الأحد، 1 أغسطس 2021

22//1 . البداية

 

22//1 . وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى جَارِيَةً كَانَتْ تُحْسِنُ الْقُرْآنَ وَالشِّعْرَ وَغَيْرَهُ، فَأَحَبَّهَا حُبًّا شَدِيدًا، وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مَالَهُ كُلَّهُ حَتَّى أَفْلَسَ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ سِوَى هَذِهِ الْجَارِيَةِ، فَقَالَتْ لَهُ الْجَارِيَةُ: قَدْ أَرَى مَا بِكَ مِنْ قِلَّةِ الشَّيْءِ، فَلَوْ بِعْتَنِي وَانْتَفَعْتَ بِثَمَنِي صَلُحَ حَالُكَ، فَبَاعَهَا لِعُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ هَذَا - وَهُوَ يَوْمئِذٍ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ - بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا قَبَضَ الْمَالَ نَدِمَ وَنَدِمَتِ الْجَارِيَةُ، فَأَنْشَأَتْ تُخَاطِبُ مَوْلَاهَا الَّذِي بَاعَهَا:
هَنِيئًا لَكَ الْمَالُ الَّذِي قَدْ أَخَذْتَهُ وَلَمْ يَبْقَ فِي كَفِّي إِلَّا تَفَكُّرِي
أَقُولُ لِنَفْسِي وَهِيَ فِي كَرْبِ غَشْيَةٍ أَقَلِّي فَقَدْ بَانَ الْخَلِيطُ أَوْ أَكْثَرِي
إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْأَمْرِ عِنْدَكِ حِيلَةٌ وَلَمْ تَجِدِي بُدًّا مِنَ الصَّبْرِ فَاصْبِرِي
فَأَجَابَهَا سَيِّدُهَا، فَقَالَ:
وَلَوْلَا قُعُودُ الدَّهْرِ بِي عَنْكِ لَمْ يَكُنْ لِفُرْقَتِنَا شَيْءٌ سِوَى الْمَوْتِ فَاعْذُرِي
أَءُوبُ بِحُزْنٍ مِنْ فِرَاقِكِ مُوجِعٍ أُنَاجِي بِهِ قَلْبًا طَوِيلَ التَّذَكُّرِ
عَلَيْكِ سَلَامٌ لَا زِيَارَةَ بَيْنَنَا وَلَا وَصْلَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ ابْنُ مَعْمَرِ
فَلَمَّا سَمِعَهُمَا ابْنُ مَعْمَرٍ قَدْ شَبَّبَتْ، قَالَ: وَاللَّهِ لَا فَرَقْتُ بَيْنَ مُحِبَّيْنِ أَبَدًا.

ثُمَّ أَعْطَاهُ الْمَالَ - وَهُوَ مِائَةُ أَلْفٍ - وَالْجَارِيَةَ; لَمَّا رَأَى مِنْ تَوَجُّعِهِمَا عَلَى فِرَاقِ كُلٍّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَأَخَذَ الرِّجْلُ الْجَارِيَةَ وَثَمَنَهَا وَانْطَلَقَ.
تُوُفِّيَ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ هَذَا بِدِمَشْقَ بِالطَّاعُونِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَمَشَى فِي جِنَازَتِهِ، وَحَضَرَ دَفْنَهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ طَلْحَةُ، وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ، تَزَوَّجَ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَلَى صَدَاقٍ أَرْبَعِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَوْلَدَهَا إِبْرَاهِيمَ وَرَمْلَةَ، فَتَزَوَّجَ رَمْلَةَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَلَى صَدَاقٍ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
كُمَيْلُ بْنُ زِيَادِ بْنِ نَهِيكِ بْنِ الْهَيْثَمِ، النَّخَعِيُّ الْكُوفِيُّ
رَوَى عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَشَهِدَ مَعَ عَلَيٍّ صِفِّينَ، وَكَانَ شُجَاعًا فَاتِكًا، وَزَاهِدًا عَابِدًا، قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، - وَقَدْ عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ - قَتَلَهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَإِنَّمَا نَقَمَ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْقِصَاصَ مِنْ لَطْمَةٍ لَطَمَهَا إِيَّاهُ، فَلَمَّا أَمْكَنَهُ عُثْمَانُ مِنْ نَفْسِهِ عَفَا عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: أَوَ مِثْلُكَ يَسْأَلُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْقِصَاصَ؟ ثُمَّ أَمَرَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. قَالُوا:

وَذَكَرَ الْحَجَّاجُ عَلِيًّا فِي غُبُونِ ذَلِكَ فَنَالَ مِنْهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ كُمَيْلٌ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: وَاللَّهِ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكَ مَنْ يُبْغِضُ عَلِيًّا أَكْثَرَ مِمَّا تُحِبُّهُ أَنْتَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنَ أَدْهَمَ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ، وَيُقَالُ: أَبَا الْجَهْمِ بْنَ كِنَانَةَ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ.
وَقَدْ رَوَى عَنْ كُمَيْلٍ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَلَهُ الْأَثَرُ الْمَشْهُورُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الَّذِي أَوَّلُهُ: الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ، فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا. وَهُوَ طَوِيلٌ، قَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ الثِّقَاتِ، وَفِيهِ مَوَاعِظُ وَكَلَامٌ حَسَنٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْ قَائِلِهِ.
زَاذَانُ أَبُو عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ
أَحَدُ التَّابِعِينَ، كَانَ أَوَّلًا يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ وَيَضْرِبُ بِالطُّنْبُورِ، فَرَزَقَهُ اللَّهُ التَّوْبَةَ عَلَى يَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَحَصَلَتْ لَهُ إِنَابَةٌ وَرُجُوعٌ إِلَى الْحَقِّ، وَخَشْيَةٌ شَدِيدَةٌ، حَتَّى كَانَ فِي الصَّلَاةِ كَأَنَّهُ خَشَبَةٌ.
وَقَالَ مَرَّةً: إِنِّي جَائِعٌ. فَنَزَلَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّوْزَنَةِ رَغِيفٌ مِثْلُ الرَّحَا. وَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ ابْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ خَلِيفَةُ: تُوَفِّيَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ.
قَالَ خَلِيفَةُ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، أَحَدُ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ،

وَقَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَهُ تَرْجَمَةٌ.
وَشَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ أَبُو وَائِلٍ
أَدْرَكَ مِنْ زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ سَبْعَ سِنِينَ، وَأَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أُمُّ الدَّرْدَاءِ الصُّغْرَى
اسْمُهَا هُجَيْمَةُ، وَيُقَالُ: جُهَيْمَةُ، تَابِعِيَّةٌ عَابِدَةٌ عَالِمَةٌ فَقِيهَةٌ، كَانَ الرِّجَالُ يَقْرَءُونَ عَلَيْهَا وَيَتَفَقَّهُونَ فِي الْحَائِطِ الشَّمَالِيِّ بِجَامِعِ دِمَشْقَ وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ يَجْلِسُ فِي حَلْقَتِهَا مَعَ الْمُتَفَقِّهَةِ، يَشْتَغِلُ عَلَيْهَا وَهُوَ خَلِيفَةٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ
اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالنَّاسُ مُتَوَاقِفُونَ لِقِتَالِ الْحَجَّاجِ وَأَصْحَابِهِ بِدَيْرِ قُرَّةَ، وَابْنُ الْأَشْعَثِ وَأَصْحَابُهُ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ، وَالْمُبَارَزَةُ فِي كُلِّ يَوْمٍ بَيْنَهُمْ وَاقِعَةٌ، وَفِي غَالِبِ الْأَيَّامِ تَكُونُ النُّصْرَةُ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ أَصْحَابَ ابْنِ الْأَشْعَثِ - وَهُمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ - كَسَرُوا أَهْلَ الشَّامِ - وَهُمْ أَصْحَابُ الْحَجَّاجِ - بِضْعًا وَثَمَانِينَ مَرَّةً يَنْتَصِرُونَ عَلَيْهِمْ. وَمَعَ هَذَا فَالْحَجَّاجُ ثَابِتٌ فِي مَكَانِهِ صَابِرٌ وَمُصَابِرٌ، لَا يَتَزَحْزَحُ عَنْ مَوْضِعِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، بَلْ إِذَا حَصَلَ لَهُ ظَفَرٌ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ يَتَقَدَّمُ بِجَيْشِهِ إِلَى نَحْرِ عَدُّوِهِ، وَكَانَ لَهُ خِبْرَةٌ بِالْحَرْبِ، وَمَا زَالَ ذَلِكَ دَأْبَهُ وَدَأْبَهُمْ حَتَّى أَمَرَ بِالْحَمْلَةِ عَلَى كَتِيبَةِ الْقُرَّاءِ; لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا تَبَعًا لَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ يُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَالنَّاسُ يَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَصَبَرَ الْقُرَّاءُ لِحَمْلَةِ جَيْشِهِ، ثُمَّ جَمَعَ الرُّمَاةَ مِنْ جَيْشِهِ وَحَمَلَ بِهِمْ، وَمَا انْفَكَّ حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى جَيْشِ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ ابْنِ الْأَشْعَثِ وَذَهَبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَهَرَبَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَمَعَهُ فَلٌّ قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ، فَأَتْبَعُهُ الْحَجَّاجُ جَيْشًا كَثِيفًا مَعَ عِمَارَةَ بْنِ تَمِيمٍ اللَّخْمِيِّ، وَمَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَجَّاجِ، وَالْإِمْرَةُ لِعِمَارَةَ، فَسَاقُوا وَرَاءَهُمْ يَطْرُدُونَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَظْفَرُونَ بِهِ قَتْلًا أَوْ

أَسْرًا، فَمَا زَالَ يَسُوقُ وَيَخْتَرِقُ الْأَقَالِيمَ وَالْكُورَ وَالرَّسَاتِيقَ، وَهُمْ فِي أَثَرِهِ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى كَرْمَانَ وَاتَّبَعَهُ الشَّامِيُّونَ، فَنَزَلُوا فِي قَصْرٍ كَانَ فِيهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ قَبْلَهُمْ، فَإِذَا فِيهِ كِتَابٌ قَدْ كَتَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ الَّذِينَ فَرُّوا مَعَهُ، مَنْ شِعْرِ أَبِي جِلْدَةَ الْيَشْكُرِيِّ، يَقُولُ:
أَيَا لَهَفَا وَيَا حُزْنَا جَمِيعًا وَيَا حَرَّ الْفُؤَادِ لِمَا لَقِينَا تَرَكْنَا الدِّينَ وَالدُّنْيَا جَمِيعًا
وَأَسْلَمْنَا الْحَلَائِلَ وَالْبَنِينَا فَمَا كُنَّا أُنَاسًا أَهْلَ دُنْيَا
فَنَمْنَعُهَا وَلَوْ لَمْ نَرْجُ دِينًا تَرَكْنَا دَوْرَنَا لِطَغَامِ عَكٍّ
وَأَنْبَاطِ الْقُرَى وَالْأَشْعَرِينَا
ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ دَخَلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْفَلِّ إِلَى بِلَادِ رُتْبِيلَ مَلِكِ التُّرْكِ، فَأَكْرَمَهُ رُتْبِيلُ، وَأَنْزَلَهُ عِنْدَهُ، وَأَمَّنَهُ وَعَظَّمَهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَمَرَّ ابْنُ الْأَشْعَثِ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى بِلَادِ رُتْبِيلَ عَلَى عَامِلٍ لَهُ فِي بَعْضِ الْمُدُنِ، كَانَ ابْنُ الْأَشْعَثِ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ رُجُوعِهِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَأَكْرَمَهُ ذَلِكَ الْعَامِلُ، وَأَهْدَى إِلَيْهِ هَدَايَا وَأَنْزَلَهُ; فَعَلَ ذَلِكَ خَدِيعَةً بِهِ وَمَكْرًا، وَقَالَ لَهُ: ادْخُلْ إِلَى عِنْدِي إِلَى الْبَلَدِ لِتَتَحَصَّنَ بِهَا مِنْ عَدُوِّكَ، وَلَكِنْ لَا تَدَعْ أَحَدًا مِمَّنْ مَعَكَ يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمَكْرَ بِهِ، فَمَنْعَهُ أَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَثَبَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ

فَمَسَكَهُ وَأَوْثَقَهُ بِالْحَدِيدِ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ بِهِ يَدًا عِنْدَ الْحَجَّاجِ، وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ رُتْبِيلَ سُرَّ بِقُدُومِ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَا حَدَثَ لَهُ مِنْ جِهَةِ ذَلِكَ الْعَامِلِ بِمَدِينَةِ بُسْتَ، سَارَ حَتَّى أَحَاطَ بِبُسْتَ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَامِلِهَا يَقُولُ لَهُ: وَاللَّهِ لَئِنْ آذَيْتَ ابْنَ الْأَشْعَثِ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَسَتَنْزِلُكَ، وَأَقْتُلُ جَمِيعَ مَنْ فِي بَلَدِكَ. فَخَافَهُ ذَلِكَ الْعَامِلُ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِ ابْنَ الْأَشْعَثِ، فَأَكْرَمَهُ رُتْبِيلُ، فَقَالَ ابْنُ الْأَشْعَثِ لرُتْبِيلَ: إِنَّ هَذَا الْعَامِلَ كَانَ عَامِلِي وَمِنْ جِهَتِي، فَغَدَرَ بِي، وَفَعَلَ مَا رَأَيْتَ فَأْذَنْ لِي فِي قَتْلِهِ. فَقَالَ: قَدْ أَمَّنْتُهُ. وَكَانَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ هُنَالِكَ فِي بِلَادِ رُتْبِيلَ، ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْفَلِّ الَّذِينَ هَرَبُوا مِنَ الْحَجَّاجِ اجْتَمَعُوا وَسَارُوا وَرَاءَ ابْنِ الْأَشْعَثِ; لِيُدْرِكُوهُ فَيَكُونُوا مَعَهُ، وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ سِتِّينَ أَلْفًا، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى سِجِسْتَانَ وَجَدُوا ابْنَ الْأَشْعَثِ قَدْ دَخَلَ إِلَى عِنْدِ رُتْبِيلَ فَتَغَلَّبُوا عَلَى سِجِسْتَانَ، وَعَذَّبُوا عَامِلَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ الْبِعَارَ وَإِخْوَتَهُ وَقَرَائِبَهُ، وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَانْتَشَرُوا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ وَأَخَذُوهَا، ثُمَّ كَتَبُوا إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ: أَنِ اخْرُجْ إِلَيْنَا حَتَّى نَكُونَ مَعَكَ; نَنْصُرُكَ عَلَى مَنْ يُخَالِفُكَ، وَنَأْخُذُ بِلَادَ خُرَاسَانَ، فَإِنَّ بِهَا جُنْدًا عَظِيمًا مِنَّا، فَنَكُونُ بِهَا حَتَّى يُهْلِكَ اللَّهُ الْحَجَّاجَ أَوْ عَبْدَ الْمَلِكِ، فَنَرَى بَعْدَ ذَلِكَ رَأَيْنَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ، وَسَارَ بِهِمْ قَلِيلًا إِلَى نَحْوِ خُرَاسَانَ، فَاعْتَزَلَهُ شِرْذِمَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، فَقَامَ فِيهِمُ ابْنُ

الْأَشْعَثِ خَطِيبًا، فَذَكَرَ غَدْرَهُمْ وَنُكُولَهُمْ عَنِ الْحَرْبِ، وَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِكُمْ، وَأَنَا ذَاهِبٌ إِلَى صَاحِبِي رُتْبِيلَ فَأَكُونُ عِنْدَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُمْ، وَتَبِعَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، وَبَقِيَ مُعْظَمُ الْجَيْشِ، فَلَمَّا انْفَصَلَ عَنْهُمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ بَايَعُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ الْهَاشِمِيَّ، وَسَارُوا مَعَهُ إِلَى خُرَاسَانَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَمِيرُهَا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ ; لِيَمْنَعَهُمْ مِنْ دُخُولِ بِلَادِهِ، وَكَتَبَ يَزِيدُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ فِي الْبِلَادِ مُتَّسَعًا، فَاذْهَبْ إِلَى أَرْضٍ لَيْسَ بِهَا سُلْطَانٌ، فَإِنِّي أَكْرَهُ قِتَالَكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مَالًا بَعَثْتُ إِلَيْكَ. فَقَالَ لَهُ: إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا جِئْنَا نَسْتَرِيحُ وَنُرِيحُ خَيْلَنَا، ثُمَّ نَذْهَبُ، وَلَيْسَتْ بِنَا حَاجَةٌ إِلَى حَاجَةٍ مِمَّا عَرَضْتَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى أَخْذِ الْخَرَاجِ مِمَّا حَوْلُهُ مِنَ الْبِلَادِ مِنْ كُورِ خُرَاسَانَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَمَعَهُ أَخُوهُ الْمُفَضَّلُ فِي جُيُوشٍ كَثِيفَةٍ، فَلَمَّا صَادَفُوهُمُ اقْتَتَلُوا غَيْرَ كَثِيرٍ، ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَلَ يَزِيدُ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَأَسَرَ مِنْهُمْ أَسْرَى كَثِيرَةً، وَاحْتَازَ مَا فِي مُعَسْكَرِهِمْ، وَبَعَثَ بِالْأُسَارَى - وَفِيهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ - إِلَى الْحَجَّاجِ، وَيُقَالُ: إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ لِيَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ: أَسْأَلُكَ بِدَعْوَةِ أَبِي لِأَبِيكَ لَمَا أَطْلَقْتَنِي. فَأَطْلَقَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: وَلِهَذَا الْكَلَامِ خَبَرٌ فِيهِ طُولٌ.

وَلَمَّا قَدِمَتِ الْأُسَارَى عَلَى الْحَجَّاجِ قَتَلَ أَكْثَرَهُمْ، وَعَفَا عَنْ بَعْضِهِمْ، وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ يَوْمَ ظَهَرَ عَلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ نَادَى مُنَادِيهِ فِي النَّاسِ: مَنْ رَجَعَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ لَحِقَ بِقُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ بِالرَّيِّ فَهُوَ آمِنٌ، فَلَحِقَ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَأَمَّنَهُمُ الْحَجَّاجُ، وَمَنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ شَرَعَ الْحَجَّاجُ فِي تَتَبُّعِهِمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، حَتَّى كَانَ آخِرَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَكَانَ الشَّعْبِيُّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ صَارَ إِلَى قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، فَذَكَرَهُ يَوْمًا الْحَجَّاجُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ سَارَ إِلَى قُتَيْبَةَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِالشَّعْبِيِّ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ، ثُمَّ قُلْتُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَمَرُونِي أَنْ أَعْتَذِرَ إِلَيْكَ بِغَيْرِ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَايْمُ اللَّهِ لَا أَقُولُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَّا الْحَقَّ، قَدْ وَاللَّهِ تَمَرَّدْنَا عَلَيْكَ، وَحَرَّضْنَا وَجَهَدْنَا كُلَّ الْجَهْدِ، فَمَا آلَوْنَا، فَمَا كُنَّا بِالْأَقْوِيَاءِ الْفَجَرَةِ، وَلَا بِالْأَتْقِيَاءِ الْبَرَرَةِ، وَلَقَدْ نَصَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا، وَأَظْفَرَكَ بِنَا، فَإِنْ سَطَوْتَ فَبِذُنُوبِنَا، وَمَا جَرَّتْ إِلَيْكَ أَيْدِينَا، وَإِنْ عَفَوْتَ عَنَّا فَبِحِلْمِكَ، وَبَعْدُ فَالْحُجَّةُ لَكَ عَلَيْنَا. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: أَنْتَ وَاللَّهِ يَا شَعْبِيُّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّنْ يَدْخُلُ عَلَيْنَا يَقْطُرُ سَيْفُهُ مِنْ دِمَائِنَا، ثُمَّ يَقُولُ: مَا فَعَلْتُ وَلَا شَهِدْتُ. قَدْ أَمِنْتَ

عِنْدَنَا يَا شَعْبِيُّ. قَالَ: فَانْصَرَفْتُ، فَلَمَّا مَشَيْتُ قَلِيلًا قَالَ: هَلُمَّ يَا شَعْبِيُّ. قَالَ: فَوَجَلَ لِذَلِكَ قَلْبِي، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ: قَدْ أَمِنْتَ يَا شَعْبِيُّ، فَاطْمَأَنَّتْ نَفْسِي. فَقَالَ: كَيْفَ وَجَدْتَ النَّاسَ بَعْدَنَا يَا شَعْبِيُّ؟ قَالَ: - وَكَانَ لِي مُكْرِمًا - فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، قَدِ اكْتَحَلْتُ بَعْدَكَ السَّهَرَ، وَاسْتَوْعَرْتُ السُّهُولَةَ، وَاسْتَوْخَمْتُ الْجَنَابَ، وَاسْتَحْلَسْتُ الْخَوْفَ، وَاسْتَحْلَيْتُ الْهَمَّ، وَفَقَدْتُ صَالِحَ الْإِخْوَانِ، وَلَمْ أَجِدْ مِنَ الْأَمِيرِ خَلَفًا. قَالَ: انْصَرِفْ يَا شَعْبِيُّ. فَانْصَرَفْتُ. وَرَوَاهُ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنِ السِّرِّيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ الْخَرْقَاءِ فِي الْفَرَائِضِ، وَهِيَ: أُمٌّ وَزَوْجٌ وَأُخْتٌ، وَمَا كَانَ يَقُولُهُ فِيهَا الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ،

وَكَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ قَوْلٌ فِيهَا، فَنَقَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ الشَّعْبِيُّ فِي سَاعَتِهِ، فَاسْتَحْسَنَ قَوْلَ عَلِيٍّ، وَحَكَمَ بِقَوْلِ عُثْمَانَ، وَأُطْلِقَ الشَّعْبِيُّ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْحَجَّاجَ قَتَلَ خَمْسَةَ آلَافِ أَسِيرٍ، مِمَّنْ سَيَّرَهُمْ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْكُوفَةِ فَدَخَلَهَا، فَجَعَلَ لَا يُبَايِعُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا قَالَ: أَتَشْهَدُ عَلَى نَفْسِكَ أَنَّكَ قَدْ كَفَرْتَ. فَإِذَا قَالَ: نَعَمْ. بَايَعَهُ، وَإِنْ أَبَى قَتَلَهُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، مِمَّنْ أَبَى أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكُفْرِ. قَالَ: فَأُتِيَ بِرَجُلٍ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: مَا أَظُنُّ هَذَا يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكُفْرِ; لِصَلَاحِهِ وَدِينِهِ، وَأَرَادَ الْحَجَّاجُ مُخَادَعَتَهُ، فَقَالَ: أَخَادِعِي أَنْتَ عَنْ نَفْسِي، أَنَا أَكْفَرُ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَأَكْفَرُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَنَمْرَودَ. قَالَ: فَضَحِكَ الْحَجَّاجُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مِخْنَفٍ، أَنَّ أَعْشَى هَمْدَانَ أُتِيَ بِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ، وَكَانَ قَدْ عَمِلَ قَصِيدَةً هَجَا فِيهَا الْحَجَّاجَ وَعَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، وَيَمْدَحُ فِيهَا ابْنَ الْأَشْعَثِ وَأَصْحَابُهُ، فَاسْتَنْشَدَهُ إِيَّاهَا فَأَنْشُدَهُ قَصِيدَةً طَوِيلَةً دَالِيَّةً، فِيهَا مَدْحٌ كَثِيرٌ لِعَبْدِ الْمَلِكِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، فَجَعَلَ أَهْلُ الشَّامِ يَقُولُونَ: قَدْ أَحْسَنَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: إِنَّهُ لَمْ يُحْسِنْ، إِنَّمَا يَقُولُ هَذَا مُصَانَعَةٌ. ثُمَّ أَلَحَّ عَلَيْهِ حَتَّى أَنْشُدَهُ قَصِيدَتَهُ الْأُخْرَى، فَلَمَّا أَنْشَدَهَا غَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَجَّاجُ، وَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَاسْمُ الْأَعْشَى هَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، أَبُو الْمُصْبِحِ الْهَمْدَانِيُّ،

الْكُوفِيُّ، الشَّاعِرُ، أَحَدُ الْفُصَحَاءِ الْبُلَغَاءِ الْمَشْهُورِينَ، وَقَدْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ وَعِبَادَةٌ فِي مُبْتَدَئِهِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ، وَأَقْبَلَ عَلَى الشِّعْرِ فَعُرِفَ بِهِ، وَقَدْ وَفَدَ عَلَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - وَهُوَ أَمِيرٌ بِحِمْصَ - فَامْتَدَحَهُ، وَكَانَ مَحْصُولُهُ فِي رِحْلَتِهِ إِلَيْهِ مِنْهُ وَمِنْ جُنْدِ حِمْصَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَ زَوْجَ أُخْتِ الشَّعْبِيِّ، كَمَا أَنَّ الشَّعْبِيَّ كَانَ زَوْجَ أُخْتِهِ أَيْضًا، وَكَانَ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَقَتَلَهُ الْحَجَّاجُ كَمَا ذَكَرْنَا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ وَهُوَ مُوَاقِفٌ لِابْنِ الْأَشْعَثِ بَعَثَ كَمِينًا يَأْتُونَ جَيْشَ ابْنِ الْأَشْعَثِ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ تَوَاقَفَ الْحَجَّاجُ وَابْنُ الْأَشْعَثِ، وَهَرَبَ الْحَجَّاجُ بِمَنْ مَعَهُ، وَتَرَكَ مُعَسْكَرَهُ، فَجَاءَ ابْنُ الْأَشْعَثِ فَاحْتَازَ مَا فِي الْمُعَسْكَرِ، وَبَاتَ فِيهِ، فَجَاءَتِ السَّرِيَّةُ إِلَيْهِمْ لَيْلًا، وَقَدْ وَضَعُوا أَسْلِحَتَهُمْ، فَمَالُوا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً، وَرَجَعَ الْحَجَّاجُ بِأَصْحَابِهِ فَأَحَاطُوا بِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَغَرِقَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي دِجْلَةَ وَدُجَيْلٍ، وَجَاءَ الْحَجَّاجُ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ فَقَتَلَ مَنْ وَجَدَهُ فِيهِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْأَعْيَانِ، وَاحْتَازُوهُ بِكَمَالِهِ، وَانْطَلَقَ ابْنُ الْأَشْعَثِ هَارِبًا فِي ثَلَاثمِائَةٍ، فَرَكِبُوا دُجَيْلًا فِي السُّفُنِ، وَعَقَرُوا دَوَابَّهُمْ، وَجَازَوْا إِلَى الْبَصْرَةِ، ثُمَّ سَارُوا مِنْ هُنَالِكَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مِنْ دُخُولِهِمْ بِلَادَ رُتْبِيلَ مَا كَانَ، ثُمَّ شَرَعَ الْحَجَّاجُ فِي تَتَبُّعِ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَقَتَلَهُمْ مَثْنَى

وَفُرَادَى، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِنْهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَبْرًا مِائَةَ أَلْفٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. قَالَهُ النَّضِرُ بْنُ شُمَيْلٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ. مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ، وَجَمَاعَاتٌ مِنَ السَّادَاتِ، حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُمْ، كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.

بِنَاءُ وَاسِطٍ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَنَى الْحَجَّاجُ وَاسِطًا، وَكَانَ سَبَبَ بِنَائِهِ لَهَا أَنَّهُ رَأَى رَاهِبًا عَلَى أَتَانٍ قَدْ أَجَازَ دِجْلَةَ، فَلَمَّا مَرَّ بِمَوْضِعِ وَاسِطٍ وَقَفَتْ أَتَانُهُ فَبَالَتْ، فَنَزَلَ عَنْهَا وَعَمَدَ إِلَى مَوْضِعِ بَوْلِهَا فَاحْتَفَرَهُ، وَرَمَى بِهِ فِي دِجْلَةَ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: عَلَيَّ بِهِ. فَأُتِيَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا ؟ قَالَ: إِنَّا نَجِدُ فِي كُتُبِنَا أَنَّهُ يُبْنَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَسْجِدٌ يُعْبَدُ اللَّهُ فِيهِ مَا دَامَ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ يُوَحِّدُهُ. فَعِنْدَ ذَلِكَ اخْتَطَّ الْحَجَّاجُ مَدِينَةَ وَاسِطٍ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَبَنَى الْمَسْجِدَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ.
وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ عَطَاءِ بْنِ رَافِعٍ صَقَلِّيَةَ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حُجَيْرَةَ الْخَوْلَانِيُّ الْمِصْرِيُّ
رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ أَمِيرُ مِصْرَ قَدْ جَمَعَ لَهُ

بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْقَصَصِ وَبَيْتِ الْمَالِ، وَكَانَ رِزْقُهُ فِي الْعَامِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَ لَا يَدَّخِرُ مِنْهَا شَيْئًا.
طَارِقُ بْنُ شِهَابِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْأَحْمَسِيُّ
مِمَّنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَزَا فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِضْعًا وَأَرْبَعِينَ غَزَاةً، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ هَذِهِ السَّنَةَ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ
أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدَّثَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مِنْ فُقَهَاءِ قُرَيْشٍ وَعُلَمَائِهِمْ، وَأَبُوهُ عَدِيٌّ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ
كَانَ قَاضِي الْمَدِينَةِ، وَتُوُفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
مَرْثَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو الْخَيْرِ، الْيَزْنِيُّ
وَفِيهَا فُقِدَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ وَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ ; مِنْهُمْ

مَنْ هَرَبَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُسِرَ فَضَرَبَ الْحَجَّاجُ عُنُقَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَتَبَّعَهُ الْحَجَّاجُ حَتَّى قَتَلَهُ.
وَقَدْ سَمَّى مِنْهُمْ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ طَائِفَةً مِنَ الْأَعْيَانِ ; فَمِنْهُمْ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ الْمُزَنِيُّ، وَأَبُو مَرَّانَةَ الْعِجْلِيُّ قُتِلَ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَبْدِ الْغَافِرِ قُتِلَ، وَعُقْبَةُ بْنُ وَسَّاجٍ قُتِلَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ غَالِبٍ الْجَهْضَمِيُّ قُتِلَ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ الرَّبَعِيُّ قُتِلَ، وَالنَّضِرُ بْنُ أَنَسٍ، وَعِمْرَانُ وَالِدُ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ، وَأَبُو الْمِنْهَالِ سَيَّارُ بْنُ سَلَامَةَ الرِّيَاحِيُّ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَمُرَّةُ بْنُ دِبَابٍ الْهَدَادِيُّ، وَأَبُو نُجَيْدٍ الْجَهْضَمِيُّ، وَأَبُو شَيْخٍ الْهَنَائِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، وَأَخُوهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.
قَالَ أَيُّوبُ: قِيلَ لِابْنِ الْأَشْعَثِ: إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يُقْتَلَ النَّاسُ حَوْلَكَ كَمَا

قُتِلُوا حَوْلَ هَوْدَجِ عَائِشَةَ يَوْمَ الْجَمَلِ فَأَخْرِجِ الْحَسَنَ مَعَكَ، فَأَخْرَجَهُ.
وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالْمَعْرُورُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفِ، وَزُبَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ الْيَامِيَّانِ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ. قَالَ أَيُّوبُ: فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ صُرِعَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ إِلَّا رَغِبَ عَنْ مَصْرَعِهِ، وَلَا نَجَا أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا حَمِدَ اللَّهَ الَّذِي سَلَّمَهُ.
وَمِنْ أَعْيَانِ مَنْ قَتَلَ الْحَجَّاجُ
عِمْرَانُ بْنُ عِصَامٍ الضُّبَعِيُّ
وَالِدُ أَبِي جَمْرَةَ، كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ صَالِحًا عَابِدًا، أُتِيَ بِهِ أَسِيرًا إِلَى الْحَجَّاجِ، فَقَالَ لَهُ: اشْهَدْ عَلَى نَفْسِكَ بِالْكُفْرِ حَتَّى أُطْلِقَكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي مَا كَفَرْتُ بِاللَّهِ مُنْذُ آمَنْتُ بِهِ. فَأَمَرَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى
رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلِأَبِيهِ

أَبِي لَيْلَى صُحْبَةٌ، أَخَذَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْقُرْآنَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. خَرَجَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ فَأُتِيَ بِهِ الْحَجَّاجُ أَسِيرًا، فَضُرِبَ عُنُقُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَبْرًا.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فِيهَا افْتَتَحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ الْمِصِّيصَةَ.
وَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ أَرْمِينِيَّةَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَحَرَّقَ كَنَائِسَهُمْ، وَضِيَاعَهُمْ. وَتُسَمَّى سَنَةَ الْحَرِيقِ.
وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الْحَجَّاجُ عَلَى فَارِسَ مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ الثَّقَفِيَّ وَأَمَرَهُ بِقَتْلِ الْأَكْرَادِ.
وَفِيهَا وَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ التُّجَيْبِيَّ، وَعَزَلَ عَنْهَا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ أَبِي الْكَنُودِ الَّذِي كَانَ قَدْ وَلِيَهَا فِي الْعَامِ الْمَاضِي.
وَفِيهَا افْتَتَحَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ طَائِفَةً مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ مِنْ ذَلِكَ بَلَدُ أَوْرَبَةَ، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا بَشَرًا كَثِيرًا جِدًّا، وَأَسَرَ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا.
وَفِيهَا قَتَلَ الْحَجَّاجُ أَيْضًا جَمَاعَةً مِنْ رُؤَسَاءِ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ مِنْهُمْ:
أَيُّوبُ بْنُ الْقِرِّيَّةِ
وَكَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا وَاعِظًا، قَتَلَهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ،

وَيُقَالُ: إِنَّهُ نَدِمَ عَلَى قَتْلِهِ، وَهُوَ أَيُّوبُ بْنُ زَيْدِ بْنِ قَيْسٍ أَبُو سُلَيْمَانَ الْهِلَالِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْقِرِّيَّةِ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَسَعْدُ بْنُ إِيَاسٍ الشَّيْبَانِيُّ.
وَأَبُو عِنَبَةَ الْخَوْلَانِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، سَكَنَ حِمْصَ، وَبِهَا تُوُفِّيَ، وَقَدْ قَارَبَ الْمِائَةَ سَنَةٍ. عَبْدُ اللَّهِ بْنِ قَتَادَةَ.
وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ جَمَاعَةٌ ; مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ تُوُفِّيَ
أَبُو زُرْعَةَ الْجُذَامِيُّ الْفِلَسْطِينِيُّ
كَانَ ذَا مَنْزِلَةٍ عِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ فَخَافَ مِنْهُ مُعَاوِيَةُ، فَفَهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ أَبُو زُرْعَةَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَهْدِمْ رُكْنًا بَنَيْتَهُ، وَلَا تُحْزِنُ صَاحِبًا سَرَرْتَهُ، وَلَا تُشْمِتْ عَدُوًّا كَبَتَّهُ، فَكَفَّ عَنْهُ مُعَاوِيَةُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
عُتْبَةُ بْنُ النَّدْرِ السُّلَمِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ.

عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ الْخَارِجِيُّ
كَانَ أَوَّلًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الْخَوَارِجِ حَسَنَةً جَمِيلَةً جِدًّا فَأَحَبَّهَا، وَكَانَ هُوَ دَمِيمَ الشَّكْلِ، فَأَرَادَ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى السُّنَّةِ فَأَبَتْ، فَارْتَدَّ مَعَهَا إِلَى مَذْهَبِهَا. وَقَدْ كَانَ مِنَ الشُّعَرَاءِ الْمُطْبِقِينَ، وَهُوَ الْقَائِلُ فِي قَتْلِ عَلِيٍّ وَقَاتِلِهِ:
يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ رِضْوَانَا إِنِّي لَأَذْكُرهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ
أَوْفَى الْبَرِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانَا أَكْرِمْ بِقَوْمٍ بُطُونُ الطَّيْرِ قَبْرُهُمُ
لَمْ يَخْلِطُوا دِينَهُمُ بَغْيًا وَعُدْوَانَا
وَقَدْ كَانَ الثَّوْرِيُّ يَتَمَثَّلُ بِأَبْيَاتِهِ هَذِهِ فِي الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ قَوْلُهُ:
أَرَى أَشْقِيَاءَ النَّاسِ لَا يَسْأَمُونَهَا عَلَى أَنَّهُمْ فِيهَا عُرَاةٌ وَجُوَّعُ
أَرَاهَا وَإِنْ كَانَتْ تُحَبُّ فَإِنَّهَا سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَلِيلٍ تَقَشَّعُ
كَرَكْبٍ قَضَوْا حَاجَاتِهِمْ وَتَرَّحَلُوا طَرِيقَهُمُ بَادِي الْعَلَامَةِ مَهْيَعُ

مَاتَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي أَبْيَاتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَتْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِأَبْيَاتٍ عَلَى قَافِيَتِهَا وَوَزْنِهَا:
بَلْ ضَرْبَةٌ مِنْ شَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ خُسْرَانَا
إِنِّي لَأَذْكُرُهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ أَشْقَى الْبَرِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانَا
رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ
كَانَ مِنْ أُمَرَاءِ الشَّامِ، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَسْتَشِيرُهُ فِي أُمُورِهِ.
وَفِيهَا كَانَ مَهْلِكُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا فَاللَّهُ أَعْلَمُ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَتَبَ إِلَى رُتْبِيلَ مَلِكِ التُّرْكِ الَّذِي لَجَأَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَيْهِ يَقُولُ لَهُ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَئِنْ لَمْ تَبْعَثْ إِلَيَّ بِابْنِ الْأَشْعَثِ لَأَبْعَثَنَّ إِلَى بِلَادِكَ أَلْفَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَلِأُخَرِّبَنَّهَا. فَلَمَّا تَحَقَّقَ الْوَعِيدُ مِنَ الْحَجَّاجِ اسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ ابْنِ الْأَشْعَثِ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُخَرِّبَ الْحَجَّاجُ دِيَارَهُ، وَيَأْخُذَ عَامَّةَ أَمْصَارِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْحَجَّاجِ يَشْتَرِطُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ عَشْرَ سِنِينَ، وَأَنْ لَا يُؤَدِّيَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْهَا إِلَّا مِائَةَ أَلْفٍ مِنَ الْخَرَاجِ، فَأَجَابَهُ الْحَجَّاجُ إِلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحَجَّاجَ وَعْدَهُ أَنْ

يُطْلِقَ لَهُ خَرَاجَ أَرْضِهِ سَبْعَ سِنِينَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ غَدَرَ رُتْبِيلُ بِابْنِ الْأَشْعَثِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ وَقِيلَ: بَلْ كَانَ ابْنُ الْأَشْعَثِ قَدْ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا فَقَتَلَهُ وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ قَبَضَ عَلَيْهِ وَعَلَى ثَلَاثِينَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ فَقَيَّدَهُمْ فِي الْأَصْفَادِ، وَبَعَثَ بِهِمْ مَعَ رُسُلِ الْحَجَّاجِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الرُّخَّجُ، صَعِدَ ابْنُ الْأَشْعَثِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالْحَدِيدِ إِلَى سَطْحِ قَصْرٍ، وَمَعَهُ رَجُلٌ مُوكَّلٌ بِهِ; لِئَلَّا يَفِرَّ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ الْقَصْرِ، وَسَقَطَ مَعَهُ الْمُوكَّلُ بِهِ فَمَاتَا جَمِيعًا، فَعَمَدَ الرَّسُولُ إِلَى رَأْسِ ابْنِ الْأَشْعَثِ فَاحْتَزَّهُ، وَقَتَلَ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَبَعَثَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَأَمَرَ فَطِيفَ بِرَأْسِهِ فِي الْعِرَاقِ، ثُمَّ بَعَثَهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ فَطِيفَ بِرَأْسِهِ فِي الشَّامِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِمِصْرَ فَطِيفَ بِرَأْسِهِ هُنَالِكَ، ثُمَّ دَفَنُوا رَأْسَهُ بِمِصْرَ وَجُثَّتَهُ بِالرُّخَّجِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ:
هَيْهَاتَ مَوْضِعُ جُثَّةٍ مِنْ رَأْسِهَا رَأْسٌ بِمِصْرَ وَجُثَّةٌ بِالرُّخَّجِ
وَإِنَّمَا ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مَقْتَلَ ابْنِ الْأَشْعَثِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَيْسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، الْكِنْدِيُّ الْكُوفِيُّ، قَدْ رَوَى

لَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، حَدِيثُ: إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ، فَالْقَوْلُ مَا قَالَ الْبَائِعُ، أَوْ يَتَتَارَكَانِ وَعَنْهُ أَبُو الْعُمَيْسِ وَيُقَالُ: إِنَّ الْحَجَّاجَ قَتَلَهُ بَعْدَ التِّسْعِينَ سَنَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوهُ بِالْإِمَارَةِ، وَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ وَإِنَّمَا هُوَ كِنْدِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ الصَّحَابَةُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ عَلَى أَنَّ الْإِمَارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي قُرَيْشٍ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمُ الصِّدِّيقُ بِالْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الْأَنْصَارَ سَأَلُوا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ أَمِيرٌ مَعَ أَمِيرِ الْمُهَاجِرِينَ، فَأَبَى الصِّدِّيقُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ ضَرَبَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ - الَّذِي دَعَا إِلَى ذَلِكَ أَوَّلًا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ - كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَكَيْفَ يَعْمِدُونَ إِلَى خَلِيفَةٍ قَدْ بُويِعَ لَهُ بِالْإِمَارَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ سِنِينَ، فَيَعْزِلُونَهُ وَهُوَ مِنْ صَلِيبَةِ قُرَيْشٍ، وَيُبَايِعُونَ لِرَجُلٍ كِنْدِيٍّ بَيْعَةً لَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهَا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ؟ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ زَلَّةٌ وَفَلْتَةٌ نَشَأَ بِسَبَبِهَا شَرٌّ كَثِيرٌ هَلَكَ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
أَيُّوبُ ابْنُ الْقِرِّيَّةِ
وَهِيَ أُمُّهُ، وَاسْمُ أَبِيهِ يَزِيدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، النَّمِرِيُّ الْهِلَالِيُّ، كَانَ أَعْرَابِيًّا أُمِّيًّا، وَكَانَ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي فَصَاحَتِهِ وَبَيَانِهِ وَبَلَاغَتِهِ، صَحِبَ الْحَجَّاجَ، وَوَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ بَعَثَهُ رَسُولًا إِلَى ابْنِ

الْأَشْعَثِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْأَشْعَثِ: لَئِنْ لَمْ تَقُمْ خَطِيبًا فَتَخْلَعُ الْحَجَّاجَ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ. فَفَعَلَ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ فَلَمَّا ظَهَرَ الْحَجَّاجُ اسْتَحْضَرَهُ، وَجَرَتْ لَهُ مَعَهُ مَقَامَاتٌ وَمَقَالَاتٌ فِي الْكَلَامِ، ثُمَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ ضَرَبَ عُنُقَهُ، وَنَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ ضَرْبِ عُنُقِهِ، وَلَكِنْ نَدِمَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ كَمَا قِيلَ:
وَجَادَتْ بِوَصْلٍ حِينَ لَا يَنْفَعُ الْوَصْلُ
وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ خَلِّكَانَ فِي الْوَفِيَّاتِ، وَأَطَالَ تَرْجَمَتَهُ، وَذَكَرَ فِيهَا أَشْيَاءَ حَسَنَةً. قَالَ: والْقِرِّيَّةُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهِيَ جَدَّتُهُ، وَاسْمُهَا خُمَاعَةُ بِنْتُ جُشَمَ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ وَجُودَهُ، وَوُجُودَ مَجْنُونِ لَيْلَى، وَابْنِ أَبِي الْعَقَبِ صَاحِبِ الْمَلْحَمَةِ، وَهُوَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْعَقَبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
رَوحُ بْنُ زِنْبَاعِ بْنِ سَلَامَةَ الْجُذَامِيُّ أَبُو زُرْعَةَ
وَيُقَالُ: أَبُو زِنْبَاعٍ الدِّمَشْقِيُّ، دَارُهُ بِدِمَشْقَ فِي طَرَفِ الْبُزُورِيِّينَ، عِنْدَ دَارِ ابْنِ

أَبِي الْعَقَبِ صَاحِبِ الْمَلْحَمَةِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ - وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَمُعَاوِيَةُ، وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ وَغَيْرُهُمْ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عُبَادَةُ بْنُ نُسَيٍّ.
كَانَ رَوْحٌ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ كَالْوَزِيرِ; لَا يَكَادُ يُفَارِقُهُ، وَكَانَ مَعَ أَبِيهِ مَرْوَانَ يَوْمَ مَرْجِ رَاهِطٍ وَقَدْ أَمَّرَهُ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَلَى جُنْدِ فِلَسْطِينَ. وَزَعَمَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَنَّ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ كَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَلَمْ يُتَابَعْ مُسْلِمٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَابِعِيٌّ وَلَيْسَ بِصَحَابِيٍّ.
وَمِنْ مَآثِرِهِ الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا خَرَجَ مِنَ الْحَمَّامِ يُعْتِقُ نِسْمَةً. قَالَ ابْنُ زَبْرٍ: مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ بِالْأُرْدُنِّ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ بَقِيَ إِلَى أَيَّامِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ.
وَقَدْ حَجَّ مَرَّةً، فَنَزَلَ عَلَى مَاءٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَأَمَرَ فَأُصْلِحَتْ لَهُ أَطْعِمَةٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ، ثُمَّ وُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَأْكُلُ إِذْ جَاءَ رَاعٍ مِنَ الرُّعَاةِ يَرِدُ الْمَاءَ، فَدَعَاهُ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ إِلَى الْأَكْلِ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَجَاءَ الرَّاعِي فَنَظَرَ إِلَى طَعَامِهِ، وَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ. فَقَالَ لَهُ رَوْحٌ: فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ الطَّوِيلِ الشَّدِيدِ الْحَرِّ تَصُومُ يَا رَاعِي؟ فَقَالَ الرَّاعِي: أَفَأَغْبِنُ أَيَّامِي مِنْ أَجْلِ طُعَيِّمَكَ؟ ثُمَّ إِنَّ الرَّاعِيَ ارْتَادَ لِنَفْسِهِ مَكَانًا فَنَزَلَهُ، وَتَرَكَ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ، فَقَالَ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ:

لَقَدْ ضَنِنْتَ بِأَيَّامِكَ يَا رَاعِي إِذْ جَادَ بِهَا رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعِ
ثُمَّ إِنَّ رَوْحًا بَكَى طَوِيلًا، وَأَمَرَ بِتِلْكَ الْأَطْعِمَةِ فَرُفِعَتْ، وَقَالَ: انْظُرُوا، هَلْ تَجِدُونَ لَهَا آكِلًا مِنْ هَذِهِ الْأَعْرَابِ أَوِ الرُّعَاةِ؟ ثُمَّ سَارَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَقَدْ أَخَذَ الرَّاعِي بِمَجَامِعِ قَلْبِهِ، وَصَغُرَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ
فِيهَا - كَمَا ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ - كَانَ مَقْتَلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ الْكِنْدِيِّ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهَا عَزَلَ الْحَجَّاجُ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا أَخَاهُ الْمُفَضَّلَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ وَفِدَ مَرَّةً عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمَّا انْصَرَفَ مَرَّ بِدَيْرٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فِيهِ شَيْخًا كَبِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَالِمًا. فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ: يَا شَيْخُ، هَلْ تَجِدُونَ فِي كُتُبِكُمْ مَا أَنْتُمْ فِيهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ لَهُ: فَمَا تَجِدُونَ صِفَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: نَجِدُهُ مَلِكًا أَقْرَعَ مَنْ يَقُمْ بِسَبِيلِهِ يُصْرَعُ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْوَلِيدُ. قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ رَجُلٌ اسْمُهُ اسْمُ نَبِيٍّ، يَفْتَحُ بِهِ عَلَى النَّاسِ. قَالَ: أَفَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: قَدْ أُخْبِرْتُ بِكَ. قَالَ: أَفَتَعْرِفُ مَا أَلِي؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَنْ يَلِي الْعِرَاقَ بَعْدِي؟ قَالَ: رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: يَزِيدُ. قَالَ: أَفِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِي؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. قَالَ: أَفَتَعْرِفُ صِفَتَهُ؟ قَالَ: يَغْدِرُ غَدْرَةً لَا أَعْرِفُ غَيْرَهَا.

قَالَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، وَسَارَ سَبْعًا وَهُوَ وَجِلٌ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَسْتَعْفِيهِ مِنْ وِلَايَةِ الْعِرَاقِ ; لِيَعْلَمَ مَكَانَتَهُ عِنْدَهُ، فَجَاءَ الْكِتَابُ بِالتَّقْرِيعِ وَالتَّأْنِيبِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ جَلَسَ يَوْمًا مُفَكِّرًا، وَاسْتَدْعَى بِعُبَيْدِ بْنِ مَوْهَبٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا عُبَيْدُ، إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَذْكُرُونَ أَنَّ مَا تَحْتَ يَدِي سَيَلِيهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: يَزِيدُ. وَقَدْ تَذَكَّرْتُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي كَبْشَةَ وَيَزِيدَ بْنَ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَيَزِيدَ بْنَ دِينَارٍ، فَلَيْسُوا هُنَاكَ وَمَا هُوَ - إِنْ كَانَ - إِلَّا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، فَقَالَ عُبَيْدٌ: لَقَدْ شَرَّفْتَهُمْ، وَعَظَّمْتَ وِلَايَتَهُمْ، وَإِنَّ لَهُمْ لَعَدَدًا وَجَلَدًا وَحَظًّا فَأَخْلِقْ بِهِ. فَأَجْمَعَ رَأْيُ الْحَجَّاجِ عَلَى عَزْلِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَذُمُّهُ وَيُخَوِّفُهُ غَدْرُهُ، وَيُخْبِرُهُ بِمَا أَخْبَرَهُ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْخُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: قَدْ أَكْثَرْتَ فِي شَأْنِ يَزِيدَ، فَسَمِّ رَجُلًا يَصْلُحُ لِخُرَاسَانَ، فَوَقَعَ اخْتِيَارُ الْحَجَّاجِ عَلَى الْمُفَضَّلِ بْنِ الْمُهَلَّبِ، فَوَلَّاهُ قَلِيلًا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، فَغَزَا بَاذَغِيسَ وَغَيْرَهَا، وَغَنِمَ مَغَانِمَ كَثِيرَةً، وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ ثُمَّ عَزَلَهُ بِقُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ مُوسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ بِتِرْمِذَ.

ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ ذَلِكَ، وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّهُ بَعْدَ مَقْتَلِ أَبِيهِ لَمْ يَبْقَ بِيَدِهِ بَلَدٌ يَلْجَأُ إِلَيْهِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَعَلَ كُلَّمَا اقْتَرَبَ مِنْ بَلْدَةٍ خَرَجَ إِلَيْهِ مَلِكُهَا فَقَاتَلَهُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ تِرْمِذَ، وَكَانَ مَلِكُهَا فِيهِ ضَعْفٌ، فَجَعَلَ يُهَادِنُهُ وَيَبْعَثُ إِلَيْهِ بِالْأَلْطَافِ وَالتُّحَفِ، حَتَّى جَعَلَ يَتَصَيَّدُ هُوَ وَهُوَ، ثُمَّ عَنَّ لِلْمَلِكِ فَعَمِلَ لَهُ طَعَامًا، وَبَعَثَ إِلَى مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ: أَنِ ائْتِنِي فِي مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِكَ، فَاخْتَارَ مُوسَى مِنْ جَيْشِهِ مِائَةً مِنْ شُجْعَانِهِمْ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَلَدَ، فَأَكَلَ مِنْ طَعَامِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا فَرَغَتِ الضِّيَافَةُ اضْطَجَعَ مُوسَى عَلَى جَنْبِهِ فِي دَارِ الْمَلِكِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَقْوَمُ مِنْ هُنَا حَتَّى يَكُونَ هَذَا الْمَنْزِلُ مَنْزِلِي، أَوْ يَكُونَ قَبْرِي، فَثَارَ أَهْلُ الْقَصْرِ إِلَيْهِ فَحَاجَفَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ وَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ تِرْمِذَ، فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ تِرْمِذَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَهَرَبَ بَقِيَّتُهُمْ، وَاسْتَدْعَى مُوسَى بَقِيَّةَ جَيْشِهِ إِلَيْهِ، وَاسْتَحْوَذَ مُوسَى عَلَى الْبَلَدِ فَحَصَّنَهَا وَمَنَعَهَا مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَخَرَجَ مِنْهَا مَلِكُهَا هَارِبًا، فَلَجَأَ إِلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْأَتْرَاكِ فَاسْتَنْصَرَهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ فِي نَحْوٍ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ بَلَدِكُمْ لَا طَاقَةَ لَنَا بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ. ثُمَّ ذَهَبَ مَلِكُ تِرْمِذَ إِلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنَ التُّرْكِ فَاسْتَصْرَخَهُمْ، فَبَعَثُوا مَعَهُ قُصَّادًا نَحْوَ مُوسَى ; لِيَسْمَعُوا كَلَامَهُ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِقُدُومِهِمْ - وَكَانَ ذَلِكَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ - أَمْرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُؤَجِّجُوا نَارًا، وَيَلْبَسُوا ثِيَابَ الشِّتَاءِ، وَيُدْنُوا أَيْدِيَهُمْ مِنَ النَّارِ كَأَنَّهُمْ يَصْطَلُونَ بِهَا، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ، رَأَوْا أَصْحَابَهُ وَمَا يَصْنَعُونَ

فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فَقَالُوا لَهُمْ: مَا هَذَا الَّذِي تَفْعَلُونَهُ ؟ فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا نَجِدُ الْبَرْدَ فِي الصَّيْفِ وَالْكُرْبَ فِي الشِّتَاءِ، فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا: مَا هَؤُلَاءِ بَشَرٌ، مَا هَؤُلَاءِ إِلَّا جِنٌّ. ثُمَّ عَادُوا إِلَى مَلِكِهِمْ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا رَأَوْا، فَقَالُوا: لَا طَاقَةَ لَنَا بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ. ثُمَّ ذَهَبَ صَاحِبُ تِرْمِذَ فَاسْتَجَاشَ بِطَائِفَةٍ أُخْرَى، فَجَاءُوا فَحَاصَرُوهُمْ بِتِرْمِذَ، وَجَاءَ الْخُزَاعِيُّ فَحَاصَرَهُمْ أَيْضًا، فَجَعَلَ يُقَاتِلُ الْخُزَاعِيَّ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَيُقَاتِلُ آخِرَهُ الْعَجَمَ، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى بَيَّتَهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَأَفْزَعَ ذَلِكَ عُمَرَ الْخُزَاعِيَّ فَصَالَحَهُ، وَكَانَ مَعَهُ، فَدَخَلَ يَوْمًا عَلَيْهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَلَيْسَ يَرَى مَعَهُ سِلَاحًا، فَقَالَ عَلَى وَجْهِ النُّصْحِ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، إِنَّ مِثْلَكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِلَا سِلَاحٍ. فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي سِلَاحًا. ثُمَّ رَفَعَ صَدْرَ فِرَاشِهِ فَإِذَا سَيْفُهُ مُنْتَضًى، فَأَخَذَهُ عُمَرُ، فَضَرْبَهُ بِهِ حَتَّى بَرَدَ، وَخَرَجَ هَارِبًا، ثُمَّ تَفَرَّقَ أَصْحَابُ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَمَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى عَزْلِ أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ عَنْ إِمْرَةِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَحَسَّنَ لَهُ ذَلِكَ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ، فَبَيْنَمَا هُمَا فِي ذَلِكَ إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِمَا قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ فِي اللَّيْلِ، وَكَانَ لَا يُحْجَبُ عَنْهُ أَيَّ سَاعَةٍ جَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، فَعَزَّاهُ فِي أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الْعَزْمِ عَلَى عَزْلِهِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى إِرَادَةِ عَزْلِهِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَعْهَدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِأَوْلَادِهِ ; الْوَلِيدِ ثُمَّ سُلَيْمَانَ ثُمَّ يَزِيدَ ثُمَّ هِشَامٍ، وَذَلِكَ عَنْ رَأْيِ الْحَجَّاجِ وَتَرْتِيبِهِ ذَلِكَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ أَبُوهُ مَرْوَانُ

عَهِدَ بِالْأَمْرِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَرَادَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَنْ يُنَحِّيَهُ عَنِ الْإِمْرَةِ مِنْ بَعْدِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَيَجْعَلَ الْأَمْرَ فِي أَوْلَادِهِ وَعَقِبِهِ، وَأَنْ تَكُونَ الْخِلَافَةُ بَاقِيَةً فِيهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، أَبُو الْأَصْبَغِ، الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، وُلِدَ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ دَخَلَ الشَّامَ مَعَ أَبِيهِ مَرْوَانَ، وَكَانَ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِ أَخِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَوَلَّاهُ أَبُوهُ إِمْرَةَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، فَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهَا إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، وَشَهِدَ قَتْلَ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَانَتْ لَهُ دَارٌ بِدِمَشْقَ، وَهِيَ الدَّارُ الَّتِي لِلصُّوفِيَّةِ الْيَوْمَ، الْمَعْرُوفَةُ بِالْخَانَقَاهِ السُّمَيْسَاطِيَّةِ، ثُمَّ كَانَتْ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثُمَّ تَنَقَّلَتْ إِلَى أَنْ صَارَتْ خَانِقَاهَ لِلصُّوفِيَّةِ.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَحَدِيثُهُ عَنْهُ فِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ "، وَ " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ "، أَنَّ

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ. وَعَنْهُ ابْنُهُ عُمَرُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ رَبَاحٍ، وَجَمَاعَةٌ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً قَلِيلَ الْحَدِيثِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ يَلْحَنُ فِي الْحَدِيثِ وَفِي كَلَامِهِ، ثُمَّ تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ فَأَتْقَنَهَا وَأَحْسَنَهَا، فَكَانَ مِنْ أَفْصَحِ النَّاسِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ يَشْكُو خَتَنَهُ - وَهُوَ زَوْجُ ابْنَتِهِ - فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ مَنْ خَتَنَكَ ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: خَتَنَنِي الْخَاتِنُ الَّذِي يَخْتِنُ النَّاسَ. فَقَالَ لِكَاتِبِهِ: وَيْحَكَ، بِمَاذَا أَجَابَنِي ؟ فَقَالَ الْكَاتِبُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ مَنْ خَتَنُكَ ؟ فَآلَى عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ حَتَّى يَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ، فَمَكَثَ جُمُعَةً وَاحِدَةً فَتَعَلَّمَهَا، فَخَرَجَ وَهُوَ مِنْ أَفْصَحِ النَّاسِ، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَجْزِلُ عَطَاءَ مَنْ يُعْرِبُ كَلَامَهُ، وَيَنْقُصُ عَطَاءَ مَنْ يَلْحَنُ فِيهِ ; فَتَسَارَعَ النَّاسُ فِي زَمَانِهِ إِلَى تَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ، قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ يَوْمًا لِرَجُلٍ: مِمَّنْ أَنْتَ ؟ قَالَ مِنْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ. فَقَالَ: تَجِدُهَا فِي جَائِزَتِكَ، فَنَقَصَهُ مِائَةَ دِينَارٍ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ

يُوسُفَ، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: ارْفَعْ إِلَيَّ حَاجَتَكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ. وَلَسْتُ أَسْأَلُكَ شَيْئًا، وَلَا أَرُدُّ رِزْقًا رَزَقَنِيهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْكَ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سُوِيدِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: بَعَثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ بِأَلْفِ دِينَارٍ إِلَى ابْنِ عُمَرَ. قَالَ: فَجِئْتُهُ، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ الْكِتَابَ. فَقَالَ: أَيْنَ الْمَالُ ؟ فَقُلْتُ: لَا أَسْتَطِيعُهُ اللَّيْلَةَ حَتَّى أُصْبِحَ. قَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا يَبِيتُ ابْنُ عُمَرَ اللَّيْلَةَ وَلَهُ أَلْفُ دِينَارٍ. قَالَ: فَدَفَعَ إِلَيَّ الْكِتَابَ حَتَّى جِئْتُهُ بِهَا، فَفَرَّقَهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَمِنْ كَلَامِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: عَجَبًا لِمُؤْمِنٍ يُؤْمِنُ وَيُوقِنُ أَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُهُ وَيُخْلِفُ عَلَيْهِ، كَيْفَ يَحْبِسُ مَالًا عَنْ عَظِيمِ أَجْرٍ وَحُسْنِ سَمَاعٍ. وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أُحْضِرَ لَهُ مَالٌ يَخُصُّهُ، وَإِذَا هُوَ ثَلَاثُمِائَةِ مُدْيٍ مِنْ ذَهَبَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهُ بَعْرٌ حَائِلٌ بِنَجْدٍ. وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَلَوَدِدْتُ أَنْ أَكُونَ هَذَا الْمَاءَ الْجَارِيَ، أَوْ نَبَاتَةً بِأَرْضِ الْحِجَازِ.

وَقَالَ: ائْتُونِي بِكَفَنِي الَّذِي تُكَفِّنُونِي فِيهِ. فَجَعَلَ يَقُولُ: أُفٍّ لَكَ مَا أَقْصَرَ طَوِيلَكَ، وَأَقَلَّ كَثِيرَكَ !
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ: كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَهَذَا وَهْمٌ مِنْ يَعْقُوبَ، وَالصَّوَابُ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ ; فَإِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخِيهِ، وَمَاتَ عَبْدُ الْمَلِكِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ.
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ، كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا، وَهُوَ وَالِدُ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَدِ اكْتَسَى عُمْرُ أَخْلَاقَ أَبِيهِ، وَزَادَ عَلَيْهِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ لِعَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ الْأَوْلَادِ غَيْرُ عُمْرَ: عَاصِمٌ وَأَبُو بَكْرٍ وَمُحَمَّدٌ وَالْأَصْبَغُ - مَاتَ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ حُزْنًا كَثِيرًا، وَمَرِضَ بَعْدَهُ وَمَاتَ - وَسُهَيْلٌ، وَكَانَ لَهُ عِدَّةُ بَنَاتٍ: أُمُّ مُحَمَّدٍ، وَأُمُّ عُثْمَانَ، وَأُمُّ الْحَكَمِ، وَأُمُّ الْبَنِينَ، وَهُنَّ مِنْ أُمَّهَاتٍ شَتَّى، وَلَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ غَيْرُ هَؤُلَاءِ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ الَّتِي بَنَاهَا عَلَى مَرْحَلَةٍ مِنْ مِصْرَ، وَحُمِلَ إِلَى مِصْرَ فِي النِّيلِ، وَدُفِنَ بِهَا، وَقَدْ تَرَكَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَثَاثِ وَالدَّوَابِّ ; مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْإِبِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يَعْجَزُ عَنْهُ الْوَصْفُ، مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ: ثَلَاثُمِائَةِ مُدِّ ذَهَبٍ غَيْرُ الْوَرِقِ، مَعَ جُودِهِ وَكَرَمِهِ وَبَذْلِهِ وَعَطَايَاهُ الْجَزِيلَةِ ; فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَعْطَى النَّاسَ لِلْجَزِيلِ،

رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَنْزِلَ عَنِ الْعَهْدِ الَّذِي لَهُ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ الْوَلِيدِ، أَوْ يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، فَإِنَّهُ أَعَزُّ الْخَلْقِ عَلَيَّ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ يَقُولُ: إِنِّي أَرَى فِي أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا تَرَى فِي الْوَلِيدِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ يَأْمُرُهُ بِحَمْلِ خَرَاجِ مِصْرَ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ لَا يَحْمِلُ إِلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْخَرَاجِ وَلَا غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ بِلَادُ مِصْرَ بِكَمَالِهَا وَبِلَادُ الْمَغْرِبِ وَغَيْرُ ذَلِكَ كُلُّهَا لِعَبْدِ الْعَزِيزِ ; مَغَانِمُهَا وَخَرَاجُهَا وَحِمْلُهَا، فَكَتَبَ عَبْدُ الْعَزِيزِ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ: إِنِّي وَإِيَّاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ بَلَغْنَا سِنًّا لَمْ يَبْلُغْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ إِلَّا كَانَ بَقَاؤُهُ قَلِيلًا، وَإِنِّي لَا أَدْرِي وَلَا تَدْرِي أَيُّنَا يَأْتِيهِ الْمَوْتُ أَوَّلًا ; فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ لَا تُغَثِّثَ عَلَيَّ بَقِيَّةَ عُمْرِي فَافْعَلْ. فَرَقَّ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَقَالَ: لَعَمْرِي لَا أُغَثِّثُ عَلَيْكَ بَقِيَّةَ عُمْرِكَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِابْنِهِ الْوَلِيدِ: إِنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُعْطِيَكَهَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الْعِبَادِ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ عَنْكَ. وَقَالَ لِابْنَيْهِ الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ: هَلْ قَارَفْتُمَا

مُحَرَّمًا أَوْ حَرَامًا قَطُّ ؟ قَالَا: لَا وَاللَّهِ. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، نِلْتُمَاهَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
وَيُقَالُ: إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ لَمَّا امْتَنَعَ أَخُوهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ مِنْ إِجَابَتِهِ إِلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ مِنْ بَيْعَتِهِ لِوَلَدِهِ الْوَلِيدِ دَعَا عَلَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ قَطَعَنِي فَاقْطَعْهُ. فَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَلَمَّا جَاءَهُ الْخَبَرُ بِمَوْتِ أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيْلًا حَزِنَ وَبَكَى، وَبَكَى أَهْلُهُ بُكَاءً كَثِيرًا عَلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَلَكِنْ سَرَّهُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ ابْنَيْهِ الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ ; فَإِنَّهُ نَالَ فِيهِمَا مَا كَانَ يُؤَمِّلُهُ لَهُمَا مِنْ وِلَايَتِهِ إِيَّاهُمَا الْعَهْدَ مِنْ بَعْدِهِ.
وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُزَيِّنُ لَهُ وِلَايَةَ الْوَلِيدِ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَوْفَدَ إِلَيْهِ وَفَدًا فِي ذَلِكَ، عَلَيْهِمْ عِمْرَانُ بْنُ عِصَامٍ الْعَنْزِيُّ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَامَ عِمْرَانُ خَطِيبًا فَتَكَلَّمَ، وَتَكَلَّمَ الْوَفْدُ فِي ذَلِكَ، وَحَثُّوا عَبْدَ الْمَلِكِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْشَدَ عِمْرَانُ بْنُ عِصَامٍ فِي ذَلِكَ:

أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْكَ نُهْدِي عَلَى النَّأْيِ التَّحِيَّةَ وَالسِّلَامَا أَجِبْنِي فِي بَنِيكَ يَكُنْ جَوَابِي
لَهُمْ عَادِيَةً وَلَنَا قِوَامَا فَلَوْ أَنَّ الْوَلِيدَ أُطَاعُ فِيهِ
جَعَلْتَ لَهُ الْخِلَافَةَ وَالذِّمَامَا شَبِيهُكَ حَوْلَ قُبَّتِهِ قُرَيْشٌ
بِهِ يَسْتَمْطِرُ النَّاسُ الْغَمَامَا وَمِثْلُكَ فِي التُّقَى لَمْ يَصْبُ يَوْمًا
لَدُنْ خَلَعَ الْقَلَائِدَ وَالْتِمَامًا فَإِنْ تُؤْثِرْ أَخَاكَ بِهَا فَإِنَّا
وَجَدِّكَ لَا نُطِيقُ لَهَا اتِّهَامَا وَلَكِنَّا نُحَاذِرُ مِنْ بَنِيهِ
بَنِي الْعَلَّاتِ مَأْثَرَةً سَمَامَا وَنَخْشَى إِنْ جَعَلْتَ الْمُلْكَ فِيهِمْ
سَحَابًا أَنْ تَعُودَ لَهُمْ جَهَامَا فَلَا يَكُ مَا حَلَبْتَ غَدًا لِقَوْمٍ
وَبَعْدَ غَدٍ بُنُوكَ هُمُ الْعِيَامَا فَأُقْسِمُ لَوْ تَخَطَّأْنِي عِصَامٌ
بِذَلِكَ مَا عَذَرْتُ بِهِ عِصَامَا وَلَوْ أَنِّي حَبَوْتُ أَخًا بِفَضْلٍ
أُرِيدُ بِهِ الْمَقَالَةَ وَالْمَقَامَا لِعَقَّبَ فِي بَنِيَّ عَلَى بَنِيهِ
كَذَلِكَ أَوْ لَرُمْتُ لَهُ مَرَامَا فَمَنْ يَكُ فِي أَقَارِبِهِ صُدُوعٌ
فَصَدْعُ الْمُلْكِ أَبْطَؤُهُ الْتِئَامَا

فَهَاجَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ كَتَبَ لِأَخِيهِ يَسْتَنْزِلُهُ عَنِ الْخِلَافَةِ لِلْوَلِيدِ، فَأَبَى عَلَيْهِ، وَقَدَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَوْتَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَبْلَ مَوْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِعَامٍ وَاحِدٍ، فَتَمَكَّنَ حِينَئِذٍ مِمَّا أَرَادَ مِنْ بَيْعَةِ الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

ذِكْرُ بَيْعَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ لِوَلَدِهِ الْوَلِيدِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لِأَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
وَكَانَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ مَوْتِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ، بُويِعَ لَهُ بِدِمَشْقَ، ثُمَّ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ، ثُمَّ لِسُلَيْمَانَ مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ لَمَّا انْتَهَتِ الْبَيْعَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ امْتَنَعَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنْ يُبَايِعَ فِي حَيَاةِ عَبْدِ الْمَلِكِ لِأَحَدٍ، فَأَمَرَ بِهِ هِشَامَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ نَائِبَ الْمَدِينَةِ، فَضُرِبَ سِتِّينَ سَوْطًا، وَأَلْبَسَهُ ثِيَابًا مِنْ شَعْرٍ، وَأَرْكَبَهُ جَمَلًا، وَطَافَ بِهِ فِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ، فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى ثَنِيَّةِ ذُبَابٍ - وَهِيَ الثَّنِيَّةُ الَّتِي كَانُوا يَصْلُبُونَ عِنْدَهَا، وَيَقْتُلُونَ - فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا رَدُّوهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَوْدَعُوهُ السَّجْنَ، فَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَقْتُلُونَنِي لَمْ أَلْبَسْ هَذَا الْتُّبَّانَ.

ثُمَّ كَتَبَ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ بِمُخَالَفَةِ سَعِيدٍ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يُعَنِّفُهُ فِي ذَلِكَ، وَيَأْمُرُهُ بِإِخْرَاجِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ سَعِيدًا كَانَ أَحَقَّ مِنْكَ بِصِلَةِ الرَّحِمِ مِمَّا فَعَلْتَ بِهِ، وَإِنَّا لِنَعْلَمُ أَنَّ سَعِيدًا لَيْسَ عِنْدَهُ شِقَاقٌ وَلَا خِلَافٌ.
وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ لَهُ: مَا يَنْبَغِي إِلَّا أَنْ يُبَايِعَ، فَإِنْ لَمْ يُبَايِعْ ضَرَبْتَ عُنُقَهُ، أَوْ خَلَّيْتَ سَبِيلَهُ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ سَعِيدًا رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا جَاءَتْ بَيْعَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ إِلَى الْمَدِينَةِ امْتَنَعَ مِنَ الْبَيْعَةِ، فَضَرَبَهُ نَائِبُهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ - وَهُوَ جَابِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَوْفٍ - سِتِّينَ سَوْطًا أَيْضًا، وَسَجَنَهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَالْوَاقِدِيُّ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ نَائِبُ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَلَى الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ بِكَمَالِهِ الْحَجَّاجُ.
قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ: وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ

أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، كَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الْعَشَرَةِ. قَالَهُ يَحْيَى بْنُ الْقَطَّانِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً، وَكَانَ بِهِ صَمَمٌ، وَوَضَحٌ كَثِيرٌ، وَأَصَابَهُ الْفَالِجُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ
وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ
وَعَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ
وَوَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كَانَ يَسْكُنُ الصُّفَّةَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَسْلَمَ وَاثِلَةُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَهَّزُ إِلَى تَبُوكَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ.
قَالَ وَاثِلَةُ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ أَنْتُمْ بَعْدِي إِذَا شَبِعْتُمْ مِنَ

خُبْزِ الْبُرِّ وَالزَّيْتِ، فَأَكَلْتُمْ أَلْوَانَ الطَّعَامِ، وَلَبِسْتُمْ أَنْوَاعَ الثِّيَابِ، فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ أَمْ ذَلِكَ الْيَوْمُ ؟ قَالَ: قُلْنَا: ذَلِكَ الْيَوْمُ. قَالَ:بَلْ أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ.
قَالَ وَاثِلَةُ: فَمَا ذَهَبَتْ عَنَّا الْأَيَّامُ حَتَّى أَكَلْنَا أَلْوَانَ الطَّعَامِ، وَلَبِسْنَا أَنْوَاعَ الثِّيَابِ، وَرَكِبْنَا الْمَرَاكِبَ.
شَهِدَ وَاثِلَةُ تَبُوكَ، ثُمَّ شَهِدَ فَتْحَ دِمَشْقَ وَنَزَلَهَا، وَمَسْجِدُهُ بِهَا عِنْدَ حَبْسِ بَابِ الصَّغِيرِ مِنَ الْقِبْلَةِ. وَهُوَ آخِرُ مَنْ تُوَفِّيَ بِدِمَشْقَ مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ. وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ
كَانَ أَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِفُنُونِ الْعِلْمِ، وَلَهُ يَدٌ طُولَى فِي الطِّبِّ، وَكَلَامٌ كَثِيرٌ فِي الْكِيمْيَاءِ وَكَانَ قَدِ اسْتَفَادَ ذَلِكَ مِنْ رَاهِبٍ اسْمُهُ مَرْيَانُسُ، وَكَانَ خَالِدٌ فَصِيحًا بَلِيغًا شَاعِرًا مُطْبِقًا كَأَبِيهِ، دَخَلَ يَوْمًا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِحَضْرَةِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، فَشَكَا إِلَيْهِ أَنَّ ابْنَهُ الْوَلِيدَ يَحْتَقِرُ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ( النَّمْلِ: 34 ) فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ( الْإِسْرَاءِ: 16 ). فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَاللَّهِ لَقَدْ

دَخَلَ عَلَيَّ أَخُوكَ عَبْدُ اللَّهِ، فَإِذَا هُوَ لَا يُقِيمُ اللَّحْنَ. فَقَالَ خَالِدٌ: وَالْوَلِيدُ لَا يُقِيمُ اللَّحْنَ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّ أَخَاهُ سُلَيْمَانَ لَا يَلْحَنُ. فَقَالَ خَالِدٌ: وَأَنَا أَخُو عَبْدِ اللَّهِ لَا أَلْحَنُ. فَقَالَ الْوَلِيدُ - وَكَانَ حَاضِرًا - لِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ: اسْكُتْ، فَوَاللَّهِ مَا تُعَدُّ فِي الْعِيرِ وَلَا فِي النَّفِيرِ. فَقَالَ خَالِدٌ: اسْمَعْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ أَقْبَلَ خَالِدٌ عَلَى الْوَلِيدِ فَقَالَ: وَيْحَكَ، وَمَا هُوَ الْعِيرُ وَالنَّفِيرُ غَيْرُ جِدِّي أَبِي سُفْيَانَ صَاحِبِ الْعِيرِ، وَجَدِّي عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ صَاحِبِ النَّفِيرِ، وَلَكِنْ لَوْ قُلْتَ: غُنَيْمَاتٌ وَحُبَيْلَاتٌ وَالطَّائِفُ، وَرَحِمَ اللَّهُ عُثْمَانَ. لَقُلْنَا: صَدَقْتَ. - يَعْنِي أَنَّ الْحَكَمَ كَانَ مَنْفِيًّا بِالطَّائِفِ يَرْعَى غَنَمًا، وَيَأْوِي إِلَى حَبَلَةِ الْكَرَمِ، حَتَّى آوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ حِينَ وَلِيَ، فَسَكَتَ الْوَلِيدُ وَأَبُوهُ، وَلَمْ يُحِيرَا جَوَابًا. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ
فَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ نَائِبُ الْحَجَّاجِ عَلَى مَرْوٍ وَخُرَاسَانَ، بِلَادًا كَثِيرَةً مِنْ أَرْضِ التُّرْكِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَسَبَى وَغَنِمَ وَسَلِمَ وَتَسَلَّمَ قِلَاعًا وَحُصُونًا وَمَمَالِكَ، ثُمَّ قَفَلَ فَسَبَقَ الْجَيْشَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ يَلُومُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَقُولُ لَهُ: إِذَا كُنْتَ قَاصِدًا بِلَادَ الْعَدُوِّ فَكُنْ فِي مُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ، وَإِذَا قَفَلْتَ رَاجِعًا فَكُنْ فِي سَاقَةِ الْجَيْشَ، يَعْنِي لِتَكُونَ رَدْءًا لَهُمْ مِنْ أَنْ يَنَالَهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْعَدُوِّ وَغَيْرِهِمْ بِكَيْدٍ، وَهَذَا رَأْيٌ حَسَنٌ، وَعَلَيْهِ جَاءَتِ السُّنَّةُ.
وَكَانَ فِي جُمْلَةِ السَّبْيِ امْرَأَةُ بَرْمَكَ - وَالِدِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ - فَأَعْطَاهَا قُتَيْبَةُ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُسْلِمٍ، فَوَطِئَهَا، فَحَمَلَتْ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ قُتَيْبَةَ مَنَّ عَلَى السَّبْيِ، وَرُدَّتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا بَرْمَكَ، وَهِيَ حُبْلَى مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَكَانَ وَلَدُهَا عِنْدَهُمْ حَتَّى أَسْلَمُوا، فَقَدِمُوا بِهِ مَعَهُمْ أَيَّامَ بَنِي الْعَبَّاسِ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَلَمَّا رَجَعَ قُتَيْبَةُ إِلَى خُرَاسَانَ تَلْقَاهُ دَهَاقِينُ بُلْغَارَ وَصَاغَانَ بِهَدَايَا عَظِيمَةٍ، وَمِفْتَاحٍ مِنْ ذَهَبِ بُلْغَارَ.
وَفِيهَا كَانَ طَاعُونٌ بِالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ وَوَاسِطٍ، وَيُسَمَّى طَاعُونَ الْفَتَيَاتِ ; لِأَنَّهُ

أَوَّلَ مَا بَدَأَ بِالنِّسَاءِ فَسُمِّيَ بِذَلِكَ.
وَفِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِلَادَ الرُّومِ، فَقَتَلَ وَسَبَى وَغَنِمَ وَسَلِمَ، وَافْتَتَحَ حِصْنَ بِوَلْقَ، وَحِصْنَ الْأَخْرَمِ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ.
وَفِيهَا عَقْدَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى مِصْرَ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَدَخَلَهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً.
وَفِيهَا هَلَكَ مَلِكُ الرُّومِ الْأَخْرَمُ بِوَرَى، لَا رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا حَبَسَ الْحَجَّاجُ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ.

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو أُمَامَةُ صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ الْبَاهِلِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيُّ
فِي قَوْلٍ شَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ وَسَكَنَهَا، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِمِصْرَ، وَلَهُ أَحَادِيثُ.
وَفِيهَا، فِي النِّصْفِ مِنْ شَوَّالِهَا، تُوَفِّيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ:

عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَالِدُ الْخُلَفَاءِ الْأُمَوِيِّينَ
وَهُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، أَبُو الْوَلِيدِ الْأُمَوِيُّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأُمُّهُ عَائِشَةُ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ.
سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَشَهِدَ الدَّارَ مَعَ أَبِيهِ، وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَارَ بِالنَّاسِ فِي بِلَادِ الرُّومِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَهُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةٍ، وَلَّاهُ إِيَّاهَا مُعَاوِيَةُ، وَكَانَ يُجَالِسُ الْفُقَهَاءَ وَالْعُلَمَاءَ وَالْعُبَّادَ وَالصُّلَحَاءَ.
وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمُعَاوِيَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَبَرِيرَةَ مَوْلَاةِ عَائِشَةَ.
وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ، وَعُرْوَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، وَرَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ، وَجَرِيرُ بْنُ عُثْمَانَ.
ذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ قَدْ سَمَّاهُ الْقَاسِمَ، فَكَانَ يُكْنَى بِأَبِي الْقَاسِمِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ النَّهْيُ عَنِ التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ، غَيَّرَ اسْمَهُ ; فَسَمَّاهُ عَبْدَ الْمَلِكِ.

قَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سُمِّيَ فِي الْإِسْلَامِ بِعَبْدِ الْمَلِكِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: وَأَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ فِي الْإِسْلَامِ بِأَحْمَدَ، وَالِدُ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ الْعَرُوضِيُّ.
وَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، فِي خِلَافَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَبَقِيَ عَلَى الشَّامِ وَمِصْرَ مُدَّةَ سَبْعِ سِنِينَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى بَاقِي الْبِلَادِ ثُمَّ، اسْتَقَلَّ بِالْخِلَافَةِ عَلَى سَائِرِ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ، بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ.
وَكَانَ مَوْلِدُهُ وَمَوْلِدُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَعِشْرِينَ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَبْلَ الْخِلَافَةِ مِنَ الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ الْفُقَهَاءِ، الْمُلَازِمِينَ لِلْمَسْجِدِ، التَّالِينَ لِلْقُرْآنِ، وَكَانَ رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِ أَقْرَبَ إِلَى الْقِصَرِ.
وَكَانَتْ أَسْنَانُهُ مُشَبَّكَةً بِالذَّهَبِ، وَكَانَ أَفْوَهَ مَفْتُوحَ الْفَمِ، فَرُبَّمَا غَفَلَ فَيَنْفَتِحُ فَمُهُ فَيَدْخُلُ فِيهِ الذُّبَابُ ; وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الذُّبَّانِ، وَكَانَ أَبْيَضَ رَبْعَةً لَيْسَ بِالنَّحِيفِ وَلَا الْبَادِنِ، مَقْرُونَ الْحَاجِبَيْنِ، أَشْهَلَ كَبِيرَ الْعَيْنَيْنِ، دَقِيقَ الْأَنْفِ، مُشْرِقَ الْوَجْهِ، أَبْيَضَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، حَسَنَ الْوَجْهِ، لَمْ يَخْضِبْ،

وَيُقَالُ: إِنَّهُ خَضَبَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَدْ قَالَ نَافِعٌ: لَقَدْ رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ وَمَا فِيهَا شَابٌّ أَشَدَّ تَشْمِيرًا، وَلَا أَفْقَهَ وَلَا أَقْرَأَ لِكِتَابِ اللَّهِ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: كَانَ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةً: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ ; قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْإِمَارَةِ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: وَلَدَ النَّاسُ أَبْنَاءً، وَوَلَدَ مَرْوَانُ أَبًا - يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ - وَرَآهُ يَوْمًا وَقَدْ ذَكَرَ اخْتِلَافَ النَّاسِ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا الْغُلَامُ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: كُنْتُ أُجَالِسُ بِرَيْرَةَ قَبْلَ أَنْ أَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ، فَكَانَتْ تَقُولُ: يَا عَبْدَ الْمَلِكِ إِنَّ فِيكَ خِصَالًا، وَإِنَّكَ لِجَدِيرٌ أَنْ تَلِيَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَاحْذَرِ الدِّمَاءَ ; فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْفَعُ عَنْ بَابِ الْجَنَّةِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا عَلَى مِحْجَمَةٍ مِنْ دَمٍ يُرِيقُهُ مِنْ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ.

وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ مُعَاوِيَةُ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ دَاوُدَ الزَّنْبَرِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى مَا بَيْنَ الظَّهْرِ وَالْعَصْرِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَفِتْيَانٌ مَعَهُ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَيْسَتِ الْعِبَادَةُ بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، إِنَّمَا الْعِبَادَةُ التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَالْوَرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا جَالَسْتُ أَحَدًا إِلَّا وَجَدْتُ لِي الْفَضْلَ عَلَيْهِ إِلَّا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ ; فَإِنِّي مَا ذَاكَرْتُهُ حَدِيثًا إِلَّا زَادَنِي فِيهِ، وَلَا شِعْرًا إِلَّا زَادَنِي فِيهِ.
وَذَكَرَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى مَرْوَانَ، وَهُوَ نَائِبُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ سَنَةَ خَمْسِينَ: أَنِ ابْعَثِ ابْنَكَ عَبْدَ الْمَلِكِ عَلَى بَعْثِ الْمَدِينَةِ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ خَدِيجٍ. فَذَكَرَ مِنْ كِفَايَتِهِ وَغِنَائِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ الْمَلِكِ مُقِيمًا بِالْمَدِينَةِ حَتَّى كَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ، وَاسْتَوْلَى ابْنُ

الزُّبَيْرِ عَلَى بِلَادِ الْحِجَازِ، وَأَجْلَى بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ هُنَالِكَ، فَقَدِمَ مَعَ أَبِيهِ الشَّامَ، ثُمَّ لَمَّا صَارَتِ الْإِمَارَةُ مَعَ أَبِيهِ وَبَايَعَهُ أَهْلُ الشَّامِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَقَامَ فِي الْإِمَارَةِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ عَهِدَ إِلَيْهِ بِالْإِمَارَةِ مِنْ بَعْدِهِ، فَاسْتَقَلَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بِالْخِلَافَةِ فِي مُسْتَهَلِّ رَمَضَانَ أَوْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِي جُمَادَى الْأُولَى إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَالَ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: لَمَّا سُلِّمَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْخِلَافَةِ كَانَ فِي حِجْرِهِ مُصْحَفٌ، فَأَطْبَقَهُ، وَقَالَ: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ.
وَقَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ: صُنِعَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ مَجْلِسٌ تُوُسِّعَ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ بُنِيَ لَهُ فِيهِ قُبَّةٌ قَبْلَ ذَلِكَ فَدَخَلَهُ، وَقَالَ: لَقَدْ كَانَ ابْنُ حَنْتَمَةَ الْأَحْوَزِيُّ - يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - يَرَى أَنَّ هَذَا عَلَيْهِ حَرَامٌ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا وَضَعَ الْمُصْحَفَ مِنْ حِجْرِهِ قَالَ: هَذَا آخَرُ الْعَهْدِ مِنْكَ. وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ لَهُ إِقْدَامٌ عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَكَانَ عُمَّالُهُ عَلَى مَذْهَبِهِ ; مِنْهُمُ الْحَجَّاجُ وَالْمُهَلَّبُ، وَغَيْرُهُمْ، وَكَانَ حَازِمًا فَهِمًا فَطِنًا، سَائِسًا لِأُمُورِ الدُّنْيَا،

لَا يَكِلُ أَمْرَ دُنْيَاهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَأُمُّهُ عَائِشَةُ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَأَبُوهَا مُعَاوِيَةُ هُوَ الَّذِي جَدَعَ أَنْفَ حَمْزَةَ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا خَرَجَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْعِرَاقِ لِقِتَالِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، خَرَجَ مَعَهُ يَزِيدُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْجُرَشِيُّ، فَلَمَّا الْتَقَوْا قَالَ: اللَّهُمَّ احْجِزْ بَيْنَ هَذَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَوَلِّ الْأَمْرَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْكَ. فَظَفِرَ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ قَتْلِهِ مُصْعَبًا، وَدُخُولِهِ الْكُوفَةَ، وَوَضْعِهِ رَأَسَ مُصْعَبٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَعَزِّ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَأَحَبِّهِمْ إِلَيْهِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا بُويِعَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بِالْخِلَافَةِ، كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّكَ رَاعٍ، وَكُلُّ رَاعٍ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ؟ لَا أَحَدَ، وَالسَّلَامُ.
وَبَعَثَ بِهِ مَعَ سَالِمٍ، فَوَجَدُوا عَلَيْهِ ; إِذْ قَدَّمَ اسْمَهُ عَلَى اسْمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ نَظَرُوا فِي كُتُبِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَوَجَدُوهَا كَذَلِكَ، فَاحْتَمَلُوا ذَلِكَ مِنْهُ.

وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْحَنَّاطِ، عَنِ ابْنِ كَعْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ أَنْ يَلْزَمَ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ لَأَنْتُمْ، وَقَدْ سَالَتْ عَلَيْنَا أَحَادِيثُ مِنْ قِبَلِ هَذَا الْمَشْرِقِ وَلَا نَعْرِفُهَا، وَلَا نَعْرِفُ مِنْهَا إِلَّا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، فَالْزَمُوا مَا فِي مُصْحَفِكُمُ الَّذِي جَمَعَكُمْ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الْمَظْلُومُ، وَعَلَيْكُمْ بِالْفَرَائِضِ الَّتِي جَمَعَكُمْ عَلَيْهَا إِمَامُكُمُ الْمَظْلُومُ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ قَدِ اسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَنِعْمَ الْمُشِيرُ كَانَ لِلْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَحْكِمَا مَا أَحْكَمَا وَأَسْقِطَا مَا شَذَّ عَنْهُمَا.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِيهِ: حَجَّ عَلَيْنَا عَبْدُ الْمَلِكِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِعَامَيْنِ، فَخَطَبَنَا فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ كَانَ مَنْ قَبْلِي مِنَ الْخُلَفَاءِ يَأْكُلُونَ مِنَ الْمَالِ، وَيُؤَكِّلُونَ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُدَاوِي أَدْوَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِالسَّيْفِ، وَلَسْتُ بِالْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضْعَفِ - يَعْنِي عُثْمَانَ - وَلَا الْخَلِيفَةِ الْمُدَاهِنِ - يَعْنِي مُعَاوِيَةَ - وَلَا الْخَلِيفَةِ الْمَأْبُونِ - يَعْنِي يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ - أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا نَحْتَمِلُ مِنْكُمْ كُلَّ اللَّغُوبَةِ مَا لَمْ يَكُنْ عَقْدَ رَايَةٍ، أَوْ وَثَوْبٍ عَلَى مِنْبَرٍ.
هَذَا عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ، حَقُّهُ حَقُّهُ، وَقَرَابَتُهُ قَرَابَتُهُ، قَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا، فَقُلْنَا

بِسَيْفِنَا هَكَذَا، وَإِنَّ الْجَامِعَةَ الَّتِي خَلَعَهَا مِنْ عُنُقِهِ عِنْدِي، وَقَدْ أَعْطَيْتُ اللَّهَ عَهْدًا أَنْ لَا أَضَعَهَا فِي رَأْسِ أَحَدٍ إِلَّا أَخْرَجَهَا الصُّعَدَاءَ، فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ثَنَا عَبَّادُ بْنُ سَلْمِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: رَكِبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بَكْرًا، فَأَنْشَأَ قَائِدُهُ يَقُولُ:
يَا أَيُّهَا الْبَكْرُ الَّذِي أَرَاكَا عَلَيْكَ سَهْلُ الْأَرْضِ فِي مَمْشَاكَا وَيْحَكَ هَلْ تَعْلَمُ مَنْ عَلَاكَا
خَلِيفَةُ اللَّهِ الَّذِي امْتَطَاكَا لَمْ يَحْبُ بَكْرًا مِثْلَ مَا حَبَاكَا
فَلَمَّا سَمِعَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ قَالَ: إِيْهًا يَا هَنَاهُ، قَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: خَطَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ فَحَصِرَ فَقَالَ: إِنَّ اللِّسَانَ بَضْعَةٌ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَإِنَّا نَسْكُتُ حَصْرًا، وَلَا نَنْطِقُ هَذْرًا، وَنَحْنُ أُمَرَاءُ الْكَلَامِ، فِينَا رَسَخَتْ عُرُوقُهُ، وَعَلَيْنَا تَدَلَّتْ أَغْصَانُهُ، وَبَعْدَ مَقَامِنَا هَذَا مَقَامٌ، وَبَعْدَ عِيِّنَا هَذَا مَقَالٌ، وَبَعْدَ يَوْمِنَا هَذَا أَيَّامٌ، يُعْرَفُ فِيهَا فَصْلُ الْخِطَابِ، وَمَوْضِعُ الصَّوَابِ.
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ. فَقَالَ: وَكَيْفَ لَا وَأَنَا أَعْرِضُ عَقْلِي عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ جُمْعَةٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ !

وَقَالَ غَيْرُهُ: قِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ. فَقَالَ: شَيَّبَنِي كَثْرَةُ ارْتِقَاءِ الْمِنْبَرِ، وَمَخَافَةُ اللَّحْنِ. وَلَحَنَ رَجُلٌ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ آخَرُ: زِدْ أَلِفَ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَأَنْتَ فَزِدْ أَلِفًا.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ الْعِلْمَ سَيُقْبَضُ قَبْضًا سَرِيعًا، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيُظْهِرْهُ، غَيْرَ غَالٍ فِيهِ وَلَا جَافٍّ عَنْهُ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ كَانَ يَقُولُ لِمَنْ يُسَايِرُهُ فِي سَفَرِهِ إِذَا رُفِعَتْ لَهُ شَجَرَةٌ: سَبِّحُوا بِنَا حَتَّى نَأْتِيَ تِلْكَ الشَّجَرَةَ، وَكَبِّرُوا بِنَا حَتَّى نَأْتِيَ تِلْكَ الْحَجَرَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ وَقَعَ مِنْهُ فَلْسٌ فِي بِئْرٍ قَذِرَةٍ، فَاكْتَرَى عَلَيْهِ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِينَارًا حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِذَا جَلَسَ لِلْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ، يَقُومُ السَّيَّافُونَ عَلَى رَأْسِهِ بِالسُّيُوفِ، فَيُنْشِدُ - وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَأْمُرُ مَنْ يُنْشِدُ

فَيَقُولُ:
إِنَّا إِذَا نَالَتْ دَوَاعِي الْهَوَى وَأَنْصَتَ السَّامِعُ لِلْقَائِلِ
وَاصْطَرَعَ النَّاسُ بِأَلْبَابِهِمْ نَقْضِي بِحُكْمٍ عَادِلٍ فَاصِلِ
لَا نَجْعَلُ الْبَاطِلَ حَقًّا وَلَا نَلُطُّ دُونَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ
نَخَافُ أَنْ تُسَفَّهَ أَحْلَامُنَا فَنَخْمُلُ الدَّهْرَ مَعَ الْخَامِلِ
وَقَالَ الْأَعْمَشُ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَشْكُو الْحَجَّاجَ، وَيَقُولُ فِي كِتَابِهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا خَدَمَ عِيسَى لَيْلَةً وَاحِدَةً، أَوْ خَدَمَهُ فَعَرَفَتْهُ النَّصَارَى لَنَزَلَ عِنْدَهُمْ، وَلَعَرَفُوا لَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا خَدَمَ مُوسَى أَوْ رَآهُ فَعَرَفَتْهُ الْيَهُودُ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَإِنِّي خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبُهُ، وَإِنَّ الْحَجَّاجَ قَدْ أَضَرَّ بِي وَفَعَلَ وَفَعَلَ. قَالَ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ شَهِدَ عَبْدَ الْمَلِكِ يَقْرَأُ الْكِتَابَ وَهُوَ يَبْكِي، وَبَلَغَ بِهِ الْغَضَبُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِكِتَابٍ غَلِيظٍ، فَجَاءَ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَقَرَأَهُ فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ إِلَى

حَامِلِ الْكِتَابِ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ نَتَرَضَّاهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ فِي أَيَّامِ ابْنِ الْأَشْعَثِ: إِنَّكَ أَعَزُّ مَا تَكُونُ بِاللَّهِ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ، وَإِذَا عَزَزْتَ بِاللَّهِ فَاعْفُ لَهُ، فَإِنَّكَ بِهِ تَعِزُّ وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنْ يَخْلُوَ بِهِ، فَأَمَرَ مَنْ عِنْدِهِ بِالِانْصِرَافِ، فَلَمَّا تَهَيَّأَ الرَّجُلُ لِيَتَكَلَّمَ، قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِيَّاكَ أَنْ تَمْدَحَنِي ; فَإِنِّي أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْكَ، أَوْ تَكْذِبَنِي ; فَإِنَّهُ لَا رَأْيَ لِكَذُوبٍ، أَوْ تَسْعَى إِلَيَّ بِأَحَدٍ، وَإِنْ شِئْتَ أَقَلْتُكَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: أَقِلْنِي. فَأَقَالَهُ.
وَكَذَا كَانَ يَقُولُ لِلرَّسُولِ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ مِنَ الْآفَاقِ: اعْفِنِي مِنْ أَرْبَعٍ، وَقُلْ مَا شِئْتَ ; لَا تُطْرِنِي، وَلَا تُجِبْنِي فِيمَا لَا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، وَلَا تَكْذِبْنِي، وَلَا تَحْمِلْنِي عَلَى الرَّعِيَّةِ ; فَإِنَّهُمْ إِلَى رَأْفَتِي وَمَعْدَلَتِي أَحْوَجُ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أُتِيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِرَجُلٍ كَانَ مَعَ بَعْضِ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اضْرِبُوا عُنُقَهُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا كَانَ هَذَا جَزَائِي

مِنْكَ! فَقَالَ: وَمَا جَزَاؤُكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ مَعَ فُلَانٍ إِلَّا بِالنَّظَرِ لَكَ، وَذَلِكَ أَنِّي رَجُلٌ مَشْئُومٌ، مَا كُنْتُ مَعَ رَجُلٍ قَطُّ إِلَّا غُلِبَ وَهُزِمَ، وَقَدْ بَانَ لَكَ صِحَّةُ مَا ادَّعَيْتُ، وَكُنْتُ عَلَيْكَ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ مَعَكَ. فَضَحِكَ وَخَلَّى سَبِيلَهُ.
وَقِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أَيُّ الرِّجَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ تَوَاضَعَ عَنْ رِفْعَةٍ، وَزَهَدَ عَنْ قُدْرَةِ، وَتَرَكَ النُّصْرَةَ عَنْ قُوَّةٍ.
وَقَالَ أَيْضًا: لَا طُمَأْنِينَةَ قَبْلَ الْخِبْرَةِ، فَإِنَّ الطُّمَأْنِينَةَ قَبْلَ الْخِبْرَةِ ضِدُّ الْحَزْمِ.
وَقَالَ: خَيْرُ الْمَالِ مَا أَفَادَ حَمْدًا وَدَفَعَ ذَمًّا، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، فَإِنَّ الْخَلْقَ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ. وَيَنْبَغِي أَنَّ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى غَيْرِ مَا ثَبَتَ بِهِ الْحَدِيثُ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِمُؤَدِّبِ أَوْلَادِهِ - وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ -: عَلِّمْهُمُ الصِّدْقَ كَمَا تُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ، وَجَنِّبْهُمُ السَّفِلَةَ ; فَإِنَّهُمْ

أَسْوَأُ النَّاسِ رِعَةً، وَأَقَلُّهُمْ أَدَبًا، وَجَنِّبْهُمُ الْحَشَمَ ; فَإِنَّهُمْ لَهُمْ مَفْسَدَةٌ، وَأَحْفِ شُعُورَهُمْ، تَغْلُظْ رِقَابُهُمْ، وَأَطْعِمْهُمُ اللَّحْمَ يَقْوُوا، وَعَلِّمُهُمُ الشِّعْرَ يَمْجُدُوا وَيُنْجُدُوا، وَمُرْهُمْ أَنْ يَسْتَاكُوا عَرْضًا، وَيَمُصُّوا الْمَاءَ مَصًّا، وَلَا يَعُبُّوا عَبًّا، وَإِذَا احْتَجْتَ أَنْ تَتَنَاوَلَهُمْ بِأَدَبٍ ; فَلْيَكُنْ ذَلِكَ فِي سِرٍّ لَا يَعْلَمُ بِهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْغَاشِيَةِ، فَيَهُونُوا عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: أَذِنَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِلنَّاسِ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ إِذْنًا خَاصًّا، فَدَخَلَ شَيْخٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ لَمْ يَأْبَهْ لَهُ الْحَرَسُ، فَأَلْقَى بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ صَحِيفَةً، وَخَرَجَ فَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ ذَهَبَ، وَإِذَا فِيهَا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ ; فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ( ص: 26 ) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( الْمُطُفِّفِينَ: 4 - 6 ). ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ( هُودٍ: 103، 104 ) إِنَّ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ لَوْ بَقِيَ لِغَيْرِكَ مَا وَصَلَ إِلَيْكَ، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ( النَّمْلِ: 52 )

وَإِنِّي أُحَذِّرُكَ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ( الصَّافَّاتِ: 22 )، أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( الْأَعْرَافِ: 44 ) قَالَ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَدَخَلَ دَارَ حَرَمِهِ، وَلَمْ تَزَلِ الْكَآبَةُ فِي وَجْهِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَيَّامًا.
وَكَتَبَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ كِتَابًا، وَفِي آخِرِهِ: وَلَا يُطْمِعُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طُولِ الْبَقَاءِ مَا يَظْهَرُ لَكَ مِنْ صِحَّتِكَ، فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِنَفْسِكَ، وَاذْكُرْ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْأَوَّلُونَ:
إِذَا الرِّجَالُ وَلَدَتْ أَوْلَادَهَا وَبَلِيَتْ مَنْ كِبَرٍ أَجْسَادُهَا
وَجَعَلَتْ أَسْقَامُهَا تَعْتَادُهَا تِلْكَ زُرُوعٌ قَدْ دَنَا حَصَادُهَا
فَلَمَّا قَرَأَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بَكَى حَتَّى بَلَّ طَرْفَ ثَوْبِهِ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ زِرٌّ، وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْنَا بِغَيْرِ هَذَا كَانَ أَرْفَقَ.
وَسَمِعَ عَبْدُ الْمَلِكِ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ يَذْكُرُونَ سِيرَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: إِيهَا عَنْ ذِكْرِ عُمَرَ؛ فَإِنَّهُ إِزْرَاءٌ عَلَى الْوُلَاةِ، مَفْسَدَةٌ لِلرَّعِيَّةِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ يَحْيَى الْغَسَّانِيُّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: كَانَ

عَبْدُ الْمَلِكِ يَجْلِسُ فِي حَلْقَةِ أُمِّ الدَّرْدَاءِ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ بِدِمَشْقَ، فَقَالَتْ لَهُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ شَرِبْتَ الطِّلَاءَ بَعْدَ الْعِبَادَةِ وَالنُّسُكِ. فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ، وَالدِّمَاءَ أَيْضًا قَدْ شَرِبْتُهَا، ثُمَّ جَاءَهُ غُلَامٌ كَانَ قَدْ بَعَثَهُ فِي حَاجَةٍ، فَقَالَ: مَا حَبَسَكَ، لَعَنَكَ اللَّهُ ؟ فَقَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ: لَا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الْهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَعَّانٌ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: قِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ قَالَ: قَدْ صِرْتُ لَا أَفْرَحُ بِالْحَسَنَةِ أَعْمَلُهَا، وَلَا أَحْزَنُ عَلَى السَّيِّئَةِ أَرْتَكِبُهَا. فَقَالَ سَعِيدٌ: الْآنَ تَكَامَلَ مَوْتُ قَلْبِهِ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَطَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا خُطْبَةً بَلِيغَةً، ثُمَّ قَطَعَهَا وَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ ذُنُوبِي عَظِيمَةٌ، وَإِنَّ قَلِيلَ عَفْوِكَ أَعْظَمُ مِنْهَا، اللَّهُمَّ فَامْحُ بِقَلِيلِ عَفْوِكَ عَظِيمَ ذُنُوبِي. قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ الْحَسَنَ فَبَكَى، وَقَالَ: لَوْ كَانَ كَلَامٌ يُكْتَبُ بِالذَّهَبِ لَكُتِبَ هَذَا الْكَلَامُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ الدِّمَشْقِيُّ: وُضِعَ سِمَاطُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْهِ

فَقَالَ لِحَاجِبِهِ: ائْذَنْ لِخَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ. فَقَالَ: مَاتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَأُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ. قَالَ: مَاتَ. قَالَ: فَلِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ. قَالَ: مَاتَ. قَالَ: فَلِفُلَانٍ وَفُلَانٍ لِأَقْوَامٍ قَدْ مَاتُوا - وَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ - فَبَكَى، وَأَمَرَ بِرَفْعِ السِّمَاطِ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
ذَهَبَتْ لِدَّاتِي وَانْقَضَتْ أَيَّامُهُمْ وَغَيَّرْتُ بَعْدَهُمْ وَلَسْتُ بِخَالِدِ
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ دَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُهُ الْوَلِيدُ فَبَكَى، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَا هَذَا ؟ أَتَحِنُّ حَنِينَ الْجَارِيَةِ وَالْأَمَةِ ؟ إِذَا أَنَا مِتُّ فَشَمِّرْ وَاتَّزِرْ وَالْبَسْ جِلْدَ النَّمِرِ، وَضَعِ الْأُمُورَ عِنْدَ أَقْرَانِهَا، وَاحْذَرْ قُرَيْشًا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا وَلِيدُ، اتَّقِ اللَّهَ فِيمَا أَسْتَخْلِفُكُ فِيهِ، وَاحْفَظْ وَصِيَّتِي، وَانْظُرْ إِلَى أَخِي مُعَاوِيَةَ فَصِلْ رَحِمَهُ، وَاحْفَظْنِي فِيهِ، وَانْظُرْ إِلَى أَخِي مُحَمَّدٍ فَأَقِرَّهُ عَلَى الْجَزِيرَةِ، وَلَا تَعْزِلْهُ عَنْهَا، وَانْظُرِ ابْنَ عَمِّنَا عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ إِلَيْنَا بِمَوَدَّتِهِ وَنَصِيحَتِهِ، وَلَهُ نَسَبٌ وَحَقٌّ، فَصِلْ رَحِمَهُ وَاعْرِفْ حَقَّهُ، وَانْظُرِ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ فَأَكْرِمْهُ ; فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي مَهَّدَ لَكُمُ الْبِلَادَ، وَقَهَرَ الْأَعْدَاءَ، وَأَخْلَصَ لَكُمُ الْمُلْكَ، وَشَتَّتَ الْخَوَارِجَ، وَأَنْهَاكَ وَإِخْوَتَكَ عَنِ الْفِرْقَةِ، وَكُونُوا أَوْلَادَ أُمٍّ وَاحِدَةٍ، وَكُونُوا فِي

الْحَرْبِ أَحْرَارًا، وَلِلْمَعْرُوفِ مَنَارًا ; فَإِنَّ الْحَرْبَ لَمْ تُدْنِ مَنِيَّةً قَبْلَ وَقْتِهَا، وَإِنَّ الْمَعْرُوفَ يُشَيِّدُ ذِكْرَ صَاحِبِهِ، وَيُمَيِّلُ الْقُلُوبَ بِالْمَحَبَّةِ، وَيُذَلِّلُ الْأَلْسِنَةَ بِالذِّكْرِ الْجَمِيلِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
إِنَّ الْأُمُورَ إِذَا اجْتَمَعْنَ فَرَامَهَا بِالْكَسْرِ ذُو حَنَقٍ وَبَطْشٍ بِالْيَدِ
عَزَّتْ فَلَمْ تُكْسَرْ وَإِنْ هِيَ بُدِّدَتْ فَالْكَسْرُ وَالتَّوْهِينُ لِلْمُتَبَدِّدِ
ثُمَّ قَالَ: إِذَا أَنَا مِتُّ فَادْعُ النَّاسَ إِلَى بَيْعَتِكَ، فَمَنْ أَبَى فَالسَّيْفُ، وَعَلَيْكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى إِخْوَانِكَ فَأَكْرِمْهُنَّ، وَأَحَبُّهُنَّ إِلَيَّ فَاطِمَةُ - وَكَانَ قَدْ أَعْطَاهَا قُرْطَيْ مَارِيَةَ وَالدُّرَّةَ الْيَتِيمَةَ - ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ احْفَظْنِي فِيهَا، فَتَزَوَّجَهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا.
وَلَمَّا احْتُضِرَ سَمِعَ غَسَّالًا يَغْسِلُ الثِّيَابَ، فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا: غَسَّالٌ. فَقَالَ: يَا لَيْتَنِي كُنْتَ غَسَّالًا، أَكْسِبُ مَا أَعِيشُ بِهِ يَوْمًا بِيَوْمٍ، وَلَمْ أَلِ الْخِلَافَةَ، ثُمَّ تَمَثَّلَ فَقَالَ:

لَعَمْرِي لَقَدْ عُمِّرْتُ فِي الْمُلْكِ بُرْهَةً وَدَانَتْ لِيَ الدُّنْيَا بِوَقْعِ الْبَوَاتِرِ
وَأُعْطِيتُ جَمَّ الْمَالِ وَالْحُكْمَ وَالنُّهَى وَدَانَ قَمَاقِيمُ الْمُلُوكِ الْجَبَابِرِ
فَأَضْحَى الَّذِي قَدْ كَانَ مِمَّا يَسُرُّنِي كَحُلْمٍ مَضَى فِي الْمُزْمَنَاتِ الْغَوَابِرِ
فَيَا لَيْتَنِي لَمْ أُعْنَ بِالْمُلْكِ لَيْلَةً وَلَمْ أَسْعَ فِي لَذَّاتِ عَيْشٍ نَوَاضِرِ
وَكُنْتُ كَذِي طِمْرَيْنِ عَاشَ بِبُلْغَةٍ مِنَ الْعَيْشِ حَتَّى زَارَ ضِيقَ الْمَقَابِرِ
وَقَدْ أَنْشَدَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ.
وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ: قِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ فَقَالَ: أَجِدُنِي كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ الْآيَةَ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا احْتُضِرَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَمَرَ بِفَتْحِ الْأَبْوَابِ مِنْ

قَصْرِهِ، فَسَمِعَ قَصَّارًا، فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: قَصَّارٌ. فَقَالَ: يَا لَيْتَنِي كُنْتَ قَصَّارًا. فَلَمَّا بَلَغَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَوْلُهُ، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَهُمْ يَفِرُّونَ إِلَيْنَا وَلَا نَفِرُّ إِلَيْهِمْ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ جَعَلَ يَنْدَمُ وَيَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ، وَيَقُولُ: وَدِدْتُ أَنِّي أَكْسِبُ قُوتِي يَوْمًا بِيَوْمٍ، وَاشْتَغَلْتُ بِطَاعَةِ اللَّهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَعَا بَنِيهِ فَوَصَّاهُمْ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَنْسَى أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، ثُمَّ يُنْشِدُ:
فَهَلْ مِنْ خَالِدٍ إِمَّا هَلَكْنَا وَهَلْ بِالْمَوْتِ يَا لِلنَّاسِ عَارُ
وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ: ارْفَعُونِي، فَرَفَعُوهُ حَتَّى شَمَّ الْهَوَاءَ، وَقَالَ: يَا دُنْيَا، مَا أَطْيَبَكِ ! إِنَّ طَوِيلَكِ لَقَصِيرٌ، وَإِنَّ كَثِيرَكِ لَحَقِيرٌ، وَإِنْ كُنَّا بِكِ لَفِي غُرُورٍ. ثُمَّ تَمَثَّلَ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ، وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَهُمَا فِي هَذِهِ الْحَالِ:

إِنْ تُنَاقِشْ يَكُنْ نِقَاشُكَ يَا رَبِّ عَذَابًا لَا طَوْقَ لِي بِالْعَذَابِ
أَوْ تُجَاوِزْ فَأَنْتَ رَبٌّ صَفُوحٌ عَنْ مُسِيءٍ ذُنُوبُهُ كَالتُّرَابِ
قَالُوا: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ. وَقِيلَ: يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ. وَقِيلَ: الْخَمِيسِ فِي النِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ. وَقِيلَ: لِخَمْسٍ مَضَيْنَ مِنْهُ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْوَلِيدُ وَلِيُّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ سِتِّينَ سَنَةً، قَالَهُ: أَبُو مَعْشَرٍ، وَصَحَّحَهُ الْوَاقِدِيُّ. وَقِيلَ: ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً، قَالَهُ الْمَدَائِنِيُّ. وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ. وَدُفِنَ بِبَابِ الْجَابِيَةِ الصَّغِيرِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ذِكْرُ أَوْلَادِهِ وَأَزْوَاجِهِ: مِنْهُمُ الْوَلِيدُ، وَسُلَيْمَانُ، وَمَرْوَانُ الْأَكْبَرُ - دَرَجَ - وَعَائِشَةُ، وَأُمُّهُمْ وَلَّادَةُ بِنْتُ الْعَبَّاسِ بْنِ جَزْءِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ قَطِيعَةَ بْنِ عَبْسِ بْنِ بَغِيضٍ.
وَيَزِيدُ، وَمَرْوَانُ الْأَصْغَرُ، وَمُعَاوِيَةُ - دَرَجَ - وَأُمُّ كُلْثُومٍ، وَأُمُّهُمْ عَاتِكَةُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. وَهِشَامٌ، وَأُمُّهُ أُمُّ هِشَامٍ عَائِشَةُ - فِيمَا قَالَهُ

الْمَدَائِنِيُّ - بِنْتُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ. وَأَبُو بَكْرٍ، وَاسْمُهُ بَكَّارٌ، وَأُمُّهُ عَائِشَةُ بِنْتُ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ، وَالْحَكَمُ - دَرَجَ - وَأُمُّهُ أُمُّ أَيُّوبَ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْأُمَوِيِّ، وَفَاطِمَةُ، وَأُمُّهَا الْمُغِيرَةُ بِنْتُ الْمُغِيرَةِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ. وَعَبْدُ اللَّهِ، وَمَسْلَمَةُ، وَالْمُنْذِرُ، وَعَنْبَسَةُ، وَمُحَمَّدٌ، وَسَعْدُ الْخَيْرِ، وَالْحَجَّاجُ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ شَتَّى.
فَكَانَ جُمْلَةُ أَوْلَادِهِ تِسْعَةَ عَشَرَ ; ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْهَا تِسْعُ سِنِينَ مُشَارِكًالِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَنَصِفٌ مُسْتَقِلًّا بِالْخِلَافَةِ وَحْدَهُ.
وَكَانَ قَاضِيَهُ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ، وَكَاتِبُهُ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ، وَحَاجِبُهُ يُوسُفُ مَوْلَاهُ، وَصَاحِبُ بَيْتِ الْمَالِ وَالْخَاتَمِ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، وَعَلَى شُرْطَتِهِ أَبُو الزُّعَيْزِعَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا عُمَّالَهُ فِيمَا مَضَى.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَكَانَ لَهُ زَوْجَاتٌ أُخَرَ شَقْرَاءُ بِنْتُ سَلَمَةَ بْنِ حَلْبَسٍ الطَّائِيِّ، وَابْنَةٌ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأُمُّ أَبِيهَا بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ.

وَمِمَّنْ يُذْكَرُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَقْرِيبًا
أَرْطَاةُ بْنُ زُفَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ ضَمْرَةَ بْنِ

عَقْفَانَ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ نُشْبَةَ بْنِ غَيْظِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ، أَبُو الْوَلِيدِ الْمُرِّيُّ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ سُهَيَّةَ، وَهِيَ أُمُّهُ بَنَتُ زَامِلِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَدِيجِ بْنِ أَبِي جُشَمَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَوْفٍ، سَبِيَّةٌ مِنْ كَلْبٍ، وَكَانَتْ عِنْدَ ضِرَارِ بْنِ الْأَزْوَرِ، ثُمَّ صَارَتْ إِلَى زُفَرَ - وَهِيَ حَامِلٌ - فَأَتَتْ بِأَرْطَاةَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَقَدْ عُمِّرَ أَرْطَاةُ دَهْرًا طَوِيلًا حَتَّى جَاوَزَ الْمِائَةَ بِثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقَدْ كَانَ سَيِّدًا شَرِيفًا مُطَاعًا مُمَدَّحًا شَاعِرًا مُطْبِقًا.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَيُقَالُ: إِنَّ بَنِي عَقْفَانَ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ قَطِيعَةَ بْنِ دِعْبِسٍ، دَخَلُوا فِي بَنِي مُرَّةَ بْنِ نُشْبَةَ، فَقَالُوا: بَنِي عَقْفَانَ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ بْنِ مُرَّةَ.
وَقَدْ وَفَدَ أَبُو الْوَلِيدِ أَرْطَاةُ بْنُ زُفَرَ هَذَا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَأَنْشَدَهُ

أَبْيَاتًا:
رَأَيْتُ الْمَرْءَ تَأْكُلُهُ اللَّيَالِي كَأَكْلِ الْأَرْضِ سَاقِطَةَ الْحَدِيدِ وَمَا تُبْقِي الْمَنِيَّةُ حِينَ تَأْتِي
عَلَى نَفْسِ ابْنِ آدَمَ مِنْ مَزِيدِ وَأَعْلَمُ أَنَّهَا سَتَكُرُّ حَتَّى
تُوُفِّيَ نَذْرَهَا بِأَبِي الْوَلِيدِ
قَالَ: فَارْتَاعَ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَظَنَّ أَنَّهُ عَنَاهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا عَنَيْتُ نَفْسِي، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَأَنَا وَاللَّهِ سَيَمُرُّ بِي الَّذِي يَمُرُّ بِكَ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
خُلِقْنَا أَنْفُسًا وَبَنِي نُفُوسٍ وَلَسْنَا بِالسَّلَامِ وَلَا الْحَدِيدِ
لَئِنْ فُجِّعْتُ بِالْقُرَنَاءِ يَوْمًا لَقَدْ مُتِّعْتُ بِالْأَمَلِ الْبَعِيدِ
وَهُوَ الْقَائِلُ:
وَإِنِّي لَقَوَّامٌ لَدَى الضَّيْفِ مُوهِنًا إِذَا أَسْبَلَ السِّتْرَ الْبَخِيلُ الْمُوَاكِلُ
دَعَا فَأَجَابَتْهُ كِلَابٌ كَثِيرَةٌ عَلَى ثِقَةٍ مِنِّي بِأَنِّي فَاعِلُ
وَمَا دُونَ ضَيْفِي مِنْ تِلَادٍ تَحُوزُهُ لِيَ النَّفْسُ إِلَّا أَنْ تُصَانَ الْحَلَائِلُ

يُونُسُ بْنُ عَطِيَّةَ الْحَضْرَمِيُّ
قَاضِي مِصْرَ، وَصَاحِبُ الشُّرْطَةِ فِي أَيَّامِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ، ثُمَّ تَوَلَّى بَعْدَهُ الْقَضَاءَ ابْنُ أَخِيهِ أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ
كَانَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَكَانَ يَقُولُ: مَا أُوتِيَ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ، وَعُقُولُ النَّاسِ عَلَى قَدْرِ زَمَانِهِمْ، وَقَالَ: إِذَا اسْتَوَتْ سَرِيرَةُ الْعَبْدِ وَعَلَانِيَتُهُ قَالَ اللَّهُ: هَذَا عَبْدِي حَقًّا. وَقَالَ: إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى مَرِيضٍ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَدْعُوَ لَكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ حُرِّكَ - أَيْ: قَدْ أُوقِظَ مِنْ غَفْلَتِهِ بِسَبَبِ مَرَضِهِ - فَدُعَاؤُهُ مُسْتَجَابٌ مِنْ أَجْلِ كَسْرِهِ وَرِقَّةِ قَلْبِهِ، وَقَالَ: إِنَّ أَقْبَحَ مَا طُلِبَتْ بِهِ الدُّنْيَا عَمَلُ الْآخِرَةِ.
وَقَالَ لِبَعْضِ إِخْوَانِهِ: إِذَا كَانَتْ لَكَ إِلَيَّ حَاجَةٌ، فَلَا تُكَلِّمْنِي فِيهَا ; فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَرَى ذُلَّ السُّؤَالِ فِي وَجْهِكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْهَا فِي رُقْعَةٍ وَارْفَعْهَا. وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْمَوْتَ قَدْ أَفْسَدَ عَلَى أَهْلِ النِّعَمِ نَعِيمَهُمْ، فَاطْلُبُوا نَعِيمًا لَا مَوْتَ فِيهِ.
وَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ مَتَى أَجَلِي، لَخَشِيتُ عَلَى ذَهَابِ عَقْلِي، وَلَكِنَّ اللَّهَ مَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِالْغَفْلَةِ عَنِ الْمَوْتِ، وَلَوْلَا الْغَفْلَةُ لَمَا تَهَنَّوْا بِعَيْشٍ، وَلَا قَامَتْ بَيْنَهُمُ الْأَسْوَاقُ.
وَكَانَ مُطَرِّفٌ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ، سَبَّحَتْ مَعَهُ آنِيَةُ بَيْتِهِ.
وَكَانَ يَسْكُنُ الْبَادِيَةَ، وَيَجِيءُ مِنْهَا إِلَى الْجُمْعَةِ مُبَكِّرًا، فَمَرَّ مَرَّةً بِمَقْبَرَةٍ، فَنَعَسَ

فَنَامَ عِنْدَ الْقُبُورِ، فَرَأَى فِي مَنَامِهِ أَهْلَ الْقُبُورِ عَلَى أَفْوَاهِ قُبُورِهِمْ، فَقَالُوا: هَذَا مُطَرِّفٌ يَذْهَبُ إِلَى الْجُمْعَةِ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ: وَتَعْرِفُونَ الْجُمْعَةَ مِنْ غَيْرِهَا ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَنَعْرِفُ مَا يَقُولُ الطَّيْرُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ.
قَالَ: فَقُلْتُ: وَمَا تَقُولُ ؟ قَالُوا: تَقُولُ: سَلَامٌ سَلَامٌ لِيَوْمٍ صَالِحٍ.
وَكَانَ يَقُولُ: يَا إِخْوَتَاهُ، اجْتَهِدُوا فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ; فَإِنْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا نَرْجُو مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، كَانَ لَنَا دَرَجَاتٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ يَكُنِ الْأَمْرُ شَدِيدًا كَمَا نَخَافُ لَمْ نَقُلْ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ نَقُولُ: قَدْ عَمِلْنَا فَلَمْ يَنْفَعْنَا.
وَكَانَ يَدْعُو: اللَّهُمَّ ارْضَ عَنَّا، فَإِنْ لَمْ تَرْضَ عَنَّا، فَاعْفُ عَنَّا، فَإِنَّ الْمَوْلَى قَدْ يَعْفُو عَنِ الْعَبْدِ، وَهُوَ عَنْهُ غَيْرُ رَاضٍ.
وَكَانَ مُطَرِّفٌ قَدْ حَفَرَ فِي دَارِهِ قَبْرًا، كَانَ كُلَّ يَوْمٍ يَنْزِلُ إِلَيْهِ، فَيُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ.
تُوُفِّيَ مُطَرِّفٌ بِالْبَصْرَةِ، وَكَانَ لَهُ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، وَكَانَ هُوَ مِنْ أَرْشَدِ النَّاسِ فِيهِمْ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ ; كَذَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ عِنْدَ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ، فَقَالَ مُطَرِّفٌ: يَا هَذَا، إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا عَجَّلَ اللَّهُ حَتْفَكَ. فَوَقَعَ الرَّجُلُ مَيِّتًا مَكَانَهُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

خِلَافَةُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بَانِي جَامِعِ دِمَشْقَ
لَمَّا رَجَعَ مِنْ دَفْنِ أَبِيهِ خَارِجَ بَابِ الْجَابِيَةِ الصَّغِيرِ - وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ، وَقِيلَ: الْجُمْعَةِ. لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ - لَمْ يَدْخُلِ الْمَنْزِلَ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ - مِنْبَرَ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ بِدِمَشْقَ - فَخَطَبَ النَّاسَ، فَكَانَ مِمَّا قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مُصِيبَتِنَا بِمَوْتِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْنَا مِنَ الْخِلَافَةِ، قُومُوا فَبَايِعُوا، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَمَّامٍ السَّلُولِيُّ وَهُوَ يَقُولُ:
اللَّهُ أَعْطَاكَ الَّتِي لَا فَوْقَهَا وَقَدْ أَرَادَ الْمُلْحِدُونَ عَوْقَهَا عَنْكَ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا سَوْقَهَا
إِلَيْكَ حَتَّى قَلَّدُوكَ طَوْقَهَا
ثُمَّ بَايَعَهُ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ بَعْدَهُ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ: أَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى بِمَا هُوَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَا مُقَدِّمَ لِمَا أَخَّرَ اللَّهُ، وَلَا مُؤَخِّرَ لِمَا قَدَّمَ اللَّهُ، وَقَدْ كَانَ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَسَابِقَتِهِ، وَمَا كَتَبَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَحَمَلَةِ عَرْشِهِ وَمَلَائِكَتِهِ الْمَوْتُ، وَقَدْ صَارَ إِلَى مَنَازِلِ الْأَبْرَارِ بِمَا لَاقَى فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ - يَعْنِي بِالَّذِي يَحِقُّ لِلَّهِ عَلَيْهِ - مِنَ الشِّدَّةِ

عَلَى الْمُرِيبِ، وَاللَّيِّنِ لِأَهْلِ الْحَقِّ وَالْفَضْلِ، وَإِقَامَةِ مَا أَقَامَ اللَّهُ مِنْ مَنَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِعْلَائِهِ مِنْ حَجِّ هَذَا الْبَيْتِ، وَغَزْوِ هَذِهِ الثُّغُورِ، وَشَنِّ هَذِهِ الْغَارَاتِ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمْ يَكُنْ عَاجِزًا وَلَا مُفَرِّطًا، أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ ; فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْفَرْدِ، أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ أَبْدَى لَنَا ذَاتَ نَفْسِهِ ضَرَبْنَا الَّذِي فِيهِ عَيْنَاهُ، وَمَنْ سَكَتَ مَاتَ بِدَائِهِ، ثُمَّ نَزَلَ فَنَظَرَ إِلَى مَا كَانَ مِنْ دَوَابِّ الْخِلَافَةِ، فَحَازَهَا وَكَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا.
وَقَدْ وَرَدَ فِي تَوْلِيَةِ الْوَلِيدِ حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَكَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، فِي بَابِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِدَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ.
وَأَمَّا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ هَذَا فَقَدْ كَانَ صَيِّنًا فِي نَفْسِهِ، حَازِمًا فِي رَأْيِهِ، يُقَالُ: إِنَّهُ لَا تُعْرَفُ لَهُ صَبْوَةٌ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَحَاسِنِهِ مَا صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ قَصَّ عَلَيْنَا قِصَّةَ قَوْمِ لُوطٍ فِي كِتَابِهِ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ ذَكَرًا يَأْتِي ذَكَرًا كَمَا تُؤْتَى النِّسَاءُ. كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي تَرْجَمَتِهِ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ بَانِي جَامِعِ دِمَشْقَ الَّذِي لَا يُعْرَفُ فِي الْآفَاقِ أَحْسَنُ بِنَاءً مِنْهُ، وَقَدْ شَرَعَ فِي بِنَائِهِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي بِنَائِهِ وَتَحْسِينِهِ مُدَّةَ خِلَافَتِهِ، وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ فَلَمَّا أَنْهَاهُ انْتَهَتْ أَيَّامُ خِلَافَتِهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ

ذَلِكَ مُفَصَّلًا، وَقَدْ كَانَ مَوْضِعُ هَذَا الْمَسْجِدِ كَنِيسَةً يُقَالُ لَهَا: كَنِيسَةُ يُوحَنَّا، فَلَمَّا فَتَحَتِ الصَّحَابَةُ دِمَشْقَ جَعَلُوهَا مُنَاصَفَةً، فَأَخَذُوا مِنْهَا الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ فَحَوَّلُوهُ مَسْجِدًا، وَبَقِيَ الْجَانِبُ الْغَرْبِيُّ كَنِيسَةً بِحَالِهِ مِنْ لَدُنْ سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، فَعَزَمَ الْوَلِيدُ عَلَى أَخْذِ بَقِيَّةِ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ مِنْهُمْ، وَعَوَّضَهُمْ عَنْهَا كَنِيسَةَ مَرْيَمَ لِدُخُولِهَا فِي جَانِبِ السَّيْفِ، وَقِيلَ: عَوَّضَهُمْ عَنْهَا كَنِيسَةَ تُومَا، وَهَدَمَ بَقِيَّةَ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ وَأَضَافَهَا إِلَى مَسْجِدِ الصَّحَابَةِ، وَجَعَلَ الْجَمِيعَ مَسْجِدًا وَاحِدًا، عَلَى هَيْئَةٍ بَدِيعَةٍ لَا يَعْرِفُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَهَا نَظِيرًا فِي الْبُنْيَانِ وَالدِّيَارَاتِ وَالْآثَارِ وَالْعِمَارَاتِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ
فَفِيهَا عَزَلَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ هِشَامَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا ابْنَ عَمِّهِ وَزَوْجَ أُخْتِهِ - فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ - عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَدَخَلَهَا فِي ثَلَاثِينَ بَعِيرًا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، فَنَزَلَ دَارَ مَرْوَانَ وَجَاءَ النَّاسُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ - وَعَمْرُهُ إِذْ ذَاكَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً - فَلَمَّا صَلَّى الظَّهْرَ دَعَا عَشَرَةً مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَهُمْ: عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتَبَةُ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَخُوهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَجَلَسُوا، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي إِنَّمَا دَعَوْتُكُمْ لِأَمْرٍ تُؤْجَرُونَ عَلَيْهِ، وَتَكُونُونَ فِيهِ أَعْوَانًا عَلَى الْحَقِّ، إِنِّي لَا أُرِيدُ أَنْ أَقْطَعَ أَمْرًا إِلَّا بِرَأْيِكُمْ، أَوْ بِرَأْيِ مَنْ حَضَرَ مِنْكُمْ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَحَدًا يَتَعَدَّى، أَوْ بَلَغَكُمْ عَنْ عَامِلٍ لِي ظُلَامَةٌ، فَأُحَرِّجُ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ

ذَلِكَ إِلَّا أَبْلَغَنِي، فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ يَجْزُونَهُ خَيْرًا، وَافْتَرَقُوا عَلَى ذَلِكَ.
وَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِأَنْ يُوقِفَ هِشَامَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ لِلنَّاسِ عِنْدَ دَارِ مَرْوَانَ، وَكَانَ سَيِّئَ الرَّأْيِ فِيهِ ; لِأَنَّهُ أَسَاءَ إِلَى النَّاسِ بِالْمَدِينَةِ فِي مُدَّةِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَكَانَتْ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَلَا سِيَّمَا إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَإِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، فَلَمَّا أُوقِفَ لِلنَّاسِ قَالَ هِشَامٌ: مَا أَخَافُ إِلَّا مِنْ سَعِيدٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ. فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ لِابْنِهِ وَمَوَالِيهِ: لَا يَعْرِضُ مِنْكُمْ أَحَدٌ لِهَذَا الرَّجُلِ، فَإِنِّي تَرَكْتُ ذَلِكَ لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ، وَأَمَّا كَلَامُهُ فَلَا أُكَلِّمُهُ أَبَدًا. وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَإِنَّهُ مَرَّ بِهِ وَهُوَ مَوْقُوفٌ عِنْدَ دَارِ مَرْوَانَ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ إِلَى خَاصَّتِهِ أَنْ لَا يَعْرِضَ لَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَتَجَاوَزَهُ، نَادَاهُ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَ: " اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ ".
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِلَادَ الرُّومِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَفَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً، وَغَنِمَ غَنَائِمَ جَمَّةً، وَيُقَالُ: إِنَّ الَّذِي غَزَا بِلَادَ الرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَفَتَحَ حِصْنَ بِوَلْقَ، وَحِصْنَ الْأَخْرَمِ، وَبُحَيْرَةَ الْفُرْسَانِ، وَحِصْنَ بُولَسَ وَقُمَيْقِمَ، وَقَتَلَ مِنَ الْمُسْتَعْرِبَةِ نَحْوًا مِنْ أَلْفٍ، وَسَبَى ذَرَّارِيَّهُمْ، وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ بِلَادَ التُّرْكِ، وَصَالَحَهُ مَلِكُهُمْ نَيْزَكُ عَلَى

مَالٍ جَزِيلٍ، وَعَلَى أَنْ يُطْلِقَ كُلَّ مَنْ بِبِلَادِهِ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ.
وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بِيكَنْدَ فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنَ الْأَتْرَاكِ عِنْدَهَا بَشَرٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ بُخَارَى فَلَمَّا نَزَلَ بِأَرْضِهِمُ اسْتَنْجَدُوا عَلَيْهِ بِأَهْلِ الصَّغْدِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَأَتَوْهُمُ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ، فَأَخَذُوا عَلَى قُتَيْبَةَ الطُّرُقَ وَالْمَضَايِقَ، فَتَوَاقَفَ هُوَ وَهُمْ قَرِيبًا مِنْ شَهْرَيْنِ، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا، وَلَا يَأْتِيَهُ مِنْ جِهَتِهِمْ رَسُولٌ، وَأَبْطَأَ خَبَرُهُ عَلَى الْحَجَّاجِ حَتَّى خَافَ عَلَيْهِ، وَأَشْفَقَ عَلَى مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ مِنَ التُّرْكِ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْأَمْصَارِ.
وَقَدْ كَانَ قُتَيْبَةُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتَتِلُونَ مَعَ التُّرْكِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَكَانَ لِقُتَيْبَةَ عَيْنٌ مِنَ الْعَجَمِ يُقَالُ لَهُ: تَنْدُرُ، فَأَعْطَاهُ أَهْلُ بُخَارَى مَالًا جَزِيلًا عَلَى أَنْ يَأْتِيَ قُتَيْبَةَ فَيُخَذِّلَهُ عَنْهُمْ، فَجَاءَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: أَخْلِنِي، فَأَخْلَاهُ، فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ سِوَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: ضِرَارُ بْنُ حُصَيْنٍ، فَقَالَ لَهُ تَنْدُرُ: هَذَا عَامِلٌ يَقْدَمُ عَلَيْكَ سَرِيعًا بِعَزْلِ الْحَجَّاجِ، فَلَوِ انْصَرَفْتَ بِالنَّاسِ إِلَى مَرْوَ. فَقَالَ قُتَيْبَةُ لِمَوْلَاهُ سِيَاهٍ: اضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَتَلَهُ، ثُمَّ قَالَ قُتَيْبَةُ لِضِرَارٍ: لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ سَمِعَ هَذَا غَيْرِي وَغَيْرُكَ، وَإِنِّي أُعْطِي اللَّهَ عَهْدًا إِنْ ظَهَرَ هَذَا الْخَبَرُ حَتَّى يَنْقَضِيَ حَرْبُنَا لَأُلْحِقَنَّكَ بِهِ، فَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، فَإِنَّ انْتِشَارَ هَذَا يَفُتُّ فِي أَعْضَادِ النَّاسِ، ثُمَّ نَهَضَ قُتَيْبَةُ فَحَرَّضَ النَّاسَ عَلَى الْحَرْبِ، وَوَقَفَ عَلَى أَصْحَابِ الرَّايَاتِ يُحَرِّضُهُمْ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الصَّبْرَ، فَمَا انْتَصَفَ النَّهَارُ

حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّصْرَ، فَهُزِمَتِ التُّرْكُ هَزِيمَةً عَظِيمَةً، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ فِيهِمْ، وَيَأْسِرُونَ مَا شَاءُوا، وَاعْتَصَمَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بِالْمَدِينَةِ، فَأَمَرَ قُتَيْبَةُ الْفَعَلَةُ بِهَدْمِهَا، فَسَأَلُوهُ الصُّلْحَ عَلَى مَالٍ عَظِيمٍ فَصَالَحَهُمْ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِهِ، وَعِنْدَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْجَيْشِ، ثُمَّ سَارَ رَاجِعًا، فَلَمَّا كَانَ مِنْهُمْ عَلَى خَمْسِ مَرَاحِلَ نَقَضُوا الْعَهْدَ، وَقَتَلُوا الْأَمِيرَ، وَجَدَعُوا أُنُوفَ مَنْ كَانَ مَعَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ وَحَاصَرَهَا شَهْرًا، وَأَمَرَ النَّقَّابِينَ وَالْفَعَلَةَ فَعَلَّقُوا سُورَهَا عَلَى الْخَشَبِ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُضْرِمَ النَّارَ فِيهَا، فَسَقَطَ السُّورُ، فَقَتَلَ مِنَ الْفِعْلَةِ أَرْبَعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلُوهُ الصُّلْحَ فَأَبَى، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى افْتَتَحَهَا، فَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ، وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ وَغَنِمَ الْأَمْوَالَ.
وَكَانَ الَّذِي أَلَّبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ أَعْوَرُ مِنْهُمْ، فَأُسِرَ فَقَالَ: أَنَا أَفْتَدِي نَفْسِي بِخَمْسَةِ أَثْوَابٍ صِينِيَّةٍ، قِيمَتُهَا أَلْفُ أَلْفٍ، فَأَشَارَ الْأُمَرَاءُ عَلَى قُتَيْبَةَ بِقَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ قُتَيْبَةُ: لَا وَاللَّهِ لَا أُرَوِّعُ بِكَ مُسْلِمًا مَرَّةً ثَانِيَةً، وَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَقَدْ غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ بِيكَنْدَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْأَصْنَامِ مِنَ الذَّهَبِ، وَكَانَ فِيهَا صَنَمٌ سُبِكَ فَخَرَجَ مِنْهُ مِائَةُ أَلْفٍ وَخَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ، وَوَجَدُوا فِي خَزَائِنِ الْمَلِكِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً وَسِلَاحًا كَثِيرًا وَعِدَدًا مُتَنَوِّعَةً، وَجَوَاهِرَ نَفِيسَةً، وَأَخَذُوا مِنَ السَّبْيِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَكَتَبَ قُتَيْبَةُ إِلَى الْحَجَّاجِ فِي أَنْ يُعْطِيَ ذَلِكَ لِلْجُنْدِ، فَأَذِنَ لَهُ فَتَمَوَّلَ الْمُسْلِمُونَ مَالًا كَثِيرًا جِدًّا، وَصَارَتْ لَهُمْ

أَسْلِحَةٌ وَعِدَدٌ، وَتَقْوَّوْا عَلَى الْأَعْدَاءِ قُوَّةً عَظِيمَةً، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَائِبُ الْمَدِينَةِ، وَقَاضِيهِ بِهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَعَلَى الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ بِكَمَالِهِ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ، وَنَائِبُهُ عَلَى الْبَصْرَةِ الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيُّ، وَقَاضِيهِ بِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُذَيْنَةَ، وَعَامِلُهُ عَلَى الْحَرْبِ بِالْكُوفَةِ زِيَادُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَقَاضِيهِ بِهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَنَائِبُهُ عَلَى خُرَاسَانَ وَأَعْمَالِهَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ.

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
عُتْبَةُ بْنُ عَبْدٍ السُّلَمِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، نَزَلَ حِمْصَ، يُرْوَى أَنَّهُ شَهِدَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَعَنِ الْعِرْبَاضِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هُوَ خَيْرٌ مِنِّي ; أَسْلَمَ قَبْلِي بِسَنَةٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَعْدَ التِّسْعِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدٍ السُّلَمِيُّ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَرَوَى بَقِيَّةُ عَنْ بِجِيرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عُتْبَةَ بْنَ عَبْدٍ السُّلَمِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى

يَوْمِ يَمُوتُ هَرَمًا فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ لَحَقَرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَقِيلِ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنْ لُقْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ قَالَ: اشْتَكَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُرْيَ، فَكَسَانِي خَيْشَتَيْنِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَلْبَسُهُمَا، وَأَنَا أَكْسَى أَصْحَابِي.
الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، نَزَلَ حِمْصَ أَيْضًا، لَهُ أَحَادِيثُ، وَرَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَالْفَلَّاسُ وَأَبُو عُبَيْدٍ: تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: تُوُفِّيَ بَعْدَ التِّسْعِينَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَبُو أُمَامَةُ الْبَاهِلِيُّ
وَاسْمُهُ صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، نَزَلَ حِمْصَ، وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ تَلْقِينِ الْمَيِّتِ بَعْدَ الدَّفْنِ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الدُّعَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْوَفَيَاتِ.
قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ أَبُو سُفْيَانَ الْخُزَاعِيُّ الْمَدَنِيُّ
وُلِدَ عَامَ الْفَتْحِ، وَأُتِيَ بِهِ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدْعُوَ لَهُ. رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَكَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ لَهُ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذَنٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ إِذَا وَرَدَتْ مِنَ الْبِلَادِ، ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَيُخْبِرُهُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْبِلَادِ فِيهَا، وَكَانَ صَاحِبَ سِرِّهِ، وَكَانَ لَهُ دَارٌ بِدِمَشْقَ بِبَابِ الْبَرِيدِ، وَتُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ.
عُرْوَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ
وَلِيَ إِمْرَةَ الْكُوفَةِ لِلْحَجَّاجِ، وَكَانَ شَرِيفًا لَبِيبًا مُطَاعًا فِي النَّاسِ، وَكَانَ أَحْوَلَ، تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ.
يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ
كَانَ قَاضِيَ مَرْوَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ نَقَطَ الْمَصَاحِفَ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ النَّاسِ وَعُلَمَائِهِمْ، وَلَهُ أَحْوَالٌ وَمُعَامَلَاتٌ، وَلَهُ رِوَايَاتٌ، وَكَانَ أَحَدَ الْفُصَحَاءِ، أَخَذَ الْعَرَبِيَّةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ.
شُرَيْحُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ الْقَاضِي
أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَاسْتَقْضَاهُ عُمَرُ عَلَى الْكُوفَةِ، فَمَكَثَ بِهَا قَاضِيًا خَمْسًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ عَالِمًا عَادِلًا كَثِيرَ الْخَيْرِ، حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، فِيهِ دُعَابَةٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ كَوْسَجًا لَا شَعْرَ بِوَجْهِهِ وَكَذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، وَقَيْسُ بْنُ عُبَادَةَ.
وَقَدْ تَرْجَمْنَاهُ فِي " التَّكْمِيلِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي نَسَبِهِ وَسِنِّهِ

وَعَامِ وَفَاتِهِ عَلَى أَقْوَالٍ، وَرَجَّحَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ
فِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَابْنُ أَخِيهِ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَافْتَتَحَا بِمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِصْنَ طُوَانَةَ فِي جُمَادَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ حِصْنًا مَنِيعًا اقْتَتَلَ النَّاسُ عِنْدَهُ قِتَالًا عَظِيمًا، ثُمَّ حَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى النَّصَارَى، فَهَزَمُوهُمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُمُ الْكَنِيسَةَ، ثُمَّ خَرَجَتِ النَّصَارَى فَحَمَلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي مَوْقِفِهِ إِلَّا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَمَعَهُ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ الْجُمَحِيُّ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِابْنِ مُحَيْرِيزٍ: أَيْنَ قُرَّاءُ الْقُرْآنِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَقَالَ: نَادِهِمْ يَأْتُوكَ. فَنَادَى: يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ. فَتَرَاجَعَ النَّاسُ، فَحَمَلُوا عَلَى النَّصَارَى فَكَسَرُوهُمْ، وَلَجَأُوا إِلَى الْحِصْنِ، فَحَاصَرُوهُمْ حَتَّى فَتَحُوهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ كِتَابُ الْوَلِيدِ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِالْمَدِينَةِ، يَأْمُرُهُ بِهَدْمِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَإِضَافَةِ حُجَرِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، وَأَنْ يُوَسِّعَهُ مِنْ قِبْلَتِهِ وَسَائِرِ نَوَاحِيهِ، حَتَّى يَكُونَ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ فِي مِائَتَيْ ذِرَاعٍ، فَمَنْ بَاعَكَ مِلْكَهُ فَاشْتَرِ مِنْهُ، وَإِلَّا فَقَوِّمْهُ لَهُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اهْدِمْ، وَادْفَعْ إِلَيْهِمْ أَثْمَانَ بُيُوتِهِمْ، فَإِنَّ لَكَ فِي ذَلِكَ سَلَفَ صِدْقٍ; عُمَرَ وَعُثْمَانَ.
فَجَمَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وُجُوهَ النَّاسِ، وَالْفُقَهَاءَ الْعَشَرَةَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ،

وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ الْوَلِيدِ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَقَالُوا: هَذِهِ حُجَرٌ قَصِيرَةُ السُّقُوفِ، وَسُقُوفُهَا مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، وَحِيطَانُهَا مِنَ اللَّبِنِ، وَعَلَى أَبْوَابِهَا الْمُسُوحُ، وَتَرْكُهَا عَلَى حَالِهَا أَوْلَى; لِيَنْظُرَ إِلَيْهَا الْحُجَّاجُ وَالزُّوَّارُ وَالْمُسَافِرُونَ، وَإِلَى بُيُوتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ وَيَعْتَبِرُوا بِهِ، وَيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يُعَمِّرُونَ فِيهَا إِلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ مَا يَسْتُرُ وَيُكِنُّ، وَيَعْرِفُونَ أَنَّ هَذَا الْبُنْيَانَ الْعَالِيَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْفَرَاعِنَةِ وَالْأَكَاسِرَةِ، وَكُلِّ طَوِيلِ الْأَمَلِ رَاغِبٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْخُلُودِ فِيهَا.
فَعِنْدَ ذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى الْوَلِيدِ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ الْعَشَرَةُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِالْخَرَابِ وَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى مَا ذَكَرَ، وَأَنْ يُعَلِّيَ سُقُوفَهُ، فَلَمْ يَجِدْ عُمَرُ بُدًّا مِنْ هَدْمِهَا، وَلَمَّا شَرَعُوا فِي الْهَدْمِ صَاحَ الْأَشْرَافُ وَوُجُوهُ النَّاسِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ، وَتَبَاكَوْا مِثْلَ يَوْمِ مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَجَابَ مَنْ لَهُ مِلْكٌ مُتَاخِمٌ لِلْمَسْجِدِ لِلْبَيْعِ فَاشْتَرَى مِنْهُمْ، وَشَرَعَ فِي بِنَائِهِ، وَشَمَّرَ عَنْ إِزَارِهِ، وَاجْتَهَدَ فِي ذَلِكَ، وَجَاءَتْهُ فُعُولٌ كَثِيرَةٌ مِنْ قِبَلِ الْوَلِيدِ، فَأَدْخَلَ فِيهِ الْحُجْرَةَ النَّبَوِيَّةَ، حُجْرَةَ عَائِشَةَ، فَدَخَلَ الْقَبْرُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَتْ حَدَّهُ مِنَ الشَّرْقِ، وَسَائِرُ حُجَرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا أَمَرَ الْوَلِيدُ.
وَرُوِّينَا أَنَّهُمْ لَمَّا حَفَرُوا الْحَائِطَ الشَّرْقِيَّ مِنْ حُجْرَةِ عَائِشَةَ بَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ، فَخَشُوا أَنْ تَكُونَ قَدَمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَحَقَّقُوا أَنَّهَا قَدَمُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَيُحْكَى أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَنْكَرَ إِدْخَالَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فِي الْمَسْجِدِ، كَأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ الْقَبْرُ مَسْجِدًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْوَلِيدَ كَتَبَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَبْعَثَ لَهُ صُنَّاعًا لِلْبِنَاءِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِمِائَةِ صَانِعٍ، وَفُصُوصٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَجْلِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ نَحْوَ خَمْسِينَ حِمْلًا، وَمِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا كَانَ مِنْ أَجْلِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ يَحْفِرَ الْفَوَّارَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنْ يُجْرِيَ مَاءَهَا، فَفَعَلَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَحْفِرَ الْآبَارَ، وَأَنْ يُسَهِّلَ الطُّرُقَ وَالثَّنَايَا، وَسَاقَ إِلَى الْفَوَّارَةِ الْمَاءَ مِنْ ظَاهِرِ الْمَدِينَةِ، وَالْفَوَّارَةُ بُنِيَتْ فِي ظَاهِرِ الْمَسْجِدِ، عِنْدَ بُقْعَةٍ رَآهَا فَأَعْجَبَتْهُ.
وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ مَلِكَ التُّرْكِ كُورْمَغَانُونَ ابْنَ أُخْتِ مَلِكِ الصِّينِ، وَمَعَهُ مِائَتَا أَلْفِ مُقَاتِلٍ مِنْ أَهْلِ الصُّغْدِ وَفَرْغَانَةَ وَغَيْرِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَكَانَ مَعَ قُتَيْبَةَ نَيْزَكُ مَلِكُ التُّرْكِ مَأْسُورًا، فَكَسَرَهُمْ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَغَنِمَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا وَسَبَى وَأَسَرَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَعَهُ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا كَانَ بِالتَّنْعِيمِ لَقِيَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَأَخْبَرُوهُ عَنْ قِلَّةِ الْمَاءِ بِمَكَّةَ لِقِلَّةِ الْمَطَرِ،

فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَلَا نَسْتَمْطِرُ؟ فَدَعَا وَدَعَا النَّاسُ، فَمَا زَالُوا يَدْعُونَ حَتَّى سُقُوا، وَدَخَلُوا مَكَّةَ وَمَعَهُمُ الْمَطَرُ، وَجَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ حَتَّى خَافَ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ شِدَّةِ الْمَطَرِ، وَمُطِرَتْ عَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةُ وَمِنًى، وَأَخْصَبَتِ الْأَرْضُ هَذِهِ السَّنَةَ خِصْبًا عَظِيمًا بِمَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَذَلِكَ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَكَانَ النُّوَّابُ عَلَى الْبُلْدَانِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهَا.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرِ بْنِ أَبِي بُسْرٍ الْمَازِنِيُّ
صَحَابِيٌّ كَأَبِيهِ، سَكَنَ حِمْصَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ، عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً. زَادَ غَيْرُهُ: وَهُوَ آخِرُ مَنْ تُوَفِّيَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالشَّامِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَعِيشُ قَرْنًا. فَعَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى عَلْقَمَةُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيُّ ثُمَّ الْأَسْلَمِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ بَقِيَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْكُوفَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِيمَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُ

وَاحِدٍ: سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَقَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ، وَقِيلَ: قَارَبَهَا. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيُّ الْمَدَنِيُّ
وَكَانَ حَمَا عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَنَائِبَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَهُوَ الَّذِي ضَرَبَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ فَمَاتَ بِهَا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ دِرَاسَةَ الْقُرْآنِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، فَمَاتَ بِهَا فِي السَّبْعِ.
حَكِيمُ بْنُ عُمَيْرٍ الْعَنْسِيُّ الشَّامِيُّ
لَهُ رِوَايَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي الشَّامِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعِيبَ الْحَجَّاجَ عَلَانِيَةً إِلَّا هُوَ وَابْنُ مُحَيْرِيزٍ أَبُو الْأَحْوَصِ، قُتِلَ فِي غَزْوَةِ طُوَانَةَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ
فِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَابْنُ أَخِيهِ الْعَبَّاسُ بِلَادَ الرُّومِ، فَقَتَلَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَفَتَحَا حُصُونًا كَثِيرَةً; مِنْهَا حِصْنُ سُورِيَّةَ وَعَمُّورِيَّةَ وَهِرَقْلَةَ وَقَمُودِيَّةَ، وَغَنِمَا شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَسَرَا جَمًّا غَفِيرًا.
وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ بِلَادَ الصُّغْدِ وَنَسَفَ وَكِسَّ، وَقَدْ لَقِيَهُ هُنَالِكَ خَلْقٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَظَفِرَ بِهِمْ فَقَتَلَهُمْ، وَسَارَ إِلَى بُخَارَى فَلَقِيَهُ دُونَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ التَّرْكِ، فَقَاتَلَهُمْ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ عِنْدَ مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: خَرْقَانُ. وَظَفِرَ بِهِمْ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ نَهَارُ بْنُ تَوْسِعَةَ:
وَبَاتَتْ لَهُمْ مِنَّا بِخَرْقَانَ لَيْلَةٌ وَلَيْلَتُنَا كَانَتْ بِخَرْقَانَ أَطْوَلَا
ثُمَّ قَصَدَ قُتَيْبَةُ وَرْدَانَ خُذَاهْ، مَلِكَ بُخَارَى، فَقَاتَلَهُ وَرْدَانُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ قُتَيْبَةُ، فَرَجَعَ عَنْهُ إِلَى مَرْوَ، فَجَاءَهُ كِتَابُ الْحَجَّاجِ يُعَنِّفُهُ عَلَى الْفِرَارِ

وَالنُّكُولِ عَنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ بِصُورَةِ هَذَا الْبَلَدِ يَعْنِي بُخَارَى فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِصُورَتِهَا فَكَتَبَ إِلَيْهِ; أَنِ ارْجِعْ إِلَيْهَا وَتُبْ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذَنْبِكِ، وَائْتِهَا مِنْ مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، وَرِدْ وَرْدَانَ خُذَاهْ، وَإِيَّاكَ وَالتَّحْوِيطَ، وَدَعْنِي وَبُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِمْرَةَ مَكَّةَ لِخَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ، فَحَفَرَ بِئْرًا بِأَمْرِ الْوَلِيدِ عِنْدَ ثَنِيَّةِ طُوًى وَثَنِيَّةِ الْحَجُونِ، فَجَاءَتْ عَذْبَةَ الْمَاءِ طَيِّبَةً، وَكَانَ يَسْتَقِي النَّاسُ مِنْهَا.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، قَالَ: سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ يَقُولُ عَلَى مِنْبَرِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَيُّهُمَا أَعْظَمُ خَلِيفَةً: الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ، أَمْ رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ؟ وَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَعْلَمُوا فَضْلَ الْخَلِيفَةِ إِلَّا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ اسْتَسْقَاهُ فَسَقَاهُ مِلْحًا أُجَاجًا، وَاسْتَسْقَى الْخَلِيفَةُ فَسَقَاهُ عَذْبًا فُرَاتًا. يَعْنِي الْبِئْرَ الَّتِي احْتَفَرَهَا بِالثَّنِيَّتَيْنِ; ثَنِيَّةِ طُوًى وَثَنِيَّةِ الْحَجُونِ فَكَانَ يُنْقَلُ مَاؤُهَا فَيُوضَعُ فِي حَوْضٍ مِنْ أَدَمٍ إِلَى جَنْبِ زَمْزَمَ; لِيُعْرَفَ فَضْلُهُ عَلَى زَمْزَمَ. قَالَ: ثُمَّ غَارَتْ تِلْكَ الْبِئْرُ فَذَهَبَ مَاؤُهَا، فَلَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ إِلَى الْيَوْمِ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ غَرِيبٌ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ كُفْرًا إِنْ صَحَّ عَنْ قَائِلِهِ، وَعِنْدِي أَنَّ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ لَا يَصِحُّ عَنْهُ هَذَا الْكَلَامُ، وَإِنْ صَحَّ فَهُوَ عَدُوُّ اللَّهِ. وَقَدْ قِيلَ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ نَحْوُ هَذَا

الْكَلَامِ; مِنْ أَنَّهُ جَعَلَ الْخَلِيفَةَ أَفْضَلَ مِنَ الرَّسُولِ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَتَضَمَّنُ كُفْرَ قَائِلِهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَسْلَمَةُ التُّرْكَ حَتَّى بَلَغَ الْبَابَ مِنْ نَاحِيَةِ أَذْرَبِيجَانَ، وَفَتَحَ حُصُونًا وَمَدَائِنَ هُنَالِكَ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَتْ صِقِلِّيَةُ وَمَيُورْقَةُ. وَقِيلَ: مَنُورْقَةُ. وَهُمَا فِي الْبَحْرِ بَيْنَ جَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ وَحَدَارُّهُ مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، وَفِيهَا سَيَّرَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ وَلَدَهُ إِلَى النِّقْرِيسِ مَلِكِ الْفِرِنْجِ، فَافْتَتَحَ بِلَادًا كَثِيرَةً.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرِ بْنِ أَبِي بُسْرٍ الْمَازِنِيُّ
لَهُ وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
قَالَ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ أَحَدُ التَّابِعِينَ الْعُذْرِيُّ الشَّاعِرُ.

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ أَدْرَكَ حَيَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ. وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ النَّسَبَ.
وَالْعُمَّالُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بِلَادَ الرُّومِ، فَفَتَحَا حُصُونًا، وَقَتَلَا خَلْقًا مِنَ الرُّومِ، وَغَنِمَا وَأَسَرَا خَلْقًا كَثِيرًا. وَفِيهَا أَسَرَتِ الرُّومُ خَالِدَ بْنَ كَيْسَانَ صَاحِبَ الْبَحْرِ، وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ، فَأَهْدَاهُ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْوَلِيدُ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ إِمْرَةِ مِصْرَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا قُرَّةَ بْنَ شَرِيكٍ.
وَفِيهَا قَتَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الثَّقَفِيُّ مَلِكَ السِّنْدِ دَاهِرَ بْنَ صَصَّةَ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ هَذَا عَلَى جَيْشٍ مِنْ جِهَةِ الْحَجَّاجِ، وَفِيهَا فَتَحَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ مَدِينَةَ بُخَارَى، وَهَزَمَ جَمْعَ الْعَدُوِّ مِنَ التُّرْكِ بِهَا، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ فُصُولٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدْ تَقَصَّاهَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَفِيهَا طَلَبَ طَرْخُونُ مَلِكُ الصُّغْدِ بَعْدَ فَتْحِ بُخَارَى مِنْ قُتَيْبَةَ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى مَالٍ يَبْذُلُهُ فِي كُلِّ عَامٍ، فَأَجَابَهُ قُتَيْبَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَخَذَ مِنْهُ رَهْنًا عَلَيْهِ.
وَفِيهَا اسْتَنْجَدَ وَرْدَانُ خُذَاهْ بِالتُّرْكِ، فَأَتَوْهُ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي وَهُوَ صَاحِبُ بُخَارَى بَعْدَ أَخْذِ قُتَيْبَةَ لَهَا وَخَرَجَ وَرْدَانُ خُذَاهْ وَحَمَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحَطَّمُوهُمْ، ثُمَّ عَادَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَصَالَحَ قُتَيْبَةُ مَلِكَ الصُّغْدِ، وَفَتَحَ بُخَارَى وَحُصُونَهَا، وَرَجَعَ قُتَيْبَةُ بِالْجُنْدِ إِلَى بِلَادِهِ فَأَذِنَ لَهُ الْحَجَّاجُ، فَلَمَّا سَارَ إِلَى بِلَادِهِ بَلَغَهُ أَنَّ صَاحِبَ الصُّغْدِ قَالَ لِمُلُوكِ التُّرْكِ: إِنِ الْعَرَبَ بِمَنْزِلَةِ اللُّصُوصِ، فَإِنْ أُعْطُوا شَيْئًا ذَهَبُوا، وَإِنَّ قُتَيْبَةَ هَكَذَا يَقْصِدُ الْمُلُوكَ، فَإِنْ

أَعْطَوْهُ شَيْئًا أَخْذَهُ وَرَجَعَ عَنْهُمْ، وَإِنَّ قُتَيْبَةَ لَيْسَ بِمَلِكٍ، وَلَا يَطْلُبُ مُلْكًا. فَبَلَغَ قُتَيْبَةَ قَوْلُهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ، فَكَاتَبَ نَيْزَكُ مَلِكُ التُّرْكِ مُلُوكَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ; مِنْهُمْ مَلِكُ الطَّالَقَانِ، وَكَانَ قَدْ صَالَحَ قُتَيْبَةَ فَنَقَضَ الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُتَيْبَةَ، وَاسْتَجَاشَ عَلَيْهِ بِالْمُلُوكِ كُلِّهَا، فَأَتَاهُ مُلُوكٌ كَثِيرٌ كَانُوا قَدْ عَاهَدُوا قُتَيْبَةَ عَلَى الصُّلْحِ، فَنَقَضُوا كُلُّهُمْ وَصَارُوا يَدًا وَاحِدَةً عَلَى قُتَيْبَةَ، وَاتَّعَدُوا إِلَى الرَّبِيعِ، وَتَعَاهَدُوا وَتَعَاقَدُوا عَلَى أَنْ يَجْتَمِعُوا فَيُقَاتِلُوا كُلُّهُمْ فِي فَصْلِ الرَّبِيعِ مِنَ السَّنَةِ الْآتِيَةِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ قُتَيْبَةُ فِي ذَلِكَ الْحِينِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً جِدًّا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، وَصَلَبَ مِنْهُمْ سِمَاطَيْنِ فِي مَسَافَةِ أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ فِي نِظَامٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مِمَّا كَسَرَ جُمُوعَهُمْ كُلَّهُمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ هَرَبَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَأَخَوَاهُ الْمُفَضَّلُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ سِجْنِ الْحَجَّاجِ، فَلَحِقُوا بِسُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَمَّنَهُمْ مِنَ الْحَجَّاجِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ قَدِ احْتَاطَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَاقَبَهُمْ عُقُوبَةً عَظِيمَةً، وَأَخَذَ مِنْهُمْ سِتَّةَ آلَافِ أَلْفٍ، وَكَانَ أَصْبَرَهُمْ عَلَى الْعُقُوبَةِ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، كَانَ لَا يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ، وَلَوْ فَعَلُوا بِهِ مَا فَعَلُوا، فَكَانَ ذَلِكَ يَغِيظُ الْحَجَّاجَ، حَتَّى قَالَ قَائِلٌ لِلْحَجَّاجِ: إِنَّ فِي سَاقِهِ أَثَرَ نُشَّابَةٍ بَقِيَ نَصْلُهَا فِيهِ، وَإِنَّهُ مَتَى أَصَابَهَا شَيْءٌ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ يَصْرُخَ، فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ أَنْ يُنَالَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْهُ بِعَذَابٍ، فَصَاحَ، فَلَمَّا سَمِعَتْ أُخْتُهُ هِنْدُ بِنْتُ الْمُهَلَّبِ وَكَانَتْ تَحْتَ الْحَجَّاجِ صَوْتَهُ بَكَتْ

وَنَاحَتْ عَلَيْهِ فَطَلَّقَهَا الْحَجَّاجُ، ثُمَّ أَوْدَعَهُمُ السِّجْنَ، ثُمَّ خَرَجَ الْحَجَّاجُ إِلَى بَعْضِ الْمَحَالِّ لِيُنْفِذَ جَيْشًا إِلَى الْأَكْرَادِ، وَاسْتَصْحَبَهُمْ مَعَهُ، فَخَنْدَقَ حَوْلَهُمْ، وَوَكَّلَ بِهِمُ الْحَرَسَ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي أَمَرَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ بِطَعَامٍ كَثِيرٍ فَصُنِعَ لِلْحَرَسِ، فَاشْتَغَلُوا بِهِ، ثُمَّ تَنَكَّرَ فِي هَيْئَةِ بَعْضِ الطَّبَّاخِينَ، وَجَعَلَ لِحْيَتَهُ لِحْيَةً بَيْضَاءَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَرَآهُ بَعْضُ الْحَرَسِ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ مِشْيَةً أَشْبَهَ بِمِشْيَةِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ مِنْ هَذَا. ثُمَّ اتَّبَعَهُ يَتَحَقَّقُهُ، فَلَمَّا رَأَى بَيَاضَ لِحْيَتِهِ انْصَرَفَ عَنْهُ، ثُمَّ لَحِقَهُ أَخَوَاهُ، فَرَكِبُوا السُّفُنَ، وَسَارُوا نَحْوَ الشَّامِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْحَجَّاجَ هَرَبُهُمُ انْزَعَجَ لِذَلِكَ، وَذَهَبَ وَهْمُهُ أَنَّهُمْ سَارُوا إِلَى خُرَاسَانَ، فَكَتَبَ إِلَى قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ يُحَذِّرُهُ قُدُومَهُمْ، وَيَأْمُرُهُ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهُمْ، وَأَنْ يَرْصُدَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَيَكْتُبَ إِلَى أُمَرَاءِ الثُّغُورِ وَالْكُوَرِ بِتَحْصِيلِهِمْ، وَكَتَبَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ يُخْبِرُهُ بِهَرَبِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَرَاهُمْ هَرَبُوا إِلَّا إِلَى خُرَاسَانَ، وَخَافَ الْحَجَّاجُ مِنْ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، أَنْ يَصْنَعَ كَمَا صَنَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ، وَجَمْعِ النَّاسِ لَهُ.
وَأَمَّا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ فَإِنَّهُ سَلَكَ عَلَى الْبَطَائِحِ، وَجَاءَتْهُ خُيُولٌ كَانَ قَدْ أَعَدَّهَا لَهُ أَخُوهُ مَرْوَانُ بْنُ الْمُهَلَّبِ لِهَذَا الْيَوْمِ، فَرَكِبَهَا وَسَلَكَ بِهِ دَلِيلٌ مِنْ بَنِي كَلْبٍ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ يَزِيدَ. فَأَخَذَ بِهِمْ عَلَى السَّمَاوَةِ. وَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى الْحَجَّاجِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ أَنَّ يَزِيدَ قَدْ سَلَكَ نَحْوَ الشَّامِ، فَكَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ،

وَسَارَ يَزِيدُ حَتَّى نَزَلَ الْأُرْدُنَّ، عَلَى وُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَزْدِيِّ وَكَانَ كَرِيمًا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَسَارَ وُهَيْبٌ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ وَأَخَوَيْهِ فِي مَنْزِلِي، قَدْ جَاءُوا مُسْتَعِيذِينَ بِكَ مِنَ الْحَجَّاجِ. قَالَ: فَاذْهَبْ فَائْتِنِي بِهِمْ، فَهُمْ آمِنُونَ مَا دُمْتُ حَيًّا. فَجَاءَهُمْ، فَذَهَبَ بِهِمْ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَمَّنَهُمْ سُلَيْمَانُ، وَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ الْوَلِيدِ: إِنَّ آلَ الْمُهَلَّبِ قَدْ أَمَّنْتُهُمْ، وَإِنَّمَا بَقِيَ لِلْحَجَّاجِ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافِ أَلْفٍ، وَهِيَ عِنْدِي. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: لَا وَاللَّهِ لَا أُؤَمِّنُهُ حَتَّى تَبْعَثَ بِهِ إِلَيَّ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: لَا وَاللَّهِ لَا أَبْعَثُهُ حَتَّى أَجِيءَ مَعَهُ، فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَفْضَحَنِي أَوْ تُخْفِرَنِي فِي جِوَارِي. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: لَا وَاللَّهِ لَا تَجِئْ مَعَهُ وَابْعَثْ بِهِ إِلَيَّ فِي وَثَاقٍ. فَقَالَ يَزِيدُ: ابْعَثْنِي إِلَيْهِ، فَمَا أُحِبُّ أَنْ أُوقِعَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةً وَحَرْبًا، فَابْعَثْنِي إِلَيْهِ، وَابْعَثْ مَعِي ابْنَكَ، وَاكْتُبْ إِلَيْهِ بِأَلْطَفِ عِبَارَةٍ تَقْدِرُ عَلَيْهَا. فَبَعَثَهُ وَبَعَثَ مَعَهُ ابْنَهُ أَيُّوبَ، وَقَالَ لِابْنِهِ: إِذَا دَخَلْتَ فِي الدِّهْلِيزِ فَادْخُلْ مَعَ يَزِيدَ فِي السِّلْسِلَةِ، وَادْخُلَا عَلَيْهِ كَذَلِكَ.
فَلَمَّا رَأَى الْوَلِيدُ ابْنَ أَخِيهِ فِي السِّلْسِلَةِ، قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ بَلَغْنَا مِنْ سُلَيْمَانَ. وَدَفَعَ أَيُّوبُ كِتَابَ أَبِيهِ إِلَى عَمِّهِ، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نَفْسِي فِدَاؤُكَ لَا تَخْفِرْ ذِمَّةَ أَبِي، وَأَنْتَ أَحَقُّ مَنْ مَنَعَهَا، وَلَا تَقْطَعْ مِنَّا رَجَاءَ مَنْ رَجَا السَّلَامَةَ فِي جِوَارِنَا لِمَكَانِنَا مِنْكَ، وَلَا تُذِلَّ مَنْ رَجَا الْعِزَّ فِي الِانْقِطَاعِ إِلَيْنَا لِعِزِّنَا بِكَ.
ثُمَّ قَرَأَ الْوَلِيدُ كِتَابَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَإِذَا فِيهِ:
أَمَّا بَعْدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ لَوِ اسْتَجَارَ بِي عَدُوٌّ قَدْ نَابَذَكَ وَجَاهَدَكَ فَأَنْزَلْتُهُ وَأَجْرَتْهُ، أَنَّكَ لَا تُذِلُّ

جَارِي، وَلَا تَخْفِرُ جِوَارِي، بَلْ لَمْ أُجِرْ إِلَّا سَامِعًا مُطِيعًا، حَسَنَ الْبَلَاءِ وَالْأَثَرِ فِي الْإِسْلَامِ، هُوَ وَأَبُوهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَقَدْ بَعَثْتُ بِهِ إِلَيْكَ، فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُعِدُّ قَطِيعَتِي وَالْإِخْفَارَ بِذِمَّتِي وَالْإِبْلَاغَ فِي مَسَاءَتِي، فَقَدْ قَدَرْتَ إِنْ أَنْتَ فَعَلْتَ، وَأَنَا أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنِ احْتِرَادِ قَطِيعَتِي، وَانْتِهَاكِ حُرْمَتِي، وَتَرْكِ بِرِّي وَصِلَتِي، فَوَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَدْرِي مَا بَقَائِي وَبَقَاؤُكَ، وَلَا مَتَى يُفَرِّقُ الْمَوْتُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَدَامَ اللَّهُ سُرُورَهُ أَنْ لَا يَأْتِيَ أَجَلُ الْوَفَاةِ عَلَيْنَا إِلَّا وَهُوَ لِي وَاصِلٌ، وَلِحَقِّي مُؤَدٍّ، وَعَنْ مَسَاءَتِي نَازِعٌ، فَلْيَفْعَلْ، وَوَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَصْبَحْتُ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ بِأَسَرَّ مِنِّي بِرِضَاكَ وَسُرُورِكَ، وَإِنَّ رِضَاكَ وَسُرُورَكَ مِمَّا أَلْتَمِسُ بِهِ رِضْوَانَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ كُنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ تُرِيدُ مَسَرَّتِي وَصِلَتِي وَكَرَامَتِي وَإِعْظَامَ حَقِّي فَتَجَاوَزْ لِي عَنْ يَزِيدَ، وَكُلُّ مَا طَلَبْتَهُ بِهِ فَهُوَ عَلَيَّ.
فَلَمَّا قَرَأَ الْوَلِيدُ كِتَابَهُ قَالَ: لَقَدْ أَشْفَقْنَا عَلَى سُلَيْمَانَ. ثُمَّ دَعَا ابْنَ أَخِيهِ، فَأَدْنَاهُ مِنْهُ، وَتَكَلَّمَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى رَسُولِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ بَلَاءَكُمْ عِنْدَنَا أَحْسَنُ الْبَلَاءِ، فَمَنْ يَنْسَى ذَلِكَ فَلَسْنَا نَاسِيهِ، وَمَنْ يَكْفُرُهُ فَلَسْنَا بِكَافِرِيهِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ بَلَائِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فِي طَاعَتِكُمْ

وَالطَّعْنِ فِي أَعْيُنِ أَعْدَائِكُمْ فِي الْمَوَاطِنِ الْعِظَامِ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ مَا إِنَّ الْمِنَّةَ عَلَيْنَا فِيهِ عَظِيمَةٌ. فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ. فَجَلَسَ، فَأَمَّنَهُ، وَكَفَّ عَنْهُ، وَرَدَّهُ إِلَى سُلَيْمَانَ، فَكَانَ عِنْدَهُ يُعَلِّمُهُ الْهَيْئَةَ، وَيَصِفُ لَهُ أَلْوَانَ الْأَطْعِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَكَانَ حَظِيًّا عِنْدَهُ لَا يُهْدَى إِلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ إِلَّا بَعَثَ إِلَيْهِ بِنِصْفِهَا، وَتَقَرَّبَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ إِلَى سُلَيْمَانَ بِأَنْوَاعِ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ وَالتَّقَادُمِ.
وَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى الْحَجَّاجِ: إِنِّي لَمْ أَصِلْ إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ مَعَ أَخِي سُلَيْمَانَ، فَاكْفُفْ عَنْهُمْ، وَالْهَ عَنِ الْكِتَابِ إِلَيَّ فِيهِمْ. فَكَفَّ الْحَجَّاجُ عَنْ آلِ الْمُهَلَّبِ، وَتَرَكَ مَا كَانَ يُطَالِبُهُمْ بِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ، حَتَّى تَرَكَ لِأَبِي عُيَيْنَةَ بْنِ الْمُهَلَّبِ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَزَلْ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ عِنْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ حَتَّى هَلَكَ الْحَجَّاجُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ ثُمَّ وَلِيَ يَزِيدُ بِلَادَ الْعِرَاقِ بَعْدَ الْحَجَّاجِ، كَمَا أَخْبَرَهُ الرَّاهِبُ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ
تَيَاذُوقُ الطَّبِيبُ الْحَاذِقُ
لَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي فَنِّهِ، وَكَانَ حَظِيًّا عِنْدَ الْحَجَّاجِ، مَاتَ فِي حُدُودِ سَنَةِ تِسْعِينَ بِوَاسِطٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيُّ،

وَسِنَانُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ، أَحَدُ الشُّجْعَانِ الْمَذْكُورِينَ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَتَوَلَّى غَزْوَ الْهِنْدِ، وَطَالَ عُمْرُهُ.
وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ أَخُو الْحَجَّاجِ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْيَمَنِ وَكَانَ يَلْعَنُ عَلِيًّا عَلَى الْمَنَابِرِ. قِيلَ: إِنَّهُ أَمَرَ حُجْرًا الْمَدَرِيَّ أَنْ يَلْعَنَ عَلِيًّا. فَقَالَ: بَلْ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ يَلْعَنُ عَلِيًّا، وَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ وَرَّى فِي لَعْنِهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهل التأويل يتعرون أمام قانوني الحق والميزان

    بسم الله الرحمن الرحيم خلاصة قانون الحق = أن الله خلق السماوات والارض وما فيهم وما بينهم وما لأجلهم بقدر قام في وقت محدد وزمن مع...