: 29//1 البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).بِإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ بِمَكَّةَ لِلْقَائِمِ بِأَمْرِ
اللَّهِ وَلِلسُّلْطَانِ بِمَكَّةَ، وَقَطْعِ الْخُطْبَةِ لِلْمِصْرِيِّينَ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَخِلْعَةً سَنِيَّةً،
وَأَجْرَى لَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ.
وَفِيهَا تَزَوَّجَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ ابْنُ جَهِيرٍ بِابْنَةِ نِظَامِ
الْمُلْكِ بِالرَّيِّ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو الْغَنَائِمِ الْعَلَوِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْمَشَاهِيرِ:
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَارِّي أَبُو الْجَوَائِزِ
الْوَاسِطِيُّ سَكَنَ بَغْدَادَ دَهْرًا طَوِيلًا، وَكَانَ أَدِيبًا شَاعِرًا
ظَرِيفًا وُلِدَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَمَاتَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ مِائَةٍ وَعَشْرِ سِنِينَ وَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ
قَوْلُهُ:
وَا حَزَنِي مِنْ قَوْلِهَا خَانَ عُهُودِي وَلَهَا وَحَقِّ مَنْ صَيَّرَنِي
وَقْفًا عَلَيْهَا وَلَهَا مَا خَطَرَتْ بِخَاطِرِي
إِلَّا كَسَتْنِي وَلَهَا
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَهْلٍ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بِشْرَانَ النَّحْوِيُّ الْوَاسِطِيُّ وُلِدَ سَنَةَ
ثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْأَدَبِ وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ
الرِّحْلَةُ فِي اللُّغَةِ وَلَهُ
شِعْرٌ حَسَنٌ فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
يَا شَائِدًا لِلْقُصُورِ مَهْلًا أَقْصِرْ فَقَصْرُ الْفَتَى الْمَمَاتُ
لَمْ يَجْتَمِعْ شَمْلُ أَهْلِ قَصْرٍ إِلَّا وَقُصْرَاهُمُ الشَّتَاتُ
وَإِنَّمَا الْعَيْشُ مِثْلُ ظِلٍّ مُنْتَقِلٍ مَا لَهُ ثَبَاتُ
وَقَوْلُهُ:
وَدَّعْتُهُمْ وَلِيَ الدُّنْيَا مُوَدِّعَةٌ وَرُحْتُ مَا لِي سِوَى ذِكْرَاهُمُ
وَطَرُ
وَقُلْتُ يَا لَذَّتِي بِينِي لِبَيْنِهِمُ فَإِنَّ صَفْوَ حَيَاتِي بَعْدَهُمْ
كَدَرُ
لَوْلَا تَعَلُّلُ قَلْبِي بِالرَّجَاءِ لَهُمْ أَلْفَيْتُهُ إِنْ حَدَوْا
بِالْعِيسِ يَنْفَطِرُ
يَا لَيْتَ عِيسَهُمُ يَوْمَ النَّوَى نُحِرَتْ أَوْ لَيْتَهَا لِلضَّوَارِي
بِالْفَلَا جَزَرُ
يَا سَاعَةَ الْبَيْنِ أَنْتِ السَّاعَةُ اقْتَرَبَتْ يَا لَوْعَةَ الْبَيْنِ
أَنْتِ النَّارُ تَسْتَعِرُ
وَقَوْلُهُ:
طَلَبْتُ صَدِيقًا فِي الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا فَأَعْيَا طِلَابِي أَنْ أُصِيبَ
صَدِيقَا
بَلَى مَنْ تَسَمَّى بِالصَّدِيقِ مَجَازَةً وَلَمْ يَكُ فِي مَعْنَى الْوِدَادِ
صَدُوقَا
فَطَلَّقْتُ وُدَّ الْعَالَمِينَ صَرِيمَةً وَأَصْبَحْتُ مِنْ أَسْرِ الْحِفَاظِ
طَلِيقَا
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
وَفِيهَا أَقْبَلُ مَلِكُ الرُّومِ أَرْمَانُوسُ فِي جَحَافِلَ أَمْثَالِ
الْجِبَالِ مِنَ الرُّومِ وَالْكُرْجِ وَالْفِرِنْجِ وَعُدَدٍ عَظِيمَةٍ
وَتَجَمُّلٍ هَائِلٍ، وَمَعَهُ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا مِنَ الْبَطَارِقَةِ
مَعَ كُلِّ بِطْرِيقٍ مَا بَيْنَ أَلْفَيْ فَارِسٍ إِلَى خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ،
وَمَعَهُ مِنَ الْفِرِنْجِ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا، وَمِنَ الْغُزِّ
الَّذِينَ يَكُونُونَ وَرَاءَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا،
وَمَعَهُ مِائَةُ أَلْفِ نَقَّابٍ وَحَفَّارٍ، وَأَلْفُ رَوَزْجَارِيٍّ، وَمَعَهُ
أَرْبَعُمِائَةِ عَجَلَةٍ تَحْمِلُ النِّعَالَ وَالْمَسَامِيرَ، وَأَلْفَا
عَجَلَةٍ تَحْمِلُ السِّلَاحَ وَالسُّرُوجَ وَالْعَرَّادَاتِ وَالْمَجَانِيقَ،
مِنْهَا مَنْجَنِيقٌ يُمِدُّهُ أَلْفٌ وَمِائَتَا رَجُلٍ وَمِنْ عَزْمِهِ -
قَبَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنْ يَجْتَثَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَقَدْ
أَقْطَعَ بَطَارِقَتَهُ الْبِلَادَ حَتَّى بَغْدَادَ وَاسْتَوْصَى نَائِبَهَا
بِالْخَلِيفَةِ خَيْرًا فَقَالَ لَهُ: ارْفُقْ بِذَلِكَ الشَّيْخِ فَإِنَّهُ
صَاحِبُنَا، ثُمَّ إِذَا اسْتَوْسَقَتْ مَمَالِكُ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ لَهُمْ
مَالُوا عَلَى الشَّامِ وَأَهْلِهِ مَيْلَةً وَاحِدَةً فَاسْتَعَادُوهُ مِنْ
أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتَنْقَذُوهُ فِيمَا يَزْعُمُونَ، وَالْقَدَرُ
يَقُولُ: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ
يَعْمَهُونَ فَالْتَقَاهُ السُّلْطَانُ أَلْبُ أَرْسَلَانَ فِي جَيْشِهِ وَهُمْ
قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الرَّهْوَةُ فِي يَوْمِ
الْأَرْبِعَاءِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَخَافَ مِنْ كَثْرَةِ
الْمُشْرِكِينَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْفَقِيهُ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ الْبُخَارِيُّ بِأَنْ يَكُونَ وَقْتُ الْوَقْعَةِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ، حِينَ يَكُونُ الْخُطَبَاءُ يَدْعُونَ
لِلْمُجَاهِدِينَ، فَلَمَّا تَوَاجَهَ الْفِئَتَانِ نَزَلَ السُّلْطَانُ عَنْ
فَرَسِهِ، وَسَجَدَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَرَّغَ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ
وَدَعَا اللَّهَ وَاسْتَنْصَرَهُ، فَأَنْزَلَ نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
وَمَنَحَهُمْ أَكْتَافَ الْمُشْرِكِينَ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا لَا
يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَأُسِرَ مَلِكُهُمْ أَرْمَانُوسُ، أَسَرَهُ غُلَامٌ
رُومِيٌّ، فَأَمَّرَهُ السُّلْطَانُ، وَأَعْطَاهُ شَيْئًا كَثِيرًا وَقَدْ كَانَ
هَذَا الْغُلَامُ عُرِضَ عَلَى نِظَامِ الْمُلْكِ الْوَزِيرِ فِي جُمْلَةِ
تَقْدِمَةٍ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: إِنَّهُ... وَإِنَّهُ...
يُثْنِي عَلَيْهِ فَرَدَّهُ، وَقَالَ كَهَيْئَةِ الْمُسْتَهْزِئِ بِهِ: لَعَلَّهُ
يَجِيئُنَا بِمَلِكِ الرُّومِ أَرْمَانُوسَ أَسِيرًا، فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَمَا
قَالَ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
فَلَمَّا أُوقِفَ أَرْمَانُوسُ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ
ضَرَبَهُ بِيَدِهِ ثَلَاثَ مَقَارِعَ، وَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا الْأَسِيرُ
بَيْنَ يَدَيْكَ مَاذَا كُنْتَ تَفْعَلُ؟ قَالَ: كُلَّ قَبِيحٍ. قَالَ فَمَا
ظَنُّكَ بِي؟ قَالَ: تَقْتُلُنِي أَوْ تُشَهِّرُنِي فِي بِلَادِكَ، فَأَمَّا
الْعَفْوُ وَأَخْذُ الْفِدَاءِ فَبَعِيدٌ، فَقَالَ: مَا عَزَمْتُ عَلَى غَيْرِ
الْعَفْوِ وَالْفِدَاءِ، فَافْتَدَى نَفْسَهُ مِنْهُ بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ
وَخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَنْ يُطْلِقَ كُلَّ أَسِيرٍ فِي بِلَادِ
الرُّومِ، وَعَلَى هُدْنَةٍ خَمْسِينَ سَنَةً، يَحْمِلُ فِيهَا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ
أَلْفَ دِينَارٍ، وَقَامَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ فَسَقَاهُ شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ،
وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَإِلَى نَحْوِ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ
إِجْلَالًا وَإِكْرَامًا،
فَأَطْلَقَ لَهُ الْمَلِكُ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ
لِيَتَجَهَّزَ بِهَا، وَأَطْلَقَ مَعَهُ جَمَاعَةً مِنَ الْبَطَارِقَةِ وَمِنْ
أَصْحَابِهِ، وَشَيَّعَهُ فَرْسَخًا، وَأَرْسَلَ مَعَهُ جَيْشًا يَخْدُمُونَهُ
وَيُحِيطُونَهُ وَيَحْفَظُونَهُ إِلَى بِلَادِهِ، وَمَعَهُمْ رَايَةٌ مَكْتُوبٌ
عَلَيْهَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بِلَادِهِ وَجَدَ الرُّومَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ
غَيْرَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، وَبَعَثَ مِنَ
الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ مَا يُقَارِبُ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ،
وَتَزَهَّدَ وَلَبِسَ الصُّوفَ، ثُمَّ اسْتَضَافَ مَلِكَ الْأَرْمَنِ فَأَخَذَهُ
فَكَحَلَهُ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى السُّلْطَانِ فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ يَتَقَرَّبُ
إِلَيْهِ بِهِ.
وَفِيهَا خَطَبَ صَاحِبُ حَلَبَ مَحْمُودُ بْنُ مِرْدَاسٍ لِلْقَائِمِ بِأَمْرِ
اللَّهِ وَلِلسُّلْطَانِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ مَعَهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ بِالْخِلَعِ، وَالْعَهْدِ مَعَ الشَّرِيفِ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيِّ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ نُورُ الْهُدَى أَبُو طَالِبٍ الزَّيْنَبِيُّ، وَخُطِبَ
بِمَكَّةَ لِلْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ
الْمِصْرِيِّينَ مِنْهَا، وَكَانَ يُخْطَبُ لَهُمْ فِيهَا مِائَةَ سَنَةٍ
فَانْقَطَعَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
ثَابِتِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَهْدِيٍّ، أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْحُفَّاظِ وَصَاحِبُ
" تَارِيخِ بَغْدَادَ " وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ
الْعَدِيدَةِ الْمُفِيدَةِ نَحْوٌ مِنْ سِتِّينَ مُصَنَّفًا
وَيُقَالُ بَلْ مِائَةُ مُصَنَّفٍ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقِيلَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ
وَتِسْعِينَ، وَأَوَّلُ سَمَاعِهِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَنَشَأَ
بِبَغْدَادَ وَتَفَقَّهَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ
وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ
الْكَثِيرَ وَرَحَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَنَيْسَابُورَ وَأَصْبَهَانَ وَهَمَذَانَ
وَالشَّامِ وَالْحِجَازِ، وَسُمِّيَ الْخَطِيبُ لِأَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ
بِدَرْزِيجَانَ وَسَمِعَ بِمَكَّةَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ الْقُضَاعِيِّ، وَقَرَأَ " صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ
" عَلَى كَرِيمَةَ بِنْتِ أَحْمَدَ فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ.
وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ فَحَظِيَ عِنْدَ الْوَزِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ
الْمُسْلِمَةِ. وَلَمَّا ادَّعَى الْيَهُودُ الْخَيَابِرَةُ أَنَّ مَعَهُمْ
كِتَابًا نَبَوِيًّا فِيهِ إِسْقَاطُ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ أَوْقَفَ ابْنُ
الْمُسْلِمَةِ الْخَطِيبَ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ فَقَالَ: هَذَا كَذِبٌ. فَقِيلَ
لَهُ: وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ فِيهِ شَهَادَةَ
مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ وَقَدْ
كَانَتْ خَيْبَرُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَإِنَّمَا أَسْلَمَ
مُعَاوِيَةُ يَوْمَ الْفَتْحِ وَفِيهِ شَهَادَةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَقَدْ كَانَ
تُوُفِّيَ عَامَ الْخَنْدَقِ سَنَةَ خَمْسٍ. فَأَعْجَبَ النَّاسَ ذَلِكَ. وَقَدْ
سُبِقَ الْخَطِيبُ إِلَى هَذَا النَّقْدِ كَمَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ فِي مُصَنَّفٍ
مُفْرَدٍ.
وَلَمَّا وَقَعَتْ فِتْنَةُ الْبَسَاسِيرِيِّ بِبَغْدَادَ سَنَةَ خَمْسِينَ،
خَرَجَ مِنْهَا إِلَى الشَّامِ فَأَقَامَ
بِدِمَشْقَ بِالْمِئْذَنَةِ الشَّرْقِيَّةِ مِنْ جَامِعِهَا
وَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى النَّاسِ الْحَدِيثَ النَّبَوِيَّ، وَكَانَ جَهْوَرِيَّ
الصَّوْتِ، يُسْمَعُ صَوْتُهُ مِنْ أَرْجَاءِ الْجَامِعِ كُلِّهَا، فَاتَّفَقَ
أَنَّهُ قَرَأَ يَوْمًا عَلَى النَّاسِ فَضَائِلَ الْعَبَّاسِ، فَثَارَ عَلَيْهِ
الرَّوَافِضُ وَأَتْبَاعُ الْفَاطِمِيِّينَ، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ فَتَشَفَّعَ
بِالشَّرِيفِ الزَّيْنَبِيِّ، فَأَجَارَهُ، وَكَانَ مَسْكَنُهُ بِدَارِ
الْعَقِيقِيِّ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ دِمَشْقَ فَأَقَامَ بِمَدِينَةِ صُورَ، فَكَتَبَ
شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ مُصَنَّفَاتِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيِّ بِخَطِّهِ،
كَانَ يَسْتَعِيرُهَا مِنْ زَوْجَتِهِ، فَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا بِالشَّامِ إِلَى
سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ فَحَدَّثَ بِأَشْيَاءَ
مِنْ مَسْمُوعَاتِهِ وَقَدْ كَانَ سَأَلَ اللَّهَ بِمَكَّةَ، أَنْ يَمْلِكَ أَلْفَ
دِينَارٍ وَأَنْ يُحَدِّثَ بِ " التَّارِيخِ " بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ،
وَأَنْ يَمُوتَ بِبَغْدَادَ فَيُدْفَنَ إِلَى جَانِبِ بِشْرٍ الْحَافِي، فَيُقَالُ
إِنَّهُ حَدَّثَ بِ " التَّارِيخِ " بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ، وَإِنَّهُ
مَلَكَ ذَهَبًا يُقَارِبُ أَلْفَ دِينَارٍ. وَحِينَ احْتُضِرَ كَانَ عِنْدَهُ
قَرِيبٌ مِنْ مِائَتَيْ دِينَارٍ، فَأَوْصَى بِهَا لِأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَسَأَلَ
السُّلْطَانَ أَنْ يُمْضِيَ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا،
فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ.
وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ مُفِيدَةٌ، مِنْهَا كِتَابُ " التَّارِيخِ
"، وَكِتَابُ " الْكِفَايَةِ " وَ " الْجَامِعِ "، وَ
" شَرَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ "، وَ " الْمُتَّفِقِ
وَالْمُفْتَرِقِ "، وَ " السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ "، وَ "
تَلْخِيصِ الْمُتَشَابِهِ فِي الرَّسْمِ "، " وَ " فَضْلِ
الْوَصْلِ "، وَ " رِوَايَةِ الْآبَاءِ عَنِ الْأَبْنَاءِ "،
" وَ " رِوَايَةِ الصَّحَابَةِ عَنِ التَّابِعِينَ "، وَ "
اقْتِضَاءِ الْعِلْمِ الْعَمَلَ " وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ سَرَدَهَا
الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ "
قَالَ: وَيُقَالُ إِنَّ هَذِهِ الْمُصَنَّفَاتِ أَكْثَرُهَا ابْتَدَأَهَا أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيُّ فَتَمَّمَهَا الْخَطِيبُ.
وَقَدْ كَانَ حَسَنَ الْقِرَاءَةِ فَصِيحَ اللَّفْظِ،
عَارِفًا بِالْأَدَبِ يَقُولُ الشِّعْرَ، وَكَانَ أَوَّلًا عَلَى مَذْهَبِ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَانْتَقَلَ إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، ثُمَّ صَارَ
يَتَكَلَّمُ فِي أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَيَقْدَحُ فِيهِمْ مَا أَمْكَنَهُ، وَلَهُ
دَسَائِسُ عَجِيبَةٌ فِي ذَمِّهِمْ، ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ يَنْتَصِرُ
لِأَصْحَابِهِ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ
شِعْرِ الْخَطِيبِ قَصِيدَةً - مِنْ خَطِّهِ - جَيِّدَةَ الْمَطْلِعِ حَسَنَةَ
الْمَنْزَعِ أَوَّلُهَا:
لَعَمْرُكَ مَا شَجَانِي رَسْمُ دَارٍ وَقَفْتُ بِهِ وَلَا ذِكْرُ الْمَغَانِي
وَلَا أَثَرُ الْخِيَامِ أَرَاقَ دَمْعِي
لِأَجْلِ تَذَكُّرِي عَهْدَ الْغَوَانِي وَلَا مَلَكَ الْهَوَى يَوْمًا قِيَادِي
وَلَا عَاصَيْتُهُ فَثَنَى عِنَانِي عَرَفْتُ فِعَالَهُ بِذَوِي التَّصَابِي
وَمَا يَلْقَوْنَ مِنْ ذُلِّ الْهَوَانِ فَلَمْ أُطْمِعْهُ فِيَّ وَكَمْ قَتِيلٍ
لَهُ فِي النَّاسِ مَا يُحْصَى وَعَانِ طَلَبْتُ أَخًا صَحِيحَ الْوُدِّ مَحْضًا
سَلِيمَ الْغَيْبِ مَحْفُوظَ اللِّسَانِ فَلَمْ أَعْرِفْ مِنَ الْإِخْوَانِ إِلَّا
نِفَاقًا فِي التَّبَاعُدِ وَالتَّدَانِي وَعَالَمُ دَهْرِنَا لَا خَيْرَ فِيْهِمْ
تَرَى صُوَرًا تَرُوقُ بِلَا مَعَانِي وَوَصْفُ جَمِيعِهِمْ هَذَا فَمَا أَنْ
أَقُولُ سِوَى فُلَانٍ أَوْ فُلَانِ وَلَمَّا لَمْ أَجِدْ حُرًّا يُوَاتِي
عَلَى مَا نَابَ مِنْ صَرْفِ الزَّمَانِ صَبَرْتُ تَكَرُّمًا لِقِرَاعِ دَهْرِي
وَلَمْ أَجْزَعْ لِمَا مِنْهُ دَهَانِي وَلَمْ أَكُ فِي الشَّدَائِدِ مُسْتَكِينًا
أَقُولُ لَهَا أَلَا كُفِّي كَفَانِي وَلَكِنِّي صَلِيبُ الْعُودِ عَوْدٌ
رَبِيطُ الْجَأْشِ مُجْتَمِعُ الْجَنَانِ
أَبِيُّ النَّفْسِ لَا أَخْتَارُ رِزْقًا
يَجِيءُ بِغَيْرِ سَيْفِي أَوْ سِنَانِي فَعِزٌّ فِي لَظَى بَاغِيهِ يُشْوَى
أَلَذُّ مِنَ الْمَذَلَّةِ فِي الْجِنَانِ
وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ "
تَرْجَمَةً حَسَنَةً كَعَادَتِهِ، وَأَوْرَدَ لَهُ مِنْ شِعْرِهِ قَوْلَهُ:
لَا تَغْبِطَنَّ أَخَا الدُّنْيَا لِزُخْرُفِهَا وَلَا لِلَذَّةِ وَقْتٍ عَجَّلَتْ
فَرَحًا
فَالدَّهْرُ أَسْرَعُ شَيْءٍ فِي تَقَلُّبِهِ وَفِعْلُهُ بَيِّنٌ لِلْخَلْقِ قَدْ
وَضَحَا
كَمْ شَارِبٍ عَسَلًا فِيهِ مَنِيَّتُهُ وَكَمْ تَقَلَّدَ سَيْفًا مَنْ بِهِ
ذُبِحَا
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْاثْنَيْنِ ضُحَى السَّابِعِ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ سَنَةً فِي
حُجْرَةٍ كَانَ يَسْكُنُهَا بِدَرْبِ السِّلْسِلَةِ جِوَارَ الْمَدْرَسَةِ
النِّظَامِيَّةِ وَاحْتَفَلَ النَّاسُ بِجِنَازَتِهِ، وَحَمَلَهَا فِيمَنْ حَمَلَ
الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ قَبْرِ بِشْرٍ
الْحَافِي فِي قَبْرِ رَجُلٍ كَانَ قَدْ أَعَدَّهُ لِنَفْسِهِ فَسُئِلَ أَنْ
يَتْرُكَهُ لِلْخَطِيبِ فَشَحَّتْ بِهِ نَفْسُهُ، حَتَّى قَالَ لَهُ بَعْضُ
النَّاسِ: بِاللَّهِ عَلَيْكَ لَوْ قَدِمْتَ أَنْتَ وَالْخَطِيبُ إِلَى بِشْرٍ
أَيُّكُمَا كَانَ يُجْلِسُهُ إِلَى جَانِبِهِ؟ فَقَالَ: الْخَطِيبَ. فَقِيلَ:
فَاسْمَحْ لَهُ بِهِ، فَوَهَبَهُ لَهُ فَدُفِنَ فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ
مَثْوَاهُ، وَهُوَ مِمَّنْ يُنْشَدُ لَهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
مَا زِلْتَ تَدْأَبُ فِي التَّارِيخِ مُجْتَهِدًا حَتَّى رَأَيْتُكَ فِي
التَّارِيخِ مَكْتُوبَا
وَحَكَى ابْنُ خَلِّكَانَ عَنِ السَّمْعَانِيِّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ
وَأَنَّهُ تَصَدَّقَ
بِجَمِيعِ مَالِهِ وَوَقَفَ كُتُبَهُ.
حَسَّانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَسَّانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَنِيعِ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيُّ الْمَنِيعِيُّ، كَانَ فِي شَبَابِهِ
يَجْمَعُ بَيْنَ الزُّهْدِ وَالتِّجَارَةِ حَتَّى سَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ ثُمَّ
تَرَكَ ذَلِكَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ وَالْبِرِّ وَالصِّلَةِ
وَالصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ، وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ
وَالرِّبَاطَاتِ وَكَانَ السُّلْطَانُ يَأْتِي إِلَيْهِ وَيَتَبَرَّكُ بِهِ
وَلَمَّا وَقَعَ الْغَلَاءُ كَانَ يَعْمَلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ شَيْئًا كَثِيرًا
مِنَ الْخُبْزِ وَالطَّعَامِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ، وَيَكْسُو فِي كُلِّ سَنَةٍ
قَرِيبًا مِنْ أَلْفِ نَفْسٍ ثِيَابًا وَجِبَابًا وَافِرَةً، وَكَذَلِكَ
النِّسَاءَ، وَيُجَهِّزُ بَنَاتِ الْفُقَرَاءِ الْأَيْتَامِ وَأَسْقَطَ شَيْئًا
كَثِيرًا مِنَ الْمُكُوسِ وَالْوَظَائِفِ السُّلْطَانِيَّةِ عَنْ بِلَادِ
نَيْسَابُورَ وَقُرَاهَا، وَهُوَ فِي غَايَةِ التَّبَذُّلِ وَالثِّيَابِ
الْأَطْمَارِ وَتَرْكِ الشَّهَوَاتِ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَتْ
وَفَاتُهُ بِبَلَدِهِ مَرْوِالرُّوذِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ
بِرَحْمَتِهِ. آمِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَمْزَةَ أَبُو يَعْلَى الْجَعْفَرِيُّ فَقِيهُ
الشِّيعَةِ فِي زَمَانِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ وِشَاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو عَلِيٍّ مَوْلَى أَبِي
تَمَّامٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الزَّيْنَبِيِّ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ وَكَانَ أَدِيبًا شَاعِرًا وَكَتَبَ لِنَقِيبِ النُّقَبَاءِ
الْكَامِلِ، وَكَانَ يُنْسَبُ إِلَى الِاعْتِزَالِ وَالرَّفْضِ.
وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
حَمَلْتُ الْعَصَا لَا الضَّعْفُ أَوْجَبَ حَمْلَهَا عَلَيَّ وَلَا أَنِّي
تَحَنَّيْتُ مِنْ كِبَرْ
وَلَكِنَّنِي أَلْزَمْتُ نَفْسِي بِحَمْلِهَا لِأُعْلِمَهَا أَنَّ الْمُقِيمَ
عَلَى سَفَرْ
الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمَرِيُّ. الْحَافِظُ صَاحِبُ
التَّصَانِيفِ، مِنْهَا " التَّمْهِيدُ " و " الِاسْتِذْكَارُ
" و " الِاسْتِيعَابُ "، وَغَيْرُهَا.
ابْنُ زَيْدُونَ الشَّاعِرُ، أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
غَالِبِ بْنِ زَيْدُونَ أَبُو الْوَلِيدِ الشَّاعِرُ الْمَاهِرُ الْأَنْدَلُسِيُّ
الْقُرْطُبِيُّ اتَّصَلَ بِالْأَمِيرِ الْمُعْتَضِدِ عَبَّادٍ صَاحِبِ
إِشْبِيلِيَّةَ، فَحَظِيَ عِنْدَهُ وَصَارَ عِنْدَهُ مُشَاوَرًا فِي مَنْزِلَةِ
الْوَزِيرِ، وَوَزَرَ لَهُ وَلَدُهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ وَهُوَ
صَاحِبُ الْقَصِيدَةِ الْفِرَاقِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
بِنْتُمْ وَبِنَّا فَمَا ابْتَلَّتْ جَوَانِحُنَا شَوْقًا إِلَيْكُمْ وَلَا
جَفَّتْ مَآقِينَا
نَكَادُ حِينَ تُنَاجِيكُمْ ضَمَائِرُنَا يَقْضِي عَلَيْنَا الْأَسَى لَوْلَا
تَأَسِّينَا
حَالَتْ لِبُعْدِكُمُ أَيَّامُنَا فَغَدَتْ سُودًا وَكَانَتْ بِكُمْ بِيضًا
لَيَالِينَا
بِالْأَمْسِ كُنَّا وَلَا يُخْشَى تَفَرُّقُنَا وَالْيَوْمَ
نَحْنُ وَلَا يُرْجَى تَلَاقِينَا
وَهِيَ قَصِيدَةٌ طَوِيلَةٌ، وَفِيهَا صَنْعَةٌ قَوِيَّةٌ مُهَيِّجَةٌ عَلَى
الْبُكَاءِ لِكُلِّ مَنْ قَرَأَهَا، أَوْ سَمِعَهَا لِأَنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ
مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا إِلَّا وَقَدْ فَقَدَ خِلًّا أَوْ حَبِيبًا أَوْ
نَسِيبًا، وَمِنْ شِعْرِهِ:
بَيْنِي وَبَيْنَكَ مَا لَوْ شِئْتَ لَمْ يَضِعِ سِرٌّ إِذَا ذَاعَتِ الْأَسْرَارُ
لَمْ يَذِعِ
يَا بَائِعًا حَظَّهُ مِنِّي وَلَوْ بُذِلَتْ لِيَ الْحَيَاةُ بِحَظِّي مِنْهُ
لَمْ أَبِعِ
يَكْفِيكَ أَنَّكَ إِنْ حَمَّلْتَ قَلْبِي مَا لَا تَسْتَطِيعُ قُلُوبُ النَّاسِ
يَسْتَطِعِ
تِهْ أَحْتَمِلْ وَاسْتَطِلْ أَصْبِرْ وَعِزَّ أَهُنْ وَوَلِّ أُقْبِلْ وَقُلْ
أَسْمَعْ وَمُرْ أُطِعْ
تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَاسْتَمَرَّ وَلَدُهُ أَبُو بَكْرٍ
وَزِيرًا لِلْمُعْتَمِدِ بْنِ عَبَّادٍ، حَتَّى أَخَذَ ابْنُ تَاشُفِينَ
قُرْطُبَةَ مِنْ يَدِهِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ.
قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي الْوَفِيَّاتِ.
كَرِيمَةُ بِنْتُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ الْمَرْوَزِيَّةُ
كَانَتْ عَالِمَةً صَالِحَةً سَمِعَتْ " صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ " عَلَى
الْكُشْمِيهَنِيِّ وَقَرَأَ عَلَيْهَا الْأَئِمَّةُ كَالْخَطِيبِ وَأَبِي الْمُظَفَّرِ
السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا قَامَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ مَعَ الْحَنَابِلَةِ فِي
الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُفْسِدِينَ، وَالَّذِينَ يَبِيعُونَ الْخُمُورَ، وَفِي
إِبْطَالِ الْمُؤَاجِرَاتِ وَهُنَّ الْبَغَايَا وَكُوتِبَ السُّلْطَانُ فِي ذَلِكَ
فَجَاءَتْ كُتُبُهُ بِالْإِنْكَارِ، وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ
بِبَغْدَادَ ارْتَجَّتْ لَهَا الْأَرْضُ سِتَّ مَرَّاتٍ.
وَفِيهَا كَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ وَمَوَتَانٌ ذَرِيعٌ فِي الْحَيَوَانَاتِ،
بِحَيْثُ إِنَّ بَعْضَ الرُّعَاةِ بِخُرَاسَانَ قَامَ وَقْتَ الصَّبَاحِ
لِيَسْرَحَ بِغَنَمِهِ، فَإِذَا هُنَّ قَدْ مِتْنَ كُلُّهُنَّ. وَجَاءَ سَيْلٌ
عَظِيمٌ وَبَرَدٌ كِبَارٌ أَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ
بِخُرَاسَانَ.
وَفِيهَا تَزَوَّجَ الْأَمِيرُ عُدَّةُ الدِّينِ وَلَدُ الْخَلِيفَةِ بِابْنَةِ
السُّلْطَانِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ مِنْ سِفْرَى خَاتُونَ وَذَلِكَ بِنَيْسَابُورَ،
وَكَانَ وَكِيلُ السُّلْطَانِ نِظَامَ الْمُلْكِ وَوَكِيلُ الزَّوْجِ عَمِيدَ
الدَّوْلَةِ ابْنَ جَهِيرٍ وَحِينَ عُقِدَ الْعَقْدُ نُثِرَ عَلَى النَّاسِ
جَوَاهِرُ نَفِيسَةٌ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا زُيِّنَتِ الْأَفْيِلَةُ
وَالْخُيُولُ، وَضُرِبَتِ الدَّبَادِبُ وَالْبُوقَاتُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حِيدٍ، أَبُو مَنْصُورٍ النَّيْسَابُورِيُّ كَانَ
يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ
سُلَالَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ
أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُذْهِبِ، وَكَانَ ثِقَةً تُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
الصَّمَدِ بْنِ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ أَبُو الْحَسَنِ الْهَاشِمِيُّ خَطِيبُ
جَامِعِ الْمَنْصُورِ كَانَ مِمَّنْ يَلْبَسُ الْقَلَانِسَ الطِّوَالَ حَدَّثَ
عَنِ ابْنِ رِزْقَوَيْهِ وَغَيْرِهِ، وَرَوَى عَنْهُ الْخَطِيبُ وَكَانَ ثِقَةً
عَدْلًا، شَهِدَ عِنْدَ ابْنِ مَاكُولَا وَابْنِ الدَّامَغَانِيِّ فَقَبِلَاهُ،
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً وَدُفِنَ بِقُرْبِ قَبْرِ
بِشْرٍ الْحَافِي، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَادَهْ بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْأَصْفَهَانِيُّ، وَلِيَ الْقَضَاءَ بِدُجَيْلٍ، وَكَانَ شَافِعِيًّا، وَرَوَى
الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي عُمَرَ بْنِ مَهْدِيِّ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَغْدَادَ
وَنُقِلَ إِلَى دُجَيْلٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ حَادِي عَشَرَ الْمُحَرَّمِ حَضَرَ إِلَى الدِّيوَانِ أَبُو
الْوَفَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ الْعَقِيلِيُّ الْحَنْبَلِيُّ،
وَقَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ كِتَابًا يَتَضَمَّنُ تَوْبَتَهُ مِنَ الِاعْتِزَالِ
وَمُخَالَطَةِ أَهْلِهِ، وَأَنَّهُ رَجَعَ عَنِ اعْتِقَادِ كَوْنِ الْحَلَّاجِ
مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ، وَقَدْ رَجَعَ عَنِ الْجُزْءِ الَّذِي عَمِلَهُ فِي
ذَلِكَ، وَأَنَّهُ قَدْ قُتِلَ بِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ أَهْلِ عَصْرِهِ، وَقَدْ
كَانُوا مُصِيبِينَ وَهُوَ مُخْطِئٌ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فِي الْكِتَابِ،
وَرَجَعَ مِنَ الدِّيوَانِ إِلَى دَارِ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ، فَسَلَّمَ
عَلَيْهِ وَصَالَحَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، وَعَظَّمَهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَفَاةُ السُّلْطَانِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ وَمُلْكُ
وَلَدِهِ مَلِكْشَاهْ
كَانَ السُّلْطَانُ قَدْ سَارَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ فِي مِائَتَيْ أَلْفِ
مُقَاتِلٍ يُرِيدُ غَزَاةَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَاتَّفَقَ فِي بَعْضِ
الْمَنَازِلِ أَنَّهُ غَضِبَ عَلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: يُوسُفُ
الْخُوَارَزْمِيُّ، فَأُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَشَرَعَ يُعَاتِبُهُ فِي أَشْيَاءَ
صَدَرَتْ مِنْهُ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُضْرَبَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَوْتَادٍ
وَيُصْلَبَ بَيْنَهَا، فَقَالَ لِلسُّلْطَانِ: يَا مُخَنَّثٌ أَمِثْلِي يُقْتَلُ
هَكَذَا؟ فَاحْتَدَّ السُّلْطَانُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِإِرْسَالِهِ، وَأَخَذَ
الْقَوْسَ فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَأَخْطَأَهُ، وَأَقْبَلَ يُوسُفُ نَحْوَ
السُّلْطَانِ فَنَهَضَ السُّلْطَانُ عَنِ السَّرِيرِ، فَنَزَلَ فَعَثَرَ، فَوَقَعَ
فَأَدْرَكَهُ يُوسُفُ فَضَرَبَهُ بِخَنْجَرٍ كَانَ فِي يَدِهِ فِي خَاصِرَتِهِ،
وَأَدْرَكَهُ الْجَيْشُ فَقَتَلُوهُ، وَقَدْ جُرِحَ السُّلْطَانُ جُرْحًا
مُنْكَرًا، فَتُوُفِّيَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ عَاشِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ وَيُقَالُ إِنَّ أَهْلَ بُخَارَا
لَمَّا اجْتَازَ بِهِمْ، وَنَهَبَ عَسْكَرُهُ أَشْيَاءَ
كَثِيرَةً لَهُمْ دَعَوْا عَلَيْهِ فَهَلَكَ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ جَلَسَ وَلَدُهُ مَلِكْشَاهْ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ وَقَامَ
الْأُمَرَاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ نِظَامُ الْمُلْكِ:
تَكَلَّمْ أَيُّهَا السُّلْطَانُ فَقَالَ: الْأَكْبَرُ مِنْكُمْ أَبِي
وَالْأَوْسَطُ أَخِي، وَالْأَصْغَرُ ابْنِي وَسَأَفْعَلُ مَعَكُمْ مَا لَمْ
أُسْبَقْ إِلَيْهِ فَأَمْسَكُوا، فَأَعَادَ الْقَوْلَ فَأَجَابُوهُ بِالسَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ وَقَامَ بِأَعْبَاءِ أَمْرِهِ الْوَزِيرُ لِأَبِيهِ نِظَامُ الْمُلْكِ،
فَزَادَ فِي أَرْزَاقِ الْجُنْدِ سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَسَارُوا إِلَى
مَرْوَ فَدَفَنُوا بِهَا السُّلْطَانَ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ
تَرْجَمَتِهِ فِي الْوَفِيَّاتِ. وَلَمَّا بَلَغَ مَوْتُهُ أَهْلَ بَغْدَادَ
أَقَامَ النَّاسُ لَهُ الْعَزَاءَ، وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ وَأَظْهَرَ
الْخَلِيفَةُ الْجَزَعَ عَلَيْهِ، وَتَسَلَّبَتِ ابْنَتُهُ الْخَاتُونُ زَوْجَةُ
الْخَلِيفَةِ ثِيَابَهَا وَجَلَسَتْ عَلَى التُّرَابِ. وَجَاءَتِ الْكُتُبُ مِنَ
السُّلْطَانِ فِي رَجَبٍ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَتَأَسَّفُ فِيهَا عَلَى وَالِدِهِ
وَيَسْأَلُ أَنْ تُقَامَ لَهُ الْخُطْبَةُ فَفَعَلَ ذَلِكَ.
وَخَلَعَ مَلِكْشَاهْ عَلَى الْوَزِيرِ نِظَامِ الْمُلْكِ خِلَعًا سِنِيَّةً
وَأَعْطَاهُ تُحَفًا كَثِيرَةً، مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ عِشْرُونَ أَلْفَ دِينَارٍ
وَلَقَّبَهُ أَتَابِكَ، وَمَعْنَاهُ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ الْوَالِدُ، فَسَارَ
سِيرَةً حَسَنَةً وَلَمَّا بَلَغَ قَاوُرْتَ بَكَ مَوْتُ أَخِيهِ أَلْبِ
أَرْسَلَانَ رَكِبَ فِي جُيُوشٍ كَثِيرَةٍ قَاصِدًا قِتَالَ ابْنِ أَخِيهِ
مَلِكْشَاهْ فَالْتَقَيَا فَاقْتَتَلَا، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ قَاوُرْتَ وَأُسِرَ
هُوَ فَأَنَّبَهُ ابْنُ أَخِيهِ ثُمَّ اعْتَقَلَهُ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ
قَتَلَهُ.
وَفِيهَا جَرَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ وَبَابِ الْبَصْرَةِ
وَالْقَلَّائِينَ فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَاحْتَرَقَ
جَانِبٌ كَبِيرٌ مِنَ الْكَرْخِ فَانْتَقَمَ الْمُتَوَلِّي لِأَهْلِ الْكَرْخِ
مِنْ أَهْلِ بَابِ الْبَصْرَةِ فَأَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا
جِنَايَةً لَهُمْ عَلَى مَا
صَنَعُوا. وَفِيهَا أُقِيمَتِ الدَّعْوَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ
بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَفِيهَا مَلَكَ صَاحِبُ سَمَرْقَنْدَ وَهُوَ أَلْتِكِينُ
مَدِينَةَ تِرْمِذْ، وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو الْغَنَائِمِ الْعَلَوِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
السُّلْطَانُ أَلْبُ أَرْسَلَانَ الْمُلَقَّبُ بِسُلْطَانِ الْعَالَمِ، ابْنُ
جَغْرِي بَكَ دَاوُدَ بْنِ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ بْنِ تُقَاقَ التُّرْكِيُّ
صَاحِبُ الْمَمَالِكِ الْمُتَّسِعَةِ، وَقَدْ مَلَكَ بَعْدَ عَمِّهِ طُغْرُلْبَكَ
سَبْعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، وَكَانَ عَادِلًا يَسِيرُ فِي
النَّاسِ سِيرَةً حَسَنَةً كَرِيمًا رَحِيمًا شَفُوقًا عَلَى الرَّعِيَّةِ،
رَفِيقًا عَلَى الْفُقَرَاءِ بَارًّا بِأَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَمَالِيكِهِ
كَثِيرَ الدُّعَاءِ بِدَوَامِ مَا أُنْعِمَ بِهِ عَلَيْهِ، كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ،
يَتَصَدَّقُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَلَا
يُعْرَفُ فِي زَمَانِهِ جِنَايَةٌ وَلَا مُصَادَرَةٌ بَلْ يَقْنَعُ مِنَ
الرَّعَايَا بِالْخَرَاجِ فِي قِسْطَيْنِ ; رِفْقًا بِهِمْ.
كَتَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ السُّعَاةِ فِي نِظَامِ الْمُلْكِ فَاسْتَدْعَاهُ وَقَالَ
لَهُ: إِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا، فَهَذِّبْ أَخْلَاقَكَ وَأَصْلِحْ أَحْوَالَكَ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فَاغْفِرْ لَهُمْ زَلَّتَهُمْ بِمُهِمٍّ يَشْغَلُهُمْ
عَنِ السِّعَايَةِ بِالنَّاسِ. وَكَانَ شَدِيدَ الْحِرْصِ عَلَى حِفْظِ مَالِ
الرَّعَايَا، بَلَغَهُ أَنَّ غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِهِ أَخَذَ إِزَارًا لِبَعْضِ
التُّجَّارِ فَصَلَبَهُ، فَارْتَدَعَ سَائِرُ الْمَمَالِيكِ بِهِ خَوْفًا مِنْ
سَطْوَتِهِ.
وَتَرَكَ مِنَ الْأَوْلَادِ مَلِكْشَاهْ الَّذِي قَامَ مِنْ بَعْدِهِ وَإِيَازَ
وَتَكِشَ وَبُورِي بَرَسَ
وَأَرْسَلَانَ أَرْغُونَ وَسَارَّةَ وَعَائِشَةَ وَبِنْتًا
أُخْرَى. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ
سَنَةً وَدُفِنَ عِنْدَ وَالِدِهِ بِالرَّيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ طَلْحَةَ
وَأُمُّهُ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، تُوُفِّيَ أَبُوهُ وَهُوَ طِفْلٌ فَقَرَأَ
الْأَدَبَ وَالْعَرَبِيَّةَ، وَصَحِبَ الشَّيْخَ أَبَا عَلِيٍّ الدَّقَّاقَ
وَأَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيِّ وَالْكَلَامَ
عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكَ، وَصَنَّفَ الْكَثِيرَ فَلَهُ " التَّفْسِيرُ
الْكَبِيرُ "، و " الرِّسَالَةُ " الَّتِي تَرْجَمَ فِيهَا
جَمَاعَةً مِنَ الْمَشَايِخِ وَالصَّالِحِينَ وَحَجَّ صُحْبَةَ إِمَامِ
الْحَرَمَيْنِ وَأَبِي بَكْرٍ الْبَيْهَقِيِّ وَكَانَ يَعِظُ النَّاسَ.
تُوُفِّيَ بِنَيْسَابُورَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ
إِلَى جَانِبِ شَيْخِهِ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ، وَلَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ بَيْتِهِ بَيْتَ كُتُبِهِ إِلَّا بَعْدَ سِنِينَ احْتِرَامًا لَهُ، وَكَانَ
لَهُ فَرَسٌ يَرْكَبُهَا قَدْ أُهْدِيَتْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ لَمْ
تَأْكُلْ عَلَفًا حَتَّى نَفَقَتْ بَعْدَهُ بِيَسِيرٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ.
وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفِيَّاتِ
" ثَنَاءً كَثِيرًا وَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ شِعْرِهِ الرَّائِقِ. فَمِنْ
ذَلِكَ قَوْلُهُ:
سَقَى اللَّهُ وَقْتًا كُنْتُ أَخْلُو بِوَجْهِكُمُ
وَثَغْرُ الْهَوَى فِي رَوْضَةِ الْأُنْسِ ضَاحِكُ أَقَمْنَا زَمَانًا
وَالْعُيُونُ قَرِيرَةٌ
وَأَصْبَحْتُ يَوْمًا وَالْجُفُونُ سَوَافِكُ
وَقَوْلُهُ أَيْضًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
لَوْ كُنْتَ سَاعَةَ بَيْنِنَا مَا بَيْنَنَا وَشَهِدْتَ حِينَ نُكَرِّرُ
التَّوْدِيعَا
أَيْقَنْتَ أَنَّ مِنَ الدُّمُوعِ مُحَدِّثًا وَعَلِمْتَ أَنَّ مِنَ الْحَدِيثِ
دُمُوعَا
وَقَوْلُهُ أَيْضًا:
وَمَنْ كَانَ فِي طُولِ الْهَوَى ذَاقَ سَلْوَةً فَإِنِّيَ مِنْ لَيْلَى لَهَا
غَيْرُ ذَائِقِ
وَأَكْثَرُ شَيْءٍ نِلْتُهُ مِنْ وِصَالِهَا أَمَانِيُّ لَمْ تَصْدُقْ كَخَطْفَةِ
بَارِقِ
ابْنُ صُرَّبَعْرَ الشَّاعِرُ اسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
الْفَضْلِ أَبُو مَنْصُورٍ الْكَاتِبُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ صُرَّبَعْرُ، وَكَانَ
نِظَامُ الْمُلْكِ يَقُولُ لَهُ: أَنْتَ صُرَّدُرُّ لَا صُرَّبَعْرُ وَقَدْ
هَجَاهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ:
لَئِنْ نَبَزَ النَّاسُ قِدَمًا أَبَاكَ وَسَمَّوْهُ مِنْ شُحِّهِ صُرَّبَعْرَا
فَإِنَّكَ تَنْثُرُ مَا صَرَّهُ عُقُوقًا لَهُ وَتُسَمِّيهِ شِعْرًا
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذَا ظُلْمٌ فَاحِشٌ فَإِنَّ
شِعْرَهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ ثُمَّ أَوْرَدَ لَهُ قِطَعًا حِسَانًا مِنْ
شِعْرِهِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِيهِ أَحَادِيثَ نَعْمَانٍ وَسَاكِنِهِ إِنَّ الْحَدِيثَ عَنِ الْأَحْبَابِ أَسْمَارُ
أُفَتِّشُ الرِّيحَ عَنْكُمُ كُلَّمَا نَفَحَتْ مِنْ نَحْوِ أَرْضِكُمُ نَكْبَاءُ
مِعْطَارُ
قَالَ: وَقَدْ حَفِظَ الْقُرْآنَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنِ ابْنِ بِشْرَانَ
وَغَيْرِهِ وَحَدَّثَ كَثِيرًا، وَرَكِبَ يَوْمًا دَابَّةً فَتَرَدَّى هُوَ
وَالدَّابَّةُ فِي بِئْرٍ فَمَاتَا وَدُفِنَ بِبَابِ أَبْرَزَ، وَذَلِكَ فِي
صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَرَأْتُ بِخَطِّ ابْنِ
عَقِيلٍ كَانَ صُرَّبَعْرُ خَازِنًا بِالرُّصَافَةِ وَكَانَ يُنْبَزُ
بِالْإِلْحَادِ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ شَيْئًا مِنْ أَشْعَارِهِ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي فَنِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
الصَّمَدِ بْنِ الْمُهْتَدِي
بِاللَّهِ أَبُو الْحُسَيْنِ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْغَرِيقِ وُلِدَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَسَمِعَ الدَّارَقُطْنِيَّ وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَابْنَ شَاهِينَ، وَتَفَرَّدَ عَنْهُ وَسَمِعَ خَلْقًا آخَرِينَ وَكَانَ ثِقَةً دَيِّنًا كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ رَاهِبُ بَنِي هَاشِمٍ، وَكَانَ غَزِيرَ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ كَثِيرَ التِّلَاوَةِ رَقِيقَ الْقَلْبِ غَزِيرَ الدَّمْعَةِ، رَحَلَ إِلَيْهِ الطَّلَبَةُ مِنَ الْآفَاقِ، ثُمَّ ثَقُلَ سَمْعُهُ فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى النَّاسِ، وَذَهَبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، وَخَطَبَ وَلَهُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً وَشَهِدَ عِنْدَ الْحُكَّامِ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَوَلِيَ الْحُكْمَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَقَامَ خَطِيبًا بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ وَجَامِعِ الرُّصَافَةِ سِتًّا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَحَكَمَ سِتًّا وَخَمْسِينَ سَنَةً وَتُوُفِّيَ فِي سَلْخِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ تِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ يَوْمُ جِنَازَتِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا وَرُئِيَتْ لَهُ مَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ جَلَسَ الْخَلِيفَةُ جُلُوسًا عَامًّا وَعَلَى رَأْسِهِ حَفِيدُهُ
الْأَمِيرُ عُدَّةُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ الْمُقْتَدِي
بِأَمْرِ اللَّهِ، وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، وَهُوَ فِي
غَايَةِ الْحُسْنِ، وَحَضَرَ الْأُمَرَاءُ وَالْكُبَرَاءُ، فَعَقَدَ الْخَلِيفَةُ
بِيَدِهِ لِوَاءَ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَكَثُرَ
الزِّحَامُ يَوْمَهَا حَتَّى هَنَّأَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامَةِ.
غَرَقُ بَغْدَادَ
فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ جَاءَ مَطَرٌ عَظِيمٌ وَسَيْلٌ قَوِيٌّ كَثِيرٌ،
وَزَادَتْ دِجْلَةُ حَتَّى غَرَّقَتْ جَانِبًا كَبِيرًا مِنْ بَغْدَادَ حَتَّى
خَلَصَ ذَلِكَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَخَرَجَ الْجَوَارِي حَاسِرَاتٍ حَتَّى
صِرْنَ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ وَهَرَبَ الْخَلِيفَةُ مِنْ مَجْلِسِهِ،
فَلَمْ يَجِدْ طَرِيقًا يَسْلُكُهُ، فَحَمَلَهُ بَعْضُ الْخَدَمِ إِلَى التَّاجِ،
وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمًا عَظِيمًا وَأَمْرًا هَائِلًا وَهَلَكَ لِلنَّاسِ أَمْوَالٌ
عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَمَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ تَحْتَ الرَّدْمِ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ
وَالْقَرَايَا، وَجَاءَ عَلَى وَجْهِ السَّيْلِ مِنَ الْأَخْشَابِ وَالْوُحُوشِ
وَالْحَيَّاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، وَسَقَطَتْ دُورٌ كَثِيرَةٌ فِي
الْجَانِبَيْنِ وَغَرِقَتْ قُبُورٌ كَثِيرَةٌ ; مِنْ ذَلِكَ قَبْرُ
الْخَيْزُرَانِ، وَمَقْبَرَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَدَخَلَ
الْمَاءُ مِنْ
شَبَابِيكِ الْمَارَسْتَانِ الْعَضُدِيِّ، وَأَتْلَفَ
السَّيْلُ فِي الْمَوْصِلِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَصَدَمَ سُورَ سِنْجَارَ
فَهَدَمَهُ، وَأَخَذَ بَابَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ إِلَى مَسِيرَةِ أَرْبَعَةِ
فَرَاسِخَ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا جَاءَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ بِأَرْضِ الْبَصْرَةِ
فَانْجَعَفَ مِنْهَا نَحْوٌ مِنْ خَمْسَةِ آلَافِ نَخْلَةٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ السِّمْنَانِيُّ الْحَنَفِيُّ الْأَشْعَرِيُّ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذَا مِنَ الْغَرِيبِ. تَزَوَّجَ قَاضِي الْقُضَاةِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيُّ ابْنَتَهُ وَوَلَّاهُ نِيَابَةَ
الْقَضَاءِ، وَكَانَ ثِقَةً نَبِيلًا مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ جَاوَزَ
الثَّمَانِينَ.
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ
الْكَتَّانِيُّ الْحَافِظُ الدِّمَشْقِيُّ سَمِعَ الْكَثِيرَ وَكَتَبَ كَثِيرًا
وَصَنَّفَ فَأَجَادَ وَأَفَادَ، وَلَهُ فِي الْفَضَائِلِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ
غَرِيبَةٌ، وَبَعْضُ مَا يَرْوِيهِ مَوْضُوعٌ، وَلَا يُنَبَّهُ عَلَيْهِ مَعَ
أَنَّهُ كَانَ ثِقَةً ضَابِطًا حَافِظًا صَدُوقًا مُسْتَقِيمَ الطَّرِيقَةِ
وَالِاعْتِقَادِ،
سَلَفِيَّ الْمَذْهَبِ، وَقَدْ كَتَبَ عَنْهُ الْحَافِظُ
أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ. رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو
بَكْرٍ الْعَطَّارُ الْأَصْبَهَانِيُّ الْحَافِظُ مُسْتَمْلِي أَبِي نُعَيْمٍ،
سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ يُمْلِي مِنْ حِفْظِهِ، وَكَتَبَ عَنْهُ الْخَطِيبُ
حَدِيثًا وَاحِدًا، وَكَانَ عَظِيمًا فِي بَلَدِهِ ثِقَةً نَبِيلًا جَلِيلًا،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَاوَرْدِيَّةُ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهَا كَانَتْ عَجُوزًا صَالِحَةً
مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ تَعِظُ النِّسَاءَ بِهَا، وَكَانَتْ تَكْتُبُ وَتَقْرَأُ
وَمَكَثَتْ خَمْسِينَ سَنَةً مِنْ عُمْرِهَا لَا تُفْطِرُ نَهَارًا وَلَا تَنَامُ
لَيْلًا، وَتَقْتَاتُ بِخُبْزِ الْبَاقِلَّاءِ، وَتَأْكُلُ مِنَ التِّينِ
الْيَابِسِ لَا الرَّطْبِ، وَشَيْئًا يَسِيرًا مِنَ الْعِنَبِ وَالزَّيْتِ،
وَرُبَّمَا أَكَلَتْ مِنَ اللَّحْمِ الْيَسِيرَ، وَحِينَ تُوُفِّيَتْ تَبِعَ
أَكْثَرُ أَهْلِ الْبَلَدِ جِنَازَتَهَا، وَدُفِنَتْ فِي مَقَابِرِ الصَّالِحِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا مَرِضَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ مَرَضًا شَدِيدًا
انْتَفَخَ مِنْهُ حَلْقُهُ وَامْتَنَعَ مِنَ الْفَصْدِ، فَلَمْ يَزَلِ الْوَزِيرُ
فَخْرُ الدَّوْلَةِ عَلَيْهِ حَتَّى افْتَصَدَ فَصَلَحَ الْحَالُ، وَكَانَ
النَّاسُ قَدِ انْزَعَجُوا فَفَرِحُوا بِعَافِيَتِهِ.
وَجَاءَ فِي هَذَا الشَّهْرِ سَيْلٌ عَظِيمٌ، قَاسَى النَّاسُ مِنْهُ شِدَّةً
عَظِيمَةً، وَلَمْ تَكُنْ أَكْثَرُ أَبْنِيَةِ بَغْدَادَ تَكَامَلَتْ مِنَ
الْغَرَقِ الْأَوَّلِ فَخَرَجَ النَّاسُ إِلَى الصَّحْرَاءِ فَجَلَسُوا عَلَى
رُءُوسِ التُّلُولِ تَحْتَ الْمَطَرِ.
وَوَقَعَ وَبَاءٌ عَظِيمٌ بِالرَّحْبَةِ، فَمَاتَ مِنْ أَهْلِهَا قَرِيبٌ مِنْ
عَشَرَةِ آلَافٍ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ بِوَاسِطٍ وَالْبَصْرَةِ وَخُوزِسْتَانَ
وَأَرْضِ خُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
صِفَةُ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ:
افْتَصَدَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ
مَاشَرَا كَانَتْ تَعْتَادُهُ مِنْ عَامِ الْغَرَقِ، ثُمَّ نَامَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَانْفَجَرَ فِصَادُهُ، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ سَقَطَتْ قُوَّتُهُ وَحَصَلَ
الْإِيَاسُ مِنْهُ، فَاسْتَدْعَي بِحَفِيدِهِ وَوَلِيِّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ
عُدَّةِ الدِّينِ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَائِمِ
وَأَحْضَرَ إِلَيْهِ الْقَاضِيَ وَالنُّقَبَاءَ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَيْهِ ثَانِيًا
بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ فَشَهِدُوا، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ
لَيْلَةَ
الْخَمِيسِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ عَنْ أَرْبَعٍ
وَسَبْعِينَ سَنَةً وَثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَتْ
مُدَّةُ خِلَافَتِهِ أَرْبَعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ
وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَلَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ
قَبْلَهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ وَقَدْ جَاوَزَتْ خِلَافَةُ أَبِيهِ قَبْلَهُ
أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَكَانَ مَجْمُوعُ أَيَّامِهِمَا خَمْسًا وَثَمَانِينَ سَنَةً
وَأَشْهُرًا، وَذَلِكَ مُقَارِبٌ لِدَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ كُلِّهَا، وَقَدْ
كَانَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ جَمِيلًا مَلِيحَ الْوَجْهِ أَبْيَضَ مُشْرَبًا
حُمْرَةً، فَصِيحًا وَرِعًا زَاهِدًا أَدِيبًا كَاتِبًا بَلِيغًا شَاعِرًا، كَمَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ شِعْرِهِ وَهُوَ بِحَدِيثَةِ عَانَةَ سَنَةَ
خَمْسِينَ، وَكَانَ عَادِلًا كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ رَحِمَهُ
اللَّهُ
وَغَسَّلَهُ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبِي مُوسَى الْحَنْبَلِيُّ عَنْ
وَصِيَّةِ الْخَلِيفَةِ بِذَلِكَ، فَعُرِضَ عَلَى الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ مَا
هُنَالِكَ مِنَ الْأَثَاثِ وَالْأَمْوَالِ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ شَيْئًا،
وَصُلِّيَ عَلَى الْخَلِيفَةِ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْخَمِيسِ الْمَذْكُورِ
وَدُفِنَ عِنْدَ أَجْدَادِهِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى الرُّصَافَةِ فَقَبْرُهُ يُزَارُ
إِلَى الْآنِ، وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ لِمَوْتِهِ، وَعُلِّقَتِ الْمُسُوحُ
وَنَاحَتْ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْهَاشِمِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ، وَجَلَسَ الْوَزِيرُ
ابْنُ جَهِيرٍ وَابْنُهُ لِلْعَزَاءِ عَلَى الْأَرْضِ، وَخَرَقَ النَّاسُ
ثِيَابَهُمْ، وَكَانَ يَوْمًا عَصِيبًا، وَاسْتَمَرَّ الْحَالُ كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ، وَقَدْ كَانَ مِنْ خِيَارِ بَنِي الْعَبَّاسِ دِينًا وَاعْتِقَادًا
وَدَوْلَةً، وَقَدِ امْتُحِنَ مِنْ بَيْنِهِمْ بِفِتْنَةِ الْبَسَاسِيرِيِّ
الَّتِي اقْتَضَتْ إِخْرَاجَهُ مِنْ دَارِهِ وَمُفَارَقَتَهُ أَهْلَهُ
وَأَوْلَادَهُ وَوَطَنَهُ، فَأَقَامَ بِحَدِيثَةِ عَانَةَ سَنَةً كَامِلَةً، ثُمَّ
أَعَادَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ نِعْمَتَهُ وَخِلَافَتَهُ. كَمَا قَالَ
الشَّاعِرُ:
فَأَصْبَحُوا قَدْ أَعَادَ اللَّهُ نِعْمَتَهُمْ إِذْ هُمْ
قُرَيْشٌ وَإِذْ مَا مِثْلُهُمْ بَشَرُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ فِي ذَلِكَ سَلَفٌ صَالِحٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَقَدْ
فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ
وَقَدْ ذَكَرْنَا مُلَخَّصَ مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي سُورَةِ " ص
" وَبَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَبَّاسِيَّةِ
وَالْفِتْنَةِ الْبَسَاسِيرِيَّةِ فِي سَنَةِ خَمْسِينَ وَإِحْدَى وَخَمْسِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
خِلَافَةُ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ
وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ عُدَّةُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَمِيرِ
ذَخِيرَةِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ بْنِ
الْقَادِرِ الْعَبَّاسِيُّ، وَأُمُّهُ أَرْمِنِيَّةٌ تُسَمَّى أُرْجُوانَ
وَتُدْعَى قُرَّةَ الْعَيْنِ، وَأَدْرَكَتْ خِلَافَتَهُ وَخِلَافَةَ وَلَدَيْهِ
الْمُسْتَظْهِرِ وَالْمُسْتَرْشِدِ. وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ تُوُفِّيَ وَهُوَ
حَمْلٌ، فَحِينَ وُلِدَ ذَكَرًا فَرِحَ بِهِ جَدُّهُ وَالْمُسْلِمُونَ فَرَحًا
شَدِيدًا، إِذْ حَفِظَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَقَاءَ الْخِلَافَةِ فِي
الْبَيْتِ الْقَادِرِيِّ ; لِأَنَّ مَنْ عَدَاهُمْ يَبْتَذِلُونَ فِي الْأَسْوَاقِ
مَعَ الْعَوَامِّ وَكَانَتِ الْقُلُوبُ تَنْفِرُ مِنْ تَوْلِيَةِ مِثْلِ أُولَئِكَ
الْخِلَافَةَ عَلَى النَّاسِ، وَنَشَأَ هَذَا فِي حِجْرِ جَدِّهِ الْقَائِمِ
بِأَمْرِ اللَّهِ يُرَبِّيهِ بِمَا يَلِيقُ بِأَمْثَالِهِ، وَيُدَرِّبُهُ عَلَى
أَحْسَنِ السَّجَايَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَكَانَ عُمْرُ الْمُقْتَدِي حِينَ وَلِيَ الْخِلَافَةَ عِشْرِينَ سَنَةً، وَهُوَ
فِي غَايَةِ الْجَمَالِ خَلْقًا، وَخُلُقًا وَكَانَتْ بَيْعَتُهُ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَجَلَسَ
فِي دَارِ الشَّجَرَةِ بِقَمِيصٍ أَبْيَضَ وَعِمَامَةٍ بَيْضَاءَ لَطِيفَةٍ
وَطَرْحَةِ قَصَبٍ دُرِّيَّةٍ، وَجَاءَ الْوُزَرَاءُ وَالْأُمَرَاءُ
وَالْأَشْرَافُ وَوُجُوهُ النَّاسِ فَبَايَعُوهُ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ
الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبِي مُوسَى الْحَنْبَلِيُّ
وَأَنْشَدَهُ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
إِذَا سَيِّدٌ مِنَّا مَضَى قَامَ سَيِّدٌ
ثُمَّ أُرْتِجَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَدْرِ مَا بَعْدَهُ فَقَالَ الْخَلِيفَةُ:
قَئُولٌ لِمَا قَالَ الْكِرَامُ فَعُولُ
وَبَايَعَهُ مِنْ شُيُوخِ الْعِلْمِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ،
وَالشَّيْخُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ الشَّافِعِيَّانِ، وَالشَّيْخُ أَبُو
مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وَبَرَزَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ الْعَصْرَ
ثُمَّ بَعْدَ سَاعَةٍ أُخْرِجَ تَابُوتُ جَدِّهِ بِسُكُونٍ وَوَقَارٍ مِنْ غَيْرِ
صُرَاخٍ وَلَا نَوْحٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ وَحُمِلَ إِلَى الْمَقْبَرَةِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَقَدْ كَانَ الْمُقْتَدِي بِاللَّهِ شَهْمًا شُجَاعًا، أَيَّامُهُ
كُلُّهَا مُبَارَكَةٌ وَالرِّزْقُ دَارٌّ، وَالْخِلَافَةُ مُعَظَّمَةٌ جِدًّا،
وَتَصَاغَرَتِ الْمُلُوكُ لَهُ وَتَضَاءَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَخُطِبَ لَهُ
بِالْحَرَمَيْنِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالشَّامَاتِ كُلِّهَا، وَاسْتَرْجَعَ
الْمُسْلِمُونَ الرُّهَا وَأَنْطَاكِيَةَ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ، وَعُمِّرَتْ
بَغْدَادُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْبِلَادِ وَاسْتَوْزَرَ ابْنَ جَهِيرٍ ثُمَّ أَبَا
شُجَاعٍ ثُمَّ أَعَادَ ابْنَ جَهِيرٍ وَقَاضِيَهُ الدَّامَغَانِيُّ ثُمَّ أَبُو
بَكْرٍ الشَّامِيُّ وَهَؤُلَاءِ مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ وَالْوُزَرَاءِ وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ.
وَفِي شَعْبَانَ أَخْرَجَ الْمُفْسِدَاتِ مِنَ الْخَوَاطِئِ مِنْ بَغْدَادَ عَلَى
حُمُرَاتٍ يُنَادِينَ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ بِالْعَارِ وَالْفَضِيحَةِ، وَخَرَّبَ
دُورَهُنَّ وَأَسْكَنَهُنَّ الْجَانِبَ الْغَرْبِيَّ، وَخَرَّبَ أَبْرِجَةَ
الْحَمَامِ وَمَنَعَ مِنَ اللَّعِبِ بِهَا، وَأَلْزَمَ النَّاسَ بِالْمَآزِرِ فِي
الْحَمَّامَاتِ،
وَمَنَعَ أَصْحَابَ الْحَمَّامَاتِ أَنْ يَصْرِفُوا
فَضَلَاتِهَا إِلَى دِجْلَةَ، وَأَلْزَمَهُمْ بِحَفْرِ آبَارٍ لِتِلْكَ الْمِيَاهِ
الْقَذِرَةِ صِيَانَةً لِمَاءِ الشُّرْبِ.
وَفِي شَوَّالٍ وَقَعَتْ نَارٌ فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي بَغْدَادَ، حَتَّى
فِي دَارِ الْخِلَافَةِ فَأَحْرَقَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الدُّورِ
وَالدَّكَاكِينِ.
وَوَقَعَ بِوَاسِطٍ حَرِيقٌ فِي تِسْعَةِ أَمَاكِنَ، وَاحْتَرَقَ فِيهَا
أَرْبَعَةٌ وَثَمَانُونَ دَارًا وَسِتَّةُ خَانَاتٍ، وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ
ذَلِكَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا عُمِلَ الرَّصْدُ لِلسُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ
جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْمُنَجِّمِينَ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ أَمْوَالًا
كَثِيرَةً وَبَقِيَ الرَّصْدُ دَائِرًا حَتَّى مَاتَ السُّلْطَانُ فَبَطَلَ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ أُعِيدَتِ الْخُطْبَةُ بِمَكَّةَ لِلْمِصْرِيِّينَ
وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَذَلِكَ لَمَّا قَوِيَ أَمْرُ صَاحِبِ
مِصْرَ بَعْدَمَا كَانَ ضَعِيفًا بِسَبَبِ غَلَاءِ بَلَدِهِ، فَلَمَّا أَرْخَصَتْ
تَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَيْهَا وَطَابَ الْعَيْشُ بِهَا، وَقَدْ كَانَتِ
الْخُطْبَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ بِمَكَّةَ أَرْبَعَ سِنِينَ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ،
وَسَتَعُودُ كَمَا كَانَتْ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ انْجَفَلَ أَهْلُ السَّوَادِ مِنْ شِدَّةِ الْوَبَاءِ
وَقِلَّةِ مَاءِ دِجْلَةَ وَنَقْصِهَا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الشَّرِيفُ أَبُو
طَالِبٍ الْحُسَيْنِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيُّ وَأَخَذَ الْبَيْعَةَ
لِلْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا
شَيْئًا مِنْ تَرْجَمَتِهِ عِنْدَ ذِكْرِ
وَفَاتِهِ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
الدَّاوُدِيُّ
رَاوِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي
طَلْحَةَ الدَّاوُدِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
سَمِعَ الْكَثِيرَ وَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ
الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ، وَصَحِبَ أَبَا عَلِيٍّ
الدَّقَّاقَ وَأَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ، وَكَتَبَ الْكَثِيرَ
وَدَرَّسَ وَأَفْتَى وَصَنَّفَ وَوَعَظَ النَّاسَ، وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي
النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ كَثِيرَ الذِّكْرِ لَا يَفْتُرُ
لِسَانُهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، دَخَلَ عَلَيْهِ يَوْمًا الْوَزِيرُ
نِظَامُ الْمُلْكِ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: إِنَّ
اللَّهَ قَدْ سَلَّطَكَ عَلَى عِبَادِهِ فَانْظُرْ كَيْفَ تُجِيبُهُ إِذَا
سَأَلَكَ عَنْهُمْ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبُوشَنْجَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ
جَاوَزَ التِّسْعِينَ. وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
كَانَ فِي الِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ نُورٌ فَمَضَى النُّورُ وَادْلَهَمَّ
الظَّلَامُ فَسَدَ النَّاسُ وَالزَّمَانُ جَمِيعًا
فَعَلَى النَّاسِ وَالزَّمَانِ السَّلَامُ
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الطَّيِّبِ
الْبَاخَرْزِيُّ الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، اشْتَغَلَ أَوَّلًا عَلَى الشَّيْخِ
أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ ثُمَّ عَدَلَ إِلَى الْكِتَابَةِ
وَالشِّعْرِ فَفَاقَ أَقْرَانَهُ وَلَهُ دِيوَانٌ مَشْهُورٌ
فِيهِ:
وَإِنِّي لَأَشْكُو لَسْعَ أَصْدَاغِكِ الَّتِي عَقَارِبُهَا فِي وَجْنَتَيْكِ
تَحُومُ
وَأَبْكِي لِدُرِّ الثَّغْرِ مِنْكِ وَلِي أَبٌ فَكَيْفَ يُدِيمُ الضَّحِكَ وَهْوَ
يَتِيمُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: جَاءَ جَرَادٌ فِي شَعْبَانَ بِعَدَدِ الرَّمْلِ
وَالْحَصَى فَأَكَلَ الْغَلَّاتِ وَأَكْدَى أَكْثَرُ النَّاسِ وَجَاعُوا فَطُحِنَ
الْخَرُّوبُ بِدَقِيقِ الدُّخْنِ فَأَكَلُوهُ، وَوَقَعَ الْوَبَاءُ ثُمَّ مَنَعَ
اللَّهُ الْجَرَادَ مِنَ الْفَسَادِ، وَكَانَ يَمُرُّ وَلَا يَضُرُّ، فَرَخُصَتِ
الْأَسْعَارُ. قَالَ: وَوَقَعَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِدِمَشْقَ وَاسْتَمَرَّ ثَلَاثَ
سِنِينَ.
وَفِيهَا مَلَكَ نَصْرُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ مَدِينَةَ
مَنْبِجَ وَأَجْلَى عَنْهَا الرُّومَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ الْأَقْسِيسُ مَدِينَةَ
دِمَشْقَ وَهُزِمَ عَنْهَا الْمُعَلَّى بْنُ حَيْدَرَةَ نَائِبُ الْمُسْتَنْصِرِ الْعُبَيْدِيُّ
إِلَى مَدِينَةِ بَانْيَاسَ، وَخُطِبَ فِيهَا لِلْمُقْتَدِي وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ
الْمِصْرِيِّينَ عَنْهَا إِلَى الْآنِ، فَاسْتَدْعَى الْمُسْتَنْصِرُ نَائِبَهُ
فَحَبَسَهُ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي السِّجْنِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُقْطَعُ
الْكُوفَةِ وَهُوَ الْأَمِيرُ خُتْلُغُ بْنُ كَنْتِكِينَ التُّرْكِيُّ وَيُعْرَفُ
بِالطَّوِيلِ. وَكَانَ قَدْ شَرَّدَ خَفَاجَةَ فِي الْبِلَادِ وَقَهَرَهُمْ،
وَلَمْ يَصْحَبْ مَعَهُ سِوَى سِتَّةَ عَشَرَ تُرْكِيًّا، فَوَصَلَ سَالِمًا إِلَى
مَكَّةَ، وَلَمَّا نَزَلَ بِبَعْضِ دُورِهَا كَبَسَهُ بَعْضُ الْعَبِيدِ فَقَتَلَ
فِيهِمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَهَزَمَهُمْ هَزِيمَةً شَنِيعَةً، ثُمَّ إِنَّمَا
كَانَ يَنْزِلُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالزَّاهِرِ قَالَهُ ابْنُ السَّاعِي فِي "
تَارِيخِهِ " وَأُعِيدَتِ الْخُطْبَةُ فِي ذِي الْحِجَّةِ بِمَكَّةَ
لِلْعَبَّاسِيِّينَ، وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ الْمِصْرِيِّينَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ أَبِي
مُوسَى أَبُو تَمَّامِ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ ابْنُ الْقَاضِي أَبِي عَلِيٍّ
الْهَاشِمِيُّ نَقِيبُ الْهَاشِمِيِّينَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ الشَّرِيفِ أَبِي
جَعْفَرِ بْنِ أَبِي مُوسَى الْفَقِيهِ الْحَنْبَلِيِّ، رَوَى الْحَدِيثَ وَسَمِعَ
مِنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدُوسٍ أَبُو بَكْرٍ الصَّفَّارُ
مِنْ أَهْلِ
نَيْسَابُورَ سَمِعَ الْحَاكِمَ وَأَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ
السُّلَمِيَّ وَخَلْقًا وَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ
وَكَانَ يَخْلُفُهُ فِي حَلْقَتِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَيْضَاوِيُّ الشَّافِعِيُّ خَتَنُ أَبِي الطَّيِّبِ
الطَّبَرِيِّ عَلَى ابْنَتِهِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ ثِقَةً خَيِّرًا،
تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا وَتَقَدَّمَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ الشَّيْخُ
أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الدَّامَغَانِيُّ مَأْمُومًا، وَدُفِنَ بِدَارِهِ فِي قَطِيعَةِ الْكَرْخِ.
مُحْمُودُ بْنُ نَصْرِ بْنِ صَالِحٍ
أَمِيرُ حَلَبَ وَكَانَ قَدْ مَلَكَهَا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَكَانَ
مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ شَكْلًا وَفِعْلًا.
مَسْعُودُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُحْسِنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ
أَبُو جَعْفَرٍ الْبَيَاضِيُّ الشَّاعِرُ، وَمِنْ شِعْرِهِ:
لَيْسَ لِي صَاحِبٌ مُعِينٌ سِوَى اللَّيْ لِ إِذَا طَالَ بِالصُّدُودِ عَلَيَّا
أَنَا أَشْكُو بُعْدَ الْحَبِيبِ إِلَيْهِ
وَهْوَ يَشْكُو بُعْدَ الصَّبَاحِ إِلَيَّا
وَلَهُ أَيْضًا:
يَا مَنْ لَبِسْتُ لِهَجْرِهِ ثَوْبَ الضَّنَا حَتَّى خَفِيتُ بِهِ عَنِ
الْعُوَّادِ
وَأَنِسْتُ بِالسَّهَرِ الطَّوِيلِ فَأُنْسِيَتْ أَجْفَانُ عَيْنِي كَيْفَ كَانَ
رُقَادِي
إِنْ كَانَ يُوسُفُ بِالْجَمَالِ مُقَطِّعَ الْ أَيْدِي فَأَنْتَ مُفَتِّتُ
الْأَكْبَادِ
الْوَاحِدِيُّ الْمُفَسِّرُ
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مَتُّويَهِ الْوَاحِدِيُّ، قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلَا أَدْرِي هَذِهِ
النِّسْبَةُ إِلَى مَاذَا وَهُوَ صَاحِبُ التَّفَاسِيرِ الثَّلَاثَةِ: "
الْبَسِيطِ " و " الْوَسِيطِ " و " الْوَجِيزِ " قَالَ:
وَمِنْهُ أَخَذَ الْغَزَّالِيُّ أَسْمَاءَ كُتُبِهِ، قَالَ: وَلَهُ "
أَسْبَابُ النُّزُولِ " و " التَّحْبِيرُ فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ
الْحُسْنَى " وَقَدْ شَرَحَ " دِيوَانَ الْمُتَنَبِّي " وَلَيْسَ
فِي شُرُوحِهِ مَعَ كَثْرَتِهَا مِثْلُهُ، قَالَ: وَقَدْ رُزِقَ السَّعَادَةَ فِي
تَصَانِيفِهِ وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى حُسْنِهَا، وَذَكَرَهَا الْمُدَرِّسُونَ
فِي دُرُوسِهِمْ، وَقَدْ أَخَذَ التَّفْسِيرَ عَنِ الثَّعَالِبِيِّ وَقَدْ مَرِضَ
مُدَّةً ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِنَيْسَابُورَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ.
نَاصِرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
أَبُو مَنْصُورٍ التُّرْكِيُّ الْمُضَافِرِيُّ وَهُوَ وَالِدُ الْحَافِظِ
مُحَمَّدِ بْنِ نَاصِرٍ قَرَأَ الْقِرَاءَاتِ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَهُوَ الَّذِي
تَوَلَّى قِرَاءَةَ " التَّارِيخِ " عَلَى الْخَطِيبِ بِجَامِعِ
الْمَنْصُورِ وَكَانَ ظَرِيفًا صَبِيحًا مَاتَ شَابًّا دُونَ الثَّلَاثِينَ سَنَةً
فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا وَقَدْ رَثَاهُ بَعْضُهُمْ بِقَصِيدَةٍ طَوِيلَةٍ
أَوْرَدَهَا كُلَّهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ".
يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو الْقَاسِمِ
الْهَمَذَانِيُّ، سَمِعَ وَجَمَعَ وَصَنَّفَ وَانْتَشَرَتْ عَنْهُ الرِّوَايَةُ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مَرِضَ الْخَلِيفَةُ مَرَضًا شَدِيدًا فَأَرْجَفَ النَّاسُ بِهِ،
فَرَكِبَ حَتَّى رَآهُ النَّاسُ جَهْرَةً فَسَكَنُوا.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً كَثِيرَةً إِحْدَى
وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا وَنِصْفًا فَنَقَلَ النَّاسُ أَمْوَالَهُمْ، وَخِيفَ عَلَى
دَارِ الْخِلَافَةِ فَنُقِلَ تَابُوتُ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْلًا إِلَى
التُّرَبِ بِالرُّصَافَةِ.
وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْحَنَابِلَةِ
وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ ابْنَ الْقُشَيْرِيِّ قَدِمَ بَغْدَادَ
فَجَلَسَ يَتَكَلَّمُ فِي النِّظَامِيَّةِ، وَأَخَذَ يَذُمُّ الْحَنَابِلَةَ
وَيَنْسُبُهُمْ إِلَى التَّجْسِيمِ وَسَاعَدَهُ أَبُو سَعْدٍ الصُّوفِيُّ وَمَالَ
مَعَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَكَتَبَ إِلَى نِظَامِ
الْمُلْكِ يَشْكُو إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةَ وَيَسْأَلُهُ الْمَعُونَةَ، وَذَهَبَ
جَمَاعَةٌ إِلَى
الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي مُوسَى شَيْخِ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ فِي مَسْجِدِهِ فَدَافَعَ عَنْهُ آخَرُونَ، وَقُتِلَ رَجُلٌ خَيَّاطٌ مِنْ سُوقِ الثُّلَاثَاءِ، وَجُرِحَ آخَرُونَ وَثَارَتِ الْفِتْنَةُ، وَكَتَبَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ إِلَى نِظَامِ الْمُلْكِ فَجَاءَ كِتَابُهُ إِلَى فَخْرِ الدَّوْلَةِ يُنْكِرُ مَا وَقَعَ وَيَكْرَهُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْمَدْرَسَةِ الَّتِي بَنَاهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَعَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ عَلَى الرِّحْلَةِ مِنْ بَغْدَادَ غَضَبًا مِمَّا وَقَعَ مِنَ الشَّرِّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ يُسَكِّنُهُ ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي سَعْدٍ الصُّوفِيِّ وَأَبِي نَصْرِ بْنِ الْقُشَيْرِيِّ عِنْدَ الْوَزِيرِ، فَأَقْبَلَ الْوَزِيرُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ يُعَظِّمُهُ فِي الْفِعَالِ وَالْمَقَالِ، وَقَامَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فَقَالَ: أَنَا ذَلِكَ الَّذِي كُنْتَ تَعْرِفُهُ وَأَنَا شَابٌّ وَهَذِهِ كُتُبِي فِي الْأُصُولِ، أَقُولُ فِيهَا خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيَّةِ ثُمَّ قَبَّلَ رَأْسَهُ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ: صَدَقْتَ، إِلَّا أَنَّكَ لَمَّا كُنْتَ فَقِيرًا لَمْ تُظْهِرْ لَنَا مَا فِي نَفْسِكِ، فَلَمَّا جَاءَ الْأَعْوَانُ وَالسُّلْطَانُ وَخَوَاجَا بُزُرْكُ يَعْنِي نِظَامَ الْمُلْكِ أَبْدَيْتَ مَا كَانَ مُخْتَفِيًا فِي نَفْسِكَ، وَقَامَ الشَّيْخُ أَبُو سَعْدٍ الصُّوفِيُّ فَقَبَّلَ رَأْسَ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ أَيْضًا، وَتَلَطَّفَ بِهِ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ مُغْضَبًا وَقَالَ: أَيُّهَا الشَّيْخُ أَمَّا الْفُقَهَاءُ إِذَا تَكَلَّمُوا فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ فَلَهُمْ فِيهَا مَدْخَلٌ، وَأَمَّا أَنْتَ فَصَاحِبُ لَهْوٍ وَسَمَاعٍ وَتَعْبِيرٍ فَمَنْ زَاحَمَكَ مِنَّا عَلَى بَاطِلِكَ؟ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الْوَزِيرُ: أَيُّ صُلْحٍ بَيْنَنَا، وَنَحْنُ نُوجِبُ مَا نَعْتَقِدُهُ وَهُمْ يُحَرِّمُونَ؟! وَهَذَا جَدُّ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمُ، وَالْقَادِرُ قَدْ أَظْهَرَا اعْتِقَادَهُمَا لِلنَّاسِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالسَّلَفِ وَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا وَافَقَ عَلَيْهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْخُرَاسَانِيُّونَ وَقُرِئَ عَلَى النَّاسِ فِي الدَّوَاوِينِ
كُلِّهَا، فَأَرْسَلَ الْوَزِيرُ إِلَى الْخَلِيفَةِ
يُعْلِمُهُ بِمَا جَرَى فَجَاءَ الْجَوَابُ بِشُكْرِ الْجَمَاعَةِ وَخُصُوصًا
الشَّرِيفَ أَبَا جَعْفَرٍ، ثُمَّ اسْتُدْعِيَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ
لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ وَالتَّبَرُّكِ بِدُعَائِهِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفَى ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا كَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ
فِي النَّاسِ بِبَغْدَادَ وَوَاسِطٍ وَالسَّوَادِ وَوَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ
الشَّامَ كَذَلِكَ
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أُزِيلَتِ الْمُنْكَرَاتُ وَالْبَغَايَا بِبَغْدَادَ
وَهَرَبَ الْفُسَّاقُ مِنْهَا، وَفِيهَا مَلَكَ حَلَبَ نَصْرُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ
مِرْدَاسٍ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ
وَفِيهَا تَزَوَّجَ الْأَمِيرُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ فَرَامَرْزَ
بْنِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ كَالَوَيْهِ السِّتَّ أَرْسَلَانَ خَاتُونَ بِنْتَ
دَاوُدَ عَمَّةَ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَكَانَتْ زَوْجَةَ الْقَائِمِ
بِأَمْرِ اللَّهِ
وَفِيهَا حَاصَرَ الْأَقْسِيسُ صَاحِبُ دِمَشْقَ مِصْرَ وَضَيَّقَ عَلَى
صَاحِبِهَا الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى دِمَشْقَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْأَمِيرُ خُتْلُغُ التُّرْكِيُّ مُقْطَعُ الْكُوفَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَسْبَهْدُوسِتُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو مَنْصُورٍ الدَّيْلَمِيُّ
الشَّاعِرُ، لَقِيَ
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ الْحَجَّاجِ وَعَبْدَ الْعَزِيزِ
بْنَ نُبَاتَةَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الشُّعَرَاءِ، وَكَانَ شِيعِيًّا فَتَابَ
وَقَالَ قَصِيدَةً فِي ذَلِكَ مِنْهَا:
وَإِذَا سُئِلْتُ عِنِ اعْتِقَادِي قُلْتُ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مَذَاهِبُ
الْأَبْرَارِ وَأَقُولُ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ
صِدِّيقُهُ وَأَنِيسُهُ فِي الْغَارِ ثُمَّ الثَّلَاثَةُ بَعْدَهُ خَيْرُ الْوَرَى
أَكْرِمْ بِهِمْ مِنْ سَادَةٍ أَطْهَارِ هَذَا اعْتِقَادِي وَالَّذِي أَرْجُو بِهِ
فَوْزِي وَعِتْقِي مِنْ عَذَابِ النَّارِ
طَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَابَشَاذَ أَبُو الْحَسَنِ الْمِصْرِيُّ النَّحْوِيُّ
سَقَطَ مِنْ سَطْحِ جَامِعِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِمِصْرَ فَمَاتَ مِنْ
سَاعَتِهِ وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ:
كَانَ بِمِصْرَ إِمَامُ عَصْرِهِ فِي النَّحْوِ وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ
الْمُفِيدَةُ مِنْ ذَلِكَ " مُقَدِّمَتُهُ "، وَ " شَرْحُهَا
"، وَ " شَرْحُ الْجُمَلِ " لِلزَّجَّاجِىِّ. قَالَ: وَكَانَتْ
وَظِيفَتُهُ بِمِصْرَ أَنَّهُ لَا تُكْتَبُ الرَّسَائِلُ فِي دِيوَانِ
الْإِنْشَاءِ إِلَّا عُرِضَتْ عَلَيْهِ فَيُصْلِحُ مِنْهَا مَا فِيهِ خَلَلٌ ثُمَّ
تُنْفَذُ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي عُيِّنَتْ لَهَا، وَكَانَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ
مَعْلُومٌ وَرَاتِبٌ جَيِّدٌ.
قَالَ: فَاتَّفَقَ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ يَوْمًا مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ
طَعَامًا، فَجَاءَهُ قِطٌّ فَرَمَوْا لَهُ شَيْئًا فَأَخَذَهُ وَذَهَبَ سَرِيعًا
ثُمَّ أَقْبَلَ فَرَمَوْا لَهُ شَيْئًا أَيْضًا فَانْطَلَقَ بِهِ سَرِيعًا ثُمَّ
جَاءَ فَرَمَوْا لَهُ شَيْئًا أَيْضًا فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا
يَأْكُلُ هَذَا كُلَّهُ، فَتَتَبَّعُوهُ فَإِذَا هُوَ
يَذْهَبُ بِهِ إِلَى قِطٍّ آخَرَ أَعْمَى فِي سَطْحٍ هُنَاكَ، فَتَعَجَّبُوا مِنْ
ذَلِكَ، فَقَالَ الشَّيْخُ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ! هَذَا حَيَوَانٌ بَهِيمٌ قَدْ
سَاقَ اللَّهُ إِلَيْهِ رِزْقَهُ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ أَفَلَا يَرْزُقُنِي وَأَنَا
عَبْدُهُ؟! ثُمَّ تَرَكَ مَا كَانَ لَهُ مِنَ الرَّاتِبِ وَجَمَعَ حَوَاشِيَهُ،
وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالِاشْتِغَالِ وَالْمُلَازَمَةِ فِي غُرْفَةٍ فِي
جَامِعِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَقَدْ جَمَعَ تَعْلِيقَةً فِي
النَّحْوِ قَرِيبًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ مُجَلَّدًا، فَأَصْحَابُهُ كَابْنِ
بَرِيٍّ وَغَيْرِهِ يَنْقُلُونَ مِنْهَا وَيَنْتَفِعُونَ بِهَا وَيُسَمُّونَهَا
" تَعْلِيقَ الْغُرْفَةِ ".
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ
بْنِ الْمُجَمِّعِ بْنِ مُجِيبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ هَزَارْمَرْدَ،
أَبُو مُحَمَّدٍ الصَّرِيفِينِيُّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْمُعَلِّمِ، أَحَدُ
مَشَايِخِ الْحَدِيثِ الْمُسْنِدِينَ الْمَشْهُورِينَ تَفَرَّدَ عَنْ جَمَاعَةٍ
مِنَ الْمَشَايِخِ لِطُولِ عُمْرِهِ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ بِالْجَعْدِيَّاتِ
عَنِ ابْنِ حَبَابَةَ عَنْ أَبَى الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ
وَهُوَ سَمَاعُنَا، وَرَحَلَ إِلَيْهِ النَّاسُ بِسَبَبِهِ، وَسَمِعَ عَلَيْهِ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ، مِنْهُمُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ،
وَكَانَ ثِقَةً مَحْمُودَ الطَّرِيقَةِ صَافِيَ الطَّوِيَّةِ تُوُفِّيَ
بِصَرِيفِينَ، فِي جُمَادَى الْأُولَى عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
حَيَّانُ بْنُ خَلَفِ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ وَهْبِ بْنِ حَيَّانَ أَبُو مَرْوَانَ
الْقُرْطُبِىُّ مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ صَاحِبُ " تَارِيخِ الْمَغْرِبِ
" فِي سِتِّينَ مُجَلَّدًا، أَثْنَى عَلَيْهِ الْحَافِظُ أَبُو عَلِيٍّ
الْغَسَّانِيُّ فِي فَصَاحَتِهِ وَصِدْقِهِ وَبَلَاغَتِهِ. وَقَالَ: وَسَمِعْتُهُ
يَقُولُ: التَّهْنِئَةُ بَعْدَ ثَلَاثٍ اسْتِخْفَافٌ بِالْمَوَدَّةِ
وَالتَّعْزِيَةُ بَعْدَ ثَلَاثٍ إِغْرَاءٌ بِالْمُصِيبَةِ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ:
تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا وَرَآهُ بَعْضُهُمْ فِي النَّوْمِ
فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي
وَأَمَّا " التَّارِيخُ " فَنَدِمْتُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ
بِلُطْفِهِ أَقَالَنِي وَعَفَا عَنِّي.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَاتِمٍ أَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ
الْوَائِلِيُّ نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا وَائِلُ، مِنْ قُرَى
سِجِسْتَانَ سَمِعَ الْكَثِيرَ وَجَمَعَ وَصَنَّفَ وَخَرَّجَ وَأَقَامَ
بِالْحَرَمِ، وَلَهُ كِتَابُ " الْإِبَانَةِ " فِي الْأُصُولِ وَلَهُ
يَدٌ فِي الْفُرُوعِ أَيْضًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ كَانَ يُفَضِّلُهُ فِي
الْحِفْظِ عَلَى الصُّورِيِّ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْمَاطِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ سِكِّينَةَ وُلِدَ سَنَةَ تِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
وَكَانَ كَثِيرَ السَّمَاعِ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ تِسْعٍ
وَسَبْعِينَ سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَقَعَتْ صَاعِقَةٌ بِمَحَلَّةِ
التُّوثَةِ مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ عَلَى نَخْلَتَيْنِ فِي مَسْجِدٍ
فَأَحْرَقَتْ أَعَالِيَهُمَا، وَصَعِدَ النَّاسُ فَأَطْفَئُوا النَّارَ وَنَزَلُوا
بِالسَّعَفِ وَهُوَ يَشْتَعِلُ نَارًا. قَالَ: وَوَرَدَ كِتَابٌ مِنْ نِظَامِ
الْمُلْكِ إِلَى الشَّيْخِ أَبَى إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ فِي جَوَابِ كِتَابِهِ
إِلَيْهِ فِي شَأْنِ الْحَنَابِلَةِ، ثُمَّ سَرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
وَمَضْمُونُهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُ الْمَذَاهِبِ وَلَا نَقْلُ
أَهْلِهَا عَنْهَا، وَالْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ هُوَ مَذْهَبُ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَمَحَلُّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، وَقَدْرُهُ
مَعْلُومٌ فِي السُّنَّةِ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ.
قَالَ: وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْحَنَابِلَةِ وَبَيْنَ
فُقَهَاءِ النِّظَامِيَّةِ، وَحَمِيَ لِكُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ طَائِفَةٌ مِنَ
الْعَوَامِّ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ قَتِيلًا، ثُمَّ سَكَنَتِ
الْفِتْنَةُ.
قَالَ: وَفِي تَاسِعَ عَشَرَ شَوَّالٍ وُلِدَ لِلْخَلِيفَةِ
الْمُقْتَدِي وَلَدُهُ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ،
وَزُيِّنَ الْبَلَدُ وَجَلَسَ الْوَزِيرُ لِلْهَنَاءِ، ثُمَّ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ
السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ آخَرُ وَهُوَ أَبُو
مُحَمَّدٍ هَارُونُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِيهَا وَلِيَ تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُشُ بْنُ أَلْبِ
أَرْسَلَانَ الشَّامَ وَحَاصَرَ حَلَبَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُقْطَعُ الْكُوفَةِ خُتْلُغُ، وَذَكَرَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الْوَزِيرَ ابْنَ جَهِيرٍ كَانَ قَدْ عَمِلَ مِنْبَرًا
هَائِلًا ; لِتُقَامَ عَلَيْهِ الْخُطْبَةُ بِمَكَّةَ، فَحِينَ وَصَلَ إِلَيْهَا
إِذِ الْخُطْبَةُ قَدْ أُعِيدَتْ لِلْمِصْرِيِّينَ فَكُسِرَ ذَلِكَ الْمِنْبَرُ
وَأُحْرِقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ ابْنُ حُمَّدُوهْ أَبُو
بَكْرٍ الرَّزَّازُ الْمُقْرِئُ، آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ
سَمْعُونَ، وَقَدْ كَانَ ثِقَةً مُتَعَبِّدًا حَسَنَ الطَّرِيقَةِ، كَتَبَ عَنْهُ
الْخَطِيبُ وَقَالَ كَانَ صَدُوقًا تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
تِسْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ
النَّقُورِ الْبَزَّازُّ، أَحَدُ الْمُسْنِدِينَ الْمُعَمَّرِينَ، تَفَرَّدَ
بِنُسَخٍ كَثِيرَةٍ عَنِ ابْنِ حَبَابَةَ عَنِ الْبَغَوِيِّ عَنْ أَشْيَاخِهِ ;
كَنُسْخَةِ هُدْبَةَ وَكَامِلِ بْنِ طَلْحَةَ وَعُمَرَ بْنِ زُرَارَةَ وَأَبِي
السَّكَنِ الْبَلَدِيِّ، وَكَانَ مُكْثِرًا مُتَحَرِّيًا، وَكَانَ يَأْخُذُ عَلَى
إِسْمَاعِ حَدِيثِ طَالُوتَ بْنِ عَبَّادٍ دِينَارًا، وَقَدْ أَفْتَاهُ الشَّيْخُ
أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِىُّ بِجَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى إِسْمَاعِ
الْحَدِيثِ ; لِاشْتِغَالِهِ بِهِ عَنِ الْكَسْبِ تُوُفِّيَ عَنْ تِسْعٍ
وَثَمَانِينَ سَنَةً. رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو صَالِحٍ
الْمُؤَذِّنُ النَّيْسَابُورِىُّ الْحَافِظُ كَتَبَ الْكَثِيرَ وَجَمَعَ
وَصَنَّفَ، وكَتَبَ عَنْ أَلْفِ شَيْخٍ أَلْفَ حَدِيثٍ وَكَانَ يَعِظُ وَيُؤَذِّنُ
مَاتَ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ الْحَسَنِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ آخِرُ مَنْ
حَدَّثَ عَنْ أَبِي حَفْصٍ الْكَتَّانِيِّ وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَرَوَى
عَنْهُ الْخَطِيبُ وَوَثَّقَهُ، تُوُفِّيَ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً،
وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ. رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ - ابْنُ مَنْدَهْ - بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَي بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي عَبْدِ
اللَّهِ، الْإِمَامُ ابْنُ الْإِمَامِ، سَمِعَ أَبَاهُ وَابْنَ مَرْدَوَيْهِ
وَخَلْقًا فِي أَقَالِيمَ شَتَّى، سَافَرَ إِلَيْهَا وَجَمَعَ شَيْئًا كَثِيرًا،
وَكَانَ ذَا وَقَارٍ وَسَمْتٍ حَسَنٍ وَاتِّبَاعٍ لِلسُّنَّةِ وَفَهْمٍ جَيِّدٍ،
كَثِيرَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يَخَافُ فِي
اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّنْجَانِيُّ
يَقُولُ: حَفِظَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ بِهِ، وَبِعَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ
الْهَرَوِيِّ، تُوُفِّيَ ابْنُ مَنْدَهْ هَذَا بِأَصْبَهَانَ عَنْ سَبْعٍ
وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يَعْلَمُهُمْ
إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو الْقَاسِمِ الْهَمَذَانِيُّ، أَحَدُ
الْحُفَّاظِ الْفُقَهَاءِ الْأَوْلِيَاءِ كَانَ يُلَقَّبُ بُنْجِيرَ، وَقَدْ
سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ يَكْتُبُ لِلطَّلَبَةِ وَيَقْرَأُ لَهُمْ، تُوُفِّيَ
بِالرَّيِّ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ
إِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصِ.
الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ الْحَنْبَلِيُّ عَبْدُ الْخَالِقِ بْنُ عِيسَى بْنِ
أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَعْبِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيُّ،
ابْنُ أَبِي مُوسَى الْحَنْبَلِيُّ الْعَبَّاسِيُّ، كَانَ أَحَدَ الْفُقَهَاءِ الْعُلَمَاءِ
الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ الْمَشْهُورِينَ بِالدِّيَانَةِ وَالْفَضْلِ
وَالْعِبَادَةِ وَالْقِيَامِ فِي اللَّهِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ
عَنِ الْمُنْكَرِ، لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وُلِدَ سَنَةَ
إِحْدَى عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى
بْنِ الْفَرَّاءِ وَزَكَّاهُ شَيْخُهُ عِنْدَ ابْنِ الدَّامَغَانِيِّ فَقَبِلَهُ،
ثُمَّ تَرَكَ الشَّهَادَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَانَ مَشْهُورًا بِالصَّلَاحِ
وَالدِّيَانَةِ وَحِينَ احْتُضِرَ الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ
أَوْصَى أَنْ يُغَسِّلَهُ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ هَذَا، وَأَوْصَى لَهُ
بِشَيْءٍ كَثِيرٍ وَمَالٍ جَزِيلٍ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا.
وَحِينَ وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْحَنَابِلَةِ
وَالْأَشْعَرِيَّةِ بِسَبَبِ ابْنِ الْقُشَيْرِيِّ اعْتُقِلَ هُوَ فِي دَارِ
الْخِلَافَةِ مُكَرَّمًا مُعَظَّمًا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَغَيْرُهُمْ
وَيُقَبِّلُونَ يَدَهُ وَرَأْسَهُ، وَلَمْ يَزَلْ هُنَاكَ حَتَّى اشْتَكَى،
فَأُذِنَ لَهُ فِي الْمَسِيرِ إِلَى أَهْلِهِ، فَتُوُفِّيَ عِنْدَهُمْ لَيْلَةَ
الْخَمِيسِ النِّصْفَ مِنْ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَاتَّخَذَتِ الْعَامَّةُ قَبْرَهُ سُوقًا كُلَّ لَيْلَةِ
أَرْبِعَاءَ يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ وَيَقْرَءُونَ الْخَتَمَاتِ عِنْدَهُ حَتَّى
جَاءَ الشِّتَاءُ، وَكَانَ جُمْلَةُ مَا قُرِئَ عِنْدَهُ عَشَرَةَ آلَافِ خَتْمَةٍ
مِنْ كَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو الْحَسَنِ
الْبَيْضَاوِيُّ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيِّينَ، وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ
بِرَبْعِ الْكَرْخِ وَدُفِنَ عِنْدَ وَالِدِهِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا مَلَكَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ تَاجُ الْمُلُوكِ تُتُشُ بْنُ
أَلْبِ أَرَسَلَانَ السَّلْجُوقِيُّ دِمَشْقَ وَقَتَلَ مَلِكَهَا أَقْسِيسَ،
وَذَلِكَ أَنَّ أَقْسِيسَ بَعَثَ إِلَيْهِ يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ،
فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ لَمْ يَرْكَبْ لِتَلَقِّيهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ
فَقُتِلَ لِسَاعَتِهِ.
وَفِيهَا عُزِلَ الْوَزِيرُ ابْنُ جَهِيرٍ بِإِشَارَةِ نِظَامِ الْمُلْكِ ;
بِسَبَبِ مُمَالَأَتِهِ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ، ثُمَّ كَاتَبَ الْمُقْتَدِي
نِظَامَ الْمُلْكِ فِي إِعَادَتِهِ فَأُعِيدَ وَلَدُهُ وَأُطْلِقَ هُوَ.
وَفِيهَا قَدِمَ سَعْدُ الدَّوْلَةِ كُوَهْرَائِينُ أَمِيرًا إِلَى بَغْدَادَ،
وَضُرِبَتِ الطُّبُولُ عَلَى بَابِهِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، وَأَسَاءَ
الْأَدَبَ عَلَى الْخِلَافَةِ، وَضَرَبَ طُوَالَاتِ الْخُيُولِ عَلَى بَابِ
الْفِرْدَوْسِ فَكُوتِبَ السُّلْطَانُ فِي أَمْرِهِ فَجَاءَ الْكِتَابُ مِنَ
السُّلْطَانِ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأَمِيرُ
مُقْطَعُ الْكُوفَةِ خُتْلُغُ التُّرْكِيُّ أَثَابَهُ اللَّهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سَعْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَبُو الْقَاسِمِ
الزَّنْجَانِيُّ، رَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَكَانَ إِمَامًا
حَافِظًا مُتَعَبِّدًا، ثُمَّ انْقَطَعَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ بِمَكَّةَ وَكَانَ
النَّاسُ يَتَبَرَّكُونَ بِهِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَيُقَبِّلُونَ يَدَهُ
أَكْثَرَ مِمَّا يُقَبِّلُونَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ.
سَلِيمٌ الْحَوْرِيُّ نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى دُجَيْلٍ كَانَ عَابِدًا
زَاهِدًا يُقَالُ: إِنَّهُ مَكَثَ مُدَّةً يَتَقَوَّتُ كُلَّ يَوْمٍ بِزَبِيبَةٍ
وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَقُرِئَ عَلَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبْعُونَ أَبُو أَحْمَدَ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ
الْقَيْرَوَانِيُّ، تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ، وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا مَلَكَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ -
صَاحِبُ غَزْنَةَ - قِلَاعًا كَثِيرَةً حَصِينَةً مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ، ثُمَّ
عَادَ إِلَى بِلَادِهِ سَالِمًا غَانِمًا.
وَفِيهَا وُلِدَ الْأَمِيرُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ،
وَزُيِّنَتْ لَهُ بَغْدَادُ،.
وَفِيهَا مَلَكَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ الْأَمِيرُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ
قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ الْعَقِيلِيُّ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ
وَفِيهَا مَلَكَ مَنْصُورُ بْنُ مَرْوَانَ دِيَارَ بَكْرٍ بَعْدَ أَبِيهِ
وَفِيهَا أَمَرَ السُّلْطَانُ بِتَغْرِيقِ ابْنِ عَلَّانَ الْيَهُودِيِّ ضَامِنِ
الْبَصْرَةِ وَأَخَذَ مِنْ ذَخَائِرِهِ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَضَمِنَ
خُمَارْتِكِينَ الْبَصْرَةَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَمِائَةِ فَرَسٍ فِي كُلِّ
سَنَةٍ.
وَفِيهَا فَتَحَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ تَكْرِيتَ وَحَجَّ
بِالنَّاسِ خُتْلُغُ التُّرْكِيُّ،
وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ الْمِصْرِيِّينَ بِمَكَّةَ وَخُطِبَ
لِلْمُقْتَدِي وَلِلسُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ السَّلْجُوقِيِّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَيْرُونَ أَبُو نَصْرٍ
سَمِعَ الْكَثِيرَ وَكَانَ زَاهِدًا عَابِدًا يَسْرُدُ الصَّوْمَ وَيَخْتِمُ فِي
كُلِّ لَيْلَةٍ خَتْمَةً رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
بْنِ مِهْرَانَ الْعُكْبَرِيُّ، سَمِعَ هِلَالًا الْحَفَّارَ وَابْنَ رَزْقُوَيْهِ
وَالْحَمَّامِيَّ وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَ فَاضِلًا جَيِّدَ الشِّعْرِ، فَمِنْ
شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
أُطِيلُ تَفَكُّرِي فِي أَيِّ نَاسٍ مَضَوْا قِدْمًا وَفِيمَنْ خَلَّفُونَا هُمُ
الْأَحْيَاءُ بَعْدَ الْمَوْتِ ذِكْرًا
وَنَحْنُ مِنَ الْخُمُولِ الْمَيِّتُونَا
تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً.
هَيَّاجُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحِطِّينِيُّ الشَّامِيُّ سَمِعَ الْحَدِيثَ
وَكَانَ أَوْحَدَ زَمَانِهِ
زُهْدًا وَفِقْهًا وَاجْتِهَادًا فِي الْعِبَادَةِ، أَقَامَ بِمَكَّةَ مُدَّةً يُفْتِي أَهْلَهَا وَيَعْتَمِرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى قَدَمَيْهِ، وَلَمْ يَلْبَسْ نَعْلًا مُذْ أَقَامَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ يَزُورُ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ مَاشِيًا حَافِيًا، وَكَذَلِكَ كَانَ يَزُورُ قَبْرَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ، وَكَانَ لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا وَلَا يَلْبَسُ إِلَّا قَمِيصًا وَاحِدًا، ضَرَبَهُ بَعْضُ أُمَرَاءِ مَكَّةَ فِي بَعْضِ فِتَنِ الرَّوَافِضِ فَاشْتَكَى أَيَّامًا، وَمَاتَ وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى الثَّمَانِينَ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا اسْتَوْلَى تُكَشُ أَخُو السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ عَلَى بَعْضِ
خُرَاسَانَ. وَفِيهَا أُذِنَ لِلْوُعَّاظِ فِي الْجُلُوسِ لِلْوَعْظِ ; وَكَانُوا
قَدْ مُنِعُوا مِنْ وَقْتِ فِتْنَةِ ابْنِ الْقُشَيْرِيِّ، وَفِيهَا قُبِضَ عَلَى
جَمَاعَةٍ مِنَ الْفِتْيَانِ ; كَانُوا قَدْ جَعَلُوا عَلَيْهِمْ رَئِيسًا يُقَالُ
لَهُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْهَاشِمِيُّ، وَقَدْ كَاتَبُوهُ مِنَ الْأَقْطَارِ
وَكَانَ السَّاعِي لَهُ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: ابْنُ رَسُولٍ، وَكَانُوا
يَجْتَمِعُونَ عِنْدَ جَامِعِ بَرَاثَا فَخِيفَ مِنْ أَمْرِهِمْ أَنْ يَكُونُوا
مُمَالِئِينَ لِلْمِصْرِيِّينَ فَأُمِرَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِمْ. وَحَجَّ
بِالنَّاسِ خُتْلُغُ التُّرْكِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْأَخْضَرِ الْمُحَدِّثُ، سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ شَاذَانَ
وَكَانَ عَلَى مَذْهَبِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَكَانَ كَثِيرَ التِّلَاوَةِ حَسَنَ
السِّيرَةِ مُتَقَلِّلًا مِنَ الدُّنْيَا قَنُوعًا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الصُّلَيْحِيُّ الْمُتَغَلِّبُ عَلَى الْيَمَنِ، أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُلَقَّبُ
بِالصُّلَيْحِيِّ، كَانَ أَبُوهُ قَاضِيًا بِالْيَمَنِ
وَكَانَ سُنِّيًّا، وَنَشَأَ هَذَا فَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَبَرَعَ فِي أَشْيَاءَ
كَثِيرَةٍ مِنَ الْعُلُومِ، وَكَانَ شِيعِيًّا عَلَى مَذْهَبِ الْقَرَامِطَةِ،
ثُمَّ كَانَ يَدُلُّ بِالْحَجِيجِ مُدَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ قَدِ
اشْتَهَرَ أَمْرُهُ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُ سَيَمْلِكُ الْيَمَنَ، فَنَجَمَ
بِبِلَادِ الْيَمَنِ بَعْدَ قَتْلِهِ نَجَاحًا صَاحِبَ تِهَامَةَ، وَاسْتَحْوَذَ
عَلَى بِلَادِ الْيَمَنِ بِكَمَالِهَا، فِي أَقْصَرِ مُدَّةٍ وَاسْتَوْثَقَ لَهُ
الْمُلْكُ بِهَا سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَخَطَبَ لِلْمُسْتَنْصِرِ
الْعُبَيْدِيِّ صَاحِبِ مِصْرَ فَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا الْعَامِ خَرَجَ إِلَى
الْحَجِّ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ فَاعْتَرَضَهُ سَعِيدُ بْنُ نَجَاحٍ بِالْمَوْسِمِ
فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ فَقَاتَلَهُمْ فَقُتِلَ هُوَ وَأَخُوهُ وَاسْتَحْوَذَ سَعِيدُ
بْنُ نَجَاحٍ عَلَى مَمْلَكَتِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَمِنْ شِعْرِ الصُّلَيْحِيِّ
هَذَا قَوْلُهُ:
أَنْكَحْتُ بِيضَ الْهِنْدِ سُمْرَ رِمَاحِهِمْ فَرُءُوسُهُمْ عِوَضُ النِّثَارِ
نِثَارُ وَكَذَا الْعُلَا لَا يُسْتَبَاحُ نِكَاحُهَا
إِلَّا بِحَيْثُ تُطَلَّقُ الْأَعْمَارُ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ
الشِّبْلِ، أَبُو عَلِيٍّ الشَّاعِرُ الْبَغْدَادِيُّ، أَسْنَدَ الْحَدِيثَ وَلَهُ
الشِّعْرُ الرَّائِقُ فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
لَا تُظْهِرَنَّ لِعَاذِلٍ أَوْ عَاذِرٍ حَالَيْكَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
فَلِرَحْمَةِ الْمُتَوَجِّعِينَ مَرَارَةٌ فِي الْقَلْبِ مِثْلُ شَمَاتَةِ
الْأَعْدَاءِ
وَلَهُ أَيْضًا:
يُفنِي الْبَخِيلُ بِجَمْعِ الْمَالِ مُدَّتَهُ وَلِلْحَوَادِثِ وَالْوُرَّاثِ مَا
يَدَعُ
كَدُودَةِ الْقَزِّ مَا تَبْنِيهِ يَخْنُقُهَا وَغَيْرُهَا بِالَّذِي تَبْنِيهِ
يَنْتَفِعُ
يُوسُفُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، أَبُو الْقَاسِمِ
التَّفَكُّرِيُّ، مِنْ أَهْلِ زَنْجَانَ وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ وَتَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَدَرَسَ الْفِقْهَ
عَلَى الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ
تَلَامِذَتِهِ، وَكَانَ عَابِدًا وَرِعًا خَاشِعًا، كَثِيرَ الْبُكَاءِ عِنْدَ
الذِّكْرِ مُقْبِلًا عَلَى الْعِبَادَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا وَلِيَ أَبُو كَامِلٍ مَنْصُورُ بْنُ نُورِ الدَّوْلَةِ دُبَيْسٍ مَا كَانَ
يَلِيهِ أَبُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ وَالْخَلِيفَةُ.
وَفِيهَا مَلَكَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ قُرَيْشٍ حَرَّانَ وَصَالَحَ
صَاحِبَ الرُّهَا 72.
وَفِيهَا فَتَحَ تُتُشُ بْنُ أَلْبِ أَرْسَلَانَ صَاحِبُ دِمَشْقَ مَدِينَةَ
أَنْطَرْطُوسَ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ ابْنَ جَهِيرٍ إِلَى السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ
يَخْطُبُ ابْنَتَهُ عَنْهُ، فَأَجَابَتْ أُمُّهَا إِلَى ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ لَا
يَكُونَ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَا سُرِّيَّةٌ سِوَاهَا، وَأَنْ يَكُونَ مَبِيتُهُ
عِنْدَهَا فَوَقَعَ الشَّرْطُ عَلَى ذَلِكَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
دَاوُدُ بْنُ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، فَوَجَدَ عَلَيْهِ أَبُوهُ وَجْدًا
عَظِيمًا، بِحَيْثُ إِنَّهُ كَادَ - أَوْ هَمَّ - أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ
فَمَنَعَهُ الْأُمَرَاءُ مِنْ ذَلِكَ، وَانْتَقَلَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ،
وَأَمَرَ النِّسَاءَ بِالنَّوْحِ عَلَيْهِ وَلَمَّا وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى
بَغْدَادَ جَلَسَ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ لِلْعَزَاءِ.
الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ، سُلَيْمَانُ بْنُ خَلَفِ بْنِ سَعْدِ
بْنِ أَيُّوبَ التُّجِيبِيُّ
الْأَنْدَلُسِيُّ الْبَاجِيُّ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ
أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ، وَرَحَلَ فِيهِ إِلَى بِلَادِ الْمَشْرِقِ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَسَمِعَ هُنَاكَ الْكَثِيرَ، وَاجْتَمَعَ بِأَئِمَّةِ ذَلِكَ
الْوَقْتِ كَالْقَاضِي أَبِي الطِّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ
الشِّيرَازِيِّ، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ سِنِينَ مَعَ الشَّيْخِ أَبِي ذَرٍّ
الْهَرَوِيِّ، وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ ثَلَاثَ سِنِينَ أَيْضًا وَبِالْمَوْصِلِ
سَنَةً عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ السِّمْنَانِيُّ قَاضِيهَا فَأَخَذَ عَنْهُ
الْفِقْهَ وَالْأُصُولَ وَسَمِعَ الْخَطِيبَ الْبَغْدَادِيَّ وَسَمِعَ مِنْهُ
الْخَطِيبُ أَيْضًا وَرَوَى عَنْهُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ الْحَسَنَيْنِ:
إِذَا كُنْتُ أَعْلَمُ عِلْمًا يِقِينًا بِأَنَّ جَمِيعَ حَيَاتِي كَسَاعَهْ
فَلِمْ لَا أَكُونُ ضَنِينًا بِهَا
وَأَجْعَلُهَا فِي صَلَاحٍ وَطَاعَهْ
ثُمَّ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ بَعْدَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَتَوَلَّى
الْقَضَاءَ هُنَاكَ وَيُقَالُ: إِنَّهُ تَوَلَّى قَضَاءَ حَلَبَ أَيْضًا، قَالَهُ
ابْنُ خَلِّكَانَ قَالَ: وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا " الْمُنْتَقَى
فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ " وَ " إِحْكَامُ الْفُصُولِ فِي أَحْكَامِ
الْأُصُولِ " وَ " الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ " وَغَيْرُ ذَلِكَ
وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ بِالْمَرِيَّةِ
لَيْلَةَ الْخَمِيسِ بَيْنَ العِشَاءَيْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَبُو الْأَغَرِّ دُبَيْسُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ،
الْمُلَقَّبُ نُورَ الدَّوْلَةِ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانِينَ
سَنَةً، مَكَثَ فِيهَا أَمِيرًا نَيِّفًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَقَامَ بِالْأَمْرِ
مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ أَبُو كَامِلٍ وَلُقِّبَ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رِضْوَانَ، أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغْدَادِيُّ،
كَانَ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَمَرِضَ بِالشَّقِيقَةِ ثَلَاثَ سِنِينَ، فَمَكَثَ فِي
بَيْتٍ مُظْلِمٍ لَا يَرَى ضَوْءًا وَلَا يَسْمَعُ صَوْتًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ مُؤَيِّدُ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ فَنَزَلَ فِي
مَدْرَسَةِ أَبِيهِ، وَضُرِبَتِ الطُّبُولُ عَلَى بَابِهِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ
الثَّلَاثِ.
وَفِيهَا نَفَذَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ رَسُولًا إِلَى
السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ وَالْوَزِيرِ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَكَانَ أَبُو
إِسْحَاقَ كُلَّمَا مَرَّ عَلَى بَلْدَةٍ خَرَجَ أَهْلُهَا يَتَلَقَّوْنَهُ
بِأَوْلَادِهِمْ وَنِسَائِهِمْ يَتَبَرَّكُونَ بِهِ وَيَتَمَسَّحُونَ بِرِكَابِهِ
; وَرُبَّمَا أَخَذُوا مِنْ تُرَابِ حَافِرِ بَغْلَتِهِ، وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى
سَاوَةَ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا، وَمَا مَرَّ بِسُوقٍ مِنْهَا إِلَّا نَثَرُوا
عَلَيْهِ مِنْ لَطِيفِ مَا عِنْدَهُمْ حَتَّى اجْتَازَ بِسُوقِ الْأَسَاكِفَةِ،
فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إِلَّا مَدَاسَاتُ الصِّغَارِ فَنَثَرُوهَا عَلَيْهِ،
فَجَعَلَ الشَّيْخُ يَتَعَجَّبُ مِنْ ذَلِكَ.
وَفِيهَا جُدِّدَتِ الْخِطْبَةُ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ لِبِنْتِ السُّلْطَانِ
مَلِكْشَاهْ ; فَطَلَبَتْ أُمُّهَا أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ ثُمَّ
اتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ لِلرَّضَاعِ وَأَنْ يَكُونَ
الصَّدَاقُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِيهَا حَارَبَ السُّلْطَانُ أَخَاهُ تُتُشَ فَأَسَرَهُ ثُمَّ أَطْلَقَهُ
وَاسْتَقَرَّتْ يَدُهُ عَلَى دِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا وَحَجَّ بِالنَّاسِ
خُتْلُغُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ مَنْدَهْ أَبُو عَمْرٍو الْحَافِظُ، مِنْ بَيْتِ
الْحَدِيثِ، رَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَتُوُفِّيَ
بِأَصْبَهَانَ، فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ابْنُ مَاكُولَا الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرٍ، عَلِيُّ بْنُ الْوَزِيرِ أَبِي
الْقَاسِمِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عَلِّكَانَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ دُلَفَ بْنِ أَبِي دُلَفَ التَّمِيمِيُّ، الْأَمِيرُ سَعْدُ
الْمُلْكِ، أَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَسَادَاتِ
الْأُمَرَاءِ، رَحَلَ وَطَافَ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَصَنَّفَ " الْإِكْمَالَ
" فِي الْمُشْتَبَهِ مِنْ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلٌ لَمْ
يُسْبَقْ إِلَيْهِ وَلَا يُلْحَقُ فِيهِ، إِلَّا مَا اسْتَدْرَكَهُ عَلَيْهِ ابْنُ
نُقْطَةَ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ " الِاسْتِدْرَاكَ "،
قَتَلَهُ مَمَالِيكُهُ فِي كَرْمَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي
سَنَةِ عِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَعَاشَ خَمْسًا وَخَمْسِينَ سَنَةً قَالَ
ابْنُ خَلِّكَانَ وَقِيلَ: إِنَّهُ قُتِلَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَقِيلَ:
فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ قَالَ: وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ
وَزِيرَ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَمُّهُ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَلِيَ قَضَاءَ بَغْدَادَ، قَالَ:
وَلَمْ أَدْرِ لِمَ سُمِّيَ الْأَمِيرَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إِلَى
جَدِّهِ الْأَمِيرِ أَبِي دُلَفَ، وَأَصْلُهُ مِنْ جَرْبَاذَقَانَ وَوُلِدَ فِي
عُكْبَرَا فِي شَعْبَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، قَالَ:
وَقَدْ كَانَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ صَنَّفَ كِتَابَ " الْمُؤْتَنِفِ
"، جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ كِتَابَيِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَعَبْدِ الْغَنِيِّ
بْنِ سَعِيدٍ فِي " الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ " فَجَاءَ ابْنُ
مَاكُولَا وَزَادَ عَلَى الْخَطِيبِ وَسَمَّاهُ " الْإِكْمَالَ " وَهُوَ
فِي غَايَةِ الْإِفَادَةِ وَرَفْعِ الِالْتِبَاسِ وَالضَّبْطِ، وَلَمْ يُوضَعْ
مِثْلُهُ وَلَا يَحْتَاجُ هَذَا الْأَمِيرُ بَعْدَهُ إِلَى فَضِيلَةٍ أُخْرَى،
فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَثْرَةِ اطِّلَاعِهِ وَضَبْطِهِ وَتَحْرِيرِهِ
وَإِتْقَانِهِ، وَمِنْ شِعْرِهِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ قَوْلُهُ:
قَوِّضْ خِيَامَكَ عَنْ أَرْضٍ تُهَانُ بِهَا وَجَانِبِ الذُّلَّ إِنَّ الذُّلَّ
يُجْتَنَبُ وَارْحَلْ إِذَا كَانَ فِي الْأَوْطَانِ مَنْقَصَةٌ
فَالْمَنْدَلُ الرَّطْبُ فِي أَوْطَانِهِ حَطَبُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا عُزِلَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ ابْنُ جَهِيرٍ عَنْ وَزَارَةِ الْخِلَافَةِ
فَسَارَ بِأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ إِلَى السُّلْطَانِ وَقَصَدُوا نِظَامَ الْمُلْكِ
وَزِيرَ السُّلْطَانِ فَعَقَدَ لِوَلَدِهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ عَلَى بِلَادِ
بَكْرٍ فَسَارَ إِلَيْهَا بِالْخِلَعِ وَالْكُوسَاتِ وَالْعَسَاكِرِ وَأَمَرَ أَنْ
يَنْتَزِعَهَا مِنِ ابْنِ مَرْوَانَ وَأَنْ يُخْطَبَ لِنَفْسِهِ، وَأَنْ يُكْتَبَ
اسْمُهُ عَلَى السِّكَّةِ فَمَا زَالَ حَتَّى انْتَزَعَهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ،
وَبَادَ مُلْكُهُمْ عَلَى يَدَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَسَدَّ وَزَارَةَ
الْخِلَافَةِ أَبُو الْفَتْحِ مُظَفَّرٌ ابْنُ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، ثُمَّ عُزِلَ
فِي شَعْبَانَ وَاسْتُوْزِرَ أَبُو شُجَاعٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ وَلُقِّبَ
ظَهِيرَ الدِّينِ
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ وَلَّى مُؤَيِّدُ الْمُلْكِ أَبَا سَعِدٍ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ الْمَأْمُونِ الْمُتَوَلِّي تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ بَعْدَ
وَفَاةِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا عَصَى أَهْلُ حَرَّانَ عَلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ مُسْلِمِ بْنِ قُرَيْشٍ،
فَجَاءَ فَحَاصَرَهَا فَفَتَحَهَا وَهَدَمَ سُورَهَا وَصَلَبَ قَاضِيَهَا ابْنَ
جَلَبَةَ وَابْنَيْهِ عَلَىالسُّورِ.
وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا قُتِلَ أَبُو الْمَحَاسِنِ ابْنُ
أَبِي الرِّضَا ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَشَى إِلَى السُّلْطَانِ فِي نِظَامِ
الْمُلْكِ وَقَالَ لَهُ: سَلِّمْهُمْ إِلَيَّ حَتَّى أَسْتَخْلِصَ لَكَ مِنْهُمْ
أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَعَمِلَ نِظَامُ الْمُلْكِ سِمَاطًا هَائِلًا
وَاسْتَحْضَرَ غِلْمَانَهُ - وَكَانُوا أُلُوفًا - مِنَ الْأَتْرَاكِ وَشَرَعَ
يَقُولُ لِلسُّلْطَانِ: هَذَا كُلُّهُ مِنْ أَمْوَالِكَ، وَمَا وَقَفْتُهُ مِنَ
الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ، فَكُلُّهُ شُكْرُهُ لَكَ فِي الدُّنْيَا وَأَجْرُهُ
لَكَ فِي الْآخِرَةِ وَأَمْوَالِي وَجَمِيعُ مَا أَمْلِكُهُ بَيْنَ يَدَيْكَ،
وَأَنَا أَقْنَعُ بِمُرَقَّعَةٍ وَزَاوِيَةٍ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ السُّلْطَانُ
بِقَتْلِ أَبِي الْمَحَاسِنِ - وَقَدْ كَانَ حَظِيٍّا عِنْدَهُ، وَخِصِّيصًا بِهِ،
وَجِيهًا لَدَيْهِ - وَعَزَلَ أَبَاهُ عَنْ كِتَابَةِ الطُّغْرَاءِ وَوَلَّاهَا
مُؤَيِّدَ الْمُلْكِ بْنَ نِظَامِ الْمُلْكِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ خُتْلُغُ التُّرْكِيُّ مُقْطَعُ الْكُوفَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ
الْفِيرُوزَابَاذِيُّ - وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى فَارِسَ وَقِيلَ: هِيَ
مَدِينَةُ جُورَ - شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ وَمُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ
بِبَغْدَادَ وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَقِيلَ: خَمْسٍ وَقِيلَ:
سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَتَفَقَّهَ بِفَارِسَ
عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَيْضَاوِيِّ ثُمَّ قَدِمَ بَغْدَادَ سَنَةَ خَمْسَ
عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَتَفَقَّهَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ
الطَّبَرِيِّ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنِ ابْنِ شَاذَانَ وَالْبَرْقَانِيِّ،
وَكَانَ زَاهِدًا عَابِدًا وَرِعًا كَبِيرَ الْقَدْرِ مُعَظَّمًا مُحْتَرَمًا
إِمَامًا فِي الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَالْحَدِيثِ وَفُنُونٍ كَثِيرَةٍ وَلَهُ
الْمُصَنَّفَاتُ الْكَثِيرَةُ النَّافِعَةُ، كَ " الْمُهَذَّبِ " فِي
الْمَذْهَبِ وَ " التَّنْبِيهِ " وَ " النُّكَتِ " فِي
الْخِلَافِ و " اللُّمَعِ " فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَ "
التَّبْصِرَةِ " وَ " الْمَعُونَةِ " وَ " طَبَقَاتِ
الْفُقَهَاءِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ، قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرْتُ تَرْجَمَتُهُ
مُسْتَقْصَاةً وَمُطَوَّلَةً فِي أَوَّلِ شَرْحِ " التَّنْبِيهِ ".
تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
فِي دَارِ أَبِي الْمُظَفَّرِ ابْنِ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ وَغَسَّلَهُ أَبُو
الْوَفَا بْنُ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِبَابِ الْفِرْدَوْسِ
مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ وَشَهِدَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ
اللَّهِ وَتَقَدَّمَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَبُو الْفَتْحِ الْمُظَفَّرُ ابْنُ
رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ وَكَانَ نَائِبَ الْوَزَارَةِ ثُمَّ صُلِّيَ عَلَيْهِ
مَرَّةً ثَانِيَةً بِجَامِعِ الْقَصْرِ وَدُفِنَ بِبَابِ أَبْرَزَ فِي تُرْبَةٍ
مُجَاوِرَةٍ لِلنَّاحِيَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدِ امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، وَكَانَ هُوَ
نَفْسُهُ لَهُ شِعْرٌ رَائِقٌ فَمِمَّا أَنْشَدَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ مِنْ شَعْرِهِ
قَوْلُهُ:
سَأَلْتُ النَّاسَ عَنْ خِلٍّ وَفِيٍّ فَقَالُوا مَا إِلَى هَذَا سَبِيلُ
تَمَسَّكْ إِنْ ظَفِرْتَ بِذَيْلِ حُرٍّ
فَإِنَّ الْحُرَّ فِي الدُّنْيَا قَلِيلُ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَلَمَّا تُوُفِّيَ عَمِلَ
الْفُقَهَاءُ عَزَاءَهُ بِالْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ وَعَيَّنَ مُؤَيِّدُ
الْمُلْكِ أَبَا سَعْدٍ الْمُتَوَلِّيَ مَكَانَهُ فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى
نِظَامِ الْمُلْكِ كَتَبَ يَقُولُ: كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ تُغْلَقَ
الْمَدْرَسَةُ سَنَةً لِأَجْلِهِ، وَأَمَرَ أَنْ يُدَرِّسَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرِ
بْنُ الصَّبَّاغِ فِي مَكَانِهِ.
طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَوَّاسُ قَرَأَ
الْقُرْآنَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ
الطَّبَرِيِّ وَأَفْتَى وَدَرَّسَ وَكَانَتْ لَهُ حَلْقَةٌ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ
لِلْمُنَاظَرَةِ وَالْفَتْوَى وَكَانَ ثِقَةً وَرِعًا زَاهِدًا مُلَازِمًا
لِمَسْجِدِهِ خَمْسِينَ سَنَةً. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَدُفِنَ قَرِيبًا مِنَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَإِيَّانَا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَبُو طَاهِرٍ
الْأَنْبَارِيُّ الْخَطِيبُ وَيُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي الصَّقْرِ، طَافَ الْبِلَادَ
وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَكَانَ ثِقَةً صَالِحًا فَاضِلًا عَابِدًا وَقَدْ سَمِعَ
مِنْهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَرَوَى عَنْهُ مُصَنَّفَاتِهِ تُوُفِّيَ
بِالْأَنْبَارِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ عَنْ نَحْوٍ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ جَرْدَةَ، أَحَدُ كُبَرَاءِ
الرُّؤَسَاءِ
بِبَغْدَادَ وَهُوَ مِنْ ذَوِي الثَّرْوَةِ وَالْمُرُوءَةِ كَانَ يُحْزَرُ مَالُهُ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْ عُكْبَرَا فَسَكَنَ بَغْدَادَ وَكَانَتْ لَهُ بِهَا دَارٌ عَظِيمَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِينَ مَسْكَنًا مُسْتَقِلًّا وَفِيهَا حَمَّامٌ وَبُسْتَانٌ وَلَهَا بَابَانِ عَلَى كُلِّ بَابٍ مَسْجِدٌ إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ فِي أَحَدِهِمَا لَا يُسْمَعُ الْآخَرُ مِنِ اتِّسَاعِهَا. وَقَدْ كَانَتْ زَوْجَةُ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ - حِينَ وَقَعَتْ فِتْنَةُ الْبَسَاسِيرِيِّ فِي سَنَةِ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ - نَزَلَتْ عِنْدَهُ فِي جِوَارِهِ، فَبَعَثَ إِلَى الْأَمِيرِ قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ أَمِيرِ الْعَرَبِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ لِيَحْمِيَ لَهُ دَارَهُ وَهُوَ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِدَ الْمَعْرُوفَ بِهِ بِبَغْدَادَ وَقَدْ خَتَمَ فِيهِ الْقُرْآنَ أُلُوفٌ مِنَ النَّاسِ وَكَانَ لَا يُفَارِقُ زِيَّ التُّجَّارِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي عَاشِرِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ فِي التُّرْبَةِ الْمُجَاوِرَةِ لِتُرْبَةِ الْقَزْوِينِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا، آمِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ فَخْرِ الدَّوْلَةِ ابْنِ جَهِيرٍ وَبَيْنَ ابْنِ
مَرْوَانَ صَاحِبِ دِيَارِ بِكْرٍ فَاسْتَوْلَى ابْنُ جَهِيرٍ عَلَى مُلْكِ
الْعَرَبِ وَسَبَى حَرِيمَهُمْ وَأَخَذَ الْبِلَادَ وَمَعَهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ
صَدَقَةُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ دُبَيْسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ،
فَافْتَدَى خَلْقًا مِنَ الْعَرَبِ فَشَكَرَهُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ وَمَدَحَهُ
الشُّعَرَاءُ عَلَيْهِ.
وَفِيهَا بَعَثَ السُّلْطَانُ عَمِيدَ الدَّوْلَةِ ابْنَ جَهِيرٍ فِي جَيْشٍ
كَثِيفٍ وَمَعَهُ قَسِيمُ الدَّوْلَةِ آقْ سَنْقُرُ جَدُّ بَنِي أَتَابِكَ مُلُوكِ
الشَّامِ وَالْمَوْصِلِ فَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَمَلَكُوهَا.
وَفِي شَعْبَانَ مَلَكَ سُلَيْمَانُ بْنُ قُتْلُمُشَ أَنْطَاكِيَةَ فَأَرَادَ
شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ قُرَيْشٍ أَنْ يَسْتَنْقِذَهَا مِنْهُ،
فَهَزَمَهُ سُلَيْمَانُ وَقَتَلَهُ، وَكَانَ مُسْلِمٌ هَذَا مِنْ خِيَارِ
الْمُلُوكِ سِيرَةً، لَهُ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ وَالٍ وَقَاضٍ وَصَاحِبُ خَبَرٍ،
وَكَانَ يَمْلِكُ مِنَ السِّنْدِيَّةِ إِلَى مَنْبِجَ وَوَلِيَ بَعْدَهُ أَخُوهُ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ قُرَيْشٍ، وَكَانَ مَسْجُونًا مِنْ سِنِينَ فَأُطْلِقَ
وَمُلِّكَ.
وَفِيهَا وُلِدَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ بْنُ مَلِكْشَاهْ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ
رَجَبٍ بِسِنْجَارَ.
وَفِيهَا عَصَى تُكَشُ أَخُو السُّلْطَانِ، فَأَخَذَهُ
السُّلْطَانُ فَسَمَلَهُ وَسَجَنَهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأَمِيرُ خُمَارْتِكِينُ
الْحَسَنَانِيُّ وَذَلِكَ لِشَكْوَى النَّاسِ مِنْ شِدَّةِ سَيْرِ خُتْلُغَ
بِهِمْ، وَأَخْذِهِ الْمُكُوسَاتِ مِنْهُمْ. سَارَ مَرَّةً مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى
مَكَّةَ فِي تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ دُوسْتَ أَبُو سَعْدٍ النَّيْسَابُورِيُّ شَيْخُ
الصُّوفِيَّةِ لَهُ رِبَاطٌ بِمَدِينَةِ نَيْسَابُورَ يَدْخُلُ مِنْ بَابِهِ
الْجَمَلُ بِرَاكِبِهِ، وَحَجَّ مَرَّاتٍ عَلَى التَّجْرِيدِ، حِينَ انْقَطَعَتْ
طَرِيقُ مَكَّةَ فَكَانَ يَأْخُذُ جَمَاعَةً مِنَ الْفُقَرَاءِ وَيَتَوَصَّلُ مِنْ
قَبَائِلِ الْعَرَبِ حَتَّى يَصِلَ مَكَّةَ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ
جَاوَزَ التِّسْعِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَوْصَى أَنْ يَخْلُفَهُ
وَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ فَأُجْلِسَ فِي مَشْيَخَةِ الرِّبَاطِ وَلَهُ ثِنْتَا
عَشْرَةَ سَنَةً، وَهُوَ الَّذِي وَقَفَ الْأَوْقَافَ عَلَى الرِّبَاطِ.
ابْنُ الصَّبَّاغِ صَاحِبُ " الشَّامِلِ " عَبْدُ السَّيِّدِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الْإِمَامُ أَبُو
نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعِمِائَةٍ وَتَفَقَّّهَ بِبَغْدَادَ
عَلَى أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ حَتَّى فَاقَ الشَّافِعِيَّةَ بِالْعِرَاقِ
وَصَنَّفَ الْمُصَنَّفَاتِ الْمُفِيدَةَ ;
مِنْهَا كِتَابُ " الشَّامِلِ " فِي الْمَذْهَبِ
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ دَرَّسَ بِالنِّظَامِيَّةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ وَدُفِنَ بِدَارِهِ فِي الْكَرْخِ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى بَابِ حَرْبٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ فَقِيهَ الْعِرَاقَيْنِ، وَكَانَ
يُضَاهَى بِالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَكَانَ ابْنُ الصَّبَّاغِ أَعْلَمَ مِنْهُ
بِالْمَذْهَبِ، وَإِلَيْهِ الرِّحْلَةُ فِيهِ، وَقَدْ صَنَّفَ الشَّامِلَ فِي
الْفِقْهِ وَالْعُمْدَةَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَتَوَلَّى تَدْرِيسَ
النِّظَامِيَّةِ أَوَّلًا، ثُمَّ عُزِلَ بَعْدَ عِشْرِينَ يَوْمًا بِالشَّيْخِ
أَبِي إِسْحَاقَ، فَلَمَّا مَاتَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ تَوَلَّاهَا أَبُو
سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي، ثُمَّ عُزِلَ بِابْنِ الصَّبَّاغِ ثُمَّ عُزِلَ ابْنُ
الصَّبَّاغِ بِابْنِ الْمُتَوَلِّي، وَكَانَ ثِقَةً حُجَّةً صَالِحًا وُلِدَ
سَنَةَ أَرْبَعِمِائَةٍ وَأُضَرَّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مَسْعُودُ بْنُ نَاصِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
أَبُو سَعِيدٍ السِّجْزِيُّ الْحَافِظُ رَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ وَسَمِعَ
الْكَثِيرَ وَجَمَعَ الْكُتُبَ النَّفِيسَةَ وَكَانَ حَسَنَ الْخَطِّ صَحِيحَ
النَّقْلِ حَافِظًا ضَابِطًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا زُلْزِلَتْ أَرَّجَانُ فَهَلَكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ
الرُّومِ وَمَوَاشِيهِمْ، وَفِيهَا كَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ بِالْحُمَّى
وَالطَّاعُونِ بِالْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ وَالشَّامِ، وَأَعْقَبَ ذَلِكَ مَوْتُ
الْفَجْأَةِ، ثُمَّ مَاتَتِ الْوُحُوشُ فِي الْبَرِيَّةِ، ثُمَّ تَلَاهُ مَوْتُ
الْبَهَائِمِ حَتَّى عَزَّتِ الْأَلْبَانُ وَاللُّحْمَانُ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ وَقَعَتْ
فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ فَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ هَاجَتْ رِيحٌ سَوْدَاءُ وَسَفَتْ رَمْلًا وَتَسَاقَطَتْ
أَشْجَارٌ كَثِيرَةٌ مِنَ النَّخِيلِ وَغَيْرِهَا، وَوَقَعَتْ صَوَاعِقُ فِي
الْبِلَادِ حَتَّى ظَنَّ النَّاسُ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ ثُمَّ انْجَلَى
ذَلِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا وُلِدَ لِلْخَلِيفَةِ وَلَدُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ
وَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ وَضُرِبَتِ الطُّبُولُ وَالْبُوقَاتُ وَكَثُرَتِ
الصَّدَقَاتُ
وَفِيهَا اسْتَوْلَى فَخْرُ الدَّوْلَةِ ابْنُ جَهِيرٍ عَلَى بِلَادٍ كَثِيرَةٍ
مِنْهَا آمِدُ وَمَيَّافَارِقِينُ وَجَزِيرَةُ ابْنِ عُمَرَ وَانْقَرَضَتْ
دَوْلَةُ بَنِي مَرْوَانَ عَلَى يَدِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَفِي ثَانِي عَشَرَ
شَعْبَانَ مِنْهَا قُلِّدَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُظَفَّرٍ الشَّامِيُّ
قَضَاءَ
الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ، بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي عَبْدِ
اللَّهِ الدَّامَغَانِيِّ وَخُلِعَ عَلَيْهِ فِي الدِّيوَانِ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ
الْأَمِيرُ خُتْلُغُ التُّرْكِيُّ، وَزَارَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ذَاهِبًا وَآيِبًا قَالَ أَظُنُّ أَنَّهَا آخِرُ حِجَجِي فَكَانَ كَذَلِكَ
وَفِيهَا خَرَجَ تَوْقِيعُ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ
بِتَجْدِيدِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي كُلِّ
مَحَلَّةٍ وَالْأَمْرُ بِإِلْزَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْغِيَارِ وَكَسْرِ
الْمَلَاهِي وَإِرَاقَةِ الْخُمُورِ وَإِخْرَاجِ أَهْلِ الْفَسَادِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
أَبِي أَيُّوبَ، أَبُو بَكْرٍ الْفُورَكِيُّ، سِبْطُ الْأُسْتَاذِ أَبِي بَكْرِ
بْنِ فُورَكَ اسْتَوْطَنَ بَغْدَادَ، وَكَانَ مُتَكَلِّمًا يَعِظُ النَّاسَ فِي
النِّظَامِيَّةِ فَوَقَعَتْ بِسَبَبِهِ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ مُؤْثِرًا لِلدُّنْيَا لَا يَتَحَاشَى مِنْ لُبْسِ
الْحَرِيرِ، وَذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مَكْسَ الْفَحْمِ وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَهُ نَيِّفٌ وَسِتُّونَ سَنَةً وَدُفِنَ إِلَى
جَانِبِ قَبْرِ الْأَشْعَرِيِّ بِمَشْرَعَةِ الرَّوَايَا.
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْدُوسِيُّ كَانَ رَئِيسَ أَهْلِ زَمَانِهِ
وَأَكْمَلَهُمْ مُرُوءَةً، كَانَ قَدْ خَدَمَ فِي أَيَّامِ بَنِي بُوَيْهِ
وَتَأَخَّرَ إِلَى هَذَا الْحِينِ وَكَانَتِ الْمُلُوكُ تُعَظِّمُهُ وَتُكَاتِبُهُ
بِعَبْدِهِ وَخَادِمِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالصَّلَاةِ وَالْبِرِّ،
وَبَلَغَ مِنَ الْعُمْرِ خَمْسًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَأَعَدَّ لِنَفْسِهِ
قَبْرًا وَكَفَنًا قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسِ سِنِينَ.
أَبُو سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمَأْمُونِ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي
مُصَنِّفُ " التَّتِمَّةِ " وَمُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ بَعْدَ أَبِي
إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَكَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا مَاهِرًا بِعُلُومٍ
كَثِيرَةٍ، كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثِنْتَيْنِ
وَخَمْسِينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ
الشَّامِيُّ. وَدُفِنَ بِبَابِ أَبْرَزَ.
إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَيُّوَيَهِ، أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ،
وَجُوَيْنُ مِنْ قُرَى نَيْسَابُورَ، الْمُلَقَّبُ بِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ
لِمُجَاوَرَتِهِ بِمَكَّةَ أَرْبَعَ سِنِينَ، كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ تِسْعَ
عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى وَالِدِهِ
الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ، وَدَرَّسَ
بَعْدَهُ فِي حَلْقَتِهِ وَتَفَقَّهَ عَلَى الْقَاضِي
حُسَيْنٍ وَدَخَلَ بَغْدَادَ وَتَفَقَّهَ بِهَا وَرَوَى بِهَا الْحَدِيثَ،
وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فَجَاوَرَ فِيهَا أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى
نَيْسَابُورَ فَسُلِّمَ إِلَيْهِ التَّدْرِيسُ وَالْخَطَابَةُ وَالْوَعْظُ،
وَصَنَّفَ " نِهَايَةَ الْمَطْلَبِ فِي دِرَايَةِ الْمَذْهَبِ "،
وَالْبُرْهَانَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ عُلُومٍ شَتَّى،
وَاشْتَغَلَ عَلَيْهِ الطَّلَبَةُ وَرَحَلُوا إِلَيْهِ مِنَ الْأَقْطَارِ، وَكَانَ
يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ ثَلَاثُمِائَةِ مُتَفَقِّهٍ وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ
تَرْجَمَتَهُ فِي " الطَّبَقَاتِ ".
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِدَارِهِ ثُمَّ
نُقِلَ إِلَى جَانِبِ وَالِدِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ كَانَتْ أُمُّهُ جَارِيَةً اشْتَرَاهَا وَالِدُهُ مِنْ
كَسْبِ يَدِهِ مِنَ النَّسْخِ وَأَمَرَهَا أَلَّا يُرْضِعَهُ غَيْرُهَا فَاتَّفَقَ
أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَأَرْضَعَتْهُ مَرَّةً فَأَخَذَهُ الشَّيْخُ
أَبُو مُحَمَّدٍ فَنَكَسَهُ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى بَطْنِهِ وَوَضَعَ أُصْبُعَهُ
فِي حَلْقِهِ وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى اسْتَقَاءَ كُلَّ مَا كَانَ فِي بَطْنِهِ
مِنْ لَبَنِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، قَالَ: فَرُبَّمَا حَصَلَ لِإِمَامِ
الْحَرَمَيْنِ فِي بَعْضِ مَجَالِسِ الْمُنَاظَرَةِ فُتُورٌ فَيَقُولُ: هَذَا مِنْ
آثَارِ تِلْكَ الرَّضْعَةِ، قَالَ: وَلَمَّا عَادَ مِنَ الْحِجَازِ إِلَى بَلَدِهِ
نَيْسَابُورَ سُلِّمَ إِلَيْهِ الْمِحْرَابُ وَالْمِنْبَرُ وَالْخَطَابَةُ
وَالتَّدْرِيسُ وَمَجْلِسُ التَّذْكِيرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَبَقِيَ ثَلَاثِينَ
سَنَةً غَيْرَ مُزَاحَمٍ وَلَا مُدَافَعٍ وَصَنَّفَ فِي كُلِّ فَنٍّ، مِنْ ذَلِكَ
" النِّهَايَةُ " الَّذِي مَا صُنِّفَ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُهُ
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو جَعْفَرٍ سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا
إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ يَقُولُ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: يَا مُفِيدَ أَهْلِ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ أَنْتَ الْيَوْمَ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ.
وَمِنْ تَصَانِيفِهِ " الشَّامِلُ " فِي أُصُولِ الدِّينِ وَ "
الْبُرْهَانُ " فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَ " تَلْخِيصُ التَّقْرِيبِ
" وَ " الْإِرْشَادُ " وَ " الْعَقِيدَةُ النِّظَامِيَّةُ
" و " غِيَاثُ الْأُمَمِ " وَ " غِيَاثُ الْخَلْقِ "
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا أَتَمَّهُ وَمِمَّا لَمْ يُتِمَّهُ، قَالَ وَلَمَّا مَاتَ
فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ صَلَّى
عَلَيْهِ وَلَدُهُ أَبُو الْقَاسِمِ وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ وَكَسَرَ
تَلَامِيذُهُ أَقْلَامَهُمْ وَمَحَابِرَهُمْ وَكَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ وَمَكَثُوا
كَذَلِكَ سَنَةً وَقَدْ رُثِيَ بِمَرَاثٍ كَثِيرَةٍ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ
بَعْضِهِمْ:
قُلُوبُ الْعَالَمِينَ عَلَى الْمَقَالِي وَأَيَّامُ الْوَرَى شِبْهُ اللَّيَالِي
أَيُثْمِرُ غُصْنُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَوْمًا
وَقَدْ مَاتَ الْإِمَامُ أَبُو الْمَعَالِي
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ
أَبُو عَلِيٍّ شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ، كَانَ يُدَرِّسُ لَهُمْ فَأَنْكَرَ أَهْلُ
السُّنَّةِ عَلَيْهِمْ، فَلَزِمَ بَيْتَهُ خَمْسِينَ سَنَةً، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ
فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ
الشُّونِيْزِيَّةِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَنَاظَرَ هُوَ وَالشَّيْخُ أَبُو يُوسُفَ
الْقَزْوِينِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ الْمُفَسِّرُ
فِي إِبَاحَةِ الْوِلْدَانِ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا حَكَى
ذَلِكَ ابْنُ عَقِيلٍ عَنْهُمَا وَكَانَ حَاضِرَهُمَا فَمَالَ هَذَا إِلَى
إِبَاحَةِ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَأْمُونَ الْمَفْسَدَةِ هُنَالِكَ، وَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ إِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ، وَمِنْ أَيْنَ لَكَ أَنَّهُمْ يَكُونُ لَهُمْ
أَدْبَارٌ؟ وَهَذَا الْعُضْوُ إِنَّمَا خُلِقَ فِي الدُّنْيَا مَخْرَجًا
لِلْأَذَى، وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُونَ
إِلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ صُورَةٌ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الرَّجُلُ حَدِيثًا وَاحِدًا عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْحُسَيْنِ
الْبَصْرِيِّ بِسَنَدِهِ الْمُتَقَدِّمِ، مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ
عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ
مَا شِئْتَ وَقَدْ رَوَاهُ الْقَعْنَبِيُّ عَنْ شُعْبَةَ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ
سِوَاهُ، فَقِيلَ لِأَنَّهُ لَمَّا رَحَلَ إِلَيْهِ دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ
يَبُولُ عَلَى الْبَالُوعَةِ فَسَأَلَهُ أَنَّ يُحَدِّثَهُ، فَرَوَى لَهُ هَذَا
الْحَدِيثَ كَالْوَاعِظِ لَهُ، وَالْتَزَمَ أَلَّا يُحَدِّثَهُ بِغَيْرِهِ،
وَقِيلَ: لِأَنَّ شُعْبَةَ مَرَّ عَلَى الْقَعْنَبِيِّ قَبْلَ أَنْ يَشْتَغِلَ
بِعِلْمِ الْحَدِيثِ وَكَانَ إِذْ ذَاكَ يُعَانِي الشَّرَابَ فَسَأَلَهُ أَنْ
يُحَدِّثَهُ فَامْتَنَعَ فَسَلَّ سِكِّينًا وَقَالَ إِنْ لَمْ تُحَدِّثْنِي
وَإِلَّا قَتَلْتُكَ فَرَوَى لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَتَابَ وَأَنَابَ وَلَزِمَ
مَالِكًا ثُمَّ فَاتَهُ السَّمَاعُ مِنْ شُعْبَةَ فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ غَيْرُ
هَذَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيُّ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ حَمُّوَيَهِ الدَّامَغَانِيُّ
الْحَنَفِيُّ، قَاضِي الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ، مَوْلِدُهُ فِي سِنَةِ ثَمَانٍ
وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَتَفَقَّهَ بِبَلَدِهِ ثُمَّ قَدِمَ بَغْدَادَ فِي
سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فَتَفَقَّهَ بِهَا عَلَى أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْقُدُورِيِّ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ
مِنْهُمَا وَمِنِ ابْنِ النَّقُورِ وَالْخَطِيبِ وَغَيْرِهِمْ، وَبَرَعَ فِي
الْفِقْهِ وَكَانَ لَهُ عَقْلٌ وَافِرٌ وَتَوَاضُعٌ زَائِدٌ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ
رِيَاسَةُ الْفُقَهَاءِ، وَكَانَ فَصِيحَ الْعِبَارَةِ، وَكَانَ فَقِيرًا فِي
ابْتِدَاءِ طَلَبِهِ، عَلَيْهِ أَطْمَارٌ رَثَّةٌ ثُمَّ صَارَتْ إِلَيْهِ
الرِّيَاسَةُ وَالْقَضَاءُ بَعْدَ ابْنِ مَاكُولَا فِي سَنَةِ تِسْعٍ
وَأَرْبَعِينَ، وَكَانَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ يُكْرِمُهُ وَالسُّلْطَانُ
طُغْرُلْبَكُ يُعَظِّمُهُ وَبَاشَرَ الْحُكْمَ ثَلَاثِينَ سَنَةً فِي غَايَةِ
السِّيرَةِ الْحَسَنَةِ وَالْأَمَانَةِ وَالدِّيَانَةِ وَالصِّيَانَةِ، مَرِضَ
أَيَّامًا يَسِيرَةً ثُمَّ تُوُفِّيَ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ نَاهَزَ الثَّمَانِينَ وَدُفِنَ بِدَارِهِ بِدَرْبِ
الْقَلَّائِينَ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى مَشْهَدِ أَبِي حَنِيفَةَ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ
تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُطَّلِبِ
أَبُو سَعْدٍ الْأَدِيبُ كَانَ قَدْ قَرَأَ النَّحْوَ وَالْأَدَبَ وَاللُّغَةَ
وَالسِّيَرَ وَأَخْبَارَ النَّاسِ ثُمَّ أَقْلَعَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَأَقْبَلَ
عَلَى كَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالصَّوْمِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ الْعَبَّاسِيُّ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ الرَّجَحِيِّ تَفَقَّهَ عَلَى ابْنِ الصَّبَّاغِ وَنَابَ فِي
الْحُكْمِ وَكَانَ مَحْمُودَ الطَّرِيقَةِ وَشَهِدَ عِنْدَ ابْنِ الدَّامَغَانِيِّ
فَقَبِلَهُ.
مَنْصُورُ بْنُ دُبَيْسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ أَبُو كَامِلٍ الْأَمِيرُ
بَعْدَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ، تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَدْ كَانَ لَهُ شِعْرٌ وَأَدَبٌ، وَفِيهِ فَضْلٌ. فَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
فَإِنْ أَنَا لَمْ أَحْمِلْ عَظِيمًا وَلَمْ أَقُدْ لُهَامًا وَلَمْ أَصْبِرْ
عَلَى كُلِّ مُعْظِمِ
وَلَمْ أُجِرِ الْجَانِي وَأَمْنَعْ حَوْزَهُ غَدَاةَ أُنَادَى لِلْفَخَارِ
فَأَنْتَمِي
فَلَا نَهَضَتْ بِي هِمَّةٌ عَرَبِيَّةٌ إِلَى الْمَجْدِ تُدْلِي لِي ذُرَى كُلِّ
مَحْرَمِ
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ،
السِّيبِيُّ
قَاضِي الْحَرِيمِ بِنَهْرِ مُعَلَّى، وَمُؤَدِّبُ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي
بِأَمْرِ اللَّهِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتُوُفِّيَ فِي مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ
وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ. فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
رَجَوْتُ الثَّمَانِينَ مِنْ خَالِقِي لِمَا جَاءَ فِيهَا عَنِ الْمُصْطَفَى
فَبَلَّغَنِيهَا فَشُكْرًا لَهُ وَزَادَ ثَلَاثًا بِهَا أَرْدَفَا
وَإِنِّي لَمُنْتَظِرٌ وَعْدَهُ لِيُنْجِزَهُ فَهْوَ أَهْلُ الْوَفَا
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
وَفِيهَا كَانَتِ الْوَقْعَةُ بَيْنَ تُتُشَ صَاحِبِ دِمَشْقَ وَبَيْنَ
سُلَيْمَانَ بْنِ قُتْلُمِشَ صَاحِبِ حَلَبَ وَأَنْطَاكِيَةَ وَتِلْكَ
النَّاحِيَةِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ وَقَتَلَ هُوَ نَفْسَهُ
بِخَنْجَرٍ كَانَتْ مَعَهُ فَسَارَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ مِنْ أَصْبَهَانَ
إِلَى حَلَبَ فَمَلَكَهَا، وَمَلَكَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي مَرَّ
بِهَا وَهِيَ حَرَّانُ وَالرُّهَا وَقَلْعَةُ جَعْبَرٍ، وَكَانَ جَعْبَرٌ شَيْخًا
كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ وَلَهُ وَلَدَانِ، وَكَانَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ يَلْجَئُونَ
إِلَيْهَا فَيَتَحَصَّنُونَ بِهَا فَرَاسَلَ السُّلْطَانُ جَعْبَرَ بْنَ سَابِقٍ
فِي تَسْلِيمِهَا فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ، فَنَصَبَ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ
وَالْعَرَّادَاتِ فَفَتَحَهَا وَأَمَرَ بِقَتْلِ صَاحِبِهَا سَابِقٍ، فَقَالَتْ
زَوْجَتُهُ لَا تَقْتُلْهُ حَتَّى تَقْتُلَنِي مَعَهُ فَأَلْقَاهُ مِنْ وَرَائِهَا
فَتَكَسَّرَ، ثُمَّ أَمَرَ بِتَوْسِيطِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَلْقَتِ الْمَرْأَةُ
نَفْسَهَا وَرَاءَهُ فَسَلِمَتْ، فَلَامَهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ
فَقَالَتْ: كَرِهْتُ أَنْ يَصِلَ إِلَيَّ التُّرْكِيُّ فَيَبْقَى ذَلِكَ عَارًا
عَلَيَّ. فَاسْتَحْسَنَ مِنْهَا ذَلِكَ وَاسْتَنَابَ السُّلْطَانُ عَلَى حَلَبَ
قَسِيمَ الدَّوْلَةِ آقْ سُنْقُرَ التُّرْكِيَّ وَهُوَ جَدُّ نُورِ الدِّينِ
الشَّهِيدِ وَاسْتَنَابَ عَلَى الرَّحْبَةِ وَحَرَّانَ
وَالرَّقَّةِ وَسَرُوجَ وَالْخَابُورِ مُحَمَّدَ بْنَ
شَرَفِ الدَّوْلَةِ مُسْلِمٍ، وَزَوَّجَهُ بِأُخْتِهِ زُلَيْخَا خَاتُونَ.
وَعَزَلَ فَخْرَ الدَّوْلَةِ بْنَ جَهِيرٍ عَنْ دِيَارِ بَكْرٍ وَسَلَّمَهَا إِلَى
الْعَمِيدِ أَبِي عَلِيٍّ الْبَلْخِيِّ، وَخَلَعَ عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ
صَدَقَةَ بْنِ مَنْصُورِ بِنِ دُبَيْسٍ الْأَسَدِيِّ وَأَقَرَّهُ عَلَى عَمَلِ
أَبِيهِ. وَدَخَلَ بَغْدَادَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَهِيَ
أَوَّلُ دَخْلَةٍ دَخَلَهَا، فَزَارَ الْمَشَاهِدَ وَالْقُبُورَ وَدَخَلَ عَلَى
الْخَلِيفَةِ فَقَبَّلَ يَدَهُ وَوَضَعَهَا عَلَى عَيْنَيْهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ خِلْعَةً سَنِيَّةً، وَفَوَّضَ إِلَيْهِ أُمُورَ النَّاسِ،
وَاسْتَعْرَضَ الْخَلِيفَةُ أُمَرَاءَهُ، وَنِظَامُ الْمُلْكِ وَاقِفٌ بَيْنَ
يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، يُعَرِّفُهُ بِالْأُمَرَاءِ وَاحِدًا وَاحِدًا بِاسْمِهِ،
وَكَمْ جَيْشُهُ وَأَقْطَاعُهُ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ خِلْعَةً
سَنِيَّةً، وَخَرَجَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَنَزَلَ بِمَدْرَسَتِهِ
النِّظَامِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ رَآهَا قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ، فَاسْتَحْسَنَهَا
إِلَّا أَنَّهُ اسْتَصْغَرَهَا وَاسْتَحْسَنَ أَهْلَهَا وَمَنْ بِهَا مِنَ
الْجَمَاعَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ
ذَلِكَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَنَزَلَ بِخِزَانَةِ كُتُبِهَا وَأَمْلَى
جُزْءًا مِنْ مَسْمُوعَاتِهِ فَسَمِعَهُ الْمُحَدِّثُونَ مِنْهُ.
وَوَرَدَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي يَعْلَى الْحُسَيْنِيُّ
الدَّبُّوسِيُّ إِلَى بَغْدَادَ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ، فَرَتَّبَهُ مُدَرِّسًا
بِالنِّظَامِيَّةِ بَعْدَ أَبِي سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ فُرِغَتِ الْمَنَارَةُ بِجَامِعِ الْقَصْرِ وَأُذِّنَ
فِيهَا، وَفِيهَا كَانَتْ زَلَازِلُ هَائِلَةٌ بِالْعِرَاقِ وَالْجَزِيرَةِ
وَالشَّامِ، فَهَدَمَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْعُمْرَانِ، وَخَرَجَ أَكْثَرُ
النَّاسِ إِلَى الصَّحْرَاءِ ثُمَّ عَادُوا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ خُمَارْتِكِينُ
الْحَسَنَانِيُّ، وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةَ وَقُلِعَتِ الصَّفَائِحُ الَّتِي عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ الَّتِي
عَلَيْهَا ذِكْرُ الْمِصْرِيِّ وَجُدِّدَ غَيْرُهَا عَلَيْهَا اسْمُ الْمُقْتَدِي.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَظَهَرَ رَجُلٌ بَيْنَ السِّنْدِيَّةِ وَوَاسِطٍ
يَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَهُوَ مَقْطُوعُ الْيَدِ الْيُسْرَى يَفْتَحُ الْقُفْلَ فِي
أَسْرَعِ مُدَّةٍ وَيَغُوصُ دِجْلَةَ فِي غَوْصَتَيْنِ وَيَقْفِزُ الْقَفْزَةَ
خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا وَيَتَسَلَّقُ الْحِيطَانَ الْمُلْسَ وَلَا
يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَخَرَجَ مِنَ الْعِرَاقِ سَالِمًا. قَالَ وَفِيهَا
تُوُفِّيَ فَقِيرٌ يَسْأَلُ النَّاسَ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ فَوُجِدَ فِي
مُرَقَّعَتِهِ سِتُّمِائَةِ دِينَارٍ مَغْرِبِيَّةٍ. قَالَ وَفِيهَا عَمِلَ سَيْفُ
الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ سِمَاطًا لِلسُّلْطَانِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ أَبِي الْفَتْحِ
مَلِكْشَاهْ اشْتَمَلَ عَلَى أَلْفِ رَأْسٍ مِنَ الْغَنَمِ وَمِائَةٍ مِنَ
الْجِمَالِ، وَغَيْرِهَا، وَدَخَلَهُ عِشْرُونَ أَلْفًا مَنًّا مِنَ السُّكَّرِ،
وَقَدْ عَلَّقَ عَلَيْهِ مِنْ أَصْنَافِ الطُّيُورِ وَالْوُحُوشِ الْمَنْفُوخَةِ
مِنَ السُّكَّرِ شَيْءٌ كَثِيرٌ فَتَنَاوَلَ السُّلْطَانُ مِنْهُ شَيْئًا
يَسِيرًا، ثُمَّ أَشَارَ فَانْتُهِبَ عَنْ آخِرِهِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ
الْمَكَانِ إِلَى سُرَادِقٍ عَظِيمٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ مِنَ الْحَرِيرِ، وَفِيهِ
خَمْسُمِائَةِ قِطْعَةٍ مِنَ الْفِضَّةِ وَأَلْوَانٌ مِنْ تَمَاثِيلِ النَّدِّ
وَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمَدَّ فِيهِ سِمَاطًا خَاصًّا
فَأَكَلَ السُّلْطَانُ حِينَئِذٍ وَحَمَلَ إِلَيْهِ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ
وَقَدَّمَ لَهُ ذَلِكَ السُّرَادِقَ بِكَمَالِهِ، وَانْصَرَفَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا
مِنَ الْأَعْيَانِ
الْأَمِيرُ جَعْبَرُ بْنُ سَابِقٍ الْقُشَيْرِيُّ الْمُلَقَّبُ سَابِقَ الدِّينِ،
كَانَ قَدْ تَمَلَّكَ قَلْعَةَ جَعْبَرٍ مُدَّةً طَوِيلَةً فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ،
وَإِنَّمَا كَانَ يُقَالُ لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ الدَّوْسَرِيَّةُ، نِسْبَةً إِلَى غُلَامِ
النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْأَمِيرَ كَبِرَ وَعَمِيَ،
وَكَانَ لَهُ وَلَدَانِ يَقْطَعَانِ الطَّرِيقَ، فَاجْتَازَ بِهِ السُّلْطَانُ
مَلِكْشَاهْ بْنُ أَلْبِ أَرْسَلَانَ السَّلْجُوقِيُّ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى حَلَبَ
لِيَأْخُذَهَا فَاسْتَنْزَلَهُ مِنْهَا وَقَتَلَهُ، وَأَخَذَهَا مِنْهُمْ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ.
الْأَمِيرُ خُتْلُعُ
أَمِيرُ الْحَاجِّ، كَانَ مُقْطَعًا لِلْكُوفَةِ وَلَهُ وَقَعَاتٌ مَعَ الْعَرَبِ
أَعْرَبَتْ عَنْ شَجَاعَتِهِ وَأَرْعَبَتْ قُلُوبَهُمْ وَشَرَّدَتْهُمْ فِي الْبِلَادِ
شَذَرَ مَذَرَ، وَقَدْ كَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ مُحَافِظًا عَلَى الصَّلَوَاتِ
كَثِيرَ التِّلَاوَةِ، وَلَهُ آثَارٌ حَسَنَةٌ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فِي إِصْلَاحِ
الْمَصَانِعِ وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَلَهُ مَدْرَسَةٌ
عَلَى الْحَنَفِيَّةِ بِمَشْهَدِ يُونُسَ بِالْكُوفَةِ، وَبَنَى مَسْجِدًا
بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَادَ عَلَى دِجْلَةَ بِمَشْرَعَةِ الْكَرْخِ.
تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَلَمَّا بَلَغَ نِظَامَ الْمُلْكِ وَفَاتُهُ قَالَ مَاتَ أَلْفُ رَجُلٍ.
عَلِيُّ بْنُ فَضَّالٍ الْمُجَاشِعِيُّ
أَبُو الْحَسَنِ النَّحْوِيُّ الْمَغْرِبِيُّ لَهُ الْمُصَنَّفَاتُ
الدَّالَّةُ عَلَى عِلْمِهِ وَغَزَارَةِ فَهْمِهِ،
وَأَسْنَدَ الْحَدِيثَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ أَبْرَزَ.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ التُّسْتَرِيُّ
كَانَ مُقَدَّمَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي الْمَالِ وَالْجِدَةِ، وَلَهُ مَرَاكِبُ
تَعْمَلُ فِي الْبَحْرِ، قَرَأَ الْقُرْآنَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَرَّدَ
بِرِوَايَةِ " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَجَبٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
يَحْيَى بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْحُسَيْنِيُّ
كَانَ فَقِيهًا عَلَى مَذْهَبِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَعِنْدَهُ
مَعْرِفَةٌ بِالْأُصُولِ وَالْحَدِيثِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا نُقِلَ جَهَازُ ابْنَةِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ إِلَى
دَارِ الْخِلَافَةِ عَلَى مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ جَمَلًا مُجَلَّلَةً بِالدِّيبَاجِ
الرُّومِيِّ غَالِبُهَا أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعَلَى أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ
بَغْلَةً مُجَلَّلَةً بِأَنْوَاعِ الدِّيبَاجِ الْمَلَكِيِّ وَكَانَ عَلَى سِتَّةٍ
مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ صُنْدُوقًا مِنْ فِضَّةٍ فِيهَا جَوَاهِرُ وَحُلِيٌّ،
وَبَيْنَ يَدَيِ الْبِغَالِ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ فَرَسًا عَلَيْهَا مَرَاكِبُ
الذَّهَبِ مُرَصَّعَةٌ بِأَنْوَاعِ الْجَوَاهِرِ وَمَهْدٌ عَظِيمٌ مُجَلَّلٌ
بِالدِّيبَاجِ الْمَلَكِيِّ عَلَيْهِ صَفَائِحُ الذَّهَبِ مُرَصَّعٌ
بِالْجَوْهَرِ، وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ لِتَلَقِّيهِمْ الْوَزِيرَ أَبَا شُجَاعٍ
وَبَيْنَ يَدَيْهِ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ مَوْكَبِيَّةٍ غَيْرَ الْمَشَاعِلِ
لِخِدْمَةِ السِّتِّ خَاتُونَ امْرَأَةِ السُّلْطَانِ تُرْكَانَ خَاتُونَ حَمَاةِ
الْخَلِيفَةِ، وَسَأَلَهَا أَنْ تَحْمِلَ الْوَدِيعَةَ الشَّرِيفَةَ إِلَى دَارِ
الْخِلَافَةِ فَأَجَابَتْ إِلَى ذَلِكَ، فَحَضَرَ الْوَزِيرُ نِظَامُ الْمُلْكِ وَأَعْيَانُ
الْأُمَرَاءِ وَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الشُّمُوعِ وَالْمَشَاعِلِ مَا لَا
يُحْصَى، وَجَاءَتِ نِسَاءُ الْأُمَرَاءِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي
جَمَاعَتِهَا وَجَوَارِيهَا وَبَيْنَ أَيْدِيهِنَّ الشُّمُوعُ وَالْمَشَاعِلُ،
ثُمَّ جَاءَتِ الْخَاتُونَ ابْنَةُ السُّلْطَانِ زَوْجَةُ الْخَلِيفَةِ - بَعْدَ
الْجَمِيعِ - فِي مِحَفَّةٍ مُجَلَّلَةٍ، وَعَلَيْهَا مِنَ الذَّهَبِ
وَالْجَوَاهِرِ مَا لَا تُحْصَى قِيمَتُهُ، وَقَدْ أَحَاطَ بِالْمِحَفَّةِ
مِائَتَا جَارِيَةٍ تُرْكِيَّةٍ بِالْمَرَاكِبِ الْمُزَيَّنَةِ يَبْهَرْنَ
الْأَبْصَارَ، فَدَخَلَتْ دَارَ الْخِلَافَةِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَقَدْ
زُيِّنَ الْحَرِيمُ الطَّاهِرُ، وَأُشْعِلَتْ فِيهِ الشُّمُوعُ، وَكَانَتْ
لَيْلَةً مَشْهُودَةً لِلْخَلِيفَةِ، هَائِلَةً جِدًّا فَلَمَّا كَانَ مِنَ
الْغَدِ أَحْضَرَ الْخَلِيفَةُ أُمَرَاءَ السُّلْطَانِ، وَمَدَّ سِمَاطًا لَمْ
يُرَ مِثْلُهُ عَمَّ الْحَاضِرِينَ
وَالْغَائِبِينَ، وَخَلَعَ عَلَى الْخَاتُونَ زَوْجَةِ
السُّلْطَانِ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَكَانَ السُّلْطَانُ مُتَغَيِّبًا فِي
الصَّيْدِ، ثُمَّ قَدِمَ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَكَانَ الدُّخُولُ بِهَا فِي أَوَّلِ
السَّنَةِ، فَوَلَدَتْ مِنَ الْخَلِيفَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَلَدًا ذَكَرًا
زُيِّنَتْ لَهُ بَغْدَادُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وُلِدَ لِلسُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ وَلَدٌ سَمَّاهُ
مَحْمُودًا، وَهُوَ الَّذِي مَلَكَ بَعْدَهُ، وَفِيهَا جَعَلَ السُّلْطَانُ
وَلَدَهُ أَبَا شُجَاعٍ أَحْمَدَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَقَّبُهُ
مَلِكَ الْمُلُوكِ عَضُدَ الدَّوْلَةِ وَتَاجَ الْمِلَّةِ عُدَّةَ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، وَخُطِبَ لَهُ بِذَلِكَ عَلَى مَنَابِرِ بَغْدَادَ وَغَيْرِهَا، وَنُثِرَ
الذَّهَبُ عَلَى الْخُطَبَاءِ عِنْدَ ذِكْرِ اسْمِهِ.
وَفِيهَا شُرِعَ فِي بِنَاءِ التَّاجِيَّةِ بِبَابِ أَبْرَزَ، وَعُمِلَتْ
مُسَنَّاةٌ، وَغُرِسَتِ النَّخِيلُ وَالْفَوَاكِهُ هُنَالِكَ، وَعُمِلَ سُورٌ
بِأَمْرِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَجْمُ الدَّوْلَةِ خُمَارْتِكِينُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى بْنِ سَعِيدٍ أَبُو الْقَاسِمِ
السَّاوِيُّ، رَحَلَ فِي الْحَدِيثِ إِلَى الْآفَاقِ حَتَّى جَاوَزَ مَا وَرَاءَ
النَّهْرِ، وَكَانَ لَهُ حَظٌّ وَافِرٌ فِي الْأَدَبِ وَمَعْرِفَةِ الْعَرَبِيَّةِ
تُوُفِّيَ بِنَيْسَابُورَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبَنْدَنِيجِيُّ
أَبُو الْوَفَا الشَّاعِرُ الْمُبَرَّزُ، لَهُ قَصِيدَتَانِ فِي مَدْحِ نِظَامِ
الْمُلْكِ إِحْدَاهُمَا مُعْجَمَةٌ وَالْأُخْرَى غَيْرُ مَنْقُوطَةٍ، أَوَّلُهَا:
لَامُوا وَلَوْ عَلِمُوا مَا اللَّوْمُ مَا لَامُوا وَرَدَّ لَوْمَهُمُ هَمٌّ
وَآلَامُ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَلَدِهِ فِي رَمَضَانَ عَنْ نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ
عَرَضَ لَهُ جُدَرِيٌّ فَمَاتَ فِيهَا، وَلَهُ تِسْعُ سِنِينَ فَحَزِنَ عَلَيْهِ
وَالِدُهُ وَالنَّاسُ وَجَلَسُوا لِلْعَزَاءِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَقُولُ:
إِنَّ لَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةً حَسَنَةً حِينَ تُوُفِّيَ ابْنُهُ
إِبْرَاهِيمُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ
قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ثُمَّ عَزَمَ عَلَى النَّاسِ
فَانْصَرَفُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
أَبُو الْحَسَنِ الْحُسَيْنِيُّ الْمُلَقَّبُ بِالْمُرْتَضَى ذِي الشَّرَفَيْنِ،
وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ وَقَرَأَ
بِنَفْسِهِ عَلَى الشُّيُوخِ وَصَحِبَ الْحَافِظَ أَبَا بَكْرٍ الْخَطِيبَ
فَصَارَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْحَدِيثِ، وَسَمِعَ عَلَيْهِ الْخَطِيبُ
شَيْئًا مِنْ مَرْوِيَّاتِهِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ وَأَمْلَى الْحَدِيثَ
بِأَصْبَهَانَ، وَغَيْرِهَا، وَكَانَ يَرْجِعُ إِلَى عَقْلٍ كَامِلٍ وَفَضْلٍ
وَمُرُوءَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ وَأَمْلَاكٌ مُتَّسِعَةٌ
وَنِعْمَةٌ وَافِرَةٌ، يُقَالُ: إِنَّهُ مَلَكَ
أَرْبَعِينَ قَرْيَةً، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْبِرِّ
وَالصِّلَةِ لِلْعُلَمَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَبَلَغَتْ زَكَاةُ مَالِهِ الصَّامِتِ
عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ غَيْرَ زَكَاةِ الْعُشُورِ وَكَانَ لَهُ بُسْتَانٌ
لَيْسَ لِمَلِكٍ مِثْلُهُ، فَطَلَبَهُ مِنْهُ مَلِكُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، -
وَاسْمُهُ الْخَضِرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ - عَارِيَةً لِيَتَنَزَّهَ فِيهِ فَأَبَى
عَلَيْهِ، وَقَالَ أُعِيرُهُ إِيَّاهُ لِيَشْرَبَ فِيهِ الْخَمْرَ بَعْدَ مَا
كَانَ مَأْوَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ وَالدِّينِ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ
وَحَقَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ إِلَيْهِ لِيَسْتَشِيرَهُ فِي بَعْضِ
الْأُمُورِ عَلَى الْعَادَةِ، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ قَبَضَ عَلَيْهِ
وَسَجَنَهُ فِي قَلْعَتِهِ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى جَمِيعِ أَمْلَاكِهِ وَحَوَاصِلِهِ
وَأَمْوَالِهِ، وَكَانَ يَقُولُ: مَا تَحَقَّقْتُ صِحَّةَ نَسَبِي إِلَّا بِهَذِهِ
الْمُصَادَرَةِ، فَإِنِّي رُبِّيتُ فِي النَّعِيمِ فَكُنْتُ أَقُولُ: إِنَّ
مِثْلِي لَا بُدَّ أَنْ يُبْتَلَى، ثُمَّ مَنَعُوهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ
حَتَّى مَاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْقَلْعَةِ، فَأَخْرَجُوهُ وَدَفَنُوهُ
هُنَاكَ فَقَبْرُهُ يُزَارُ، أَكْرَمَ اللَّهُ مَثْوَاهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ هِلَالِ بْنِ الْمُحَسِّنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الصَّابِئِ الْمُلَقَّبُ بِغَرْسِ النِّعْمَةِ سَمِعَ
أَبَاهُ وَأَبَا عَلِيِّ بْنَ شَاذَانَ، وَكَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ كَثِيرَةٌ
وَمَعْرُوفٌ، وَقَدْ ذَيَّلَ عَلَى تَارِيخِ أَبِيهِ الَّذِي ذَيَّلَهُ عَلَى
تَارِيخِ أَبِيهِ الَّذِي ذَيَّلَهُ عَلَى تَارِيخِ ثَابِتِ بْنِ سِنَانٍ الَّذِي
ذَيَّلَهُ عَلَى تَارِيخِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَقَدْ أَنْشَأَ دَارًا
بِبَغْدَادَ وَوَقَفَ فِيهَا أَرْبَعَةَ آلَافِ مُجَلَّدٍ فِي فُنُونٍ مِنَ
الْعُلُومِ وَتَرَكَ حِينَ مَاتَ سَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَدُفِنَ بِمَشْهَدِ
عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَحِمَهُ.
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ
بْنِ الْمُحَلَّى
أَبُو نَصْرٍ، جَمَعَ خُطَبًا وَوَعْظًا وَسَمِعَ الْحَدِيثَ عَلَى مَشَايِخَ
عَدِيدَةٍ، وَتُوُفِّيَ شَابًّا قَبْلَ أَوَانِ الرِّوَايَةِ.
أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَرَ أَمِيرُ الْمُلَثَّمِينَ
كَانَ فِي أَرْضِ فَرْغَانَةَ اتَّفَقَ لَهُ مِنَ النَّامُوسِ مَا لَمْ يَتَّفِقْ
لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُلُوكِ، كَانَ يَرْكَبُ مَعَهُ إِذَا سَارَ لِقِتَالِ عَدُوٍّ
خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، كَلٌّ يَعْتَقِدُ طَاعَتَهُ، وَكَانَ يُقِيمُ
الْحُدُودَ وَيَحْفَظُ مَحَارِمَ الْإِسْلَامِ، وَيَسِيرُ فِي النَّاسِ سِيرَةً
شَرْعِيَّةً مَعَ صِحَّةِ مُعْتَقَدِهِ وَمُوَالَاةِ الدَّوْلَةِ
الْعَبَّاسِيَّةِ، أَصَابَتْهُ نُشَّابَةٌ فِي بَعْضِ حُرُوبِهِ، فَجَاءَتْهُ فِي
حَلْقِهِ فَقَتَلَتْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
فَاطِمَةُ بِنْتُ عَلِيٍّ
الْمُؤَدِّبَةُ الْكَاتِبَةُ، وَتُعْرَفُ بِبِنْتِ الْأَقْرَعِ، سَمِعَتِ
الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي عُمَرَ بْنِ مَهْدِيٍّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَتْ تَكْتُبُ
الْمَنْسُوبَ عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ الْبَوَّابِ، وَيَكْتُبُ النَّاسُ عَلَيْهَا،
وَبِخَطِّهَا كَانَتِ الْهُدْنَةُ مِنَ الدِّيوَانِ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ،
وَكَتَبَتْ مَرَّةً إِلَى عَمِيدِ الْمُلْكِ الْكُنْدُرِيِّ رُقْعَةً فَأَعْطَاهَا
أَلْفَ دِينَارٍ. تُوُفِّيَتْ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِبَغْدَادَ
وَدُفِنَتْ بِبَابِ أَبْرَزَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ فِتَنٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ بِبَغْدَادَ،
وَجَرَتْ خُطُوبٌ كَثِيرَةٌ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أُخْرِجَتِ الْأَتْرَاكُ مِنْ حَرِيمِ الْخِلَافَةِ،
وَهَذَا فِيهِ قُوَّةٌ لِلْخِلَافَةِ، وَفِيهَا مَلَكَ مَسْعُودُ بْنُ الْمَلِكِ
الْمُؤَيَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ
بِلَادَ غَزْنَةَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَفِيهَا فَتَحَ مَلِكْشَاهْ مَدِينَةَ
سَمَرْقَنْدَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ خُمَارْتِكِينُ، وَمِمَّنْ حَجَّ
فِيهَا الْوَزِيرُ أَبُو شُجَاعٍ وَاسْتَنَابَ وَلَدَهُ أَبَا مَنْصُورٍ وَطِرَادَ
بْنَ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيَّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ وَكَانَ وَلِيَّ عَهْدِ أَبِيهِ تُوُفِّيَ
وَعُمْرُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً فَمَكَثَ النَّاسُ فِي الْعَزَاءِ سَبْعَةَ
أَيَّامٍ لَمْ يَرْكَبْ أَحَدٌ فَرَسًا، وَالنِّسَاءُ يَنُحْنَ عَلَيْهِ فِي
الْأَسْوَاقِ، وَسَوَّدَ أَهْلُ الْبِلَادِ الَّتِي لِأَبِيهِ أَبْوَابَهُمْ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
جَعْفَرٍ
أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ الْهَرَوِيُّ، رَوَى الْحَدِيثَ وَصَنَّفَ
وَكَانَ كَثِيرَ السَّهَرِ بِاللَّيْلِ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِهَرَاةَ فِي ذِي
الْحِجَّةِ عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ
وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ دَرَّسَ أَبُو بَكْرٍ الشَّامِيُّ بِالْمَدْرَسَةِ التَّاجِيَّةِ
بِبَابِ أَبْرَزَ، وَكَانَ قَدْ أَنْشَأَهَا الصَّاحِبُ تَاجُ الْمُلْكِ أَبُو
الْغَنَائِمِ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ. وَفِيهَا كَانَتْ فِتَنٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ
الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ، وَرَفَعُوا الْمَصَاحِفَ وَجَرَتْ حُرُوبٌ طَوِيلَةٌ،
وَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، نَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ
" مِنْ خَطِّ ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ قُتِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَرِيبٌ
مِنْ مِائَتَيْ رَجُلٍ، قَالَ: وَسَبَّ أَهْلُ الْكَرْخِ الصَّحَابَةَ وَأَزْوَاجَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَارْتَفَعُوا إِلَى سَبِّ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ
الْكَرْخِ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ. وَإِنَّمَا حَكَيْتُ هَذَا لِيَعْلَمَ
الْوَاقِفُ عَلَيْهِ مَا فِي طَوَايَا الرَّوَافِضِ مِنَ الْخُبْثِ وَالْبُغْضِ
لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَالْعَدَاوَةِ الْبَاطِنَةِ الْكَامِنَةِ فِي
قُلُوبِهِمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَشَرِيعَتِهِ.
وَفِيهَا مَلَكَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَطَائِفَةً
كَثِيرَةً مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ بَعْدَ حُرُوبٍ عَظِيمَةٍ وَوَقَعَاتٍ
هَائِلَةٍ وَفِيهَا اسْتَوْلَى جَيْشُ الْمِصْرِيِّينَ عَلَى عِدَّةٍ مِنْ بِلَادِ
الشَّامِ وَفِيهَا عُمِّرَتْ مَنَارَةُ جَامِعِ حَلَبَ وَفِيهَا أَرْسَلَتِ
الْخَاتُونُ بِنْتُ السُّلْطَانِ تَشْكُو إِلَى أَبِيهَا إِعْرَاضَ الْخَلِيفَةِ
عَنْهَا فَبَعَثَ إِلَيْهَا أَبُوهَا الطَّوَاشِيَّ صَوَابًا وَالْأَمِيرَ
بَزَّانَ لِيُرْجِعَهَا إِلَيْهِ فَأَجَابَ الْخَلِيفَةُ إِلَى ذَلِكَ وَبَعَثَ
مَعَهَا بِالنَّقِيبِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ
الْأُمَرَاءِ وَخَرَجَ ابْنُ الْخَلِيفَةِ أَبُو الْفَضْلِ وَالْوَزِيرُ
فَشَيَّعَاهَا إِلَى النَّهْرَوَانِ وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَلَمَّا
وَصَلَتْ إِلَى عِنْدِ أَبِيهَا تُوُفِّيَتْ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
بِأَصْبَهَانَ فَعُمِلَ عَزَاؤُهَا بِبَغْدَادَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَأَرْسَلَ
الْخَلِيفَةُ إِلَى السُّلْطَانِ أَمِيرَيْنِ لِتَعْزِيَتِهِ فِيهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ خُمَارْتِكِينُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ، الْمَعْرُوفُ بِظَاهِرٍ
النَّيْسَابُورِيُّ الْحَافِظُ رَحَلَ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَخَرَجَ وَعَاجَلَهُ
الْمَوْتُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِهَمَذَانَ وَهُوَ شَابٌّ.
عَلِيُّ بْنُ أَبِي يَعْلَى بْنِ زَيْدٍ
أَبُو الْقَاسِمِ الدَّبُوسِىُّ مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ بَعْدَ الْمُتَوَلِّي
سَمِعَ شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ وَكَانَ فَقِيهًا مَاهِرًا وَجَدَلِيًّا بَاهِرًا.
عَاصِمُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمِ بْنِ مِهْرَانَ
أَبُو الْحُسَيْنِ الْعَاصِمِيُّ مِنْ أَهْلِ الْكَرْخِ سَكَنَ بَابَ الشَّعِيرِ
وُلِدَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ
وَالْأَدَبِ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْخَطِيبِ وَغَيْرِهِ وَكَانَ ثِقَةً
حَافِظًا،
وَمِنْ شِعْرِهِ الْجَيِّدِ قَوْلُهُ:
لَهَفِي عَلَى قَوْمٍ بِكَاظِمَةٍ وَدَّعْتُهُمْ وَالرَّكْبُ مُعْتَرِضُ لَمْ
تَتْرُكِ الْعَبَرَاتُ مُذْ بَعُدُوا
لِي مُقْلَةً تَرْنُو وَتَغْتَمِضُ رَحَلُوا فَدَمْعِي وَاكِفٌ هَطِلٌ
جَارٍ وَقَلْبِي حَشْوُهُ مَرَضُ وَتَعَوَّضُوا لَا ذُقْتُ فَقْدَهُمُ
عَنِّي وَمَالِي عَنْهُمُ عِوَضُ أَقْرَضْتُهُمْ قَلْبِي عَلَى ثِقَةٍ
مِنْهُمْ فَمَا رَدُّوا الَّذِي اقْتَرَضُوا
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَامِدِ بْنِ عُبَيْدٍ
أَبُو جَعْفَرٍ الْبُخَارِيُّ الْمُتَكَلِّمُ الْمُعْتَزِلِيُّ أَقَامَ
بِبَغْدَادَ وَيُعْرَفُ بِقَاضِي حَلَبَ وَكَانَ حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ فِي
الْفُرُوعِ مُعْتَزِلِيًّا فِي الْأُصُولِ مَاتَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
الْأَصْبَهَانِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِسَمْكُويَهِ أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْجَوَّالِينَ الرَّحَّالِينَ
سَمِعَ الْكَثِيرَ وَجَمَعَ الْكُتُبَ وَأَقَامَ بِهَرَاةَ وَكَانَ صَالِحًا
كَثِيرَ الْعِبَادَةِ تُوُفِّيَ بِنَيْسَابُورَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ وَرَدَ الْفَقِيهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ
بِمَنْشُورِ نِظَامِ الْمُلْكِ بِالتَّدْرِيسِ بِالنِّظَامِيَّةِ فَدَرَّسَ بِهَا
ثُمَّ قَدِمَ الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ الشِّيرَازِيُّ
بِمَنْشُورٍ آخَرَ مِنْهُ بِالتَّدْرِيسِ بِهَا. فَاتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى أَنْ
يُدَرِّسَ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى دَهَمَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ تِلْيَا
كَانَ يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ فَاسْتَغْوَى خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا وَزَعَمَ
أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ وَأَحْرَقَ مِنَ الْبَصْرَةِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ
دَارُ كُتُبٍ كَانَتْ أَوَّلَ دَارِ كُتُبٍ وُقِفَتْ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَتْلَفَ
شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الدَّوَالِيبِ وَالْمَصَانِعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا خُلِعَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيِّ بْنِ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيِّ
بِنِقَابَةِ الْعَبَّاسِيِّينَ بَعْدَ أَبِيهِ. وَفِيهَا اسْتُفْتِيَ عَلَى
مُعَلِّمِي الصِّبْيَانِ أَنْ يُمْنَعُوا مِنَ الْمَسَاجِدِ صِيَانَةً لَهَا،
وَلَمْ يُسْتَثْنَ مِنْهُمْ سِوَى رَجُلٍ كَانَ فَقِيهًا شَافِعِيًّا يَدْرِي
كَيْفَ تُصَانُ الْمَسَاجِدُ، وَاسْتَدَلَّ الْمُفْتِي بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُسُدُّوا كُلَّ خَوْخَةٍ إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ
وَحَجَّ بِالنَّاسِ خُمَارْتِكِينُ عَلَى الْعَادَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
الْوَزِيرُ أَبُو نَصْرِ بْنُ جَهِيرٍ، مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَهِيرٍ
فَخْرُ الدَّوْلَةِ أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْوُزَرَاءِ، وَزَرَ لِلْقَائِمِ ثُمَّ
لِوَلَدِهِ الْمُقْتَدِي ثُمَّ عَزَلَهُ مَلِكْشَاهْ السُّلْطَانُ وَوَلَّاهُ
دِيَارَ بَكْرٍ وَغَيْرَهَا، فَمَاتَ بِالْمَوْصِلِ وَهِيَ الْبَلَدُ الَّتِي
وُلِدَ بِهَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا كَتَبَ الْمُنَجِّمُ الَّذِي أَحْرَقَ الْبَصْرَةَ إِلَى
أَهْلِ وَاسِطٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَيَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ
الْمَهْدِيُّ صَاحِبُ الزَّمَانِ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ
الْمُنْكَرِ وَيَهْدِي الْخَلْقَ إِلَى الْحَقِّ فَإِنْ أَطَعْتُمْ أَمِنْتُمْ
مِنَ الْعَذَابِ وَإِنْ عَدَلْتُمْ عَنِ الْحَقِّ خُسِفَ بِكُمْ فَآمِنُوا
بِاللَّهِ وَبِالْإِمَامِ الْمَهْدِيِّ.
وَفِيهَا أُلْزِمَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِلُبْسِ الْغِيَارِ وَشَدِّ الزُّنَّارِ
وَكَذَلِكَ نِسَاؤُهُمْ فِي الْحَمَّامَاتِ وَغَيْرِهَا وَفِي جُمَادَى الْأُولَى
قَدِمَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْغَزَّالِيُّ
الطُّوسِيُّ مِنْ أَصْبَهَانَ إِلَى بَغْدَادَ عَلَى تَدْرِيسِ النِّظَامِيَّةِ
بِهَا، وَلَقَّبَهُ نِظَامُ الْمُلْكِ زَيْنَ الدِّينِ شَرَفَ الْأَئِمَّةِ قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ كَلَامُهُ مَعْسُولًا وَذَكَاؤُهُ شَدِيدًا وَفِي
رَمَضَانَ مِنْهَا عُزِلَ الْوَزِيرُ أَبُو شُجَاعٍ عَنْ وَزَارَةِ الْخِلَافَةِ،
فَأَنْشَدَ عِنْدَ عَزْلِهِ:
تَوَلَّاهَا وَلَيْسَ لَهُ عَدُوٌّ وَفَارَقَهَا وَلَيْسَ لَهُ صَدِيقُ
ثُمَّ جَاءَهُ كِتَابُ نِظَامِ الْمُلْكِ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَغْدَادَ فَخَرَجَ
مِنْهَا إِلَى عِدَّةِ أَمَاكِنَ فَلَمْ تَطِبْ لَهُ فَعَزَمَ عَلَى الْحَجِّ
ثُمَّ طَابَتْ نَفْسُ النِّظَامِ عَلَيْهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ
يَسْأَلُهُ أَنْ يَكُونَ عَدِيلَهُ فِي ذَلِكَ وَنَابَ
ابْنُ الْمُوصَلَايَا فِي الْوَزَارَةِ، وَقَدْ كَانَ أَسْلَمَ قَبْلَ هَذِهِ
الْمُبَاشَرَةِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ. وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا دَخَلَ
السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ بَغْدَادَ وَمَعَهُ الْوَزِيرُ نِظَامُ الْمُلْكِ وَقَدْ
خَرَجَ لِتَلَقِّيهِ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو بَكْرٍ الشَّامِيُّ وَابْنُ
الْمُوصَلَايَا الْمُسْلِمَانِيُّ وَجَاءَتْ مُلُوكُ الْأَطْرَافِ إِلَيْهِ ;
لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ، مِنْهُمْ أَخُوهُ تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُشُ صَاحِبُ
دِمَشْقَ وَأَتَابِكُهُ قَسِيمُ الدَّوْلَةِ آقَ سُنْقُرُ صَاحِبُ حَلَبَ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ خَرَجَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ وَابْنُهُ وَابْنُ
ابْنَتِهِ مِنَ الْخَلِيفَةِ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ إِلَى الْكُوفَةِ وَفِيهَا اسْتُوْزِرَ
أَبُو مَنْصُورِ بْنُ جَهِيرٍ وَهِيَ النَّوْبَةُ الثَّانِيَةُ لِوَزَارَتِهِ
لِلْمُقْتَدِي، وَخُلِعَ عَلَيْهِ وَرَكِبَ إِلَيْهِ نِظَامُ الْمُلْكِ
فَهَنَّأَهُ فِي دَارِهِ بِبَابِ الْعَامَّةِ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ عَمِلَ السُّلْطَانُ الْمِيلَادَ فِي دِجْلَةَ، وَأُشْعِلَتْ
نِيرَانٌ عَظِيمَةٌ، وَأُوْقِدَتْ شُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَتْ لَيْلَةً
مَشْهُودَةً عَجِيبَةً جِدًّا، وَقَدْ نَظَمَ فِيهَا الشُّعَرَاءُ الشِّعْرَ،
فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّهَارُ مِنْ هَذِهِ اللَّيْلَةِ طِيفَ بِالْخَبِيثِ
الدَّاعِيَةِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ تِلْيَا الْمُنَجِّمُ، عَلَى
جَمَلٍ بِبَغْدَادَ وَهُوَ يَسُبُّ النَّاسَ وَالنَّاسُ يَلْعَنُونَهُ وَعَلَى
رَأْسِهِ طُرْطُورٌ بِوَدَعٍ وَالدِّرَّةُ تَأْخُذُهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ثُمَّ
صُلِبَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا أَمَرَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ جَلَالُ الدَّوْلَةِ بِعِمَارَةِ
جَامِعِهِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ بِظَاهِرِ السُّورِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ
مَلَكَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ يُوسُفُ بْنُ تَاشُفِينَ صَاحِبُ بِلَادِ
الْمَغْرِبِ كَثِيرًا مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، وَأَسَرَ صَاحِبَهَا
الْمُعْتَمِدَ بْنَ عَبَّادٍ، وَسَجَنَهُ وَأَهْلَهُ بِأَغْمَاتَ، وَقَدْ كَانَ
الْمُعْتَمِدُ هَذَا مَوْصُوفًا بِالْكَرَمِ وَالْأَدَبِ وَالْحِلْمِ وَحُسْنِ
السِّيرَةِ وَالْعِشْرَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى
الرَّعِيَّةِ وَالرِّفْقِ بِهِمْ فَحَزِنَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَقَالَ فِي
مُصَابِهِ الشُّعَرَاءُ فَأَكْثَرُوا.
وَفِيهَا مَلَكَتِ الْفِرَنْجُ مَدِينَةَ صِقِلِّيَةَ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ
وَمَاتَ مَلِكُهُمْ فَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ، فَسَارَ فِي النَّاسِ سِيرَةَ
مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ كَأَنَّهُ مِنْهُمْ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلَازِلُ كَثِيرَةٌ بِالشَّامِ وَغَيْرِهَا فَهَدَّمَتْ
بُنْيَانًا كَثِيرًا وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ تِسْعُونَ بُرْجًا مِنْ سُورِ
أَنْطَاكِيَةَ وَهَلَكَ تَحْتَ الْهَدْمِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَحَجَّ بِالنَّاسِ
خُمَارْتِكِينُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلَّكَ، أَبُو طَاهِرٍ وُلِدَ
بِأَصْبَهَانَ وَتَفَقَّهَ بِسَمَرْقَنْدَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ سَبَبَ فَتْحِهَا
عَلَى يَدِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ وَكَانَ مِنْ رُؤَسَاءِ الشَّافِعِيَّةِ
وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ. قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مَنْدَهْ:
لَمْ نَرَ فَقِيهًا فِي وَقْتِنَا أَنْصَفَ مِنْهُ وَلَا أَعْلَمَ، وَكَانَ
فَصِيحَ اللَّهْجَةِ، كَثِيرَ الْمُرُوءَةِ غَزِيرَ النِّعْمَةِ، تُوُفِّيَ
بِبَغْدَادَ وَمَشَى الْوُزَرَاءُ وَالْكُبَرَاءُ فِي جِنَازَتِهِ غَيْرَ أَنَّ
نِظَامَ الْمُلْكِ رَكِبَ وَاعْتَذَرَ بِكِبَرِ السِّنِّ وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ
الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَجَاءَ
السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ إِلَى التُّرْبَةِ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: جَلَسْتُ
بُكْرَةَ الْعَزَاءِ إِلَى جَانِبِ نِظَامِ الْمُلْكِ وَالْمُلُوكُ قِيَامٌ بَيْنَ
يَدَيْهِ
اجْتَرَأْتُ عَلَى ذَلِكَ بِالْعِلْمِ. حَكَاهُ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَامِدٍ
أَبُو نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ، كَانَ إِمَامًا فِي الْقِرَاءَاتِ وَلَهُ فِيهَا
الْمُصَنَّفَاتُ، وَسَافَرَ فِي ذَلِكَ كَثِيرًا، وَاتَّفَقَ لَهُ أَنَّهُ غَرِقَ
فِي الْبَحْرِ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ ; فَبَيْنَمَا الْمَوْجُ يَرْفَعُهُ
وَيَضَعُهُ إِذْ نَظَرَ إِلَى الشَّمْسِ قَدْ زَالَتْ فَنَوَى الْوُضُوءَ
وَانْغَمَسَ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ صَعِدَ فَإِذَا خَشَبَةٌ فَرَكِبَهَا وَصَلَّى
عَلَيْهَا وَرَزَقَهُ اللَّهُ السَّلَامَةَ بِبَرَكَةِ الصَّلَاةِ وَعَاشَ بَعْدَ
ذَلِكَ دَهْرًا وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَهُ نَيِّفٌ وَتِسْعُونَ
سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ
أَبُو بَكْرٍ النَّاصِحُ، الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ الْمُنَاظِرُ الْمُتَكَلِّمُ
الْمُعْتَزِلِيُّ، وَقَدْ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِنَيْسَابُورَ ثُمَّ عُزِلَ مِنْهَا
بِخِيَانَةِ وُكَلَائِهِ وَأَخْذِهِمُ الرُّشَا، وَوَلِيَ قَضَاءَ الرَّيِّ وَقَدْ
سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ
مِنْهَا.
أَرْتُقُ بْنُ أَكْسَبَ التُّرْكُمَانِيُّ
جَدُّ الْمُلُوكِ الْأَرْتُقِيَّةِ الَّذِينَ هُمُ الْيَوْمَ مُلُوكُ مَارْدِينَ،
كَانَ شَهْمًا شُجَاعًا عَالِيَ الْهِمَّةَ، تَغَلَّبَ عَلَى بِلَادٍ كَثِيرَةٍ
وَقَدْ تَرْجَمَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ بِهَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا أَمَرَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ بِبِنَاءِ سُوقِ الْمَدِينَةِ
الْمَعْرُوفَةِ بِطُغْرُلْبَكَ إِلَى جَانِبِ دَارِ الْمُلْكِ وَجَدَّدَ
خَانَاتِهَا وَأَسْوَاقَهَا وَدُورَهَا وَأَمَرَ بِتَجْدِيدِ الْجَامِعِ الَّذِي
تَمَّ عَلَى يَدِ هَارُونَ الْخَادِمِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
وَوَقَفَ عَلَى نَصْبِ قِبْلَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَمُنَجِّمُهُ إِبْرَاهِيمُ حَاضِرٌ
وَنُقِلَتْ إِلَيْهِ أَخْشَابُ جَامِعِ سَامَرَّا وَشَرَعَ نِظَامُ الْمُلْكِ فِي
بِنَاءِ دَارٍ هَائِلَةٍ لَهُ، وَكَذَلِكَ تَاجُ الْمُلُوكِ أَبُو الْغَنَائِمِ،
شَرَعَ فِي بِنَاءِ دَارٍ هَائِلَةٍ أَيْضًا وَاسْتَوْطَنُوا الْبَلَدَ وَطَابَتْ
لَهُمْ بَغْدَادُ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِبَغْدَادَ فِي أَمَاكِنَ
شَتَّى، فَمَا أُطْفِئَ حَتَّى هَلَكَ لِلنَّاسِ شَيْءٌ كَثِيرٌ فَمَا عَمَّرُوا
بِقَدْرِ مَا حُرِقَ وَمَا غَرِمُوا.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ خَرَجَ السُّلْطَانُ إِلَى أَصْبَهَانَ وَفِي صُحْبَتِهِ
وَلَدُ الْخَلِيفَةِ أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرٌ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ فِي
رَمَضَانَ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي الطَّرِيقِ يَوْمَ عَاشِرِهِ عَدَا صَبِيٌّ مِنَ
الدَّيْلَمِ عَلَى الْوَزِيرِ نِظَامِ الْمُلْكِ، بَعْدَ أَنْ أَفْطَرَ فَضَرَبَهُ
بِسِكِّينٍ فَقَضَى عَلَيْهِ، وَأُخِذَ الصَّبِيُّ الدَّيْلَمِيُّ فَقُتِلَ،
وَقَدْ كَانَ مِنْ كِبَارِ الْوُزَرَاءِ وَخِيَارِ الْأُمَرَاءِ، وَسَنَذْكُرُ
شَيْئًا مِنْ سِيرَتِهِ عِنْدَ ذِكْرِ تَرْجَمَتِهِ.
وَقَدِمَ السُّلْطَانُ بَغْدَادَ فِي رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ غَيْرِ صَالِحَةٍ
فَلَقَّاهُ اللَّهُ فِي نَفْسِهِ
مَا تَمَنَّاهُ لِأَعْدَائِهِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا
اسْتَقَرَّ رِكَابُهُ بِبَغْدَادَ وَجَاءَ النَّاسُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ وَالتَّهْنِئَةِ
بِقُدُومِهِ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ يُهَنِّئُهُ فَأَرْسَلَ إِلَى
الْخَلِيفَةِ يَقُولُ لَهُ: لَا بُدَّ أَنْ تَتْرُكَ لِي بَغْدَادَ وَتَتَحَوَّلَ
إِلَى أَيِّ الْبِلَادِ شِئْتَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ يَسْتَنْظِرُهُ
شَهْرًا فَرَدَّ عَلَيْهِ: وَلَا سَاعَةً وَاحِدَةً، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ
يَتَوَسَّلُ فِي إِنْظَارِهِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ
تَمَنُّعٍ شَدِيدٍ، فَمَا اسْتَتَمَّ الْأَجَلُ حَتَّى خَرَجَ السُّلْطَانُ يَوْمَ
عِيدِ الْفِطْرِ إِلَى الصَّيْدِ فَأَصَابَتْهُ حُمَّى شَدِيدَةٌ فَافْتَصَدَ
فَمَا قَامَ مِنْهَا حَتَّى مَاتَ قَبْلَ الْعَشَرَةِ أَيَّامٍ وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
فَاسْتَحْوَذَتْ زَوْجَتُهُ زُبَيْدَةُ خَاتُونُ عَلَى الْجَيْشِ، وَضَبَطَتِ
الْأَحْوَالَ جَيِّدًا وَأَرْسَلَتْ إِلَى الْخَلِيفَةِ تَسْأَلُ مِنْهُ أَنْ
يَكُونَ وَلَدُهَا مَحْمُودٌ مَلِكًا بَعْدَ أَبِيهِ وَأَنْ يُخْطَبَ لَهُ عَلَى
الْمَنَابِرِ، فَأَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ
وَبَعَثَ يُعَزِّيهَا وَيُهَنِّئُهَا مَعَ وَزِيرِهِ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ ابْنِ جَهِيرٍ
وَكَانَ عُمُرُ الْمَلِكِ مَحْمُودٍ هَذَا يَوْمَئِذٍ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ
أَخَذَتْهُ وَالِدَتُهُ فِي الْجُيُوشِ وَسَارَتْ بِهِ نَحْوَ أَصْبَهَانَ
لِتُوَطِّدِ لَهُ الْمُلْكَ فَدَخَلُوهَا وَتَمَّ لَهُمْ مُرَادُهُمْ وَخُطِبَ
لَهُ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ حَتَّى فِي الْحَرَمَيْنِ، وَاسْتُوْزِرَ لَهُ تَاجُ
الْمُلْكِ أَبُو الْغَنَائِمِ الْمَرْزُبَانُ بْنُ خِسْرُو، وَأَرْسَلَتْ أُمُّ
الْمَلِكِ مَحْمُودٍ تَسْأَلُ لَهُ مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يُوَلِّيَهُ الْمُلْكَ
وَأَنْ يَجْعَلَ وِلَايَاتِ الْعُمَّالِ إِلَيْهِ فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: هَذَا لَا
يُسِيغُهُ الشَّرْعُ. وَوَافَقَهُ الْغَزَّالِيُّ، عَلَى ذَلِكَ وَأَفْتَى
الْمُشَطَّبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَنَفِيُّ بِجَوَازِ ذَلِكَ، فَلَمْ يُعْمَلْ
إِلَّا بِقَوْلِ الْغَزَّالِيِّ وَانْحَازَ أَكْثَرُ جَيْشِ السُّلْطَانِ إِلَى ابْنِهِ
الْآخَرِ بَرْكْيَارُوقَ، فَبَايَعُوهُ وَخَطَبُوا لَهُ بِالرَّيِّ وَانْفَرَدَتِ
الْخَاتُونُ وَوَلَدُهَا وَمَعَهُمْ شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مِنَ الْجَيْشِ
وَالْخَاصِّكِيَّةِ فَأَنْفَقَتْ فِيهِمْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ
أَلْفِ دِينَارٍ لِقِتَالِ بَرْكْيَارُوقَ بْنِ مَلِكْشَاهْ
فَالْتَقَوْا فِي ذِي الْحِجَّةِ فَكَانَتْ خَاتُونُ هِيَ الْمُنْهَزِمَةَ
وَمَعَهَا وَلَدُهَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " لَنْ
يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ اعْتَرَضَتْ بَنُو خَفَاجَةَ لِلْحَجِيجِ فَقَاتَلَهُمْ
مَنْ فِي الْحَجِيجِ مِنَ الْجُنْدِ مَعَ الْأَمِيرِ خُمَارْتِكِينَ فَهَزَمُوهُمْ
وَنُهِبَتْ أَمْوَالُ الْأَعْرَابِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا جَاءَ بَرَدٌ شَدِيدٌ عَظِيمٌ بِالْبَصْرَةِ وَزْنُ الْبَرَدَةِ
الْوَاحِدَةِ مِنْهُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ رِطْلًا،
فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَشْجَارِ، وَجَاءَ رِيحٌ
عَاصِفٌ قَاصِفٌ فَأَلْقَى عَشَرَاتِ الْأُلُوفِ مِنَ النَّخِيلِ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُشُ صَاحِبُ دِمَشْقَ
مَدِينَةَ حِمْصَ وَقَلْعَةَ عِرْقَةَ وَقَلْعَةَ أَفَامِيَةَ، وَمَعَهُ قَسِيمُ
الدَّوْلَةِ آقْ سُنْقُرُ، وَكَانَ السُّلْطَانُ قَدْ جَهَّزَ سَرِيَّةً إِلَى
الْيَمَنِ صُحْبَةَ سَعْدِ الدَّوْلَةِ كُوَهْرَائِينَ وَأَمِيرٍ آخَرَ مِنَ
التُّرْكُمَانِ، فَدَخَلَاهَا وَأَسَاءَا فِيهَا السِّيرَةَ، فَتُوُفِّيَ
كُوَهْرَائِينُ يَوْمَ دُخُولِهِ إِلَيْهَا فِي مَدِينَةِ عَدَنَ وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَي بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَبُو
الْفَضْلِ التَّمِيمِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْحَكَّاكِ الْمَكِّيِّ، رَحَلَ
فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إِلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَأَصْبَهَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ
مِنَ الْبِلَادِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَخَرَّجَ الْأَجْزَاءَ، وَكَانَ حَافِظًا
مُتْقِنًا وَضَابِطًا أَدِيبًا صَدُوقًا خَيِّرًا، وَكَانَ يَتَرَاسَلُ عَنْ
صَاحِبِ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَالْمُرُوءَاتِ قَارَبَ
الثَّمَانِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
نِظَامُ الْمُلْكِ الْوَزِيرُ
هُوَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ الْعَبَّاسِ، أَبُو عَلِيٍّ
الْوَزِيرُ نِظَامُ الْمُلْكِ وَزَرَ لِلْمَلِكِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ وَوَلَدِهِ
مَلِكْشَاهْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْوُزَرَاءِ وُلِدَ
بِطُوسَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ يَخْدِمُ
أَصْحَابَ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، وَكَانَ مِنَ الدَّهَاقِينِ فَأَشْغَلَ
وَلَدَهُ هَذَا بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً،
وَأَشْغَلَهُ بِعِلْمِ الْقِرَاءَاتِ وَالتَّفَقُّهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَسَمَاعِ الْحَدِيثِ وَاللُّغَةِ وَالنَّحْوِ، وَكَانَ عَالِيَ الْهِمَّةِ،
فَحَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا صَالِحًا ثُمَّ تَرَقَّى فِي الْمَرَاتِبِ حَتَّى
وَزَرَ لِلسُّلْطَانِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ مِيكَائِيلَ بْنِ
سَلْجُوقَ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ مَلِكْشَاهْ لَمْ يُنْكَبْ فِي شَيْءٍ
مِنْهَا.
وَبَنَى الْمَدَارِسَ النِّظَامِيَّاتِ بِبَغْدَادَ
وَنَيْسَابُورَ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ مَجْلِسُهُ عَامِرًا بِالْفُقَهَاءِ
وَالْعُلَمَاءِ بِحَيْثُ يَقْضِي مَعَهُمْ عَامَّةَ أَوْقَاتِهِ، فَقِيلَ لَهُ:
إِنَّ هَؤُلَاءِ شَغَلُوكَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَالِحِ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ
جَمَالُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَوْ أَجْلَسْتُهُمْ عَلَى رَأْسِي مَا
اسْتَكْثَرْتُ ذَلِكَ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو الْقَاسِمِ
الْقُشَيْرِيُّ وَأَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ قَامَ لَهُمَا وَأَجْلَسَهُمَا
فِي الْمَسْنَدِ، فَإِذَا دَخَلَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارْمَذِيُّ قَامَ
وَأَجْلَسَهُ مَكَانَهُ وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ:
إِنَّهُمَا إِذَا دَخَلَا عَلَيَّ قَالَا: أَنْتَ وَأَنْتَ فَأَزْدَادُ تِيهًا،
وَأَمَّا الْفَارْمَذِيُّ يَذْكُرُ لِي عُيُوبِي وَظُلْمِي، فَأَنْكَسِرُ
وَأَرْجِعُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الَّذِي أَنَا فِيهِ.
وَكَانَ مُحَافِظًا عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا لَا يَشْغَلُهُ بَعْدَ
الْأَذَانِ شُغْلٌ عَنْهَا، وَكَانَ يُوَاظِبُ عَلَى صِيَامِ الْاثْنَيْنِ
وَالْخَمِيسِ وَلَهُ الْأَوْقَافُ الدَّارَّةُ وَالصَّدَقَاتُ الْبَارَّةُ.
وَكَانَ يُعَظِّمُ الصُّوفِيَّةَ تَعْظِيمًا زَائِدًا فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ
فَقَالَ إِنِّي كُنْتُ أَخْدُمُ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ فَجَاءَنِي يَوْمًا إِنْسَانٌ
فَقَالَ لِي: اخْدُمْ مَنْ تَنْفَعُكَ خِدْمَتُهُ وَلَا تَخْدُمْ مَنْ تَأْكُلُهُ
الْكِلَابُ غَدًا، فَلَمْ أَفْهَمْ مَا يَقُولُ فَاتَّفَقَ أَنَّ ذَلِكَ
الْأَمِيرَ سَكِرَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَخَرَجَ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ وَهُوَ
ثَمِلٌ، وَكَانَتْ لَهُ كِلَابٌ تَفْتَرِسُ الْغُرَبَاءَ بِاللَّيْلِ فَلَمْ
تَعْرِفْهُ وَمَزَّقَتْهُ فَأَصْبَحَ وَقَدْ أَكَلَتْهُ الْكِلَابُ قَالَ: فَأَنَا
أَطْلُبُ مِثْلَ ذَلِكَ الشَّيْخِ.
وَقَدْ أَسْمَعَ الْحَدِيثَ فِي أَمَاكِنَ شَتَّى
بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا وَكَانَ يَقُولُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ بِأَنِّي لَسْتُ
أَهْلًا لِلرِّوَايَةِ وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُرْبَطَ فِي قِطَارِ نَقَلَةِ
حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَيْضًا:
رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ إِبْلِيسَ فَقُلْتُ لَهُ وَيْحَكَ خَلَقَكَ اللَّهُ
وَأَمَرَكَ بِالسُّجُودِ لَهُ مُشَافَهَةً فَأَبَيْتَ وَأَنَا لَمْ يَأْمُرْنِي
بِالسُّجُودِ لَهُ مُشَافَهَةً وَأَنَا أَسْجُدُ لَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّاتٍ
فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
مَنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوِصَالِ أَهْلًا فَكُلُّ إِحْسَانِهِ ذُنُوبُ
وَقَدْ أَجْلَسَهُ الْمُقْتَدِي مَرَّةً بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ لَهُ: يَا حَسَنُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ بِرِضَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْكَ. وَقَدْ مَلَكَ
أُلُوفًا مِنَ التُّرْكِ.
وَكَانَ لَهُ بَنُونَ كَثِيرَةٌ، وَزَرَ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ وَزَرَ ابْنُهُ
أَحْمَدُ لِلسُّلْطَانِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ وَلِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ
خَرَجَ نِظَامُ الْمُلْكِ مَعَ السُّلْطَانِ مِنْ أَصْبَهَانَ قَاصِدًا بَغْدَادَ
فِي مُسْتَهَلِّ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ
الْعَاشِرُ اجْتَازَ فِي بَعْضِ طَرِيقِهِ بِقَرْيَةٍ بِالْقُرْبِ مِنْ
نَهَاوَنْدَ وَهُوَ يُسَايِرُهُ فِي مِحَفَّةٍ فَقَالَ: قَدْ قُتِلَ هَاهُنَا
خَلْقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ زَمَنَ عُمَرَ فَطُوبَى لِمَنْ يَكُونُ عِنْدَهُمْ،
فَاتَّفَقَ أَنَّهُ لَمَّا أَفْطَرَ جَاءَهُ صَبِيٌّ فِي هَيْئَةِ مُسْتَغِيثٍ
بِهِ وَمَعَهُ قِصَّةٌ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ ضَرَبَهُ بِسِكِّينٍ فِي
فُؤَادِهِ، وَهَرَبَ فَعَثَرَ بِطُنُبِ الْخَيْمَةِ، فَأُخِذَ فَقُتِلَ، وَمَكَثَ
الْوَزِيرُ سَاعَةً وَجَاءَهُ السُّلْطَانُ يَعُودُهُ فَمَاتَ
وَهُوَ عِنْدَهُ، وَقَدِ اتُّهِمَ السُّلْطَانُ فِي
أَمْرِهِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي مَالَأَ عَلَيْهِ فَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ بَعْدَهُ
سِوَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَكَانَ فِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ لِأُولِي
الْأَلْبَابِ.
وَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَ بَغْدَادَ مَوْتُ النِّظَامِ حَزِنُوا عَلَيْهِ وَجَلَسَ
الْوَزِيرُ وَالرُّؤَسَاءُ لِلْعَزَاءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَرَثَاهُ
الشُّعَرَاءُ مِنْهُمْ مُقَاتِلُ بْنُ عَطِيَّةَ فَقَالَ
كَانَ الْوَزِيرُ نِظَامُ الْمُلْكِ لُؤْلُؤَةً يَتِيمَةً صَاغَهَا الرَّحْمَنُ
مِنْ شَرَفِ
عَزَّتْ فَلَمْ تَعْرِفِ الْأَيَّامُ قِيمَتَهَا فَرَدَّهَا غَيْرَةً مِنْهُ إِلَى
الصَّدَفِ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمَا رَحِمَهُ
اللَّهُ.
عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ نَاقَيَا
أَبُو الْقَاسِمِ الشَّاعِرُ مِنْ أَهْلِ الْحَرِيمِ الطَّاهِرِيِّ وُلِدَ سَنَةَ
عَشْرٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ مَاهِرًا وَقَدْ رَمَاهُ
بَعْضُهُمْ بِرَأْيِ الْأَوَائِلِ وَأَنَّهُ قَالَ: فِي السَّمَاءِ نَهْرٌ مِنْ
مَاءٍ وَنَهْرٌ مِنْ لَبَنٍ وَنَهْرٌ مِنْ خَمْرٍ وَنَهْرٌ مِنْ عَسَلٍ وَمَا
يَسْقُطُ مِنْ ذَلِكَ قَطْرَةٌ إِلَى الْأَرْضِ إِلَّا هَذَا الَّذِي هُوَ
يُخَرِّبُ الْبُيُوتَ وَيَهْدِمُ السُّقُوفَ وَهَذَا الْكَلَامُ كُفْرٌ مِنْ
قَائِلِهِ لَعَنَهُ اللَّهُ نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي "
الْمُنْتَظَمِ ".
وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ وَجَدَ فِي كَفِّهِ
مَكْتُوبًا حِينَ مَاتَ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ:
نَزَلْتُ بِجَارٍ لَا يُخَيِّبُ ضَيْفَهُ أُرَجِّي نَجَاتِي مِنْ عَذَابِ
جَهَنَّمِ
وَإِنِّي عَلَى خَوْفِي مِنَ اللَّهِ وَاثِقٌ بِإِنْعَامِهِ وَاللَّهُ أَكْرَمُ
مُنْعِمِ
مَالِكُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَانِيَاسِيُّ الشَّامِيُّ وَقَدْ كَانَ لَهُ اسْمٌ آخَرُ
سَمَّتْهُ بِهِ أُمُّهُ: عَلِيٌّ أَبُو الْحَسَنِ فَغَلَبَ عَلَيْهِ مَا سَمَّاهُ
بِهِ أَبُوهُ، وَمَا كَنَّاهُ بِهِ سَمِعَ الْحَدِيثَ عَلَى مَشَايِخَ كَثِيرَةٍ
وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الصَّلْتِ هَلَكَ فِي
حَرِيقِ سُوقِ الرَّيْحَانِيِّينَ وَلَهُ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ سَنَةً وَكَانَ
ثِقَةً عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ.
السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ
السُّلْطَانُ الْكَبِيرُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ، أَبُو الْفَتْحِ مَلِكْشَاهْ بْنُ
أَبِي شُجَاعٍ أَلْبِ أَرْسَلَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ بْنِ
تُقَاقَ التُّرْكِيُّ مَلَكَ بَغْدَادَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَامْتَدَّتْ
مَمْلَكَتُهُ مِنْ أَقْصَى بِلَادِ التُّرْكِ إِلَى أَقْصَى بِلَادِ الْيَمَنِ
وَرَاسَلَهُ
الْمُلُوكُ مِنْ سَائِرِ الْأَقَالِيمِ وَالْأَقْطَارِ
حَتَّى مَلَكَ الرُّومَ وَالْخَزَرَ وَالَّانَ وَكَانَتْ دَوْلَتُهُ صَارِمَةً
وَالطُّرُقَاتُ فِي أَيَّامِهِ آمِنَةً، وَ مَعَ عَظَمَتِهِ يَقِفُ لِلْمِسْكِينِ
وَالْمَرْأَةِ وَالضَّعِيفِ، فَيَقْضِي حَوَائِجَهُمْ.
وَقَدْ عَمَّرَ الْعِمَارَاتِ الْهَائِلَةَ، وَبَنَى الْقَنَاطِرَ وَأَسْقَطَ
الْمُكُوسَ وَالضَّرَائِبَ وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ الْكِبَارَ الْخَرَابَ، وَبَنَى
مَدْرَسَةَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالسُّوقَ وَبَنَى الْجَامِعَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ
جَامِعُ السُّلْطَانِ بِبَغْدَادَ، وَبَنَى مَنَارَةَ الْقُرُونِ مِنْ صُيُودِهِ
بِالْكُوفَةِ، وَمِثْلَهَا فِيمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَضَبَطَ مَا صَادَهُ
بِنَفْسِهِ فِي صُيُودِهِ فَكَانَ ذَلِكَ نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ صَيْدٍ
فَتَصَدَّقَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَال: إِنِّي خَائِفٌ مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى أَنْ أَكُونَ أَزْهَقْتُ نَفْسَ حَيَوَانٍ لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ.
وَقَدْ كَانَتْ لَهُ أَفْعَالٌ حَسَنَةٌ وَسِيرَةٌ صَالِحَةٌ ; مِنْ ذَلِكَ أَنَّ
فَلَّاحًا أَنْهَى إِلَيْهِ أَنَّ غِلْمَانًا لَهُ أَخَذُوا لَهُ حِمْلَ بِطِّيخٍ،
هُوَ رَأْسُ مَالِهِ. فَقَالَ الْيَوْمَ أَرُدُّ عَلَيْكَ حِمْلَكَ. ثُمَّ قَالَ
لِقَيِّمِهِ: أُرِيدُ أَنْ تَأْتُونِي الْيَوْمَ بِبِطِّيخٍ. فَفَتَّشُوا فَإِذَا
فِي خَيْمَةِ الْحَاجِبِ بِطِّيخٌ فَحَمَلُوهُ إِلَيْهِ، فَاسْتَدْعَى الْحَاجِبَ
فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا الْبِطِّيخُ؟ قَالَ: جَاءَ بِهِ الْغِلْمَانُ
فَقَالَ أَحْضِرْهُمْ فَذَهَبَ فَهَرَّبَهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأَحْضَرَهُ
وَسَلَّمَهُ إِلَى الْفَلَّاحِ، وَقَالَ خُذْ بِيَدِهِ فَإِنَّهُ مَمْلُوكِي
وَمَمْلُوكُ أَبِي، وَإِيَّاكَ أَنْ تُفَارِقَهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ حِمْلَهُ
فَخَرَجَ الْفَلَّاحُ يَحْمِلُهُ وَفِي يَدِهِ الْحَاجِبُ فَاسْتَفْدَى نَفْسَهُ
مِنْهُ
بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ.
وَلَمَّا تَوَجَّهَ لِقِتَالِ أَخِيهِ تَكِشَ اجْتَازَ بِطُوسَ فَدَخَلَ
لِزِيَارَةِ قَبْرِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا وَمَعَهُ نِظَامُ الْمُلْكِ،
فَلَمَّا خَرَجَا قَالَ لِلنِّظَامِ: بِمَ دَعَوْتَ؟ قَالَ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ
يُظَفِّرَكَ عَلَى أَخِيكَ فَقَالَ لَكِنِّي قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَخِي
أَصْلَحَ لِلْمُسْلِمِينَ فَظَفِّرْهُ بِي، وَإِنْ كُنْتُ أَصْلَحَ لَهُمْ
فَظَفِّرْنِي بِهِ.
وَقَدْ سَارَ مَلِكْشَاهْ هَذَا بِعَسْكَرِهِ مِنْ أَصْبَهَانَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ
فَمَا عُرِفَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ جَيْشِهِ ظَلَمَ أَحَدًا مِنْ رَعِيَّتِهِ.
وَاسْتَعْدَى إِلَيْهِ تُرْكُمَانِيُّ أَنَّ رَجُلًا افْتَضَّ بَكَارَةَ ابْنَتِهِ
وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ قَتْلِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا إِنَّ
ابْنَتَكَ لَوْ شَاءَتْ مَا مَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَإِنْ كُنْتَ لَابُدَ
فَاعِلًا فَاقْتُلْهَا مَعَهُ فَسَكَتَ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَوَ
خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: فَإِنَّ بَكَارَتَهَا قَدْ
ذَهَبَتْ فَزَوِّجْهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَأَنَا أَمْهَرُهَا مِنْ بَيْتِ
الْمَالِ كِفَايَتَهَا فَفَعَلَ.
وَحَكَى لَهُ بَعْضُ الْوُعَّاظِ أَنَّ كِسْرَى اجْتَازَ يَوْمًا فِي بَعْضِ
أَسْفَارِهِ بِقَرْيَةٍ مُنْفَرِدًا مِنْ جَيْشِهِ، فَوَقَفَ عَلَى بَابِ دَارٍ
فَاسْتَسْقَى فَأَخْرَجَتْ إِلَيْهِ جَارِيَةٌ إِنَاءً فِيهِ مَاءُ قَصَبِ
السُّكَّرِ بِالثَّلْجِ فَشَرِبَ مِنْهُ فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ: كَيْفَ تَصْنَعُونَ
هَذَا؟ فَقَالَتْ إِنَّهُ سَهْلٌ عَلَيْنَا اعْتِصَارُهُ عَلَى أَيْدِينَا
فَطَلَبَ مِنْهَا شَرْبَةً أُخْرَى فَذَهَبَتْ لِتَأْتِيَهُ بِهَا فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ
أَنْ يَأْخُذَ هَذَا الْمَكَانَ مِنْهُمْ وَيُعَوِّضَهُمْ عَنْهُ، فَأَبْطَأَتْ
عَلَيْهِ
ثُمَّ خَرَجَتْ وَلَيْسَ مَعَهَا شَيْءٌ، فَقَالَ: مَا
لَكِ؟ فَقَالَتْ كَأَنَّ نِيَّةَ سُلْطَانِنَا تَغَيَّرَتْ عَلَيْنَا فَتَعَسَّرَ
عَلَيَّ اعْتِصَارُهُ - وَهِيَ لَا تَعْرِفُ أَنَّهُ السُّلْطَانُ - فَقَالَ:
اذْهَبِي فَإِنَّكِ الْآنَ تَقْدِرِينَ عَلَيْهِ وَغَيَّرَ نِيَّتَهُ إِلَى
غَيْرِهَا فَذَهَبَتْ وَجَاءَتْهُ بِشَرْبَةٍ أُخْرَى سَرِيعًا فَشَرِبَهَا
وَانْصَرَفَ، فَقَالَ لَهُ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ: هَذِهِ تَصْلُحُ لِي
وَلَكِنْ قُصَّ عَلَى الرَّعِيَّةِ حِكَايَةَ كِسْرَى الْأُخْرَى حِينَ اجْتَازَ
بِبُسْتَانٍ فَطَلَبَ مِنْ نَاطُورِهِ عُنْقُودًا مِنْ حِصْرَمٍ فَإِنَّهُ قَدْ
أَصَابَتْهُ صَفْرَاءُ وَعَطَشٌ فَقَالَ لَهُ النَّاطُورُ: إِنَّ السُّلْطَانَ
لَمْ يَأْخُذْ حَقَّهُ مِنْهُ، فَلَا أَقْدِرُ أَنْ أُعْطِيَكَ مِنْهُ شَيْئًا،
قَالَ: فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ ذَكَاءِ الْمَلِكِ وَحُسْنِ اسْتِحْضَارِهِ هَذِهِ
فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ.
وَاسْتَعْدَاهُ رَجُلَانِ مِنَ الْفَلَّاحِينَ عَلَى الْأَمِيرِ خُمَارْتِكِينَ
أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُمَا مَالًا جَزِيلًا وَكَسَرَ ثَنِيَّتَهُمَا، وَقَالَا:
سَمِعْنَا بِعَدْلِكَ فِي الْعَالَمِ، فَإِنْ أَقَدْتَنَا مِنْهُ كَمَا أَمَرَكَ
اللَّهُ وَإِلَّا اسْتَعْدَيْنَا عَلَيْكَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخَذَا
بِرِكَابِهِ فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ وَقَالَ لَهُمَا خُذَا بِكُمِّي فَاسْحَبَانِي
إِلَى دَارِ نِظَامِ الْمُلْكِ، فَهَابَا ذَلِكَ، فَعَزَمَ عَلَيْهِمَا فَفَعَلَا
مَا أَمَرَهُمَا بِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ النِّظَامَ مَجِيءُ السُّلْطَانِ إِلَيْهِ
خَرَجَ مُسْرِعًا مِنْ خَيْمَتِهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: إِنِّي إِنَّمَا
قَلَّدْتُكَ الْأَمْرَ لِتُنْصِفَ الْمَظْلُومَ مِمَّنْ ظَلَمَهُ، فَكَتَبَ مِنْ
فَوْرِهِ بِعَزْلِ خُمَارْتِكِينَ وَحَلِّ أَقْطَاعِهِ وَأَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمَا
أَمْوَالَهُمَا وَأَنْ يَقْلَعَا ثَنِيَّتَيْهِ إِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ
الْبَيِّنَةُ وَأَمَرَ لَهُمَا الْمَلِكُ مِنْ عِنْدِهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ.
وَأَسْقَطَ مَرَّةً بَعْضَ الْمُكُوسِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْتَوْفِينَ:
يَا سُلْطَانَ الْعَالَمِ إِنَّ هَذَا يَعْدِلُ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ
وَأَكْثَرَ فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنَّ الْمَالَ مَالُ اللَّهِ وَالْعِبَادَ
عَبِيدُهُ، وَالْبِلَادَ بِلَادُهُ وَإِنَّمَا يَبْقَى هَذَا لِي، وَمَنْ
نَازَعَنِي فِي هَذَا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ.
وَغَنَّتْهُ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ فَطَرِبَ وَتَاقَتْ
نَفْسُهُ إِلَيْهَا فَهَمَّ بِهَا، فَقَالَتْ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنِّي أَغَارُ
عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْجَمِيلِ مِنَ النَّارِ وَبَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ
كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ فَاسْتَدْعَى بِالْقَاضِي فَزَوَّجَهُ بِهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّ السُّلْطَانَ
مَلِكْشَاهْ كَانَ قَدْ فَسَدَتْ عَقِيدَتُهُ بِسَبَبِ مُعَاشَرَتِهِ بَعْضَ
الْبَاطِنِيَّةِ ثُمَّ تَنَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ وَرَاجَعَ الْحَقَّ.
وَذُكِرَ أَنَّ ابْنَ عَقِيلٍ كَتَبَ لَهُ شَيْئًا فِي الدَّلِيلِ عَلَى إِثْبَاتِ
الصَّانِعِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ آخِرَ مَرَّةٍ إِلَى
بَغْدَادَ عَزَمَ عَلَى الْخَلِيفَةِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا فَاسْتَنْظَرَهُ
عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَمَرِضَ السُّلْطَانُ وَمَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعَشَرَةِ
أَيَّامٍ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ النِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ عَنْ
سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَخَمْسَةِ أَشْهُرٍ وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ مِنْ
ذَلِكَ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَشْهُرًا وَدُفِنَ بِالشُّونِيْزِيَّةِ، وَلَمْ
يُصَلِّ عَلَيْهِ أَحَدٌ لِشِدَّةِ كِتْمَانِ الْأَمْرِ، وَكَانَ مَرَضُهُ
بِالْحُمَّى وَقِيلَ: إِنَّهُ سُمَّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بَانِي التَّاجِيَّةِ بِبَغْدَادَ
الْمَرْزُبَانُ بْنُ خُسْرُو تَاجُ الْمُلْكِ الْوَزِيرُ أَبُو الْغَنَائِمِ
بَانِي التَّاجِيَّةِ الَّتِي دَرَّسَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ وَبَنَى
تُرْبَةَ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ
أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْزِرَهُ بَعْدَ نِظَامِ الْمُلْكِ فَمَاتَ سَرِيعًا
فَاسْتَوْزَرَ لِوَلَدِهِ مَحْمُودٍ فَلَمَّا قَهَرَهُ
أَخُوهُ بَرْكْيَارُوقُ قَتَلَهُ غِلْمَانُ النِّظَامِ
وَقَطَّعُوهُ إِرْبًا إِرْبًا فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ بُورِي
أَبُو الْقَاسِمِ الشِّيرَازِيُّ أَحَدُ الرَّحَّالِينَ الْجَوَّالِينَ فِي
الْآفَاقِ، وَكَانَ حَافِظًا ثِقَةً دَيِّنًا وَرِعًا حَسَنَ الِاعْتِقَادِ
وَالسِّيرَةِ لَهُ تَارِيخٌ حَسَنٌ وَرَحَلَ إِلَيْهِ الطَّلَبَةُ مِنْ بَغْدَادَ
وَغَيْرِهَا. رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ إِلَى بَغْدَادَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَرْدَشِيرُ بْنُ مَنْصُورٍ
أَبُو الْحُسَيْنِ الْعَبَّادِيُّ مَرْجِعَهُ مِنَ الْحَجِّ، فَنَزَلَ
النِّظَامِيَّةَ فَوَعَظَ النَّاسَ، وَحَضَرَ مَجْلِسَهُ الْغَزَّالِيُّ مُدَرِّسُ
الْمَكَانِ وَازْدَحَمَ النَّاسُ فِي مَجْلِسِ وَعْظِهِ وَكَثُرُوا فِي
الْمَجَالِسِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَرَكَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مَعَايِشَهُمْ، وَكَانَ
يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا
مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَتَابَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَلَزِمُوا
الْمَسَاجِدَ، وَأُرِيقَتِ الْخُمُورُ وَكُسِرَتِ الْمَلَاهِي، وَكَانَ الرَّجُلُ
فِي نَفْسِهِ صَالِحًا لَهُ عِبَادَاتٌ وَفِيهِ زُهْدٌ وَافِرٌ، وَلَهُ أَحْوَالٌ
صَالِحَةٌ، وَكَانَ النَّاسُ يَزْدَحِمُونَ عَلَى فَضْلِ وَضُوئِهِ، وَرُبَّمَا
أَخَذُوا مِنَ الْبِرْكَةِ الَّتِي يَتَوَضَّأُ مِنْهَا لِلْبَرَكَةِ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ اشْتَهَى مَرَّةً عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ
تُوتًا شَامِيًّا وَثَلْجًا، فَطَافَ الْبَلَدَ بِكَمَالِهِ فَلَمْ يَجِدْهُ،
فَرَجَعَ فَوَجَدَ الشَّيْخَ فِي خَلْوَتِهِ، فَسَأَلَ: هَلْ جَاءَ الْيَوْمَ
إِلَى الشَّيْخِ أَحَدٌ؟ فَقِيلَ لَهُ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي
غَزَلْتُ بِيَدَيَّ غَزْلًا وَبِعْتُهُ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَشْتَرِيَ
لِلشَّيْخِ طُرْفَةً، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَبَكَتْ، فَرَحِمَهَا وَقَالَ:
اذْهَبِي فَاشْتَرِي فَقَالَتْ: مَاذَا تَشْتَهِي فَقَالَ مَا شِئْتِ فَذَهَبَتْ
فَأَتَتْهُ بِتُوتٍ شَامِيٍّ وَثَلْجٍ فَأَكَلَهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَشْرَبُ
مَرَقًا فَقُلْتُ فِي نَفْسِي لَيْتَهُ أَعْطَانِي فَضْلَهُ لِأَشْرَبَهُ لِحِفْظِ
الْقُرْآنِ، فَنَاوَلَنِي فَضْلَهُ فَقَالَ: اشْرَبْهَا عَلَى تِلْكَ النِّيَّةِ،
قَالَ: فَرَزَقَنِي اللَّهُ حِفْظَ الْقُرْآنِ وَكَانَتْ لَهُ عِبَادَاتٌ
وَمُجَاهَدَاتٌ ثُمَّ اتُّفِقَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي بَيْعِ الْقُرَاضَةِ
بِالصَّحِيحِ فَمُنِعَ مِنَ الْجُلُوسِ وَأُخْرِجَ مِنَ الْبَلَدِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَطَبَ تُتُشُ بْنُ أَلْبِ أَرْسَلَانَ صَاحِبُ دِمَشْقَ
لِنَفْسِهِ بِالسَّلْطَنَةِ، وَطَلَبَ مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يُخْطَبَ لَهُ
بِالْعِرَاقِ فَحَصَلَ التَّوَقُّفُ عَنْ ذَلِكَ، بِسَبَبِ ابْنِ أَخِيهِ
بَرْكْيَارُوقَ بْنِ مَلِكْشَاهْ فَسَارَ إِلَى الرَّحْبَةِ وَفِي صُحْبَتِهِ
وَطَاعَتِهِ آقْ سُنْقُرُ قَسِيمُ الدَّوْلَةِ صَاحِبُ حَلَبَ وَبُوزَانُ صَاحِبُ
الرُّهَا، فَفَتَحَ الرَّحْبَةَ ثُمَّ سَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَأَخَذَهَا مِنْ
يَدِ صَاحِبِهَا إِبْرَاهِيمَ بْنِ قُرَيْشٍ بْنِ بَدْرَانَ، وَهَزَمَ جُيُوشَهُ
مِنْ بَنِي عَقِيلٍ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنَ الْأُمَرَاءِ صَبْرًا وَكَذَلِكَ
أَخَذَ دِيَارَ بَكْرٍ، وَاسْتَوْزَرَ الْكَافِيَ بْنَ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ
جَهِيرٍ، وَكَذَلِكَ أَخَذَ هَمَذَانَ وَخِلَاطَ وَفَتَحَ أَذْرَبِيجَانَ،
وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ ثُمَّ فَارَقَهُ الْأَمِيرَانِ آقْ سُنْقُرُ وَبُوزَانُ
فَسَارَا إِلَى الْمَلِكِ بَرْكْيَارُوقَ، وَبَقِيَ تُتُشُ وَحْدَهُ فَطَمِعَ
فِيهِ ابْنُ أَخِيهِ بَرْكْيَارُوقُ فَرَجَعَ تُتُشُ فَلَحِقَ قَسِيمَ الدَّوْلَةِ
آقْ سُنْقُرَ وَبُوزَانَ بِبَابِ حَلَبَ فَكَسَرَهُمَا وَأَسَرَ بُوزَانَ وَآقْ
سُنْقُرَ فَصَلَبَهُمَا وَبَعَثَ بِرَأْسِ بُوزَانَ فَطِيفَ بِهِ حَرَّانَ
وَالرُّهَا وَمَلَكَهَا مِنْ بَعْدِهِ.
وَفِيهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ وَانْتَشَرَتْ
بَيْنَهُمْ شُرُورٌ كَثِيرَةٌ
وَفِي ثَانِي شَعْبَانَ وُلِدَ الْخَلِيفَةُ
الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ أَبُو مَنْصُورٍ الْفَضْلُ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ
أَحْمَدَ الْمُسْتَظْهِرِ، فَفَرِحَ الْخَلِيفَةُ بِهِ وَوَلِيُّ عَهْدِهِ
بِالْوَلَدِ السَّعِيدِ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ دَخَلَ السُّلْطَانُ بَرْكْيَارُوقُ بَغْدَادَ وَخَرَجَ
إِلَيْهِ الْوَزِيرُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ جَهِيرٍ وَهَنَّأَهُ عَنِ الْخَلِيفَةِ
بِالْقُدُومِ.
وَفِيهَا أَخَذَ الْمُسْتَنْصِرُ الْعُبَيْدِيُّ مَدِينَةَ صُورَ مِنْ أَرْضِ
الشَّامِ. وَلَمْ يَحُجَّ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
جَعْفَرُ بْنُ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ مِنَ الْخَاتُونِ بِنْتِ
السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَجَلَسَ الْوَزِيرُ
لِلْعَزَاءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
سُلَيْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ
أَبُو مَسْعُودٍ الْأَصْبَهَانِيُّ سَمِعَ الْكَثِيرَ وَصَنَّفَ وَخَرَّجَ عَلَى
الصَّحِيحَيْنِ وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْحَدِيثِ سَمِعَ ابْنَ
مَرْدَوَيْهِ وَأَبَا نُعَيْمٍ وَالْبَرْقَانِيَّ وَكَتَبَ عَنْهُ الْخَطِيبُ
وَغَيْرُهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَنْ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ
سَنَةً.
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُصَيْنِ الدَّسْكَرِيُّ
أَبُو سَعْدٍ الْفَقِيهُ
الشَّافِعِيُّ صَحِبَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ
وَرَوَى الْحَدِيثَ، وَكَانَ يَقُولُ: مَا عَصَى بَدَنِي هَذَا فِي لَذَّةٍ قَطُّ،
تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ جَعْفَرٍ
أَبُو الْحَسَنِ الْهَكَّارِيُّ قَدِمَ بَغْدَادَ وَنَزَلَ فِي رِبَاطِ
الزَّوْزَنِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ أَرْبِطَةٌ قَدِ ابْتَنَاهَا سَمِعَ الْحَدِيثَ
وَرَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ يَقُولُ: رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فِي
الرَّوْضَةِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي فَقَالَ: عَلَيْكَ
بِاعْتِقَادِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِيَّاكَ
وَمُجَالَسَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو الْحَسَنِ الْخَطِيبُ الْأَنْبَارِيُّ وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْأَخْضَرِ
سَمِعَ أَبَا مُحَمَّدٍ الْفَرَضِيِّ وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
أَبُو نَصْرٍ، ابْنُ مَاكُولَا عَلِيُّ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ
عَلِّكَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ دُلَفَ بْنِ أَبِي دُلَفَ
الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرٍ، وُلِدَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ
الْكَثِيرَ وَكَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ وَلَهُ كِتَابُ " الْإِكْمَالِ فِي
الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ "
جَمَعَ بَيْنَ كِتَابِ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ
وَكِتَابِ الدَّرَاقُطْنِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَزَادَ عَلَيْهِمَا أَشْيَاءَ
كَثِيرَةً مُهِمَّةً حَسَنَةً مُفِيدَةً نَافِعَةً وَكَانَ نَحْوِيًّا مُبَرَّزًا
فَصِيحَ الْعِبَارَةَ حَسَنَ الشِّعْرِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا عَبْدَ الْوَهَّابِ يَطْعَنُ فِي
دِينِهِ وَيَقُولُ: الْعِلْمُ يَحْتَاجُ إِلَى دِينٍ وَقُتِلَ فِي خُوزِسْتَانَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوِ الَّتِي بَعْدَهَا وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، كَذَا
ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي، وَخِلَافَةُ وَلَدِهِ
الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ.
صِفَةُ مَوْتِهِ
لَمَّا قَدِمَ السُّلْطَانُ بَرْكْيَارُوقُ بَغْدَادَ سَأَلَ مِنَ الْخَلِيفَةِ
أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِالسَّلْطَنَةِ كِتَابًا فِيهِ الْعَهْدُ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ
ذَلِكَ وَهُيِّئَتِ الْخِلَعُ وَعُرِضَتْ عَلَى الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ الْكِتَابُ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ ثُمَّ قُدِّمَ إِلَيْهِ
الطَّعَامُ فَتَنَاوَلَ مِنْهُ عَلَى الْعَادَةِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ،
ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ وَجَلَسَ يَنْظُرُ فِي الْعَهْدِ بَعْدَمَا وَقَّعَ عَلَيْهِ،
وَعِنْدَهُ قَهْرَمَانَةٌ تُسَمَّى شَمْسَ النَّهَارِ قَالَتْ: فَنَظَرَ إِلَيَّ
وَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصُ الَّذِينَ قَدْ دَخَلُوا عَلَيْنَا بِغَيْرِ
إِذْنٍ؟ قَالَتْ: فَالْتَفَتُّ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا وَرَأَيْتُهُ قَدْ تَغَيَّرَتْ
حَالَتُهُ وَاسْتَرْخَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَانْحَلَّتْ قُوَاهُ وَسَقَطَ إِلَى
الْأَرْضِ، قَالَتْ: فَظَنَنْتُ أَنَّهُ غُشِيَ عَلَيْهِ فَحَلَلْتُ أَزْرَارَ
ثِيَابِهِ فَإِذَا هُوَ لَا يُجِيبُ دَاعِيًا، فَأَغْلَقْتُ عَلَيْهِ الْبَابَ
وَخَرَجْتُ فَأَعْلَمْتُ وَلِيَّ الْعَهْدِ بِذَلِكَ وَجَاءَ الْأُمَرَاءُ
وَرُءُوسُ الدَّوْلَةِ يُعَزُّونَهُ بِأَبِيهِ وَيُهَنِّئُونَهُ بِالْخِلَافَةِ
فَبَايَعُوهُ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
شَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَةِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ
اللَّهِ
هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ أَبُو الْقَاسِمِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الذَّخِيرَةِ ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَائِمِ
بِأَمْرِ اللَّهِ بْنِ الْقَادِرِ بِاللَّهِ الْعَبَّاسِيِّ، أُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ
اسْمُهَا أُرْجُوَانُ أَرْمِنِيَّةٌ أَدْرَكَتْ خِلَافَةَ وَلَدِهَا وَخِلَافَةَ
وَلَدِهِ الْمُسْتَظْهِرِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ الْمُسْتَرْشِدِ أَيْضًا، كَانَ
الْمُقْتَدِي أَبْيَضَ تَامَّ الْقَامَةِ حُلْوَ الشَّمَائِلِ، عَمَرَتْ فِي
أَيَّامِهِ مَحَالٌّ كَثِيرَةٌ مِنْ بَغْدَادَ وَنَفَى عَنْهَا الْمُغَنِّيَاتِ
وَأَرْبَابَ الْمَلَاهِي وَالْمَعَاصِي وَكَانَ غَيُورًا عَلَى حَرِيمِ النَّاسِ،
آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ نَاهِيًا عَنِ الْمُنْكَرِ حَسَنَ السِّيرَةِ
وَالسَّرِيرَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ. كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَابِعَ
عَشَرَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَمَانٍ
وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَثَمَانِيَةُ شُهُورٍ وَتِسْعَةُ أَيَّامٍ، خِلَافَتُهُ مِنْ
ذَلِكَ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَمَانِيَةُ شُهُورٍ إِلَّا يَوْمَيْنِ،
وَأُخْفِيَ مَوْتُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى تَوَطَّدَتِ الْبَيْعَةُ لِابْنِهِ
الْمُسْتَظْهِرِ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ وَدُفِنَ فِي تُرْبَتِهِمْ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
خِلَافَةُ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ أَبِي
الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ
لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَحْضَرُوهُ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ
سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً وَشَهْرَانِ فَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ، فَكَانَ
أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ الْوَزِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ ابْنُ جَهِيرٍ، ثُمَّ أُخِذَتْ
الْبَيْعَةُ لَهُ مِنَ الْمَلِكِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ
بَرْكْيَارُوقَ ابْنِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ ثُمَّ مِنْ بَقِيَّةِ الْأُمَرَاءِ
وَالرُّؤَسَاءِ، وَصَلَّى عَلَى الْخَلِيفَةِ الْأُمَرَاءُ وَالْوُزَرَاءُ وَمِنَ
الْعُلَمَاءِ حَضَرَ الْغَزَّالِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَابْنُ عَقِيلٍ وَبَايَعُوهُ
يَوْمَ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ حَافِظًا
لِلْقُرْآنِ فَصِيحًا بَلِيغًا شَاعِرًا مُطَبِّقًا، وَمِنْ لَطِيفِ شِعْرِهِ
قَوْلُهُ:
أَذَابَ حَرُّ الْجَوَى فِي الْقَلْبِ مَا خَمَدَا يَوْمًا مَدَدْتُ عَلَى رَسْمِ
الْوَدَاعِ يَدَا فَكَيْفَ أَسْلُكُ نَهْجَ الِاصْطِبَارِ وَقَدْ
أَرَى طَرَائِقَ فِي مَهْوَى الْهَوَى قِدَدَا قَدْ أَخْلَفَ الْوَعْدَ بَدْرٌ
قَدْ شَغِفْتُ بِهِ
مِنْ بَعْدِ مَا قَدْ وَفَى دَهْرًا بِمَا وَعَدَا إِنْ كُنْتُ أَنْقُضُ عَهْدَ
الْحُبِّ فِي خَلَدِي
مِنْ بَعْدِ هَذَا فَلَا عَايَنْتُهُ أَبَدَا
وَفَوَّضَ الْمُسْتَظْهِرُ أُمُورَ الْخِلَافَةِ إِلَى وَزِيرِهِ أَبِي مَنْصُورٍ
عَمِيدِ الدَّوْلَةِ ابْنِ جَهِيرٍ فَدَبَّرَهَا لَهُ أَحْسَنَ تَدْبِيرٍ
وَمَهَّدَ الْأُمُورَ أَتَمَّ تَمْهِيدٍ وَسَاسَ الرَّعَايَا وَكَانَ مِنْ خِيَارِ
الْوُزَرَاءِ.
وَفِي ثَالِثَ عَشَرَ شَعْبَانَ عَزَلَ الْخَلِيفَةُ أَبَا بَكْرٍ الشَّاشِيَّ
عَنِ الْقَضَاءِ وَفَوَّضَهُ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الدَّامَغَانِيِّ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالرَّوَافِضِ فَأُحْرِقَتْ
مَحَالٌّ كَثِيرَةٌ وَقُتِلَ نَاسٌ كَثِيرُونَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لِاخْتِلَافِ السَّلَاطِينِ،
وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ لِلسُّلْطَانِ بَرْكَيَارُوقَ رُكْنِ الدَّوْلَةِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي
تُوُفِّيَ فِيهِ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ بَعْدَ مَا عَلَّمَ
عَلَى تَوْقِيعِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
آقْ سُنْقُرُ الْأَتَابِكُ، الْمُلَقَّبُ قَسِيمَ الدَّوْلَةِ السَّلْجُوقِيُّ
وَيُعْرَفُ بِالْحَاجِبِ صَاحِبُ حَلَبَ وَدِيَارِ بَكْرٍ وَالْجَزِيرَةِ، وَهُوَ
جَدُّ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِي بْنِ آقْ سُنْقُرَ،
وَكَانَ أَوَّلًا مِنْ أَخَصِّ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ بْنِ أَلْبِ
أَرْسَلَانَ السَّلْجُوقِيِّ، ثُمَّ تَرَقَّتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ حَتَّى أَعْطَاهُ
حَلَبَ وَأَعْمَالَهَا بِإِشَارَةِ الْوَزِيرِ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَكَانَ مِنْ
أَحْسَنِ الْمُلُوكِ سِيرَةً وَأَجْوَدِهِمْ سَرِيرَةً، وَكَانَتِ الرَّعِيَّةُ
مَعَهُ فِي أَمْنٍ وَرُخْصٍ وَعَدْلٍ، ثُمَّ كَانَ مَوْتُهُ عَلَى يَدِ
السُّلْطَانِ تَاجِ الدَّوْلَةِ تُتُشَ صَاحِبِ دِمَشْقَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ
اسْتَعَانَ بِهِ وَبِصَاحِبِ حَرَّانَ وَالرُّهَا عَلَى قِتَالِ ابْنِ أَخِيهِ
بَرْكْيَارُوقَ بْنِ مَلِكْشَاهْ فَفَرَّا عَنْهُ وَتَرَكَاهُ، فَهَرَبَ إِلَى
دِمَشْقَ فَلَمَّا تَمَكَّنَ قَاتَلَهُمَا بِبَابِ حَلَبَ فَقَتَلَهُمَا وَأَخَذَ
بِلَادَهُمَا إِلَّا حَلَبَ فَإِنَّهَا اسْتَقَرَّتْ لِوَلَدِ آقْ سُنْقُرَ
زَنْكِي فِيمَا بَعْدُ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا لِلسُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ
هُوَ وَبُوزَانُ صَاحِبُ الرُّهَا، فَلَمَّا مَلَكَ تُتُشُ حَلَبَ اسْتَنَابَهُ
بِهَا فَعَصَى عَلَيْهِ فَقَصَدَهُ وَكَانَ قَدْ مَلَكَ دِمَشْقَ أَيْضًا
فَقَاتَلَهُ فَقَتَلَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا،
فَلَمَّا قُتِلَ دَفَنَهُ وَلَدُهُ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي بِحَلَبَ أَدْخَلَهُ
إِلَيْهَا مِنْ فَوْقِ السُّورِ بِالْمَدْرَسَةِ الزُّجَاجِيَّةِ.
أَمِيرُ الْجُيُوشِ بَدْرٌ الْجَمَالِيُّ
صَاحِبُ جُيُوشِ مِصْرَ وَمُدَبِّرُ الْمَمَالِكِ
الْفَاطِمِيَّةِ، كَانَ عَاقِلًا كَرِيمًا مُحِبًّا
لِلْعُلَمَاءِ - وَلَهُمْ عَلَيْهِ رُسُومٌ دَارَّةٌ - تَمَكَّنَ فِي أَيَّامِ
الْمُسْتَنْصِرِ تَمَكُّنًا عَظِيمًا وَدَارَتْ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ عَلَى
آرَائِهِ، وَفَتَحَ بِلَادًا كَثِيرَةً وَامْتَدَّتْ أَيَّامُهُ وَحَيَاتُهُ،
وَبَعُدَ صِيتُهُ، وَامْتَدَحَتْهُ الشُّعَرَاءُ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ مِنْهَا، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ الْأَفْضَلُ.
الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِي
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَتِهِ.
الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَنْصِرُ الْفَاطِمِيُّ
أَبُو تَمِيمٍ، مَعَدُّ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَاكِمِ،
اسْتَمَرَّتْ أَيَّامُهُ سِتِّينَ سَنَةً، وَلَمْ يَتَّفِقْ هَذَا لِخَلِيفَةٍ
قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَكَانَ قَدْ عَهِدَ بِالْأَمْرِ إِلَى وَلَدِهِ
نِزَارٍ، فَخَلَعَهُ الْأَفْضَلُ بْنُ بَدْرٍ الْجَمَالِيُّ بَعْدَ مَوْتِ
أَبِيهِ، وَبَايَعَ أَبَا الْقَاسِمِ أَحْمَدَ بْنَ الْمُسْتَنْصِرِ أَخَاهُ
وَلَقَّبَهُ بِالْمُسْتَعْلِي، فَهَرَبَ نِزَارٌ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ،
فَجَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهِ فَبَايَعُوهُ، وَتَوَلَّى أَمْرَهُ قَاضِي
الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ جَلَالُ الدَّوْلَةِ بْنُ عَمَّارٍ، فَقَصَدَهُ الْأَفْضَلُ
فَقَاتَلَهُ مِرَارًا فَهَزَمَهُمْ، وَأَسَرَ الْقَاضِي وَنِزَارًا فَقَتَلَ
الْقَاضِي وَحَبَسَ نِزَارًا حَتَّى مَاتَ، وَاسْتَقَرَّ الْمُسْتَعْلِي فِي
الْخِلَافَةِ وَعُمْرُهُ إِحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَاشِمٍ
أَمِيرُ مَكَّةَ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِيهَا عَنْ نَيِّفٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
مَحْمُودُ بْنُ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ
كَانَتْ أُمُّهُ قَدْ عَقَدَتْ لَهُ الْمُلْكَ، وَأَنْفَقَتْ بِسَبَبِهِ
الْأَمْوَالَ فَنَازَعَهُ أَخُوهُ بَرْكْيَارُوقُ فَقَهَرَهُ، وَلَزِمَ بَلَدَهُ
أَصْبَهَانَ، فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَحُمِلَ إِلَى بَغْدَادَ،
فَدُفِنَ بِهَا بِالتُّرْبَةِ النِّظَامِيَّةِ، كَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ
وَجْهًا وَأَظْرَفِهِمْ شَكْلًا، تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا، وَقَدْ
تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ الْخَاتُونُ تُرْكَانُ شَاهْ فِي رَمَضَانَ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا وَرَدَ يُوسُفُ بْنُ أَبْقَ التُّرْكُمَانِيُّ مِنْ جِهَةِ تَاجِ
الدَّوْلَةِ أَبِي سَعِيدٍ تُتُشَ بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ صَاحِبُ دِمَشْقَ،
إِلَى بَغْدَادَ لِأَجْلِ إِقَامَةِ الدَّعْوَةِ لَهُ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ تُتُشُ
قَدْ تَوَجَّهَ لِقِتَالِ ابْنِ أَخِيهِ بِنَاحِيَةِ الرَّيِّ، فَلَّمَا دَخَلَ
رَسُولُهُ بَغْدَادَ هَابُوهُ وَخَافُوهُ، وَاسْتَدْعَاهُ الْخَلِيفَةُ
فَقَرَّبَهُ، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، وَتَأَهَّبَ أَهْلُ
بَغْدَادَ لَهُ وَخَافُوا أَنْ يَنْهَبَهُمْ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ
قَدِمَ عَلَيْهِ أَخُوهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ تُتُشَ قُتِلَ فِي أَوَّلِ مَنْ
قُتِلَ فِي الْوَقْعَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، فَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ بَرْكْيَارُوقَ وَاسْتَقَلَّ
بِالْأُمُورِ، وَكَانَ دُقَاقُ بْنُ تُتُشَ مَعَ أَبِيهِ حِينَ قُتِلَ، فَسَارَ
إِلَى دِمَشْقَ فَتَسَلَّمَهَا مِنَ الْأَمِيرِ سَاوْتِكِينَ الَّذِي اسْتَنَابَهُ
أَبُوهُ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا الْقَاسِمِ الْخُوَارَزْمِيَّ، وَمَلَكَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ تُتُشَ مَدِينَةَ حَلَبَ وَدَبَّرَ أَمْرَ مَمْلَكَتِهِ جَنَاحُ
الدَّوْلَةِ الْحُسَيْنُ بْنُ أَيْتِكِينَ وَرِضْوَانُ بْنُ تُتُشَ صَاحِبُ
مَدِينَةِ حَلَبَ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ بَنُو رِضْوَانَ بِهَا، وَفِي يَوْمِ
الْجُمُعَةِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا خُطِبَ لِوَلِيِّ الْعَهْدِ
أَبِي الْمَنْصُورِ الْفَضْلِ بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ وَلُقِّبَ بِذَخِيرَةِ
الدِّينِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ خَرَجَ الْوَزِيرُ ابْنُ جَهِيرٍ فَاخْتَطَّ سُورًا عَلَى
الْحَرِيمِ وَأَذِنَ لِلْعَوَامِّ فِي الْعَمَلِ وَالتَّفَرُّجِ، فَأَظْهَرُوا
مُنْكَرَاتٍ كَثِيرَةً وَسَخَافَاتِ عُقُولٍ ضَعِيفَةٍ وَعَمِلُوا أَشْيَاءَ
مُنْكَرَةً، فَبَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ عَقِيلٍ رُقْعَةً فِيهَا كَلَامٌ غَلِيظٌ
وَإِنْكَارٌ بَغِيضٌ
وَفِي رَمَضَانَ خَرَجَ السُّلْطَانُ بَرْكْيَارُوقُ فَعَدَا عَلَيْهِ فِدَاوِيٌّ
فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ، فَمُسِكَ فَعُوقِبَ فَأَقَرَّ عَلَى آخَرَيْنِ فَلَمْ
يُقِرَّا فَقُتِلَ الثَّلَاثَةُ، وَجَاءَ الطَّوَاشِيُّ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ
مُهَنِّئًا لَهُ بِالسَّلَامَةِ
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا خَرَجَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَّالِيُّ مِنْ
بَغْدَادَ مُتَوَجِّهًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ تَارِكًا لِتَدْرِيسِ
النِّظَامِيَّةِ، زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا لَابِسًا خَشِنَ الثِّيَابِ بَعْدَ
نَاعِمِهَا، وَنَابَ عَنْهُ أَخُوهُ فِي التَّدْرِيسِ، وَعَادَ فِي السَّنَةِ
الثَّالِثَةِ مِنْ خُرُوجِهِ ثُمَّ حَجَّ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، وَقَدْ
صَنَّفَ كِتَابَ الْإِحْيَاءِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَكَانَ يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ
الْخَلْقُ الْكَثِيرُ كُلَّ يَوْمٍ فِي الرِّبَاطِ فَيَسْمَعُونَهُ.
وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ خُلِعَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي الْفَرَجِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ الْبُسْتِيِّ وَلُقِّبَ بِشَرَفِ الْقُضَاةِ، وَرُدَّ
إِلَى وِلَايَةِ الْقَضَاءِ بِالْحَرِيمِ وَغَيْرِهِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اصْطَلَحَ أَهْلُ الْكَرْخِ مِنَ السُّنَّةِ
وَالرَّافِضَةِ مَعَ بَقِيَّةِ
الْمَحَالِّ وَتَزَاوَرُوا وَتَوَاكَلُوا وَتَشَارَبُوا،
وَكَانَ هَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ، وَفِيهَا قُتِلَ أَحْمَدُ خَانَ صَاحِبُ
سَمَرْقَنْدَ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُ شُهِدَ عَلَيْهِ بِالزَّنْدَقَةِ فَخُنِقَ
وَوَلِيَ مَكَانَهُ ابْنُ عَمِّهِ مَسْعُودٌ
وَفِيهَا دَخَلَ الْأَتْرَاكُ إِفْرِيقِيَّةَ وَغَدَرُوا بِيَحْيَى بْنِ تَمِيمِ
بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، وَقَبَضُوا عَلَيْهِ وَمَلَكُوا بِلَادَهُ
وَقَتَلُوا خَلْقًا، بَعْدَمَا جَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ حُرُوبٌ شَدِيدَةٌ
وَكَانَ مُقَدَّمَهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: شَاهْ مَلِكُ وَكَانَ مِنْ أَوْلَادِ
بَعْضِ أُمَرَاءِ الْمَشْرِقِ، فَقَدِمَ مِصْرَ وَخَدَمَ بِهَا ثُمَّ هَرَبَ إِلَى
الْمَغْرِبِ فَفَعَلَ مَا ذَكَرْنَا، وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ
الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ خَيْرُونَ، أَبُو الْفَضْلِ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَتَبَ عَنْهُ
الْخَطِيبُ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ وَهُوَ مِنَ الثِّقَاتِ،
وَشَهِدَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيِّ، ثُمَّ صَارَ أَمِينًا
لَهُ، ثُمَّ وَلِيَ إِشْرَافَ خِزَانَةِ الْغَلَّاتِ. تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ عَنْ
ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
تُتُشُ أَبُو الْمُظَفَّرِ
تَاجُ الدَّوْلَةِ بْنُ أَلْبِ أَرْسَلَانِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ مِيكَائِيلَ بْنِ
سَلْجُوقَ، صَاحِبُ دِمَشْقَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَقَدْ كَانَ تَرَوَّجَ
أَمْرُهُ عَلَى ابْنِ
أَخِيهِ بَرْكْيَارُوقَ بْنِ مَلِكْشَاهْ بْنِ أَلْبِ
أَرْسَلَانَ وَلَكِنْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، وَقَدْ قَالَ
الْمُتَنَبِّي:
وِلِلَّهِ سِرٌّ فِي عُلَاكَ وَإِنَّمَا كَلَامُ الْعِدَا ضَرْبٌ مِنَ
الْهَذَيَانِ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ صَاحِبَ الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ فَاسْتَنْجَدَهُ
أَتْسِزُ فِي مُحَارَبَةِ أَمِيرِ الْجُيُوشِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ مِصْرَ،
فَلَمَّا قَدِمَ دِمَشْقَ لِنَجْدَتِهِ وَخَرَجَ إِلَيْهِ أَتْسِزُ أَمَرَ
بِمَسْكِهِ وَقَتْلِهِ وَاسْتَحْوَذَ هُوَ عَلَى دِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا فِي
سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِينَ، ثُمَّ تَحَارَبَ هُوَ وَابْنُ أَخِيهِ بَرْكْيَارُوقَ
بِبِلَادِ الرَّيِّ فَكَسَرَهُ ابْنُ أَخِيهِ، وَقُتِلَ هُوَ فِي الْمَعْرَكَةِ،
وَتَمَلَّكَ ابْنُهُ رِضْوَانُ حَلَبَ إِلَى سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ،
سَمَّتْهُ أُمُّهُ فِي عُنْقُودِ عِنَبٍ. فَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ
وَلَدُهُ تَاجُ الْمُلْكِ بُورِي أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ ابْنُهُ الْآخَرُ شَمْسُ
الْمُلُوكِ إِسْمَاعِيلُ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ قَتَلَتْهُ أُمُّهُ أَيْضًا
وَهِيَ زُمُرُّدُ خَاتُونَ بِنْتُ جَاوْلِي، وَأَجْلَسَتْ أَخَاهُ شِهَابَ
الدِّينِ مَحْمُودَ بْنَ بُورِي، فَمَكَثَ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ أَخُوهُ
سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ مُحْيِي الدِّينِ أَبَقُ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ
إِلَى أَنِ انْتَزَعَ الْمُلْكَ مِنْهُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِي
كَمَا سَيَأْتِي. وَكَانَ أَتَابِكُ الْعَسَاكِرِ بِدِمَشْقَ أَيَّامَ أَبَقَ
مُعِينُ الدِّينِ، الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْمُعِينِيَّةُ بِالْغَوْرِ،
وَالْمَدْرَسَةُ الْمُعِينِيَّةُ بِدِمَشْقَ.
رِزْقُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
أَبُو مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، أَحَدُ
أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَهَاءِ - عَلَى مَذْهَبِ
أَحْمَدَ - وَالْحَدِيثِ، وَكَانَ لَهُ مَجْلِسٌ لِلْوَعْظِ وَحَلْقَةٌ
لِلْفَتْوَى بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ ثُمَّ بِجَامِعِ الْقَصْرِ، وَكَانَ حَسَنَ
الشَّكْلِ مُحَبَّبًا إِلَى الْعَامَّةِ، لَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، وَكَانَ كَثِيرَ
الْعِبَادَةِ، فَصِيحَ الْعِبَارَةِ، حَسَنَ الْمُنَاظَرَةِ، وَقَدْ رَوَى عَنْ
آبَائِهِ حَدِيثًا مُسَلْسَلًا إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: هَتَفَ الْعِلْمُ الْعَمَلَ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا
رَحَلَ. وَقَدْ كَانَ ذَا وَجَاهَةٍ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ بَعَثَهُ فِي مَهَامِّ
الرُّسُلِ إِلَى السُّلْطَانِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ
النِّصْفَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ
وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِدَارِهِ بِبَابِ الْمَرَاتِبِ بِإِذْنِ
الْخَلِيفَةِ وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ أَبُو الْفَضْلِ.
أَبُو يُوسُفَ الْقَزْوِينِيُّ
عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ بُنْدَارٍ شَيْخُ
الْمُعْتَزِلَةِ قَرَأَ عَلَى عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ الْهَمَذَانِيُّ
وَرَحَلَ إِلَى مِصْرَ وَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَحَصَّلَ كُتُبًا
كَثِيرَةً وَصَنَّفَ تَفْسِيرًا فِي سَبْعِمِائَةِ مُجَلَّدٍ قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: جَمَعَ فِيهِ الْعَجَبَ. وَتَكَلَّمَ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [ الْبَقَرَةِ:
102 ] فِي مُجَلَّدٍ كَامِلٍ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: كَانَ طَوِيلَ اللِّسَانِ
بِالْعِلْمِ تَارَةً وَبِالشِّعْرِ أُخْرَى، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي
عُمَرَ بْنِ مَهْدِيٍّ وَغَيْرِهِ، وَمَاتَ بِبَغْدَادَ عَنْ سِتٍّ وَتِسْعِينَ
سَنَةً، وَمَا تَزَوَّجَ إِلَّا فِي آخِرِ عُمْرِهِ.
أَبُو شُجَاعٍ الْوَزِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
أَبُو شُجَاعٍ الْمُلَقَّبُ ظَهِيرَ الدِّينِ الرُّوْذَرَاوِرِيُّ الْأَصْلِ
الْأَهْوَازِيُّ الْمَوْلِدِ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْوُزَرَاءِ كَثِيرَ
الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ مِنَ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَغَيْرِهِ، وَصَنَّفَ
كُتُبًا مِنْهَا كِتَابُهُ الَّذِي ذَيَّلَهُ عَلَى " تَجَارِبِ الْأُمَمِ
" وَوَزَرَ لِلْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي، وَكَانَ يَمْلِكُ سِتَّمِائَةِ
أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَنْفَقَهَا فِي سَبِيلِ الْخَيْرَاتِ وَالصَّدَقَاتِ،
وَوَقَفَ الْوُقُوفَ الْحَسَنَةَ، وَبَنَى الْمَشَاهِدَ، وَأَكْثَرَ الْإِنْعَامَ
عَلَى الْأَرَامِلِ وَالْأَيْتَامِ. قَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِلَى جَانِبِنَا
أَرْمَلَةٌ لَهَا أَرْبَعَةُ أَوْلَادٍ وَهُمْ عُرَاةٌ وَجِيَاعٌ، فَبَعَثَ
إِلَيْهِمْ مَعَ رَجُلٍ مِنْ خَاصَّتِهِ نَفَقَةً وَكُسْوَةً وَطَعَامًا، وَنَزَعَ
عَنْهُ ثِيَابَهُ فِي الْبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَلْبَسُهَا
حَتَّى تَرْجِعَ إِلَيَّ بِخَبَرِهِمْ فَذَهَبَ الرَّجُلُ مُسْرِعًا فَقَضَى
حَاجَتَهُمْ، وَأَوْصَلَهُمْ ذَلِكَ الْإِحْسَانَ، ثُمَّ عَادَ وَالْوَزِيرُ
يَرْكُضُ مِنَ الْبَرْدِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ عَنْهُمْ بِمَا سَرَّهُ لَبِسَ ثِيَابَهُ.
وَجِيءَ إِلَيْهِ مَرَّةً بِقَطَائِفَ سُكَّرٍ فَلَمَّا وُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ
تَنَغَّصَ عَلَيْهِ بِمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا، فَأَرْسَلَهَا كُلَّهَا إِلَى
الْمَسَاجِدِ، وَكَانَتْ كَثِيرَةً جِدًّا فَأَطْعَمَهَا الْفُقَرَاءَ
وَالْعُمْيَانَ.
وَكَانَ لَا يَجْلِسُ فِي الدِّيوَانِ إِلَّا وَعِنْدَهُ الْفُقَهَاءُ، فَإِذَا
وَقَعَ لَهُ أَمْرٌ مُشْكِلٌ سَأَلَهُمْ عَنْهُ، فَحَكَمَ بِمَا يُفْتُونَهُ،
وَكَانَ كَثِيرَ التَّوَاضُعِ مَعَ النَّاسِ خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ، ثُمَّ
عُزِلَ عَنِ الْوَزَارَةِ فَسَارَ إِلَى الْحَجِّ وَجَاوَرَ بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ
مَرِضَ، فَلَمَّا ثَقُلَ فِي الْمَرَضِ جَاءَ إِلَى الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ
الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [ النِّسَاءِ: 64 ]
وَهَا أَنَا قَدْ جِئْتُكَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ
ذُنُوبِي وَأَرْجُو شَفَاعَتَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ مَاتَ مِنْ يَوْمِهِ
ذَلِكَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَدُفِنَ فِي الْبَقِيعِ.
الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الشَّامِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ بْنِ بَكْرَانَ
الْحَمَوِيُّ
أَبُو بَكْرٍ الشَّامِيُّ وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعِمِائَةٍ وَتَفَقَّهَ بِبَلَدِهِ،
ثُمَّ حَجَّ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ
فَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَسَمِعَ بِهَا
الْحَدِيثَ، وَشَهِدَ عِنْدَ ابْنِ الدَّامَغَانِيِّ فَقَبِلَهُ وَلَازَمَ
مَسْجِدَهُ خَمْسًا وَخَمْسِينَ سَنَةً يُقْرِئُ النَّاسَ وَيُفَقِّهُهُمْ،
وَلَمَّا مَاتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيُّ أَشَارَ بِهِ أَبُو شُجَاعٍ
الْوَزِيرُ فَوَلَّاهُ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِي الْقَضَاءَ، وَكَانَ مِنْ
أَنْزَهِ النَّاسِ وَأَعَفِّهِمْ ; لَمْ يَقْبَلْ مِنْ سُلْطَانٍ عَطِيَّةً وَلَا
مِنْ صَاحِبٍ هَدِيَّةً، وَلَمْ يُغَيِّرْ مَلْبَسَهُ وَلَا مَأْكَلَهُ، وَلَمْ
يَأْخُذْ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا، وَلَمْ يَسْتَنِبْ أَحَدًا بَلْ كَانَ
يُبَاشِرُ الْقَضَاءَ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُحَابِ مَخْلُوقًا، وَقَدْ كَانَ
يَضْرِبُ بَعْضَ الْمُنْكِرِينَ؛ حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ إِذَا قَامَتْ عِنْدَهُ
قَرَائِنُ لِلتُّهْمَةِ حَتَّى يُقِرُّوا، وَيَذْكُرُ أَنَّ فِي كَلَامِ
الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا. وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ
كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَنَصَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِيمَا
كَانَ يَتَعَاطَاهُ مِنَ الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ الْآيَةَ [ يُوسُفَ: 26 ]
وَشَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ كِبَارِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُنَاظِرِينَ يُقَالُ
لَهُ: الْمُشَطَّبُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أُسَامَةَ الْفَرْغَانِيُّ فَلَمْ
يَقْبَلْهُ لَمَّا رَأَى عَلَيْهِ مِنَ
الْحَرِيرِ وَخَاتَمِ الذَّهَبِ، فَقَالَ لَهُ الْمُدَّعِي:
إِنَّ السُّلْطَانَ وَوَزِيرَهُ نِظَامَ الْمُلْكِ يَلْبَسَانِ الْحَرِيرَ
وَالذَّهَبَ، فَقَالَ الْقَاضِي الشَّامِيُّ: وَاللَّهِ لَوْ شَهِدَا عِنْدِي
عَلَى بَاقَةِ بَقْلٍ مَا قَبِلْتُ شَهَادَتَهُمَا.
تُوُفِّيَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ عَاشِرَ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنَ ابْنِ سُرَيْحٍ.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيْدِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ فَتُّوحِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُمَيْدٍ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حُمَيْدٍ الْأَنْدَلُسِيُّ، مِنْ جَزِيرَةٍ؛ يُقَالُ
لَهَا: مَيُورْقَةُ، قَرِيبَةٍ مِنَ الْأَنْدَلُسِ.
قَدِمَ بَغْدَادَ فَسَمِعَ بِهَا الْحَدِيثَ، وَكَانَ حَافِظًا مُكْثِرًا دَيِّنًا
بَاهِرًا عَفِيفًا نَزِهًا، وَهُوَ " صَاحِبُ الْجَمْعِ بَيْنَ
الصَّحِيحَيْنِ " وَلَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ، وَقَدْ كَتَبَ
مِنْ مُصَنَّفَاتِ ابْنِ حَزْمٍ وَالْخَطِيبِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ
الثُّلَاثَاءِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَقَدْ جَاوَزَ
السَّبْعِينَ، وَقَبْرُهُ قَرِيبٌ مِنْ قَبْرِ بِشْرٍ الْحَافِي بِبَغْدَادَ.
هِبَةُ اللَّهِ ابْنُ الشَّيْخِ أَبِي الْوَفَاءِ بْنِ
عَقِيلٍ
كَانَ قَدْ حَفِظَ الْقُرْآنَ وَتَفْقَّهَ وَظَهَرَ مِنْهُ نَجَابَةٌ، ثُمَّ
مَرِضَ فَأَنْفَقَ عَلَيْهِ أَبُوهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، فَلَمْ يُفِدْ شَيْئًا
فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ ذَاتَ يَوْمٍ: يَا أَبَتِ إِنَّكَ قَدْ أَكْثَرْتَ
الْأَدْوِيَةَ وَالْأَدْعِيَةَ، وَلِلَّهِ فِيَّ اخْتِيَارٌ، فَدَعْنِي
وَاخْتِيَارُ اللَّهِ. قَالَ أَبُوهُ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَمْ يُوَفَّقْ لِهَذَا
الْكَلَامِ إِلَّا وَقَدِ اخْتِيرَ لِلْحُظْوَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي " الْمُنْتَظَمِ " فِي هَذِهِ السَّنَةِ
حَكَمَ جَهَلَةُ الْمُنَجِّمِينَ بِأَنْ سَيَكُونَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ طُوفَانٌ
قَرِيبٌ مِنْ طُوفَانِ نُوحٍ، وَشَاعَ الْكَلَامُ بِذَلِكَ بَيْنَ الْعَوَامِّ
وَخَافُوا، فَاسْتَدْعَى الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَظْهِرُ ابْنَ عَيْشُونَ
الْمُنَجِّمَ، فَسَأَلَهُ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ، فَقَالَ: إِنَّ طُوفَانَ نُوحٍ
كَانَ فِي زَمَنٍ اجْتَمَعَ فِي بُرْجِ الْحُوتِ الطَّوَالِعُ السَّبْعَةُ،
وَالْآنَ فَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ سِتَّةٌ وَلَمْ يَجْتَمِعْ مَعَهَا زُحَلُ، فَلَا
بُدَّ مِنْ وُقُوعِ طُوفَانٍ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهَا
بَغْدَادُ، فَتَقَدَّمَ الْخَلِيفَةُ إِلَى وَزِيرِهِ بِإِصْلَاحِ الْمُسَنِّيَاتِ
وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يُخْشَى انْفِجَارُ الْمَاءِ مِنْهَا، وَجَعَلَ النَّاسُ
يَنْتَظِرُونَ، فَجَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْحَاجَّ حَصَلُوا بِوَادِي
الْمَيَاقِتِ بَعْدَ نَخْلَةَ، فَأَتَاهُمْ سَيْلٌ عَظِيمٌ، فَمَا نَجَا
مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ تَعَلَّقَ بِرُءُوسِ الْجِبَالِ،
وَأَخَذَ الْمَاءُ الْجِمَالَ وَالرِّجَالَ وَالرِّحَالَ، فَخَلَعَ الْخَلِيفَةُ
عَلَى ذَلِكَ الْمُنَجِّمِ وَأَجْرَى لَهُ جِرَايَةً.
وَفِيهَا مَلَكَ الْأَمِيرُ قِوَامُ الدَّوْلَةِ أَبُو سَعِيدٍ كَرْبُوقَا
مَدِينَةَ الْمَوْصِلِ وَقَتَلَ مُحَمَّدَ بْنَ شَرَفِ الدَّوْلَةِ مُسْلِمِ بْنِ
قُرَيْشٍ وَغَرَّقَهُ بَعْدَ حِصَارِ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ.
وَفِيهَا مَلَكَ تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ الْمَغْرِبِيُّ مَدِينَةَ قَابِسَ،
وَأَخْرَجَ مِنْهَا أَخَاهُ عُمَرَ فَقَالَ خَطِيبُ سُوسَةَ فِي ذَلِكَ
أَبْيَاتًا:
ضَحِكَ الزَّمَانُ وَكَانَ يُلْفَى عَابِسًا لَمَّا فَتَحْتَ بِحَدِّ سَيْفِكَ
قَابِسَا وَأَتَيْتَهَا بِكْرًا وَمَا أَمْهَرْتَهَا
إِلَّا قَنًا وَصَوَارِمًا وَفَوَرِاسَا اللَّهُ يَعْلَمُ مَا جَنَيْتَ ثِمَارَهَا
إِلَّا وَكَانَ أَبُوكَ قَبْلُ الْغَارِسَا مَنْ كَانَ فِي زُرْقِ الْأَسِنَّةِ
خَاطِبًا
كَانَتْ لَهُ قُلَلُ الْبِلَادِ عَرَائِسَا
وَفِي صَفَرٍ مِنْهَا دَرَّسَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ
بِالنِّظَامِيَّةِ، وَلَّاهُ إِيَّاهَا فَخْرُ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ
وَزِيرُ بَرْكْيَارُوقَ.
وَفِيهَا أَغَارَتْ خَفَاجَةُ عَلَى بِلَادِ سَيْفِ
الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ دُبَيْسٍ وَقَصَدُوا مَشْهَدَ
الْحُسَيْنِ بِالْحَائِرِ، فَتَظَاهَرُوا فِيهِ بِالْمُنْكَرَاتِ وَالْفَسَادِ،
فَكَبَسَهُمْ فِيهِ الْأَمِيرُ صَدَقَةُ الْمَذْكُورُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا
كَثِيرًا حَتَّى عِنْدَ الضَّرِيحِ، وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ أَحَدَهُمْ أَلْقَى
نَفْسَهُ وَفَرَسَهُ مِنْ فَوْقِ السُّورِ فَسَلِمَ وَسَلِمَتْ فَرَسُهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأَمِيرُ خُمَارْتِكِينُ
الْحَسَنَانِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو حَكِيمٍ
الْخَبْرِيُّ: وَخَبْرُ إِحْدَى بِلَادِ فَارِسَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ
عَلَى الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ
بِالْفَرَائِضِ وَالْأَدَبِ وَاللُّغَةِ وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ، وَكَانَ مَرْضِيَّ
الطَّرِيقَةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْمَصَاحِفَ بِالْأُجْرَةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ
ذَاتَ يَوْمٍ يَكْتُبُ وَضَعَ
الْقَلَمَ مِنْ يَدِهِ وَاسْتَنَدَ وَقَالَ: وَاللَّهِ
لَئِنْ كَانَ هَذَا مَوْتًا إِنَّهُ لَطَيِّبٌ، ثُمَّ مَاتَ.
عَبْدُ الْمُحْسِنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنَ أَحْمَدَ الشِّيحِيُّ،
التَّاجِرُ وَيُعْرَفُ بِابْنِ شُهْدَانْكَهْ، بَغْدَادِيٌّ سَمِعَ الْحَدِيثَ
الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ وَأَكْثَرَ عَنِ الْخَطِيبِ وَهُوَ بِصُورَ، وَهُوَ الَّذِي
حَمَلَهُ إِلَى الْعِرَاقِ فَلِهَذَا أَهْدَى إِلَيْهِ الْخَطِيبُ " تَارِيخَ
بَغْدَادَ " بِخَطِّهِ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ فِي مُصَنَّفَاتِهِ، وَكَانَ
يُسَمِّيهِ عَبْدَ اللَّهِ وَكَانَ ثِقَةً.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ،
أَبُو الْفَضْلِ الْمَعْرُوفُ بِالْهَمَذَانِيِّ تَفَقَّهَ عَلَى الْمَاوَرْدِيِّ،
وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحِسَابِ، وَغَيْرِ
ذَلِكَ، وَكَانَ يَحْفَظُ " غَرِيبَ الْحَدِيثِ " لِأَبِي عُبَيْدٍ وَ
" الْمُجْمَلَ " لِابْنِ فَارِسَ، وَكَانَ عَفِيفًا زَاهِدًا، طَلَبَهُ
الْمُقْتَدِي لِيُوَلِّيَهُ قَاضِيَ الْقُضَاةِ، فَأَبَى أَشَدَّ الْإِبَاءِ
وَاعْتَذَرَ لَهُ بِالْعَجْزِ وَعُلُوِّ السِّنِّ، وَكَانَ ظَرِيفًا لَطِيفًا،
كَانَ يَقُولُ: كَانَ أَبِي إِذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّبَنِي أَخَذَ الْعَصَا
بِيَدِهِ ثُمَّ يَقُولُ: نَوَيْتُ أَنْ أَضْرِبَ وَلَدِي تَأْدِيبًا كَمَا أَمَرَ
اللَّهُ ثُمَّ يَضْرِبُنِي، قَالَ: وَإِلَى أَنْ يَنْوِيَ وَيُتَمِّمَ النِّيَّةَ
كُنْتُ أَهْرُبُ. تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا، وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ ابْنِ
سُرَيْجٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ مَنْصُورٍ
أَبُو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ وَيُعْرَفُ
بِابْنِ الْخَاضِبَةِ، كَانَ مَعْرُوفًا بِالْإِفَادَةِ،
وَجَوْدَةِ الْقِرَاءَةِ، وَحُسْنِ الْخَطِّ، وَصِحَّةِ النَّقْلِ، جَمَعَ بَيْنَ
عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ وَالْحَدِيثِ، وَأَكْثَرَ عَنِ الْخَطِيبِ وَأَصْحَابِ
الْمُخَلِّصِ، قَالَ: لَمَّا غَرِقَتْ بَغْدَادُ غَرِقَتْ دَارِي وَكُتُبِي فَلَمْ
يَبْقَ لِي شَيْءٌ فَاحْتَجْتُ إِلَى النَّسْخِ فَكَتَبْتُ " صَحِيحَ مُسْلِمٍ
" فِي تِلْكَ السَّنَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَنِمْتُ فَرَأَيْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ
كَأَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ وَقَائِلٌ يَقُولُ: أَيْنَ ابْنُ الْخَاضِبَةِ
فَجِئْتُ فَأُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَلَمَّا دَخَلْتُهَا اسْتَلْقَيْتُ عَلَى
قَفَايَ وَوَضَعْتُ إِحْدَى رِجْلَيَّ عَلَى الْأُخْرَى، وَقُلْتُ اسْتَرَحْتُ
مِنَ النَّسْخِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ وَالْقَلَمُ فِي يَدِي وَالنَّسْخُ بَيْنَ
يَدَيَّ.
أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ
مَنْصُورُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ
أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ الْحَافِظُ، مِنْ أَهْلِ مَرْوَ تَفَقَّهَ
أَوَّلًا عَلَى أَبِيهِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ حِينَ أَخَذَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ،
وَابْنِ الصَّبَّاغِ وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، وَصَنَّفَ
" التَّفْسِيرَ " وَكِتَابَ " الِانْتِصَارِ " فِي
الْحَدِيثِ، وَ " الْبُرْهَانَ " وَ " الْقَوَاطِعَ " فِي
أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالِاصْطِلَامَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَوَعَظَ فِي مَدِينَةِ
نَيْسَابُورَ، وَكَانَ يَقُولُ مَا حَفِظْتُ شَيْئًا فَنَسِيتُهُ، وَسُئِلَ عَنْ
أَخْبَارِ الصِّفَاتِ فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِدِينِ الْعَجَائِزِ، وَسُئِلَ عَنِ
الِاسْتِوَاءِ، فَقَالَ:
جِئْتُمَانِي لِتَعْلَمَا سِرَّ سُعْدَى تَجِدَانِي بِسِرِّ
سُعْدَى شَحِيحَا إِنَّ سُعْدَى لَمُنْيَةُ الْمُتَمَنِّي
جَمَعَتْ عِفَّةً وَوَجْهًا صَبِيحَا
تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ
مَرْوَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّانَا، آمِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ ابْتِدَاءُ مُلْكِ الْخُوَارَزْمِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ
بَرْكْيَارُوقَ مَلَكَ فِيهَا بِلَادَ خُرَاسَانَ بَعْدَ مَقْتَلِ عَمِّهِ
أَرْسَلَانَ أَرْغُونَ بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ وَسَلَّمَهَا إِلَى أَخِيهِ
أَحْمَدَ الْمَعْرُوفِ بِالْمَلِكِ سَنْجَرَ، وَجَعَلَ أَتَابِكَهُ الْأَمِيرَ
قُمَاجَ وَوَزِيرَهُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ الطُّغْرَائِيَّ، وَاسْتَعْمَلَ
عَلَى خُرَاسَانَ الْأَمِيرَ حَبَشِيَّ بْنَ التُّونْتَاقِ، فَوَلَّى مَدِينَةَ
خُوَارِزْمَ شَابًّا يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ أَنُوشْتِكِينَ، وَكَانَ
أَبُوهُ مِنْ أُمَرَاءِ السَّلْجُوقِيَّةِ، وَنَشَأَ هُوَ فِي أَدَبٍ وَفَضِيلَةٍ
وَحُسْنِ سِيرَةٍ، وَلَمَّا وَلِيَ مَدِينَةَ خُوَارِزْمَ لُقِّبَ خُوَارِزْمَ
شَاهْ، وَكَانَ أَوَّلَ مُلُوكِهِمْ فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ، وَعَامَلَ النَّاسَ
بِالْجَمِيلِ، وَحِينَ مَاتَ قَامَ مِنْ بَعْدِهِ عَلَى خُوَارِزْمَ وَلَدُهُ
أَتْسِزُ، فَجَرَى عَلَى سُنَنِ أَبِيهِ وَأَظْهَرَ الْعَدْلَ، فَحَظِيَ عِنْدَ
السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَأَحَبَّهُ النَّاسُ، وَارْتَفَعَتْ مَنْزِلَتُهُ.
وَفِيهَا خَطَبَ الْمَلِكُ رِضْوَانُ بْنُ تَاجِ الْمُلْكِ تُتُشَ لِلْخَلِيفَةِ
الْفَاطِمِيِّ الْمُسْتَعْلِي، وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا قُتِلَ بُرْسُقُ أَحَدُ
أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تُوَلَّى شِحْنِكِيَّةَ بَغْدَادَ.
وَفِي شَوَّالٍ قُتِلَ رَجُلٌ بَاطِنِيٌّ عِنْدَ بَابِ النُّوبِيِّ كَانَ قَدْ
شَهِدَ عَلَيْهِ عَدْلَانِ ; أَحَدُهُمَا ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ دَعَاهُمَا إِلَى
مَذْهَبِهِ فَجَعَلَ يَقُولُ أَتَقْتُلُونَنِي وَأَنَا أَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ
وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ
إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا الْآيَةَ [ غَافِرٍ: 84، 85 ]
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا خُمَارْتِكِينُ الْحَسْنَانِيُّ.
وَفِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ كُبِسَتْ دَارُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ أَبِي نَصْرِ بْنِ
جَلَالِ الدَّوْلَةِ أَبِي طَاهِرِ بْنِ بُوَيْهِ؛ لِأُمُورٍ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ
عِنْدَ الْقَاضِي فَأُرِيقَ دَمُهُ، وَنُقِضَتْ دَارُهُ وَعُمِلَ مَكَانَهَا
مَسْجِدَانِ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ
مَلِكْشَاهْ قَدْ أَقْطَعُهُ الْمَدَائِنَ وَدَيْرَ عَاقُولَ وَغَيْرَهُمَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ
دِينَارٍ أَبُو يَعْلَى، الْعَبْدِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ
الصَّوَّافِ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ
زَاهِدًا مُتَصَوِّفًا، وَفَقِيهًا مُدَرِّسًا، ذَا سَمْتٍ وَوَقَارٍ وَسَكِينَةٍ
وَدِينٍ، وَكَانَ عَلَّامَةً فِي عَشَرَةِ عُلُومٍ، تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ
مِنْهَا عَنْ تِسْعِينَ سَنَةً؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْمُعَمَّرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُعَمَّرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو الْغَنَائِمِ الْحُسَيْنِيُّ النَّقِيبُ لِلطَّالِبِيِّينَ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ، وَكَانَ حَسَنَ الصُّورَةِ، كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ، كَثِيرَ
التَّعَبُّدِ، لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ آذَى مُسْلِمًا وَلَا شَتَمَ صَاحِبًا،
تُوُفِّيَ عَنْ نَيِّفٍ وَسِتِّينَ
سَنَةً وَكَانَ مِنْهَا نَقِيبًا ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ
سَنَةً، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ، وَتَوَلَّى بَعْدَهُ وَلَدُهُ أَبُو
الْفُتُوحِ حَيْدَرَةُ وَلُقِّبَ بِالرَّضِيِّ ذِي الْفَخْرَيْنِ، وَرَثَاهُ
الشُّعَرَاءُ بِأَبْيَاتٍ ذَكَرَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
يَحْيَى بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ السِّيبِيُّ
سَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَحَلَ إِلَيْهِ الطَّلَبَةُ، وَكَانَ ثِقَةً صَالِحًا
صَدُوقًا دَيِّنًا، عُمِّرَ مِائَةَ سَنَةٍ وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً
وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ صَحِيحُ الْحَوَاسِّ يُقْرَأُ عَلَيْهِ
الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا مَلَكَ الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ أَنْطَاكِيَةَ
بَعْدَ حِصَارٍ شَدِيدٍ بِمُوَاطَأَةٍ مِنْ بَعْضِ الْمُسْتَحْفِظِينَ عَلَى
بَعْضِ الْأَبْرَاجِ، وَهَرَبَ صَاحِبُهَا يَاغِي سِيَانٍ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ،
وَتَرَكَ بِهَا أَهْلَهُ وَمَالَهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ
نَدَمٌ شَدِيدٌ عَلَى مَا فَعَلَ ; بِحَيْثُ إِنَّهُ غُشِيَ عَلَيْهِ وَسَقَطَ
عَنْ فَرَسِهِ، فَذَهَبَ أَصْحَابُهُ وَتَرَكُوهُ، فَجَاءَ رَاعِي غَنَمٍ فَقَطَعَ
رَأْسَهُ وَذَهَبَ بِهِ إِلَى مَلِكِ الْفِرِنْجِ، وَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ
إِلَى الْأَمِيرِ كَرْبُوقَا صَاحِبِ الْمَوْصِلِ جَمَعَ عَسَاكِرَ كَثِيرَةً
وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ دُقَاقُ بْنُ تُتُشَ صَاحِبُ دِمَشْقَ وَجَنَاحُ الدَّوْلَةِ
صَاحِبُ حِمْصَ وَغَيْرُهُمَا وَسَارَ إِلَى الْفِرِنْجِ فَالْتَقَوْا مَعَهُمْ
بِأَرْضِ أَنْطَاكِيَةَ، فَهَزَمَهُمُ الْفِرِنْجُ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا
كَثِيرًا وَأَخَذُوا مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ثُمَّ سَارَتِ الْفِرِنْجُ إِلَى مَعَرَّةِ النُّعْمَانِ
فَأَخَذُوهَا بَعْدَ حِصَارٍ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ،
وَلَمَّا بَلَغَ هَذَا الْحَالُ إِلَى الْمَلِكِ بَرْكْيَارُوقَ شَقَّ عَلَيْهِ
ذَلِكَ وَكَتَبَ إِلَى الْأُمَرَاءِ بِبَغْدَادَ أَنْ يَتَجَهَّزُوا هُمْ
وَالْوَزِيرُ ابْنُ جَهِيرٍ لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ، فَبَرَزَ بَعْضُ الْجَيْشِ
إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ بِالْجَانِبِ
الْغَرْبِيِّ ثُمَّ انْفَسَخَتْ هَذِهِ الْعَزِيمَةُ ;
لِأَنَّهُمْ بَلَغَهُمْ أَنَّ الْفِرِنْجَ فِي أَلْفِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَلَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا خُمَارْتِكِينُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
طِرَادُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الْوَهَّابِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْإِمَامِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ، أَبُو الْفَوَارِسِ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ
بْنِ أَبِي تَمَّامٍ، مِنْ وَلَدِ زَيْنَبَ بِنْتِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ أَمُّ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ،
سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ وَالْكُتُبَ الْكِبَارَ، وَتَفَرَّدَ بِالرِّوَايَةِ
عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَرُحِلَ إِلَيْهِ مِنَ الْآفَاقِ، وَأَمْلَى
الْحَدِيثَ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى، وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ الْعُلَمَاءُ
وَالسَّادَةُ، وَحَضَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيُّ مَجْلِسَهُ،
وَبَاشَرَ نِقَابَةَ الْعَبَّاسِيِّينَ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَتُوُفِّيَ عَنْ
نَيِّفٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ الشُّهَدَاءِ؛ رَحِمَهُ
اللَّهُ.
الْمُظَفَّرُ أَبُو الْفَتْحِ ابْنُ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ أَبِي الْقَاسِمِ ابْنِ
الْمُسْلِمَةِ
كَانَتْ دَارُهُ مَجْمَعًا لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْأَدَبِ، وَبِهَا
تُوُفِّيَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو
الْفَتْحِ دُفِنَ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ فِي تُرْبَتِهِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا أَخَذَتِ الْفِرِنْجُ - خَذَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْتَ الْمَقْدِسِ
; لَمَّا كَانَ ضُحَى يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ
ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، اسْتَحْوَذَ الْفِرِنْجُ - لَعَنَهُمُ
اللَّهُ - بَيْتَ الْمَقْدِسِ - شَرَّفَهُ اللَّهُ - وَهُمْ فِي نَحْوِ أَلْفِ
أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَقَتَلُوا فِي وَسَطِهِ أَزْيَدَ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفَ
قَتِيلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، وَكَانَ وَعْدًا
مَفْعُولًا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَأَخَذُوا مِنْ حَوْلِ الصَّخْرَةِ اثْنَيْنِ
وَأَرْبَعِينَ قِنْدِيلًا مِنْ فِضَّةٍ، زِنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ
آلَافٍ وَسِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَخَذُوا تَنُّورًا مِنْ فِضَّةٍ، زِنَتَهُ
أَرْبَعُونَ رِطْلًا بِالشَّامِيِّ وَثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ قِنْدِيلًا مِنْ
ذَهَبٍ، وَذَهَبَ النَّاسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ هَازِعِينَ مِنَ الشَّامِ إِلَى
الْعِرَاقِ مُسْتَغِيثِينَ عَلَى الْفِرِنْجِ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ،
مِنْهُمُ الْقَاضِي بِدِمَشْقَ أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ، فَلَمَّا سَمِعَ
النَّاسُ بِبَغْدَادَ هَذَا الْأَمْرَ الْفَظِيعَ هَالَهُمْ ذَلِكَ وَتَبَاكَوْا،
وَقَدْ نَظَمَ أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ كَلَامًا قُرِئَ فِي الدِّيوَانِ وَعَلَى
الْمَنَابِرِ، فَجَهَشَ النَّاسُ بِالْبُكَاءِ، وَنَدَبَ الْخَلِيفَةُ
الْفُقَهَاءَ إِلَى الْخُرُوجِ
إِلَى الْبِلَادِ لِيُحَرِّضُوا الْمُلُوكَ عَلَى
الْجِهَادِ، فَخَرَجَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَعْيَانِ
الْفُقَهَاءِ، فَسَارُوا فِي النَّاسِ فَلَمْ يُفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ فَقَالَ فِي ذَلِكَ أَبُو الْمُظَفَّرِ
الْأَبِيْوَرْدِيُّ:
مَزَجْنَا دِمَاءً بِالدُّمُوعِ السَّوَاجِمِ فَلَمْ يَبْقَ مِنَّا عُرْضَةٌ
لِلْمَرَاحِمِ وَشَرُّ سِلَاحِ الْمَرْءِ دَمْعٌ يُفِيضُهُ
إِذَا الْحَرْبُ شُبَّتْ نَارُهَا بِالصَّوَارِمِ فَإِيهًا بَنِي الْإِسْلَامِ
إِنَّ وَرَاءَكُمْ
وَقَائِعَ يُلْحِقْنَ الذُّرَى بِالْمَنَاسِمِ وَكَيْفَ تَنَامُ الْعَيْنُ مِلْءَ
جُفُونِهَا
عَلَى هَفَوَاتٍ أَيْقَظَتْ كُلَّ نَائِمِ وَإِخْوَانُكُمْ بِالشَّامِ يُضْحَى
مَقِيلُهُمْ
ظُهُورَ الْمَذَاكِي أَوْ بُطُونَ الْقَشَاعِمِ تَسُومُهُمُ الرُّومُ الْهَوَانَ
وَأَنْتَمْ
تَجُرُّونَ ذَيْلَ الْخَفْضِ فِعْلَ الْمُسَالِمِ وَبَيْنَ اخْتِلَاسِ الطَّعْنِ
وَالضَّرْبِ وَقْفَةٌ
تَظَلُّ لَهَا الْوِلْدَانُ شِيبَ الْقَوَادِمِ وَتَلِكَ حُرُوبٌ مَنْ يَغِبْ عَنْ
غِمَارِهَا
لِيَسْلَمَ يَقْرَعْ بَعْدَهَا سِنَّ نَادِمِ سَلَلْنَ بِأَيْدِي الْمُشْرِكِينَ
قَوَاضِبًا
سَتُغْمَدُ مِنْهُمْ فِي الْطُّلَى وَالْجَمَاجِمِ يَكَادُ لَهُنَّ الْمُسْتَجِنُّ
بِطِيبَةٍ
يُنَادِي بِأَعْلَى الصَّوْتِ يَا آلَ هَاشِمِ أَرَى أُمَّتِي لَا يَشْرَعُونَ
إِلَى الْعِدَا
رِمَاحَهُمْ وَالدِّينُ وَاهِي الدَّعَائِمِ وَيَجْتَنِبُونَ الثَّأْرَ خَوْفًا
مِنَ الرَّدَى
وَلَا يَحْسَبُونَ الْعَارَ ضَرْبَةَ لَازِمِ أَيَرْضَى صَنَادِيدُ الْأَعَارِيبِ
بِالْأَذَى
وَتُغْضِي عَلَى ذُلٍّ كُمَاةُ الْأَعَاجِمِ
فَلَيْتَهُمْ إِذْ لَمْ يَذُودُوا حَمِيَّةً
عَنِ الدِّينِ ضَنُّوا غَيْرَةً بِالْمَحَارِمِ وَإِنْ زَهِدُوا فِي الْأَجْرِ
إِذْ حَمِيَ الْوَغَى
فَهَلَا أَتَوْهُ رَغْبَةً فِي الْمَغَانِمِ
وَفِيهَا كَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ وَهُوَ
أَخُو السُّلْطَانِ سَنْجَرَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ إِلَى
أَنْ صَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ خُطِبَ لَهُ بِبَغْدَادَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا سَارَ إِلَى الرَّيِّ فَوَجَدَ زُبَيْدَةَ خَاتُونَ أُمَّ أَخِيهِ
بَرْكْيَارُوقَ فَأَمَرَ بِخَنْقِهَا - وَكَانَ عُمْرُهَا إِذْ ذَاكَ ثِنْتَيْنِ
وَأَرْبَعِينَ - سَنَةً فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَتْ لَهُ
مَعَ بَرْكْيَارُوقَ خَمْسُ وَقَعَاتٍ هَائِلَةٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَلَتِ الْأَسْعَارُ جِدًّا بِبَغْدَادَ حَتَّى مَاتَ
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ جُوعًا وَأَصَابَهُمْ وَبَاءٌ شَدِيدٌ حَتَّى عَجَزُوا عَنْ
دَفْنِ الْمَوْتَى مِنْ كَثْرَتِهِمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
السُّلْطَانُ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ السُّلْطَانِ مَحْمُودِ بْنِ مَسْعُودِ ابْنِ
السُّلْطَانِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، صَاحِبُ غَزْنَةَ وَأَطْرَافِ
الْهِنْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَانَتْ لَهُ حُرْمَةٌ وَأُبَّهَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا،
حَكَى إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيُّ - حِينَ بَعَثَهُ السُّلْطَانُ بَرْكْيَارُوقُ
إِلَيْهِ - فِي رِسَالَةٍ عَمَّا شَاهَدَهُ عِنْدَهُ مِنْ أُمُورِ السَّلْطَنَةِ
فِي مَلْبَسِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَا عِنْدَهُ مِنْ
السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، قَالَ: رَأَيْتُ شَيْئًا
عَجِيبًا وَقَدْ وَعَظَهُ بِحَدِيثِ: " لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي
الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا " فَبَكَى قَالَ وَكَانَ لَا يَبْنِي
لِنَفْسِهِ مَنْزِلًا إِلَّا بَنَى قَبْلَهُ مَسْجِدًا أَوْ مَدْرَسَةً أَوْ
رِبَاطًا، تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ ثِنْتَيْنِ
وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ يُوسُفَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ
أَبُو تُرَابٍ الْمَرَاغِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِمِائَةٍ،
وَتَفَقَّهَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ
عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَشَايِخِ بِبُلْدَانٍ شَتَّى، ثُمَّ أَقَامَ
بِنَيْسَابُورَ، وَكَانَ يَحْفَظُ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ،
نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ مَسْأَلَةٍ بِأَدِلَّتِهَا وَالْمُنَاظَرَةِ
عَلَيْهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَايَاتِ وَالْمُلَحِ وَالْآدَابِ، وَكَانَ
صَبُورًا مُتَقَلِّلًا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ، جَاءَهُ مَنْشُورٌ بِقَضَاءِ
هَمَذَانَ، فَقَالَ: أَنَا مُنْتَظِرٌ مَنْشُورًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
عَلَى يَدَيْ مَلَكِ الْمَوْتِ بِالْقَدُّومِ عَلَيْهِ، وَاللَّهِ لَجُلُوسُ
سَاعَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ عَلَى رَاحَةِ الْقَلْبِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ
مُلْكِ الْعِرَاقَيْنِ، وَتَعْلِيمُ مَسْأَلَةٍ لِطَالِبٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ
مُلْكِ الثَّقَلَيْنِ. حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ
" تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَلَاثٍ
وَتِسْعِينَ سَنَةً.
أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ
قَتَلَهُ بَعْضُ الْبَاطِنِيَّةِ بِنَيْسَابُورَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَحِمَ
أَبَاهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق