33// 3.. البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل
بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ مُحَمَّدٍ الْإِمَامِ الْعَبَّاسِيِّ بِطَلَبِ أَبِي مُسْلِمٍ
الْخُرَاسَانِيِّ مِنْ خُرَاسَانَ، فَسَارَ إِلَيْهِ فِي سَبْعِينَ مِنَ
النُّقَبَاءِ، لَا يَمُرُّونَ بِبَلَدٍ إِلَّا سَأَلُوهُمْ: إِلَى أَيْنَ
تَذْهَبُونَ ؟ فَيَقُولُ أَبُو مُسْلِمٍ: نُرِيدُ الْحَجَّ. وَإِذَا تَوَسَّمَ
أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ بَعْضِهِمْ مَيْلًا إِلَيْهِ دَعَاهُ إِلَى مَا هُمْ فِيهِ،
فَيُجِيبُهُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي أَثْنَاءِ
الطَّرِيقِ جَاءَ كِتَابٌ ثَانٍ مِنْ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ إِنِّي قَدْ
بَعَثْتُ
إِلَيْكَ بِرَايَةِ النَّصْرِ فَارْجِعْ إِلَى خُرَاسَانَ وَأَظْهَرَ الدَّعْوَةَ. فَامْتَثَلَ أَبُو مُسْلِمٍ ذَلِكَ وَأَمَرَ قَحْطَبَةَ بْنَ شَبِيبٍ أَنْ يَسِيرَ بِمَا مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالتُّحَفِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ فَيُوَافِيهِ بِهَا فِي الْمَوْسِمِ، وَرَجَعَ أَبُو مُسْلِمٍ بِالْكِتَابِ، فَدَخَلَ خُرَاسَانَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَدَفَعَ الْكِتَابَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ وَفِيهِ أَنْ أَظْهِرْ دَعْوَتَكَ وَلَا تَتَرَبَّصْ، فَقَدَّمُوا عَلَيْهِمْ أَبَا مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيَّ دَاعِيًا إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ فَبَثَّ أَبُو مُسْلِمٍ دُعَاتَهُ فِي بِلَادِ خُرَاسَانَ وَنَوَاحِيهَا، وَأَمِيرُ خُرَاسَانَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ مَشْغُولٌ بِقِتَالِ الْكَرْمَانِيِّ، وَشَيْبَانَ بْنِ سَلَمَةَ الْحَرُورِيِّ وَقَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ بِالْخِلَافَةِ فِي طَوَائِفَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ فَظَهَرَ أَمْرُ أَبِي مُسْلِمٍ وَقَصَدَهُ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَكَانَ مِمَّنْ قَصَدَهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَهْلُ سِتِّينَ قَرْيَةٍ، فَأَقَامَ هُنَاكَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَفَتُحَتْ عَلَيْهِ أَقَالِيمُ كَثِيرَةٌ. وَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْخَمِيسِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، عَقَدَ أَبُو مُسْلِمٍ اللِّوَاءَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ الْإِمَامُ، وَكَانَ يُدْعَى الظِّلَّ، عَلَى رُمْحٍ طُولُهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَعَقَدَ الرَّايَةَ الَّتِي بَعَثَ بِهَا الْإِمَامُ أَيْضًا، وَتُدْعَى السَّحَابَ، عَلَى رُمْحٍ طُولُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَهُمَا سَوْدَاوَانِ، وَهُوَ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [ الْحَجِّ: 39 ]. وَلَبِسَ أَبُو مُسْلِمٍ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ وَمَنْ أَجَابَهُمْ إِلَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ السَّوَادَ وَصَارَتْ شِعَارَهُمْ، وَأَوْقَدُوا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ نَارًا عَظِيمَةً يَدْعُونَ بِهَا أَهْلَ تِلْكَ النَّوَاحِي، وَكَانَتْ عَلَامَةَ مَا بَيْنَهُمْ فَتَجَمَّعُوا. وَمَعْنَى تَسْمِيَةِ إِحْدَى الرَّايَتَيْنِ بِالسَّحَابِ أَنَّ السَّحَابَ كَمَا يُطَبِّقُ جَمِيعَ الْأَرْضِ، كَذَلِكَ بَنُو الْعَبَّاسِ تُطَبِّقُ دَعْوَتُهُمُ الْأَرْضَ، وَمَعْنَى تَسْمِيَةِ الْأُخْرَى بِالظِّلِّ أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنَ الظِّلِّ أَبَدًا، وَكَذَلِكَ بَنُو الْعَبَّاسِ لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ مِنْهُمْ، وَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَكَثُرَ جَيْشُهُ جِدًّا.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عِيدِ الْفِطْرِ أَمَرَ أَبُو
مُسْلِمٍ سُلَيْمَانَ بْنَ كَثِيرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، وَنَصَبَ لَهُ
مِنْبَرًا، وَأَنْ يُخَالِفَ فِي ذَلِكَ بَنِي أُمَيَّةَ وَيَعْمَلَ بِالسُّنَّةِ،
فَنُودِيَ لِلصَّلَاةِ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً. وَلَمْ يُؤَذِّنْ وَلَمْ يُقِمْ،
خِلَافًا لَهُمْ، وَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، وَكَبَّرَ سَبْعًا
فِي الْأُولَى قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، لَا أَرْبَعًا، وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ
لَا ثَلَاثًا، خِلَافًا لَهُمْ. وَابْتَدَأَ الْخُطْبَةَ بِالذِّكْرِ
وَالتَّكْبِيرِ، وَخَتَمَهَا بِالْقِرَاءَةِ، وَانْصَرَفَ النَّاسُ مِنْ صَلَاةِ
الْعِيدِ، وَقَدْ أَعَدَّ لَهُمْ أَبُو مُسْلِمٍ طَعَامًا، فَوَضَعَهُ بَيْنَ
أَيْدِي النَّاسِ، وَكَتَبَ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ كِتَابًا بَدَأَ فِيهِ
بِنَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَتْ أَسْمَاؤُهُ عَيَّرَ
أَقْوَامًا فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ
لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا
جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ
وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ
يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ
تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [ فَاطِرٍ: 42، 43 ]
فَعَظُمَ عَلَى نَصْرٍ أَنْ قَدَّمَ اسْمَهُ عَلَى اسْمِهِ، وَأَطَالَ
الْفِكْرَةَ، وَقَالَ: هَذَا كِتَابٌ لَهُ جَوَابٌ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ثُمَّ بَعَثَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ خَيْلًا عَظِيمَةً
لِمُحَارَبَةِ أَبِي مُسْلِمٍ وَذَلِكَ بَعْدَ ظُهُورِهِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ
شَهْرًا، فَأَرْسَلَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَيْهِمْ مَالِكَ بْنَ الْهَيْثَمِ
الْخُزَاعِيَّ فَالْتَقَوْا هُنَالِكَ فَدَعَاهُمْ مَالِكٌ
إِلَى الرِّضَا عَنْ آلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَأَبَوْا ذَلِكَ، فَتَصَافُّوا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ، ثُمَّ
جَاءَهُ مَدَدٌ فَقَوِيَ مَالِكٌ عَلَيْهِمْ، وَاسْتَظْهَرَ وَظَفِرَ بِهِمْ،
وَكَانَ هَذَا أَوَّلَ مَوْقِفٍ اقْتَتَلَ فِيهِ دُعَاةُ بَنِي الْعَبَّاسِ
وَجُنْدُ بَنِي أُمَيَّةَ.
وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ غَلَبَ خَازِمُ بْنُ خُزَيْمَةَ
عَلَى مُرْوِ الرُّوذِ وَقَتَلَ عَامِلِهَا مِنْ جِهَةِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ،
وَهُوَ بِشْرُ بْنُ جَعْفَرٍ السَّعْدِيُّ وَكَتَبَ بِالْفَتْحِ إِلَى أَبِي
مُسْلِمٍ.
وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ إِذْ ذَاكَ شَابًّا حَدَثًا قَدِ اخْتَارَهُ إِبْرَاهِيمُ
الْإِمَامُ لِدَعْوَتِهِمْ، وَذَلِكَ لِشَهَامَتِهِ وَصَرَامَتِهِ وَقُوَّةِ
فَهْمِهِ وَجَوْدَةِ عَقْلِهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ سَوَادِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ
مَوْلًى لِإِدْرِيسَ بْنِ مَعْقِلٍ الْعِجْلِيِّ فَاشْتَرَاهُ بَعْضُ دُعَاةِ
بَنِي الْعَبَّاسِ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَخَذَهُ مُحَمَّدُ بْنُ
عَلِيٍّ ثُمَّ آلَ وَلَاؤُهُ لِآلِ الْعَبَّاسِ وَقَدْ زَوَّجَهُ إِبْرَاهِيمُ
بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِمَامُ بِابْنَةِ أَبِي النَّجْمِ عِمْرَانَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
وَأَصْدَقَهَا عَنْهُ، وَكَتَبَ إِلَى نُقَبَائِهِمْ بِخُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ
أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ وَيُطِيعُوا، فَامْتَثَلُوا أَمْرَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ،
وَقَدْ كَانُوا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ رَدُّوا عَلَيْهِ أَمْرَهُ فِيهِ
لِصِغَرِهِ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ أَكَّدَ كِتَابَهُ
إِلَيْهِمْ فِي سَبَبِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَنْهُ مَعْدِلٌ، وَكَانَ
فِي ذَلِكَ الْخِيَرَةُ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا
مَقْدُورًا.
وَلَمَّا اسْتَفْحَلَ أَمْرُ أَبِي مُسْلِمٍ بِخُرَاسَانَ تَعَاقَدَتْ طَوَائِفُ
مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ الَّذِينَ بِهَا عَلَى حَرْبِهِ وَمُقَاتِلَتِهِ، وَلَمْ
يَكْرَهْ أَمْرَهُ الْكَرْمَانِيُّ، وَشَيْبَانُ لِأَنَّهُمَا خَرَجَا عَلَى
نَصْرٍ وَهَذَا مُخَالِفٌ لَهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَدْعُو إِلَى خَلْعِ
مَرْوَانَ الْحِمَارِ وَقَدْ طَلَبَ نَصْرٌ مِنْ شَيْبَانَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ
عَلَى حَرْبِ أَبِي مُسْلِمٍ أَوْ يَكُفَّ عَنْهُ حَتَّى يَتَفَرَّغَ لِحَرْبِهِ،
فَإِذَا قَتَلَهُ وَتَفَرَّغَ مِنْهُ عَادَا إِلَى عَدَاوَتِهِمَا، فَبَلَغَ
ذَلِكَ أَبَا مُسْلِمٍ فَبَعَثَ إِلَى ابْنِ الْكَرْمَانِيِّ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ،
فَثَنَى ابْنُ الْكَرْمَانِيِّ شَيْبَانَ عَلَى ذَلِكَ الرَّأْيِ، وَبَعَثَ أَبُو
مُسْلِمٍ إِلَى هَرَاةَ النَّضْرَ بْنَ نُعَيْمٍ فَافْتَتَحَهَا وَطَرَدَ عَنْهَا
عَامِلَهَا عِيسَى بْنَ عَقِيلٍ اللَّيْثِيَّ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى الْبَلَدِ،
وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ بِذَلِكَ، وَجَاءَ عَامِلُهَا إِلَى نَصْرٍ
هَارِبًا. ثُمَّ إِنَّ شَيْبَانَ وَادَعَ نَصْرَ بْنَ سَيَّارٍ سَنَةً عَلَى
تَرْكِ الْحَرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَذَلِكَ عَنْ كُرْهٍ مِنَ ابْنِ
الْكَرْمَانِيِّ فَبَعَثَ ابْنُ الْكَرْمَانِيِّ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ: إِنِّي مَعَكَ
عَلَى قِتَالِ نَصْرٍ. وَرَكِبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى خِدْمَةِ ابْنِ
الْكَرْمَانِيِّ فَنَزَلَ عِنْدَهُ وَاجْتَمَعَا، فَاتَّفَقَا عَلَى حَرْبِهِ
وَمُخَالَفَتِهِ، وَتَحَوَّلَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى مَوْضِعٍ فَسِيحٍ، وَكَثُرَ
جُنْدُهُ، وَعَظُمَ جَيْشُهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الشُّرَطِ وَالْحَرَسِ
وَالرَّسَائِلِ وَالدِّيوَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ الْمَلِكُ
إِلَيْهِ، وَجَعَلَ الْقَاسِمَ بْنَ مُجَاشِعٍ التَّمِيمِيَّ - وَكَانَ أَحَدَ
النُّقَبَاءِ - عَلَى الْقَضَاءِ، وَكَانَ يُصَلِّي بِأَبِي مُسْلِمٍ الصَّلَوَاتِ،
وَيَقُصُّ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَيَذْكُرُ مَحَاسِنَ بَنِي هَاشِمٍ وَيَذُمُّ بَنِي
أُمَيَّةَ. ثُمَّ تَحَوَّلَ أَبُو مُسْلِمٍ فَنَزَلَ
بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: آلِينُ. وَكَانَ فِي مَكَانٍ
مُنْخَفِضٍ، فَخَشِيَ أَنْ يَقْطَعَ عَنْهُ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ الْمَاءَ،
وَذَلِكَ فِي سَادِسِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَصَلَّى بِهِمْ
يَوْمَ النَّحْرِ الْقَاضِي الْقَاسِمُ بْنُ مُجَاشِعٍ، وَصَارَ نَصْرُ بْنُ
سَيَّارٍ فِي جَحَافِلَ قَاصِدًا قِتَالَ أَبِي مُسْلِمٍ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى
الْبِلَادِ نُوَّابًا، فَكَانَ مِنَ الْأَمْرِ مَا سَنَذْكُرُهُ فِي السَّنَةِ
الْآتِيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
مَقْتَلُ الْكَرْمَانِيِّ
وَنَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ وَبَيْنَ الْكَرْمَانِيِّ
وَهُوَ جَدِيعُ بْنُ عَلِيٍّ الْكَرْمَانِيُّ فَقُتِلَ بَيْنَهُمَا مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَجَعَلَ أَبُو مُسْلِمٍ يُكَاتِبُ كُلًّا مِنَ
الطَّائِفَتَيْنِ، وَيَسْتَمِيلُهُمْ إِلَيْهِ، يَكْتُبُ إِلَى نَصْرٍ وَإِلَى
الْكَرْمَانِيِّ: إِنَّ الْإِمَامَ قَدْ أَوْصَانِي بِكُمْ خَيْرًا، وَلَسْتُ
أَعْدُو رَأْيَهُ فِيكُمْ. وَكَتَبَ إِلَى الْكُوَرِ يَدْعُو إِلَى بَنِي
الْعَبَّاسِ فَاسْتَجَابَ لَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌ غَفِيرٌ، وَأَقْبَلَ أَبُو
مُسْلِمٍ فَنَزَلَ بَيْنَ خَنْدَقِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ وَخَنْدَقِ جُدَيْعٍ
الْكَرْمَانِيِّ، فَهَابَهُ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا. وَكَتَبَ نَصْرُ بْنُ
سَيَّارٍ إِلَى الْخَلِيفَةِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ
الْمُلَقَّبِ بِالْحِمَارِ يُعْلِمُهُ بِأَمْرِ أَبِي مُسْلِمٍ وَكَثْرَةِ مَنْ
مَعَهُ، وَأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَكَتَبَ فِي
كِتَابِهِ:
أَرَى بَيْنَ الرَّمَادِ وَمِيضَ جَمْرٍ فَأَحْرِ بِأَنْ
يَكُونَ لَهُ ضِرَامُ فَإِنَّ النَّارَ بِالْعُودَيْنِ تُذْكَى
وَإِنَّ الْحَرْبَ مَبْدَؤُهَا الْكَلَامُ فَقُلْتُ مِنَ التَّعَجُّبِ لَيْتَ
شِعْرِي
أَأَيْقَاظٌ أُمَيَّةُ أَمْ نِيَامُ
فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَرْوَانُ: الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ. فَقَالَ
نَصْرٌ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ قَدْ أَعْلَمَكُمْ أَنْ لَا نُصْرَةَ عِنْدَهُ.
وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهَا بِلَفْظٍ آخَرَ:
أَرَى خَلَلَ الرَّمَادِ وَمِيضَ نَارٍ فَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ لَهَا ضِرَامُ
فَإِنَّ النَّارَ بِالزِّنْدَيْنِ تُورَى وَإِنَّ الْحَرْبَ أَوَّلُهَا كَلَامُ
لِئَنْ لَمْ يُطْفِهَا عُقَلَاءُ قَوْمٍ يَكُونُ وُقُودُهَا جُثُثٌ وَهَامُ
أَقُولُ مِنَ التَّعَجُّبِ لَيْتَ شِعْرِي أَأَيْقَاظٌ أُمَيَّةُ أَمْ نِيَامُ
فَإِنْ كَانُوا لِحِينِهِمُ نِيَامًا فَقُلْ قُومُوا فَقَدْ حَانَ الْقِيامُ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ عَلَوِيَّةِ الْكُوفَةِ حِينَ
خَرَجَ مُحَمَّدٌ، وَإِبْرَاهِيمُ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ عَلَى
الْمَنْصُورِ أَخِي السَّفَّاحِ:
أَرَى نَارًا تَشُبُّ عَلَى بِقَاعٍ لَهَا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ شُعَاعُ
وَقَدْ رَقَدَتْ بَنُو الْعَبَّاسِ عَنْهَا وَبَاتَتْ
وَهِيَ آمِنَةٌ رِتَاعُ
كَمَا رَقَدَتْ أُمَيَّةُ ثُمَّ هَبَّتْ تُدَافِعُ حِينِ لَا يُغْنِي الدِّفَاعُ
وَكَتَبَ نَصْرٌ إِلَى نَائِبِ الْعِرَاقِ يَزِيدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ
يَسْتَمِدُّهُ، كَتَبَ إِلَيْهِ:
أَبْلِغٍ يَزِيدَ وَخَيْرُ الْقَوْلِ أَصْدَقُهُ وَقَدْ تَبَيِّنْتُ أَنْ لَا
خَيْرَ فِي الْكَذِبِ
بِأَنْ خُرَاسَانُ أَرْضٌ قَدْ رَأَيْتُ بِهَا بَيْضًا لَوِ افْرَخَ قَدْ
حُدِّثْتَ بِالْعَجَبِ
فِرَاخُ عَامَيْنِ إِلَّا أَنَّهَا كَبُرَتْ لَمَّا يَطِرْنَ وَقَدْ سُرْبِلْنَ
بِالزَّغَبِ
فَإِنْ يَطِرْنَ وَلَمْ يُحْتَلْ لَهُنَّ بِهَا يُلْهِبْنَ نِيَرَانَ حَرْبٍ
أَيَّمَا لَهَبِ
فَبَعَثَ ابْنُ هُبَيْرَةَ بِكِتَابِ نَصْرٍ إِلَى مَرْوَانَ وَاتَّفَقَ فِي
وُصُولِهِ إِلَيْهِ أَنْ وَجَدُوا رَسُولًا مِنْ جِهَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
مُحَمَّدٍ وَمَعَهُ كِتَابٌ مِنْهُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ يَشْتُمُهُ
وَيَسُبُّهُ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يُنَاهِضَ نَصْرَ بْنَ سَيَّارٍ وَالْكَرْمَانِيَّ،
وَلَا يَتْرُكُ هُنَاكَ مَنْ يُحْسِنُ الْكَلَامَ بِالْعَرَبِيَّةِ. فَعِنْدَ
ذَلِكَ بَعَثَ مَرْوَانُ وَهُوَ مُقِيمٌ بِحَرَّانَ إِلَى نَائِبِهِ بِدِمَشْقَ
وَهُوَ الْوَلِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، يَأْمُرُهُ أَنْ
يُرْسَلَ كِتَابًا إِلَى نَائِبِهِ بِالْبَلْقَاءِ وَيَأْمُرُهُ فِيهِ أَنْ
يَذْهَبَ إِلَى الْحُمَيْمَةِ الْبَلْدَةِ الَّتِي فِيهَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْمُلَقَّبُ بِالْإِمَامِ، فَيُقَيِّدُهُ وَيُرْسِلُهُ إِلَيْهِ،
فَبَعَثَ نَائِبُ دِمَشْقَ إِلَى نَائِبِ الْبَلْقَاءِ، فَذَهَبَ إِلَى مَسْجِدِ
الْبَلْدَةِ، فَوَجَدَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدٍ جَالِسًا فِيهِ، فَقَيَّدَهُ
وَأَرْسَلَ بِهِ إِلَى دِمَشْقَ، فَبَعَثَهُ نَائِبُ دِمَشْقَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى
مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَرَ بِهِ فَسُجِنَ،
وَكَانَ مِنْ
أَمْرِهِ مَا سَيَأْتِي فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ.
وَأَمَّا أَبُو مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ لَمَّا تَوَسَّطَ بَيْنَ جَيْشِ نَصْرٍ،
وَالْكَرْمَانِيِّ كَاتَبَ الْكَرْمَانِيَّ: إِنِّي مَعَكَ. فَمَالَ إِلَيْهِ،
فَكَتَبَ إِلَيْهِ نَصْرٌ: وَيْحَكَ ! لَا تَغْتَرَّ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ
قَتْلَكَ وَقَتْلَ أَصْحَابِكَ مَعَكَ، فَهَلُمَّ حَتَّى نَكْتُبَ كِتَابًا
بَيْنَنَا بِالْمُوَادَعَةِ. فَدَخَلَ الْكَرْمَانِيُّ دَارَهُ، ثُمَّ خَرَجَ
إِلَى الرَّحْبَةِ فِي مِائَةِ فَارِسٍ وَبَعَثَ إِلَى نَصْرٍ أَنْ هَلُمَّ حَتَّى
نَتَكَاتَبَ، فَأَبْصَرَ نَصْرٌ غِرَّةً مِنَ الْكَرْمَانِيِّ فَنَهَضَ إِلَيْهِ
فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً،
وَقُتِلَ الْكَرْمَانِيُّ فِي الْمَعْرَكَةِ، طَعَنَهُ رَجُلٌ فِي خَاصِرَتِهِ،
فَخْرَّ عَنْ دَابَّتِهِ، ثُمَّ أَمَرَ نَصْرٌ بِصَلْبِهِ، فَصُلِبَ وَصُلِبَ
مَعَهُ سَمَكَةٌ، وَانْضَافَ وَلَدُهُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ
وَمَعَهُ طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِيهِ، فَصَارُوا كَتِفًا
وَاحِدَةً عَلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَغَلَّبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَلَى فَارِسَ وَكُوَرِهَا،
وَعَلَى حُلْوَانَ وَقُومِسَ وَأَصْبَهَانَ وَالرَّيِّ بَعْدَ حُرُوبٍ يَطُولُ
ذِكْرُهَا وَبَسْطُهَا، ثُمَّ الْتَقَى عَامِرُ بْنُ ضُبَارَةَ مَعَهُ
بِإْصْطَخْرَ فَهَزَمَهُ ابْنُ ضُبَارَةَ وَأَسَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَرْبَعِينَ
أَلْفًا فَكَانَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ فَنَسَبَهُ ابْنُ ضُبَارَةَ، وَقَالَ لَهُ: مَا جَاءَ بِكَ مَعَ ابْنِ
مُعَاوِيَةَ وَقَدْ عَلِمْتَ خِلَافَهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مَرْوَانَ ؟ فَقَالَ:
كَانَ عَلَيَّ دَيْنٌ فَأَتَيْتُهُ. فَقَامَ إِلَيْهِ حَرْبُ بْنُ
قَطَنِ بْنِ وَهْبٍ الْكِنَانِيُّ فَاسْتَوْهَبَهُ مِنْهُ،
وَقَالَ: هُوَ ابْنُ أُخْتِنَا. فَوَهَبَهُ لَهُ، وَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَقْدِمَ
عَلَى رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ. ثُمَّ اسْتَعْلَمَ ابْنُ ضُبَارَةَ مِنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَخْبَارِ ابْنِ مُعَاوِيَةَ فَذَمَّهُ، وَرَمَاهُ هُوَ
وَأَصْحَابَهُ بِاللِّوَاطِ، وَجِيءَ مِنَ الْأُسَارَى بِمِائَةِ غُلَامٍ
عَلَيْهِمُ الثِّيَابُ الْمُصَبَّغَةُ، فَحَمَلَ ابْنُ ضُبَارَةَ، عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عَلِيٍّ عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ لِيُخْبِرِهُ بِذَلِكَ،
فَبَعَثَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ إِلَى مَرْوَانَ فِي أَجْنَادِ أَهْلِ الشَّامِ،
فَأَخْبَرَهُ بِمَا أَخْبَرَهُ ابْنُ ضُبَارَةَ عَنِ ابْنِ مُعَاوِيَةَ. وَقَدْ
كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ زَوَالَ مُلْكِ مَرْوَانَ يَكُونُ عَلَى يَدِ
هَذَا الرَّجُلِ، وَلَا يَشْعُرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَافَى الْمَوْسِمَ أَبُو حَمْزَةَ
الْخَارِجِيُّ فَأَظْهَرَ التَّحَكُّمَ وَالْمُخَالَفَةَ لِمَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ مَرْوَانَ وَالتَّبَرُّؤَ مِنْهُ، فَرَاسَلَهُمْ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ
سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ
مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ، وَإِلَيْهِ أَمْرُ الْحَجِيجِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، ثُمَّ صَالَحَهُمْ عَلَى الْأَمَانِ إِلَى يَوْمِ النَّفْرِ،
فَوَقَفُوا عَلَى حَجْرَةٍ مِنَ النَّاسِ بِعَرَفَاتٍ ثُمَّ تَحَيَّزُوا عَنْهُمْ،
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ تَعَجَّلَ عَبْدُ الْوَاحِدِ وَتَرَكَ
مَكَّةَ فَدَخَلَهَا الْخَارِجِيُّ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ
فِي ذَلِكَ:
زَارَ الْحَجِيجَ عِصَابَةٌ قَدْ خَالَفُوا دِينَ الْإِلَهِ فَفَرَّ عَبْدُ
الْوَاحِدِ
تَرَكَ الْحَلَائِلَ وَالِإْمَارَةَ هَارِبًا وَمَضَى يُخَبِّطُ كَالْبَعِيرِ
الشَّارِدِ
لَوْ كَانَ وَالِدُهُ تَنَصَّلَ عِرْقَهُ لَصَفَتْ مَشَارِبُهُ بِعِرْقِ
الْوَالِدِ
وَلَمَّا رَجَعَ عَبْدُ الْوَاحِدِ إِلَى الْمَدِينَةِ
شَرَعَ فِي تَجْهِيزِ السَّرَايَا إِلَى الْخَارِجِيِّ وَبَذَلَ النَّفَقَاتِ،
وَزَادَ فِي أَعْطِيَةِ الْأَجْنَادِ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَيْهِ سَرِيعًا.
وَكَانَ إِمْرَةُ الْعِرَاقِ إِلَى يَزِيدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ
وَإِمْرَةُ خُرَاسَانَ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، وَكَانَ قَدِ اسْتَحْوَذَ
عَلَى بَعْضِ بِلَادِهِ أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ: سَالِمٌ أَبُو
النَّضْرِ، وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ فِي قَوْلٍ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي
كَثِيرٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرَاجِمَهُمْ فِي كِتَابِ " التَّكْمِيلِ ".
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِتِسْعٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا دَخَلَ
أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ مَدِينَةَ مَرْوَ وَنَزَلَ دَارَ الْإِمَارَةِ
بِهَا، وَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، وَذَلِكَ بِمُسَاعَدَةِ
عَلِيِّ بْنِ الْكَرْمَانِيِّ وَهَرَبَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ فِي شِرْذِمَةٍ
قَلِيلَةٍ مِنَ النَّاسِ نَحْوٌ مَنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ
الْمَرْزُبَانَةُ ثُمَّ عَجَّلَ الْهَرَبَ حَتَّى لَحِقَ بِسَرْخَسَ وَتَرَكَ
امْرَأَتَهُ وَرَاءَهُ، وَنَجَا بِنَفْسِهِ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ أَبِي مُسْلِمٍ
بِخُرَاسَانَ جَدًّا، وَالْتَفَّتْ عَلَيْهِ الطَّوَائِفُ مِنَ النَّاسِ،
وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ.
مَقْتَلُ شَيْبَانَ بْنِ سَلَمَةَ الْحَرُورِيِّ
وَلَمَّا هَرَبَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ بَقِيَ شَيْبَانُ الْحَرُورِيُّ وَكَانَ
مُمَالِئًا لَهُ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ رُسُلًا،
فَحَبَسَهُمْ شَيْبَانُ فَأَرْسَلَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى بَسَّامِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ مَوْلَى بَنِي لَيْثٍ يَأْمُرُهُ أَنْ يَرْكَبَ إِلَى شَيْبَانَ
فَيُقَاتِلُهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَاقْتَتَلَا، فَهَزَمَهُ بِسَّامٌ وَقَتَلَهُ،
وَاتَّبَعَ أَصْحَابَهُ يَقْتُلُهُمْ وَيَأْسِرُهُمْ. ثُمَّ قَتَلَ أَبُو مُسْلِمٍ
عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ ابْنَيِ الْكَرْمَانِيِّ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ
أَبَا مُسْلِمٍ كَانَ وَجَّهَ مُوسَى بْنَ كَعْبٍ إِلَى أَبِيوَرْدَ
فَافْتَتَحَهَا وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَوَجَّهَ
أَبُو مُسْلِمٍ أَبَا دَاوُدَ إِلَى بَلْخَ، فَأَخَذَهَا مِنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الْقُشَيْرِيِّ فَجَمَعَ زِيَادٌ خَلْقًا مِنَ
الْجُنُودِ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ لِقِتَالِ
الْمُسَوِّدَةِ، فَنَهَضَ إِلَيْهِمْ أَبُو دَاوُدَ فَقَتَلَهُمْ حَتَّى
كَسَرَهُمْ وَاسْتَبَاحَ مُعَسْكَرَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا، وَاصْطَفَى
مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ هُنَالِكَ، ثُمَّ وَقَعَتْ
كَائِنَةٌ اقْتَضَتْ أَنِ اتَّفَقَ رَأْيُ أَبِي مُسْلِمٍ مَعَ أَبِي دَاوُدَ
عَلَى قَتْلِ عُثْمَانَ بْنِ الْكَرْمَانِيِّ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا، وَفِي
ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ يَقْتُلُ أَبُو مُسْلِمٍ عَلِيَّ بْنَ جُدَيْعٍ
الْكَرْمَانِيَّ فَوَقَعَ ذَلِكَ كَذَلِكَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَوَجَّهَ قَحْطَبَةُ بْنُ شَبِيبٍ إِلَى نَيْسَابُورَ
لِقِتَالِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، وَمَعَ قَحْطَبَةَ جَمَاعَةٌ مِنْ كُبَرَاءِ
الْأُمَرَاءِ، مِنْهُمْ خَالِدُ بْنُ بَرْمَكَ وَخَلْقٌ مِنْهُمْ، فَالْتَقَوْا
مَعَ تَمِيمِ بْنِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، وَقَدْ وَجَّهَهُ أَبُوهُ لِقِتَالِهِمْ
بِطُوسَ فَقَتَلَ قَحْطَبَةُ مِنْ أَصْحَابِ نَصْرٍ نَحْوًا مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ
أَلْفًا فِي الْمَعْرَكَةِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ بَعَثَ إِلَى قَحْطَبَةَ
مَدَدًا فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ عَلَيْهِمْ عَلِيُّ بْنُ مَعْقِلٍ وَلَمَّا
الْتَقَوْا قَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِ نَصْرٍ خَلْقًا، وَقَتَلُوا تَمِيمَ بْنَ
نَصْرٍ وَغَنِمُوا أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا، ثُمَّ إِنَّ يَزِيدَ بْنَ عُمَرَ
بْنِ هُبَيْرَةَ نَائِبَ مَرْوَانَ عَلَى الْعِرَاقِ بَعَثَ سَرِيَّةً مَدَدًا
لِنَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ، فَأَرْسَلَ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ
جِهَتِهِ قَحْطَبَةَ بْنَ شَبِيبٍ، فَالْتَقَى مَعَهُمْ فِي مُسْتَهَلِّ ذِي
الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِجُرْجَانَ وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ،
فَقَامَ قَحْطَبَةُ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ
وَالْقِتَالِ وَذَمَّرَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِالْمُصَابَرَةِ، وَوَعَدَهُمْ عَنِ
الْإِمَامِ أَنَّهُمْ يُنْصَرُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَقَاتَلُوا قِتَالًا
شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ جُنْدُ بَنِي أُمَيَّةَ وَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ
وَغَيْرِهِمْ عَشَرَةُ آلَافٍ، مِنْهُمْ أَمِيرُ الْمَدَدِ نُبَاتَةُ بْنُ
حَنْظَلَةَ عَامِلُ جُرْجَانَ وَرَسَاتِيقِهَا لِابْنِ هُبَيْرَةَ فَبَعَثَ
قَحْطَبَةُ بِرَأْسِهِ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ.
ذِكْرُ دُخُولِ أَبِي حَمْزَةَ الْخَارِجِيِّ
الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ وَاسْتِيلَائِهِ عَلَيْهَا مُدَّةَ ثَلَاثَةِ
أَشْهُرٍ حَتَّى ارْتَحَلَ مِنْهَا
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَقْعَةٌ بِقُدَيْدٍ مِنْ
أَرْضِ الْحِجَازِ بَيْنَ أَبِي حَمْزَةَ الْخَارِجِيِّ - الَّذِي كَانَ حَكَمَ
فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ - وَبَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَقَتَلَ الْخَارِجِيُّ
خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ دَخَلَ الْخَارِجِيُّ
الْمَدِينَةَ وَهَرَبَ نَائِبُهَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ سُلَيْمَانَ فَقَتَلَ
الْخَارِجِيُّ مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا، وَذَلِكَ لِتِسْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً
خَلَتْ مَنْ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ خَطَبَ الْخَارِجِيُّ أَهْلَ
الْمَدِينَةِ 72 عَلَى الْمِنْبَرِ النَّبَوِيِّ فَوَبَّخَهُمْ وَأَنَّبَهُمْ،
وَكَانَ فِيمَا وَبَّخَهُمْ بِهِ أَنْ قَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، إِنِّي
مَرَرْتُ بِكُمْ أَيَّامَ الْأَحْوَلِ - يَعْنِي هِشَامَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ -
وَقَدْ أَصَابَتْكُمْ عَاهَةٌ فِي ثِمَارِكُمْ، فَكَتَبْتُمْ إِلَيْهِ
تَسْأَلُونَهُ أَنْ يَضَعَ الْخَرْصَ عَنْ ثِمَارِكُمْ، فَوَضَعَهُ عَنْكُمْ،
فَزَادَ غَنِيَّكُمْ غِنًى، وَزَادَ فَقِيرَكُمْ فَقْرًا، فَكَتَبْتُمْ إِلَيْهِ:
جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا. فَلَا جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ
غَيْرِ هَذَا، وَقَدْ أَقَامَ أَبُو حَمْزَةَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ; بَقِيَّةَ
صَفَرٍ وَشَهْرَيْ رَبِيعٍ وَبَعْضَ جُمَادَى الْأُولَى فِيمَا قَالَهُ
الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَدْ رَوَى الْمَدَائِنِيُّ أَنَّ أَبَا حَمْزَةَ رَقِيَ يَوْمًا مِنْبَرَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى
عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: تَعْلَمُونَ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَنَّا لَمْ نَخْرُجْ
مِنْ دِيَارِنَا وَأَمْوَالِنَا أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا عَبَثًا، وَلَا
لِدَوْلَةِ مُلْكٍ نُرِيدُ أَنْ نَخُوضَ فِيهِ، وَلَا لِثَأْرٍ قَدِيمٍ نِيلَ
مِنَّا،
وَلَكِنَّا لَمَّا رَأَيْنَا مَصَابِيحَ الْحَقِّ قَدْ عُطِّلَتْ، وَضَعُفَ الْقَائِلُ بِالْحَقِّ، وَقُتِلَ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ، ضَاقَتْ عَلَيْنَا الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَسَمِعْنَا دَاعِيًا يَدْعُو إِلَى طَاعَةِ الرَّحْمَنِ وَحُكْمِ الْقُرْآنِ، فَأَجَبْنَا دَاعِيَ اللَّهِ، وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ [ الْأَحْقَافِ: 32 ]. أَقْبَلْنَا مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى، النَّفَرُ مِنَّا عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ عَلَيْهِ زَادُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ، يَتَعَاوَرُونَ لِحَافًا وَاحِدًا. قَلِيلُونَ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ، فَآوَانَا اللَّهُ وَأَيَّدَنَا بِنْصِرِهِ، فَأَصْبَحْنَا وَاللَّهِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ إِخْوَانًا، ثُمَّ لَقِينَا رِجَالَكُمْ بِقُدَيْدٍ، فَدَعَوْنَاهُمْ إِلَى طَاعَةِ الرَّحْمَنِ وَحُكْمِ الْقُرْآنِ، وَدَعَوْنَا إِلَى طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَحُكْمِ آلِ مَرْوَانَ فَشَتَّانَ لَعَمْرُ اللَّهِ مَا بَيْنَ الْغَيِّ وَالرُّشْدِ. ثُمَّ أَقْبَلُوا نَحْوَنَا يَهْرَعُونَ يَزِفُّونَ قَدْ ضَرَبَ الشَّيْطَانُ فِيهِمْ بِجِرَانِهِ، وَغَلَتْ بِدِمَائِهِمْ مَرَاجِلُهُ، وَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ ظَنَّهُ، وَأَقْبَلَ أَنْصَارُ اللَّهِ عَصَائِبَ وَكَتَائِبَ، بِكُلِّ مُهَنَّدٍ ذِي رَوْنَقٍ، فَدَارَتْ رَحَانَا وَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ، بِضَرْبٍ يَرْتَابُ مِنْهُ الْمُبْطِلُونَ، وَأَنْتُمْ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، إِنْ تَنْصُرُوا مَرْوَانَ يُسْحِتَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، أَوَّلُكُمْ خَيْرُ أَوَّلٍ، وَآخِرُكُمْ شَرُّ آخَرٍ. يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، النَّاسُ مِنَّا وَنَحْنُ مِنْهُمْ، إِلَّا مُشْرِكًا عَابِدَ وَثَنٍ، أَوْ كَافِرَ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ إِمَامًا جَائِرًا. يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ كَلَّفَ نَفَسًا فَوْقَ طَاقَتِهَا، أَوْ سَأَلَهَا مَا لَمْ يُؤْتِهَا، فَهُوَ لِلَّهِ عَدُوٌّ، وَلَنَا حَرْبٌ. يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، أَخْبِرُونِي عَنْ ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ فَرَضَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، فَجَاءَ تَاسِعٌ لَيْسَ لَهُ مِنْهَا وَلَا سَهْمٌ وَاحِدٌ، فَأَخَذَهَا لِنَفْسِهِ، مُكَابِرًا مُحَارِبًا لِرَبِّهِ. يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَنْتَقِصُونَ أَصْحَابِي ; قُلْتُمْ: شَبَابٌ أَحْدَاثٌ، وَأَعْرَابٌ جُفَاةٌ. وَيْحَكُمْ ! يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، وَهَلْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا شَبَابًا أَحْدَاثًا ؟ ! شَبَابٌ وَاللَّهِ مُكْتَهِلُونَ فِي شَبَابِهِمْ،
غَضَّةٌ عَنِ الشَّرِّ أَعْيُنُهُمْ، ثَقِيلَةٌ عَنِ
الْبَاطِلِ أَقْدَامُهُمْ، قَدْ بَاعُوا لِلَّهِ أَنْفُسًا تَمُوتُ بِأَنْفُسٍ لَا
تَمُوتُ، قَدْ خَالَطُوا كَلَالَهُمْ بِكَلَالِهِمْ، وَقِيَامَ لَيْلِهِمْ
بِصِيَامِ نَهَارِهِمْ، مُنْحَنِيَةٌ أَصْلَابُهُمْ عَلَى أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ،
كُلَّمَا مَرُّوا بِآيَةِ خَوْفٍ شَهَقُوا ; خَوْفًا مِنَ النَّارِ، وَإِذَا
مَرُّوا بِآيَةِ شَوْقٍ شَهَقُوا ; شَوْقًا إِلَى الْجَنَّةِ، فَلَمَّا نَظَرُوا
إِلَى السُّيُوفِ قَدِ انْتُضِيَتْ، وَإِلَى الرِّمَاحِ قَدْ شُرِعَتْ، وَإِلَى
السِّهَامِ قَدْ فُوِّقَتْ، وَأُرْعِدَتِ الْكَتِيبَةُ بِصَوَاعِقَ الْمَوْتِ،
اسْتَخَفُّوا وَعِيدَ الْكَتِيبَةِ لِوَعِيدِ اللَّهِ، وَلَمْ يَسْتَخِفُّوا
وَعِيدَ اللَّهِ لِوَعِيدِ الْكَتِيبَةِ، فَطُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ، فَكَمْ
مِنْ عَيْنٍ فِي مِنْقَارِ طَائِرٍ طَالَمَا فَاضَتْ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِنْ
خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَمْ مِنْ يَدٍ زَالَتْ عَنْ مَفْصِلِهَا طَالَمَا
اعْتَمَدَ بِهَا صَاحِبُهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ. أَقُولُ قَوْلِي هَذَا،
وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ تَقْصِيرِنَا، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ،
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
ثُمَّ رَوَى الْمَدَائِنِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ، عَنْ هَارُونَ عَنْ جَدِّهِ قَالَ:
كَانَ أَبُو حَمْزَةَ الْخَارِجِيُّ قَدْ أَحْسَنَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِ
الْمَدِينَةِ حَتَّى اسْتَمَالَ النَّاسَ حِينَ سَمِعُوهُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: بَرِحَ الْخَفَاءُ
أَيْنَ مَا بِكَ يَذْهَبُ ؟ ! مَنْ زَنَى فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ سَرَقَ فَهُوَ
كَافِرٌ. فَأَبْغَضَهُ النَّاسُ، وَرَجَعُوا عَنْ مَحَبَّتِهِ. وَأَقَامَ
بِالْمَدِينَةِ حَتَّى بَعَثَ مَرْوَانُ الْحِمَارُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ
مُحَمَّدِ بْنِ عَطِيَّةَ أَحَدَ بَنِي سَعْدٍ فِي خُيُولِ أَهْلِ الشَّامِ
أَرْبَعَةِ آلَافٍ، قَدِ انْتَخَبَهَا مِنْ جَيْشِهِ، وَأَعْطَى كُلَّ رَجُلٍ
مِنْهُمْ مِائَةَ
دِينَارٍ، وَفَرَسًا عَرَبِيَّةً وَبَغْلًا لِثِقَلِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ، وَلَوْ لَمْ يَلْحَقْهُ إِلَّا بِالْيَمَنِ فَلْيَتْبَعْهُ إِلَيْهَا، وَلِيُقَاتِلْ نَائِبَ صَنْعَاءَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَحْيَى فَسَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ حَتَّى بَلَغَ وَادِيَ الْقُرَى فَتَلْقَّاهُ أَبُو حَمْزَةَ الْخَارِجِيُّ قَاصِدًا مَرْوَانَ فَاقْتَتَلُوا هُنَالِكَ إِلَى اللَّيْلِ، فَقَالُوا: وَيْحَكَ يَا ابْنَ عَطِيَّةَ ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا. فَأَبَى أَنْ يُقْلِعَ عَنِ الْقِتَالِ، وَمَا زَالَ يُقَاتِلُهُمْ حَتَّى غَلَبَهُمْ وَكَسَرَهُمْ وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَنَهَضَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَدَخَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْمَدِينَةَ وَقَدِ انْهَزَمَ جَيْشُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْهَا، فَيُقَالُ: إِنَّهُ أَقَامَ بِهَا شَهْرًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى مَكَّةَ وَقَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ اسْتَخْلَفَ عَلَى مَكَّةَ، وَسَارَ إِلَى الْيَمَنِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى مِنْ صَنْعَاءَ، فَاقْتَتَلَا فَقَتَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَحْيَى وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ إِلَى مَرْوَانَ وَجَاءَ كِتَابُ مَرْوَانَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِعَجَلَةِ السَّيْرِ إِلَى مَكَّةَ لِيَحُجَّ بِالنَّاسِ عَامَهُ هَذَا، فَخَرَجَ مِنْ صَنْعَاءَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَاكِبًا، وَتَرَكَ جَيْشَهُ بِصَنْعَاءَ، وَمَعَهُ خُرْجٌ فِيهِ أَرْبَعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ نَزَلَ مَنْزِلًا هُنَالِكَ، إِذْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ أَمِيرَانِ، يُقَالُ لَهُمَا: ابْنَا جُمَانَةَ. مِنْ سَادَاتِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَمَعَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِمَا فَأَحْدَقُوا بِابْنِ عَطِيَّةِ وَأَصْحَابِهِ. فَقَالُوا: وَيْحَكُمْ ! أَنْتُمْ لُصُوصٌ. فَقَالَ: وَيْحَكُمْ ! هَذَا كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيَّ بِإِمْرَةِ الْحَجِّ فِي هَذَا الْعَامِ، فَنَحْنُ نُعَجِّلُ السَّيْرَ لِنَلْحَقَ الْمَوْسِمَ، وَأَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ. فَقَالُوا: هَذَا بَاطِلٌ. ثُمَّ حَمَلُوا عَلَيْهِمْ، فَقَتَلُوا ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَصْحَابَهُ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَأَخَذُوا مَا مَعَهُمْ مِنَ الْمَالِ.
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَقَدْ جُعِلَتْ
إِلَيْهِ إِمْرَةُ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَنَائِبُ الْعِرَاقِ
يَزِيدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ وَإِمْرَةُ خُرَاسَانَ إِلَى نَصْرِ بْنِ
سَيَّارٍ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ قَدِ انْتَزَعَ مِنْهُ أَمَاكِنَ كَثِيرَةً
مِنْ خُرَاسَانَ وَكُوَرًا وَرَسَاتِيقَ وَقَدْ أَرْسَلَ نَصْرٌ إِلَى ابْنِ
هُبَيْرَةَ يَسْتَمِدُّهُ وَيَسْتَنْجِدُهُ وَيَطْلُبُ أَنْ يَمُدَّهُ مِنْ
عِنْدِهِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ قَبْلَ أَنْ لَا يَكْفِيَهُ مِائَةُ أَلْفٍ، وَكَتَبَ
إِلَى مَرْوَانَ يَسْتَمِدُّهُ، فَكَتَبَ مَرْوَانُ إِلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ
يَمُدُّهُ بِمَا أَرَادَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ شُعَيْبُ بْنُ الْحبْحَابِ،
وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رَفِيعٍ، وَكَعْبُ
بْنُ عَلْقَمَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ
وَمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا وَجَّهَ قَحْطَبَةُ بْنُ شَبِيبٍ وَلَدَهُ الْحَسَنَ
إِلَى قُومِسَ لِقِتَالِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، وَأَرْدَفَهُ بِالْأَمْدَادِ،
فَخَامَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى نَصْرٍ، وَارْتَحَلَ نَصْرٌ فَنَزَلَ الرَّيَّ،
فَأَقَامَ بِهَا يَوْمَيْنِ، ثُمَّ مَرِضَ، فَسَارَ مِنْهَا إِلَى هَمَذَانَ،
فَلَمَّا كَانَ بِسَاوَةَ قَرِيبًا مِنْ هَمَذَانَ تُوُفِّيَ لِمُضِيِّ ثِنْتَيْ
عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ
خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، فَلَمَّا مَاتَ نَصْرٌ تَمَكَّنَ أَبُو مُسْلِمٍ
الْخُرَاسَانِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ
جِدًّا، فَسَارَ قَحْطَبَةُ مِنْ جُرْجَانَ، وَقَدِمَ أَمَامَهُ زِيَادُ بْنُ
زُرَارَةَ الْقُشَيْرِيُّ وَكَانَ قَدْ نَدِمَ عَلَى اتِّبَاعِ أَبِي مُسْلِمٍ
فَتَرَكَ الْجَيْشَ، وَأَخَذَ جَمَاعَةً مَعَهُ، وَسَلَكَ طَرِيقَ أَصْبَهَانَ
لِيَأْتِيَ ابْنَ ضُبَارَةَ فَبَعَثَ قَحْطَبَةُ وَرَاءَهُ جَيْشًا، فَقَتَلُوا
عَامَّةَ أَصْحَابِهِ، وَأَقْبَلَ قَحْطَبَةُ وَرَاءَهُ، فَقَدِمَ قُومِسَ، وَقَدِ
افْتَتَحَهَا ابْنُهُ الْحَسَنُ فَأَقَامَ بِهَا، وَبَعَثَ ابْنَهُ بَيْنَ
يَدَيْهِ إِلَى الرَّيِّ، ثُمَّ سَاقَ وَرَاءَهُ، فَوَجَدَهُ قَدِ افْتَتَحَهَا،
فَأَقَامَ بِهَا وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ بِذَلِكَ، وَارْتَحَلَ أَبُو
مُسْلِمٍ مِنْ مَرْوَ فَنَزَلَ نَيْسَابُورَ وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ جِدًّا،
وَبَعَثَ قَحْطَبَةُ - بَعْدَ دُخُولِهِ الرَّيَّ بِثَلَاثٍ - ابْنَهُ الْحَسَنَ
بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى هَمَذَانَ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهَا خَرَجَ مِنْهَا
مَالِكُ بْنُ أَدْهَمَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَجْنَادِ الشَّامِ وَخُرَاسَانَ
فَنَزَلُوا نَهَاوَنْدَ فَافْتَتَحَ الْحَسَنُ هَمَذَانَ، ثُمَّ سَارَ وَرَاءَهُمْ
إِلَى نَهَاوَنْدَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُوهُ بِالْأَمْدَادِ وَرَاءَهُ، فَجَاءَ
فَحَاصَرَهُمْ بِهَا حَتَّى افْتَتَحَهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَامِرُ بْنُ ضُبَارَةَ
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ هُبَيْرَةَ كَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ
يَسِيرَ إِلَى قَحْطَبَةَ وَأَمَدَّهُ بِالْعَسَاكِرِ، فَسَارَ ابْنُ ضُبَارَةَ
حَتَّى الْتَقَى مَعَ قَحْطَبَةَ، وَابْنُ ضُبَارَةَ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ
أَلْفًا، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: عَسْكَرُ الْعَسَاكِرِ، وَقَحْطَبَةُ فِي
عِشْرِينَ أَلْفًا، فَلَمَّا تَوَاجَهَ الْفَرِيقَانِ رَفَعَ قَحْطَبَةُ
وَأَصْحَابُهُ الْمَصَاحِفَ، وَنَادَى الْمُنَادِي: يَا أَهْلَ الشَّامِ، إِنَّا
نَدْعُوكُمْ إِلَى مَا فِي هَذَا الْمُصْحَفِ. فَشَتَمُوا الْمُنَادِيَ،
وَشَتَمُوا قَحْطَبَةَ، فَأَمَرَ قَحْطَبَةُ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْمِلُوا
عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ كَثِيرُ قِتَالٍ حَتَّى انْهَزَمَ أَصْحَابُ
ابْنِ ضُبَارَةَ وَاتَّبَعَهُمْ أَصْحَابُ قَحْطَبَةَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ
خَلْقًا كَثِيرًا، وَقَتَلُوا ابْنَ ضُبَارَةَ فِي الْعَسْكَرِ وَأَخَذُوا مِنْ
عَسْكَرِهِمْ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوَصَفُ.
وَفِيهَا حَاصَرَ قَحْطَبَةُ نَهَاوَنْدَ حِصَارًا شَدِيدًا، حَتَّى سَأَلَهُ
أَهْلُ الشَّامِ الَّذِينَ بِهَا أَنْ يَشْغَلَ أَهْلَهَا حَتَّى يَفْتَحُوا لَهُ
الْبَابَ، فَفَتَحُوا لَهُ الْبَابَ، وَأَخَذُوا لَهُمْ مِنْهُ أَمَانًا، فَقَالَ
لَهُمْ مَنْ بِهَا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ: مَا فَعَلْتُمْ ؟ فَقَالُوا: أَخَذْنَا
لَنَا وَلَكُمْ أَمَانًا. فَخَرَجُوا ظَانِّينَ أَنَّهُمْ فِي أَمَانٍ، فَقَالَ
قَحْطَبَةُ لِلْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَهُ: كُلُّ مَنْ حَصَلَ عِنْدَهُ أَسِيرٌ
مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ فَلْيَضْرِبْ عُنُقَهُ وَلْيَأْتِنَا بِرَأْسِهِ.
فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَبْقَ مِمَّنْ كَانَ هَرِبَ مِنْ أَبِي مُسْلِمٍ
مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَأَطْلَقَ الشَّامِيِّينَ وَأَوْفَى لَهُمْ عَهْدَهُمْ،
وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ أَنْ لَا يُمَالِئُوا عَلَيْهِ عَدُوًّا، ثُمَّ
بَعَثَ قَحْطَبَةُ - عَنْ أَمْرِ أَبِي مُسْلِمٍ - أَبَا عَوْنٍ إِلَى شَهْرَزُورَ
فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَحَاصَرَهَا حَتَّى افْتَتَحَهَا، وَقَتَلَ نَائِبَهَا
عُثْمَانَ بْنَ سُفْيَانَ. وَقِيلَ: لَمْ يَقْتُلْ بَلْ تَحَوَّلَ إِلَى
الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ وَبَعَثَ
إِلَى قَحْطَبَةَ بِذَلِكَ. وَلَمَّا بَلَغَ مَرْوَانَ
خَبَرُ قَحْطَبَةَ، وَأَبِي مُسْلِمٍ وَمَا وَقَعَ مِنْ أَمْرِهِمَا تَحَوَّلَ
مِنْ حَرَّانَ، فَنَزَلَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الزَّابُّ الْأَكْبَرُ.
وَفِيهَا قَصَدَ قَحْطَبَةُ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ نَائِبَ الْعِرَاقِ يَزِيدَ بْنَ
عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُ تَقَهْقَرَ ابْنُ هُبَيْرَةَ
إِلَى وَرَائِهِ، وَمَا زَالَ يَتَقَهْقَرُ إِلَى أَنْ جَاوَزَ الْفُرَاتَ،
وَجَاءَ قَحْطَبَةُ فَجَازَهُ وَرَاءَهُ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا مَا
سَنَذْكُرُهُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا جَازَ قَحْطَبَةُ بْنُ شَبِيبٍ الْفُرَاتَ وَمَعَهُ
الْجُنُودُ وَالْفُرْسَانُ، وَابْنُ هُبَيْرَةَ مُخَيِّمٌ عَلَى فَمِ الْفُرَاتِ
مِمَّا يَلِي الْفَلُّوجَةَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ وَجَمٍّ غَفِيرٍ، وَقَدْ أَمَدَّهُ
مَرْوَانُ بِجُنُودٍ كَثِيرَةٍ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ كُلُّ مَنِ انْهَزَمَ مِنْ
جَيْشِ ابْنِ ضُبَارَةَ ثُمَّ إِنَّ قَحْطَبَةَ عَدَلَ إِلَى الْكُوفَةِ
لِيَأْخُذَهَا، فَاتَّبَعَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ
الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ مَضَيْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ اقْتَتَلُوا قِتَالًا
شَدِيدًا، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَوَلَّى أَهْلُ الشَّامِ
مُنْهَزِمِينَ، وَاتَّبَعَهُمْ أَهْلُ خُرَاسَانَ، وَفُقِدَ قَحْطَبَةُ مِنَ
النَّاسِ، فَأَخْبَرَهُمْ رَجُلٌ أَنَّهُ قُتِلَ، وَأَنَّهُ أَوْصَى أَنْ يَكُونَ
أَمِيرُ النَّاسِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدَهُ الْحَسَنَ، وَلَمْ يَكُنِ الْحَسَنُ
حَاضِرًا، فَبَايَعُوا حُمَيْدَ بْنَ قَحْطَبَةَ لِأَخِيهِ الْحَسَنِ، وَذَهَبَ
الْبَرِيدُ إِلَى الْحَسَنِ لِيَحْضُرَ، وَقُتِلَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ
جَمَاعَةٌ مِنْ سَادَاتِ الْأُمَرَاءِ، وَالَّذِي قَتَلَ قَحْطَبَةَ مَعْنُ بْنُ
زَائِدَةَ، وَيَحْيَى بْنُ حُصَيْنٍ. وَقِيلَ: بَلْ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ
مَعَهُ آخِذًا بِثَأْرِ بَنِي نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَوُجِدَ
قَحْطَبَةُ فِي الْقَتْلَى، فَدُفِنَ هُنَالِكَ، وَسَارَ الْحَسَنُ بْنُ
قَحْطَبَةَ نَحْوَ الْكُوفَةِ، وَقَدْ خَرَجَ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ، وَدَعَا إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ وَسَوَّدَ، وَكَانَ
خُرُوجُهُ لَيْلَةَ عَاشُورَاءَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَأَخْرَجَ عَامِلَهَا مِنْ جِهَةِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، وَهُوَ زِيَادُ بْنُ صَالِحٍ
الْحَارِثِيُّ وَتَحَوَّلَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ إِلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ،
فَقَصَدَهُ حَوْثَرَةُ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا مِنْ جِهَةِ ابْنِ هُبَيْرَةَ،
فَلَمَّا اقْتَرَبَ حَوْثَرَةُ مِنَ الْكُوفَةِ
جَعَلَ أَصْحَابُهُ يَذْهَبُونَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ
خَالِدٍ فَيُبَايِعُونَهُ لِبَنِي الْعَبَّاسِ، فَلَمَّا رَأَى حَوْثَرَةُ ذَلِكَ
ارْتَحَلَ إِلَى وَاسِطَ. وَيُقَالُ: بَلْ دَخَلَ الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ
الْكُوفَةَ، وَكَانَ قَحْطَبَةُ قَدْ جَعَلَ فِي وَصِيَّتِهِ أَنْ تَكُونَ
وِزَارَةُ الْخِلَافَةِ إِلَى أَبِي سَلَمَةَ حَفْصِ بْنِ سُلَيْمَانَ مَوْلَى
السَّبِيعِ الْكُوفِيِّ الْخَلَّالِ وَهُوَ بِالْكُوفَةِ فَلَمَّا قَدِمُوا
عَلَيْهِ أَشَارَ أَنْ يَذْهَبَ الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ
الْأُمَرَاءِ إِلَى قِتَالِ ابْنِ هُبَيْرَةَ بِوَاسِطَ، وَأَنْ يَذْهَبَ أَخُوهُ
حُمَيْدٌ إِلَى الْمَدَائِنِ وَبَعَثَ الْبُعُوثَ إِلَى كُلِّ جَانِبٍ مِنْ تِلْكَ
النَّوَاحِي يَفْتَتِحُونَهَا، وَفَتَحُوا الْبَصْرَةَ، افْتَتَحَهَا سَلْمُ بْنُ
قُتَيْبَةَ لِابْنِ هُبَيْرَةَ، فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ هُبَيْرَةَ - كَمَا
سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ - جَاءَ أَبُو مَالِكٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُسَيْدٍ
الْخُزَاعِيُّ فَأَخَذَ الْبَصْرَةَ لِأَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ
رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا، أُخِذَتِ الْبَيْعَةُ لِأَبِي الْعَبَّاسِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْمُلَقَّبِ بِالسَّفَّاحِ. قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ
وَهِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ خِلَافَةُ السَّفَّاحِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ مَقْتَلِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْإِمَامِ
قَدْ ذَكَرْنَا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ أَنَّ مَرْوَانَ اطَّلَعَ
عَلَى كِتَابٍ مِنْ إِبْرَاهِيمَ
الْإِمَامِ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ
يَأْمُرُهُ فِيهِ بِأَنْ لَا يُبْقِي أَحَدًا بِأَرْضِ خُرَاسَانَ مِمَّنْ
يَتَكَلَّمُ بِالْعَرَبِيَّةِ إِلَّا أَبَادَهُ، فَلَمَّا وَقَفَ مَرْوَانُ عَلَى
ذَلِكَ سَأَلَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فَقِيلَ لَهُ: هُوَ بِالْبَلْقَاءِ. فَكَتَبَ
إِلَى نَائِبِ دِمَشْقَ أَنْ يُحْضِرَهُ، وَبَعَثَ رَسُولًا فِي ذَلِكَ وَمَعَهُ
صِفَتُهُ وَنَعْتُهُ، فَذَهَبَ الرَّسُولُ، فَوَجَدَ أَخَاهُ أَبَا الْعَبَّاسِ
السَّفَّاحَ فَاعْتَقَدَ أَنَّهُ هُوَ، فَأَخَذَهُ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ لَيْسَ
بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَخُوهُ. فَدَلَّ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَأَخَذَهُ وَذَهَبَ
مَعَهُ بِأُمِّ وَلَدٍ لَهُ يُحِبُّهَا، وَأَوْصَى إِلَى أَهْلِهِ أَنْ يَكُونَ
الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ وَأَمَرَهُمْ
بِالْمَسِيرِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَارْتَحَلُوا مِنْ فَوْرِهِمْ إِلَيْهَا،
وَكَانُوا جَمَاعَةً، مِنْهُمْ أَعْمَامُهُ السِّتَّةُ، وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ،
وَدَاوُدُ، وَعِيسَى، وَصَالِحٌ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ بَنُو
عَلِيٍّ وَأَخَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ، وَيَحْيَى ابْنَا
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَابْنَاهُ مُحَمَّدٌ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ ابْنَا
إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ الْمَمْسُوكِ وَخَلْقٌ سِوَاهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا
الْكُوفَةَ أَنْزَلَهُمْ أَبُو سَلَمَةَ الْخَلَّالُ دَارَ الْوَلِيدِ بْنِ سَعْدٍ
مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ فِي بَنِي أَوْدٍ وَكَتَمَ أَمْرَهُمْ نَحْوًا مِنْ
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مِنَ الْقُوَّادِ وَالْأُمَرَاءِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ بِهِمْ
بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، حَتَّى فُتِحَتِ الْبِلَادُ، ثُمَّ بُويِعَ
لِلسَّفَّاحِ.
وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِمَامُ فَإِنَّهُ سِيرَ بِهِ إِلَى أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ بِحَرَّانَ
فَحَبَسَهُ كَمَا قَدَّمْنَا، وَمَا زَالَ فِي السِّجْنِ إِلَى هَذِهِ
السَّنَةِ، فَمَاتَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا فِي السِّجْنِ، عَنْ
ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِنَّهُ غُمَّ بِمُرْفَقَةٍ وُضِعَتْ
عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى مَاتَ عَنْ إِحْدَى وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ
رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مُهَلْهَلُ بْنُ صَفْوَانَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ هُدِمَ
عَلَيْهِ بَيْتٌ حَتَّى مَاتَ. وَقِيلَ: بَلْ سُقِيَ لَبَنًا مَسْمُومًا فَمَاتَ.
وَقِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامَ شَهِدَ الْمَوْسِمَ عَامَ إِحْدَى
وَثَلَاثِينَ، وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ هُنَالِكَ ; لَأَنَّهُ وَقَفَ فِي أُبَّهَةٍ
عَظِيمَةٍ، وَنَجَائِبَ كَثِيرَةٍ، وَحُرْمَةٍ وَافِرَةٍ، فَأَنْهَى أَمْرَهُ
إِلَى مَرْوَانَ وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ إِنَّمَا يَدْعُو النَّاسَ
إِلَى هَذَا، وَيُسَمُّونَهُ الْخَلِيفَةَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ فِي الْمُحَرَّمِ
مِنْ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَقَتَلَهُ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ. وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا أُخِذَ
مِنَ الْكُوفَةِ لَا مِنْ حُمَيْمَةِ الْبَلْقَاءِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ هَذَا كِرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا، لَهُ فَضَائِلُ
وَفَوَاضِلُ، رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَأَبِي هَاشِمٍ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَعَنْهُ أَخَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ
أَبُو الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ عَبْدُ اللَّهِ الْمَنْصُورُ،
وَأَبُو مُسْلِمٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، وَمَالِكُ
بْنُ الْهَيْثَمِ وَمِنْ كَلَامِهِ الْحَسَنِ قَوْلُهُ: الْكَامِلُ الْمُرُوءَةِ
مَنْ أَحْرَزَ دِينَهُ، وَوَصَلَ رَحِمَهُ، وَاجْتَنَبَ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ.
خِلَافَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ
لَمَّا بَلَغَ أَهْلَ الْكُوفَةِ مَقْتَلُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَرَادَ
أَبُو سَلَمَةَ الْخَلَّالُ أَنْ يُحَوِّلَ الْخِلَافَةَ إِلَى آلِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَغَلَبَهُ بَقِيَّةُ النُّقَبَاءِ
وَالْأُمَرَاءِ عَلَى أَمْرِهِ، وَأَحْضَرُوا أَبَا الْعَبَّاسِ السَّفَّاحَ
وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، وَذَلِكَ بِالْكُوفَةِ وَكَانَ عُمْرُهُ
إِذْ ذَاكَ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ
بِالْخِلَافَةِ أَبُو سَلَمَةَ الْخَلَّالُ، وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ
لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ خَرَجَ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ
عَلَى بِرْذَوْنٍ أَبْلَقَ، وَالْجُنُودُ مُلَبَّسَةٌ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلَ دَارَ
الْإِمَارَةِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ، ثُمَّ صَعِدَ
الْمِنْبَرَ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي
أَعْلَاهُ، وَعَمُّهُ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَاقِفٌ دُونَهُ بِثَلَاثِ دَرَجٍ،
وَتَكَلَّمَ السَّفَّاحُ وَكَانَ أَوَّلَ مَا نَطَقَ بِهِ أَنْ قَالَ: الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي اصْطَفَى الْإِسْلَامَ لِنَفْسِهِ فَكَرَّمَهُ وَشَرَّفَهُ
وَعَظَّمَهُ، وَاخْتَارَهُ لَنَا، وَأَيَّدَهُ بِنَا، وَجَعَلَنَا أَهْلَهُ
وَكَهْفَهُ وَالْقُوَّامَ بِهِ وَالذَّابِّينَ عَنْهُ وَالنَّاصِرِينَ لَهُ،
وَأَلْزَمَنَا كَلِمَةَ التَّقْوَى، وَجَعَلَنَا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا،
خَصَّنَا بِرَحِمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَرَابَتِهِ، وَاشْتَقَّنَا مَنْ نَبْعَتِهِ، وَوَضَعَنَا مِنَ الْإِسْلَامِ
وَأَهْلِهِ بِالْمَوْضِعِ الرَّفِيعِ، وَأَنْزَلَ بِذَلِكَ عَلَى أَهْلِ
الْإِسْلَامِ كِتَابًا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيرًا [ الْأَحْزَابِ: 33 ]. وَقَالَ: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [ الشُّورَى: 23 ].
وَقَالَ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [ الشُّعَرَاءِ: 214 ]. وَقَالَ: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى [ الْحَشْرِ: 7 ]. فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَضْلَنَا، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ حَقَّنَا وَمَوَدَّتَنَا، وَأَجْزَلَ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ نَصِيبَنَا ; تَكْرِمَةً لَنَا، وَفَضْلَةً عَلَيْنَا، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وَزَعَمَتِ السَّبَئِيَّةُ الضُّلَّالُ أَنَّ غَيْرَنَا أَحَقُّ بِالرِّيَاسَةِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْخِلَافَةِ مِنَّا، فَشَاهَتْ وُجُوهُهُمْ، بِمَ وَلِمَ أَيُّهَا النَّاسُ؟ ! وَبِنَا هَدَى اللَّهُ النَّاسَ بَعْدَ ضَلَالَتِهِمْ، وَبَصَّرَهُمْ بَعْدَ جَهَالَتِهِمْ، وَأَنْقَذَهُمْ بَعْدَ هَلَكَتِهِمْ، وَأَظْهَرَ بِنَا الْحَقَّ، وَأَدْحَضَ بِنَا الْبَاطِلَ، وَأَصْلَحَ بِنَا مِنْهُمْ مَا كَانَ فَاسِدًا، وَرَفَعَ بِنَا الْخَسِيسَةَ، وَأَتَمَّ النَّقِيصَةَ، وَجَمَعَ الْفِرْقَةَ، حَتَّى عَادَ النَّاسُ بَعْدَ الْعَدَاوَةِ أَهْلَ تَعَاطُفٍ وَبِرٍّ وَمُوَاسَاةٍ فِي دُنْيَاهُمْ، وَإِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ فِي أُخْرَاهُمْ، فَتَحَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنَّةً وَمِنْحَةً لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ قَامَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ أَصْحَابُهُ، وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنِهِمْ، فَحَوَوْا مَوَارِيثَ الْأُمَمِ، فَعَدَلُوا فِيهَا، وَوَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا، وَأَعْطَوْهَا أَهْلَهَا، وَخَرَجُوا خِمَاصًا مِنْهَا، ثُمَّ وَثَبَ بَنُو حَرْبٍ وَمَرْوَانٍ فَابْتَزُّوهَا وَتَدَاوَلُوهَا، فَجَارُوا فِيهَا، وَاسْتَأْثَرُوا بِهَا، وَظَلَمُوا أَهْلَهَا، فَأَمْلَى اللَّهُ لَهُمْ حِينًا حَتَّى آسَفُوهُ، فَلَمَّا آسَفُوهُ انْتَقَمَ مِنْهُمْ بِأَيْدِينَا، وَرَدَّ عَلَيْنَا حَقَّنَا، وَتَدَارَكَ بِنَا أُمَّتَنَا، وَوَلِيَ نَصْرَنَا وَالْقِيَامَ بِأَمْرِنَا ; لِيَمُنَّ بِنَا عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، وَخَتَمَ بِنَا كَمَا افْتَتَحَ بِنَا، وَإِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ لَا يَأْتِيَكُمُ الْجَوْرُ مِنْ حَيْثُ جَاءَكُمُ الْخَيْرُ، وَلَا الْفَسَادُ مِنْ حَيْثُ جَاءَكُمُ الصَّلَاحُ، وَمَا تَوْفِيقُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ إِلَّا بِاللَّهِ، يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، أَنْتُمْ مَحَلُّ مَحَبَّتِنَا وَمَنْزِلُ مَوَدَّتِنَا، وَأَنْتُمْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِنَا وَأَكْرَمُهُمْ عَلَيْنَا،
وَقَدْ زِدْتُكُمْ فِي أَعْطِيَاتِكُمْ مِائَةَ دِرْهَمٍ،
فَاسْتَعِدُّوا، فَأَنَا السَّفَّاحُ الْهَائِجُ، وَالثَّائِرُ الْمُبِيرُ.
وَكَانَ بِهِ وَعْكٌ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ،
وَنَهَضَ عَمُّهُ دَاوُدُ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرًا شُكْرًا شُكْرًا
الَّذِي أَهْلَكَ عَدُوَّنَا، وَأَصَارَ إِلَيْنَا مِيرَاثَنَا مِنْ نَبِيِّنَا،
أَيُّهَا النَّاسُ، الْآنَ انْقَشَعَتْ حَنَادِسُ الظُّلُمَاتِ، وَانْكَشَفَ
غِطَاؤُهَا، وَأَشْرَقَتْ أَرْضُهَا وَسَمَاؤُهَا، وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ
مَطْلَعِهَا، وَبَزَغَ الْقَمَرُ مِنْ مِبْزَغِهِ، وَرَجَعَ الْحَقُّ إِلَى
نِصَابِهِ فِي أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ ; أَهِلِ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ
بِكُمْ وَالْعَطْفِ عَلَيْكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا وَاللَّهِ مَا
خَرَجْنَا فِي طَلَبِ هَذَا الْأَمْرِ لِنُكْثِرَ لُجَيْنًا وَلَا عِقْيَانًا،
وَلَا لِنَحْفِرَ نَهْرًا، وَلَا لِنَبْنِيَ قَصْرًا، وَإِنَّمَا أَخْرَجَنَا
الْأَنَفَةُ مِنَ ابْتِزَازِهِمْ حَقَّنَا، وَالْغَضَبُ لِبَنِي عَمِّنَا،
وَلِسُوءِ سِيرَةِ بَنِي أُمَيَّةَ فِيكُمْ، وَاسْتِذْلَالُهُمْ لَكُمْ،
وَاسْتِئْثَارُهُمْ بِفَيْئِكُمْ وَصَدَقَاتِكُمْ، فَلَكُمْ عَلَيْنَا ذِمَّةُ
اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ وَذِمَّةُ الْعَبَّاسِ أَنْ نَحْكُمَ فِيكُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ، وَنَعْمَلَ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَنَسِيرَ فِي الْعَامَّةِ
مِنْكُمْ وَالْخَاصَّةِ بِسِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، تَبًّا تَبًّا لِبَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي مَرْوَانَ آثَرُوا
الْعَاجِلَةَ عَلَى الْآجِلَةِ، وَالدَّارَ الْفَانِيَةِ عَلَى الدَّارِ
الْبَاقِيَةِ، فَرَكِبُوا الْآثَامَ وَظَلَمُوا الْأَنَامَ، وَارْتَكَبُوا
الْمَحَارِمَ، وَغَشَوُا الْجَرَائِمَ، وَجَارُوا فِي سِيرَتِهِمْ فِي الْعِبَادِ،
وَسُنَّتِهِمُ فِي الْبِلَادِ، الَّتِي بِهَا اسْتَلَذُّوا تَسَرْبُلَ
الْأَوْزَارِ، وَتَجَلْبُبَ الْآصَارِ، وَمَرِحُوا فِي أَعِنَّةِ
الْمَعَاصِي، وَرَكَضُوا فِي مَيَادِينَ الْغَيِّ ; جَهْلًا بِاسْتِدْرَاجِ اللَّهِ، وَأَمْنًا لِمَكْرِ اللَّهِ، فَأَتَاهُمْ بِأْسُ اللَّهِ بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحُوا أَحَادِيثَ، وَمُزِّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ، فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَأَدَالَنَا اللَّهُ مِنْ مَرْوَانَ وَقَدْ غَرَّهُ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، وَأَرْسَلَ لِعَدُوِّ اللَّهِ فِي عِنَانِهِ حَتَّى عَثَرَ فِي فَضْلِ خِطَامِهِ، أَظَنَّ عَدُوُّ اللَّهِ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ؟ ! فَنَادَى حِزْبَهُ، وَجَمَعَ مَكَايِدَهُ، وَرَمَى بِكَتَائِبِهِ، فَوَجَدَ أَمَامَهُ وَوَرَاءَهُ وَعَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَبَأْسِهِ وَنِقْمَتِهِ مَا أَمَاتَ بَاطِلَهُ، وَمَحَقَ ضَلَالَهُ، وَجَعَلَ دَائِرَةَ السَّوْءِ بِهِ، وَأَحْيَا شَرَفَنَا وَعِزَّنَا، وَرَدَّ إِلَيْنَا حَقَّنَا وَإِرْثَنَا، أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ - نَصَرَهُ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا - إِنَّمَا عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَخْلِطَ بِكَلَامِ الْجُمُعَةِ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا قَطَعَهُ عَنِ اسْتِتْمَامِ الْكَلَامِ بَعْدَ أَنِ اسْحَنْفَرَ فِيهِ، شِدَّةُ الْوَعْكِ، فَادْعُوا اللَّهَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعَافِيَةِ، فَقَدْ أَبْدَلَكُمُ اللَّهُ بِمَرْوَانَ عَدُوِّ الرَّحْمَنِ، وَخَلِيفَةِ الشَّيْطَانِ، الْمُتَّبِعِ لِلسَّفَلَةِ الَّذِينَ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ صَلَاحِهَا، الشَّابَّ الْمُتَكَهِّلَ، الْمُقْتَدِي بِسَلَفِهِ الْأَبْرَارِ الْأَخْيَارِ، الَّذِينَ أَصْلَحُوا الْأَرْضَ بَعْدَ فَسَادِهَا بِمَعَالِمِ الْهُدَى، وَمَنَاهِجِ الْتُّقَى. قَالَ: فَعَجَّ النَّاسُ لَهُ بِالدُّعَاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمُوا يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ أَنَّهُ لَمْ يَصْعَدْ مِنْبَرَكُمْ هَذَا خَلِيفَةٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ هَذَا - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى السَّفَّاحِ - وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِينَا لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنَّا حَتَّى نُسْلِمَهُ إِلَى عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى مَا أَبْلَانَا وَأَوْلَانَا. ثُمَّ نَزَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَدَاوُدُ حَتَّى دَخَلَا الْقَصْرَ. ثُمَّ دَخَلَ النَّاسُ
يُبَايِعُونَ إِلَى الْعَصْرِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ الْعَصْرِ
إِلَى اللَّيْلِ.
ثُمَّ إِنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ خَرَجَ فَعَسْكَرَ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ،
وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا عَمَّهُ دَاوُدَ بْنَ عَلِيٍّ، وَبَعَثَ عَمَّهُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ إِلَى أَبِي عَوْنِ بْنِ يَزِيدَ، وَبَعَثَ ابْنَ أَخِيهِ
عِيسَى بْنَ مُوسَى إِلَى الْحَسَنِ بْنِ قَحْطَبَةَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِوَاسِطَ
مُحَاصِرٌ ابْنَ هُبَيْرَةَ، وَبَعَثَ يَحْيَى بْنَ جَعْفَرِ بْنِ تَمَّامِ بْنِ
الْعَبَّاسِ إِلَى حُمَيْدِ بْنِ قَحْطَبَةَ بِالْمَدَائِنِ، وَبَعَثَ أَبَا
الْيَقْظَانِ عُثْمَانَ بْنَ عُرْوَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ
إِلَى بَسَّامِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَسَّامٍ بِالْأَهْوَازِ وَبَعَثَ سَلَمَةَ
بْنَ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ إِلَى مَالِكِ بْنِ الطَّوَّافِ. وَأَقَامَ هُوَ
بِالْعَسْكَرِ أَشْهُرًا، ثُمَّ ارْتَحَلَ فَنَزَلَ الْمَدِينَةَ الْهَاشِمِيَّةَ
فِي قَصْرِ الْإِمَارَةِ، وَقَدْ تَنَكَّرَ لِأَبِي سَلَمَةَ الْخَلَّالِ وَذَلِكَ
لِمَا كَانَ بَلَغَهُ عَنْهُ مِنَ الْعُدُولِ بِالْخِلَافَةِ عَنْ بَنِي
الْعَبَّاسِ إِلَى آلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ذِكْرُ مَقْتَلِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ مَرْوَانَ
آخِرِ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ وَتَحَوُّلِ الْخِلَافَةِ إِلَى بَنِي
الْعَبَّاسِ وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ
مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ [ آلِ عِمْرَانَ: 26 ].
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَرْوَانَ لَمَّا بَلَغَهُ مَا جَرَى بِأَرْضِ خُرَاسَانَ
مِنْ أَمْرِ أَبِي مُسْلِمٍ وَأَتْبَاعِهِ، تَحَوَّلَ مِنْ حَرَّانَ، فَنَزَلَ
عَلَى نَهْرٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَوْصِلِ يُقَالُ لَهُ: الزَّابُ. مِنْ أَرْضِ
الْجَزِيرَةِ، ثُمَّ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ السَّفَّاحَ قَدْ بُويِعَ لَهُ
بِالْكُوفَةِ وَالْتَفَّ عَلَيْهِ الْجُنُودُ، وَاجْتَمَعَ لَهُ أَمْرُهُ،
اشْتَدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ جِدًّا، وَجَمَعَ جُنُودَهُ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَبُو
عَوْنِ بْنُ يَزِيدَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَنَازَلَهُ عَلَى الزَّابِ، وَجَاءَتْهُ
الْأَمْدَادُ مِنْ جِهَةِ السَّفَّاحِ ثُمَّ نَدَبَ السَّفَّاحُ النَّاسَ مَنْ
يَلِي الْقِتَالَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَانْتَدَبَ عَمَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عَلِيٍّ فَقَالَ: سِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. فَسَارَ فِي جُنُودٍ كَثِيرَةٍ،
فَقَدِمَ عَلَى أَبِي عَوْنٍ فَتَحَوَّلَ لَهُ أَبُو عَوْنٍ عَنْ سُرَادِقِهِ
وَخَلَّاهُ لَهُ وَمَا فِيهِ، وَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى
شُرْطَتِهِ حِيَاشَ بْنَ حَبِيبٍ الطَّائِيَّ وَعَلَى حَرَسِهِ نُصَيْرَ بْنَ
الْمُحْتَفِزِ وَوَجَّهَ أَبُو الْعَبَّاسِ، مُوسَى بْنَ كَعْبٍ فِي ثَلَاثِينَ
رَجُلًا عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ يَحُثُّهُ عَلَى
مُنَاجَزَةِ مَرْوَانَ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى قِتَالِهِ وَنِزَالِهِ، فَتَقَدَّمَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَلِيٍّ بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى وَاجَهَ جَيْشَ مَرْوَانَ وَنَهَضَ مَرْوَانُ فِي جُنُودِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَتَصَافَّ الْفَرِيقَانِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ مَعَ مَرْوَانَ يَوْمَئِذٍ مِائَةُ أَلْفٍ وَخَمْسُونَ أَلْفًا. وَقِيلَ: مِائَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا. فَقَالَ مَرْوَانُ لِعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِنْ زَالَتِ الشَّمْسُ يَوْمَئِذٍ وَلَمْ يُقَاتِلُونَا، كُنَّا الَّذِينَ نَدْفَعُهَا إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَإِنْ قَاتَلُونَا قَبْلَ الزَّوَالِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ثُمَّ أَرْسَلَ مَرْوَانُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ يَسْأَلُهُ الْمُوَادَعَةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَذَبَ ابْنُ زُرَيْقٍ لَا تَزُولُ الشَّمْسُ حَتَّى أُوطِئَهُ الْخَيْلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمُ السَّبْتِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَقَالَ مَرْوَانُ لِأَهْلِ الشَّامِ: قِفُوا، لَا تَبْدَءُوهُمْ بِقِتَالٍ. وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الشَّمْسِ، فَخَالَفَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَرْوَانَ - وَهُوَ خَتَنُ مَرْوَانَ عَلَى ابْنَتِهِ - فَحَمَلَ، فَغَضِبَ مَرْوَانُ وَشَتَمَهُ، فَقَاتَلَ أَهْلُ الْمَيْمَنَةِ، فَانْحَازَ أَبُو عَوْنٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَالَ مُوسَى بْنُ كَعْبٍ، لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ: مُرِ النَّاسَ فَلْيَنْزِلُوا. فَنُودِيَ: الْأَرْضَ. فَنَزَلَ النَّاسُ وَأَشْرَعُوا الرِّمَاحَ، وَجَثَوْا عَلَى الرَّكْبَ وَقَاتَلُوهُمْ، وَجَعَلَ أَهْلُ الشَّامِ يَتَأَخَّرُونَ كَأَنَّمَا يُدْفَعُونَ، وَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ يَمْشِي قُدُمًا وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَبِّ حَتَّى مَتَى نُقْتَلُ فِيكَ ؟ وَنَادَى: يَا أَهْلَ خُرَاسَانَ، يَا لِثَارَاتِ إِبْرَاهِيمَ، يَا مُحَمَّدُ، يَا مَنْصُورُ. وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَ النَّاسِ جِدًّا، فَأَرْسَلَ مَرْوَانُ إِلَى قُضَاعَةَ يَأْمُرُهُمْ بِالنُّزُولِ، فَقَالُوا: قُلْ لِبَنِي سُلَيْمٍ فَلْيَنْزِلُوا. وَأَرْسَلَ إِلَى السَّكَاسِكِ أَنِ احْمِلُوا. فَقَالُوا: قُلْ لِبَنِي عَامِرٍ فَلْيَحْمِلُوا. فَأَرْسَلَ إِلَى السَّكُونِ أَنِ احْمِلُوا. فَقَالُوا: قُلْ لِغَطَفَانَ
فَلْيَحْمِلُوا. فَقَالَ لِصَاحِبِ شُرْطَتِهِ: انْزِلْ.
فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَجْعَلُ نَفْسِي غَرَضًا. قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ
لِأَسُوَءَنَّكَ. قَالَ: وَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنَّكَ قَدَرْتَ عَلَى ذَلِكَ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِابْنِ هُبَيْرَةَ.
قَالُوا: ثُمَّ انْهَزَمَ أَهْلُ الشَّامِ وَاتَّبَعَهُمْ أَهْلُ خُرَاسَانَ فِي
أَدْبَارِهِمْ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَكَانَ مَنْ غَرِقَ مِنْ أَهْلِ
الشَّامِ أَكْثَرَ مِمَّنْ قُتِلَ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ غَرِقَ إِبْرَاهِيمُ
بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَخْلُوعُ، وَقَدْ أَمَرَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ بِعَقْدِ الْجِسْرِ، وَاسْتِخْرَاجِ مَنْ هَلَكَ مِنَ
الْغَرْقَى، وَجَعَلَ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ
الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ
[ الْبَقَرَةِ: 50 ]. وَأَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ فِي مَوْضِعِ
الْمَعْرَكَةِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَقَدْ قَالَ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ سَعِيدِ بْنِ
الْعَاصِ فِي مَرْوَانَ وَفِرَارِهِ يَوْمَئِذٍ:
لَجَّ الْفِرَارُ بِمَرْوَانٍ فَقُلْتُ لَهُ عَادَ الظَّلُومُ ظَلِيمًا هَمُّهُ
الْهَرَبُ أَيْنَ الْفِرَارُ وَتَرْكُ الْمُلْكِ إِذْ ذَهَبَتْ
عَنْكَ الْهُوَيْنَى فَلَا دِينٌ وَلَا حَسَبُ فَرَاشَةُ الْحِلْمِ فِرْعَوْنُ
الْعِقَابِ وَإِنْ
تَطْلُبْ نَدَاهُ فَكَلْبٌ دُونَهُ كَلِبُ
وَاحْتَازَ عَبْدُ اللَّهِ مَا كَانَ فِي مُعَسْكَرِ مَرْوَانَ مِنَ الْأَمْوَالِ
وَالْأَمْتِعَةِ وَالْحَوَاصِلِ، وَلَمْ يَجِدْ فِيهِ امْرَأَةً سِوَى جَارِيَةٍ
كَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَرْوَانَ وَكَتَبَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ يُخْبِرُهُ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ
النَّصْرِ، وَمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ ; فَصَلَّى السَّفَّاحُ
رَكْعَتَيْنِ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَطْلَقَ لِكُلِّ مَنْ حَضَرَ
الْوَقْعَةَ خَمْسَمِائَةٍ خَمْسَمِائَةٍ، وَرَفَعَ فِي أَرْزَاقِهِمْ إِلَى
ثَمَانِينَ، وَجَعَلَ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ
بِالْجُنُودِ الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ: 249 ].
صِفَةُ مَقْتَلِ مَرْوَانَ الْحِمَارِ
لَمَّا انْهَزَمَ مَرْوَانُ مِنَ الْمَعْرَكَةِ سَارَ لَا يَلْوِي عَلَى أَحَدٍ،
فَأَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ فِي مَكَانِ الْمَعْرَكَةِ سَبْعَةَ
أَيَّامٍ، ثُمَّ سَارَ فِي طَلَبِهِ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ، وَذَلِكَ عَنْ
أَمْرِ السَّفَّاحِ لَهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا مَرَّ مَرْوَانُ بَحَرَّانَ اجْتَازَ
بِهَا، وَأَخْرَجَ أَبَا مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيَّ مِنْ سِجْنِهِ، وَاسْتَخْلَفَ
عَلَيْهَا أَبَانَ بْنَ يَزِيدَ وَهُوَ ابْنُ أَخِيهِ وَزَوْجُ ابْنَتِهِ أُمِّ
عُثْمَانَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ حَرَّانَ خَرَجَ إِلَيْهِ
أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ مُسَوِّدًا، فَأَمَّنَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ
وَأَقَرَّهُ عَلَى عَمَلِهِ، وَهَدَمَ الدَّارَ الَّتِي سُجِنَ فِيهَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِمَامُ وَاجْتَازَ مَرْوَانُ بِقِنَّسْرِينَ
قَاصِدًا إِلَى حِمْصَ، فَلَمَّا جَاءَهَا خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا
بِالْأَسْوَاقِ، فَأَقَامَ بِهَا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ شَخَصَ
مِنْهَا، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ مَنْ مَعَهُ اتَّبَعُوهُ ; طَمَعًا فِيهِ،
وَقَالُوا: مَرْعُوبُ مُنْهَزِمٌ. فَأَدْرَكُوهُ بِوَادٍ عِنْدَ حِمْصَ،
فَأَكْمَنَ لَهُمْ أَمِيرَيْنِ، فَلَمَّا تَلَاحَقُوا بِمَرْوَانَ عَطَفَ
عَلَيْهِمْ، فَنَاشَدَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا، فَأَبَوْا إِلَّا مُقَاتَلَتَهُ،
فَثَارَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، وَثَارَ الْكَمِينَانِ مِنْ وَرَائِهِمْ،
فَانْهَزَمَ الْحِمْصِيُّونَ، وَجَاءَ مَرْوَانُ إِلَى دِمَشْقَ وَعَلَى
نِيَابَتِهَا مِنْ جِهَتِهِ زَوْجُ ابْنَتِهِ أُمِّ الْوَلِيدِ، وَهُوَ الْوَلِيدُ
بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَرْوَانَ، فَتَرَكَهُ بِهَا، وَاجْتَازَ عَنْهَا قَاصِدًا
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ لَا
يَمُرُّ بِبَلَدٍ إِلَّا خَرَجُوا وَقَدْ سَوَّدُوا، فَيُبَايِعُونَهُ
وَيُعْطِيهِمُ الْأَمَانَ، وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى قِنَّسْرِينَ وَصَلَ إِلَيْهِ
أَخُوهُ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ
فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَقَدْ بَعَثَهُمُ السَّفَّاحُ
مَدَدًا لَهُ، ثُمَّ سَارَ عَبْدُ اللَّهِ حَتَّى أَتَى حِمْصَ، ثُمَّ سَارَ
مِنْهَا إِلَى بِعْلَبَكَّ، وَجَاءَ دِمَشْقَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمِزَّةِ فَنَزَلَ
بِهَا يَوْمَيْنِ، ثُمَّ جَاءَهُ أَخُوهُ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ فِي ثَمَانِيَةِ
آلَافٍ مَدَدًا مِنَ السَّفَّاحِ فَنَزَلَ صَالِحٌ بِمَرْجِ عَذْرَاءَ، وَلَمَّا
جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ دِمَشْقَ نَزَلَ عَلَى الْبَابِ الشَّرْقِيِّ،
وَنَزَلَ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى بَابِ الْجَابِيَةِ، وَنَزَلَ أَبُو عَوْنٍ
عَلَى بَابِ كَيْسَانَ، وَبِسَامٌ عَلَى بَابِ الصَّغِيرِ وَحُمَيْدُ بْنُ
قَحْطَبَةَ عَلَى بَابِ تُومَا، وَعَبْدُ الصَّمَدِ، وَيَحْيَى بْنُ صَفْوَانَ،
وَالْعَبَّاسُ بْنُ يَزِيدَ عَلَى بَابِ الْفَرَادِيسِ فَحَاصَرُوهَا أَيَّامًا،
ثُمَّ افْتَتَحَهَا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ
هَذِهِ السَّنَةِ، فَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَبَاحَهَا
ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، وَهَدَمَ سُورَهَا، وَيُقَالُ: إِنْ أَهْلَهَا لَمَّا
حَاصَرَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، مَا
بَيْنَ عَبَّاسِيٍّ وَأُمَوِيٍّ، حَتَّى اقْتَتَلُوا، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا، وَقَتَلُوا نَائِبَهُمْ، ثُمَّ سَلَّمُوا الْبَلَدَ، وَكَانَ أَوَّلَ
مَنْ صَعِدَ السُّورَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ:
عَبْدُ اللَّهِ الطَّائِيُّ. وَمِنْ نَاحِيَةِ الْبَابِ الصَّغِيرِ بَسَّامُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ أُبِيحَتْ دِمَشْقَ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ
قُتِلَ بِهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَسَنِ الْأَعْرَجِ مِنْ وَلَدِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَ أَمِيرًا
عَلَى خَمْسَةِ آلَافٍ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ فِي حِصَارِ دِمَشْقَ،
أَنَّهُمْ أَقَامُوا مُحَاصِرِيهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: مِائَةُ يَوْمٍ.
وَقِيلَ: شَهْرًا وَنِصْفًا. وَأَنَّ الْبَلَدَ كَانَ قَدْ حَصَّنَهُ نَائِبُ
مَرْوَانَ تَحْصِينًا
عَظِيمًا، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ أَهْلُهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ
بِسَبَبِ الْيَمَانِيَةِ وَالْمُضَرَيَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْفَتْحِ،
حَتَّى إِنَّهُمْ جَعَلُوا فِي كُلِّ مَسْجِدٍ مِحْرَابَيْنِ لِلْقِبْلَتَيْنِ،
حَتَّى فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مِنْبَرَيْنِ وَإِمَامَيْنِ يَخْطُبَانِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرَيْنِ، وَهَذَا مِنْ عَجِيبِ مَا وَقَعَ، وَغَرِيبِ
مَا اتَّفَقَ، وَفَظِيعِ مَا أُحْدِثَ بِسَبَبِ الْفِتْنَةِ وَالْهَوَى
وَالْعَصَبِيَّةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ. وَقَدْ بَسَطَ
ذَلِكَ الْحَافِظُ فِي التَّرْجَمَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَذَكَرَ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
النَّوْفَلِيِّ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ أَوَّلَ مَا
دَخَلَ دِمَشْقَ، دَخَلَهَا بِالسَّيْفِ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ مِنَ النَّهَارِ،
وَجَعَلَ مَسْجِدَ جَامِعِهَا سَبْعِينَ يَوْمًا إِصْطَبْلًا لِدَوَابِّهِ
وَجِمَالِهِ، ثُمَّ نَبَشَ قُبُورَ بَنِي أُمَيَّةَ فَلْمْ يَجِدْ فِي قَبْرِ
مُعَاوِيَةَ إِلَّا خَيْطًا أَسْوَدَ مِثْلَ الْهَبَاءِ، وَنَبَشَ قَبْرَ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَوَجَدَ جُمْجُمَةً، وَكَانَ يُوجَدُ فِي الْقَبْرِ
الْعُضْوُ بَعْدَ الْعُضْوِ، غَيْرَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَإِنَّهُ
وَجَدَهُ صَحِيحًا لَمْ يَبْلَ مِنْهُ غَيْرُ أَرْنَبَةِ أَنْفِهِ، فَضَرَبَهُ
بِالسِّيَاطِ وَهُوَ مَيِّتٌ، وَصَلَبَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ،
وَدَقَّ رَمَادَهُ، ثُمَّ ذَرَاهُ فِي الرِّيحِ، وَذَلِكَ أَنَّ هِشَامًا كَانَ
قَدْ ضَرَبَ أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ - حِينَ كَانَ قَدِ اتَّهَمَهُ
بِقَتْلِ وَلَدٍ لَهُ صَغِيرٍ - سَبْعَمِائَةِ سَوْطٍ، ثُمَّ نَفَاهُ إِلَى
الْحُمَيْمَةِ بِالْبَلْقَاءِ. قَالَ: ثُمَّ تَتَبَّعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَلِيٍّ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ أَوْلَادِ الْخُلَفَاءِ وَغَيْرِهِمْ، فَقَتَلَ
مِنْهُمْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ اثْنَيْنِ وَتِسْعِينَ نَفْسًا عِنْدَ نَهْرٍ
بِالرَّمْلَةِ وَبَسَطَ عَلَيْهِمُ الْأَنْطَاعَ، وَمَدَّ عَلَيْهِمْ سِمَاطًا،
فَأَكَلَ وَهُمْ يَخْتَلِجُونَ تَحْتَهُ، وَأَرْسَلَ
امْرَأَةَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهِيَ عَبْدَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ صَاحِبَةُ الْخَالِ، مَعَ نَفَرٍ مِنَ
الْخُرَاسَانِيَّةِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ مَاشِيَةً حَافِيَةً حَاسِرَةً، فَمَا
زَالُوا يَزْنُونَ بِهَا، ثُمَّ قَتَلُوهَا.
وَقَدِ اسْتَدْعَى بِالْأَوْزَاعِيِّ فَأُوقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ:
يَا أَبَا عَمْرٍو مَا تَقُولُ فِي هَذَا الَّذِي صَنَعْنَا ؟ قَالَ لَهُ: لَا
أَدْرِي، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: وَانْتَظَرْتُ رَأْسِي
يَسْقُطُ بَيْنَ رِجْلَيَّ، ثُمَّ أُخْرِجْتُ، وَبَعَثَ إِلَيَّ بِمِائَةِ
دِينَارٍ.
وَأَقَامَ بِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ سَارَ
وَرَاءَ مَرْوَانَ فَنَزَلَ عَلَى نَهْرِ الْكُسْوَةِ، وَوَجَّهَ يَحْيَى بْنَ جَعْفَرٍ
الْهَاشِمِيَّ نَائِبًا عَلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى الْأُرْدُنِّ
فَأَتَوْهُ وَقَدْ سَوَّدُوا، ثُمَّ سَارَ إِلَى بَيْسَانَ، ثُمَّ سَارَ فَنَزَلَ
مَرْجَ الرُّومِ ثُمَّ أَتَى نَهْرَ أَبِي فُطْرُسَ، فَوَجَدَ مَرْوَانَ قَدْ
هَرَبَ فَدَخَلَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، وَجَاءَهُ كِتَابُ
السَّفَّاحِ أَنْ وَجِّهْ صَالِحَ بْنَ عَلِيٍّ فِي طَلَبِ
مَرْوَانَ وَيُقِيمُ هُوَ بِالشَّامِ نَائِبًا عَلَيْهَا، فَسَارَ صَالِحٌ فِي
طَلَبِ مَرْوَانَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَمَعَهُ أَبُو
عَوْنٍ، وَعَامِرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ فَنَزَلَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، وَجَمَعَ
مَا هُنَاكَ مِنَ السُّفُنِ، وَبَلَغَهُ أَنَّ مَرْوَانَ قَدْ نَزَلَ الْفَرْمَا،
فَجَعَلَ يَسِيرُ عَلَى السَّاحِلِ وَالسُّفُنُ تُقَادُ مَعَهُ فِي الْبَحْرِ
حَتَّى أَتَى الْعَرِيشَ ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى النِّيلِ ثُمَّ سَارَ
إِلَى الصَّعِيدِ، فَعَبَرَ مَرْوَانُ النِّيلَ، وَقَطَعَ الْجِسْرَ وَحَرَّقَ مَا
حَوْلَهُ مِنَ الْعَلَفِ وَالطَّعَامِ، وَمَضَى صَالِحٌ فِي طَلَبِهِ، فَالْتَقَى
بِخَيْلٍ لِمَرْوَانَ فَهَزَمَهُمْ، ثُمَّ جَعَلَ كُلَّمَا الْتَقَوْا مَعَ خَيْلٍ
لِمَرْوَانَ يَهْزِمُونَهُمْ، حَتَّى سَأَلُوا بَعْضَ مَنْ أَسَرُوا عَنْ
مَرْوَانَ فَدَلُّوهُمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا بِهِ فِي كَنِيسَةِ بُوصِيرَ،
فَوَافَوْهُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، فَانْهَزَمَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنْدِ،
وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مَرْوَانُ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، فَأَحَاطُوا بِهِ حَتَّى
قَتَلُوهُ ; طَعَنَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُقَالُ لَهُ: مِغْوَدٌ.
وَلَا يَعْرِفُهُ، حَتَّى قَالَ رَجُلٌ: صُرِعَ أَمِيَرُ الْمُؤْمِنِينَ.
فَابْتَدَرَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ كَانَ يَبِيعُ الرُّمَّانَ،
فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، فَبَعَثَ بِهِ عَامِرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَمِيُرُ هَذِهِ
السَّرِيَّةِ إِلَى أَبِي عَوْنٍ فَبَعَثَ بِهِ أَبُو عَوْنٍ إِلَى صَالِحِ بْنِ
عَلِيٍّ فَبَعَثَ بِهِ صَالِحٌ مَعَ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: خُزَيْمَةُ بْنُ يَزِيدَ
بْنِ هَانِئٍ. كَانَ عَلَى شُرْطَتِهِ، إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ السَّفَّاحِ.
وَكَانَ مَقْتَلُ مَرْوَانَ يَوْمَ الْأَحَدِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ، وَقِيلَ: يَوْمَ الْخَمِيسِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْهَا سَنَةَ
ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، فَكَانَتْ خِلَافَتُهُ خَمْسَ
سِنِينَ وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، عَلَى
الْمَشْهُورِ، وَاخْتَلَفُوا فِي سِنِّهِ يَوْمَ قُتِلَ ; فَقِيلَ: أَرْبَعُونَ
سَنَةً. وَقِيلَ: سِتٌّ - وَقِيلَ: ثَمَانٌ - وَخَمْسُونَ سَنَةً. وَقِيلَ:
سِتُّونَ. وَقِيلَ: اثْنَتَانِ - وَقِيلَ: ثَلَاثٌ. وَقِيلَ: تِسْعٌ - وَسِتُّونَ
سَنَةً. وَقِيلَ: ثَمَانُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ إِنَّ صَالِحَ بْنَ عَلِيٍّ سَارَ إِلَى الشَّامِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى
مِصْرَ أَبَا عَوْنِ بْنَ يَزِيدَ.
وَهَذَا شَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَةِ مَرْوَانَ الْحِمَارِ
هُوَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ
بْنِ أُمَيَّةَ، الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ، أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ آخِرُ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَأُمُّهُ أَمَةٌ كُرْدِيَّةٌ يُقَالُ
لَهَا: لُبَابَةَ. وَكَانَتْ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ
أَخَذَهَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ يَوْمَ قَتَلَهُ، فَاسْتَوْلَدَهَا مَرْوَانَ
هَذَا، وَيُقَالُ: إِنَّهَا كَانَتْ أَوَّلًا لِمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَقَدْ
كَانَتْ دَارُ مَرْوَانَ هَذَا فِي سُوقِ الْأَكَّافِينَ. قَالَهُ الْحَافِظُ
ابْنُ عَسَاكِرَ.
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ قَتْلِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، وَبَعْدَ
مَوْتِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَخَلَعَ
إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَاسْتَتَبَّ لَهُ الْأَمْرُ فِي النِّصْفِ مِنْ
صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ فِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ:
مَرْوَانُ الْجَعْدِيُّ، نِسْبَةً إِلَى رَأْيِ الْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ،
وَيُلَقَّبُ بِالْحِمَارِ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَلَكَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ كَانَتْ
خِلَافَتُهُ مُنْذُ سَلَّمَ إِلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى أَنْ
بُويِعَ لِلسَّفَّاحِ خَمْسَ سِنِينَ وَشَهْرًا، وَبَقِيَ مَرْوَانُ بَعْدَ
بَيْعَةِ السَّفَّاحِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ.
وَكَانَ أَبْيَضَ مُشْرَبًا، أَزْرَقَ الْعَيْنَيْنِ، كَبِيرَ اللِّحْيَةِ، ضَخْمَ
الْهَامَةِ، رَبْعَةً، وَلَمْ يَكُنْ يُخَضِّبُ. وَلَّاهُ هِشَامٌ نِيَابَةَ
أَذْرَبِيجَانَ وَإِرْمِينِيَّةَ وَالْجَزِيرَةَ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ
وَمِائَةٍ، فَفَتَحَ بِلَادًا كَثِيرَةً وَحُصُونًا مُتَعَدِّدَةً فِي سِنِينَ
كَثِيرَةٍ، وَكَانَ لَا يُفَارِقُ الْغَزْوَ، قَاتَلَ طَوَائِفَ مِنَ النَّاسِ
وَالتَّرْكِ وَالْخَزَرِ وَاللَّانِ وَغَيْرِهِمْ، فَكَسَرَهُمْ وَقَهَرَهُمْ،
وَقَدْ كَانَ شُجَاعًا، بَطَلًا مِقْدَامًا، حَازِمَ الرَّأْيِ، وَلَكِنْ مَنْ
يَخْذُلِ اللَّهَ يُخْذَلْ.
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عَمِّهِ مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ:
كَانَ بَنُو أُمَيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّهُ تَذْهَبُ مِنْهُمُ الْخِلَافَةُ إِذَا
وَلِيَهَا مَنْ أُمُّهُ أَمَةٌ، فَلَمَّا وَلِيَهَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ
كَانَتْ أُمُّهُ أَمَةً، فَأُخِذَتِ الْخِلَافَةُ مِنْ يَدِهِ فِي سَنَةِ
ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ لِأَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: أَخْبَرَنَا
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، أَنَا سَهْلُ بْنُ
بِشْرٍ، أَنَا الْخَلِيلُ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ الْخَلِيلِ، أَنَا عَبْدُ
الْوَهَّابِ الْكِلَابِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْجَهْمِ أَحْمَدُ بْنُ
الْحُسَيْنِ، أَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ صُبْحٍ، ثَنَا عَبَّاسُ بْنُ
نَجِيحٍ أَبُو الْحَارِثِ، حَدَّثَنِي الْهَيْثَمُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنِي
رَاشِدُ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَزَالُ الْخِلَافَةُ فِي بَنِي
أُمَيَّةَ يَتَلَقَّفُونَهَا تَلَقُّفَ الْغِلْمَانِ الْأُكْرَةَ، فَإِذَا
خَرَجَتْ مِنْهُمْ فَلَا خَيْرَ فِي عَيْشٍ. هَكَذَا أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ
وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُنْكَرٌ جِدًّا.
وَقَدْ سَأَلَ الرَّشِيدُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ: مَنْ خَيْرُ الْخُلَفَاءِ ;
نَحْنُ أَمْ بَنُو أُمَيَّةَ ؟ فَقَالَ: هُمْ كَانُوا أَنْفَعَ لِلنَّاسِ،
وَأَنْتُمْ أَقْوَمُ بِالصَّلَاةِ. فَأَعْطَاهُ سِتَّةَ آلَافٍ.
قَالُوا: وَقَدْ كَانَ مَرْوَانُ كَثِيرَ الْمُرُوءَةِ، كَثِيرَ الْعُجْبِ، يُعْجِبُهُ
اللَّهْوَ وَالطَّرَبَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَشْتَغِلُ عَنْ ذَلِكَ بِالْحَرْبِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: قَرَأْتُ بِخَطِّ أَبِي الْحُسَيْنِ عَلِيِّ بْنِ
مُقَلَّدِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُنْقِذٍ الْأَمِيرِ فِي مَجْمُوعٍ لَهُ: كَتَبَ
مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ إِلَى جَارِيَةٍ لَهُ تَرَكَهَا بِالرَّمْلَةِ عِنْدَ
انْزِعَاجِهِ إِلَى مِصْرَ مُنْهَزِمًا:
وَمَا زَالَ يَدْعُونِي إِلَى الصَّبْرِ مَا أَرَى فَآبَى
وَيُدْنِينِي الَّذِي لَكَ فِي صَدْرِي وَكَانَ عَزِيزًا أَنْ تَبِيتِي
وَبَيْنَنَا
حِجَابٌ فَقَدْ أَمْسَيْتِ مِنِّي عَلَى عَشْرِ وَأَنْكَاهُمَا وَاللَّهِ
لِلْقَلْبِ فَاعْلَمِي
إِذَا زِدْتُ مِثْلَيْهَا فَصِرْتُ عَلَى شَهْرِ وَأَعْظَمُ مِنْ هَذَيْنِ
وَاللَّهِ أَنَّنِي
أَخَافُ بِأَنْ لَا نَلْتَقِي آخِرَ الدَّهْرِ سَأَبْكِيكِ لَا مُسْتَبْقِيًا
فَيْضَ عَبْرَةٍ
وَلَا طَالِبًا بِالصَّبْرِ عَاقِبَةَ الصَّبْرِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اجْتَازَ مَرْوَانُ وَهُوَ هَارِبٌ بِرَاهِبٍ، فَاطَّلَعَ
عَلَيْهِ الرَّاهِبُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَاهِبُ، هَلْ
عِنْدَكَ عِلْمٌ بِالزَّمَانِ ؟ قَالَ: نَعَمْ، عِنْدِي مِنْ تَلَوُّنِهِ
أَلْوَانٌ. قَالَ: هَلْ تَبْلُغُ الدُّنْيَا مِنَ الْإِنْسَانِ أَنْ تَجْعَلَهُ
مَمْلُوكًا ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: كَيْفَ ؟ قَالَ: تُحِبُّهَا ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَأَنْتَ مَمْلُوكٌ لَهَا. قَالَ: فَمَا السَّبِيلُ فِي الْعِتْقِ ؟ قَالَ:
بُغْضُهَا وَالتَّخَلِّي عَنْهَا. قَالَ: هَذَا مَا لَا يَكُونُ. قَالَ
الرَّاهِبُ: أَمَّا تَخَلِّيهَا مِنْكَ فَسَيَكُونُ، فَبَادِرْ بِالْهَرَبِ
مِنْهَا قَبْلَ أَنْ تُبَادِرَكَ. قَالَ: هَلْ تَعْرِفُنِي ؟ قَالَ: نَعَمْ،
أَنْتَ مِلْكُ الْعَرَبِ مَرْوَانُ تُقْتَلُ فِي بِلَادِ السُّودَانِ وَتُدْفَنُ
بِلَا أَكْفَانِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَوْتَ فِي طَلَبِكَ، لَدَلَلْتُكَ عَلَى
مَوْضِعِ هَرَبِكَ.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ: كَانَ يُقَالُ: يَقْتُلُ ع بْنُ ع بْنِ ع
بْنِ ع م بْنَ م بْنِ م. يَعْنُونَ يَقْتُلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ مَرْوَانَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَلَسَ مَرْوَانُ يَوْمًا وَقَدْ أُحِيطَ بِهِ، وَعَلَى
رَأْسِهِ خَادِمٌ لَهُ
قَائِمٌ، فَقَالَ مَرْوَانُ يَوْمًا لِبَعْضِ مَنْ
يُخَاطِبُهُ: أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ ؟ لَهْفِي عَلَى أَيْدٍ مَا ذُكِرَتْ،
وَنِعَمٍ مَا شُكِرَتْ، وَدَوْلَةٍ مَا نُصِرَتْ. فَقَالَ لَهُ الْخَادِمُ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنْ تَرَكَ الْقَلِيلَ حَتَّى يَكْثُرَ، وَالصَّغِيرَ
حَتَّى يَكْبُرَ، وَالْخَفِيَّ حَتَّى يَظْهَرَ، وَأَخَّرَ فِعْلَ الْيَوْمِ
لِغَدٍ، حَلَّ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا. فَقَالَ مَرْوَانُ: هَذَا الْقَوْلُ
أَشُدُّ عَلَيَّ مِنْ فَقْدِ الْخِلَافَةِ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَرْوَانَ قُتِلَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ
خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَقَدْ
جَاوَزَ السِّتِّينَ، وَبَلَغَ الثَّمَانِينَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا عَاشَ
أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ آخِرُ خُلَفَاءِ بَنِي
أُمَيَّةَ بِهِ انْقَضَتْ دَوْلَتُهُمْ.
ذِكْرُ مَا وَرَدَ فِي انْقِضَاءِ دَوْلَةِ بَنِي
أُمَيَّةَ وَابْتِدَاءِ دَوْلَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ مِنَ الْأَخْبَارِ
النَّبَوِيَّةِ وَغَيْرِهَا
قَالَ الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا بَلَغَ
بَنُو أَبِي الْعَاصِ أَرْبَعِينَ رَجُلًا اتَّخَذُوا دِينَ اللَّهِ دَغَلًا،
وَعِبَادَ اللَّهِ خَوَلًا، وَمَالَ اللَّهِ دُوَلًا. وَرَوَاهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ
عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ.
وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي قَبِيلٍ عَنِ ابْنِ
مُوهِبٍ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَرْوَانُ بْنُ
الْحَكَمِ، فَكَلَّمَهُ فِي حَاجَةٍ، فَقَالَ: اقْضِ حَاجَتِي فَإِنِّي لَأَبُو
عَشَرَةٍ، وَعَمُّ عَشَرَةٍ وَأَخُو عَشَرَةٍ. فَلَمَّا أَدْبَرَ مَرْوَانُ قَالَ
مُعَاوِيَةُ، لِابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ: أَمَا تَعْلَمُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا بَلَغَ
بَنُو الْحَكَمِ ثَلَاثِينَ رَجُلًا اتَّخَذُوا مَالَ اللَّهِ بَيْنَهُمْ دُوَلًا،
وَعِبَادَ اللَّهِ خَوَلًا، وَكِتَابَ اللَّهِ دَغَلًا، فَإِذَا بَلَغُوا سَبْعَةً
وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعَمِائَةٍ، كَانَ هَلَاكُهُمْ أَسْرَعَ مِنْ لَوْكِ تَمْرَةٍ
؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: وَذَكَرَ مَرْوَانُ حَاجَةً
لَهُ فَرَدَّ مَرْوَانُ عَبْدَ الْمَلِكِ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَكَلَّمَهُ فِيهَا،
فَلَمَّا أَدْبَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَالَ مُعَاوِيَةُ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ يَا
ابْنَ عَبَّاسٍ، أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذَكَرَ هَذَا فَقَالَ: " أَبُو الْجَبَابِرَةِ الْأَرْبَعَةِ "
؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِىُّ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ،
ثَنَا يُوسُفُ بْنُ مَازِنٍ الرَّاسِبِيُّ قَالَ:قَامَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ
بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَمَا بَايَعَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ
الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ الْحَسَنُ: لَا تُؤَنِّبْنِي رَحِمَكَ اللَّهُ، فَإِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى بَنِي أُمَيَّةَ
يَخْطُبُونَ عَلَى مِنْبَرِهِ رَجُلًا رَجُلًا، فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ:
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [ الْكَوْثَرِ: 1 ]. وَهُوَ نَهْرٌ فِي
الْجَنَّةِ، وَنَزَلَتْ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا
أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ
[ الْقَدْرِ: 1 - 3 ] يَمْلِكُهُ بَنُو أُمَيَّةَ. قَالَ: فَحَسَبْنَا ذَلِكَ، فَإِذَا هُوَ كَمَا قَالَ، لَا يَزِيدُ يَوْمًا وَلَا يَنْقُصُ. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَثَّقَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ وَابْنُ مَهْدِيٍّ. قَالَ: وَشَيْخُهُ يُوسُفُ بْنُ سَعْدٍ وَيُقَالُ: يُوسُفُ بْنُ مَازِنٍ. رَجُلٌ مَجْهُولٌ، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرِكِهِ " مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ الْحَدَّانِيِّ، وَقَدْ تَكَلَّمْتُ عَلَى نَكَارَةِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي " التَّفْسِيرِ " بِكَلَامٍ مَبْسُوطٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ أَنْ يَكُونَ دَوْلَةُ بَنِي أُمَيَّةَ أَلْفَ شَهْرٍ، إِذَا أُسْقِطَ مِنْهَا أَيَّامُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بُويِعَ لَهُ مُسْتَقِلًّا بِالْمُلْكِ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ، وَهِيَ عَامُ الْجَمَاعَةِ حِينَ سَلَّمَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَمْرَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ قَتْلِ عَلِيٍّ ثُمَّ زَالَتِ الْخِلَافَةُ عَنْ بَنِي أُمَيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَذَلِكَ ثِنْتَانِ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَإِذَا أُسْقِطَ مِنْهَا تِسْعُ سِنِينَ بَقِيَ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَهِيَ مُقَارِبَةٌ لِمَا وَرَدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَذَا، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ مُطَوَّلًا فِي " التَّفْسِيرِ "، وَتَقَدَّمُ فِي الدَّلَائِلِ أَيْضًا تَقْرِيرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: رَأَيْتُ بَنِي أُمَيَّةَ يَصْعَدُونَ مِنْبَرِي، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ،
فَأُنْزِلَتْ: " إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ". فِيهِ
ضَعْفٌ وَإِرْسَالٌ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، ثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا
الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [ الْإِسْرَاءِ: 60 ] قَالَ: رَأَى
نَاسًا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى الْمَنَابِرِ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ:
إِنَّمَا هِيَ دُنْيَا يُعْطَوْنَهَا. فَسُرِّيَ عَنْهُ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فُلَانًا، وَهُوَ بَعْضُ بَنِي
أُمَيَّةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ
إِلَى حِينٍ [ الْأَنْبِيَاءِ: 111 ] يَقُولُ: هَذَا الْمُلْكُ فِتْنَةٌ لَكُمْ
وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُ أَبَا الْجَوْزَاءِ يَقُولُ: وَاللَّهِ
لَيُغَيِّرَنَّ اللَّهُ مُلْكَ
بَنِي أُمَيَّةَ كَمَا غَيَّرَ مُلْكَ مَنْ كَانَ
قَبْلَهُمْ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا
بَيْنَ النَّاسِ [ آلِ عِمْرَانَ: 140 ] فِيهِ ضَعْفٌ وَإِرْسَالٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ، ثَنَا عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ سَيْفٍ،
مَوْلًى لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ
وَهُوَ يَقُولُ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَلِأَبِي بَكْرِ بْنِ
سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ - وَذَكَرُوا بَنِي أُمَيَّةَ - فَقَالَ: لَا يَكُونُ
هَلَاكُهُمْ إِلَّا بَيْنَهُمْ. قَالُوا: كَيْفَ ؟ قَالَ: يَهْلَكُ خُلَفَاؤُهُمْ،
وَيَبْقَى شِرَارُهُمْ، فَيَتَنَافَسُونَهَا، ثُمَّ يَكْثُرُ النَّاسُ عَلَيْهِمْ
فَيُهْلِكُونَهُمْ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: أَنْبَأَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْرَقِيُّ،
ثَنَا الزِّنْجِيُّ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ بَنِي الْحَكَمِ - أَوْ بَنِي أَبِي الْعَاصِ -
يَنْزُونَ عَلَى مِنْبَرِي كَمَا تَنْزُو الْقِرَدَةُ. قَالَ: فَمَا رُئِيَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا حَتَّى
تُوُفِّيَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ:
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو حَمَّادِ
بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ الْبُنَانِيِّ، عَنْ
أَبِي الْحَسَنِ، هُوَ الْحِمْصِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
مُرَّةَ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، قَالَ:جَاءَ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ
يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَفَ
كَلَامَهُ، فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ، حَيَّةٌ أَوْ وَلَدُ حَيَّةٍ، عَلَيْهِ
لَعْنَةُ اللَّهِ وَعَلَى مَنْ يَخْرُجُ مَنْ صُلْبِهِ إِلَّا الْمُؤْمِنِينَ،
وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، يُشَرَّفُونَ فِي الدُّنْيَا وَيَوْضُعُونَ فِي الْآخِرَةِ،
ذَوُو مَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ، يُعَظَّمُونَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا لَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: أَنْبَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَ مُحَمَّدُ بْنُ
الْمُظَفَّرِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَ أَبُو الْقَاسِمِ عَامِرُ بْنُ خُرَيْمِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ الدِّمَشْقِيُّ، أَنْبَأَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ هِشَامِ بْنِ مَلَاسٍ، ثَنَا أَبُو النَّضِرِ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
يَزِيدَ مَوْلَى أَمِّ الْحِكَمِ بِنْتِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أُخْتِ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو
الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيُّ، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمًا وَاضِعًا رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِ أُمِّ
حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ فَنَحَبَ ثُمَّ تَبَسَّمَ، فَقَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ نَحَبْتَ ثُمَّ تَبَسَّمْتَ. فَقَالَ: رَأَيْتُ
بَنِي مَرْوَانَ يَتَعَاوُرُونَ عَلَى مِنْبَرِي، فَسَاءَنِي ذَلِكَ، ثُمَّ
رَأَيْتُ بَنِي الْعَبَّاسِ يَتَعَاوُرُونَ عَلَى مِنْبَرِي، فَسَرَّنِي ذَلِكَ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ
الْعَبَّاسِ، ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ
مُسْلِمٍ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الْوَلِيدِ
بْنِ هِشَامٍ الْمَعِيطِيِّ، عَنْ أَبَانَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ
أَبِي مَعِيطٍ قَالَ: قَدِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَأَنَا حَاضِرٌ،
فَأَجَازَهُ فَأَحْسَنَ جَائِزَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ، هَلْ
تَكُونُ لَكُمْ دَوْلَةٌ ؟ فَقَالَ: أَعَفِنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَقَالَ: لَتُخْبِرَنِّي. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَنْ أَنْصَارُكُمْ ؟ قَالَ:
أَهْلُ خُرَاسَانَ وَلِبَنِي أُمَيَّةَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ نَطَحَاتٍ.
وَقَالَ الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، سَمِعْتُ ابْنَ
عَبَّاسٍ يَقُولُ: يَكُونُ مِنَّا ثَلَاثَةٌ أَهْلَ الْبَيْتِ: السَّفَّاحُ،
وَالْمَنْصُورُ، وَالْمَهْدِيُّ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.
وَرَوَاهُ الْأَعْمَشُ، عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: كَمَا افْتَتَحَ اللَّهُ بِأَوَّلِنَا فَأَرْجُو أَنْ يَخْتِمَهُ
بِنَا. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَيْهِ، وَكَذَا وَقَعَ وَيَقَعُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ
عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطِيَّةَ،
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي عِنْدَ انْقِطَاعٍ مِنَ الزَّمَانِ
وَظُهُورٍ مِنَ الْفِتَنِ، يُقَالُ لَهُ: السَّفَّاحُ. يُعْطِي الْمَالَ حَثْيًا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ،
عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ
أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:يَقْتَتِلُ عِنْدَ كَنْزِكُمْ هَذِهِ
ثَلَاثَةٌ، كُلُّهُمْ وَلَدُ خَلِيفَةٍ، لَا تَصِيرُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ،
ثُمَّ تُقْبِلُ الرَّايَاتُ السُّودُ مِنْ خُرَاسَانَ، فَيَقْتُلُونَكُمْ
مَقْتَلَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا - ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا - فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ
فَأْتُوهُ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ، فَإِنَّهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ
الْمَهْدِيُّ. وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ ثَوْبَانَ فَوَقَفَهُ، وَهُوَ أَشْبَهُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ غَيْلَانَ، وَقُتَيْبَةُ
بْنُ سَعِيدٍ قَالَا: ثَنَا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ
يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ قَبِيصَةَ هُوَ ابْنُ ذُؤَيْبٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ:يَخْرُجُ مِنْ خُرَاسَانَ رَايَاتٌ سُودٌ، لَا يَرُدُّهَا شَيْءٌ حَتَّى
تُنْصَبَ بِإِيلِيَاءَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ
حَدِيثِ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ الْمِصْرِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ
رُوِيَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَهُوَ أَشْبَهُ.
ثُمَّ قَالَ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا مُحَدِّثٌ، عَنْ
أَبِي الْمُغِيرَةِ عَبْدِ الْقُدُّوسِ عَنِ ابْنِ عَيَّاشٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ
عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: تَظْهَرُ رَايَاتٌ سُودٌ لِبَنِي الْعَبَّاسِ
حَتَّى يَنْزِلُوا الشَّامَ، وَيَقْتُلُ اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ كُلَّ جَبَّارٍ
وَعَدُوٍّ لَهُمْ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ عَنِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ
عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْعَامِرِيِّ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ: فِيكُمُ
النُّبُوَّةُ وَفِيكُمُ الْمَمْلَكَةُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: عَنِ ابْنِ مَعِينٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ
أَبِي قُرَّةَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي قَبِيلٍ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ
مَوْلَى الْعَبَّاسِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ يَقُولُكُنْتُ: عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: انْظُرْ هَلْ
تَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ شَيْءٍ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: مَا تَرَى ؟ قُلْتُ:
الثُّرَيَّا. قَالَ: أَمَّا إِنَّهُ سَيَمْلِكُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِعَدَدِهَا
مِنْ صُلْبِكَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: عُبَيْدُ بْنُ أَبِي قُرَّةَ لَا يُتَابَعُ
عَلَى حَدِيثِهِ.
وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ
تَمِيمٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مَهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَرْتُ
بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ جِبْرِيلُ وَأَنَا
أَظُنُّهُ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ فَقَالَ جِبْرِيلُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لَوَسِخُ الثِّيَابِ، وَسَيَلْبِسُ وَلَدُهُ
مِنْ بَعْدِهِ السَّوَادَ. وَهَذَا مُنْكَرٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ
شِعَارَ بَنِي الْعَبَّاسِ كَانَ السَّوَادَ، وَأَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ دُخُولِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ
وَعَلَى رَأْسِهِ
عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، فَتَيَمَّنُوا بِذَلِكَ، وَجَعَلُوهُ
شِعَارَهُمْ فِي الْجُمَعِ وَالْخُطَبِ وَالْأَعْيَادِ وَالْمَحَافِلِ، وَكَذَلِكَ
كَانَ جُنْدُهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَحَدِهِمْ شَيْءٌ مِنَ
السَّوَادِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَلْبَسُهُ الْمُلُوكُ لِلْأُمَرَاءِ حِينَ
يَخْلَعُ عَلَيْهِمْ بِالْإِمْرَةِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَلْبَسَ شَيْئًا مِنَ
السَّوَادِ وَهُوَ الشَّرْبُوشُ، وَكَذَلِكَ دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ
يَوْمَ دَخَلَ دِمَشْقَ وَهُوَ لَابِسٌ السَّوَادَ، فَجَعَلَ النِّسَاءَ
وَالصِّبْيَانَ يَعْجَبُونَ مِنْ لِبَاسِهِ، وَكَانَ دُخُولُهُ مِنْ بَابِ
كَيْسَانَ، وَقَدْ خَطَبَ بِالنَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَصَلَّى بِهِمْ
وَعَلَيْهِ السَّوَادُ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ بَعْضِ الْخُرَاسَانِيِّينَ قَالَ:
لَمَّا خَطَبَ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ بِدِمَشْقَ وَتَقَدَّمَ
بِالنَّاسِ فَصَلَّى ; صَلَّى رَجُلٌ إِلَى جَانِبِي، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ،
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ،
وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ. ثُمَّ قَالَ، وَنَظَرَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ:
مَا أَقْبَحَ وَجْهَكَ وَأَشْنَعَ سَوَادَكَ ! وَمَا زَالَ السَّوَادُ شِعَارَهُمْ
إِلَى يَوْمِكَ هَذَا، كَمَا يَلْبَسُهُ الْخُطَبَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
ذِكْرُ اسْتِقْلَالِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ الْمُلَقَّبِ بِالسَّفَّاحِ، وَمَا اعْتَمَدَهُ
فِي أَيَّامِهِ مِنَ السِّيرَةِ الْحَسَنَةِ وَالْعَدَالَةِ التَّامَّةِ.
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ أَوَّلَ مَا بُويِعَ بِهَا
بِالْكُوفَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّانِيَ عَشَرَ
مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ - وَقِيلَ: الْأَوَّلُ - مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، ثُمَّ جَرَّدَ الْجُيُوشَ
نَحْوَ مَرْوَانَ الْحِمَارِ فَطَرَدُوهُ مِنْ مَمَالِكِهِ وَأَجْلَوْهُ عَنْهَا،
وَمَا زَالُوا وَرَاءَهُ حَتَّى قَتَلُوهُ بِبُوصِيرَ مِنْ بِلَادِ الصَّعِيدِ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرَةِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ وَبَسْطُهُ،
وَحِينَئِذٍ اسْتَقَلَّ بِالْخِلَافَةِ السَّفَّاحُ، وَاسْتَقَرَّتْ يَدُهُ عَلَى
بِلَادِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، لَكِنْ لَمْ يَحْكُمْ عَلَى بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ وَلَا عَلَى
بِلَادِ الْمَغْرِبِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْضَ مَنْ دَخَلَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ
إِلَيْهَا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَقَدْ خَرَجَ عَلَى السَّفَّاحِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ طَوَائِفُ، فَمِنْهُمْ
أَهْلُ قِنَّسْرِينَ بَعْدَمَا بَايَعُوهُ عَلَى يَدَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَلِيٍّ وَأَقَرَّ عَلَيْهِمْ أَمِيرُهُمْ، وَهُوَ أَبُو الْوَرْدِ مَجْزَأَةُ
بْنُ الْكَوْثَرِ بْنِ زُفَرَ بْنِ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ وَكَانَ مِنْ
أَصْحَابِ مَرْوَانَ وَأُمَرَائِهِ، فَخَلَعَ السَّفَّاحَ وَلَبِسَ الْبَيَاضَ،
وَحَمَلَ أَهْلَ الْبَلَدِ عَلَى ذَلِكَ فَوَافَقُوهُ، وَكَانَ السَّفَّاحُ
يَوْمَئِذٍ بِالْحِيرَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ مَشْغُولٌ بِالْبَلْقَاءِ
يُقَاتِلُ بِهَا حَبِيبَ بْنَ مُرَّةَ الْمُرِّيَّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ
الْبَلْقَاءِ وَالْبَثَنِيَّةِ وَحَوْرَانَ عَلَى خَلْعِ السَّفَّاحِ وَبَيَّضَ،
فَلَمَّا بَلَغَهُ عَنْ أَهْلِ قِنَّسْرِينَ مَا فَعَلُوا صَالَحَ حَبِيبَ بْنَ
مُرَّةَ وَرَكِبَ نَحْوَ قِنَّسْرِينَ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِدِمَشْقَ - وَكَانَ
بِهَا أَهْلُهُ وَثِقَلُهُ - اسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا أَبَا غَانِمٍ عَبْدَ
الْحَمِيدِ بْنَ رِبْعِيٍّ الطَّائِيَّ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَلَمَّا جَاوَزَ
الْبَلَدَ، وَانْتَهَى إِلَى حِمْصَ نَهَضَ أَهْلُ دِمَشْقَ مَعَ رَجُلٍ يُقَالُ
لَهُ: عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ سُرَاقَةَ. فَخَلَعُوا
السَّفَّاحَ وَبَيَّضُوا، وَقَاتَلُوا أَبَا غَانِمٍ فَهَزَمُوهُ، وَقَتَلُوا جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَانْتَهَبُوا ثِقَلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ وَحَوَاصِلِهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِأَهْلِهِ، وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ قِنَّسْرِينَ تَرَاسَلُوا مَعَ أَهْلِ حِمْصَ وَتَدْمُرَ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيِّ، وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَبَايَعُوهُ عَلَيْهِمْ بِالْخِلَافَةِ، وَقَامَ مَعَهُ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَقَصَدَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ فَالْتَقَوْا بِمَرْجِ الْأَخْرَمِ، فَقَدَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ أَخَاهُ عَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ عَلِيٍّ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنَ الْفُرْسَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاقْتَتَلُوا مَعَ مُقَدِّمَةِ السُّفْيَانِيِّ، وَعَلَيْهَا أَبُو الْوَرْدِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَهَزَمُوا عَبْدَ الصَّمَدِ، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أُلُوفٌ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ وَمَعَهُ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ بِمَنْ مَعَهُ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَجَعَلَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ يَفِرُّونَ وَهُوَ ثَابِتٌ هُوَ وَحُمَيْدٌ، وَمَا زَالَ حَتَّى هُزِمَ أَصْحَابُ أَبِي الْوَرْدِ، وَثَبَتَ أَبُو الْوَرْدِ فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَقَوْمِهِ، فَقُتِلُوا جَمِيعًا، وَهَرَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيُّ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى لَحِقُوا بِتَدْمُرَ وَآمَنَ عَبْدُ اللَّهِ أَهْلَ قِنَّسْرِينَ وَسَوَّدُوا وَبَايَعُوا وَرَجَعُوا إِلَى الطَّاعَةِ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى أَهْلِ دِمَشْقَ، وَقَدْ بَلَغَهُ مَا صَنَعُوا، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا تَفَرَّقُوا عَنْهَا وَهَرَبُوا مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ قِتَالٌ، فَأَمَّنَهُمْ وَدَخَلُوا فِي الطَّاعَةِ وَسَوَّدُوا ; مُوَافَقَةً لِلْخَلِيفَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ شِعَارُ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَأَمَّا أَبُو مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيُّ، فَإِنَّهُ مَا زَالَ مُتَغَيِّبًا مُشَتَّتًا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ حَتَّى لَحِقَ بِأَرْضِ الْحِجَازِ فَقَاتَلَهُ نَائِبُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ فِي أَيَّامِهِ، فَقَتَلَهُ وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ وَبِابْنَيْنِ لَهُ أَخَذَهُمَا أَسِيرَيْنِ فَأَطْلَقَهُمَا أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ، وَخَلَّى
سَبِيلَهُمَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ وَقْعَةَ أَبِي
مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيِّ كَانَتْ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ خَلَعَ السَّفَّاحَ أَيْضًا أَهْلُ الْجَزِيرَةِ ; حِينَ بَلَغَهُمْ
أَنَّ أَهْلَ قِنَّسْرِينَ خَلَعُوا، وَافَقُوهُمْ وَبَيَّضُوا، وَرَكِبُوا إِلَى
نَائِبِ حَرَّانَ مِنْ جِهَةِ السَّفَّاحِ - وَهُوَ مُوسَى بْنُ كَعْبٍ - وَكَانَ
فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ قَدِ اعْتَصَمَ بِالْبَلَدِ، فَحَاصَرُوهُ قَرِيبًا مِنْ
شَهْرَيْنِ، ثُمَّ بَعَثَ السَّفَّاحُ أَخَاهُ أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ فِيمَنْ
كَانَ بِوَاسِطَ مُحَاصِرِي ابْنِ هُبَيْرَةَ فَمَرَّ فِي مِسِيرِهِ إِلَى
حَرَّانَ بِقَرْقِيسِيَا وَقَدْ بَيَّضُوا، فَغَلَّقُوا أَبْوَابَهَا دُونَهُ،
ثُمَّ مَرَّ بِالرَّقَّةِ وَعَلَيْهَا بِكَّارُ بْنُ مُسْلِمٍ وَهُمْ كَذَلِكَ،
ثُمَّ جَاءَ حَرَّانَ وَعَلَيْهَا إِسْحَاقُ بْنُ مُسْلِمٍ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ
أَهْلِ الْجَزِيرَةِ يُحَاصِرُونَهَا، فَرَحَلَ إِسْحَاقُ عَنْهَا إِلَى الرُّهَا،
وَخَرَجَ مُوسَى بْنُ كَعْبٍ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ جُنْدِ حَرَّانَ، فَتَلَقَّوْا
أَبَا جَعْفَرٍ وَدَخَلُوا فِي جَيْشِهِ، وَقَدِمَ بَكَّارُ بْنُ مُسْلِمٍ عَلَى
أَخِيهِ إِسْحَاقَ بْنِ مُسْلِمٍبِالرُّهَا فَوَجَّهَهُ إِلَى جَمَاعَةِ رَبِيعَةَ
بَدَارَا وَمَارِدِينَ، وَرَئِيسُهُمْ حَرُورِيٌّ يُقَالُ لَهُ: بَرِيكَةُ.
فَصَارُوا حِزْبًا وَاحِدًا، فَقَصَدَ إِلَيْهِمْ أَبُو جَعْفَرٍ فَقَاتَلَهُمْ
قِتَالًا شَدِيدًا، فَقَتَلَ بَرِيكَةَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَهَرَبَ بَكَّارٌ
إِلَى أَخِيهِ بِالرُّهَا فَاسْتَخْلَفَهُ بِهَا، وَمَضَى فِي عُظْمِ الْعَسْكَرِ
إِلَى سُمَيْسَاطَ، فَخَنْدَقَ عَلَى عَسْكَرِهِ، وَأَقْبَلَ أَبُو جَعْفَرٍ
فَحَاصَرَ بَكَّارًا بِالرُّهَا وَجَرَتْ لَهُ مَعَهُ وَقَعَاتٌ، وَكَتَبَ
السَّفَّاحُ إِلَى عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ أَنْ يَسِيرَ إِلَى
سُمَيْسَاطَ، وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَى إِسْحَاقَ بْنِ مُسْلِمٍ سِتُّونَ أَلْفًا
مِنْ أَهْلِ
الْجَزِيرَةِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَلِيٍّ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ فَكَاتَبَهُمْ
إِسْحَاقُ وَطَلَبَ مِنْهُمُ الْأَمَانَ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ عَلَى إِذَنْ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ السَّفَّاحِ، وَوَلَّى السَّفَّاحُ أَخَاهُ أَبَا جَعْفَرٍ
الْجَزِيرَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ وَإِرْمِينِيَّةَ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا حَتَّى
وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ أَخِيهِ. وَيُقَالُ: إِنَّ إِسْحَاقَ بْنَ مُسْلِمٍ
الْعَقِيلِيَّ إِنَّمَا طَلَبَ الْأَمَانَ لَمَّا تَحَقَّقَ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ
مُحَمَّدٍ قُتِلَ، وَذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ وَهُوَ مُحَاصَرٌ،
وَقَدْ كَانَ صَاحِبًا لِأَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ فَآمَنَهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ذَهَبَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ عَنْ أَمْرِ أَخِيهِ
السَّفَّاحِ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَهُوَ أَمِيرُهَا، لِيَسْتَطْلِعَ
رَأْيَهُ فِي قَتْلِ أَبِي سَلَمَةَ حَفْصِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَزِيرِ، وَكَانَ
سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ السَّفَّاحَ سَمَرَ لَيْلَةً مَعَ أَهْلِ بَيْتِهِ،
فَتَذَاكَرُوا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِي سَلَمَةَ حِينَ كَانَ أَرَادَ أَنْ
يَصْرِفَ الْخِلَافَةَ عَنْ بَنِي الْعَبَّاسِ، فَسَأَلَ سَائِلٌ: هَلْ كَانَ
ذَلِكَ عَنْ مُمَالَأَةِ أَبِي مُسْلِمٍ لَهُ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ فَسَكَتَ
الْقَوْمُ، فَقَالَ السَّفَّاحُ: لَئِنْ كَانَ هَذَا عَنْ رَأْيِهِ إِنَّا
لَبِعَرْضِ بَلَاءٍ، إِلَّا أَنْ يَدْفَعَهُ اللَّهُ عَنَّا. قَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ: فَقَالَ لِي أَخِي: مَا تَرَى ؟ فَقُلْتُ: الرَّأْيُ رَأْيُكَ. فَقَالَ:
لَيْسَ أَحَدٌ أَخَصُّ بِأَبِي مُسْلِمٍ مِنْكَ، فَاذْهَبْ إِلَيْهِ فَاعْلَمْ
عِلْمَهُ، فَإِنْ كَانَ عَنْ رَأْيِهِ احْتَلْنَا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ
رَأْيِهِ طَابَتْ أَنْفُسُنَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ
قَاصِدًا عَلَى وَجَلٍ، فَلَمَّا وَصَلْتُ إِلَى الرَّيِّ إِذَا كِتَابُ أَبِي
مُسْلِمٍ إِلَى نَائِبِهَا يَسْتَحِثُّنِي إِلَيْهِ فِي السَّيْرِ، فَازْدَدْتُ
وَجَلًا، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى نَيْسَابُورَ إِذَا كِتَابُهُ يَسْتَحِثُّنِي
أَيْضًا، وَقَالَ لِنَائِبِهَا: لَا تَدْعْهُ يُقِيمُ سَاعَةً وَاحِدَةً ; فَإِنَّ
أَرْضَكَ بِهَا خَوَارِجُ. فَانْشَرَحْتُ لِذَلِكَ، فَلَمَّا صِرْتُ مِنْ مَرْوَ
عَلَى فَرْسَخَيْنِ، أَتَى يَتَلَقَّانِي وَمَعَهُ النَّاسُ، فَلَمَّا وَاجَهَنِي
تَرَجَّلَ
وَجَاءَ فَقَبَّلَ يَدِي، فَأَمَرْتُهُ فَرَكِبَ، فَلَمَّا
دَخَلْتُ مَرْوَ نَزَلْتُ فِي دَارٍ، فَمَكَثَ ثَلَاثًا لَا يَسْأَلُنِي عَنْ
شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ سَأَلَنِي: مَا أَقْدَمَكَ ؟
فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: أَفْعَلَهَا أَبُو سَلَمَةَ ؟ ! أَنَا أَكْفِيكُمُوهُ.
فَدَعَا مَرَّارَ بْنَ أَنَسٍ الضَّبِّيَّ فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى الْكُوفَةِ
فَحَيْثُ لَقِيتَ أَبَا سَلَمَةَ فَاقْتُلْهُ، وَانْتَهِ فِي ذَلِكَ إِلَى رَأْيِ
الْإِمَامِ. فَقَدِمَ مَرَّارٌ الْكُوفَةَ الْهَاشِمِيَّةَ، وَكَانَ أَبُو
سَلَمَةَ يَسْمُرُ عِنْدَ السَّفَّاحِ، فَلَمَّا خَرَجَ قَتَلَهُ مَرَّارٌ وَشَاعَ
أَنَّ الْخَوَارِجَ قَتَلُوهُ، وَغُلِّقَتِ الْبَلَدُ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ
يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَخُو أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَدُفِنَ
بِالْهَاشِمِيَّةِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: وَزِيرُ آلِ مُحَمَّدٍ. وَيُقَالُ
لِأَبِي مُسْلِمٍ: أَمِيرُ آلِ مُحَمَّدٍ. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ الْوَزِيرَ وَزِيرَ آلِ مُحَمَّدِ أَوْدَى فَمَنْ يَشْنَاكَ كَانْ وَزِيرَا
وَيُقَالُ: إِنَّهُ إِنَّمَا سَارَ أَبُو جَعْفَرٍ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ بَعْدَ
مَقْتَلِ أَبِي سَلَمَةَ وَإِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ كَانَ مَعَهُ ثَلَاثُونَ رَجُلًا،
مِنْهُمُ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ الْفَضْلِ الْهَاشِمِيُّ
فِي جَمَاعَةٍ مِنَ السَّادَاتِ. وَلَمَّا رَجَعَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنْ خُرَاسَانَ
قَالَ لِأَخِيهِ السَّفَّاحِ: لَسْتَ بِخَلِيفَةٍ مَا دَامَ أَبُو مُسْلِمٍ حَيًّا
حَتَّى تَقْتُلَهُ. لَمَّا رَأَى مِنْ طَاعَةِ الْجَيْشِ وَالْأُمَرَاءِ لَهُ،
فَقَالَ لَهُ السَّفَّاحُ: اكْتُمْهَا. فَسَكَتَ.
وَلَمَّا رَجَعَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنْ خُرَاسَانَ بَعَثَهُ أَخُوهُ إِلَى حِصَارِ
ابْنِ هُبَيْرَةَ بِوَاسِطَ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِالْحَسَنِ بْنِ قَحْطَبَةَ
أَخَذَهَ مَعَهُ، فَلَمَّا أُحِيطَ بِابْنِ هُبَيْرَةَ كَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ لِيُبَايِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ، فَأَبْطَأَ
عَلَيْهِ جَوَابَهُ، فَمَالَ إِلَى مُصَالَحَةِ أَبِي جَعْفَرٍ فَاسْتَأْذَنَ
أَبُو جَعْفَرٍ أَخَاهُ السَّفَّاحَ فِي ذَلِكَ، فَأَذِنَ لَهُ فِي
الْمُصَالَحَةِ، فَكَتَبَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ كِتَابًا بِالصُّلْحِ، فَمَكَثَ ابْنُ هُبَيْرَةَ يُشَاوِرُ فِيهِ الْعُلَمَاءَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. ثُمَّ خَرَجَ يَزِيدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ فِي أَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْبُخَارِيَّةِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ سُرَادِقِ أَبِي جَعْفَرٍ هَمَّ أَنْ يَدْخُلَ بِفَرَسِهِ، فَقَالَ الْحَاجِبُ سَلَّامٌ: انْزِلْ أَبَا خَالِدٍ. فَنَزَلَ، وَكَانَ حَوْلَ السُّرَادِقِ عَشَرَةُ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ فَقَالَ: أَنَا وَمَنْ مَعِي ؟ قَالَ: لَا، بَلْ أَنْتَ وَحْدَكَ. فَدَخَلَ وَوُضِعَتْ لَهُ وِسَادَةٌ، فَجَلَسَ عَلَيْهَا، فَحَادَثَهُ أَبُو جَعْفَرٍ سَاعَةً، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَأَتْبَعَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بَصَرَهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَأْتِيهِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ وَثَلَاثِمِائَةِ رَاجِلٍ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ لِلْحَاجِبِ: مُرْهُ فَلْيَأْتِ فِي حَاشِيَتِهِ. فَكَانَ يَأْتِي فِي ثَلَاثِينَ نَفْسًا، فَقَالَ الْحَاجِبُ: كَأَنَّكَ تَأْتِي مُتَأَهِّبًا ؟ فَقَالَ: لَوْ أَمَرْتُمُونَا بِالْمَشْيِ لَمَشَيْنَا إِلَيْكُمْ. ثُمَّ كَانَ يَأْتِيهِ فِي ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ. وَقَدْ خَاطَبَ ابْنُ هُبَيْرَةَ يَوْمًا لِأَبِي جَعْفَرٍ فَقَالَ لَهُ فِي غُبُونِ كَلَامِهِ: يَا هَنَاهُ. أَوْ قَالَ: يَا أَيُّهَا الْمَرْءُ. ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَعْذَرَهُ. وَقَدْ كَانَ السَّفَّاحُ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ يَسْتَشِيرُهُ فِي مُصَالَحَةِ ابْنِ هُبَيْرَةَ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ السَّفَّاحُ لَا يَقْطَعُ رَأْيًا دُونَ مُرَاجَعَةِ أَبِي مُسْلِمٍ، فَلَمَّا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى يَدَيْ أَبِي جَعْفَرٍ لَمْ يُعْجِبِ السَّفَّاحُ ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ يَأْمُرُهُ بِقَتْلِهِ، فَرَاجَعَهُ أَبُو جَعْفَرٍ مِرَارًا لَا يُفِيدُ شَيْئًا، حَتَّى جَاءَ كِتَابُ السَّفَّاحِ إِلَيْهِ أَنِ اقْتُلْهُ لَا مَحَالَةَ، وَأَقْسَمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ طَائِفَةً فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ ابْنُهُ دَاوُدُ وَفِي حِجْرِهِ صَبِيٌّ لَهُ صَغِيرٌ، وَحَوْلُهُ مَوَالِيهِ وَحَاجِبُهُ، فَدَافَعَ عَنْهُ ابْنُهُ حَتَّى
قُتِلَ، وَقُتِلَ خَلْقٌ مِنْ مَوَالِيهِ، وَخَلَصُوا
إِلَيْهِ، فَأَلْقَى الصَّبِيَّ مِنْ حِجْرِهِ، وَخَرَّ سَاجِدًا، فَقُتِلَ وَهُوَ
سَاجِدٌ، وَاضْطَرَبَ النَّاسُ، فَنَادَى أَبُو جَعْفَرٍ فِي النَّاسِ
بِالْأَمَانِ إِلَّا الْحَكَمَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ بِشْرٍ، وَخَالِدَ بْنَ
سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيَّ، وَعُمَرَ بْنَ ذَرٍّ فَسَكَنَ النَّاسُ، ثُمَّ
اسْتُؤْمِنَ لِبَعْضِ هَؤُلَاءِ وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ أَبُو مُسْلِمٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ إِلَى
فَارِسَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عُمَّالَ أَبِي سَلَمَةَ فَيَضْرِبَ
أَعْنَاقَهُمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا وَلَّى السَّفَّاحُ أَخَاهُ يَحْيَى بْنَ مُحَمَّدٍ الْمَوْصِلَ
وَأَعْمَالَهَا، وَوَلَّى عَمَّهُ دَاوُدَ بْنَ عَلِيٍّ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ
وَالْيَمَنَ وَالْيَمَامَةَ، وَعَزَلَهُ عَنِ الْكُوفَةِ، وَوَلَّى مَكَانَهُ
عَلَيْهَا عِيسَى بْنَ مُوسَى، فَوَلَّى قَضَاءَهَا ابْنَ أَبِي لَيْلَى وَكَانَ
عَلَى نِيَابَةِ الْبَصْرَةِ سُفْيَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْمُهَلَّبِيُّ، وَعَلَى
قَضَائِهَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَعَلَى السِّنْدِ مَنْصُورُ بْنُ
جُمْهُورٍ، وَعَلَى فَارِسَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ، وَعَلَى إِرْمِينِيَّةَ
وَأَذْرَبِيجَانَ وَالْجَزِيرَةِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ، وَعَلَى الشَّامِ
وَأَعْمَالِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ عَمُّ السَّفَّاحِ، وَعَلَى مِصْرَ
أَبُو عَوْنٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَزِيدَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ وَأَعْمَالِهَا
أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، وَعَلَى دِيوَانِ الْخَرَاجِ خَالِدُ بْنُ
بَرْمَكَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ
الْأُمَوِيُّ، آخِرُ خُلَفَاءِ
بَنِي أُمَيَّةَ، قُتِلَ فِي الْعُشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، كَمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ.
وَوَزِيرُهُ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعْدٍ مَوْلَى بَنِي عَامِرِ
بْنِ لُؤَيٍّ الْكَاتِبُ الْبَلِيغُ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ، فَيُقَالُ:
فُتِحَتِ الرَّسَائِلُ بِعَبْدِ الْحَمِيدِ، وَخُتِمَتْ بِابْنِ الْعَمِيدِ.
وَكَانَ إِمَامًا فِي الْكِتَابَةِ وَجَمِيعِ فُنُونِهَا، وَهُوَ الْقُدْوَةُ
فِيهَا، وَلَهُ رَسَائِلُ فِي أَلْفِ وَرَقَةٍ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْأَنْبَارِ،
ثُمَّ سَكَنَ الشَّامَ، وَتَعَلَّمَ هَذَا الشَّأْنَ مَنْ سَالِمٍ مَوْلَى هِشَامِ
بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ وَزِيرُ الْمَهْدِيِّ
يَكْتُبُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَلَيْهِ تَخَرَّجَ، وَكَانَ ابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ
بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ مَاهِرًا فِي الْكِتَابَةِ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ أَوَّلًا
يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ، ثُمَّ تَقَلَّبَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ حَتَّى وَزَرَ
لِمَرْوَانَ الْجَعْدِيِّ آخِرِ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَأُخِذَ بَعْدَهُ
فَقَتَلَهُ السَّفَّاحُ وَمَثَّلَ بِهِ، وَكَانَ اللَّائِقُ بِمِثْلِهِ الْعَفْوَ
عَنْهُ.
وَمِنْ مُسْتَجَادِ كَلَامِهِ: الْعِلْمُ شَجَرَةٌ، ثَمَرَتُهَا الْأَلْفَاظُ،
وَالْفِكْرُ بَحْرٌ لُؤْلُؤُهُ الْحِكْمَةُ.
وَمِنْ كَلَامِهِ، وَرَأَى رَجُلًا يَكْتُبُ خَطًّا رَدِيئًا: أَطِلْ جَلْفَةَ
قَلَمِكَ وَأَسْمِنْهَا، وَحَرِّفْ قَطَّتَكَ وَأَيْمِنْهَا. قَالَ الرَّجُلُ:
فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَجَادَ خَطِّي.
وَسَأَلَهُ رَجُلٌ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا إِلَى
بَعْضِ الْأَكَابِرِ يُوصِيهِ بِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: حَقُّ مُوَصِّلِ كِتَابِي
إِلَيْكَ كَحَقِّهِ عَلَيَّ ; إِذْ رَآكَ مَوْضِعًا لِأَمَلِهِ، وَرَآنِي أَهْلًا
لِحَاجَتِهِ، وَقَدْ قَضَيْتُ حَاجَتَهُ، فَصَدِّقْ أَمَلَهُ.
وَكَانَ كَثِيرًا مَا يُنْشِدُ هَذَا الْبَيْتَ:
إِذَا جَرَحَ الْكُتَّابُ كَانَ دُوِيُّهُمْ قِسِيًّا وَأَقْلَامُ الدُّوِيِّ
لَهَا نَبْلًا
وَأَبُو سَلَمَةَ حَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَوَّلُ مَنْ وَزَرَ لِآلِ الْعَبَّاسِ،
قَتَلَهُ أَبُو مُسْلِمٍ عَنْ أَمْرِ السَّفَّاحِ بَعْدَ وِلَايَتِهِ بِأَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ السَّفَّاحِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَهِيَ لَيْلَةُ
الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَكَانَ
مَقْتَلُهُ فِي رَجَبٍ مِنْهَا.
وَكَانَ دَاهِيَةً فَاضِلًا حَسَنَ الْمُفَاكَهَةِ، وَكَانَ السَّفَّاحُ يَأْنَسُ
إِلَيْهِ وَيُحِبُّ مُسَامَرَتَهُ لِطِيبِ مُحَاضَرَتِهِ، وَلَكِنْ تَوَهَّمَ
مَيْلَهُ لِآلِ عَلِيٍّ فَدَسَّ عَلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ مَنْ قَتَلَهُ غِيلَةً،
كَمَا تَقَدَّمَ، فَأَنْشَدَ السَّفَّاحُ عِنْدَ ذَلِكَ:
إِلَى النَّارِ فَلْيَذْهَبْ وَمَنْ كَانَ مِثْلُهُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ فَاتَنَا
مِنْهُ نَأْسَفُ
، كَانَ يُقَالُ لَهُ: وَزِيرُ آلِ مُحَمَّدٍ. وَيُعْرَفُ بِالْخَلَّالِ ;
لِسُكْنَاهُ فِي دَرْبِ
الْخَلَّالِينَ بِالْكُوفَةِ وَجُلُوسِهِ إِلَيْهِمْ،
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ بِالْوَزِيرِ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ خَلِّكَانَ عَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ أَنَّ اشْتِقَاقَ الْوَزِيرِ
مِنَ الْوِزْرِ، وَهُوَ الْحِمْلُ، فَكَأَنَّ السُّلْطَانَ حَمَّلَهُ أَثْقَالًا
لِاسْتِنَادِهِ إِلَى رَأْيِهِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ
الْوَزَرِ وَهُوَ الْجَبَلُ، فَكَأَنَّ السُّلْطَانَ لَجَأَ إِلَى رَأْيِهِ كَمَا
يَلْجَأُ الْخَائِفُ إِلَى جَبَلٍ يَعْتَصِمُ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَةٍ
فِيهَا وَلَّى السَّفَّاحُ عَمَّهُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَلِيٍّ الْبَصْرَةَ
وَأَعْمَالَهَا، وَكُوَرَ دِجْلَةَ، وَالْبَحْرَيْنِ، وَعُمَانَ. وَوَجَّهَ
عَمَّهُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَلِيٍّ إِلَى كُوَرِ الْأَهْوَازِ.
وَفِيهَا قَتَلَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ مَنْ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي
أُمَيَّةَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ بِالْمَدِينَةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَاسْتَخْلَفَ ابْنَهُ مُوسَى عَلَى عَمَلِهِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ
أَرْضَ الْحِجَازِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَلَمَّا بَلَغَتِ السَّفَّاحَ وَفَاتُهُ
اسْتَنَابَ عَلَى الْحِجَازِ خَالَهُ زِيَادَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
الْمَدَانِ الْحَارِثِيَّ، وَوَلَّى الْيَمَنَ لِابْنِ خَالِهِ مُحَمَّدِ بْنِ
يَزِيدَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَدَانِ، وَجَعَلَ إِمْرَةَ
الشَّامِ لِعَمَّيْهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَصَالِحٍ ابْنَيْ عَلِيٍّ، وَقَرَّرَ أَبَا
عَوْنٍ عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ نَائِبًا عَلَيْهَا.
وَفِيهَا تَوَجَّهَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ فَقَاتَلَهُمْ
قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى فَتَحَهَا. وَفِيهَا خَرَجَ شَرِيكُ بْنُ شَيْخٍ
الْمَهْرِيُّ بِبُخَارَى عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ، وَقَالَ: مَا عَلَى هَذَا
بَايَعْنَا آلَ مُحَمَّدٍ عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ ! وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ
نَحْوٌ مَنْ ثَلَاثِينَ
أَلْفًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ زِيَادَ بْنَ
صَالِحٍ الْخُزَاعِيَّ فَقَاتَلَهُ فَقَتَلَهُ.
وَفِيهَا عَزَلَ السَّفَّاحُ أَخَاهُ يَحْيَى بْنَ مُحَمَّدٍ عَنِ الْمَوْصِلِ،
وَوَلَّى عَلَيْهَا عَمَّهُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَلِيٍّ.
وَفِيهَا وَلِيَ الصَّائِفَةَ مِنْ جِهَةِ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ سَعِيدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ فَغَزَا وَرَاءَ الدُّرُوبِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَالُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ زِيَادُ
بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَدَانِ الْحَارِثِيُّ. وَنُوَّابُ
الْبِلَادِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي الَّتِي قَبْلَهَا سِوَى مَنْ ذَكَرْنَا
أَنَّهُ عُزِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَةٍ
فِيهَا خَلَعَ بَسَّامُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَسَّامٍ الطَّاعَةَ، وَخَرَجَ
عَلَى السَّفَّاحِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ خَازِمَ بْنَ خُزَيْمَةَ فَقَاتَلَهُ
فَقَتَلَ عَامَّةَ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَبَاحَ عَسْكَرُهُ، وَرَجَعَ فَمَرَّ
بِمَلَأٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمَدَانِ أَخْوَالِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ،
فَسَأَلَهُمْ عَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ نُصْرَةٌ لِلْخَلِيفَةِ، فَلَمْ يَرُدُّوا
عَلَيْهِ، وَاسْتَهَانُوا بِهِ، فَأَمَرَ بِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ، وَكَانُوا
قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ رَجُلًا وَمِثْلُهُمْ مِنْ مَوَالِيهِمْ، فَاسْتَعْدَى
بَنُو عَبْدِ الْمَدَانِ عَلَى خَازِمِ بْنِ خُزَيْمَةَ إِلَى أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالُوا: قَتَلَ أَخْوَالَكَ بِلَا ذَنْبٍ. فَهَمَّ السَّفَّاحُ
بِقَتْلِهِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ بِأَنْ لَا يَقْتُلَهُ،
وَلَكِنْ لِيَبْعَثْهُ مَبْعَثًا صَعْبًا، فَإِنْ سَلِمَ فَذَلِكَ، وَإِنْ قُتِلَ
فَذَلِكَ الَّذِي أَرَدْتَ. فَبَعَثَهُ إِلَى عُمَانَ - وَكَانَ بِهَا طَائِفَةٌ
مِنَ الْخَوَارِجِ قَدْ تَمَرَّدُوا - وَجَهَّزَ مَعَهُ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ،
وَكَتَبَ إِلَى عَمِّهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ نَائِبِ الْبَصْرَةِ
بِحَمْلِهِمْ فِي السُّفُنِ إِلَى عُمَانَ فَفَعَلَ، فَقَاتَلَ الْخَوَارِجَ
فَكَسَرَهُمْ وَقَهَرَهُمْ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ، وَقَتَلَ
أَمِيرَ الْخَوَارِجِ الصُّفْرِيَّةِ وَهُوَ الْجُلُنْدَى وَقَتَلَ مِنْ
أَصْحَابِهِ وَأَنْصَارِهِ نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، وَبَعَثَ بِرُءُوسِهِمْ
إِلَى الْبَصْرَةِ، فَبُعِثَ بِهَا إِلَى الْخَلِيفَةِ. ثُمَّ بَعْدَ أَشْهُرٍ
كَتَبَ إِلَيْهِ السَّفَّاحُ أَنْ يَرْجِعَ، فَرَجَعَ سَالِمًا غَانِمًا
مَنْصُورًا.
وَفِيهَا غَزَا أَبُو مُسْلِمٍ بِلَادَ الصُّغْدِ، وَغَزَا
أَبُو دَاوُدَ أَحَدُ نُوَّابِ أَبِي مُسْلِمٍ بِلَادَ كَشٍّ، فَقَتَلَ خَلْقًا،
وَغَنِمَ مِنَ الْأَوَانِي الصِّينِيَّةِ الْمَنْقُوشَةِ بِالذَّهَبِ شَيْئًا
كَثِيرًا جِدًّا.
وَفِيهَا بَعَثَ الْخَلِيفَةُ السَّفَّاحُ مُوسَى بْنَ كَعْبٍ إِلَى مَنْصُورِ
بْنِ جُمْهُورٍ - وَهُوَ بِالْهِنْدِ - فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَالْتَقَاهُ
مُوسَى بْنُ كَعْبٍ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، فَهَزَمَهُ وَاسْتَبَاحَ عَسْكَرَهُ.
وَفِيهَا مَاتَ عَامِلُ الْيَمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ الْمَدَانِ فَاسْتَخْلَفَ السَّفَّاحُ عَلَيْهَا عَمَّهُ - وَهُوَ
خَالُ الْخَلِيفَةِ - زِيَادَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ. وَفِيهَا تَحَوَّلَ
السَّفَّاحُ مِنَ الْحِيرَةِ إِلَى الْأَنْبَارِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَائِبُ الْكُوفَةِ عِيسَى بْنُ مُوسَى. وَنُوَّابُ
الْأَقَالِيمِ هُمْ هُمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو هَارُونَ الْعَبْدِيُّ عُمَارَةُ بْنُ جُوَيْنٍ، وَيَزِيدُ بْنُ
يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ الدِّمَشْقِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَ زِيَادُ بْنُ صَالِحٍ مِنْ وَرَاءِ نَهْرِ بَلْخَ عَلَى أَبِي
مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ فَأَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ، فَبَدَّدَ شَمْلَهُمْ،
وَاسْتَأْصَلَ خَضْرَاءَهُمْ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ بِتِلْكَ النَّوَاحِي
مُعَظَّمًا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ نَائِبُ
الْبَصْرَةِ. وَالنُّوَّابُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ قَبْلَهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بُرْدُ بْنُ سِنَانٍ وَأَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَعَطَاءٌ
الْخُرَاسَانِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ خُرَاسَانَ عَلَى السَّفَّاحِ بِالْعِرَاقِ
وَذَلِكَ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ الْخَلِيفَةَ فِي الْقُدُومِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ
أَنْ يَقْدَمَ فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْجُنْدِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنِّي قَدْ
وَتَرْتُ النَّاسَ، وَإِنِّي أَخْشَى مِنْ قِلَّةِ الْخَمْسِمِائَةِ. فَكَتَبَ
إِلَيْهِ أَنِ اقْدَمْ فِي أَلْفٍ. فَقَدِمَ فِي ثَمَانِيَةِ آلَافٍ فَرَّقَهُمْ،
وَأَخَذَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالتُّحَفِ وَالْهَدَايَا شَيْئًا كَثِيرًا،
وَلَمَّا قَدِمَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِوَى أَلْفٍ مِنَ الْجُنْدِ، فَتَلْقَّاهُ
الْقُوَّادُ الْكُبَرَاءُ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى السَّفَّاحِ
أَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَاحْتَرَمَهُ وَأَنْزَلَهُ قَرِيبًا مِنْهُ، وَكَانَ
يَأْتِي إِلَى الْخِدْمَةِ كُلَّ يَوْمٍ، وَاسْتَأْذَنَ الْخَلِيفَةَ فِي
الْحَجِّ، فَأَذِنَ لَهُ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي كُنْتُ عَيَّنْتُ إِمْرَةَ
الْحَجِّ لِأَبِي جَعْفَرٍ لَأَمَّرْتُكَ. وَكَانَ مَا بَيْنَ أَبِي جَعْفَرٍ
وَأَبِي مُسْلِمٍ خَرَابًا، وَذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنَ الْجَفْوَةِ مِنْهُ حِينَ
قَدِمَ عَلَيْهِ نَيْسَابُورَ فِي الْبَيْعَةِ لِلسَّفَّاحِ وَلِلْمَنْصُورِ مِنْ
بَعْدِهِ، فَحَقَدَ عَلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَشَارَ عَلَى السَّفَّاحِ
بِقَتْلِهِ، وَحِينَ قَدِمَ حَرَّضَهُ عَلَى قَتْلِهِ أَيْضًا، فَقَالَ لَهُ
السَّفَّاحُ: قَدْ عَلِمْتَ بَلَاءَهُ مَعَنَا وَخِدْمَتَهُ لَنَا. فَقَالَ لَهُ
أَبُو جَعْفَرٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا ذَلِكَ بِدَوْلَتِنَا،
وَاللَّهِ لَوْ أَرْسَلْتَ سِنَّوْرًا لَسَمِعُوا لَهُ وَأَطَاعُوا، وَإِنَّكَ
إِنْ لَمْ تَتَغَدَّ بِهِ تَعَشَّى بِكَ هُوَ. فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ السَّبِيلُ
إِلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ: إِذَا دَخَلَ عَلَيْكَ فَحَادَثْتَهُ جِئْتُ أَنَا مِنْ
وَرَائِهِ فَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ. قَالَ: فَكَيْفَ بِمَنْ مَعَهُ ؟ قَالَ: هُمْ
أَذَلُّ وَأَقَلُّ. فَأَذِنَ لَهُ فِي قَتْلِهِ، فَلَمَّا
دَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى السَّفَّاحِ نَدِمَ عَلَى مَا
كَانَ أَذِنَ لِأَخِيهِ فِيهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْخَادِمُ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ
ذَاكَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَدْ نَدِمَ عَلَيْهِ، فَلَا تَفْعَلْهُ.
فَلَمَّا جَاءَهُ الْخَادِمُ وَجَدَهُ مُحْتَبِيًا بِالسَّيْفِ، مُتَهَيِّئًا
لِمَا يُرِيدُ مِنْ قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ فَلَمَّا نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ غَضِبَ
أَبُو جَعْفَرٍ غَضَبًا شَدِيدًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ عَنْ
وِلَايَةِ أَخِيهِ السَّفَّاحِ وَسَارَ مَعَهُ إِلَى الْحِجَازِ أَبُو مُسْلِمٍ
الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ وَإِذْنِهِ لَهُ فِي الْحَجِّ فِي
هَذَا الْعَامِ، فَلَمَّا رَجَعَا مِنَ الْحَجِّ فَكَانَا بِذَاتِ عِرْقٍ جَاءَ
الْخَبَرُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ - وَكَانَ يَسِيرُ قَبْلَ أَبِي مُسْلِمٍ
بِمَرْحَلَةٍ - بِمَوْتِ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ فَكَتَبَ إِلَى أَبِي
مُسْلِمٍ أَنْ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ، فَالْعَجَلَ الْعَجَلَ. فَلَمَّا اسْتَعْلَمَ
أَبُو مُسْلِمٍ الْخَبَرَ عَجَّلَ السَّيْرَ وَرَاءَهُ، فَلَحِقَهُ إِلَى
الْكُوفَةِ فَكَانَتْ بَيْعَةُ الْمَنْصُورِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ
وَتَفْصِيلُهُ قَرِيبًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ
وَذِكْرُ وَفَاتِهِ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ السَّفَّاحُ - وَيُقَالُ لَهُ: الْمُرْتَضَى. وَ: الْقَائِمُ
أَيْضًا - ابْنُ مُحَمَّدٍ الْإِمَامِ بْنِ عَلِيٍّ السَّجَّادِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْحَبْرِ بْنِ الْعَبَّاسِ ذِي الرَّأْيِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
شَيْبَةِ الْحَمْدِ بْنِ هَاشِمٍ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ، أَبُو
الْعَبَّاسِ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأُمُّهُ رَيْطَةُ - وَيُقَالُ:
رَائِطَةُ - بِنْتُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَدَانِ
بْنِ الدَّيَّانِ الْحَارِثِيِّ، كَانَ مَوْلِدُ السَّفَّاحِ بِالْحُمَيْمَةِ مِنْ
أَرْضِ الشَّرَاةِ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ بِالشَّامِ وَنَشَأَ بِهَا حَتَّى
طُلِبَ أَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ، فَقَتَلَهُ مَرْوَانُ الْحِمَارُ بِحَرَّانَ،
فَانْتَقَلُوا إِلَى الْكُوفَةِ، وَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَقْتَلِ
أَخِيهِ فِي حَيَاةِ مَرْوَانَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَيُقَالُ: فِي جُمَادَى سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ،
كَمَا تَقَدَّمَ.
وَتُوفِّيَ بِالْجُدَرِيِّ بِالْأَنْبَارِ يَوْمَ الْأَحَدِ الْحَادِي عَشَرَ -
وَقِيلَ: الثَّالِثَ عَشَرَ - مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَةٍ. وَكَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا - وَقِيلَ: ثِنْتَيْنِ. وَقِيلَ: إِحْدَى -
وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. قَالَهُ غَيْرُ
وَاحِدٍ. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعُ سِنِينَ وَتِسْعَةُ أَشْهُرٍ.
وَكَانَ أَبْيَضَ جَمِيلًا طَوِيلًا، أَقْنَى الْأَنْفِ، جَعْدَ الشَّعْرِ، حَسَنَ
اللِّحْيَةِ، حَسَنَ الْوَجْهِ، فَصِيحَ الْكَلَامِ، حَسَنَ الرَّأْيِ، جَيِّدَ
الْبَدِيهَةِ، دَخَلَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ وِلَايَتِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَمَعَهُ مُصْحَفٌ وَعِنْدَ السَّفَّاحِ وُجُوهُ
بَنِي هَاشِمٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَغَيْرِهِمْ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، أَعْطِنَا حَقَّنَا الَّذِي
جَعَلَهُ اللَّهُ لَنَا فِي هَذَا الْمُصْحَفِ. قَالَ:
فَأَشْفَقَ الْحَاضِرُونَ أَنْ يُعَجِّلَ السَّفَّاحُ بِشَيْءٍ أَوْ يَعْيَا
بِجَوَابِهِ، فَيَبْقَى ذَلِكَ سُبَّةً عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، فَأَقْبَلَ
السَّفَّاحُ عَلَيْهِ غَيْرَ مُغْضَبٍ وَلَا مُنْزَعِجٍ، فَقَالَ: إِنَّ جَدَّكَ عَلِيًّا
وَكَانَ خَيْرًا مِنِّي وَأَعْدَلَ، وَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ، فَأَعْطَى جَدَّيْكَ
الْحَسَنَ، وَالْحُسَيْنَ - وَكَانَا خَيْرًا مِنْكَ - شَيْئًا قَدْ
أَعْطَيْتُكَهُ وَزِدْتُكَ عَلَيْهِ، فَمَا كَانَ هَذَا جَزَائِي مِنْكَ. قَالَ:
فَمَا رَدَّ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ جَوَابًا، وَتَعَجَّبَ النَّاسُ
مِنْ سُرْعَةِ جَوَابِهِ وَحِدَّتِهِ وَجَوْدَتِهِ عَلَى الْبَدِيهَةِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ ذِكْرُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ ": حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: يَخْرُجُ عِنْدَ انْقِطَاعٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَظُهُورٍ مِنَ الْفِتَنِ
رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: السَّفَّاحُ. فَيَكُونُ إِعْطَاؤُهُ الْمَالَ حَثْيًا.
وَكَذَا رَوَاهُ زَائِدَةُ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَهَذَا
الْحَدِيثُ فِي إِسْنَادِهِ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ.
وَفِي كَوْنِ الْمُرَادِ بِهَذَا الْمَذْكُورِ السَّفَّاحَ نَظَرٌ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا، فِيمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ زَوَالِ دَوْلَةِ بَنِي
أُمَيَّةَ أَخْبَارًا وَآثَارًا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ هِشَامٍ
، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْمَخْزُومِيُّ، حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ عِيسَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - وَهُوَ وَالِدُ السَّفَّاحِ -
قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنَ
النَّصَارَى، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَنْ تَجِدُونَ
الْخَلِيفَةَ بَعْدَ سُلَيْمَانَ ؟ قَالَ لَهُ النَّصْرَانِيُّ: أَنْتَ. قَالَ:
فَأَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَيَّ، فَقَالَ: وَهِيَ فِي ثِيَابِكَ
يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ
ذَلِكَ جَعَلْتُ ذَلِكَ النَّصْرَانِيَّ فِي بَالِي، فَرَأَيْتُهُ يَوْمًا،
فَأَمَرْتُ غُلَامِي أَنْ يَحْبِسَهُ عَلَيَّ، وَذَهَبْتُ بِهِ إِلَى مَنْزِلِي،
فَسَأَلْتُهُ عَمَّا يَكُونُ بَعْدُ فِي خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ فَذَكَرَهُمْ
وَاحِدًا وَاحِدًا، وَتَجَاوَزَ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، قُلْتُ: ثُمَّ
مَنْ ؟ قَالَ: ثُمَّ ابْنُكَ ابْنُ الْحَارِثِيَّةِ. قَالَ: وَكَانَ إِذْ ذَاكَ
حَمْلًا.
وَوَفَدَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَبَادَرُوا إِلَى تَقْبِيلِ يَدِهِ،
وَتَرَكَ ذَلِكَ عِمْرَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ
الْعَدَوِيُّ وَإِنَّمَا حَيَّاهُ بِالْخِلَافَةِ، وَهَنَّأَهُ بِهَا فَقَطْ.
وَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ كَانَتْ تَزِيدُكَ رِفْعَةً
وَتَزِيدُنِي وَسِيلَةً إِلَيْكَ، مَا سَبَقَنِي إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ،
وَإِنِّي لَغَنِيٌّ عَمَّا لَا أَجْرَ فِيهِ. ثُمَّ جَلَسَ. قَالَ: فَوَاللَّهِ
مَا نَقَصَهُ ذَلِكَ مِنْ حَظِّ أَصْحَابِهِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا أَنَّ السَّفَّاحَ بَعَثَ رَجُلًا
يُنَادِي بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فِي عَسْكَرِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ
لَيْلًا، ثُمَّ رَجَعَ، وَهُمَا هَذَانِ:
يَا آلَ مَرْوَانَ إِنَّ اللَّهَ مُهْلِكُكُمْ وَمُبْدِلٌ
أَمْنَكُمْ خَوْفًا وَتَشْرِيدَا لَا عَمَّرَ اللَّهُ مِنْ أَنْسَالِكُمْ أَحَدًا
وَبَثَّكُمْ فِي بِلَادِ الْخَوْفِ تَطْرِيدَا
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ السَّفَّاحَ نَظَرَ يَوْمًا فِي
الْمِرْآةِ - وَكَانَ مِنْ أَجْمَلِ النَّاسِ وَجْهًا - فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا
أَقُولُ كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: أَنَا الْخَلِيفَةُ
الشَّابُّ. وَلَكِنِّي أَقُولُ: اللَّهُمَّ عَمِّرْنِي طَوِيلًا فِي طَاعَتِكَ
مُمَتَّعًا بِالْعَافِيَةِ. فَمَا اسْتَتَمَّ كَلَامَهُ حَتَّى سَمِعَ غُلَامًا
يَقُولُ لِآخَرَ: الْأَجَلُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ.
فَتَطَيَّرَ مِنْ كَلَامِهِ، وَقَالَ: حَسْبِيَ اللَّهُ، لَا قُوَّةَ إِلَّا
بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكُّلِي، وَبِهِ أَسْتَعِينُ. فَمَاتَ بَعْدَ شَهْرَيْنِ
وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ الْخُزَاعِيُّ أَنَّ
الرَّشِيدَ أَمَرَ ابْنَهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ
مَا يَرْوِيهِ عَنْ أَبِيهِ فِي قِصَّةِ السَّفَّاحِ، فَأَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ
عِيسَى أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى السَّفَّاحِ يَوْمَ عَرَفَةَ بُكْرَةً فَوَجَدَهُ
صَائِمًا، فَأَمَرَهُ أَنْ يُحَادِثَهُ فِي يَوْمِهِ هَذَا، ثُمَّ يَخْتِمُ ذَلِكَ
بِفِطْرِهِ عِنْدَهُ. قَالَ: فَحَادَثْتُهُ حَتَّى أَخَذَهُ النَّوْمُ، فَقُمْتُ
عَنْهُ، وَقُلْتُ: أُقِيلَ فِي مَنْزِلِي، ثُمَّ أَجِيءُ بَعْدَ ذَلِكَ.
فَذَهَبْتُ فَنِمْتُ قَلِيلًا ثُمَّ قُمْتُ، فَأَقْبَلْتُ إِلَى دَارِهِ، فَإِذَا
عَلَى بَابِهِ بَشِيرٌ مِنْ أَهْلِ السِّنْدِ بِبَيْعَتِهِمْ لِلْخَلِيفَةِ
وَتَسْلِيمِ الْأُمُورِ إِلَى نُوَّابِهِ. قَالَ: فَحَمِدْتُ اللَّهَ تَعَالَى
الَّذِي وَفَّقَنِي
لِأَنْ أَجِيئَهُ بِبِشَارَةٍ، ثُمَّ دَخَلْتُ الدَّارَ، فَإِذَا آخَرُ مَعَهُ الْبِشَارَةُ بِفَتْحِ إِفْرِيقِيَّةَ فَحَمِدْتُ اللَّهَ أَيْضًا، وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَبَشَّرْتُهُ بِذَلِكَ وَهُوَ يُسَرِّحُ لِحْيَتَهُ بَعْدَ الْوُضُوءِ، فَسَقَطَ الْمُشْطُ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! كُلُّ شَيْءٍ بَائِدٌ سِوَاهُ، نَعَيْتَ وَاللَّهِ نَفْسِي ; حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ الْإِمَامُ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيَّ فِي مَدِينَتِي هَذِهِ وَافِدَانِ ; وَافِدُ السِّنْدِ، وَالْآخَرُ وَافْدُ إِفْرِيقِيَّةَ بِسَمْعِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَبَيْعَتِهِمْ، فَلَا يَمْضِي بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ حَتَّى أَمُوتَ. قَالَ: وَقَدْ أَتَانِي الْوَافِدَانِ، فَأَعْظَمَ اللَّهُ أَجَرَكَ يَا عَمِّ فِي ابْنِ أَخِيكَ. فَقُلْتُ: كَلَّا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: بَلَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَئِنْ كَانَتِ الدُّنْيَا حَبِيبَةً إِلَيَّ، فَصِحَّةُ الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهَا، وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ. ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، وَأَمَرَنِي بِالْجُلُوسِ، فَلَمَّا جَاءَ الْمُؤَذِّنُ يُعْلِمُهُ بِوَقْتِ الظُّهْرِ خَرَجَ الْخَادِمُ يَأْمُرُنِي أَنْ أُصَلِّيَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، كُلُّ ذَلِكَ يَخْرُجُ الْخَادِمُ فَيَأْمُرُنِي أَنْ أُصَلِّيَ عَنْهُ، وَبِتُّ هُنَاكَ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ السَّحَرِ خَرَجَ الْخَادِمُ بِكِتَابٍ مَعَهُ يَأْمُرُنِي أَنْ أُصَلِّيَ عَنْهُ الْعِيدَ، ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى دَارِهِ، وَفِيهِ يَقُولُ: يَا عَمِّ، إِذَا مِتُّ فَلَا تُعْلِمِ النَّاسَ بِمَوْتِي حَتَّى تَقْرَأَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْكِتَابَ فَيُبَايِعُوا لِمَنْ فِيهِ. قَالَ: فَصَلَّيْتُ بِالنَّاسِ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ مِمَّا أُنْكِرُهُ، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْهِ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ، فَإِذَا هُوَ عَلَى حَالِهِ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَتْ فِي وَجْهِهِ حَبَّتَانِ صَغِيرَتَانِ، ثُمَّ كَثُرَتَا، ثُمَّ صَارَ فِي وَجْهِهِ حَبٌّ صِغَارٌ بِيضٌ - يُقَالُ: إِنَّهُ جُدَرِيٌّ - ثُمَّ بَكَّرْتُ
إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ فَإِذَا هُوَ قَدْ هَجَرَ وَذَهَبَتْ عَنْهُ مَعْرِفَتِي
وَمَعْرِفَةُ غَيْرِي، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ بِالْعَشِيِّ، فَإِذَا هُوَ قَدِ
انْتَفَخَ حَتَّى صَارَ مِثْلَ الْزِّقِّ، وَتُوُفِّيَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ
مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَسَجَّيْتُهُ كَمَا أَمَرَنِي، وَخَرَجْتُ إِلَى
النَّاسِ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ، فَإِذَا فِيهِ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَى الرَّسُولِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَجَمَاعَةِ
الْمُسْلِمِينَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ قَلَّدَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ الْخِلَافَةَ عَلَيْكُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ أَخَاهُ، فَاسْمَعُوا
لَهُ وَأَطِيعُوا، وَقَدْ قَلَّدَ الْخِلَافَةَ مِنْ بَعْدِ عَبْدِ اللَّهِ عِيسَى
بْنَ مُوسَى إِنْ كَانَ. قَالَ: فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كَانَ.
قِيلَ: إِنْ كَانَ أَهْلًا لَهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنْ كَانَ حَيًّا. وَهَذَا
الْقَوْلُ الثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ. ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ وَابْنُ عَسَاكِرَ
مُطَوَّلًا، وَهَذَا مُلَخَّصٌ مِنْهُ، وَفِيهِ ذِكْرُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ،
وَهُوَ مُنْكَرٌ جِدًّا.
وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الطَّبِيبَ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَخَذَ
بِيَدِهِ، فَأَنْشَأَ السَّفَّاحُ يَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ:
انْظُرْ إِلَى ضَعْفِ الْحَرَا كِ وُذُلِّهِ بِيَدِ السُّكُونْ
يُنْبِئْكَ أَنَّ بَيَانَهُ هَذَا مُقَدِّمَةُ الْمَنُونْ
فَقَالَ لَهُ الطَّبِيبُ: أَنْتَ صَالِحٌ. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يُبَشِّرُنِي بِأَنِّي ذُو صَلَاحٍ يَبِينُ لَهُ وَبِي دَاءٌ دَفِينُ
لَقَدْ أَيْقَنْتُ أَنِّي غَيْرُ بِاقٍ وَلَا شَكٌّ إِذَا وَضَحَ الْيَقِينُ
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: كَانَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ
بِهِ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ: الْمُلْكُ لِلَّهِ
الْحَيِّ الْقَيُّومِ، مَلِكِ الْمُلُوكِ، وَجَبَّارِ الْجَبَابِرَةِ. وَكَانَ
نَقْشُ خَاتَمِهِ: اللَّهُ ثِقَةُ عَبْدِ اللَّهِ.
وَكَانَ مَوْتُهُ بِالْجُدَرِيِّ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ، سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ بِالْأَنْبَارِ الْعَتِيقَةِ،
عَنْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ
وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ عَلَى أَشْهَرِ الْأَقْوَالِ. وَصَلَّى عَلَيْهِ عَمُّهُ
عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ وَدُفِنَ فِي قَصْرِ الْإِمَارَةِ مِنَ الْأَنْبَارِ،
وَتَرَكَ تِسْعَ جِبَابٍ وَأَرْبَعَةَ أَقْمِصَةٍ وَخَمْسَ سَرَاوِيلَاتٍ
وَأَرْبَعَ طَيَالِسَةٍ وَثَلَاثَةَ مَطَارِفِ خَزٍّ. وَقَدْ تَرْجَمَهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ فَذَكَرَ بَعْضَ مَا أَوْرَدْنَاهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْخَلِيفَةُ السَّفَّاحُ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ، وَجَعْفَرُ
بْنُ رَبِيعَةَ، وَحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَرَبِيعَةُ الرَّأْيِ،
وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ،
وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ. وَقَدْ
ذَكَرْنَا تَرَاجِمَهُمْ فِي كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ ". وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
خِلَافَةُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السَّفَّاحَ مَاتَ وَأَخُوهُ أَبُو جَعْفَرٍ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بِالْحِجَازِ،
فَأَخَذَ الْبَيْعَةَ لَهُ بِالْعِرَاقِ عَمُّهُ عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ، وَبَلَغَهُ
خَبَرُ مَوْتِ أَخِيهِ السَّفَّاحِ وَهُوَ رَاجِعٌ بِذَاتِ عِرْقٍ فَعَجَّلَ
السَّيْرَ، وَكَانَ مَعَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، فَبَايَعَهُ أَبُو
مُسْلِمٍ فِي الطَّرِيقِ وَعَزَّاهُ فِي أَخِيهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
السَّفَّاحِ، فَبَكَى أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ
أَبُو مُسْلِمٍ: أَتَبْكِي وَقَدْ جَاءَتْكَ الْخِلَافَةُ؟! فَأَنَا أَكْفِيكَهَا
إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَسُرِّيَ عَنِ الْمَنْصُورِ، وَأَمَرَ زِيَادَ بْنَ عُبَيْدِ
اللَّهِ
أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَكَّةَ وَالِيًا عَلَيْهَا، وَكَانَ السَّفَّاحُ قَدْ عَزَلَهُ عَنْهَا بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأَقَرَّ بَقِيَّةَ النُّوَّابِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ حَتَّى انْسَلَخَتْ هَذِهِ السَّنَةُ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ قَدِمَ عَلَى السَّفَّاحِ الْأَنْبَارَ، فَأَمَّرَهُ عَلَى الصَّائِفَةِ، فَرَكِبَ فِي جُيُوشٍ عَظِيمَةٍ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ بَلَغَهُ مَوْتُ السَّفَّاحِ، فَكَرَّ رَاجِعًا إِلَى حَرَّانَ وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، وَزَعَمَ أَنَّ السَّفَّاحَ كَانَ عَهِدَ إِلَيْهِ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الشَّامِ أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، فَالْتَفَّتْ عَلَيْهِ جُيُوشٌ عَظِيمَةٌ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَةٍ
ذِكْرُ خُرُوجِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ
عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْمَنْصُورِ
لَمَّا رَجَعَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ مِنَ الْحَجِّ دَخَلَ الْكُوفَةَ،
فَخَطَبَ بِأَهْلِهَا يَوْمَ الْجُمْعَةِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ مِنْهَا إِلَى
الْأَنْبَارِ، وَقَدْ أُخِذَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ
وَخُرَاسَانَ وَسَائِرِ الْبِلَادِ سِوَى الشَّامِ، وَقَدْ ضَبَطَ عِيسَى بْنُ
مُوسَى بُيُوتَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلَ لِلْمَنْصُورِ حَتَّى قَدِمَ،
فَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْأَمْرَ، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ
بِدُرُوبِ الرُّومِ يُعْلِمُهُ بِوَفَاةِ السَّفَّاحِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ
الْخَبَرُ نَادَى فِي النَّاسِ: الصَّلَاةُ جَامِعَةً. فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ
الْأُمَرَاءُ وَالنَّاسُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ وَفَاةَ السَّفَّاحِ، ثُمَّ قَامَ
فِيهِمْ خَطِيبًا، فَذَكَرَ أَنَّ السَّفَّاحَ كَانَ عَهِدَ إِلَيْهِ حِينَ
بَعَثَهُ إِلَى مَرْوَانَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ،
وَشَهِدَ لَهُ بَعْضُ أُمَرَاءِ خُرَاسَانَ بِذَلِكَ، وَنَهَضُوا إِلَيْهِ
فَبَايَعُوهُ، وَرَجَعَ إِلَى حَرَّانَ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ نَائِبِ الْمَنْصُورِ
بَعْدَ مُحَاصَرَةٍ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَقُتِلَ مُقَاتِلٌ
الْعَكِّيُّ نَائِبُهَا، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَنْصُورَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ بَعَثَ إِلَيْهِ أَبَا مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيَّ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَقَدْ تَحَصَّنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ بِحَرَّانَ، وَأَرْصَدَ عِنْدَهُ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالسِّلَاحِ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا. وَسَارَ أَبُو مُسْلِمٍ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ مَالِكُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيُّ، وَلَمَّا تَحَقَّقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ قُدُومَ أَبِي مُسْلِمٍ إِلَيْهِ خَشِيَ مِنْ جَيْشِ خُرَاسَانَ الَّذِينَ مَعَهُ أَنْ لَا يُنَاصِحُوهُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَأَرَادَ قَتْلَ حُمَيْدِ بْنِ قُحْطُبَةَ، فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ. وَرَكِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ، فَنَزَلَ نَصِيبِينَ وَخَنْدَقَ حَوْلَ عَسْكَرِهِ، وَأَقْبَلَ أَبُو مُسْلِمٍ، فَنَزَلَ نَاحِيَةً، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ: إِنِّي لَمْ أُومَرْ بِقِتَالِكَ، وَإِنَّمَا بَعَثَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالِيًا عَلَى الشَّامِ فَأَنَا أُرِيدُهَا. فَخَافَ جُنُودُ الشَّامِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَقَالُوا: إِنَّا نَخَافُ عَلَى ذَرَارِينَا وَأَمْوَالِنَا، فَنَحْنُ نَذْهَبُ إِلَيْهَا نَمْنَعُهُمْ مِنْهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ: وَيْحَكُمْ! وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمْ يَأْتِ إِلَّا لِقِتَالِنَا. فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَرْتَحِلُوا نَحْوَ الشَّامِ فَتَحَوَّلَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ، وَقَصَدَ نَاحِيَةَ الشَّامِ، فَنَهَضَ أَبُو مُسْلِمٍ، فَنَزَلَ فِي مَوْضِعِ عَسْكَرِ عَبْدِ اللَّهِ، وَغَوَّرَ مَا حَوْلَهُ مِنَ الْمِيَاهِ، وَكَانَ نَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ مَنْزِلًا جَيِّدًا جِدًّا، وَاحْتَاجَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ، فَنَزَلُوا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ أَبُو مُسْلِمٍ فَوَجَدُوهُ مَنْزِلًا رَدِيئًا، ثُمَّ أَنْشَأَ أَبُو مُسْلِمٍ الْقِتَالَ، فَحَارَبَهُمْ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ أَوْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ عَلَى خَيْلِ عَبْدِ اللَّهِ أَخُوهُ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ بَكَّارُ بْنُ مُسْلِمٍ الْعُقَيْلِيُّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ حَبِيبُ بْنُ سُوَيْدٍ الْأَسَدِيُّ، وَعَلَى مَيْمَنَةِ أَبِي مُسْلِمٍ الْحَسَنُ بْنُ قُحْطُبَةَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ أَبُو نَصْرٍ خَازِمُ بْنُ
خُزَيْمَةَ، وَقَدْ جَرَتْ بَيْنَهُمْ وَقَعَاتٌ، وَقُتِلُ
مِنْهُمْ جَمَاعَاتٌ فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ، وَقَدْ كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ إِذَا
حَمَلَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:
مَنْ كَانَ يَنْوِي أَهْلَهُ فَلَا رَجَعْ فَرَّ مِنَ الْمَوْتِ وَفِي الْمَوْتِ
وَقَعْ
وَكَانَ يُعْمَلُ لَهُ عَرِيشٌ، فَيَكُونُ فِيهِ إِذَا الْتَقَى الْجَيْشَانِ،
فَمَا رَأَى فِي جَيْشِهِ مِنْ خَلَلٍ أَرْسَلَ فَأَصْلَحَهُ. فَلَمَّا كَانَ
يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ أَوِ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى
الْآخِرَةِ الْتَقَوْا، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَمَكَرَ بِهِمْ أَبُو
مُسْلِمٍ; بَعَثَ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ قُحْطُبَةَ أَمِيرِ الْمَيْمَنَةِ، يَأْمُرُهُ
أَنْ يَتَحَوَّلَ بِمَنْ مَعَهُ إِلَّا الْقَلِيلَ، إِلَى الْمَيْسَرَةِ، فَلَمَّا
رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ الشَّامِ انْحَازُوا إِلَى الْمَيْمَنَةِ بِإِزَاءِ
الْمَيْسَرَةِ الَّتِي تَعَمَّرَتْ، فَأَرْسَلَ حِينَئِذٍ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى
الْقَلْبِ أَنْ يَحْمِلَ بِمَنْ بَقِيَ فِي الْمَيْمَنَةِ عَلَى مَيْسَرَةِ أَهْلِ
الشَّامِ، فَحَطَّمُوهُمْ، فَجَالَ أَهْلُ الْقَلْبِ وَالْمَيْمَنَةِ مِنَ
الشَّامِيِّينَ، فَحَمَلَ الْخُرَاسَانِيُّونَ فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ،
وَانْهَزَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ بَعْدَ تَلَوُّمٍ، وَاحْتَازَ أَبُو
مُسْلِمٍ مَا كَانَ فِي مُعَسْكَرِهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ،
وَأَمَّنَ أَبُو مُسْلِمٍ بَقِيَّةَ النَّاسِ فَلَمْ يَقْتُلْ مِنْهُمْ أَحَدًا،
وَكَتَبَ إِلَى الْمَنْصُورِ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ الْمَنْصُورُ مَوْلَاهُ أَبَا
الْخَصِيبِ لِيُحْصِيَ مَا وَجَدُوا فِي مُعَسْكَرِ عَبْدِ اللَّهِ، فَغَضِبَ مِنْ
ذَلِكَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، وَاسْتَوْسَقَتِ الْمَمَالِكُ لِأَبِي
جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وَمَضَى عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَلِيٍّ وَأَخُوهُ عَبْدُ الصَّمَدِ عَلَى وُجُوهِهِمَا، فَلَمَّا مَرَّا
بِالرُّصَافَةِ أَقَامَ بِهَا عَبْدُ الصَّمَدِ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو الْخَصِيبِ
وَجَدَهُ بِهَا، فَأَخَذَهُ مُقَيَّدًا فِي الْحَدِيدِ، فَأَدْخَلَهُ عَلَى
الْمَنْصُورِ، فَدَفَعَهُ إِلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى، فَاسْتَأْمَنَ لَهُ مِنَ
الْمَنْصُورِ، وَقِيلَ: بَلِ اسْتَأْمَنَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ.
وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ، فَإِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَخِيهِ
سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ بِالْبَصْرَةِ، فَأَقَامَ
عِنْدَهُ زَمَانًا مُخْتَفِيًا، ثُمَّ عَلِمَ بِهِ الْمَنْصُورُ،
فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَسَجَنَهُ، فَلَبِثَ فِي السَّجْنِ تِسْعَ سِنِينَ، ثُمَّ
سَقَطَ عَلَيْهِ الْبَيْتُ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَمَاتَ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ
فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ذِكْرُ مَهْلِكِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ ذُكِرَ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ لَمَّا نَفَرَ النَّاسُ مِنَ
الْحَجِيجِ سَبَقَ النَّاسَ بِمَرْحَلَةٍ، فَلَمَّا جَاءَهُ خَبَرُ السَّفَّاحِ
فِي الطَّرِيقِ، كَتَبَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ يُعَزِّيهِ فِي
الْخَلِيفَةِ، وَلَمْ يُهَنِّئْهُ بِالْخِلَافَةِ، وَلَا رَجَعَ إِلَيْهِ،
فَغَضِبَ الْمَنْصُورُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ مَا كَانَ مُضْمِرًا لَهُ مِنَ السُّوءِ،
فَقَالَ لِأَبِي أَيُّوبَ: اكْتُبْ إِلَيْهِ كِتَابًا غَلِيظًا. فَلَمَّا بَلَغَهُ
الْكِتَابُ بَعَثَ يُهَنِّئُهُ بِالْخِلَافَةِ، وَانْقَمَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ
بَعْضُ الْأُمَرَاءِ لِأَبِي جَعْفَرٍ: إِنَّا نَرَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَنْ لَا
تُجَامِعَهُ فِي الطَّرِيقِ; فَإِنَّ مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ مَنْ لَا يُخَالِفُهُ
وَهُمْ لَهُ أَهْيَبُ، وَلَيْسَ مَعَكَ أَحَدٌ. فَأَخَذَ بِرَأْيِهِ، ثُمَّ كَانَ
مِنْ أَمْرِهِ فِي مُبَايَعَتِهِ لِأَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ مَا ذَكَرْنَاهُ،
ثُمَّ بَعَثَهُ إِلَى عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ فَكَسَرَهُ، كَمَا
تَقَدَّمَ، وَقَدْ بَعَثَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ قُحْطُبَةَ لِأَبِي
أَيُّوبَ كَاتِبِ رَسَائِلِ الْمَنْصُورِ يُشَافِهُهُ وَيُخْبِرُهُ بِأَنَّ أَبَا
مُسْلِمٍ يُتَّهَمُ فِي أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ; فَإِنَّهُ إِذَا جَاءَهُ
الْكِتَابُ مِنْهُ يَقْرَؤُهُ ثُمَّ يَلْوِي شِدْقَيْهِ، وَيَرْمِي بِالْكِتَابِ
إِلَى أَبِي نَصْرٍ، وَيَضْحَكَانِ اسْتِهْزَاءً، فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: إِنَّ
تُهْمَةَ أَبِي مُسْلِمٍ عِنْدَنَا أَظْهَرُ مِنْ هَذَا.
وَلَمَّا بَعَثَ أَبُو جَعْفَرٍ مَوْلَاهُ أَبَا الْخَصِيبِ يَقْطِينَ; لِيَحْتَاطَ عَلَى مَا أُصِيبَ مِنْ مُعَسْكَرِ عَبْدِ اللَّهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْجَوَاهِرِ الثَّمِينَةِ وَغَيْرِهَا، غَضِبَ أَبُو مُسْلِمٍ، فَشَتَمَ أَبَا جَعْفَرٍ، وَهَمَّ بِأَبِي الْخَصِيبِ أَنْ يَقْتُلَهُ، حَتَّى كُلِّمَ فِيهِ وَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا هُوَ رَسُولٌ. فَتَرَكَهُ، وَرَجَعَ أَبُو الْخَصِيبِ، فَأَخْبَرَ الْمَنْصُورَ بِمَا كَانَ، وَبِمَا هَمَّ بِهِ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ قَتْلِهِ، فَغَضِبَ الْمَنْصُورُ، وَخَشِيَ أَنْ يَذْهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى خُرَاسَانَ فَيَشُقُّ عَلَيْهِ تَحْصِيلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَعَ يَقْطِينَ: إِنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ الشَّامَ وَمِصْرَ، وَهُمَا خَيْرٌ مِنْ خُرَاسَانَ فَابْعَثْ إِلَى مِصْرَ مَنْ شِئْتَ، وَأَقِمْ أَنْتَ بِالشَّامِ; لِتَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِذَا أَرَادَ لِقَاءَكَ كُنْتَ مِنْهُ قَرِيبًا. فَغَضِبَ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: قَدْ وَلَّانِي الشَّامَ وَمِصْرَ، وَلِي خُرَاسَانُ ! فَإِذًا أَذْهَبُ إِلَيْهَا، وَأَسْتَخْلِفُ عَلَى الشَّامِ وَمِصْرَ. فَكَتَبَ إِلَى الْمَنْصُورِ بِذَلِكَ، فَقَلِقَ الْمَنْصُورُ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَرَجَعَ أَبُو مُسْلِمٍ مِنَ الشَّامِ قَاصِدًا خُرَاسَانَ، وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى مُخَالَفَةِ الْمَنْصُورِ، فَخَرَجَ الْمَنْصُورُ مِنَ الْأَنْبَارِ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ بِالْمَصِيرِ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ وَهُوَ عَلَى الزَّابِ عَازِمٌ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى خُرَاسَانَ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَدُوٌّ إِلَّا أَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَقَدْ كُنَّا نَرْوِي عَنْ مُلُوكِ آلِ سَاسَانَ أَنْ أَخْوَفَ مَا يَكُونُ الْوُزَرَاءُ إِذَا سَكَنَتِ الدَّهْمَاءُ، فَنَحْنُ نَافِرُونَ مِنْ قُرْبِكَ، حَرِيصُونَ عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِكَ مَا وَفَّيْتَ، حَرِيُّونَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ غَيْرَ أَنَّهَا مِنْ بَعِيدٍ حَيْثُ تُقَارِنُهَا السَّلَامَةُ، فَإِنْ أَرْضَاكَ ذَلِكَ فَأَنَا كَأَحْسَنِ عَبِيدِكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُعْطِيَ نَفْسَكَ إِرَادَتَهَا نَقَضْتُ مَا أَبْرَمْتُ مِنْ عَهْدِكَ ضَنًّا بِنَفْسِي. فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى الْمَنْصُورِ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ: قَدْ فَهِمْتُ كِتَابَكَ، وَلَيْسَتْ صِفَتُكَ صِفَةَ أُولَئِكَ الْوُزَرَاءِ الْغَشَشَةِ مُلُوكَهُمُ، الَّذِينَ يَتَمَنَّوْنَ اضْطِرَابَ حَبْلِ الدَّوْلَةِ لِكَثْرَةِ جَرَائِمِهِمْ، وَإِنَّمَا رَاحَتُهُمْ فِي انْتِثَارِ نِظَامِ الْجَمَاعَةِ، فَلِمَ سَوَّيْتَ نَفْسَكَ بِهِمْ، وَأَنْتَ فِي طَاعَتِكَ
وَمُنَاصَحَتِكَ وَاضْطِلَاعِكَ بِمَا حَمَلْتَ مِنْ
أَعْبَاءِ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى مَا أَنْتَ بِهِ؟! وَلَيْسَ مَعَ الشَّرِيطَةِ
الَّتِي أَوْجَبْتَ مِنْكَ سَمْعٌ وَلَا طَاعَةٌ، وَقَدْ حَمَّلَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ عِيسَى بْنَ مُوسَى رِسَالَةً لِتَسْكُنَ إِلَيْهَا إِنْ
أَصْغَيْتَ إِلَيْهَا، وَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الشَّيْطَانِ
وَنَزَغَاتِهِ وَبَيْنَكَ; فَإِنَّهُ لَمْ يَجِدْ بَابًا يُفْسِدُ بِهِ نِيَّتَكَ
أَوْكَدَ عِنْدَهُ وَأَقْرَبَ مِنْ ظَنِّهِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي فَتَحَهُ
عَلَيْكَ.
وَيُقَالُ: إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ كَتَبَ إِلَى الْمَنْصُورِ: أَمَّا بَعْدُ;
فَإِنِّي اتَّخَذْتُ رَجُلًا إِمَامًا وَدَلِيلًا عَلَى مَا افْتَرَضَ اللَّهُ
عَلَى خَلْقِهِ، وَكَانَ فِي مَحَلَّةِ الْعِلْمِ نَازِلًا، وَفِي قَرَابَتِهِ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرِيبًا،
فَاسْتَجْهَلَنِي بِالْقُرْآنِ، فَحَرَّفَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ طَمَعًا فِي قَلِيلٍ
قَدْ نَعَاهُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ، فَكَانَ كَالَّذِي دُلِّيَ بِغُرُورٍ،
وَأَمَرَنِي أَنْ أُجَرِّدَ السَّيْفَ، وَأَرْفَعَ الرَّحْمَةَ، وَلَا أَقْبَلَ
الْمَعْذِرَةَ، وَلَا أُقِيلَ الْعَثْرَةَ، فَفَعَلْتُ تَوْطِيدًا لِسُلْطَانِكُمْ
حَتَّى عَرَّفَكُمُ اللَّهُ مَنْ كَانَ يَجْهَلُكُمْ، ثُمَّ اسْتَنْقَذَنِي
اللَّهُ بِالتَّوْبَةِ، فَإِنْ يَعْفُ عَنِّي فَقِدْمًا عُرِفَ بِهِ وَنُسِبَ
إِلَيْهِ، وَإِنْ يُعَاقِبْنِي فَبِمَا قَدَّمَتْ يَدَايَ، وَمَا اللَّهُ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. ذَكَرَهُ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ شُيُوخِهِ.
وَبَعَثَ الْمَنْصُورُ إِلَيْهِ جَرِيرَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْبَجَلِيَّ - وَكَانَ وَاحِدَ أَهْلِ زَمَانِهِ - فِي جَمَاعَةٍ مِنَ
الْأُمَرَاءِ، وَقَدْ كَانَ الْمَنْصُورُ قَالَ لَهُ: كَلِّمْ أَبَا مُسْلِمٍ
بِأَلْيَنِ كَلَامٍ تَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَقُلْ لَهُ:
إِنَّهُ يُرِيدُ رَفْعَكَ، وَعُلُوَّ قَدْرِكَ، وَالْإِطْلَاقَ لَكَ. فَإِنْ جَاءَ
بِهَذَا فَذَاكَ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَرْجِعَ فَقُلْ: إِنَّهُ يَقُولُ: هُوَ
بَرِيءٌ مِنَ الْعَبَّاسِ، إِنْ شَقَقْتَ الْعَصَا وَذَهَبْتَ عَلَى وَجْهِكَ هَذَا
لَيُدْرِكَنَّكَ بِنَفْسِهِ وَلَيَلِيَنَّ قِتَالَكَ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَوْ
خُضْتَ الْبَحْرَ الْخِضَمَّ لَخَاضَهُ خَلْفَكَ حَتَّى يُدْرِكَكَ فَيَقْتُلَكَ
أَوْ يَمُوتَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَلَا تَقُلْ لَهُ هَذَا حَتَّى تَيْأَسَ مِنْ
رُجُوعِهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أُمَرَاءُ
الْمَنْصُورِ بِحُلْوَانَ دَخَلُوا عَلَيْهِ وَلَامُوهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ مِنْ
مُنَابَذَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَغَّبُوهُ فِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِ،
فَشَاوَرَ ذَوِي الرَّأْيِ مِنْ أُمَرَائِهِ، فَكُلٌّ نَهَاهُ عَنِ الرُّجُوعِ
إِلَيْهِ، وَأَشَارُوا بِأَنْ يُقِيمَ فِي الرَّيِّ فَتَكُونَ خُرَاسَانُ تَحْتَ
حُكْمِهِ، وَجُنُودُهُ طَوْعٌ لَهُ، فَإِنِ اسْتَقَامَ لَهُ الْخَلِيفَةُ وَإِلَّا
كَانَ فِي عِزٍّ وَمَنَعَةٍ مِنَ الْجُنْدِ. فَأَرْسَلَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى
أُمَرَاءِ الْمَنْصُورِ، فَقَالَ لَهُمُ: ارْجِعُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ، فَلَسْتُ
أَلْقَاهُ. فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ قَالُوا لَهُ ذَلِكَ الْكَلَامَ الَّذِي
كَانَ الْمَنْصُورُ أَمَرَهُمْ بِهِ. فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ كَسَرَهُ جِدًّا،
وَقَالَ: قُومُوا عَنِّي السَّاعَةَ.
وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ قَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى خُرَاسَانَ أَبَا دَاوُدَ خَالِدَ
بْنَ إِبْرَاهِيمَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ فِي غَيْبَةِ أَبِي مُسْلِمٍ
حِينَ اتَّهَمَهُ: إِنَّ وِلَايَةَ خُرَاسَانَ لَكَ مَا بَقِيتَ. فَكَتَبَ أَبُو
دَاوُدَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ حِينَ بَلَغَهُ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ
مُنَابَذَةِ الْخَلِيفَةِ: إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا مُنَابَذَةُ خُلَفَاءِ بَيْتِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَارْجِعْ إِلَى إِمَامِكَ
سَامِعًا مُطِيعًا. فَزَادَهُ ذَلِكَ كَسْرًا أَيْضًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ أَبُو
مُسْلِمٍ: إِنِّي سَأَبْعَثُ إِلَيْهِ أَبَا إِسْحَاقَ،
وَهُوَ مِمَّنْ أَثِقُ بِهِ. فَبَعَثَهُ إِلَيْهِ
فَأَكْرَمَهُ، وَوَعَدَهُ بِنِيَابَةِ خُرَاسَانَ إِنْ هُوَ رَدَّهُ. فَلَمَّا
رَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ لَهُ: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُمْ
مُعَظِّمِينَ لَكَ يَعْرِفُونَ قَدْرَكَ. فَغَرَّهُ ذَلِكَ، وَعَزَمَ عَلَى
الذَّهَابِ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَاسْتَشَارَ أَمِيرًا يُقَالُ لَهُ: نَيْزَكُ.
فَنَهَاهُ، فَصَمَّمَ عَلَى الذَّهَابِ، فَلَمَّا رَآهُ نَيْزَكُ عَازِمًا عَلَى
الذَّهَابِ تَمَثَّلَ نَيْزَكُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَا لِلرِّجَالِ مَعَ الْقَضَاءِ مَحَالَةٌ ذَهَبَ الْقَضَاءُ بِحِيلَةِ
الْأَقْوَامِ
ثُمَّ قَالَ لَهُ: احْفَظْ عَنِّي وَاحِدَةً. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: إِذَا
دَخَلْتَ عَلَيْهِ فَاقْتُلْهُ، ثُمَّ بَايِعْ مَنْ شِئْتَ بِالْخِلَافَةِ;
فَإِنَّ النَّاسَ لَا يُخَالِفُونَكَ. وَكَتَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى الْمَنْصُورِ
يُعْلِمُهُ بِقُدُومِهِ عَلَيْهِ.
قَالَ أَبُو أَيُّوبَ كَاتِبُ الرَّسَائِلِ: فَدَخَلْتُ عَلَى الْمَنْصُورِ وَهُوَ
فِي خِبَاءِ شِعْرٍ بِالرُّومِيَّةِ جَالِسًا عَلَى مُصَلَّاهُ بَعْدَ الْعَصْرِ،
وَبَيْنَ يَدَيْهِ كِتَابٌ، فَأَلْقَاهُ إِلَيَّ فَإِذَا هُوَ كِتَابُ أَبِي
مُسْلِمٍ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ الْخَلِيفَةُ: وَاللَّهِ لَئِنْ مَلَأْتُ عَيْنِي
مِنْهُ لِأَقْتُلَنَّهُ. قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَبِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ لَا يَأْتِينِي نَوْمٌ،
وَفَكَّرْتُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَقُلْتُ: إِنْ دَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ
خَائِفًا رُبَّمَا يَبْدُو أَنَّهُ يَبْدُرُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى الْخَلِيفَةِ،
وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ يَدْخُلَ آمِنًا لِيَتَمَكَّنَ مِنْهُ الْخَلِيفَةُ.
فَلَمَّا أَصْبَحْتُ طَلَبْتُ رَجُلًا مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَقُلْتُ لَهُ: هَلْ
لَكَ أَنْ تَتَوَلَّى مَدِينَةَ كَسْكَرٍ; فَإِنَّهَا مُغِلَّةٌ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ؟ فَقَالَ: وَمَنْ لِي بِذَلِكَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: فَاذْهَبْ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ، فَتَلَقَّهُ فِي الطَّرِيقِ، فَاطْلُبْ مِنْهُ أَنْ يُوَلِّيَكَ تِلْكَ الْبَلَدَ; فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُ أَنْ يُوَلِّيَهُ مَا وَرَاءَ بَابِهِ وَيَسْتَرِيحَ لِنَفْسِهِ. وَاسْتَأْذَنْتُ الْمَنْصُورَ لَهُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ، فَأَذِنَ لَهُ، وَقَالَ لَهُ: سَلِّمْ عَلَيْهِ، وَقُلْ لَهُ: إِنَّا بِالْأَشْوَاقِ إِلَيْهِ. فَسَارَ ذَلِكَ الرَّجُلُ - وَهُوَ سَلَمَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جَابِرٍ - إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ، فَأَخْبَرَهُ بِاشْتِيَاقِ الْخَلِيفَةِ إِلَيْهِ فَسَرَّهُ ذَلِكَ وَانْشَرَحَ، وَإِنَّمَا هُوَ غُرُورٌ وَمَكْرٌ بِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو مُسْلِمٍ بِذَلِكَ عَجَّلَ السَّيْرَ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنَ الْمَدَائِنِ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْقَوَّادَ وَالْأُمَرَاءَ أَنْ يَتَلَقَّوْهُ، وَكَانَ دُخُولُهُ عَلَى الْمَنْصُورِ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقَدْ أَشَارَ أَبُو أَيُّوبَ عَلَى الْمَنْصُورِ أَنْ يُؤَخِّرَ قَتْلَهُ فِي سَاعَتِهِ هَذِهِ إِلَى الْغَدِ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى الْمَنْصُورِ مِنَ الْعَشِيِّ، قَالَ: اذْهَبْ فَأَرِحْ نَفْسَكَ، وَادْخُلِ الْحَمَّامَ، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَأْتِنِي. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، وَجَاءَهُ النَّاسُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ طَلَبَ الْخَلِيفَةُ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ بَلَائِي عِنْدَكَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَقْتُلَ نَفْسِي لَقَتَلْتُهَا. قَالَ: فَكَيْفَ بِكَ إِذَا أَمَرْتُكَ بِقَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ؟ قَالَ: فَوَجَمَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ: مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ قَوْلَةً ضَعِيفَةً: أَقْتُلُهُ. ثُمَّ اخْتَارَ لَهُ مِنْ عُيُونِ الْحَرَسِ أَرْبَعَةً، فَحَرَّضَهُمُ الْخَلِيفَةُ عَلَى قَتْلِهِ، وَقَالَ: كُونُوا مِنْ وَرَاءِ الرِّوَاقِ، فَإِذَا صَفَّقْتُ فَاخْرُجُوا عَلَيْهِ فَاقْتُلُوهُ. ثُمَّ أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ رُسُلًا تَتْرَى; يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَأَقْبَلَ أَبُو مُسْلِمٍ فَدَخَلَ دَارَ الْخِلَافَةِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ وَهُوَ يَبْتَسِمُ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ جَعَلَ الْمَنْصُورُ يُعَاتِبُهُ فِي الَّذِي صَنَعَ
وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَيَعْتَذِرُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ
فِيمَا كَانَ اعْتَمَدَهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَسَرَّعَ فِيهَا. ثُمَّ قَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَفْسُكَ قَدْ طَابَتْ عَلَيَّ.
فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زَادَنِي هَذَا إِلَّا غَضَبًا عَلَيْكَ. ثُمَّ ضَرَبَ
بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَخَرَجَ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ،
فَضَرَبُوهُ بِالسُّيُوفِ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَلَفُّوهُ فِي عَبَاءَةٍ، ثُمَّ
أَمَرَ بِإِلْقَائِهِ فِي دِجْلَةَ، وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ، وَكَانَ مَقْتَلُهُ
فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ
وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ.
وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا عَاتَبَهُ بِهِ الْمَنْصُورُ أَنَّهُ قَالَ: كَتَبْتَ
إِلَيَّ مَرَّاتٍ تَبْدَأُ بِنَفْسِكَ، وَأَرْسَلْتَ تَخْطُبُ عَمَّتِي أَمِينَةَ،
وَتَزْعُمُ أَنَّكَ ابْنُ سُلَيْطِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. إِلَى
غَيْرِ ذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا يُقَالُ
هَذَا لِي وَقَدْ سَعَيْتُ فِي أَمْرِكُمْ بِمَا عَلِمَهُ كُلُّ أَحَدٍ. فَقَالَ:
وَيْلَكَ! لَوْ قَامَتْ فِي ذَلِكَ أَمَةٌ سَوْدَاءُ لَأَتَمَّهُ اللَّهُ;
لِجَدِّنَا وَحَظِّنَا. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّكَ. فَقَالَ:
اسْتَبْقِنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَعْدَائِكَ. فَقَالَ: وَأَيُّ عَدُوٍّ
لِي أَعْدَى مِنْكَ ؟! ثُمَّ أَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ، كَمَا ذَكَرْنَا،
فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الْآنَ صِرْتَ
خَلِيفَةً. وَيُقَالُ: إِنَّ الْمَنْصُورَ أَنْشَدَ عِنْدَ ذَلِكَ:
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى كَمًّا
قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ
وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّ الْمَنْصُورَ لَمَّا عَزَمَ عَلَى
قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ تَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ; هَلْ يَسْتَشِيرُ أَحَدًا فِي
ذَلِكَ أَوْ يَسْتَبِدُّ هُوَ بِرَأْيِهِ; لِئَلَّا يَشِيعَ وَيَنْتَشِرَ، ثُمَّ
إِنَّهُ اسْتَشَارَ وَاحِدًا مِنْ نُصَحَائِهِ فِي قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ
إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [ الْأَنْبِيَاءِ: 22 ]. فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ
أَوْدَعْتَهَا أُذُنًا وَاعِيَةً. ثُمَّ عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ
هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُسْلِمٍ، أَبُو مُسْلِمٍ صَاحِبُ دَوْلَةِ -
وَيُقَالُ: دَعْوَةِ - بَنِي الْعَبَّاسِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: أَمِينُ آلِ
بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْخَطِيبُ
الْبَغْدَادِيُّ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ سَنْفِيرُونَ بْنِ
أَسْفَنْدِيَارَ، أَبُو مُسْلِمٍ الْمَرْوَزِيُّ، صَاحِبُ الدَّوْلَةِ
الْعَبَّاسِيَّةِ، يَرْوِي عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ وَثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ
وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ. زَادَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي شُيُوخِهِ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، وَعَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ حَرْمَلَةَ، وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ ابْنُ
عَسَاكِرَ: رَوَى عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
مَيْمُونٍ الصَّائِغُ، وَبِشْرٌ وَالِدُ مُصْعَبِ بْنِ
بِشْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُبْرُمَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيبٍ الْمَرْوَزِيُّ، وَقُدَيْدُ بْنُ مَنِيعٍ صِهْرُ
أَبِي مُسْلِمٍ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ فَاتِكًا، شُجَاعًا، ذَا رَأْيٍ وَعَقْلٍ وَتَدْبِيرٍ
وَحَزْمٍ. وَقَتَلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ بِالْمَدَائِنِ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي " تَارِيخِ أَصْبَهَانَ
": كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ يَسَارٍ. قِيلَ:
إِنَّهُ وُلِدَ بِأَصْبَهَانَ. وَرَوَى عَنِ السُّدِّيِّ وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: كَانَ اسْمُ أَبِي مُسْلِمٍ - صَاحِبِ الدَّعْوَةِ -
إِبْرَاهِيمَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ يَسَارِ بْنِ شِيدُوسَ بْنِ جُودِرْنَ، مِنْ
وَلَدِ بُزُرْجَمُهْرَ، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا إِسْحَاقَ، وَوُلِدَ
بِأَصْبَهَانَ، وَنَشَأَ بِالْكُوفَةِ، وَكَانَ أَبُوهُ أَوْصَى إِلَى عِيسَى بْنِ
مُوسَى السَّرَّاجِ، فَحَمَلَهُ إِلَى الْكُوفَةِ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ،
فَلَمَّا بَعَثَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ إِلَى خُرَاسَانَ قَالَ لَهُ:
غَيِّرِ اسْمَكَ وَكُنْيَتَكَ. فَتَسَمَّى بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُسْلِمٍ،
وَاكْتَنَى بِأَبِي مُسْلِمٍ، فَسَارَ إِلَى خُرَاسَانَ وَهُوَ ابْنُ تِسْعَ
عَشْرَةَ سَنَةً
رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ بِإِكَافٍ، وَأَعْطَاهُ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ نَفَقَةً مِنْ عِنْدِهِ، فَرَحَلَ إِلَى خُرَاسَانَ
وَهُوَ كَذَلِكَ، ثُمَّ آلَ بِهِ الْحَالُ حَتَّى صَارَتْ لَهُ خُرَاسَانُ
بِأَزِمَّتِهَا وَحَذَافِيرِهَا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ فِي مُرُورِهِ إِلَى
خُرَاسَانَ عَدَا رَجُلٌ فِي بَعْضِ الْخَانَاتِ عَلَى حِمَارِهِ، فَهَلَبَ
ذَنَبَهُ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ أَبُو مُسْلِمٍ وَحَكَمَ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ،
جَعَلَهُ دَكًّا، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ خَرَابًا لَا يُسْكَنُ. وَذَكَرَ
بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أَصَابَهُ سِبَاءٌ فِي صِغَرِهِ، وَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بَعْضُ
دُعَاةِ بَنِي الْعَبَّاسِ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ
مُحَمَّدٍ الْإِمَامَ اسْتَوْهَبَهُ أَوِ اشْتَرَاهُ، فَانْتَمَى إِلَيْهِ،
وَزَوَّجَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حِينَ بَعَثَهُ إِلَى خُرَاسَانَ،
بِنْتَ أَبِي النَّجْمِ عِمْرَانَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الطَّائِيِّ، أَحَدِ دُعَاةِ
بَنِي الْعَبَّاسِ، وَأَصْدَقَهَا عَنْهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَوُلِدَ
لِأَبِي مُسْلِمٍ بِنْتَانِ; إِحْدَاهُمَا أَسْمَاءُ، أَعْقَبَتْ، وَفَاطِمَةُ،
وَلَمْ تُعْقِبْ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَلَفَ مِنَ السِّنِينَ، كَيْفِيَّةَ اسْتِقْلَالِ أَبِي
مُسْلِمٍ بِأُمُورِ خُرَاسَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ،
وَنَشْرِهِ دَعْوَةَ بَنِي الْعَبَّاسِ.
وَقَدْ كَانَ ذَا هَيْبَةٍ وَصَرَامَةٍ وَإِقْدَامٍ وَتَسَرُّعٍ; رَوَى ابْنُ
عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُصْعَبِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ
إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ يَخْطُبُ، فَقَالَ: مَا هَذَا السَّوَادُ الَّذِي
أَرَى عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ
يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ. وَهَذِهِ ثِيَابُ الْهَيْبَةِ،
وَثِيَابُ الدَّوْلَةِ. يَا غُلَامُ، اضْرِبْ عُنُقَهُ.
وَرَوَى مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنِيبٍ، عَنْهُ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:مَنْ أَرَادَ
هَوَانَ قُرَيْشٍ أَهَانَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْمُونٍ الصَّائِغُ مِنْ أَصْحَابِهِ
وَجُلَسَائِهِ فِي زَمَنِ الدَّعْوَةِ، وَكَانَ يَعِدُهُ إِذَا ظَهَرَ أَنْ
يُقِيمَ الْحُدُودَ وَالْعَدْلَ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ أَبُو مُسْلِمٍ مَا زَالَ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْمُونٍ يُلِحُّ عَلَيْهِ فِي الْقِيَامِ بِمَا وَعَدَهُ بِهِ
حَتَّى أَحْرَجَهُ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ بَعْدَمَا قَالَ لَهُ: هَلَّا كُنْتَ
تُنْكِرُ عَلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ وَهُوَ يَعْمَلُ أَوَانِيَ الْخَمْرِ مِنَ
الذَّهَبِ فَيَبْعَثُهَا إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ؟ ! فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُولَئِكَ
لَمْ يَعِدُونِي مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَا وَعَدْتَنِي أَنْتَ. وَقَدْ رَأَى
بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ لِإِبْرَاهِيمَ مَنَازِلَ عَالِيَةً فِي الْجَنَّةِ;
بِصَبْرِهِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا اعْتَمَدَهُ أَبُو مُسْلِمٍ فِي أَيَّامِ السَّفَّاحِ مِنَ
الطَّاعَةِ الْأَكِيدَةِ لَهُ، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى أَوَامِرِهِ، وَامْتِثَالِ
مَرَاسِيمِهِ، ثُمَّ لَمَّا صَارَ الْأَمْرُ إِلَى الْمَنْصُورِ اسْتَخَفَّ بِهِ
وَاحْتَقَرَهُ، وَمَعَ هَذَا كَسَرَ عَمَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ حِينَ
دَعَا إِلَى نَفْسِهِ بِالشَّامِ، فَاسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ وَرَدَّهَا إِلَى
حُكْمِ الْمَنْصُورِ، ثُمَّ شَمَخَتْ نَفْسُهُ عَلَى الْمَنْصُورِ، وَهَمَّ
بِقَلْعِهِ، فَفَطِنَ لِذَلِكَ الْمَنْصُورُ مَعَ مَا كَانَ مُبْطِنًا لَهُ مِنَ
الْبِغْضَةِ، وَقَدْ سَأَلَ أَخَاهُ السَّفَّاحَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنْ يَقْتُلَهُ
فَيَصْدِفَ عَنْ ذَلِكَ، وَذَكَرْنَا أَيْضًا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِي
مُسْلِمٍ وَالْمَنْصُورِ مِنَ الْمُرَاسَلَاتِ وَالْمُكَاتَبَاتِ، حِينَ
اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْمَنْصُورُ وَاتَّهَمَهُ بِسُوءِ النِّيَّةِ، وَمَا زَالَ
يُرَاسِلُهُ وَيَسْتَدْعِيهِ وَيَخْدَعُهُ وَيُمَاكِرُهُ حَتَّى اسْتَحْضَرَهُ
فَقَتَلَهُ، كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: كَتَبَ الْمَنْصُورُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ: أَمَّا بَعْدُ،
فَإِنَّهُ يَرِينُ عَلَى الْقُلُوبِ، وَتَطْبَعُ عَلَيْهَا الْمَعَاصِي، فَقَعْ
أَيُّهَا الطَّائِرُ، وَأَفِقْ أَيُّهَا السَّكْرَانُ، وَانْتَبِهْ أَيُّهَا
الْحَالِمُ، فَإِنَّكَ مَغْرُورٌ بِأَضْغَاثِ أَحْلَامٍ كَاذِبَةٍ، وَفِي بَرْزَخِ
دُنْيَا قَدْ غَرَّتْ مَنْ قَبْلَكَ، وَسُمَّ بِهَا سَوَالِفُ الْقُرُونِ، هَلْ
تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [ مَرْيَمَ: 98 ].
وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعْجِزُهُ مَنْ هَرَبَ، وَلَا يَفُوتُهُ مَنْ طَلَبَ، وَلَا
تَغْتَرَّ بِمَنْ مَعَكَ مِنْ شِيعَتِي وَأَهْلِ دَعْوَتِي، فَكَأَنَّهُمْ قَدْ
صَاوَلُوكَ، إِنْ أَنْتَ خَلَعْتَ الطَّاعَةَ، وَفَارَقْتَ الْجَمَاعَةَ، بَدَا
لَكَ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ تَكُنْ تَحْتَسِبُ، مَهْلًا مَهْلًا، احْذَرِ
الْبَغْيَ أَبَا مُسْلِمٍ; فَإِنَّهُ مَنْ بَغَى وَاعْتَدَى تَخَلَّى اللَّهُ
مِنْهُ، وَنَصَرَ عَلَيْهِ مَنْ يَصْرَعُهُ لِلْيَدَيْنِ وَالْفَمِ، وَاحْذَرْ
أَنْ تَكُونَ سُنَّةً فِي الَّذِينَ قَدْ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، فَقَدْ قَامَتِ
الْحُجَّةُ، وَأَعْذَرْتُ إِلَيْكَ وَإِلَى أَهْلِ طَاعَتِي فِيكَ. قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ
مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ
[ الْأَعْرَافِ: 175 ]. فَأَجَابَهُ أَبُو مُسْلِمٍ: أَمَّا بَعْدُ; فَقَدْ
قَرَأْتُ كِتَابَكَ، فَرَأَيْتُكَ فِيهِ لِلصَّوَابِ مُجَانِبًا، وَعَنِ الْحَقِّ
حَائِدًا، إِذْ تَضْرِبُ فِيهِ الْأَمْثَالَ عَلَى غَيْرِ أَشْكَالِهَا،
وَتَضْرِبُ فِيهِ
آيَاتٍ مُنَزَّلَةً مِنَ اللَّهِ لِلْكَافِرِينَ، وَمَا
يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَإِنَّنِي
وَاللَّهِ مَا انْسَلَخْتُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَلَكِنَّنِي يَا عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ مُحَمَّدٍ كُنْتُ رَجُلًا مُتَأَوِّلًا فِيكُمْ مِنَ الْقُرْآنِ آيَاتٍ
أَوْجَبَتْ لَكُمْ بِهَا الْوِلَايَةَ وَالطَّاعَةَ، فَأْتَمَمْتُ بِأَخَوَيْنِ
لَكَ مِنْ قَبْلِكَ، ثُمَّ بِكَ مِنْ بَعْدِهِمَا، فَكُنْتُ لَهُمَا شِيعَةً
مُتَدَيِّنًا، أَحْسَبُنِي هَادِيًا، وَأَخْطَأْتُ فِي التَّأْوِيلِ، وَقَدِيمًا
أَخْطَأَ الْمُتَأَوِّلُونَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذَا جَاءَكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ
عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ
ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْأَنْعَامِ:
54 ]. وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّ أَخَاكَ السَّفَّاحَ ظَهَرَ فِي
صُورَةِ مَهْدِيٍّ، وَكَانَ ضَالًّا; أَمَرَنِي أَنْ أُجَرِّدَ السَّيْفَ،
وَأَقْتُلَ بِالظِّنَّةِ، وَأُقْدِمَ بِالشُّبْهَةِ، وَأَرْفَعَ الرَّحْمَةَ وَلَا
أُقِيلَ الْعَثْرَةَ، فَوَتَرْتُ أَهْلَ الدُّنْيَا فِي طَاعَتِكُمْ، وَتَوْطِئَةِ
سُلْطَانِكُمْ حَتَّى عَرَفَكُمْ مَنْ كَانَ جَهِلَكُمْ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ تَدَارَكَنِي مِنْهُ بِالنَّدَمِ، وَاسْتَنْقَذَنِي بِالتَّوْبَةِ،
فَإِنْ يَعْفُ عَنِّي وَيَصْفَحْ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا،
وَإِنْ يُعَاقِبْنِي فَبِذُنُوبِي، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا الْمُجْرِمُ
الْعَاصِي، فَإِنَّ أَخِي كَانَ إِمَامَ هُدًى، يَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى
بَيِّنَةٍ مِنَ اللَّهِ، فَأَوْضَحَ لَكَ السَّبِيلَ، وَحَمَلَكَ عَلَى
الْمَنْهَجِ، فَلَوْ بِأَخِي اقْتَدَيْتَ مَا كُنْتَ عَنِ الْحَقِّ حَائِدًا،
وَعَنِ الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ صَادِرًا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْنَحْ لَكَ
أَمْرَانِ إِلَّا كُنْتَ لِأَرْشَدِهِمَا تَارِكًا، وَلَأَغْوَاهُمَا مُوَافِقًا،
تَقْتُلُ قَتْلَ الْفَرَاعِنَةِ، وَتَبْطِشُ بَطْشَ الْجَبَابِرَةِ، وَتَحْكُمُ
بِالْجَوْرِ حُكْمَ
الْمُفْسِدِينَ، ثُمَّ مِنْ خَبَرِي أَيُّهَا الْفَاسِقُ
أَنِّي قَدْ وَلَّيْتُ مُوسَى بْنَ كَعْبٍ خُرَاسَانَ، وَأَمَرْتُهُ بِالْمُقَامِ
بِنَيْسَابُورَ، فَإِنْ أَرَدْتَ خُرَاسَانَ لَقِيَكَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ
قُوَّادِي وَشِيعَتِي، وَأَنَا مُوَجِّهٌ لِلِقَائِكَ أَقْرَانَكَ، فَاجْمَعْ
كَيْدَكَ وَأَمْرَكَ غَيْرَ مُسَدَّدٍ وَلَا مُوَفَّقٍ، وَحَسْبُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وَلَمْ يَزَلِ الْمَنْصُورُ يُرَاسِلُهُ تَارَةً بِالرَّغْبَةِ وَتَارَةً
بِالرَّهْبَةِ، وَيَسْتَخِفُّ أَحْلَامَ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ
وَالرُّسُلِ الَّذِينَ يَبْعَثُ بِهِمْ أَبُو مُسْلِمٍ، حَتَّى حَسَّنُوا لَهُ فِي
رَأْيِهِ الْقُدُومَ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ سِوَى أَمِيرٍ مَعَهُ يُقَالُ لَهُ:
نَيْزَكُ. فَإِنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى أَبَا مُسْلِمٍ
قَدِ انْصَاعَ مَعَهُمْ قَالَ:
مَا لِلرِّجَالِ مَعَ الْقَضَاءِ مَحَالَةٌ ذَهَبَ الْقَضَاءُ بِحِيلَةِ
الْأَقْوَامِ
وَأَشَارَ عَلَيْهِ، كَمَا تَقَدَّمَ، بِأَنْ يَبْدُرَ إِلَى قَتْلِ الْخَلِيفَةِ
إِنْ أَمْكَنَهُ، فَمَا أَمْكَنَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا
مُسْلِمٍ لَمَّا قَدِمَ الْمَدَائِنَ تَلَقَّاهُ الْأُمَرَاءُ عَنْ أَمْرِ
الْخَلِيفَةِ، فَمَا وَصَلَ إِلَّا آخِرَ النَّهَارِ، وَقَدْ أَشَارَ أَبُو
أَيُّوبَ كَاتِبُ الرَّسَائِلِ عَلَى الْخَلِيفَةِ أَنْ لَا يَقْتُلَهُ يَوْمَهُ
هَذَا، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ أَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ،
وَأَظْهَرَ احْتِرَامَهُ، وَقَالَ: اذْهَبِ اللَّيْلَةَ فَأَذْهِبْ عَنْكَ
وَعْثَاءَ السَّفَرِ، ثُمَّ ائْتِنِي مِنَ الْغَدِ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ
أَرْصَدَ لَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ مَنْ يَقْتُلُهُ، مِنْهُمْ; عُثْمَانُ بْنُ
نَهِيكٍ، وَشَبِيبُ بْنُ
وَاجٍ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رُسُلًا تَتْرَى لِيَقْدَمَ عَلَيْهِ وَيُقَالَ: بَلْ أَقَامَ أَيَّامًا يُظْهِرُ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْإِكْرَامَ وَالِاحْتِرَامَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ مِنْهُ الْوَحْشَةُ، فَخَافَ أَبُو مُسْلِمٍ، وَاسْتَشْفَعَ بِعِيسَى بْنِ مُوسَى، وَقَالَ: إِنِّي أَخَافُهُ عَلَى نَفْسِي. فَقَالَ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ، فَانْطَلِقْ فَأَنَا آتٍ وَرَاءَكَ، وَأَنْتَ فِي ذِمَّتِي حَتَّى آتِيَكَ - وَلَمْ يَكُنْ مَعَ عِيسَى بْنِ مُوسَى خَبَرٌ بِمَا يُرِيدُ بِهِ الْخَلِيفَةُ - فَجَاءَ أَبُو مُسْلِمٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى الْخَلِيفَةِ فَقَالُوا لَهُ: اجْلِسْ هَاهُنَا; فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَتَوَضَّأُ. فَجَلَسَ وَهُوَ يَوَدُّ أَنْ يَطُولَ مَجْلِسُهُ لِيَجِيءَ عِيسَى بْنُ مُوسَى فَأَبْطَأَ، وَأَذِنَ لَهُ الْخَلِيفَةُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ يُعَاتِبُهُ فِي أَشْيَاءَ صَدَرَتْ مِنْهُ، فَيَعْتَذِرُ عَنْهَا جَيِّدًا، حَتَّى قَالَ لَهُ: فَلِمَ قَتَلْتَ سُلَيْمَانَ بْنَ كَثِيرٍ، وَفُلَانًا وَفُلَانًا؟ قَالَ: لِأَنَّهُمْ عَصَوْنِي وَخَالَفُوا أَمْرِي. فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَنْصُورُ، وَقَالَ: وَيْحَكَ! أَنْتَ تَقْتُلُ إِذَا عُصِيتَ، وَأَنَا لَا أَقْتُلُكَ وَقَدْ عَصَيْتَنِي؟! وَصَفَّقَ بِيَدَيْهِ، وَكَانَتِ الْإِشَارَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُولَئِكَ الْمُرْصَدِينَ لِقَتْلِهِ، فَتَبَادَرُوا إِلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ، فَضَرَبَهُ أَحَدُهُمْ فَقَطَعَ حَمَائِلَ سَيْفِهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اسْتَبْقِنِي لِأَعْدَائِكَ. فَقَالَ: وَأَيُّ عَدُوٍّ أَعْدَى لِي مِنْكَ؟ ثُمَّ زَجَرَهُمُ الْمَنْصُورُ، فَقَطَّعُوهُ قِطَعًا قِطَعًا، وَلَفُّوهُ فِي عَبَاءَةٍ، وَدَخَلَ عِيسَى بْنُ مُوسَى عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: هَذَا أَبُو مُسْلِمٍ. فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: احْمَدِ اللَّهَ; فَإِنَّكَ هَجَمْتَ عَلَى نِعْمَةٍ، وَلَمْ تَهْجُمْ عَلَى نِقْمَةٍ. فَفِي
ذَلِكَ يَقُولُ أَبُو دُلَامَةَ:
أَبَا مُسْلِمٍ مَا غَيَّرَ اللَّهُ نِعْمَةً عَلَى عَبْدِهِ حَتَّى يُغَيِّرَهَا
الْعَبْدُ
أَبَا مُسْلِمٍ خَوَّفْتَنِي الْقَتْلَ فَانْتَحَى عَلَيْكَ بِمَا خَوَّفْتَنِي
الْأَسَدُ الْوَرْدُ
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمَنْصُورَ تَقَدَّمَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ
نَهِيكٍ وَشَبِيبِ بْنِ وَاجٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ حَرْبِ بْنِ قَيْسٍ وَآخَرَ مِنَ
الْحَرَسِ أَنْ يَكُونُوا قَرِيبًا مِنْهُ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو
مُسْلِمٍ، وَخَاطَبَهُ وَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى
فَلْيَقْتُلُوهُ، فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى الْمَنْصُورِ قَالَ لَهُ: مَا
فَعَلَ السَّيْفَانِ اللَّذَانِ أَصَبْتَهُمَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ؟
فَقَالَ: هَذَا أَحَدُهُمَا. قَالَ: أَرِنِيهِ. فَنَاوَلَهُ السَّيْفَ، فَوَضَعَهُ
الْمَنْصُورُ تَحْتَ رُكْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ
كَتَبْتَ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ - يَعْنِي السَّفَّاحَ - تَنْهَاهُ عَنِ
الْمَوَاتِ، أَرَدْتَ أَنْ تُعَلِّمَنَا الدِّينَ؟! قَالَ: إِنَّنِي ظَنَنْتُ أَنْ
أَخْذَهُ لَا يَحِلُّ، فَلَمَّا جَاءَنِي كِتَابُهُ عَلِمْتُ أَنَّ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ مَعْدِنُ الْعِلْمِ. قَالَ: فَلِمَ تَقَدَّمْتَ
عَلَيَّ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ؟ قَالَ: كَرِهْتُ اجْتِمَاعَنَا عَلَى الْمَاءِ،
فَيَضُرُّ ذَلِكَ بِالنَّاسِ، فَتَقَدَّمْتُ الْتِمَاسَ الرِّفْقِ. قَالَ: فَلِمَ
لَا رَجَعْتَ إِلَيَّ حِينَ أَتَاكَ خَبَرُ مَوْتِ أَبِي الْعَبَّاسِ؟ قَالَ:
كَرِهْتُ التَّضْيِيقَ عَلَى النَّاسِ، وَعَرَفْتُ أَنَّا نَجْتَمِعُ
بِالْكُوفَةِ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنِّي خِلَافٌ. قَالَ: فَجَارِيَةُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ أَرَدْتَ أَنْ تَتَّخِذَهَا لِنَفْسِكَ؟ قَالَ: لَا،
وَلَكِنِّي خِفْتَ أَنْ تَضِيعَ فَحَمَلْتُهَا فِي قُبَّةٍ، وَوَكَّلْتُ بِهَا
مَنْ يَحْفَظُهَا. ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَلَسْتَ الْكَاتِبَ إِلَيَّ تَبْدَأُ
بِنَفْسِكَ، وَالْكَاتِبَ
إِلَيَّ تَخْطُبُ أُمَيْنَةَ بِنْتَ عَلِيٍّ، وَتَزْعُمُ
أَنَّكَ ابْنُ سَلِيطِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ؟ ! هَذَا كُلُّهُ وَيَدُ
الْمَنْصُورِ فِي يَدِهِ يَعْرِكُهَا وَيُقَبِّلُهَا وَيَعْتَذِرُ، ثُمَّ قَالَ
لَهُ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى مُرَاغَمَتِي وَدُخُولِكَ إِلَى خُرَاسَانَ؟ قَالَ:
خِفْتُ أَنْ يَكُونَ دَخَلَكَ مِنِّي شَيْءٌ، فَقُلْتُ: آتِي خُرَاسَانَ،
وَأَكْتُبُ إِلَيْكَ بِعُذْرِي. قَالَ: فَلِمَ قَتَلْتَ سُلَيْمَانَ بْنَ كَثِيرٍ
وَكَانَ مِنْ نُقَبَائِنَا وَدُعَاتِنَا قِبَلَكَ؟ قَالَ: أَرَادَ خِلَافِي.
فَقَالَ: وَيْحَكَ! وَأَنْتَ أَرَدْتَ خِلَافِي وَعَصَيْتَنِي، قَتَلَنِي اللَّهُ
إِنْ لَمْ أَقْتُلْكَ. ثُمَّ ضَرَبَهُ بِعَمُودِ الْخَيْمَةِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ
أُولَئِكَ، فَضَرَبَهُ عُثْمَانُ فَقَطَعَ حَمَائِلَ سَيْفِهِ وَضَرَبَهُ شَبِيبٌ
فَقَطَعَ رِجْلَهُ وَاعْتَوَرَهُ بَقِيَّتُهُمْ، وَالْمَنْصُورُ يَصِيحُ:
وَيْحَكُمُ! اضْرِبُوا، قَطَعَ اللَّهُ أَيْدِيَكُمْ. ثُمَّ ذَبَحُوهُ وَقَطَّعُوهُ
قِطَعًا قِطَعًا، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي دِجْلَةَ. وَيُرْوَى أَنَّ الْمَنْصُورَ
لَمَّا قَتَلَ أَبَا مُسْلِمٍ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ أَبَا
مُسْلِمٍ، بَايَعْتَنَا وَبَايَعْنَاكَ، وَعَاهَدْتَنَا وَعَاهَدْنَاكَ،
وَوَفَّيْتَ لَنَا وَوَفَّيْنَا لَكَ، وَإِنَّا بَايَعْنَاكَ عَلَى أَنْ لَا
يَخْرُجُ عَلَيْنَا أَحَدٌ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ إِلَّا قَتَلْنَاهُ، فَخَرَجْتَ
عَلَيْنَا فَقَتَلْنَاكَ، وَحَكَمْنَا عَلَيْكَ حُكْمَكَ عَلَى نَفْسِكَ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرَانِي يَوْمَكَ يَا
عَدُوَّ اللَّهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ الْمَنْصُورُ عِنْدَ ذَلِكَ:
زَعَمْتَ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يُقْتَضَى فَاسْتَوْفِ بِالْكَيْلِ أَبَا مُجْرِمٍ
سُقِيتَ كَأْسًا كُنْتَ تَسْقِي بِهَا أَمَرَّ فِي
الْحَلْقِ مِنَ الْعَلْقَمِ
وَقَدْ خَطَبَ الْمَنْصُورُ النَّاسَ بَعْدَ قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ فَقَالَ:
أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تُنَفِّرُوا أَطْرَافَ النِّعْمَةِ بِقِلَّةِ الشُّكْرِ،
فَتَحِلَّ بِكُمُ النِّقْمَةُ، وَلَا تُسِرُّوا غِشَّ الْأَئِمَّةِ; فَإِنَّ
أَحَدًا لَا يُسِرُّ مِنْكُمْ شَيْئًا إِلَّا ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ،
وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ، وَطَوَالِعِ نَظَرِهِ، وَإِنَّا لَنْ نَجْهَلَ حُقُوقَكُمْ
مَا عَرَفْتُمْ حَقَّنَا، وَلَا نَنْسَى الْإِحْسَانَ إِلَيْكُمْ مَا ذَكَرْتُمْ
فَضْلَنَا، وَمَنْ نَازَعَنَا هَذَا الْقَمِيصَ أَوَطْأْنَا أُمَّ رَأَسِهِ
خَبِيءَ هَذَا الْغِمْدِ، وَإِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ بَايَعَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ
نَكَثَ بَيْعَتَنَا وَأَظْهَرَ غِشَّنَا لَنَا فَقَدَ أَبَاحَنَا دَمَهُ،
وَنَكَثَ، وَغَدَرَ، وَفَجَرَ، وَكَفَرَ، فَحَكَمْنَا عَلَيْهِ لِأَنْفُسِنَا
حُكْمَهُ عَلَى غَيْرِهِ لَنَا، وَإِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ أَحْسَنَ مُبْتَدِئًا
وَأَسَاءَ مُعَقِّبًا، وَأَخَذَ مِنَ النَّاسِ بِنَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَانَا،
وَرَجَحَ قَبِيحُ بَاطِنِهِ عَلَى حُسْنِ ظَاهِرِهِ، وَعَلِمْنَا مِنْ خُبْثِ
سَرِيرَتِهِ وَفَسَادِ نِيَّتِهِ مَا لَوْ عَلِمَ اللَّائِمُ لَنَا فِيهِ،
لَعَذَرَنَا فِي قَتْلِهِ، وَعَنَّفَنَا فِي إِمْهَالِهِ، وَمَا زَالَ يَنْقُضُ
بَيْعَتَهُ وَيَخْفِرُ ذِمَّتَهُ حَتَّى أَحَلَّ لَنَا عُقُوبَتَهُ، وَأَبَاحَنَا
دَمَهُ، فَحَكَمْنَا فِيهِ حُكْمَهُ فِي غَيْرِهِ، وَلَمْ يَمْنَعْنَا الْحَقُّ لَهُ
مِنْ إِمْضَاءِ الْحَقِّ فِيهِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ النَّابِغَةُ
الذُّبْيَانِيُّ لِلنُّعْمَانِ - يَعْنِي ابْنَ الْمُنْذِرِ: -
فَمَنْ أَطَاعَكَ فَانْفَعْهُ بِطَاعَتِهِ كَمَا أَطَاعَكَ وَادْلُلْهُ عَلَى
الرَّشَدِ
وَمَنْ عَصَاكَ فَعَاقِبْهُ مُعَاقَبَةً تَنْهَى الظَّلُومَ
وَلَا تَقْعُدْ عَلَى ضَمَدِ
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ، بِسَنَدِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ الْمُبَارَكِ سُئِلَ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ; أَكَانَ خَيْرًا أَمِ الْحَجَّاجُ؟
فَقَالَ: لَا أَقُولُ إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ كَانَ خَيْرًا مِنْ أَحَدٍ، وَلَكِنْ
كَانَ الْحَجَّاجُ شَرًّا مِنْهُ.
وَقَدِ اتَّهَمَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَرَمَوْهُ بِالزَّنْدَقَةِ،
وَلَمْ أَرَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ
مِمَّنْ يَخَافُ اللَّهَ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَقَدِ ادَّعَى التَّوْبَةَ مِمَّا كَانَ
سَفَكَ مِنَ الدِّمَاءِ فِي إِقَامَةِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِأَمْرِهِ.
وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ارْتَدَيْتُ الصَّبْرَ، وَآثَرْتُ
الْكِتْمَانَ، وَحَالَفْتُ الْأَحْزَانَ وَالْأَشْجَانَ، وَسَامَحْتُ
الْمَقَادِيرَ وَالْأَحْكَامَ حَتَّى بَلَغْتُ غَايَةَ هِمَّتِي، وَأَدْرَكْتُ
نِهَايَةَ بُغْيَتِي. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
قَدْ نِلْتُ بِالْحَزْمِ وَالْكِتْمَانِ مَا عَجَزَتْ عَنْهُ مُلُوكُ بَنِي
مَرْوَانَ إِذْ حَشَدُوا
مَا زِلْتُ أَضْرِبُهُمْ بِالسَّيْفِ فَانْتَبَهُوا مِنْ رَقْدَةٍ لَمْ يَنَمْهَا
قَبْلَهُمْ أَحَدُ
طَفِقْتُ أَسْعَى عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ وَالْقَوْمُ فِي مُلْكِهِمْ
بِالشَّامِ قَدْ رَقَدُوا
وَمَنْ رَعَى غَنَمًا فِي أَرْضِ مَسْبَعَةٍ وَنَامَ عَنْهَا تَوَلَّى رَعْيَهَا
الْأَسَدُ
وَقَدْ كَانَ قَتَلَهُ بِالْمَدَائِنِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ -
وَقِيلَ: لِخَمْسٍ بَقِينَ.
وَقِيلَ: لِأَرْبَعٍ. وَقِيلَ: لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا -
مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. أَعْنِي سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ ابْتِدَاءُ ظُهُورِهِ فِي رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ
وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَقُتِلَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَةٍ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قُتِلَ بِبَغْدَادَ فِي سَنَةِ
أَرْبَعِينَ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ; فَإِنَّ بَغْدَادَ لَمْ تَكُنْ
بُنِيَتْ بَعْدُ، وَقَدْ رَدَّ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِي
" تَارِيخِهِ ". وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ إِنَّ الْمَنْصُورَ شَرَعَ فِي تَأْلِيفِ أَصْحَابِ أَبِي مُسْلِمٍ
بِالْأَعْطِيَةِ وَالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَاسْتَدْعَى أَبَا إِسْحَاقَ،
وَكَانَ مِنْ أَعَزِّ أَصْحَابِ أَبِي مُسْلِمٍ عِنْدَهُ، وَكَانَ عَلَى
شُرْطَتِهِ، وَهَمَّ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
وَاللَّهِ مَا أَمِنْتُ قَطُّ إِلَّا فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَمَا مِنْ مَرَّةٍ
كُنْتُ أَدْخُلُ عَلَيْهِ إِلَّا تَحَنَّطْتُ وَلَبِسْتُ أَكْفَانِي. ثُمَّ كَشَفَ
عَنْ ثِيَابِهِ الَّتِي تَلِي جَسَدَهُ فَإِذَا هُوَ مُحَنَّطٌ، وَعَلَيْهِ
أَدْرَاعُ أَكْفَانٍ، فَرَقَّ لَهُ الْمَنْصُورُ، وَأَطْلَقَهُ.
وَذِكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ قَتَلَ فِي حُرُوبِهِ وَمَا كَانَ
يَتَعَاطَاهُ لِأَجْلِ دَوْلَةِ
بَنِي الْعَبَّاسِ، سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ صَبْرًا. وَقَدْ
قَالَ لِلْمَنْصُورِ وَهُوَ يُعَاتِبُهُ عَلَى مَا كَانَ يَصْنَعُهُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، لَا يُقَالُ لِي مِثْلُ هَذَا بَعْدَ بَلَائِي وَمَا كَانَ
مِنِّي. فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ أَمَةٌ
مَكَانَكَ لَأَجْزَأَتْ عَنْكَ، إِنَّمَا عَمِلْتَ مَا عَمِلْتَ فِي دَوْلَتِنَا
وَبِرِيحِنَا، لَوْ كَانَ ذَلِكَ إِلَيْكَ لَمَا قَطَعْتَ فَتِيلًا.
وَلَمَّا قَتَلَهُ الْمَنْصُورُ لُفَّ فِي كِسَاءٍ وَهُوَ مُقَطَّعٌ إِرَبًا
إِرَبًا، فَدَخَلَ عِيسَى بْنُ مُوسَى الَّذِي كَانَ وَعَدَهُ أَنْ يَلْحَقَهُ
لِيَشْفَعَ فِيهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْنَ أَبُو مُسْلِمٍ؟
قَالَ: قَدْ كَانَ هَاهُنَا آنِفًا. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ
عَرَفْتَ طَاعَتَهُ وَنَصِيحَتَهُ، وَرَأْيَ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ فِيهِ.
فَقَالَ لَهُ: يَا أَنْوَكُ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ عَدُوًّا
أَعْدَى لَكَ مِنْهُ، هَا هُوَ ذَاكَ فِي الْبِسَاطِ. فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: خَلَعَ اللَّهُ
قَلْبَكَ! وَهَلْ كَانَ لَكُمْ مُلْكٌ أَوْ سُلْطَانٌ أَوْ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ
مَعَ أَبِي مُسْلِمٍ؟
ثُمَّ اسْتَدْعَى الْمَنْصُورُ بِرُءُوسِ الْأُمَرَاءِ، فَجَعَلَ يَسْتَشِيرُهُمْ
فِي قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِقَتْلِهِ، فَكُلُّهُمْ
يُشِيرُ بِقَتْلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِذَا تَكَلَّمَ أَسَرَّ كَلَامَهُ لِئَلَّا
يُنْقَلَ عَنْهُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ، فَلَمَّا أَطْلَعَهُمُ الْخَلِيفَةُ عَلَى
قَتْلِهِ أَفْرَحَهُمْ ذَلِكَ، وَأَظْهَرُوا سُرُورًا كَثِيرًا، ثُمَّ خَطَبَ
الْمَنْصُورُ النَّاسَ عَامَّةً بِذَلِكَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ.
ثُمَّ كَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى نَائِبِ أَبِي مُسْلِمٍ عَلَى أَمْوَالِهِ
وَحَوَاصِلِهِ بِكِتَابٍ
عَلَى لِسَانِ أَبِي مُسْلِمٍ، وَخَتَمَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِ
أَبِي مُسْلِمٍ، أَنْ يَقْدُمَ بِجَمِيعِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْحَوَاصِلِ
وَالْأَمْوَالِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى نَائِبِهِ وَعَلَيْهِ
الْخَاتَمُ بِكَمَالِهِ مَطْبُوعًا اسْتَرَابَ فِي الْأَمْرِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو
مُسْلِمٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ: إِنِّي إِذَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ كِتَابِي،
فَإِنَّمَا أَخْتِمُ بِنِصْفِ الْفَصِّ عَلَى الْكِتَابِ، فَإِذَا جَاءَكَ
الْخَاتَمُ بِكَمَالِهِ فَلَا تَقْبَلْ. فَامْتَنَعَ نَائِبُهُ مِنْ قَبُولِ
ذَلِكَ الْكِتَابِ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، فَأَرْسَلَ الْمَنْصُورُ إِلَيْهِ مَنْ
قَبَضَهُ لَهُ، وَقَتَلَ ذَلِكَ الرَّجُلَ.
وَكَتَبَ الْمَنْصُورُ إِلَى أَبِي دَاوُدَ خَالِدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِإِمْرَةِ
خُرَاسَانَ كَمَا وَعَدَهُ قَبْلَ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ
الْخُرَاسَانِيِّ. وَلِلَّهِ الْأَمْرُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ سِنْبَاذُ يَطْلُبُ بِدَمِ أَبِي مُسْلِمٍ
الْخُرَاسَانِيِّ، وَقَدْ كَانَ سِنْبَاذُ هَذَا مَجُوسِيًّا تَغَلَّبَ عَلَى
قُومِسَ وَأَصْبَهَانَ وَالرَّيَّ، وَتُسَمَّى بِفَيْرُوزَ أَصْبَهْبَذَ، فَبَعَثَ
إِلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ جَيْشًا هُمْ عَشَرَةُ آلَافِ فَارِسٍ
عَلَيْهِمْ جَهْوَرُ بْنُ مَرَّارٍ الْعِجْلِيُّ، فَالْتَقَوْا بَيْنَ هَمَذَانَ
وَالرَّيِّ عَلَى طَرَفِ الْمَفَازَةِ،
فَهَزَمَ جَهْوَرٌ لِسِنْبَاذَ، وَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ
سِتِّينَ أَلْفًا، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَنِسَاءَهُمْ، وَقُتِلَ سِنْبَاذُ
بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَانَتْ أَيَّامُهُ سَبْعِينَ يَوْمًا. وَأُخِذَ مَا كَانَ
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ أَبِي مُسْلِمٍ الَّتِي كَانَتْ بِالرَّيِّ.
وَخَرَجَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مُلَبَّدٌ. فِي
أَلْفٍ مِنَ الْخَوَارِجِ بِالْجَزِيرَةِ، فَجَهَّزَ لَهُ الْمَنْصُورُ جُيُوشًا
مُتَعَدِّدَةً كَثِيفَةً، فَكُلُّهَا تَنْفِرُ مِنْ مُلَبَّدٍ، ثُمَّ قَاتَلَهُ
حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ نَائِبُ الْجَزِيرَةِ فَهَزَمَهُ مُلَبَّدٌ، وَتَحَصَّنَ
مِنْهُ حُمَيْدٌ فِي بَعْضِ الْحُصُونِ، ثُمَّ صَالَحَهُ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ
عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، وَقَبِلَهَا مُلَبَّدٌ، وَانْقَلَعَ
عَنْهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَمُّ الْخَلِيفَةِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ. وَكَانَ
نَائِبَ الْمَوْصِلِ، وَعَلَى نِيَابَةِ الْكُوفَةِ عِيسَى بْنُ مُوسَى، وَعَلَى
الْبَصْرَةِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى الْجَزِيرَةِ حُمَيْدُ بْنُ
قَحْطَبَةَ، وَعَلَى مِصْرَ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى خُرَاسَانَ أَبُو دَاوُدَ
خَالِدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى الْحِجَازِ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَائِفَةٌ; لِشُغْلِ الْخَلِيفَةِ
بِسِنْبَاذَ.
وَمِنْ مَشَاهِيرِ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبُو مُسْلِمٍ
الْخُرَاسَانِيُّ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ
أَحَدُ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِمْ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي " التَّكْمِيلِ ".
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَةٍ
فِيهَا دَخَلَ قُسْطَنْطِينُ مَلِكُ الرُّومِ مَلَطِيَةَ عَنْوَةً، فَهَدَمَ
سُورَهَا، وَعَفَا عَمَّنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ مُقَاتِلِيهَا.
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ نَائِبُ مِصْرَ، فَبَنَى مَا
كَانَ هَدَمَهُ مَلِكُ الرُّومِ مِنْ سُوَرِ مَلَطْيَةَ وَأَطْلَقَ لِأَخِيهِ
عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَذَلِكَ أَعْطَى لِابْنِ
أَخِيهِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَفِيهَا بَايَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الَّذِي فَتَحَ دِمَشْقَ ثُمَّ
كَسَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَانْهَزَمَ إِلَى الْبَصْرَةِ،
وَاسْتَجَارَ بِأَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، حَتَّى بَايَعَ لِلْخَلِيفَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَرَجَعَ إِلَى طَاعَتِهِ، وَلَكِنْ حُبِسَ فِي سِجْنِ
بَغْدَادَ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِيهَا خَلَعَ جَهْوَرُ بْنُ مَرَّارٍ الْعِجْلِيُّ الْخَلِيفَةَ الْمَنْصُورَ،
وَذَلِكَ بَعْدَمَا كَسَرَ سِنْبَاذَ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى حَوَاصِلِهِ وَمَا
كَانَ عِنْدَهُ مِنْ أَمْوَالِ أَبِي مُسْلِمٍ، فَقَوِيَتْ نَفْسُهُ بِذَلِكَ،
وَظَنَّ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى مُنَابَذَةِ الْخَلِيفَةِ بِتِلْكَ الْأَمْوَالِ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ الْخُزَاعِيَّ فِي
جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَهُزِمَ جَهْوَرٌ، وَقُتِلَ
عَامَّةُ أَصْحَابِهِ، وَأُخِذَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ
وَالْحَوَاصِلِ، ثُمَّ لَحِقُوهُ فَقَتَلُوهُ.
وَفِيهَا قُتِلَ الْمُلَبَّدُ الْخَارِجِيُّ عَلَى يَدَيْ
خَازِمِ بْنِ خُزَيْمَةَ فِي ثَمَانِيَةِ آلَافٍ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ
الْمُلَبَّدِ مَا يَزِيدُ عَلَى الْأَلْفِ، وَانْهَزَمَ بَقِيَّتُهُمْ. وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْفَضْلُ بْنُ
صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ. وَالنُّوَّابُ فِيهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي
قَبْلَهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا: زَيْدُ بْنُ وَاقِدٍ، وَالْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، وَلَيْثٌ ابْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، فِي قَوْلٍ.
وَفِيهَا كَانَتْ خِلَافَةُ الدَّاخِلِ عَلَى بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، وَهُوَ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ الْهِشَامِيُّ، كَانَ قَدْ دَخَلَ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ فَاجْتَازَ
بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِقَوْمٍ يَقْتَتِلُونَ عَلَى عَصَبِيَّةِ
الْيَمَانِيَةِ وَالْمُضَرِيَّةِ، فَبَعَثَ مَوْلَاهُ بَدْرًا إِلَيْهِمْ
فَاسْتَمَالَهُمْ إِلَيْهِ، فَبَايَعُوهُ وَدَخَلَ بِهِمْ، فَفَتَحَ بِلَادَ
الْأَنْدَلُسِ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، وَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ نَائِبِهَا
يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ
عُقْبَةَ بْنِ نَافِعٍ الْفِهْرِيِّ وَقَتَلَهُ، وَسَكَنَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
قُرْطُبَةَ، وَاسْتَمَرَّ فِي خِلَافَتِهِ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَةٍ - إِلَى سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فَتُوُفِّيَ فِيهَا، وَلَهُ فِي الْمُلْكِ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً
وَأَشْهُرٌ.
ثُمَّ قَامَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ هِشَامٌ سِتَّ سِنِينَ وَأَشْهُرًا ثُمَّ
مَاتَ، فَوَلِي وَلَدُهُ الْحَكَمُ بْنُ هِشَامٍ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً
وَأَشْهُرًا، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ
ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ ابْنُهُ الْمُنْذِرُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ ابْنُ
ابْنِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ الْمُنْذِرِ. وَكَانَتْ أَيَّامُهُ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةِ بِدَهْرٍ، ثُمَّ
زَالَتْ تِلْكَ الدَّوْلَةُ كَمَا سَنَذْكُرُ، ثُمَّ انْقَضَتْ تِلْكَ السُّنُونَ
وَأَهْلُهَا فَكَأَنَّهُمْ عَلَى مِيعَادٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَةٍ
فِيهَا أَكْمَلَ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ بِنَاءَ مَلَطْيَةَ، ثُمَّ غَزَا الصَّائِفَةَ
عَلَى طَرِيقِ الْحَدَثِ، فَوَغَلَ فِي بِلَادِ الرُّومِ، وَغَزَا مَعَهُ
أُخْتَاهُ أُمُّ عِيسَى وَلُبَابَةُ ابْنَتَا عَلِيٍّ، وَكَانَتَا نَذَرَتَا إِنْ
زَالَ مُلْكُ بَنِي أُمَيَّةَ أَنْ تُجَاهِدَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَفِيهَا كَانَ الْفِدَاءُ الَّذِي حَصَلَ بَيْنَ الْمَنْصُورِ وَمَلِكِ الرُّومِ،
فَاسْتَنْقَذَ بَعْضَ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ
صَائِفَةٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ، وَذَلِكَ
لِاشْتِغَالِ الْمَنْصُورِ بِأَمْرِ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، كَمَا
سَنَذْكُرُهُ، وَلَكِنْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ قَحْطَبَةَ غَزَا
الصَّائِفَةَ مَعَ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ سَنَةَ
أَرْبَعِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا وَسَّعَ الْمَنْصُورُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَكَانَتْ هَذِهِ
السَّنَةُ خِصْبَةً جِدًّا، فَكَانَ
يُقَالُ لَهَا: سَنَةُ الْخِصْبِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمَنْصُورُ عَمَّهُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَلِيٍّ عَنْ إِمْرَةِ
الْبَصْرَةِ - وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ -
فَاخْتَفَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ وَأَصْحَابُهُ خَوْفًا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ، فَبَعَثَ الْمَنْصُورُ إِلَى نَائِبِهِ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَهُوَ
سُفْيَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، يَسْتَحِثُّهُ فِي إِحْضَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَلِيٍّ إِلَيْهِ، فَبَعَثَهُ فِي أَصْحَابِهِ، فَقَتَلَ بَعْضَهُمْ، وَسَجَنَ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ، وَبَعَثَ بَقِيَّةَ أَصْحَابِهِ إِلَى أَبِي دَاوُدَ
نَائِبِ خُرَاسَانَ، فَقَتَلَهُمْ هُنَاكَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَمْرُو بْنُ مُهَاجِرٍ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْهَادِ، وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، أَحَدُ الْعُبَّادِ وَصَاحِبُ الْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا ثَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْجُنْدِ عَلَى أَبِي دَاوُدَ نَائِبِ خُرَاسَانَ،
وَحَاصَرُوا دَارَهُ، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ يَسْتَغِيثُ بِجُنْدِهِ
لِيَحْضُرُوا إِلَيْهِ، وَاتَّكَأَ عَلَى آجُرَّةٍ فِي الْحَائِطِ، فَانْكَسَرَتْ
بِهِ، فَسَقَطَ فَانْكَسَرَ ظَهْرُهُ، فَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَخَلَفَهُ عَلَى
خُرَاسَانَ عِصَامٌ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ، حَتَّى قِدَمَ الْأَمِيرُ عَلَيْهَا مِنْ
جِهَةِ الْخَلِيفَةِ، وَهُوَ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْأَزْدِيُّ، فَتَسَلَّمَ بِلَادَ خُرَاسَانَ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ
بِهَا; لِأَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى خِلَافَةِ آلِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَحَبَسَ آخَرِينَ، وَأَخَذَ نُوَّابَ أَبِي دَاوُدَ
بِجِبَايَةِ الْأَمْوَالِ الْمُنْكَسِرَةِ عِنْدَهُمْ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْخَلِيفَةُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ; أَحْرَمَ
فِي الْحِيرَةِ، وَرَجَعَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَجِّ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ
رَحَلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَزَارَهُ وَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ سَلَكَ الشَّامَ
إِلَى الرَّقَّةِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْهَاشِمِيَّةِ; هَاشِمِيَّةِ الْكُوفَةِ.
وَنُوَّابُ الْأَقَالِيمِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، سِوَى
خُرَاسَانَ، فَإِنَّهُ مَاتَ نَائِبُهَا أَبُو دَاوُدَ، فَخَلَفَهُ مَكَانَهُ
عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَزْدِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ دَاوُدُ ابْنُ أَبِي هِنْدَ، وَأَبُو حَازِمٍ سَلَمَةُ بْنُ
دِينَارٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ
أَبِي صَالِحٍ، وَعُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ، وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ السَّكُونِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ
وَمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَتْ طَائِفَةٌ يُقَالُ لَهُمْ: الرَّاوَنْدِيَّةُ. عَلَى
الْمَنْصُورِ.
ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْمَدَائِنِيِّ أَنَّ أَصْلَهُمْ مِنْ خُرَاسَانَ،
وَهُمْ عَلَى رَأْيِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ، كَانُوا يَقُولُونَ
بِالتَّنَاسُخِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ رُوحَ آدَمَ انْتَقَلَتْ إِلَى عُثْمَانَ
بْنِ نَهِيكٍ، وَأَنَّ رَبَّهُمُ الَّذِي يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ أَبُو
جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ، وَأَنَّ الْهَيْثَمَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جِبْرِيلُ.
قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: فَأَتَوْا يَوْمًا قَصْرَ الْمَنْصُورِ،
فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: هَذَا قَصْرُ رَبِّنَا. فَأَرْسَلَ
الْمَنْصُورُ إِلَى رُؤَسَائِهِمْ، فَحَبَسَ مِنْهُمْ مِائَتَيْنِ، فَغَضِبُوا
مِنْ ذَلِكَ وَقَالُوا: عَلَامَ تَحْبِسُهُمْ؟ ثُمَّ عَمَدُوا إِلَى نَعْشٍ،
فَحَمَلُوهُ عَلَى كَوَاهِلِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَاجْتَمَعُوا
حَوْلَهُ، كَأَنَّهُمْ يُشَيِّعُونَ جِنَازَةً، فَاجْتَازُوا بِبَابِ السِّجْنِ،
فَأَلْقَوْا النَّعْشَ وَدَخَلُوا السِّجْنَ قَهْرًا، وَاسْتَخْرَجُوا مَنْ فِيهِ
مِنْ أَصْحَابِهِمْ، وَقَصَدُوا نَحْوَ الْمَنْصُورِ وَهُمْ فِي سِتِّمِائَةٍ، فَتَنَادَى
النَّاسُ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ الْبَلَدِ، وَخَرَجَ الْمَنْصُورُ مِنَ الْقَصْرِ
مَاشِيًا; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْقَصْرِ دَابَّةٌ يَرْكَبُهَا، ثُمَّ جِيءَ
بِدَابَّةٍ فَرَكِبَهَا وَقَصَدَ نَحْوَ الرَّاوَنْدِيَّةِ، وَجَاءَ النَّاسُ مِنْ
كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَجَاءَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ، فَلَمَّا رَأَى أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ تَرَجَّلَ وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّةِ الْمَنْصُورِ، وَقَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ارْجِعْ وَنَحْنُ نَكْفِيكَهُمْ. فَأَبَى، وَقَامَ أَهْلُ
السُّوقِ إِلَيْهِمْ فَقَاتَلُوهُمْ، وَجَاءَتِ الْجُيُوشُ
فَالْتَفُّوا عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَحَصَدُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ،
وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ، وَجَرَحُوا عُثْمَانَ بْنَ نَهِيكٍ بِسَهْمٍ
بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَمُرِّضَ أَيَّامًا ثُمَّ مَاتَ، فَوَلِيَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ الْمَنْصُورُ، وَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتَّى دُفِنَ، وَدَعَا لَهُ،
وَوَلَّى أَخَاهُ عِيسَى بْنَ نَهِيكٍ عَلَى الْحَرَسِ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ
بِالْمَدِينَةِ الْهَاشِمِيَّةِ مِنَ الْكُوفَةِ.
وَلَمَّا فَرَغَ الْمَنْصُورُ مِنْ قِتَالِ الرَّاوَنْدِيَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمَ
صَلَّى بِالنَّاسِ الظُّهْرَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا، ثُمَّ أُتِيَ بِالطَّعَامِ
فَقَالَ: أَيْنَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ؟ وَأَمْسَكَ عَنِ الطَّعَامِ حَتَّى جَاءَ
مَعْنٌ، فَأَجْلَسَهُ إِلَى جَانِبِهِ، ثُمَّ أَخَذَ فِي شُكْرِهِ لِمَنْ بِحَضْرَتِهِ;
لِمَا رَأَى مِنْ شَهَامَتِهِ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ مَعْنٌ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، لَقَدْ جِئْتُ وَإِنِّي لَوَجِلٌ، فَلَمَّا رَأَيْتُ
اسْتِهَانَتَكَ بِهِمْ وَإِقْدَامَكَ عَلَيْهِمْ قَوِيَ قَلْبِي بِذَلِكَ، وَمَا
ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا يَكُونُ فِي الْحَرْبِ هَكَذَا، فَذَاكَ الَّذِي
شَجَّعَنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَمَرَ لَهُ الْمَنْصُورُ بِعَشَرَةِ
آلَافٍ، وَرَضِيَ عَنْهُ، وَوَلَّاهُ الْيَمَنَ، وَكَانَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ
قَبْلَ ذَلِكَ مُخْتَفِيًا; لِأَنَّهُ قَاتَلَ الْمُسَوِّدَةَ مَعَ ابْنِ
هُبَيْرَةَ، فَلَمْ يَظْهَرْ إِلَّا فِي هَذَا الْيَوْمِ. فَلَمَّا رَأَى
الْخَلِيفَةُ صِدْقَهُ فِي قِتَالِهِ رَضِيَ عَنْهُ.
وَيُقَالُ: إِنَّ الْمَنْصُورَ قَالَ: أَخْطَأْتُ فِي ثَلَاثٍ; قَتَلْتُ أَبَا
مُسْلِمٍ وَأَنَا فِي جَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ، وَحِينَ خَرَجْتُ إِلَى الشَّامِ
وَلَوِ اخْتَلَفَ سَيْفَانِ بِالْعِرَاقِ لَذَهَبَتِ الْخِلَافَةُ، وَيَوْمَ
الرَّاوِنْدِيَّةِ لَوْ أَصَابَنِي سَهْمٌ غَرْبٌ لَذَهَبْتُ ضَيَاعًا. وَهَذَا
مِنْ حَزْمِهِ وَصَرَامَتِهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى الْمَنْصُورَ ابْنَهُ مُحَمَّدًا الْمَهْدِيَّ
وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، بِلَادَ
خُرَاسَانَ، وَعَزَلَ عَنْهَا عَبْدَ الْجَبَّارِ بْنَ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَتَلَ خَلْقًا مِنْ شِيعَةِ الْخَلِيفَةِ،
فَشَكَاهُ الْمَنْصُورُ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الْخَوْزِيِّ كَاتِبِ الرَّسَائِلِ،
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اكْتُبْ إِلَيْهِ لِيَبْعَثَ جَيْشًا مِنْ
خُرَاسَانَ لِغَزْوِ الرُّومِ، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ بَعَثْتَ إِلَيْهِ
مَنْ شِئْتَ فَأَخْرَجُوهُ مِنْهَا ذَلِيلًا لَيْسَ عِنْدَهُ كَثِيرُ أَحَدٍ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ بِذَلِكَ، فَرَدَّ الْجَوَابَ بِأَنَّ بِلَادَ
خُرَاسَانَ قَدْ عَاثَتْ بِهَا الْأَتْرَاكُ، وَمَتَى خَرَجَ مِنْهَا جَيْشٌ
فَسَدَ أَمْرُهَا. فَقَالَ الْمَنْصُورُ لِأَبِي أَيُّوبَ: مَاذَا تَرَى؟ قَالَ:
فَاكْتُبْ إِلَيْهِ بِأَنَّ بِلَادَ خُرَاسَانَ أَحَقُّ بِالْمَدَدِ مِنْ
غَيْرِهَا، وَقَدْ جَهَّزْتُ إِلَيْكَ بِالْجُنُودِ فَأَجَابَ بِأَنَّ بِلَادَ
خُرَاسَانَ فِي هَذَا الْعَامِ مُضَيَّقَةٌ أَقْوَاتُهَا، وَمَتَى دَخَلَهَا
جَيْشٌ أَفْسَدَهَا. فَقَالَ الْخَلِيفَةُ لِأَبِي أَيُّوبَ: مَا تَقُولُ؟
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا رَجُلٌ قَدْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ
وَخَلَعَ، فَلَا تُنَاظِرْهُ. فَحِينَئِذٍ بَعَثَ الْمَنْصُورُ ابْنَهُ مُحَمَّدًا
الْمَهْدِيَّ لِيُقِيمَ بِالرَّيِّ، وَبَعَثَ الْمَهْدِيُّ خَازِمَ بْنَ
خُزَيْمَةَ مُقَدِّمَةً بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى عَبْدِ الْجَبَّارِ، فَمَا زَالُوا
عَلَيْهِ حَتَّى هَزَمُوا مَنْ مَعَهُ، وَأَخَذُوهُ فَأَرْكَبُوهُ بَعِيرًا
مُحَوَّلًا وَجْهُهُ إِلَى نَاحِيَةِ ذَنَبِ الْبَعِيرِ، وَسَيَّرُوهُ كَذَلِكَ
فِي الْبِلَادِ حَتَّى أَقْدَمُوهُ عَلَى الْمَنْصُورِ، وَمَعَهُ ابْنُهُ
وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَضَرَبَ الْمَنْصُورُ عُنُقَهَ، وَسَيَّرَ ابْنَهُ
وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهِ إِلَى جَزِيرَةِ دَهْلَكَ فِي طَرَفِ الْيَمَنِ،
فَأَسَرَتْهُمُ الْهُنُودُ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ فَوِدِيَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَاسْتَقَرَّ الْمَهْدِيُّ نَائِبًا بِخُرَاسَانَ، وَأَمَرَهُ أَبُوهُ أَنْ
يَغْزُوَ طَبَرِسْتَانَ، وَأَنْ يُحَارِبَ الْأَصْبَهْبَذَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ
الْجُنُودِ، وَأَمَدَّهُ بِجَيْشٍ عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ الْعَلَاءِ، وَكَانَ
مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِحَرْبِ طَبَرِسْتَانَ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ
بِشَارٌ الشَّاعِرُ:
فَقُلْ لِلْخَلِيفَةِ إِنْ جِئْتَهُ نَصِيحًا وَلَا خَيْرَ فِي الْمُتَّهَمِ
إِذَا أَيْقَظَتْكَ حُرُوبُ الْعِدَا
فَنَبِّهْ لَهَا عُمَرًا ثُمَّ نَمْ فَتًى لَا يَنَامُ عَلَى دِمْنَةٍ
وَلَا يَشْرَبُ الْمَاءَ إِلَّا بِدَمْ
فَلَمَّا تَوَاقَفَتِ الْجُيُوشُ عَلَى طَبَرِسْتَانَ، فَتَحُوهَا وَحَصَرُوا
الْأَصْبَهْبَذَ حَتَّى أَلْجَئُوهُ إِلَى قَلْعَتِهِ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى مَا
فِيهَا مِنَ الذَّخَائِرِ، وَكَتَبَ الْمَهْدِيُّ إِلَى أَبِيهِ بِذَلِكَ، وَدَخَلَ
الْأَصْبَهْبَذُ بِلَادَ الدَّيْلَمِ، فَمَاتَ هُنَاكَ، وَكَسَرُوا أَيْضًا مَلِكَ
التُّرْكِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الْمَصْمُغَانُ. وَأَسَرُوا أُمَمًا مِنَ
الذَّرَارِي، فَهَذَا فَتْحُ طَبَرِسْتَانَ الْأَوَّلُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُرِغَ مِنْ بِنَاءِ الْمِصِّيصَةِ عَلَى يَدَيْ
جَبْرَئِيلَ بْنِ يَحْيَى الْخُرَاسَانِيِّ.
وَفِيهَا رَابَطَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامُ بِبِلَادِ مَلَطْيَةَ.
وَفِيهَا عُزِلَ زِيَادُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ إِمْرَةِ الْحِجَازِ،
وَوَلِيَ الْمَدِينَةَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ،
فَقَدِمَهَا فِي رَجَبٍ، وَوَلِيَ مَكَّةَ وَالطَّائِفَ الْهَيْثَمُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ الْعَتَكِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُوسَى بْنُ كَعْبٍ، وَهُوَ عَلَى شُرْطَةِ الْمَنْصُورِ
وَعَلَى مِصْرَ وَالْهِنْدِ، وَنَائِبُهُ فِي الْهِنْدِ ابْنُهُ.
وَفِيهَا وَلِيَ مِصْرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ ثُمَّ عُزِلَ، وَوَلِيَ
عَلَيْهَا نَوْفَلُ بْنُ الْفُرَاتِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ، وَهُوَ نَائِبُ قِنِّسْرِينَ
وَحِمْصَ وَدِمَشْقَ،
وَبَقِيَّةِ الْبِلَادِ عَلَيْهَا مَنْ ذَكَرْنَا فِي
الَّتِي قَبْلَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ صَاحِبُ
الْمَغَازِي، وَأَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ فِي قَوْلٍ. وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَلَعَ عُيَيْنَةُ بْنُ مُوسَى بْنِ كَعْبٍ نَائِبُ السِّنْدِ
الْخَلِيفَةَ، فَجَهَّزَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْعَسَاكِرَ صُحْبَةَ عُمَرَ بْنِ
حَفْصِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ، وَوَلَّاهُ السِّنْدَ وَالْهِنْدَ، فَحَارَبَهُ
عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، وَقَهَرَهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَتَسَلَّمَهَا مِنْهُ.
وَفِيهَا نَكَثَ أَصْبَهْبَذُ طَبَرِسْتَانَ الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ طَائِفَةً مِمَّنْ كَانَ بِطَبَرِسْتَانَ،
فَجَهَّزَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْجُيُوشَ صُحْبَةَ خَازِمِ بْنِ خُزَيْمَةَ،
وَرَوْحِ بْنِ حَاتِمٍ، وَمَعَهُمْ مَرْزُوقٌ أَبُو الْخَصِيبِ، مَوْلَى
الْمَنْصُورِ، فَحَاصَرُوهُ مُدَّةً طَوِيلَةً، فَلَمَّا أَعْيَاهُمْ فَتْحُ
الْحِصْنِ الَّذِي هُوَ فِيهِ احْتَالُوا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا الْخَصِيبِ
قَالَ لَهُمُ: اضْرِبُونِي وَاحْلِقُوا رَأْسِي وَلِحْيَتِي. فَفَعَلُوا ذَلِكَ،
فَذَهَبَ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ مُغَاضِبٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَدَخَلَ الْحِصْنَ،
فَفَرِحَ بِهِ الْأَصْبَهْبَذُ، وَأَكْرَمَهُ وَقَرَّبَهُ، وَجَعَلَ أَبُو
الْخَصِيبِ يُظْهِرُ لَهُ مِنَ النُّصْحِ وَالْخِدْمَةِ حَتَّى خَدَعَهُ، وَحَظِيَ
عِنْدَهُ جِدًّا، وَجَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَتَوَلَّى فَتْحَ الْحِصْنِ
وَغَلْقَهُ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ عِنْدَهُ كَاتَبَ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْلَمَهُمْ
أَنَّ اللَّيْلَةَ الْفُلَانِيَّةَ فِي حَرَسِهِ، فَاقْتَرِبُوا مِنَ الْبَابِ
حَتَّى أَفْتَحَهُ لَكُمْ. فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ فَتَحَ
لِلْمُسْلِمِينَ الْبَابَ، وَدَخَلُوا فَقَتَلُوا مَنْ فِيهِ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ
وَسَبَوُا الذُّرِّيَّةَ، وَامْتَصَّ الْأَصْبَهْبَذُ خَاتَمًا مَسْمُومًا
فَمَاتَ. فَكَانَ مِمَّنْ أُسِرَ يَوْمَئِذٍ أُمُّ الْمَنْصُورِ ابْنِ
الْمَهْدِيِّ، وَأُمُّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ الْمَهْدِيِّ، وَكَانَتَا مِنْ بَنَاتِ
الْمُلُوكِ.
وَفِيهَا بَنَى الْمَنْصُورُ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ
قِبْلَتَهُمُ الَّتِي يُصَلُّونَ عِنْدَهَا بِالْحِمَّانِ، وَوَلِيَ بِنَاءَهُ
سَلَمَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جَابِرٍ نَائِبُ الْفُرَاتِ وَالْأُبُلَّةِ. وَصَامَ
الْمَنْصُورُ شَهْرَ رَمَضَانَ بِالْبَصْرَةِ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ الْعِيدَ فِي
ذَلِكَ الْمُصَلَّى.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمَنْصُورُ نَوْفَلَ بْنَ الْفُرَاتِ عَنْ إِمْرَةِ مِصْرَ،
وَوَلَّى عَلَيْهَا حُمَيْدَ بْنَ قَحْطَبَةَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ،
عَمُّ الْخَلِيفَةِ وَنَائِبُ الْبَصْرَةِ، كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ
لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَهُوَ ابْنُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ
سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ عَبْدُ الصَّمَدِ.
رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي بُرْدَةَ ابْنِ أَبِي مُوسَى. وَعَنْهُ
جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ; بَنُوهُ جَعْفَرٌ وَمُحَمَّدٌ وَزَيْنَبُ، وَالْأَصْمَعِيُّ.
وَكَانَ قَدْ شَابَ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَخَضَّبَ لِحْيَتَهُ مِنَ
الشَّيْبِ فِي ذَلِكَ السِّنِّ، وَكَانَ كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا، كَانَ
يَعْتِقُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ نَسَمَةٍ، وَبَلَغَتْ
صِلَاتُهُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَسَائِرِ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ خَمْسَةَ آلَافِ
أَلْفٍ.
وَاطَّلَعَ يَوْمًا مِنْ قَصْرِهِ، فَرَأَى نِسْوَةً يَغْزِلْنَ فِي دَارٍ مَنْ
دُورِ الْبَصْرَةِ، فَاتَّفَقَ أَنْ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق