شَمَلًا.
وَفِيهَا أَخْرَجَ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ الْقَاهِرَ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ -
الَّذِي كَانَ خَلِيفَةً، ثُمَّ سُمِلَتْ عَيْنَاهُ - وَأَنْزَلَهُ بِدَارِ ابْنِ
طَاهِرٍ، وَقَدِ افْتَقَرَ الْقَاهِرُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ مِنَ اللِّبَاسِ سِوَى
قُطْنِ جُبَّةٍ يَلْتَفُّ بِهَا، وَفِي رِجْلِهِ قَبْقَابٌ مِنْ خَشَبٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ رَكِبَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ فِي رَجَبٍ مِنْهَا إِلَى
وَاسِطٍ لِيُحَاصِرَهَا، فَبَلَغَ خَبَرُهُ إِلَى تُوزُونَ فَرَكِبَ هُوَ
وَالْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ رَجَعَ
عَنْهَا إِلَى بِلَادِهِ، وَتَسَلَّمَهَا الْخَلِيفَةُ، وَضَمِنَهَا أَبُو
الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
فَضَمَّنَهُ
تُوزُونُ ثُمَّ رَجَعَ هُوَ وَالْخَلِيفَةُ إِلَى بَغْدَادَ فِي شَوَّالٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا رَكِبَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْهَيْجَاءِ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ إِلَى حَلَبَ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ يَأْنَسَ
الْمُؤْنِسِيِّ، ثُمَّ سَارَ إِلَى حِمْصَ لِيَأْخُذَهَا، فَجَاءَتْهُ جُيُوشُ
الْإِخْشِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ طُغْجٍ مَعَ مَوْلَاهُ كَافُورٍ، فَاقْتَتَلُوا،
فَانْهَزَمَ كَافُورٌ الْإِخْشِيدِيُّ، وَاسْتَوْلَى سَيْفُ الدَّوْلَةِ عَلَى
حِمْصَ ثُمَّ رَكِبَ إِلَى دِمَشْقَ فَحَاصَرَهَا، فَلَمْ يَفْتَحْهَا أَهْلُهَا
لَهُ، فَرَجَعَ عَنْهَا، وَقَصَدَهُ الْإِخْشِيدُ بِجُيُوشٍ كَثِيفَةٍ،
فَالْتَقَيَا بِقِنَّسْرِينَ، فَلَمْ يَظْفَرْ أَحَدٌ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ،
وَرَجَعَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْجَزِيرَةِ ثُمَّ عَادَ إِلَى حَلَبَ
فَاسْتَقَرَّ مُلْكُهُ بِهَا، فَقَصَدَتْهُ الرُّومُ فِي جَحَافِلَ عَظِيمَةٍ،
فَالْتَقَى مَعَهُمْ، فَظَفِرَ بِهِمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا زَادَ الْخَلِيفَةُ فِي لَقَبِهِ إِمَامَ الْحَقِّ،
وَكَتَبَ ذَلِكَ عَلَى سِكَّةِ الْمُعَامَلَةِ، وَقَالَهُ الْخُطَبَاءُ عَلَى الْمَنَابِرِ
أَيَّامَ الْجُمَعِ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ تُوزُونُ التُّرْكِيُّ فِي
دَارِهِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ سَنَتَيْنِ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ ابْنُ شِيرَزَادَ كَاتِبُهُ، وَكَانَ بِهِيتَ لِتَخْلِيصِ
الْمَالِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ أَرَادَ أَنْ يَعْقِدَ الْبَيْعَةَ
لِنَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَاضْطَرَبَتِ الْأَجْنَادُ، وَعُقِدَتِ
الرِّيَاسَةُ لِنَفْسِهِ وَدَخَلَ بَغْدَادَ فِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ، وَخَرَجَ
إِلَيْهِ الْأَجْنَادُ كُلُّهُمْ وَحَلَفُوا لَهُ، وَحَلَفَ لَهُ الْخَلِيفَةُ
وَالْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَدَخَلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَخَاطَبَهُ بِأَمِيرِ
الْأُمَرَاءِ، فَزَادَ فِي أَرْزَاقِ الْأَجْنَادِ، وَبَعَثَ إِلَى نَاصِرِ
الدَّوْلَةِ يُطَالِبُهُ بِالْخَرَاجِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِخَمْسمِائَةِ أَلْفِ
دِرْهَمٍ وَبِطَعَامٍ فَفَرَّقَهُ فِي النَّاسِ، وَأَمَرَ وَنَهَى وَوَلَّى
وَعَزَلَ وَقَطَعَ وَوَصَلَ، وَفَرِحَ بِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ
يَوْمًا، ثُمَّ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ بْنَ بُوَيْهِ
قَدْ أَقْبَلَ فِي الْجُيُوشِ قَاصِدًا إِلَى بَغْدَادَ فَاخْتَفَى ابْنُ
شِيرَزَادَ وَالْخَلِيفَةُ أَيْضًا، وَخَرَجَ أَكْثَرُ الْأَتْرَاكِ قَاصِدِينَ
إِلَى الْمَوْصِلِ لِيَكُونُوا مَعَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ.
ذِكْرُ أَوَّلِ دَوْلَةِ بَنِي بُوَيْهِ وَحُكْمِهِمْ بِبَغْدَادَ
أَقْبَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ بُوَيْهِ فِي
جَحَافِلَ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ بَغْدَادَ بَعَثَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ
الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ الْهَدَايَا وَالْإِنْزَالَاتِ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ: أَخْبِرْهُ
أَنِّي مَسْرُورٌ بِهِ، وَأَنِّي إِنَّمَا اخْتَفَيْتُ مِنْ شَرِّ الْأَتْرَاكِ
الَّذِينَ انْصَرَفُوا إِلَى الْمَوْصِلِ وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ
وَالتُّحَفِ، وَدَخَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ بَغْدَادَ فِي حَادِي
عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَنَزَلَ بِبَابِ
الشَّمَّاسِيَّةِ، وَدَخَلَ مِنَ الْغَدِ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَبَايَعَهُ،
وَخَلَعَ عَلَيْهِ الْمُسْتَكْفِي، وَلَقَّبَهُ بِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَلَقَّبَ
أَخَاهُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيًّا بِعِمَادِ الدَّوْلَةِ، وَأَخَاهُ أَبَا عَلِيٍّ
الْحَسَنَ بِرُكْنِ الدَّوْلَةِ، وَكَتَبَ أَلْقَابَهُمْ عَلَى الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ.
وَنَزَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِدَارِ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ وَنَزَلَ أَصْحَابُهُ
مِنَ الدَّيْلَمِ فِي دُورِ النَّاسِ، فَلَقِيَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ كُلْفَةً
شَدِيدَةً، وَأَمَّنَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ ابْنَ شِيرَزَادَ، فَلَمَّا ظَهَرَ
اسْتَكْتَبَهُ عَلَى الْخَرَاجِ، وَرَتَّبَ لِلْخَلِيفَةِ بِسَبَبِ نَفَقَاتِهِ
خَمْسَةَ آلَافٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَاسْتَقَرَّتِ الْأُمُورُ عَلَى هَذَا
النِّظَامِ
ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَكْفِي
وَخَلْعِهِ
لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ حَضَرَ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى
الْحَضْرَةِ،
فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، وَجَاءَ رَجُلَانِ مِنَ
الدَّيْلَمِ، فَمَدَّا أَيْدِيَهُمَا إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَأَنْزَلَاهُ عَنْ
كُرْسِيِّهِ وَسَحَبَاهُ، فَتَحَزَّبَتْ عِمَامَتُهُ فِي حَلْقِهِ، وَنَهَضَ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ، وَاضْطَرَبَتْ دَارُ الْخِلَافَةِ حَتَّى خُلِصَ إِلَى
الْحَرِيمِ، وَتَفَاقَمَ الْحَالُ، وَسِيقَ الْخَلِيفَةُ مَاشِيًا إِلَى دَارِ
مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَاعْتُقِلَ بِهَا، وَأُحْضِرَ أَبُو الْقَاسِمِ الْفَضْلُ
بْنُ الْمُقْتَدِرِ، فَبُويِعَ بِالْخِلَافَةِ، وَسُمِلَتْ عَيْنَا
الْمُسْتَكْفِي، وَأَودِعَ السِّجْنَ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ مَسْجُونًا حَتَّى
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، كَمَا
سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَذِكْرُ تَرْجَمَتِهِ هُنَالِكَ.
خِلَافَةُ الْمُطِيعِ لِلَّهِ
لَمَّا قَدِمَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بَغْدَادَ وَقَبَضَ عَلَى الْمُسْتَكْفِي
وَسُمِلَتْ عَيْنَاهُ، اسْتَدْعَى بِأَبِي الْقَاسِمِ الْفَضْلِ بْنِ
الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، وَقَدْ كَانَ مُخْتَفِيًا مِنَ الْمُسْتَكْفِي، وَهُوَ
يَحُثُّ فِي طَلَبِهِ وَيَجْتَهِدُ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ
اجْتَمَعَ بِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ سِرًّا، فَحَرَّضَهُ عَلَى الْمُسْتَكْفِي حَتَّى
كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، فَأُحْضِرَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْمُقْتَدِرِ
فَبُويِعَ بِالْخِلَافَةِ وَلُقِّبَ بِالْمُطِيعِ لِلَّهِ، وَبَايَعَهُ
الْأُمَرَاءُ وَالْأَعْيَانُ وَمُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَالْعَامَّةُ، وَضَعُفَ
أَمْرُ الْخِلَافَةِ جِدًّا حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِلْخَلِيفَةِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ
وَلَا وَزِيرٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ كَاتِبٌ عَلَى أَقْطَاعِهِ
فَقَطْ، وَإِنَّمَا مَوْرِدُ أُمُورِ الْمَمْلَكَةِ وَمَصْدَرُهَا رَاجِعٌ إِلَى
مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ بَنِي بُوَيْهِ وَمِنْ
مَعَهُمْ مِنَ الدَّيْلَمِ فِيهِمْ تَشَيُّعٌ شَدِيدٌ، فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ
بَنِي الْعَبَّاسِ قَدْ غَصَبُوا الْأَمْرَ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ، حَتَّى عَزَمَ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ
عَلَى
تَحْوِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْهُمْ إِلَى الْعَلَوِيِّينَ، وَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ
فِي ذَلِكَ، فَكُلُّهُمْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، إِلَّا رَجُلًا مِنْ
أَصْحَابِهِ، كَانَ سَدِيدَ الرَّأْيِ فِيهِمْ، فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ: لَا أَرَى
لَكَ هَذَا. قَالَ: وَلِمَ ذَاكَ ؟ قَالَ: لِأَنَّ هَذَا خَلِيفَةٌ تَرَى أَنْتَ
وَأَصْحَابُكَ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحِ الْإِمَارَةِ، فَمَتَى أَمَرْتَ بِقَتْلِهِ
قَتَلَهُ أَصْحَابُكَ، وَلَوْ وَلَّيْتَ رَجُلًا مِنَ الْعَلَوِيِّينَ لَكُنْتَ
أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تَعْتَقِدُونَ صِحَّةَ وِلَايَتِهِ، فَلَوْ أَمَرَ
بِقَتْلِكَ لَقَتَلَكَ أَصْحَابُكَ. فَلَمَّا فَهِمَ ذَلِكَ صَرَفَهُ عَنْ
رَأْيِهِ الْأَوَّلِ، لِلدُّنْيَا لَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ نَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ وَبَيْنَ
مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، فَرَكِبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بَعْدَمَا
خَرَجَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَالْخَلِيفَةُ الْمُطِيعُ إِلَى عُكْبَرَا فَدَخَلَ
بَغْدَادَ فَأَخَذَ الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ ثُمَّ الْغَرْبِيَّ، وَضَعُفَ أَمْرُ
مُعِزِّ الدَّوْلَةِ وَالدَّيَالِمَةِ الَّذِينَ مَعَهُ، ثُمَّ مَكَرَ بِهِ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَخَدَعَهُ حَتَّى اسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ، وَانْتَصَرَ
أَصْحَابُهُ، فَنَهَبُوا بَغْدَادَ وَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ
التُّجَّارُ وَغَيْرِهِمْ، فَكَانَ قِيمَةُ مَا أَخَذَ أَصْحَابُ مُعِزِّ
الدَّوْلَةِ مِنَ النَّاسِ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ وَقَعَ
الصُّلْحُ بَيْنَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ وَمُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَرَجَعَ ابْنُ
حَمْدَانَ إِلَى بَلَدِهِ الْمَوْصِلِ وَاسْتَقَرَّ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ
بِمَدِينَةِ السَّلَامِ بَغْدَادَ ثُمَّ شَرَعَ فِي اسْتِعْمَالِ السُّعَاةِ
لِيُبَلِّغُوا أَخَاهُ رُكْنَ الدَّوْلَةِ أَخْبَارَهُ، فَغَوَى الْعَامَّةُ فِي
ذَلِكَ، وَعَلَّمُوا أَبْنَاءَهُمْ ذَلِكَ، حَتَّى كَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقْطَعُ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ فَرْسَخًا فِي يَوْمٍ، وَأَعْجَبَهُ
الْمُصَارِعُونَ وَالْمُلَاكِمُونَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَرْبَابِ هَذِهِ
الصِّنَاعَاتِ الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إِلَّا قَلِيلًا ; كَالسِّبَاحَةِ
وَنَحْوِهَا، وَكَانَتْ تُضْرَبُ الطُّبُولُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيُصَارَعُ بَيْنَ
الرِّجَالِ، وَالْكُوسَاتُ
تُدَقُّ
حَوْلَ سُورِ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَهَذِهِ رُعُونَةٌ شَدِيدَةٌ
وَسَخَافَةُ عَقْلٍ مِنْهُ وَمِمَّنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ احْتَاجَ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى صَرْفِ أَمْوَالٍ فِي أَرْزَاقِ الْأَجْنَادِ،
فَأَقْطَعَهُمُ الْبِلَادَ عِوَضًا عَنْ أَرْزَاقِهِمْ، فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى
تَخْرِيبِهَا وَتَرْكِ عِمَارَتِهَا، إِلَّا الْأَرَاضِيَ الَّتِي بِأَيْدِي
أَصْحَابِ الْجَاهَاتِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِبَغْدَادَ حَتَّى أَكَلُوا
الْمَيْتَةَ وَالْكِلَابَ وَالسَّنَانِيرَ، وَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَسْرِقُ
الْأَوْلَادَ فَيَشْوِيهِمْ وَيَأْكُلُهُمْ، وَكَثُرَ الْمَوْتُ فِي النَّاسِ
حَتَّى كَانَ لَا يَدْفِنُ أَحَدٌ أَحَدًا، بَلْ يُتْرَكُونَ عَلَى الطُّرُقَاتِ،
فَيَأْكُلُ كَثِيرًا مِنْهُمُ الْكِلَابُ، وَبِيعَتِ الدُّورُ وَالْعَقَارُ
بِالْخُبْزِ، وَانْتَجَعَ النَّاسُ الْبَصْرَةَ فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ فِي
الطَّرِيقِ، وَمَنْ وَصَلَ مِنْهُمْ مَاتَ بَعْدَ مُدَيْدَةٍ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ مُحَمَّدِ
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَهْدِيِّ، وَوَلِيَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ
الْمَنْصُورُ إِسْمَاعِيلُ، وَكَانَ حَازِمَ الرَّأْيِ شَدِيدًا شُجَاعًا، كَمَا
ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْإِخْشِيدُ مُحَمَّدُ بْنُ طُغْجٍ صَاحِبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ وَلَهُ مِنَ
الْعُمُرِ بِضْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَأُقِيمَ وَلَدُهُ أَبُو الْقَاسِمِ
أَنُوجُورُ - وَكَانَ صَغِيرًا - وَأُقِيمَ كَافُورٌ الْإِخْشِيدِيُّ أَتَابِكَهُ،
فَكَانَ
يُدَبِّرُ
الْمَمَالِكَ بِالْبِلَادِ كُلِّهَا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى الْأُمُورِ كُلِّهَا،
وَسَارَ إِلَى مِصْرَ، فَقَصَدَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ دِمَشْقَ
فَأَخَذَهَا مِنْ أَصْحَابِ الْإِخْشِيدِ فَفَرِحَ بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا،
وَاجْتَمَعَ بِمُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْفَارَابِيِّ التُّرْكِيِّ
الْفَيْلَسُوفِ بِهَا، وَرَكِبَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ يَوْمًا مَعَ الشَّرِيفِ
الْعَقِيقِيِّ فِي بَعْضِ نَوَاحِي دِمَشْقَ فَنَظَرَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى
الْغُوطَةِ فَأَعْجَبَتْهُ، وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ كُلُّهَا
لِدِيوَانِ السُّلْطَانِ، كَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِأَخْذِهَا مِنْ مُلَّاكِهَا،
فَأَوْغَرَ ذَلِكَ الْعَقِيقِيَّ إِلَى أَهْلِ دِمَشْقَ فَكَتَبُوا إِلَى كَافُورٍ
الْإِخْشِيدِيِّ يَسْتَنْجِدُونَهُ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ فِي جُيُوشٍ كَثِيرَةٍ
كَثِيفَةٍ، فَأَجْلَى عَنْهُمْ سَيْفَ الدَّوْلَةِ وَطَرَدَهُ عَنْ حَلَبَ
أَيْضًا، وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا فَاسْتَنَابَ عَلَى
دِمَشْقَ بَدْرًا الْإِخْشِيدِيَّ - وَيُعْرَفُ بِبُدَيْرٍ - فَلَمَّا صَارَ
كَافُورٌ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ رَجَعَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى حَلَبَ
فَأَخَذَهَا كَمَا كَانَتْ أَوَّلًا لَهُ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ فِي دِمَشْقَ
شَيْءٌ. وَكَافُورٌ هَذَا هُوَ الَّذِي هَجَاهُ الْمُتَنَبِّي، وَمَدَحَهُ
أَيْضًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْخِرَقِيُّ صَاحِبُ " الْمُخْتَصَرِ " الْمَشْهُورِ فِي الْفِقْهِ،
عُمَرُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيُّ
صَاحِبُ " الْمُخْتَصَرِ " فِي الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقَدْ شَرَحَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بْنُ
الْفَرَّاءِ، وَالشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ قُدَامَةَ الْمَقْدِسِيُّ،
وَقَدْ كَانَ الْخِرَقِيُّ هَذَا مِنْ سَادَاتِ الْفُقَهَاءِ وَالْعُبَّادِ،
كَثِيرَ الْفَضَائِلِ
وَالْعِبَادَةِ،
خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ لَمَّا كَثُرَ بِهَا السَّبُّ لِلصَّحَابَةِ، وَأَوْدَعَ
كُتُبَهُ بِبَغْدَادَ، فَاحْتَرَقَتِ الدَّارُ الَّتِي هِيَ فِيهَا، وَعُدِمَتْ
مُصَنَّفَاتُهُ، وَقَصَدَ دِمَشْقَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَبْرُهُ بِبَابِ الصَّغِيرِ يُزَارُ قَرِيبًا مِنْ قُبُورِ
الشُّهَدَاءِ.
وَفِي مُصَنَّفِهِ هَذَا " الْمُخْتَصَرِ " فِي كِتَابِ الْحَجِّ:
وَيَأْتِي الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَيُقَبِّلُهُ إِنْ كَانَ هُنَاكَ. وَإِنَّمَا
قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ تَصْنِيفَهُ لِهَذَا الْكِتَابِ كَانَ حَالَ كَوْنِ
الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ بِأَيْدِي الْقَرَامِطَةِ حِينَ أَخَذُوهُ مِنْ مَكَانِهِ
فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَمْ يَرُدُّوهُ
إِلَّا سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ
فِي مَوْضِعِهِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: قَالَ لِي الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: كَانَتْ لَهُ مُصَنَّفَاتٌ
كَثِيرَةٌ وَتَخْرِيجَاتٌ عَلَى الْمَذْهَبِ لَمْ تَظْهَرْ; لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ
مَدِينَةِ السَّلَامِ لَمَّا ظَهَرَ سَبُّ الصَّحَابَةِ، وَأَوْدَعَ كُتُبَهُ،
فَاحْتَرَقَتِ الدَّارُ الَّتِي هِيَ فِيهَا، وَاحْتَرَقَتِ الْكُتُبُ فِيهَا
وَلَمْ تَكُنْ قَدِ انْتَشَرَتْ ; لِبُعْدِهِ عَنِ الْبَلَدِ.
ثُمَّ رَوَى الْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِهِ، عَنْ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ
السَّمِيعِ الْهَاشِمِيِّ، عَنِ الْفَتْحِ بْنِ شُخْرُفٍ، قَالَ: رَأَيْتُ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق