2/19/ البداية والنهاية تأليف:
عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي وَفِي هَذِهِ
السَّنَةِ تُوُفِّيَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ أَحَدُ كُتَّابِ
الْوَحْيِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِيهِمْ فِي أَوَاخِرِ السِّيرَةِ،
وَهُوَ الَّذِي كَتَبَ هَذَا الْمُصْحَفَ الْإِمَامَ الَّذِي بِالشَّامِ، عَنْ
أَمْرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَهُوَ خَطٌّ جَيِّدٌ قَوِّيٌّ جِدًّا فِيمَا
رَأَيْتُهُ، وَقَدْ كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ ذَكَاءً،
تَعَلَّمَ لِسَانَ يَهُودَ وَكِتَابَهُمْ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. قَالَ
أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْبَرَاءِ: تَعَلَّمَ الْفَارِسِيَّةَ مِنْ رَسُولِ كِسْرَى
فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَتَعَلَّمَ الْحَبَشِيَّةَ وَالرُّومِيَّةَ
وَالْقِبْطِيَّةَ مِنْ خُدَّامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَأَوَّلُ مَشَاهِدِهِ الْخَنْدَقُ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ
عَشْرَةَ سَنَةً. وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ:
" وَأَعْلَمَهُمْ بِالْفَرَائِضِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ". وَقَدِ
اسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى الْقَضَاءِ.
وَقَالَ مَسْرُوقٌ: كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
أَخَذَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِالرِّكَابِ فَقَالَ لَهُ: تَنَحَّ يَا ابْنَ عَمِّ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: لَا هَكَذَا
نَفْعَلُ بِعُلَمَائِنَا وَكُبَرَائِنَا.
وَقَالَ
الْأَعْمَشُ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ
أَفْكَهِ النَّاسِ فِي بَيْتِهِ، وَمَنْ أَزْمَتِهِ إِذَا خَرَجَ إِلَى
الرِّجَالِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: خَرَجَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِلَى الصَّلَاةِ،
فَوَجَدَ النَّاسَ رَاجِعِينَ مِنْهَا، فَتَوَارَى عَنْهُمْ وَقَالَ: مَنْ لَا
يَسْتَحِي مِنَ النَّاسِ لَا يَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ.
مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ خَمَسٍ وَخَمْسِينَ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ قَارَبَ السِّتِّينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ
مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ نَائِبُ الْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ
مَاتَ الْيَوْمَ عَلَمٌ كَثِيرٌ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَاتَ حَبْرُ هَذِهِ
الْأُمَّةِ.
وَفِيهَا مَاتَ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً،
وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَلَا عَقِبَ لَهُ.
وَعَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجَ إِلَى بَدْرٍ عَلَى قُبَاءَ وَأَهْلِ
الْعَالِيَةِ، وَشَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، وَتُوُفِّيَ عَنْ خَمْسَ
عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَقَدْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هُوَ وَمَالِكُ بْنُ الدُّخْشُمِ إِلَى مَسْجِدِ الضِّرَارِ
فَحَرَّقَاهُ.
وَفِيهَا
تُوُفِّيَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ،
وَكَانَتْ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ
خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، وَهَاجَرَتْ مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ،
فَتُوُفِّيَ عَنْهَا بَعْدَ بَدْرٍ، فَلَمَّا انْقَضَتْ عُدَّتُهَا عَرَضَهَا
أَبُوهَا عَلَى عُثْمَانَ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجَتِهِ رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَعَرَضَهَا
عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَمَا كَانَ عَنْ قَرِيبٍ
حَتَّى خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَتَزَوَّجَهَا، فَعَاتَبَ عُمَرُ أَبَا بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ
لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ قَدْ ذَكَرَهَا، فَمَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ تَرَكَهَا لَتَزَوَّجْتُهَا.
وَقَدْ رَوَيْنَا فِي الْحَدِيثِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا. وَفِي رِوَايَةٍأَنَّ جِبْرِيلَ
أَمَرَهُ بِمُرَاجَعَتِهَا، وَقَالَ: إِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وَهِيَ
زَوْجَتُكَ فِي الْجَنَّةِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْجُمْهُورُ أَنَّهَا تُوُفِّيَتْ
فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتِّينَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِنَّهَا
تُوُفِّيَتْ أَيَّامَ عُثْمَانَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ
فِيهَا شَتَّى الْمُسْلِمُونَ بِبِلَادِ الرُّومِ مَعَ أَمِيرِهِمْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَقِيلَ: كَانَ أَمِيرُهُمْ غَيْرَهُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ
أَخُو مُعَاوِيَةَ، وَالْعُمَّالُ عَلَى الْبِلَادِ هُمُ الْمُتَقَدِّمُ
ذِكْرُهُمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، أَحَدُ
الْبَكَّائِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا
مِنَ الْمَشَاهِدِ كُلِّهَا.
سُرَاقَةُ بْنُ كَعْبٍ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْقُرَشِيُّ الْمَخْزُومِيُّ،
وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْمَعْرُوفِينَ وَالْأَبْطَالِ الْمَشْهُورِينَ
كَأَبِيهِ، وَكَانَ قَدْ عَظُمَ بِبِلَادِ الشَّامِ كَذَلِكَ حَتَّى خَافَ مِنْهُ
مُعَاوِيَةُ، وَمَاتَ وَهُوَ مَسْمُومٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَقَالَ ابْنُ مَنْدَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: أَدْرَكَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبَى عُمَرَ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ
قَيْسٍ رَوَى عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْحِجَامَةِ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَهُوَ مُنْقَطِعٌ.
يَعْنِي مُرْسَلًا.
وَقَالَ
الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: كَانَ عَظِيمَ الْقَدْرِ فِي أَهْلِ الشَّامِ، شَهِدَ
صِفِّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ كَعْبُ بْنُ جُعَيْلٍ مَدَّاحًا لَهُ وَلِأَخَوَيْهِ
مُهَاجِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ سُمَيْعٍ: كَانَ يَلِي الصَّوَائِفَ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ
حَفِظَ عَنْ مُعَاوِيَةَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ ابْنُ أُثَالٍ
- وَكَانَ رَئِيسَ الذِّمَّةِ بِأَرْضِ حِمْصَ - سَقَاهُ شَرْبَةً فِيهَا سُمٌّ
فَمَاتَ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ مُعَاوِيَةَ لَهُ فِي
ذَلِكَ، وَلَا يَصِحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَثَاهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ:
أَبُوكَ الَّذِي قَادَ الْجُيُوشَ مَغْرِبًا إِلَى الرُّومِ لَمَّا أَعْطَتِ
الْخَرْجَ فَارِسُ وَكَمْ مِنْ فَتًى نَبَّهْتَهُ بَعْدَ هَجْعَةٍ
بِقَرْعِ اللِّجَامِ وَهُوَ أَكْتَعُ نَاعِسُ وَمَا يَسْتَوِي الصَّفَّانِ صَفٌّ
لِخَالِدٍ
وَصَفٌّ عَلَيْهِ مِنْ دِمَشْقَ الْبَرَانِسُ
وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ
الْوَلِيدِ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: مَا
فَعَلَ ابْنُ أَثَالٍ ؟ فَسَكَتَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ رَجَعَ
إِلَى حِمْصَ فَثَارَ عَلَى ابْنِ أُثَالٍ فَقَتَلَهُ، فَحَبَسَهُ مُعَاوِيَةُ ثُمَّ
أَطْلَقَهُ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ،
فَقَالَ
لَهُ عُرْوَةُ: مَا فَعَلَ ابْنُ أُثَالٍ ؟ فَقَالَ: قَدْ كَفَيْتُكَ إِيَّاهُ،
وَلَكِنْ مَا فَعَلَ ابْنُ جُرْمُوزٍ ؟ فَسَكَتَ عُرْوَةُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فِي قَوْلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
هَرِمُ بْنُ حَيَّانَ الْعَبْدِيُّ، كَانَ أَحَدَ عُمَّالِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ، وَلَقِيَ - أُوَيْسًا الْقَرْنِيَّ، وَكَانَ مِنْ عُقَلَاءِ النَّاسِ
وَعُلَمَائِهِمْ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا دُفِنَ جَاءَتْ سَحَابَةٌ فَرَشَّتْ
قَبْرَهُ وَحْدَهُ، وَنَبَتَ الْعُشْبُ عَلَيْهِ مِنْ وَقْتِهِ، فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سُنَّةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ
فِيهَا شَتَّى الْمُسْلِمُونَ بِبِلَادِ الرُّومِ. وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ دِيَارِ مِصْرَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا
مُعَاوِيَةَ بْنَ حُدَيْجٍ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ،
وَقِيلَ: أَخُوهُ عَنْبَسَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ، كَانَ مِنْ
سَادَاتِ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَكَانَ مِمَّنْ حَرَّمَ
الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَكِرَ يَوْمًا، فَعَبِثَ
بِذَاتِ مَحْرَمٍ مِنْهُ، فَهَرَبَتْ مِنْهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قِيلَ لَهُ فِي
ذَلِكَ فَحَرَّمَهَا، وَأَنْشَدَ ذَلِكَ:
رَأَيْتُ الْخَمْرَ مَصْلَحَةً وَفِيهَا مَقَابِحُ تَفْضَحُ الرَّجُلَ الْكَرِيمَا
فَلَا وَاللَّهِ أَشْرَبُهَا حَيَاتِي
وَلَا أَشْفِي بِهَا أَبَدًا سَقِيمًا
وَكَانَ إِسْلَامُهُ مَعَ وَفْدِ بَنَى تَمِيمٍ، وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " هَذَا سَيِّدُ
أَهْلِ الْوَبَرِ ". وَكَانَ جَوَادًا مُمَدَّحًا كَرِيمًا، وَهُوَ الَّذِي
يَقُولُ فِيهِ الشَّاعِرُ يَوْمَ مَاتَ:
فَمَا
كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ وَاحِدٍ وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ وَأَبَا
سُفْيَانَ بْنَ الْعَلَاءِ يَقُولَانِ: قِيلَ لِلْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ: مِمَّنْ
تَعَلَّمْتِ الْحِلْمَ ؟ قَالَ: مِنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيِّ ; لَقَدِ
اخْتَلَفْنَا إِلَيْهِ فِي الْحُكْمِ كَمَا يُخْتَلَفُ إِلَى الْفُقَهَاءِ فِي
الْفِقْهِ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَهُ يَوْمًا وَهُوَ قَاعِدٌ بِفِنَائِهِ
مُحْتَبٍ بِكِسَائِهِ، إِذْ أَتَتْهُ جَمَاعَةٌ فِيهِمْ مَقْتُولٌ وَمَكْتُوفٌ،
فَقَالُوا: هَذَا ابْنُكَ قَتَلَهُ ابْنُ أَخِيكَ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا حَلَّ
حَبَوْتَهُ حَتَّى فَرَغَ مِنْ كَلَامِهِ، ثُمَّ الْتَفَتْ إِلَى ابْنٍ لَهُ فِي
الْمَجْلِسِ فَقَالَ: أَطْلِقْ عَنِ ابْنِ عَمِّكَ، وَوَارِ أَخَاكَ، وَاحْمِلْ
إِلَى أُمِّهِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ فَإِنَّهَا غَرِيبَةٌ. ثُمَّ نَظَرَ لَهُ
فَقَالَ: نَقَصْتَ عَدَدَكَ، وَقَطَعْتَ رَحِمَكَ، وَعَصَيْتَ رَبَّكَ، وَأَطَعْتَ
شَيْطَانَكَ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَلَسَ حَوْلَهُ بَنُوهُ،
وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ ذَكَرًا، فَقَالَ لَهُمْ: يَا بَنِيَّ،
سَوِّدُوا عَلَيْكُمْ أَكْبَرَكُمْ تَخْلُفُوا أَبَاكُمْ، وَلَا تَسُوِّدُوا
أَصْغَرَكُمْ فَيَزْدَرِي بِكُمْ أَكْفَاؤُكُمْ، وَعَلَيْكُمْ بِالْمَالِ
وَاصْطِنَاعِهِ فَإِنَّهُ مَأْبَهَةٌ لِلْكَرِيمِ، وَيُسْتَغْنَي بِهِ عَنِ
اللَّئِيمِ، وَإِيَّاكُمْ وَمَسْأَلَةَ النَّاسِ ; فَإِنَّهَا مِنْ أَخَسِّ
مَكْسَبَةِ الرَّجُلِ، وَلَا تَنُوحُوا عَلَيَّ ; فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنَحْ عَلَيْهِ، وَلَا تَدْفِنُونِي حَيْثُ
يَشْعُرُ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ ; فَإِنِّي كُنْتُ أُعَادِيهِمْ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ. وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ:
عَلَيْكَ
سَلَامُ اللَّهِ قَيْسُ بْنَ عَاصِمٍ وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتَرَحَّمَا
تَحِيَّةَ مَنْ أَوْلَيْتَهُ مِنْكَ مِنَّةً إِذَا ذُكِرَتْ أَمْثَالُهَا تَمْلَأُ
الْفَمَا
فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ وَاحِدٍ وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ
تَهَدَّمَا
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ
فِيهَا شَتَّى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَيْنِيُّ بِالْمُسْلِمِينَ بِبِلَادِ
أَنْطَاكِيَةَ. وَفِيهَا غَزَا عُقَبَةُ بْنُ عَامِرٍ بِأَهْلِ مِصْرَ الْبَحْرَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ نَائِبُ
الْمَدِينَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ
فِيهَا غَزَا يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بِلَادَ الرُّومِ حَتَّى بَلَغَ
قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ ;
ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَبُو أَيُّوبَ
الْأَنْصَارِيُّ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَوَّلُ جَيْشٍ يَغْزُونَ
مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ " فَكَانَ هَذَا الْجَيْشُ أَوَّلَ مَنْ
غَزَاهَا، وَمَا وَصَلُوا إِلَيْهَا حَتَّى بَلَغُوا الْجَهْدَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَقِيلَ:
لَمْ يَمُتْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، بَلْ بَعْدَهَا سَنَةَ إِحْدَى أَوْ
ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ عَنِ الْمَدِينَةِ وَوَلَّى
عَلَيْهَا سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَاسْتَقْضَى سَعِيدٌ عَلَيْهَا أَبَا سَلَمَةَ
بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
وَفِيهَا شَتَّى مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ الْفَزَارِيُّ بِأَرْضِ الرُّومِ.
وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَشَتَّى هُنَالِكَ، فَفَتَحَ
الْبَلَدَ وَغَنِمَ شَيْئًا كَثِيرًا. وَفِيهَا كَانَتْ صَائِفَةُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ كُرْزٍ الْبَجَلِيِّ.
وَفِيهَا
وَقَعَ الطَّاعُونُ بِالْكُوفَةِ، فَخَرَجَ مِنْهَا الْمُغِيرَةُ فَارًّا،
فَلَمَّا ارْتَفَعَ الطَّاعُونُ رَجَعَ إِلَيْهَا، فَأَصَابَهُ الطَّاعُونُ
فَمَاتَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ كَمَا سَيَأْتِي.
فَجَمَعَ مُعَاوِيَةُ لِزِيَادٍ الْكُوفَةَ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَكَانَ أَوَّلَ
مِنْ جُمِعَ لَهُ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ زِيَادٌ يُقِيمُ فِي هَذِهِ سِتَّةَ
أَشْهُرٍ، وَفِي هَذِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْبَصْرَةِ
سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَعِيدُ بْنُ
الْعَاصِ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ
الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ، سِبْطُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ابْنُ ابْنَتِهِ فَاطِمَةُ الزَّهْرَاءُ
وَرَيْحَانَتُهُ، وَأَشْبَهُ خَلْقِ اللَّهِ بِهِ فِي وَجْهِهِ، وُلِدَ لِلنِّصْفِ
مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَحَنَّكَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِيقِهِ، وَسَمَّاهُ حَسَنًا، وَهُوَ
أَكْبَرُ وَلَدِ أَبَوَيْهِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا حَتَّى كَانَ يُقَبِّلُ زَبِيبَتَهُ
وَهُوَ صَغِيرٌ، وَرُبَّمَا مَصَّ لِسَانَهُ وَاعْتَنَقَهُ وَدَاعَبَهُ،
وَرُبَّمَا جَاءَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ
فِي الصَّلَاةِ فَيَرْكَبُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيُقِرُّهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُطِيلُ
السُّجُودَ مِنْ أَجْلِهِ، وَرُبَّمَا صَعِدَ مَعَهُ إِلَى الْمِنْبَرِ.
وَقَدْ
ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ،بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ إِذْ
رَأَى الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مُقْبِلِينِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمَا
فَاحْتَضَنَهُمَا، وَأَخَذَهُمَا مَعَهُ إِلَى الْمِنْبَرِ، وَقَالَ: "
صَدَقَ اللَّهُ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ، إِنِّي رَأَيْتُ
هَذَيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَلَمْ أَمْلِكْ أَنْ نَزَلْتُ إِلَيْهِمَا
". ثُمَّ قَالَ: " إِنَّكُمْ لِمَنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَإِنَّكُمْ
لَتُبَخِّلُونَ وَتُجَبِّنُونَ ".
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ
عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعِيدِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ،
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ صَلَّى بِهِمُ الْعَصْرَ -
بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَيَالٍ -
ثُمَّ خَرَجَ هُوَ وَعَلِيٌّ يَمْشِيَانِ، فَرَأَى الْحَسَنَ يَلْعَبُ مَعَ
الْغِلْمَانِ فَاحْتَمَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: بِأَبِي بِأَبِي
شِبْهُ النَّبِيِّ، لَيْسَ شَبِيهًا بِعَلِيٍّ. قَالَ: وَعَلِيٌّ يَضْحَكُ.
وَرَوَى سُفْيَانُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا: ثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ
بْنُ أَبِي خَالِدٍ،
سَمِعْتُ
أَبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ:رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يُشْبِهُهُ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ. قَالَ وَكِيعٌ: لَمْ يَسْمَعْ
إِسْمَاعِيلُ مِنْ أَبِي جُحَيْفَةَ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، ثَنَا زَمْعَةُ، عَنِ
ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَانَتْ فَاطِمَةُ تَنْقُزُ الْحَسَنَ بْنَ
عَلِيٍّ، وَتَقُولُ:
يَا بِأَبِي شِبْهُ النَّبِيِّ لَيْسَ شَبِيهًا بِعَلِيِّ
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
أَنَسٍ قَالَ:كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ أَشْبَهَهُمْ وَجْهًا بِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا حَجَّاجٌ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ،
عَنْ هَانِئٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:الْحَسَنُ أَشْبَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيْنَ الصَّدْرِ إِلَى الرَّأْسِ، وَالْحُسَيْنُ
أَشْبَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَسْفَلَ مِنْ
ذَلِكَ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ،
وَقَالَ:
حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: ثَنَا قَيْسٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
هَانِئِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ أَشْبَهَ
النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهِهِ
إِلَى سُرَّتِهِ، وَكَانَ الْحُسَيْنُ أَشْبَهَ النَّاسِ بِهِ مَا أَسْفَلَ مِنْ
ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ الْحَسَنَ
بْنَ عَلِيٍّ كَانَ يُشْبِهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ، ثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا تَمِيمَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ،
يُحَدِّثُهُ أَبُو عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ،
وَيَقْعُدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَضُمُّنَا ثُمَّ يَقُولُ:
" اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا ". وَكَذَا رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ، عَنِ النَّهْدِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ عَارِمٌ بِهِ،
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ سُلَيْمَانَ
التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ،
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَمُسَدَّدٍ، عَنْ
مُعْتَمِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ، فَلَمْ يَذْكُرْ
أَبَا تَمِيمَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي رِوَايَةٍ " اللَّهُمَّ إِنِّي
أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا ".
وَقَالَ
شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ:
رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ
عَلَى عَاتِقِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ
" أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ. وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ،
عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَدِيٍّ، عَنِ الْبَرَاءِ، فَزَادَ: "
وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ ". وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي يَزِيدَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْحَسَنِ بْنِ
عَلِيٍّ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ، وَأُحِبَّ مَنْ
يُحِبُّهُ ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَحْمَدَ، وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ
شُعْبَةَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو النَّضْرِ، ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
عَنْ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِ
الْمَدِينَةِ فَانْصَرَفَ وَانْصَرَفْتُ مَعَهُ، فَجَاءَ إِلَى فِنَاءِ فَاطِمَةَ،
فَنَادَى الْحَسَنَ فَقَالَ: " أَيْ لُكَعُ، أَيْ لُكَعُ، أَيْ لُكَعُ
". فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ فَانْصَرَفَ وَانْصَرَفْتُ
مَعَهُ،
فَجَاءَ إِلَى فِنَاءِ عَائِشَةَ فَقَعَدَ. قَالَ: فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ
عَلِيٍّ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ ظَنَنَّا أَنَّ أُمَّهُ حَبَسَتْهُ لِتَجْعَلَ
فِي عُنُقِهِ السِّخَابَ، فَلَمَّا دَخَلَ الْتَزَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْتَزَمَ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ
فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ ". ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَأَخْرَجَاهُ
مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا حَمَّادٌ الْخَيَّاطُ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ
نُعَيمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ
مُتَّكِئًا عَلَى يَدِي، فَطَافَ فِيهَا، ثُمَّ رَجَعَ فَاحْتَبَى فِي الْمَسْجِدِ،
وَقَالَ: " أَيْنَ لُكَاعُ ؟ ادْعُوَا لِي لُكَاعُ ". فَجَاءَ الْحَسَنُ
فَاشْتَدَّ حَتَّى وَثَبَ فِي حَبْوَتِهِ، فَأَدْخَلَ فَمَهُ فِي فَمِهِ، ثُمَّ
قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ
" ثَلَاثًا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا رَأَيْتُ الْحَسَنَ إِلَّا فَاضَتْ
عَيْنِي. أَوْ قَالَ: دَمَعِتْ عَيْنِي. أَوْ: بَكَيْتُ. وَهَذَا عَلَى شَرْطِ
مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ، وَقَدْ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ نُعَيمٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ أَوْ
نَحْوَهُ. وَرَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ،
عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِنَحْوِهِ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ. وَرَوَى أَبُو
إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ نَحْوًا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ.
وَرَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْكَنَّاتِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ بِنَحْوِهِ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ،
عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَحَبَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فَقَدْ
أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي " غَرِيبٌ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، ثَنَا الْحَجَّاجُ - يَعْنِي ابْنَ
دِينَارٍ - عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَسْعُودٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ، هَذَا عَلَى عَاتِقِهِ وَهَذَا
عَلَى عَاتِقِهِ، وَهُوَ يَلْثَمُ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً، حَتَّى انْتَهَى
إِلَيْنَا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتُحِبُّهُمَا.
فَقَالَ: " مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا
فَقَدْ أَبْغَضَنِي ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلَّى،
فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، فَجَعَلَا يَتَوَثَّبَانِ عَلَى ظَهْرِهِ إِذَا
سَجَدَ، فَأَرَادَ النَّاسُ زَجْرَهُمَا، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ لِلنَّاسِ:
" هَذَانِ ابْنَايَ، مَنْ أَحَبَّهُمَا
فَقَدْ
أَحَبَّنِي ". وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
مُوسَى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمٍ بِهِ.
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ أُمَّيِ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَمَلَ عَلَى الْحَسَنِ
وَالْحُسَيْنِ وَأُمِّهِمَا وَأَبِيهِمَا، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ
أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا ".
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْأَسَدِيُّ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
سَابِطٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى سَيِّدِ
شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ".
وَقَدْ رَوَاهُ وَكِيعٌ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ سَابِطٍ، عَنْ جَابِرٍ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ،
وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَجَاءَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَأَبِي سَعِيدٍ وَبُرَيْدَةَ وَحُذَيْفَةَ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْحَسَنُ
وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَبُوهُمَا خَيْرٌ مِنْهُمَا
".
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: ثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو، ثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ،
حَدَّثَنِي
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ
يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ قَالَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَسْعَيَانِ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ
الْآخَرِ، فَجَعَلَ يَدَهُ فِي رَقَبَتِهِ، ثُمَّ ضَمَّهُ إِلَى إِبِطِهِ، ثُمَّ
جَاءَ الْآخَرُ فَجَعَلَ يَدَهُ الْأُخْرَى فِي رَقَبَتِهِ، ثُمَّ ضَمَّهُ إِلَى
إِبِطِهِ، ثُمَّ قَبَّلَ هَذَا، ثُمَّ قَبَّلَ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: "
اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا ". ثُمَّ قَالَ: "
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ مَجْهَلَةٌ ".
وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي خُثَيمٍ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ خَلَفٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ حَسَنًا فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ
أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: " إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ
".
وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ ثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيُّ،
ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ ( ح ) وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا أَبُو
خَيْثَمَةَ: ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ،
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَجَاءَ الْحَسَنُ
وَالْحُسَيْنُ وَعَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ، يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ،
فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمَا
فَأَخَذَهُمَا، فَوَضَعَهُمَا فِي حِجْرِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ قَالَ:
" صَدَقَ اللَّهُ: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ.
رَأَيْتُ هَذَيْنِ الصَّبَّيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ عَنْهُمَا ". ثُمَّ أَخَذَ
فِي خُطْبَتِهِ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ،
مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ
غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ
مُحَمَّدٌ
الضَّمْرِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ لِلْحَسَنِ
وَحْدَهُ.
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ،
فَسَجَدَ سَجْدَةً أَطَالَ فِيهَا السُّجُودَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ النَّاسُ
لَهُ فِي ذَلِكَ، قَالَ: " إِنَّ ابْنِي - يَعْنِي الْحَسَنَ - ارْتَحَلَنِي
فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ ".
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ:دَخَلْتُ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَامِلٌ الْحَسَنَ
وَالْحُسَيْنَ عَلَى ظَهْرِهِ، وَهُوَ يَمْشِي بِهِمَا عَلَى أَرْبَعٍ، فَقُلْتُ:
نِعْمَ الْجَمَلُ جَمَلُكُمَا. فَقَالَ: " وَنِعْمَ الْعَدْلَانِ هُمَا
". إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا أَبُو هِشَامٍ، ثَنَا أَبُو عَامِرٍ، ثَنَا زَمْعَةُ
بْنُ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
حَامِلٌ الْحَسَنَ عَلَى عَاتِقِهِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا غُلَامُ، نِعْمَ
الْمَرْكَبُ رَكِبْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " وَنِعْمَ الرَّاكِبُ هُوَ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا تَلِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثَنَا أَبُو
الْجَحَّافِ، عَنْ أَبِي
حَازِمٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى عَلِيٍّ وَحَسَنٍ وَحُسَيْنٍ وَفَاطِمَةَ فَقَالَ: " أَنَا
حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبْتُمْ وَسِلْمٌ لِمَنْ سَالَمْتُمْ " وَقَدْ رَوَاهُ
النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ، وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ
وَكِيعٍ، كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْجَحَّافِ دَاوُدَ
بْنِ أَبِي عَوْفٍ - قَالَ وَكِيعٌ: وَكَانَ مَرْضِيًّا - عَنْ أَبِي حَازِمٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: " مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي،
وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي ". وَقَدْ رَوَاهُ أَسْبَاطٌ عَنِ
السُّدِّيِّ، عَنْ صُبَيْحٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ
فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ بَقِيَّةُ، عَنْ بِحِيرِ بْنِ سَعِدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنِ
الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " الْحَسَنُ مِنِّي وَالْحُسَيْنُ مِنْ عَلِيٍّ
". فِيهِ نَكَارَةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ
عُمَيْرِ بْنِ
إِسْحَاقَ
قَالَ: كُنْتُ مَعَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَلَقِينَا أَبُو هُرَيْرَةَ
فَقَالَ:أَرِنِي أُقَبِّلْ مِنْكَ حَيْثُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقَبِّلُ. فَقَالَ بِقَمِيصِهِ. قَالَ: فَقَبَّلَ سُرَّتَهُ.
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ
ابْنِ عَوْنٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ حَرِيزٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَوْفٍ الْجُرَشِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُصُّ لِسَانَهُ - أَوْ
قَالَ: شَفَتَهُ. يَعْنِي الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - وَإِنَّهُ لَنْ يُعَذَّبَ
لِسَانٌ أَوْ شَفَتَانِ مَصَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، وَرَوَى
أَحْمَدُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ
اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
". وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ،
وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا عِنْدَ نُزُولِ الْحَسَنِ لِمُعَاوِيَةَ عَنِ الْخِلَافَةِ،
وَوَقَعَ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا،
وَكَذَلِكَ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ كَانَ الصِّدِّيقُ يُجِلُّهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيُكْرِمُهُ وَيُحِبُّهُ
وَيَتَفَدَّاهُ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ; فَرَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ
مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ
التَّيْمِيِّ،
عَنْ أَبِيهِ، أَنْ عُمَرَ لَمَّا عَمِلَ الدِّيوَانَ فَرَضَ لِلْحَسَنِ
وَالْحُسَيْنِ مَعَ أَهْلِ بَدْرٍ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ. وَكَذَلِكَ كَانَ
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يُكْرِمُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَيُحِبُّهُمَا. وَقَدْ
كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَوْمَ الدَّارِ - وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ
مَحْصُورٌ - عِنْدَهُ وَمَعَهُ السَّيْفُ مُتَقَلِّدًا بِهِ يُجَاحِفُ عَنْ
عُثْمَانَ، فَخَشِيَ عُثْمَانُ عَلَيْهِ، فَأَقْسَمَ عَلَيْهِ لَيَرْجِعَنَّ إِلَى
مَنْزِلِهِمْ تَطْيِيبًا لِقَلْبِ عَلِيٍّ وَخَوْفًا عَلَيْهِ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ.
وَكَانَ عَلِيٌّ يُكْرِمُ الْحَسَنَ إِكْرَامًا زَائِدًا، وَيُعَظِّمُهُ
وَيُبَجِّلُهُ، وَقَدْ قَالَ لَهُ يَوْمًا: يَا بُنَيَّ، أَلَا تَخْطُبُ حَتَّى
أَسْمَعَكَ ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَسْتَحِي أَنْ أَخْطُبَ وَأَنَا أَرَاكَ. فَذَهَبَ
عَلِيٌّ فَجَلَسَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ الْحَسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْحَسَنُ فِي
النَّاسِ خَطِيبًا وَعَلِيٌّ يَسْمَعُ، فَأَدَّى خُطْبَةً بَلِيغَةً فَصِيحَةً،
فَلَمَّا انْصَرَفَ جَعَلَ عَلِيٌّ يَقُولُ: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ آلِ عِمْرَانَ: 34 ]. وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ
يَأْخُذُ الرِّكَابَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ إِذَا رَكِبَا، وَيَرَى هَذَا مِنْ
نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَكَانَا إِذَا طَافَا بِالْبَيْتِ يَكَادُ النَّاسُ
يُحَطِّمُونَهُمَا مِمَّا يَزْدَحِمُونَ عَلَيْهِمَا لِلسَّلَامِ عَلَيْهِمَا،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَرْضَاهُمَا.
وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا قَامَتِ النِّسَاءُ عَنْ مِثْلِ
الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ الْحَسَنُ إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُ فِي مُصَلَّاهُ يَذْكُرُ
اللَّهَ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، وَيَجْلِسُ إِلَيْهِ مِنْ يَجْلِسُ مِنْ
سَادَاتِ
النَّاسِ يَتَحَدَّثُونَ عِنْدَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَدْخُلُ عَلَى أُمَّهَاتِ
الْمُؤْمِنِينَ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ. وَرُبَّمَا أَتْحَفْنَهُ، ثُمَّ
يَنْصَرِفُ إِلَى مَنْزِلِهِ.
وَلَمَّا نَزَلَ لِمُعَاوِيَةَ عَنِ الْخِلَافَةِ مِنْ وَرَعِهِ صِيَانَةً
لِدِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، كَانَ لَهُ عَلَى مُعَاوِيَةَ فِي كُلِّ عَامٍ
جَائِزَةٌ، وَكَانَ يَفِدُ إِلَيْهِ، فَرُبَّمَا أَجَازَهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ
أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَرَاتِبُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةُ أَلْفٍ، فَانْقَطَعَ
سَنَةً عَنِ الذَّهَابِ، وَجَاءَ وَقْتُ الْجَائِزَةِ، فَاحْتَاجَ الْحَسَنُ
إِلَيْهَا - وَكَانَ مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ - فَأَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى
مُعَاوِيَةَ لِيَبْعَثَ بِهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا نَامَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ رَأَى
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ:
" يَا بُنَيَّ، أَتَكْتُبُ إِلَى مَخْلُوقٍ بِحَاجَتِكَ ؟ ! "
وَعَلَّمَهُ دُعَاءً يَدْعُو بِهِ، فَتَرَكَ الْحَسَنُ مَا كَانَ هَمَّ بِهِ مِنَ
الْكِتَابَةِ، فَذَكَرَهُ مُعَاوِيَةُ وَافْتَقَدَهُ، وَقَالَ: ابْعَثُوا إِلَيْهِ
بِمِائَتَيْ أَلْفٍ، فَلَعَلَّ لَهُ ضَرُورَةً فِي تَرْكِهِ الْقُدُومَ عَلَيْنَا.
فَحُمِلَتْ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ.
قَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ
مَدَنِيٌّ ثِقَةٌ. حَكَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ ".
قَالُوا: وَقَاسَمَ اللَّهَ مَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَخَرَجَ مِنْ مَالِهِ
مَرَّتَيْنِ، وَحَجَّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً مَاشِيًا وَإِنَّ الْجَنَائِبَ
لَتُقَادُ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَرَوَى ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ. وَقَدْ عَلَّقَ الْبُخَارِيُّ فِي
" صَحِيحِهِ " أَنَّهُ حَجَّ مَاشِيًا وَالْجَنَائِبُ تُقَادُ بَيْنَ
يَدَيْهِ.
وَرَوَى دَاوُدُ بْنُ رَشِيدٍ، عَنْ حَفْصٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: حَجَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مَاشِيًا، وَالْجَنَائِبُ تُقَادُ
بَيْنَ يَدَيْهِ، وَنَجَائِبُهُ تُقَادُ إِلَى جَنْبِهِ
وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: إِنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنْ رَبِّي، عَزَّ
وَجَلَّ، أَنْ أَلْقَاهُ وَلَمْ أَمْشِ إِلَى بَيْتِهِ. فَمَشَى عِشْرِينَ مَرَّةً
مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى رِجْلَيْهِ.
قَالُوا: وَكَانَ يَقْرَأُ فِي بَعْضِ خُطَبِهِ سُورَةَ " إِبْرَاهِيمَ
". وَكَانَ يَقْرَأُ كُلَّ لَيْلَةٍ سُورَةَ " الْكَهْفِ " قَبْلَ
أَنْ يَنَامَ، يَقْرَؤُهَا مِنْ لَوْحٍ يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ مِنْ بُيُوتِ
نِسَائِهِ، فَيَقْرَؤُهُ بَعْدَ مَا يَدْخُلُ فِي الْفِرَاشِ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ كَانَ مِنَ الْكَرَمِ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
سِيرِينَ: رُبَّمَا أَجَازَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ
بِمِائَةِ أَلْفٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: سَمِعَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ إِلَى
جَانِبِهِ رَجُلًا يَدْعُو اللَّهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ،
فَقَامَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَبَعَثَ بِهَا إِلَيْهِ.
وَذَكَرُوا
أَنَّ الْحَسَنَ رَأَى غُلَامًا أَسْوَدَ يَأْكُلُ مِنْ رَغِيفٍ لُقْمَةً،
وَيُطْعِمُ كَلْبًا هُنَاكَ لُقْمَةً، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا ؟ !
فَقَالَ: إِنِّي أَسْتَحِي مِنْهُ أَنْ آكُلَ وَلَا أُطْعِمَهُ. فَقَالَ لَهُ
الْحَسَنُ: لَا تَبْرَحْ مِنْ مَكَانِكَ حَتَّى آتِيَكَ. فَذَهَبَ إِلَى
سَيِّدِهِ، فَاشْتَرَاهُ وَاشْتَرَى الْحَائِطَ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَأَعْتَقَهُ
وَمَلَّكَهُ الْحَائِطَ، فَقَالَ الْغُلَامُ: يَا مَوْلَايَ، قَدْ وَهَبْتُ
الْحَائِطَ لِلَّذِي وَهَبَتْنِي لَهُ.
قَالُوا: وَكَانَ كَثِيرَ التَّزَوُّجِ، وَكَانَ لَا يُفَارِقُهُ أَرْبَعُ
حَرَائِرَ، وَكَانَ مِطْلَاقًا مِصْدَاقًا. يُقَالُ: إِنَّهُ أَحْصَنَ بِسَبْعِينَ
امْرَأَةً. وَذَكَرُوا أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَيْنِ فِي يَوْمٍ ; وَاحِدَةً مِنْ
بَنِي أَسَدٍ وَأُخْرَى فَزَارِيَّةً، وَبَعَثَ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَبِزُقَاقٍ مِنْ عَسَلٍ، وَقَالَ لِلْغُلَامِ: اسْمَعْ مَا
تَقُولُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. فَأَمَّا الْفَزَارِيَّةُ فَقَالَتْ: جَزَاهُ
اللَّهُ خَيْرًا. وَدَعَتْ لَهُ، وَأَمَّا الْأَسَدِيَّةُ فَقَالَتْ
:
مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقِ
فَرَجَعَ الْغُلَامُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، فَارْتَجَعَ الْأَسْدِيَةَ وَتَرَكَ
الْفَزَارِيَّةَ. وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ: لَا
تُزَوِّجُوهُ فَإِنَّهُ مِطْلَاقٌ. فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
لَوْ خَطَبَ إِلَيْنَا كُلَّ يَوْمٍ لَزَوَّجَنَاهُ مِنَّا مَنْ شَاءَ ;
ابْتِغَاءً فِي صِهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ نَامَ مَعَ امْرَأَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ مَنْظُورٍ
الْفَزَارِيِّ - وَقِيلَ: هِنْدَ بِنْتِ سُهَيْلٍ - فَوْقَ إِجَّارٍ، فَعَمَدَتِ
الْمَرْأَةُ فَرَبَطَتْ رِجْلَهُ بِخِمَارِهَا إِلَى خَلْخَالِهَا، فَلَمَّا
اسْتَيْقَظَ
قَالَ لَهَا: مَا هَذَا ؟ فَقَالَتْ: خِفْتُ أَنْ تَقُومَ مِنْ وَسَنِ النَّومِ
فَتَسْقُطَ، فَأَكُونُ أَشْأَمَ سَخْلَةٍ عَلَى الْعَرَبِ. فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ
مِنْهَا، وَاسْتَمَرَّ بِهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ
فَاسْتَعَانَ بِهِ فِي حَاجَةٍ، فَوَجَدَهُ مُعْتَكِفًا، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ،
فَذَهَبَ إِلَى الْحَسَنِ فَاسْتَعَانَ بِهِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ وَقَالَ:
لَقَضَاءُ حَاجَةِ أَخٍ لِي فِي اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنِ اعْتِكَافِ شَهْرٍ.
وَقَالَ هُشَيْمٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ
بْنُ عَلِيٍّ لَا يَدْعُو إِلَى طَعَامِهِ أَحَدًا ; يَقُولُ: هُوَ أَهْوَنُ مِنْ
أَنْ يُدْعَى إِلَيْهِ أَحَدٌ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَالَ عَلِيٌّ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ لَا تُزَوِّجُوا
الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ مِطْلَاقٌ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ:
وَاللَّهِ لَنُزَوِّجَنَّهُ، فَمَا رَضِيَ أَمْسَكَ، وَمَا كَرِهَ طَلَّقَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَرَائِطِيُّ فِي كِتَابِ " مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ
": ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْجُنَيْدِ، ثَنَا الْقَوَارِيرِيُّ، ثَنَا
عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: تَزَوَّجَ
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ امْرَأَةً، فَبَعَثَ إِلَيْهَا بِمِائَةِ جَارِيَةٍ، مَعَ
كُلِّ جَارِيَةٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنِ
الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَتَّعَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ
امْرَأَتَيْنِ بِعِشْرِينَ أَلْفًا وَزُقَاقٍ مِنْ عَسَلٍ، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا
وَأُرَاهَا الْحَنَفِيَّةَ:
مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقِ
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مِطْلَاقًا
لِلنِّسَاءِ، وَكَانَ لَا يُفَارِقُ امْرَأَةً إِلَا وَهِيَ تُحِبُّهُ.
وَقَالَ جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ: لَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بَكَى عَلَيْهِ
مَرْوَانُ فِي جِنَازَتِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: أَتَبْكِيهِ وَقَدْ كُنْتُ
تُجَرِّعُهُ مَا تُجَرِّعُهُ ؟ ! فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَى
أَحْلَمَ مِنْ هَذَا. وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْجَبَلِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَسَدِيُّ،
عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: مَا تَكَلَّمَ عِنْدِي
أَحَدٌ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ إِذَا تَكَلَّمَ أَلَّا يَسْكُتَ مِنَ الْحَسَنِ
بْنِ عَلِيٍّ، وَمَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةَ فُحْشٍ قَطُّ إِلَّا مَرَّةً ;
فَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ
خُصُومَةٌ، فَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ لَهُ عِنْدَنَا إِلَّا مَا رَغِمَ أَنْفُهُ.
فَهَذِهِ أَشَدُّ كَلِمَةِ فُحِشٍ سَمِعْتُهَا مِنْهُ قَطُّ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، أَنَا مُسَافِرٌ
الْجَصَّاصُ، عَنْ رُزَيْقِ بْنِ سَوَّارٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ الْحَسَنِ وَبَيْنَ
مَرْوَانَ خُصُومَةٌ، فَجَعَلَ مَرْوَانُ يُغْلِظُ لِلْحَسَنِ، وَحَسَنٌ سَاكِتٌ،
فَامْتَخَطَ مَرْوَانُ بِيَمِينِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: وَيْحَكَ ! أَمَا
عَلِمْتَ
أَنَّ الْيُمْنَى لِلْوَجْهِ وَالشِّمَالَ لِلْفَرَجِ ؟ ! أُفٍّ لَكَ. فَسَكَتَ
مَرْوَانُ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ: قِيلَ لِلْحَسَنِ
بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ: الْفَقْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْغِنَى،
وَالسَّقَمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الصِّحَّةِ. فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا
ذَرٍّ، أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ: مَنِ اتَّكَلَ عَلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ
لَهُ لَمْ يَتَمَنَّ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الْحَالَةِ الَّتِي اخْتَارَ اللَّهُ
لَهُ، وَهَذَا حَدُّ الْوُقُوفِ عَلَى الرِّضَا بِمَا تَصَرَّفَ بِهِ الْقَضَاءُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ كَيْسَانَ الْأَصَمُّ: قَالَ الْحَسَنُ ذَاتَ
يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَخٍ لِي كَانَ مِنْ أَعْظَمِ
النَّاسِ فِي عَيْنِي، وَكَانَ عَظِيمَ مَا عَظَّمَهُ فِي عَيْنِي صِغَرُ
الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ، كَانَ خَارِجًا مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِهِ، فَلَا
يَشْتَهِي مَا لَا يَجِدُ، وَلَا يُكْثِرُ إِذَا وَجَدَ، وَكَانَ خَارِجًا مِنْ
سُلْطَانِ فَرْجِهِ، فَلَا يَسْتَخِفُّ لَهُ عَقْلُهُ وَلَا رَأْيُهُ، وَكَانَ
خَارِجًا مِنْ سُلْطَانِ الْجَهَلَةِ، فَلَا يَمُدُّ يَدًا إِلَّا عَلَى ثِقَةِ
الْمَنْفَعَةِ، كَانَ لَا يَسْخَطُ وَلَا يَتَبَرَّمُ، كَانَ إِذَا جَامَعَ
الْعُلَمَاءَ يَكُونُ عَلَى أَنْ يَسْمَعَ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَى أَنْ
يَتَكَلَّمَ، وَكَانَ إِذَا غُلِبَ عَلَى الْكَلَامِ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى
الصَّمْتِ، كَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتًا، فَإِذَا قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ،
وَكَانَ لَا يُشَارِكُ فِي دَعْوَى، وَلَا يَدْخُلُ فِي مِرَاءٍ، وَلَا يُدْلِي
بِحُجَّةٍ حَتَّى يَرَى قَاضِيًا، يَقُولُ مَا يَفْعَلُ، وَيَفْعَلُ مَا لَا
يَقُولُ تَفَضُّلًا وَتَكَرُّمًا، كَانَ لَا يَغْفُلُ عَنْ إِخْوَانِهِ، وَلَا
يَسْتَخِصُّ بِشَيْءٍ دُونَهُمْ، كَانَ لَا يَلُومُ أَحَدًا فِيمَا يَقَعُ
الْعُذْرُ بِمِثْلِهِ، كَانَ إِذَا ابْتَدَأَهُ أَمْرَانِ لَا يَرَى
أَيُّهُمَا
أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ، نَظَرَ فِيمَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى هَوَاهُ فَخَالَفَهُ.
رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ وَالْخَطِيبُ.
وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ: ثَنَا بَدْرُ
بْنُ الْهَيْثَمِ الْحَضْرَمِيُّ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ الطَّرِيقِيُّ،
ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو رَجَاءٍ مِنْ أَهْلِ تُسْتَرَ ثَنَا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ
الْوَاسِطِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ
الْأَعْوَرِ، أَنْ عَلِيًّا سَأَلَ ابْنَهُ - يَعْنِي الْحَسَنَ - عَنْ أَشْيَاءَ
مِنَ الْمُرُوءَةِ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، مَا السَّدَادُ ؟ قَالَ: يَا أَبَةِ،
السَّدَادُ دَفْعُ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ. قَالَ: فَمَا الشَّرَفُ ؟ قَالَ:
اصْطِنَاعُ الْعَشِيرَةِ وَحَمْلُ الْجَرِيرَةِ. قَالَ: فَمَا الْمُرُوءَةُ ؟
قَالَ: الْعَفَافُ وَإِصْلَاحُ الْمَرْءِ مَالَهُ. قَالَ: فَمَا الدِّقَّةُ ؟
قَالَ: النَّظَرُ فِي الْيَسِيرِ وَمَنْعُ الْحَقِيرِ. قَالَ: فَمَا اللُّؤْمُ ؟
قَالَ: إِحْرَازُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ وَبَذْلُهُ عِرْسَهُ. قَالَ: فَمَا
السَّمَاحَةُ ؟ قَالَ: الْبَذْلُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ. قَالَ: فَمَا
الشُّحُّ ؟ قَالَ: أَنْ تَرَى مَا فِي يَدَيْكَ شَرَفًا وَمَا أَنْفَقْتَهُ
تَلَفًا. قَالَ: فَمَا الْإِخَاءُ ؟ قَالَ: الْوَفَاءُ فِي الشِّدَّةِ
وَالرَّخَاءِ. قَالَ: فَمَا الْجُبْنُ ؟ قَالَ: الْجُرْأَةُ عَلَى الصَّدِيقِ
وَالنُّكُولُ عَنِ الْعَدُوِّ. قَالَ: فَمَا الْغَنِيمَةُ ؟ قَالَ: الرَّغْبَةُ
فِي التَّقْوَى، وَالزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا هِيَ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ.
قَالَ: فَمَا الْحِلْمُ ؟ قَالَ: كَظْمُ الْغَيْظِ وَمَلْكُ النَّفْسِ. قَالَ:
فَمَا الْغِنَى ؟ قَالَ: رِضَا
النَّفْسِ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهَا وَإِنْ قَلَّ، فَإِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ. قَالَ: فَمَا الْفَقْرُ ؟ قَالَ: شَرَهُ النَّفْسِ فِي كُلِّ شَيْءٍ. قَالَ: فَمَا الْمَنَعَةُ ؟ قَالَ: شِدَّةُ الْبَأْسِ وَمُقَارَعَةُ أَشَدِّ النَّاسِ. قَالَ: فَمَا الذُّلُّ ؟ قَالَ: الْفَزَعُ عِنْدَ الْمَصْدُوقَةِ. قَالَ: فَمَا الْجُرْأَةُ ؟ قَالَ: مُوَافَقَةُ الْأَقْرَانِ. قَالَ: فَمَا الْكُلْفَةُ ؟ قَالَ: كَلَامُكَ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ. قَالَ: فَمَا الْمَجْدُ ؟ قَالَ: أَنْ تُعْطِي فِي الْغُرْمِ وَأَنْ تَعْفُوَ عَنِ الْجُرْمِ. قَالَ: فَمَا الْعَقْلُ ؟ قَالَ: حِفْظُ الْقَلْبِ كُلَّ مَا اسْتَرْعَيْتَهُ. قَالَ: فَمَا الْخُرْقُ ؟ قَالَ: مُعَادَاتُكَ إِمَامَكَ وَرَفْعُكَ عَلَيْهِ كَلَامَكَ. قَالَ: فَمَا الثَّنَاءُ ؟ قَالَ: إِتْيَانُ الْجَمِيلِ وَتَرْكُ الْقَبِيحِ. قَالَ: فَمَا الْحَزْمُ ؟ قَالَ: طُولُ الْأَنَاةِ، وَالرِّفْقُ بِالْوُلَاةِ، وَالِاحْتِرَاسُ مِنَ النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ، هُوَ الْحَزْمُ. قَالَ: فَمَا الشَّرَفُ ؟ قَالَ: مُوَافَقَةُ الْإِخْوَانِ، وَحِفْظُ الْجِيرَانِ. قَالَ: فَمَا السَّفَهُ ؟ قَالَ: اتِّبَاعُ الدُّنَاةِ، وَمُصَاحَبَةُ الْغُوَاةِ. قَالَ: فَمَا الْغَفْلَةُ ؟ قَالَ: تَرْكُكَ الْمَسْجِدَ وَطَاعَتُكَ الْمُفْسِدَ. قَالَ: فَمَا الْحِرْمَانُ ؟ قَالَ: تَرْكُكَ حَظَّكَ وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْكَ. قَالَ: فَمَا السَّيِّدُ ؟ قَالَ: الْأَحْمَقُ فِي الْمَالِ، الْمُتَهَاوِنُ بِعِرْضِهِ ; يُشْتَمُ فَلَا يُجِيبُ، الْمُتَحَزِّنُ بِأَمْرِ الْعَشِيرَةِ، هُوَ السَّيِّدُ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: يَا بُنَيَّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا فَقْرَ أَشَدُّ مِنَ الْجَهْلِ، وَلَا مَالَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ، وَلَا وَحْدَةَ أَوْحَشُ مِنَ الْعُجْبِ، وَلَا مُظَاهَرَةَ أَوْثَقُ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ، وَلَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلَا عِبَادَةَ كَالتَّفَكُّرِ،
وَلَا
إِيمَانَ كَالْحَيَاءِ، وَرَأْسُ الْإِيمَانِ الصَّبْرُ، وَآفَةُ الْحَدِيثِ
الْكَذِبُ، وَآفَةُ الْعِلْمِ النِّسْيَانُ، وَآفَةُ الْحِلْمِ السَّفَهُ، وَآفَةُ
الْعِبَادَةِ الْفَتْرَةُ، وَآفَةُ الظَّرْفِ الصَّلَفُ، وَآفَةُ الشُّجَاعَةِ
الْبَغْيُ، وَآفَةُ السَّمَاحَةِ الْمَنُّ، وَآفَةُ الْجَمَالِ الْخُيَلَاءُ،
وَآفَةُ الْحُبِّ الْفَخْرُ ". ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: يَا بُنَيَّ، لَا
تَسْتَخِفَّنَّ بِرَجُلٍ تَرَاهُ أَبَدًا، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْكَ فَعُدَّ
أَنَّهُ أَبُوكَ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَكَ فَهُوَ أَخُوكَ، وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَ
مِنْكَ فَاحْسَبْ أَنَّهُ ابْنُكَ. فَهَذَا مَا سَاءَلَ عَلِيٌّ ابْنَهُ عَنْ
أَشْيَاءَ مِنَ الْمُرُوءَةِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ: فَفِي هَذَا
الْخَبَرِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَجَزِيلِ الْفَائِدَةِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ
رَاعَاهُ وَحَفِظَهُ وَوَعَاهُ، وَعَمِلَ بِهِ، وَأَدَّبَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ
عَلَيْهِ، وَهَذَّبَهَا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَتَتَوَفَّرُ فَائِدَتُهُ
بِالْوُقُوفِ عِنْدَهُ، وَفِيمَا رَوَاهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَضْعَافَهُ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَا غِنَى لِكُلِّ لَبِيبٍ
عَلِيمٍ، وَمِدْرَهٍ حَكِيمٍ عَنْ حِفْظِهِ وَتَأَمُّلِهِ، وَالْمَسْعُودُ مَنْ
هُدِيَ لِتَقَبُّلِهِ، وَالْمَجْدُودُ مِنْ وُفِّقَ لِامْتِثَالِهِ وَتَقَبُّلِهِ.
قُلْتُ: وَلَكِنَّ إِسْنَادَ هَذَا الْأَثَرِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحَدِيثِ
الْمَرْفُوعِ ضَعِيفٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي عِبَارَتِهَا مَا يَدُلُّ
مَا فِي بَعْضِهَا مِنَ النَّكَارَةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْمَعِيُّ وَالْعُتْبِيُّ وَالْمَدَائِنِيُّ
وَغَيْرُهُمْ أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَ الْحَسَنَ عَنْ أَشْيَاءَ تُشْبِهُ هَذَا،
فَأَجَابَهُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، لَكِنَّ هَذَا السِّيَاقَ أَطْوَلُ
بِكَثِيرٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْعَبَّاسِ الطَّبَرَانِيُّ: كَانَ عَلَى خَاتَمِ الْحَسَنِ
بْنِ عَلِيٍّ مَكْتُوبٌ:
قَدِّمْ
لِنَفْسِكَ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ التُّقَى إِنَّ الْمَنِيَّةَ نَازِلٌ بِكَ يَا
فَتَى
أَصْبَحْتَ ذَا فَرَحٍ كَأَنَّكَ لَا تَرَى أَحْبَابَ قَلْبِكَ فِي الْمَقَابِرِ
وَالْبِلَى
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُطَّلِبُ بْنُ زِيَادٍ أَبُو مُحَمَّدٍ،
ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانٍ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ لِبَنِيهِ
وَبَنِي أَخِيهِ: تَعَلَّمُوا فَإِنَّكُمْ صِغَارُ قَوْمٍ الْيَوْمَ، وَتَكُونُونَ
كِبَارَهُمْ غَدًا، فَمَنْ لَمْ يَحْفَظْ مِنْكُمْ فَلْيَكْتُبْ. رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَحْمَدَ، عَنْ أَبِيهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى وَأَحْمَدُ بْنُ
يُونُسَ قَالَا: ثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ الْأَصَمِّ قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّ هَذِهِ
الشِّيعَةَ تَزْعُمُ أَنَّ عَلِيًّا مَبْعُوثٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ:
كَذَبُوا وَاللَّهِ، مَا هَؤُلَاءِ بِالشِّيعَةِ، لَوْ عَلِمْنَا أَنَّهُ
مَبْعُوثٌ مَا زَوَّجْنَا نِسَاءَهُ وَلَا اقْتَسَمْنَا مَالَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَلِيٍّ سُوَيْدٌ
الطَّحَّانُ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، ثَنَا أَبُو رَيْحَانَةَ عَنْ
سَفِينَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:الْخِلَافَةُ
مِنْ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ". فَقَالَ رَجُلٌ كَانَ حَاضِرًا فِي
الْمَجْلِسِ: قَدْ دَخَلَتْ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِينَ سِتَّةُ شُهُورٍ فِي
خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ: مِنْ هَاهُنَا أُتِيتَ، تِلْكَ الشُّهُورَ
كَانَتِ الْبَيْعَةُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، بَايَعَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفًا أَوِ
اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا.
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: بَايَعَ الْحَسَنَ
تِسْعُونَ أَلْفًا، فَزَهِدَ
فِي
الْخِلَافَةِ وَصَالَحَ مُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يُسْفَكْ فِي أَيَّامِهِ مِحْجَمَةٌ
مِنْ دَمٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: حَدَّثَنَا أَبِي، ثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ
قَالَ: قَالَ أَبِي: فَلَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ بَايَعَ أَهْلُ الْكُوفَةِ الْحَسَنَ
بْنَ عَلِيٍّ وَأَطَاعُوهُ وَأَحَبُّوهُ أَشَدَّ مِنْ حُبِّهِمْ لِأَبِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، ثَنَا ضَمْرَةُ،
عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ سَارَ الْحَسَنُ فِي أَهْلِ
الْعِرَاقِ، وَسَارَ مُعَاوِيَةُ فِي أَهْلِ الشَّامِ فَالْتَقَوْا، فَكَرِهَ
الْحَسَنُ الْقِتَالَ، وَبَايَعَ مُعَاوِيَةَ عَلَى أَنْ جَعَلَ الْعَهْدَ
لِلْحَسَنِ مِنْ بَعْدِهِ. قَالَ فَكَانَ أَصْحَابُ الْحَسَنِ يَقُولُونَ: يَا
عَارَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَيَقُولُ لَهُمْ: الْعَارُ خَيْرٌ مِنَ النَّارِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ
هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ بَايَعَ النَّاسُ الْحَسَنَ
بْنَ عَلِيٍّ فَوَلِيَهَا سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقَالَ
غَيْرُ عَبَّاسٍ: بَايَعَ الْحَسَنَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَبَايَعَ أَهْلُ الشَّامِ
مُعَاوِيَةَ بِإِيلِيَاءَ بَعْدَ قَتْلِ عَلِيٍّ، وَبُويِعَ بَيْعَةَ الْعَامَّةِ
بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ آخِرِ سَنَةِ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ
لَقِيَ الْحَسَنُ مُعَاوِيَةَ بِمَسْكِنَ - مِنْ سَوَادِ الْكُوفَةِ - فِي سَنَةِ
إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، فَاصْطَلَحَا وَبَايَعَ الْحَسَنُ مُعَاوِيَةَ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: كَانَ صُلْحُهُمَا وَدُخُولُ مُعَاوِيَةَ الْكُوفَةَ فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى
تَفْصِيلِ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا.
وَحَاصِلُ
ذَلِكَ أَنَّهُ اصْطَلَحَ مَعَ مُعَاوِيَةَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مَا فِي بَيْتِ
الْمَالِ الَّذِي بِالْكُوفَةِ، فَوَفَّى لَهُ مُعَاوِيَةُ بِذَلِكَ، فَإِذَا
فِيهِ خَمْسَةُ آلَافِ أَلْفٍ، وَقِيلَ: سَبْعَةُ آلَافِ أَلْفٍ. وَعَلَى أَنْ
يَكُونَ خَرَاجُ الْبَصْرَةِ - وَقِيلَ: دَارَابْجِرْدَ - لَهُ فِي كُلِّ عَامٍ.
فَامْتَنَعَ أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ عَنْ أَدَاءِ الْخَرَاجِ إِلَيْهِ،
فَعَوَّضَهُ مُعَاوِيَةُ عَنْ ذَلِكَ سِتَّةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي كُلِّ
عَامٍ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَنَاوَلُهَا مَعَ مَا لَهُ فِي كُلِّ عَامٍ فِي وِفَادَتِهِ
; مِنَ الْجَوَائِزِ وَالتُّحَفِ وَالْهَدَايَا، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذَا
الْعَامِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ هَوْذَةَ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ وَبَايَعَهُ
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ لِمُعَاوِيَةَ: مُرِ
الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَنْ يَخْطُبَ ; فَإِنَّهُ حَدِيثُ السِّنِّ عَيِيٌ،
فَلَعَلَّهُ يَتَلَعْثَمُ فَيَتَّضِعَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ. فَأَمَرَهُ، فَقَامَ
فَاخْتَطَبَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، وَاللَّهِ لَوِ
ابْتَغَيْتُمْ بَيْنَ جَابَلْقَ وَجَابَرْسَ رَجُلًا جَدُّهُ نَبِيٌّ غَيْرِي
وَغَيْرَ أَخِي لَمْ تَجِدُوهُ، وَإِنَّا قَدْ أَعْطَيْنَا بَيْعَتَنَا
لِمُعَاوِيَةَ، وَرَأَيْنَا أَنَّ حَقْنَ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ إِهْرَاقِهَا،
وَاللَّهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ.
وَأَشَارَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: مَا أَرَدْتَ مِنْ
هَذِهِ ؟ قَالَ: أَرَدْتُ مِنْهَا مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهَا. فَصَعِدَ
مُعَاوِيَةُ وَخَطَبَ بَعْدَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَدَّمْنَا أَنْ
مُعَاوِيَةَ عَتَبَ عَلَى أَصْحَابِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، ثَنَا
شُعْبَةُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ
خُمَيْرٍ
قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيرٍ الْحَضْرَمِيَّ
يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّ النَّاسَ
يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تُرِيدُ الْخِلَافَةَ. فَقَالَ: كَانَتْ جَمَاجِمُ الْعَرَبِ
بِيَدِي، يُسَالِمُونَ مَنْ سَالَمْتُ وَيُحَارِبُونَ مَنْ حَارَبْتُ، فَتَرَكْتُهَا
ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، ثُمَّ أُثِيرُهَا بِأَتْيَاسِ أَهْلِ الْحِجَازِ ؟ !
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: دَخْلَ رَجُلٌ عَلَى الْحَسَنِ
بْنِ عَلِيٍّ الْمَدِينَةَ وَفِي يَدِهِ صَحِيفَةٌ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ ؟
فَقَالَ: مِنْ مُعَاوِيَةَ يَعِدُ فِيهَا وَيَتَوَعَّدُ. قَالَ: قَدْ كُنْتَ عَلَى
النِّصْفِ مِنْهُ. قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنْ خَشِيتُ أَنْ يَجِيءَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ سَبْعُونَ أَلْفًا، أَوْ ثَمَانُونَ أَلْفًا، أَوْ أَكْثَرُ أَوْ
أَقَلُّ، كُلُّهُمْ تَنْضَحُ أَوْدَاجُهُمْ دَمًا، كُلُّهُمْ يَسْتَعْدِي اللَّهَ
فِيمَ هُرِيقَ دَمُهُ ؟.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ سَلَّامِ بْنِ مِسْكِينٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَى الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فِي مَنَامِهِ أَنَّهُ
مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَفَرَحِ بِذَلِكَ،
فَبَلَغَ ذَلِكَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ رَأَى هَذِهِ
الرُّؤْيَا فَقَلَّ مَا بَقِيَ مِنْ أَجْلِهِ. قَالَ: فَلَمْ يَلْبَثِ الْحَسَنُ
بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا أَيَّامًا حَتَّى مَاتَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
صَالِحٍ الْعَتَكِيُّ وَمُحَمَّدُ
بْنُ
عُثْمَانَ الْعِجْلِيُّ، قَالَا: ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ
عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى
الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَامَ فَدَخَلَ الْمَخْرَجَ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ:
لَقَدْ لَفَظْتُ طَائِفَةً مِنْ كَبِدِي أُقَلِّبُهَا بِهَذَا الْعُودِ، وَلَقَدْ
سُقِيتُ السُّمَّ مِرَارًا، وَمَا سُقِيتُ مَرَّةً هِيَ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ.
قَالَ: وَجَعَلَ يَقُولُ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: سَلْنِي قَبْلَ أَنْ لَا
تَسْأَلَنِي. فَقَالَ: مَا أَسْأَلُكَ شَيْئًا، يُعَافِيكَ اللَّهُ. قَالَ:
فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ عُدْنَا إِلَيْهِ مِنَ الْغَدِ وَقَدْ أَخَذَ
فِي السُّوقِ، فَجَاءَ حُسَيْنٌ حَتَّى قَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ: أَيْ
أَخِي، مَنْ صَاحِبُكَ ؟ قَالَ: تُرِيدُ قَتْلَهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَئِنْ
كَانَ صَاحِبَيِ الَّذِي أَظُنُّ، لَلَّهُ أَشَدُّ نِقْمَةً - وَفِي رِوَايَةٍ:
فَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا - وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ مَا
أُحِبُّ أَنْ تَقْتُلَ بِي بَرِيئًا. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ
عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
جَعْفَرٍ عَنْ أُمِّ بَكْرٍ بِنْتِ الْمِسْوَرِ قَالَتْ: كَانَ الْحَسَنُ سُقِيَ
مِرَارًا، كُلُّ ذَلِكَ يُفْلِتُ مِنْهُ، حَتَّى كَانَتِ الْمَرَّةُ الْآخِرَةُ
الَّتِي مَاتَ فِيهَا، فَإِنَّهُ كَانَ يَخْتَلِفُ كَبِدُهُ، فَلَمَّا مَاتَ
أَقَامَ نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ عَلَيْهِ النَّوْحَ شَهْرًا.
وَقَالَ
الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَتْنَا عُبَيْدَةُ بِنْتُ نَابِلٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
حَدَّ نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ سَنَةً.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ كَثِيرَ نِكَاحِ
النِّسَاءِ، وَكَانَ قَلَّ مَا يَحْظَيْنَ عِنْدَهُ، وَكَانَ قَلَّ امْرَأَةٌ
يَتَزَوَّجُهَا إِلَّا أَحَبَّتْهُ وَصَبَتْ بِهِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ
سُقِيَ، ثُمَّ أَفْلَتَ، ثُمَّ سُقِيَ فَأَفْلَتَ، ثُمَّ كَانَتِ الْآخِرَةُ
تُوُفِّيَ فِيهَا، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ الطَّبِيبُ وَهُوَ
يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ: هَذَا رَجُلٌ قَدْ قَطَّعَ السُّمُّ أَمْعَاءَهُ. فَقَالَ
الْحُسَيْنُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَخْبِرْنِي مَنْ سَقَاكَ ؟ قَالَ: وَلِمَ يَا
أَخِي ؟ قَالَ: أَقْتُلُهُ وَاللَّهِ قَبْلَ أَنْ أَدْفِنَكَ، أَوْ لَا أَقْدِرَ
عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ بِأَرْضٍ أَتَكَلَّفُ الشُّخُوصَ إِلَيْهِ. فَقَالَ: يَا
أَخِي، إِنَّمَا هَذِهِ الدُّنْيَا لَيَالٍ فَانِيَةٌ، دَعْهُ حَتَّى أَلْتَقِيَ
أَنَا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ. وَأَبَى أَنْ يُسَمِّيَهُ. وَقَدْ سَمِعْتُ بَعْضَ
مِنْ يَقُولُ: كَانَ مُعَاوِيَةُ قَدْ تَلَطَّفَ لِبَعْضِ خَدَمِهِ أَنْ
يَسْقِيَهُ سُمًّا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، أَنَا أَبُو
عَوَانَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أُمِّ مُوسَى، أَنَّ جَعْدَةَ بِنْتَ
الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ سَقَتِ الْحَسَنَ السُّمَّ، فَاشْتَكَى مِنْهُ شَكَاةً.
قَالَ: فَكَانَ يُوضَعُ تَحْتَهُ طَسْتٌ وَيُرْفَعُ آخَرُ نَحْوًا مِنْ
أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَرَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ بَعْثَ إِلَى جَعْدَةَ بِنْتِ
الْأَشْعَثِ أَنْ
سُمِّي
الْحَسَنَ وَأَنَا أَتَزَوَّجُكِ بَعْدَهُ. فَفَعَلَتْ، فَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ
بَعَثَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّا وَاللَّهِ لَمْ نَرْضَكِ لِلْحَسَنِ
أَفَنَرْضَاكِ لِأَنْفُسِنَا ؟ وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَعَدَمُ
صِحَّتِهِ عَنْ أَبِيهِ مُعَاوِيَةَ بِطَرِيقِ الْأُولَى وَالْأَحْرَى، وَقَدْ
قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ فِي ذَلِكَ:
يَا جَعْدُ بَكِّيهِ وَلَا تَسْأَمِي بُكَاءَ حَقٍّ لَيْسَ بِالْبَاطِلِ
لَنْ تَسْتُرِي الْبَيْتَ عَلَى مَثَلِهِ فِي النَّاسِ مِنْ حَافٍ وَلَا نَاعِلِ
أَعْنَى الَّذِي أَسْلَمَهُ أَهْلُهُ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَخْرَجِ الْمَاحِلِ
كَانَ إِذَا شَبَّتْ لَهُ نَارُهُ يَرْفَعُهَا بِالنَّسَبِ الْمَاثِلِ
كَيْمَا يَرَاهَا بَائِسٌ مُرْمِلٌ أَوْ فَرْدُ قَوْمٍ لَيْسَ بِالْآهِلِ
يُغْلِي بِنِيِّ اللَّحْمِ حَتَّى إِذَا أُنْضِجَ لَمْ يَغْلُ عَلَى آكِلِ
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ رَقَبَةَ بْنِ مِصْقَلَةَ قَالَ: لَمَّا
حُضِرَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: أَخْرِجُونِي إِلَى الصَّحْنِ حَتَّى
أَنْظُرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. فَأَخْرَجُوا فِرَاشَهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ،
فَنَظَرَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَحْتَسِبُ نَفْسِي عِنْدَكَ، فَإِنَّهَا
أَعَزُّ الْأَنْفُسِ عَلَيَّ. قَالَ: فَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ لَهُ أَنَّهُ
احْتَسَبَ نَفْسَهُ عِنْدَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: لَمَّا اشْتَدَّ بِسُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ الْمَرَضَ جَزِعَ جَزَعًا شَدِيدًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَرْحُومُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: مَا هَذَا الْجَزَعُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؟
تَقْدَمُ عَلَى رَبٍّ عَبَدْتَهُ سِتِّينَ سَنَةً، صُمْتَ لَهُ، صَلَّيْتَ لَهُ،
حَجَجْتَ لَهُ، قَالَ:
فَسُرِّيَ
عَنِ الثَّوْرِيِّ. قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: لَمَّا اشْتَدَّ بِالْحَسَنِ بْنِ
عَلِيٍّ الْوَجَعُ جَزِعَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا
مُحَمَّدٍ، مَا هَذَا الْجَزَعُ ؟ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ تُفَارِقَ رُوحُكَ
جَسَدَكَ فَتَقْدَمَ عَلَى أَبَوَيْكَ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ، وَعَلَى جَدَّيْكَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَدِيجَةَ، وَعَلَى أَعْمَامِكَ
حَمْزَةَ وَجَعْفَرٍ، وَعَلَى أَخْوَالِكَ الْقَاسِمِ وَالطَّيِّبِ وَمُطَهِّرٍ
وَإِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى خَالَاتِكَ رُقَيَّةَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ وَزَيْنَبَ.
قَالَ: فَسُرِّيَ عَنْهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْقَائِلَ لَهُ ذَلِكَ
الْحُسَيْنُ، وَأَنَّ الْحَسَنَ قَالَ لَهُ: يَا أَخِي، إِنِّي أَدْخُلُ فِي
أَمْرٍ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لَمْ أَدْخُلْ فِي مَثَلِهِ، وَأَرَى خَلْقًا مِنْ
خَلْقِ اللَّهِ لَمْ أَرَ مَثَلَهُ قَطُّ. قَالَ: فَبَكَى الْحُسَيْنُ. رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا. وَرَوَاهُ عَبَّاسُ الدُّورِيُّ، عَنِ ابْنِ مَعِينٍ بِهِ.
وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، فَذَكَرَ
نَحْوَهُمَا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِي عَتِيقٍ
قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: شَهِدْنَا حَسَنَ بْنَ
عَلِيٍّ يَوْمَ مَاتَ، فَكَادَتِ الْفِتْنَةُ تَقَعُ بَيْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ
عَلِيٍّ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَكَانَ الْحَسَنُ قَدْ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ
أَنْ يُدْفَنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ
خَافَ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ قِتَالٌ أَوْ شَرٌّ فَلْيُدْفَنْ بِالْبَقِيعِ.
فَأَبَى مَرْوَانُ أَنْ يَدَعَهُ، وَمَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ مَعْزُولٌ يُرِيدُ أَنْ
يُرْضِيَ مُعَاوِيَةَ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَزَلْ مَرْوَانُ عَدُوًّا لِبَنِي هَاشِمٍ
حَتَّى مَاتَ. قَالَ جَابِرٌ: فَكَلَّمْتُ يَوْمَئِذٍ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ
فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ ; فَإِنَّ أَخَاكَ كَانَ لَا
يُحِبُّ مَا تَرَى، فَادْفِنْهُ بِالْبَقِيعِ مَعَ أُمِّهِ. فَفَعَلَ.
ثُمَّ
رَوَى الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَضَرْتُ مَوْتَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَقُلْتُ
لِلْحُسَيْنِ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُثِرْ فِتْنَةً وَلَا تَسْفِكِ الدِّمَاءَ،
وَادْفِنْ أَخَاكَ إِلَى جَنْبِ أُمِّهِ ; فَإِنَّ أَخَاكَ قَدْ عَهِدَ بِذَلِكَ
إِلَيْكَ. قَالَ: فَفَعَلَ الْحُسَيْنُ. وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ نَحْوًا مِنْ هَذَا.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْحَسَنَ بَعَثَ يَسْتَأْذِنُ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ،
فَأَذِنَتْ لَهُ، فَلَمَّا مَاتَ لَبِسَ الْحُسَيْنُ السِّلَاحَ وَتَسَلَّحَ بَنُو
أُمَيَّةَ، وَقَالُوا: لَا نَدَعُهُ يُدْفَنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيُدْفَنُ عُثْمَانُ بِالْبَقِيعِ، وَيُدْفَنُ الْحَسَنُ
بْنُ عَلِيٍّ فِي الْحُجْرَةِ ؟ فَلَمَّا خَافَ النَّاسُ وُقُوعَ الْفِتْنَةِ
أَشَارَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ
عَلَى الْحُسَيْنِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ، فَامْتَثَلَ وَدَفَنَ أَخَاهُ قَرِيبًا
مِنْ قَبْرِ أُمِّهِ بِالْبَقِيعِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ أَبِي
حَازِمٍ قَالَ: رَأَيْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ قَدَّمَ يَوْمَئِذٍ سَعِيدَ
بْنِ الْعَاصِ فَصَلَّى عَلَى الْحَسَنِ. وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّهَا سُنَّةٌ مَا
قَدَّمْتُهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُسَاوِرٌ مَوْلَى بَنِي سَعْدِ
بْنِ بَكْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَائِمًا عَلَى مَسْجِدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ
وَهُوَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَاتَ الْيَوْمَ
حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَابْكُوا.
وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ لِجِنَازَتِهِ، حَتَّى مَا كَانَ الْبَقِيعُ يَسَعُ
أَحَدًا مِنَ الزِّحَامِ، وَقَدْ بَكَاهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ سَبْعًا،
وَاسْتَمَرَّ نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ يَنُحْنَ عَلَيْهِ شَهْرًا، وَحَدَّتْ
نِسَاءُ
بَنِي هَاشِمٍ عَلَيْهِ سَنَةً.
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا
سُفْيَانُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُتِلَ عَلِيٌّ
وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَمَاتَ لَهَا حَسَنٌ، وَقُتِلَ لَهَا
الْحُسَيْنُ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ قَالَ: تُوُفِّيَ سَعْدٌ
وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي أَيَّامٍ بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ إِمَارَةِ
مُعَاوِيَةَ عَشْرُ سِنِينَ.
وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
تُوُفِّيَ الْحَسَنُ وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ. وَكَذَا قَالَ غَيْرُ
وَاحِدٍ، وَهُوَ أَصَحُّ.
وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ كَمَا ذَكَرْنَا،
وَقَالَ آخَرُونَ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ
أَوْ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ.
سَنَةُ خَمْسِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، فِي قَوْلٍ،
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ مُعَاوِيَةُ، وَقِيلَ: ابْنُهُ يَزِيدُ. وَكَانَ
نَائِبَ الْمَدِينَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَعَلَى
الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْمَشْرِقِ وَسِجِسْتَانَ وَفَارِسَ وَالسِّنْدِ
وَالْهِنْدِ زِيَادٌ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْدَى بَنُو نَهْشَلٍ عَلَى الْفَرَزْدَقِ زِيَادًا،
فَهَرَبَ الْفَرَزْدَقُ مِنْهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ
عَرَّضَ بِمُعَاوِيَةَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ، فَطَلَبَهُ زِيَادٌ أَشَدَّ الطَّلَبِ
فَفَرَّ مِنْهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَاسْتَجَارَ بِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ،
وَمَدَحَهُ بِأَشْعَارٍ فَأَجَارَهُ، وَلَمْ يَزَلِ الْفَرَزْدَقُ يَتَرَدَّدُ
فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ حَتَّى تُوُفِّيَ زِيَادٌ، فَرَجَعَ إِلَى
بِلَادِهِ، وَقَدْ طَوَّلَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْحَوَادِثِ مَا رَوَاهُ
مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ
أَبِيهِ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى تَحْوِيلِ الْمِنْبَرِ
النَّبَوِيِّ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى دِمَشْقَ، وَأَنْ يَأْخُذَ الْعَصَا الَّتِي
كَانَ
النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمْسِكُهَا فِي يَدِهِ إِذَا خَطَبَ، فَيَقِفُ
عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ مُمْسِكُهَا، فَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نُذَكِّرُكَ اللَّهَ أَنَّ
تَفْعَلَ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ أَنَّ تُخْرِجَ الْمِنْبَرَ مِنْ
مَوْضِعٍ وَضَعَهُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَأَنَّ تُخْرِجَ عَصَاهُ مِنَ الْمَدِينَةِ. فَتَرَكَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ،
وَلَكِنْ زَادَ فِي الْمِنْبَرِ سِتَّ دَرَجَاتٍ، وَاعْتَذَرَ إِلَى النَّاسِ.
ثُمَّ رَوَى الْوَاقِدِيُّ: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ فِي أَيَّامِ
خِلَافَتِهِ هَمَّ بِذَلِكَ وَعَزَمَ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ
كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى هَذَا ثُمَّ تَرَكَهُ، وَإِنَّهُ لَمَّا حَرَّكَ
الْمِنْبَرَ، كَسَفَتِ الشَّمْسُ ; فَتَرَكَ ذَلِكَ. ثُمَّ لَمَّا حَجَّ
الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرَادَ ذَلِكَ أَيْضًا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ
مُعَاوِيَةَ وَأَبَاكَ أَرَادَا ذَلِكَ ثُمَّ تَرَكَاهُ. وَكَانَ السَّبَبَ فِي
تَرْكِهِ أَنَّ سَعِيدَ بْنِ الْمُسَيَّبِ كَلَّمَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
أَنْ يُكَلِّمَهُ فِي ذَلِكَ وَيَعِظَهُ، فَتَرَكَ. ثُمَّ لَمَّا حَجَّ
سُلَيْمَانُ أَخْبَرَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِمَا كَانَ عَزَمَ
عَلَيْهِ الْوَلِيدُ، وَأَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ،
فَقَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ يُذْكَرَ هَذَا عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ وَلَا عَنِ
الْوَلِيدِ، وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَفْعَلَ هَذَا، مَالَنَا وَلِهَذَا، وَقَدْ
أَخَذْنَا الدُّنْيَا فَهِيَ فِي أَيْدِينَا فَنُرِيدُ أَنْ نَعْمِدَ إِلَى عَلَمٍ
مِنْ أَعْلَامِ الْإِسْلَامِ يُوفَدُ إِلَيْهِ، فَنَحْمِلَهُ إِلَى مَا قِبَلَنَا،
هَذَا مَا لَا يَصْلُحُ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي
هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ مُعَاوِيَةُ عَنْ مِصْرَ مُعَاوِيَةَ بْنَ حُدَيْجٍ
وَوَلَّى عَلَيْهَا وَإِفْرِيقِيَةَ مَسْلَمَةَ بْنَ مُخَلَّدٍ
وَفِيهَا افْتَتَحَ عُقْبَةُ بْنُ نَافِعٍ الْفِهْرِيُّ عَنْ أَمْرِ مُعَاوِيَةَ،
بِلَادَ إِفْرِيقِيَّةَ، وَاخْتَطَّ الْقَيْرَوَانَ - وَكَانَ مَكَانُهَا غَيْضَةً
تَأْوِي إِلَيْهَا السِّبَاعُ وَالْوُحُوشُ وَالْحَيَّاتُ الْعِظَامُ - فَدَعَا
اللَّهَ تَعَالَى، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى إِنِ
السِّبَاعَ صَارَتْ تَخْرُجُ مِنْهَا تَحْمِلُ أَوْلَادَهَا، وَالْحَيَّاتُ
يَخْرُجْنَ مِنْ أَجْحَارِهِنَّ هَوَارِبَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَسْلَمَ خَلْقٌ
كَثِيرٌ مِنَ الْبَرْبَرِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ وَسُفْيَانُ بْنُ
عَوْفٍ أَرْضَ الرُّومِ، وَفِيهَا غَزَا فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَحْرَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِدْلَاجُ بْنُ عَمْرٍو السُّلَمِيُّ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ،
شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَلَمْ أَرَ لَهُ ذِكْرًا فِي الصَّحَابَةِ.
وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " الْمُنْتَظِمِ
"، أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَحَسَّانُ
بْنُ ثَابِتٍ، وَالْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ،
وَدِحْيَةُ
بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ، وَعَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَمْرُو بْنُ
أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ،
وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، وَصَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، وَأُمُّ شَرِيكٍ
الْأَنْصَارِيَّةُ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ
الْقُرَشِيُّ النَّوْفَلِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَقِيلَ: أَبُو عَدِيٍّ
الْمَدَنِيُّ، فَإِنَّهُ قَدِمَ وَهُوَ مُشْرِكٌ فِي فِدَاءِ أَسَارَى بَدْرٍ
فَلَمَّا سَمِعَ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
سُورَةِ " الطُّورِ ": أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ
الْخَالِقُونَ [ الطُّورِ: 35 ]. دَخَلَ فِي قَلْبِهِ الْإِسْلَامُ، ثُمَّ
أَسْلَمَ عَامَ خَيْبَرَ وَقِيلَ: زَمَنَ الْفَتْحِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ،
وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ وَأَعْلَمِهَا بِالْأَنْسَابِ، أَخَذَ ذَلِكَ عَنِ
الصِّدِّيقِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ،
وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَأَمَّا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ
شَاعِرُ الْإِسْلَامِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ،
كَمَا سَيَأْتِي.
وَأَمَّا الْحَكَمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُجَدَّعٍ الْغِفَارِيُّ، أَخُو رَافِعِ
بْنِ عَمْرٍو
الْغِفَارِيِّ،
وَيُقَالُ لَهُ: الْحَكَمُ بْنُ الْأَقْرَعِ. فَصَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، لَهُ عِنْدَ
الْبُخَارِيِّ حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي النَّهْيِ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ
الْإِنْسِيَّةِ، وَقَدِ اسْتَنَابَهُ زِيَادُ بْنُ أَبِيهِ عَلَى غَزْوِ جَبَلِ
الْأَشَلِّ، فَغَنِمَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، فَجَاءَهُ كِتَابُ زِيَادٍ عَنْ أَمْرِ مُعَاوِيَةَ أَنْ يَصْطَفِيَ
الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنَ الْغَنِيمَةِ لِبَيْتِ الْمَالِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ
الْحَكَمُ: إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَوْلَى أَنْ يُتَّبَعَ مِنْ كِتَابِ
مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ سَبَقَ كِتَابُ اللَّهِ كِتَابَ مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ قَالَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ
الْخَالِقِ ". ثُمَّ نَادَى فِي النَّاسِ أَنِ اغْدُوَا عَلَى غَنَائِمِكُمْ،
فَقَسَّمَهَا فِي النَّاسِ وَلَمْ يَتْرُكْ إِلَّا الْخُمُسَ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ
حُبِسَ إِلَى أَنَّ مَاتَ بِمَرْوَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ إِحْدَى
وَخَمْسِينَ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَأَمَّا دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ
فَصَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، كَانَ جَمِيلَ الصُّورَةِ، فَلِهَذَا كَانَ جِبْرِيلُ
يَأْتِي عَلَى صُورَتِهِ كَثِيرًا. وَأَرْسَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَيْصَرَ. أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَلَكِنْ لَمْ يَشْهَدْ
بَدْرًا، وَشَهِدَ مَا بَعْدَهَا، ثُمَّ شَهِدَ الْيَرْمُوكَ وَأَقَامَ
بِالْمِزَّةِ غَرْبِيَّ دِمَشْقَ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ
شَمْسٍ الْقُرَشِيُّ أَبُو سَعِيدٍ الْعَبْشَمِيُّ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ،
وَقِيلَ: شَهِدَ مُؤْتَهَ، وَغَزَا
خُرَاسَانَ
وَفَتْحَ سِجِسْتَانَ وَكَابُلَ وَغَيْرَهَا، وَكَانَتْ لَهُ دَارٌ بِدِمَشْقَ،
وَأَقَامَ بِالْبَصْرَةِ، وَقِيلَ: بِمَرْوَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَاتَ بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ
خَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. وَصَلَّى عَلَيْهِ زِيَادٌ،
وَتَرَكَ عِدَّةً مِنَ الذُّكُورِ، وَكَانَ اسْمُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَبْدَ
كُلَالٍ، وَقِيلَ: عَبْدُ كَلُوبٍ. وَقِيلَ: عَبْدُ الْكَعْبَةِ. فَسَمَّاهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ
أَحَدَ السَّفِيرَيْنِ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَالْحَسَنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَدْ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ ; فَإِنَّكَ إِنْ
أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنَّ أُعْطِيتَهَا عَنْ
غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا ".
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ، أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الطَّائِفِيُّ، لَهُ وَلِأَخِيهِ الْحَكَمِ صُحْبَةٌ، قَدِمَ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ،
فَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
الطَّائِفِ، وَأَمَّرَهُ عَلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَكَانَ أَمِيرَهُمْ
وَإِمَامَهُمْ مُدَّةً طَوِيلَةً حَتَّى مَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ
إِحْدَى وَخَمْسِينَ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَأَمَّا عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
أَخُو عَلِيٍّ، فَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ جَعْفَرٍ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَجَعْفَرٌ
أَكْبَرُ مِنْ عَلِيٍّ بِعَشْرِ سِنِينَ، كَمَا أَنَّ طَالِبًا أَكْبَرُ مِنْ
عَقِيلٍ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَكُلُّهُمْ أَسْلَمَ إِلَّا طَالِبًا، أَسْلَمَ
عَقِيلٌ قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَشَهِدَ مُؤْتَةَ، وَكَانَ مِنْ أَنْسَبِ
قُرَيْشٍ، وَكَانَ قَدْ وَرِثَ أَقَارِبَهُ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَتَرَكُوا
أَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ بِمَكَّةَ،
وَمَاتَ
فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ.
وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ
فَصَحَابِيٌّ جَلِيلٌ أَسْلَمَ بَعْدَ أُحِدٍ، وَأَوَّلُ مَشَاهِدِهِ بِئْرُ
مَعُونَةَ، وَكَانَ سَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
بَعَثَهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِي تَزْوِيجِ أُمِّ حَبِيبَةَ، وَأَنْ يَأْتِيَ
بِمَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هُنَاكَ، وَلَهُ أَفْعَالٌ حَسَنَةٌ، وَآثَارٌ
مَحْمُودَةٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ.
وَكَانَ لَا يُلْحَقُ وَلَا يُسْبَقُ بِالْخَيْلِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ بْنِ الْكَاهِنِ الْخُزَاعِيِّ،
أَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَهَاجَرَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا أَسْلَمَ عَامَ
حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَهُ أَنْ يُمَتِّعَهُ اللَّهُ بِشَبَابِهِ ;
فَبَقِيَ ثَمَانِينَ سَنَةً لَا يُرَى فِي لِحْيَتِهِ شَعْرَةٌ بَيْضَاءُ، وَمَعَ
هَذَا كَانَ أَحَدَ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ دَخَلُوا عَلَى عُثْمَانَ، ثُمَّ
صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ، فَشَهِدَ مَعَهُ الْجَمَلَ وَصِفِّينَ،
وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الَّذِينَ قَامُوا مَعَ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ، فَتَطَلَّبَهُ
زِيَادٌ، فَهَرَبَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى نَائِبِهَا،
فَطَلَبُوهُ فَوَجَدُوهُ قَدِ اخْتَفَى فِي غَارٍ فَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ، فَمَاتَ
فَقَطَعَ رَأْسَهُ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَطِيفَ بِهِ فِي الشَّامِ
وَغَيْرِهَا، فَكَانَ أَوَّلَ رَأْسٍ طِيفَ بِهِ، ثُمَّ بَعَثَ مُعَاوِيَةُ
بِرَأْسِهِ إِلَى زَوْجَتِهِ آمِنَةَ بِنْتِ الشَّرِيدِ - وَكَانَتْ فِي سِجْنِهِ
- فَأُلْقِيَ فِي حِجْرِهَا، فَوَضَعَتْ كَفَّهَا عَلَى جَبِينِهِ وَلَثَمَتْ
فَمَهُ، وَقَالَتْ: غَيَّبْتُمُوهُ عَنِّي طَوِيلًا، ثُمَّ أَهْدَيْتُمُوهُ
إِلَيَّ قَتِيلًا، فَأَهْلًا بِهَا مِنْ هَدِيَّةٍ غَيْرَ قَالِيَةٍ وَلَا
مَقْلِيَّةٍ.
وَأَمَّا
كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ
شَاعِرُ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَلَمْ
يَشْهَدْ بَدْرًا، كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " فِي سِيَاقِ
تَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ
عَلَيْهِمْ مِنْ تَخَلُّفِهِمْ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ
مُفَصَّلًا فِي " التَّفْسِيرِ "، وَكَمَا تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ
تَبُوكَ، وَغَلِطَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا.
وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ. فَإِنَّ الْوَاقِدِيَّ
- وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ - قَالَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسِينَ. وَقَالَ
الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ بْنِ أَبِي عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَبُو
عِيسَى، وَيُقَالُ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ. الثَّقَفِيُّ. وَعُرْوَةُ بْنُ
مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ عَمُّ أَبِيهِ، كَانَ الْمُغِيرَةُ مِنْ دُهَاةِ
الْعَرَبِ، وَذَوِي آرَائِهَا، أَسْلَمَ عَامَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا قَتَلَ
ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ مَرْجِعَهُمْ مِنْ عِنْدِ الْمُقَوْقِسِ،
وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، فَغَرِمَ دِيَاتِهِمْ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَشَهِدَ
الْحُدَيْبِيَةَ، وَكَانَ وَاقِفًا يَوْمَ الصُّلْحِ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ صَلْتًا،
وَبَعَثَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ إِسْلَامِ أَهْلِ
الطَّائِفِ هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَهَدَمَا اللَّاتَ، وَقَدْ
قَدَّمْنَا كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ، وَبَعَثَهُ الصِّدِّيقُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ،
وَشَهِدَ الْيَمَامَةَ وَالْيَرْمُوكَ، فَأُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَئِذٍ، وَقِيلَ:
بَلْ نَظَرَ إِلَى الشَّمْسِ وَهِيَ كَاسِفَةٌ، فَذَهَبَ ضَوْءُ عَيْنِهِ. وَشَهِدَ
الْقَادِسِيَّةَ، وَوَلَّاهُ عُمَرُ فُتُوحًا كَثِيرَةً، مِنْهَا هَمَذَانُ
وَمَيْسَانُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ رَسُولَ سَعْدٍ إِلَى رُسْتُمَ، فَكَلَّمَهُ
بِذَلِكَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، فَاسْتَنَابَهُ عُمَرُ عَلَى الْبَصْرَةِ
فَلَمَّا شُهِدَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ، عَزَلَهُ عَنْهَا،
وَوَلَّاهُ الْكُوفَةَ، وَاسْتَمَرَّ بِهِ عُثْمَانُ حِينًا، ثُمَّ عَزَلَهُ،
فَبَقِيَ مَعْزُولًا حَتَّى كَانَ أَمْرُ الْحَكَمَيْنِ، فَلَحِقَ بِمُعَاوِيَةَ،
فَلَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ وَصَالَحَ الْحَسَنُ مُعَاوِيَةَ وَدَخَلَ الْكُوفَةَ،
وَلَّاهُ مُعَاوِيَةُ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَزَلْ أَمِيرَهَا حَتَّى مَاتَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ. قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا،
عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ
ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ.
وَقِيلَ:
سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. وَهُوَ غَلَطٌ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وَكَانَ الْمُغِيرَةُ أَصْهَبَ الشَّعْرِ جِدًّا،
أَكْشَفَ، مُقَلَّصَ الشَّفَتَيْنِ، أَهْتَمَ، ضَخْمَ الْهَامَةِ، عَبْلَ
الذِّرَاعَيْنِ، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، وَكَانَ يَفْرُقُ رَأْسَهُ
أَرْبَعَةَ قُرُونٍ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: الْقُضَاةُ أَرْبَعَةٌ ; عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ
مَسْعُودٍ، وَأَبُو مُوسَى، وَالدُّهَاةُ أَرْبَعَةٌ ; مُعَاوِيَةُ، وَعَمْرُو
بْنُ الْعَاصِ، وَالْمُغِيرَةُ، وَزِيَادٌ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الدُّهَاةُ فِي الْفِتْنَةِ خَمْسَةٌ ; مُعَاوِيَةُ،
وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَكَانَ مُعْتَزِلًا،
وَقَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلِ بْنِ
وَرْقَاءَ، وَكَانَا مَعَ عَلِيٍّ.
قُلْتُ: وَالشِّيعَةُ يَقُولُونَ: الْأَشْيَاخُ خَمْسَةٌ ; رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيٌّ، وَفَاطِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ،
وَالْأَضْدَادُ خَمْسَةٌ ; أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَمُعَاوِيَةُ، وَعَمْرُو بْنُ
الْعَاصِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ.
وَقَالَ
الشَّعْبِيُّ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ يَقُولُ: مَا غَلَبَنِي أَحَدٌ إِلَّا فَتًى
مَرَّةً، أَرَدْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَاسْتَشَرْتُهُ فِيهَا، فَقَالَ:
أَيُّهَا الْأَمِيرُ، لَا أَرَى لَكَ أَنْ تَتَزَوَّجَهَا. فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ ؟
فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَجُلًا يُقَبِّلُهَا. ثُمَّ بَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّهُ
قَدْ تَزَوَّجَهَا، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَزْعُمْ أَنَّكَ رَأَيْتَ رَجُلًا
يُقَبِّلُهَا ؟ فَقَالَ: نَعَمْ رَأَيْتُ أَبَاهَا يُقَبِّلُهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ.
وَقَالَ أَيْضًا: سَمِعْتُ قَبِيصَةَ بْنَ جَابِرٍ يَقُولُ: صَحِبْتُ الْمُغِيرَةَ
بْنَ شُعْبَةَ، فَلَوْ أَنَّ مَدِينَةً لَهَا ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ لَا يُخْرَجُ
مِنْ بَابٍ مِنْهَا إِلَّا بِمَكْرٍ لَخَرَجَ الْمُغِيرَةُ مِنْ أَبْوَابِهَا
كُلِّهَا.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ
شُعْبَةَ يَقُولُ: صَاحِبُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ يَحِيضُ مَعَهَا وَيَمْرَضُ
مَعَهَا، وَصَاحِبُ الْمَرْأَتَيْنِ بَيْنَ نَارَيْنِ تَشْتَعِلَانِ. وَكَانَ
يَتَزَوَّجُ أَرْبَعَةً مَعًا وَيُطَلِّقُهُنَّ مَعًا، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ نَافِعٍ الصَّائِغُ: أَحْصَنَ الْمُغِيرَةُ ثَلَاثَمِائَةِ امْرَأَةٍ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: أَلْفَ امْرَأَةٍ. وَقِيلَ: مِائَةَ امْرَأَةٍ. وَقِيلَ: ثَمَانِينَ
امْرَأَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ الْخُزَاعِيَّةُ
الْمُصْطَلِقِيَّةُ
أُمُّ
الْمُؤْمِنِينَ،
فَسَبَاهَا رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ
الْمُرَيْسِيعِ ; وَهِيَ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلَقِ، وَكَانَ أَبُوهَا
مَلِكَهُمْ فَأَسْلَمَتْ، فَأَعْتَقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَتَزَوَّجَهَا، وَكَانَتْ قَدْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ
قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَكَاتَبَهَا فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْتَعِينُهُ فِي كِتَابَتِهَا فَقَالَ: أَوَ
خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ ؟ " قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ:
" أَشْتَرِيكِ وَأُعْتِقُكِ وَأَتَزَوَّجُكِ " فَأَعْتَقَهَا فَقَالَ
النَّاسُ: أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَأَعْتَقُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ سَبْيِ بَنِي الْمُصْطَلَقِ، وَكَانُوا
نَحْوًا مِنْ مِائَةِ أَهْلِ بَيْتٍ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَا أَعْلَمٌ امْرَأَةً
أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى أَهْلِهَا مِنْهَا. وَكَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ،
فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُوَيْرِيَةَ.
وَكَانَتِ امْرَأَةً مُلَّاحَةً - أَيْ حُلْوَةَ الْكَلَامِ - تُوُفِّيَتْ فِي
هَذَا الْعَامِ سَنَةَ خَمْسِينَ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ
عَنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ.
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ
بْنِ سَعْيَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ
أَبِي حَبِيبِ بْنِ النَّضِيرِ بْنِ النَّحَّامِ بْنِ يَنْحَوْمَ، أُمُّ
الْمُؤْمِنِينَ
النَّضَرِيةُ،
فَمِنْ سُلَالَةِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَكَانَتْ مَعَ
أَبِيهَا وَعَمِّهَا جُدَيِّ بْنِ أَخْطَبَ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا أَجْلَى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النَّضِيرِ سَارُوا
إِلَى خَيْبَرَ وَقُتِلَ أَبُوهَا مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ صَبْرًا، كَمَا
قَدَّمْنَا ذَلِكَ، فَلَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَيْبَرَ كَانَتْ فِي جُمْلَةِ السَّبْيِ، فَوَقَعَتْ فِي سَهْمِ
دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيِّ، فَذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَالَهَا وَأَنَّهَا بِنْتُ مَلِكِهِمْ، فَاصْطَفَاهَا
لِنَفْسِهِ وَعَوَّضَ دِحْيَةَ عَنْهَا، وَأَسْلَمَتْ فَأَعْتَقَهَا
وَتَزَوَّجَهَا، فَلَمَّا حَلَّتْ بِالصَّهْبَاءِ بَنَى بِهَا، وَكَانَتْ
مَاشِطَتَهَا أُمُّ سُلَيْمٍ، وَقَدْ كَانَتْ تَحْتَ ابْنِ عَمٍّ لَهَا، يُقَالُ
لَهُ: كِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ. فَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَوَجَدَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَدِّهَا لَطْمَةً، فَقَالَ:
" مَا هَذِهِ ؟ " فَقَالَتْ: إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ الْقَمَرَ
أَقْبَلَ مِنْ يَثْرِبَ، فَسَقَطَ فِي حِجْرِي، فَقَصَصْتُ الْمَنَامَ عَلَى ابْنِ
عَمِّي، فَلَطَمَنِي وَقَالَ: تَتَمَنَّيْنَ أَنْ يَتَزَوَّجَكِ مَلِكُ يَثْرِبَ ؟
فَهَذِهِ مِنْ لَطْمَتِهِ. وَكَانَتْ مِنْ سَيِّدَاتِ النِّسَاءِ عِبَادَةً
وَوَرَعًا وَزَهَادَةً وَبِرًّا وَصَدَقَةً، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَتْ سَنَةَ خَمْسِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ
سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَأَمَّا أُمُّ شَرِيكٍ الْأَنْصَارِيَّةُ
وَيُقَالُ: الْعَامِرِيَّةُ، فَهِيَ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ، قَبِلَهَا. وَقِيلَ: لَمْ
يَقْبَلْهَا. وَلَمْ تَتَزَوَّجْ حَتَّى مَاتَتْ ; تَرْجُو بِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ
مِنْ أَزْوَاجِهِ، وَهِيَ الَّتِي سُقِيَتْ بِدَلْوٍ مِنَ السَّمَاءِ لَمَّا
مَنَعَهَا
الْمُشْرِكُونَ الْمَاءَ، فَأَسْلَمُوا عِنْدَ ذَلِكَ، وَاسْمُهَا غُزَيَّةُ، وَقِيلَ: عُزَيْلَةُ. بِنْتُ دُودَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُعَيْصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، أَسْلَمَتْ قَدِيمًا مَاتَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَاتَتْ سَنَةَ خَمْسِينَ، وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ حُجْرُ بْنُ
عَدِيِّ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
الْأَكْرَمِينِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ ثَوْرِ بْنِ مَرْتَعِ بْنِ
كِنْدِيٍّ الْكُوفِيُّ. وَيُقَالُ لَهُ: حُجْرُ الْخَيْرِ. وَيُقَالُ لَهُ: حُجْرُ
بْنُ الْأَدْبَرِ. لِأَنَّ أَبَاهُ عَدِيٍّا طُعِنَ مُولِّيًا فَسُمِّيَ
الْأَدْبَرَ، وَيُكَنَّى حُجْرٌ بِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ مِنْ كِنْدَةَ
مِنْ رُؤَسَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَفَدَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَسَمِعَ عَلِيًّا وَعَمَّارًا وَشَرَاحِيلَ بْنَ مُرَّةَ. وَيُقَالُ:
شُرَحْبِيلُ بْنُ مُرَّةَ. وَرَوَى عَنْهُ أَبُو لَيْلَى مَوْلَاهُ، وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيُّ. وَغَزَا الشَّامَ
فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ افْتَتَحُوا عَذْرَاءَ وَشَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ
أَمِيرًا، وَقُتِلَ بِعَذْرَاءَ مِنْ قُرَى دِمَشْقَ. وَمَسْجِدُ قَبْرِهِ بِهَا
مَعْرُوفٌ.
ثُمَّ سَاقَ ابْنُ عَسَاكِرَ بِأَسَانِيدِهِ إِلَى حُجْرٍ، فَذَكَرَ طَرَفًا
صَالِحًا مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ
الصَّحَابَةِ، وَذَكَرَ لَهُ وِفَادَةً، ثُمَّ ذَكَرَهُ فِي الْأُولَى مِنْ
تَابِعِي أَهْلِ الْكُوفَةِ قَالَ: وَكَانَ ثِقَةً مَعْرُوفًا، وَلَمْ يَرْوِ عَنْ
غَيْرِ عَلِيٍّ شَيْئًا. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: بَلْ قَدْ رَوَى عَنْ عَمَّارٍ
وَشُرَاحِيلَ بْنِ مُرَّةَ.
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيُّ: أَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ لَا
يُصَحِّحُونَ لَهُ صُحْبَةً، شَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ، وَافْتَتَحَ مَرْجَ
عَذْرَاءَ، وَشَهِدَ الْجَمَلَ وَصِفِّينِ، وَكَانَ مَعَ عَلِيٍّ حُجْرُ
الْخَيْرِ، وَهُوَ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ هَذَا، وَحُجْرُ الشَّرِّ، وَهُوَ حُجْرُ
بْنُ يَزِيدَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ مُرَّةَ.
وَقَالَ الْمَرْزُبَانِيُّ: قَدْ رَوَى أَنَّ حُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ وَفَدَ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَخِيهِ هَانِئِ بْنِ
عَدِيٍّ.
وَكَانَ
هَذَا الرَّجُلُ مِنْ عُبَّادِ النَّاسِ وَزُهَّادِهِمْ، وَكَانَ بَارًّا بِأُمِّهِ،
وَكَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: مَا أَحْدَثَ
قَطُّ إِلَّا تَوَضَّأَ، وَلَا تَوَضَّأَ إِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. هَكَذَا
قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنِي
الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: قَالَ سَلْمَانُ لِحُجْرٍ: يَا ابْنَ
أُمِّ حُجْرٍ، لَوْ تَقَطَّعْتَ أَعْضَاءً مَا بَلَغْتَ الْإِيمَانَ. وَكَانَ،
إِذْ كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عَلَى الْكُوفَةِ إِذَا ذَكَرَ عَلِيًّا
فِي خُطْبَتِهِ يَتَنَقَّصُهُ بَعْدَ مَدْحِ عُثْمَانَ وَشِيعَتِهِ، فَيَغْضَبُ
حُجْرٌ هَذَا، وَيُظْهِرُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ كَانَ الْمُغِيرَةُ
فِيهِ حِلْمٌ وَأَنَاةٌ، فَكَانَ يَصْفَحُ عَنْهُ وَيَعِظُهُ فِيمَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُ، وَيُحَذِّرُهُ غَبَّ هَذَا الصَّنِيعِ، فَإِنَّ مُعَارَضَةَ
السُّلْطَانِ شَدِيدٌ وَبَالُهَا، فَلَمْ يَرْجِعْ حُجْرٌ عَنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا
كَانَ فِي آخِرِ أَيَّامِ الْمُغِيرَةِ قَامَ حُجْرٌ يَوْمًا، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ
فِي الْخُطْبَةِ وَصَاحَ بِهِ، وَذَمَّهُ بِتَأْخِيرِهِ الْعَطَاءِ عَنِ النَّاسِ،
وَقَامَ مَعَهُ فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ لِقِيَامِهِ، يُصَدِّقُونَهُ وَيُشَنِّعُونَ
عَلَى الْمُغِيرَةِ، وَدَخَلَ الْمُغِيرَةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ قَصْرَ
الْإِمَارَةِ، وَدَخَلَ مَعَهُ جُمْهُورُ النَّاسِ مِنَ الْأُمَرَاءِ
وَغَيْرِهِمْ، فَأَشَارُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بِأَنْ يَرُدَّ حُجْرًا عَمَّا
يَتَعَاطَاهُ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى السُّلْطَانِ وَشَقِّ الْعَصَا وَالْقِيَامِ
عَلَى الْأَمِيرِ وَذَمَرَوهُ
وَحَثُّوهُ
عَلَى التَّنْكِيلِ بِهِ، فَصَفَحَ عَنْهُ وَحَلُمَ.
وَذَكَرَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى الْمُغِيرَةِ
يَسْتَمِدُّهُ بِمَالٍ يَبْعَثُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَبَعَثَ عِيرًا تَحْمِلُ
مَالًا فَاعْتَرَضَ لَهَا حُجْرٌ، فَأَمَسَكَ بِزِمَامِ أَوَّلِهَا، وَقَالَ: لَا
وَاللَّهِ حَتَّى يُوَفِّيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَقَالَ شَبَابُ ثَقِيفٍ
لِلْمُغِيرَةِ: أَلَّا نَأْتِيكَ بِرَأْسِهِ ؟ فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ
ذَلِكَ بِحُجْرٍ. فَتَرَكَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ مُعَاوِيَةَ ذَلِكَ عَزَلَ
الْمُغِيرَةَ وَوَلَّى زِيَادًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَعْزِلِ الْمُغِيرَةَ
حَتَّى مَاتَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، وَجُمِعَتِ الْكُوفَةُ مَعَ الْبَصْرَةِ لِزِيَادٍ دَخَلَهَا، وَقَدِ
الْتَفَّ عَلَى حُجْرٍ جَمَاعَاتٌ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ يُقَوُّونَهُ وَيَشُدُّونَ
أَمْرَهُ عَلَى يَدِهِ، وَيَسُبُّونَ مُعَاوِيَةَ وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْهُ،
فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا زِيَادٌ بِالْكُوفَةِ، ذَكَرَ فِي
آخِرِهَا فَضْلَ عُثْمَانَ، وَذَمَّ مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ.
فَقَامَ حُجْرٌ كَمَا كَانَ يَقُومُ فِي أَيَّامِ الْمُغِيرَةِ، وَتَكَلَّمَ
بِنَحْوٍ مِمَّا قَالَ لِلْمُغِيرَةِ، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ زِيَادٌ، ثُمَّ رَكِبَ
زِيَادٌ إِلَى الْبَصْرَةِ وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ حُجْرًا مَعَهُ إِلَى
الْبَصْرَةِ لِئَلَّا يُحْدِثُ حَدَثًا، فَقَالَ: إِنِّي مَرِيضٌ. فَقَالَ:
وَاللَّهِ إِنَّكَ لَمَرِيضُ الدِّينِ وَالْقَلْبِ وَالْعَقْلِ وَاللَّهِ لَئِنْ
أَحْدَثْتَ شَيْئًا لَأَسْعَيَنَّ فِي قَتْلِكَ ثُمَّ سَارَ زِيَادٌ إِلَى
الْبَصْرَةِ فَبَلَغَهُ أَنَّ حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ أَنْكَرُوا عَلَى نَائِبِهِ
بِالْكُوفَةِ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، وَحَصَبُوهُ وَهُوَ عَلَى
الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَرَكِبَ زِيَادٌ إِلَى الْكُوفَةِ فَنَزَلَ
الْقَصْرَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمِنْبَرِ وَعَلَيْهِ قَبَاءُ سُنْدُسٍ،
وَمِطْرَفُ خَزٍّ أَحْمَرُ، قَدْ فَرَقَ شَعْرَهُ، وَحُجْرٌ جَالِسٌ وَحَوْلَهُ
أَصْحَابُهُ أَكْثَرَ مَا كَانُوا يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ مَنْ لَبِسَ مِنْ
أَصْحَابِهِ يَوْمَئِذٍ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ،
وَجَلَسُوا
حَوْلَهُ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْحَدِيدِ وَالسِّلَاحِ، فَخَطَبَ زِيَادٌ،
فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ غِبَّ
الْبَغْيِ وَالْغَيِّ وَخِيمٌ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ جَمُّوا فَأَشِرُوا
وَأَمِنُونِي فَاجْتَرَءُوا عَلَيَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَئِنْ لَمَّ تَسْتَقِيمُوا
لِأُدَاوِيَنَّكُمْ بِدَوَائِكُمْ. ثُمَّ قَالَ: مَا أَنَا بِشَيْءٍ إِنْ لَمْ
أَمْنَعْ سَاحَةَ الْكُوفَةِ مِنْ حُجْرٍ، وَأَدَعْهُ نَكَالًا لِمَنْ بَعْدَهُ،
وَيْلُ أُمِّكُ يَا حُجْرُ، سَقَطَ بِكَ الْعَشَاءُ عَلَى سِرْحَانٍ. ثُمَّ قَالَ:
أَبْلِغْ نُصَيْحَةَ أَنَّ رَاعِيَ إِبْلِهَا سَقَطَ الْعَشَاءُ بِهِ عَلَى
سِرْحَانِ
وَجَعَلَ زِيَادٌ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ مِنْ حَقِّ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مِنْ حَقِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ حُجْرٌ:
كَذَبْتَ. فَسَكَتَ زِيَادٌ وَنَظَرُ إِلَيْهِ، ثُمَّ عَادَ زِيَادٌ: إِنَّ مِنْ
حَقِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مِنْ حَقِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. يَعْنِي
كَذَا وَكَذَا، فَأَخَذَ حُجْرٌ كَفًّا مِنْ حَصًا فَحَصَبَهُ، وَقَالَ: كَذَبْتَ
عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ. فَانْحَدَرَ زِيَادٌ فَصَلَّى، ثُمَّ دَخَلَ
الْقَصْرَ، وَاسْتَحْضَرَ حُجْرًا، وَيُقَالُ: إِنْ زِيَادًا لَمَّا خَطَبَ
طَوَّلَ الْخُطْبَةَ وَأَخَّرَ الصَّلَاةَ، فَقَالَ لَهُ حُجْرٌ: الصَّلَاةَ.
فَمَضَى فِي خِطْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: الصَّلَاةَ. فَمَضَى فِي خِطْبَتِهِ
فَلَمَّا خَشِيَ حُجْرٌ فَوْتَ الصَّلَاةِ عَمِدَ إِلَى كَفٍّ مِنْ حَصَا، وَثَارَ
إِلَى الصَّلَاةِ، وَثَارَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ زِيَادٌ
نَزَلَ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ،
فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنْ صِلَاتِهِ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي أَمْرِهِ وَكَثَّرَ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ أَنْ شُدَّهُ فِي الْحَدِيدِ وَاحْمِلْهُ إِلَيَّ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ زِيَادٌ وَالِيَ الشُّرْطَةِ، وَهُوَ شَدَّادُ بْنُ الْهَيْثَمِ وَمَعَهُ أَعْوَانُهُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْأَمِيرَ يَطْلُبُكَ. فَامْتَنَعَ مِنَ الْحُضُورِ إِلَى زِيَادٍ، وَقَامَ دُونَهُ أَصْحَابُهُ، فَرَجَعَ الْوَالِي إِلَى زِيَادٍ فَأَعْلَمَهُ، فَاسْتَنْهَضَ زِيَادٌ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْقَبَائِلِ، فَرَكِبُوا مَعَ الْوَالِي إِلَى حُجْرٍ وَأَصْحَابِهِ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ بِالْحِجَارَةِ وَالْعِصِيِّ، فَعَجَزُوا عَنْهُ، فَنَدَبَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ، وَأَمْهَلَهُ ثَلَاثًا، وَجَهَّزَ مَعَهُ جَيْشًا، فَرَكِبُوا فِي طَلَبِهِ وَلَمْ يَزَالُوا حَتَّى أَحْضَرُوهُ إِلَى زِيَادٍ، وَمَا أَغْنَى عَنْهُ قَوْمُهُ وَلَا مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَنْصُرُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَيَّدَهُ زِيَادٌ وَسَجَنَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَبَعَثَ مَعَهُ جَمَاعَةً يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَبَّ الْخَلِيفَةَ، وَأَنَّهُ حَارَبَ الْأَمِيرَ، وَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا فِي آلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الشُّهُودِ عَلَيْهِ ; أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى، وَوَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، وَعُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَإِسْحَاقُ وَإِسْمَاعِيلُ وَمُوسَى بَنُو طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَثِيرُ بْنُ شِهَابٍ، وَشَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، فِي سَبْعِينَ رَجُلًا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كُتِبَتْ شَهَادَةُ شُرَيْحٍ الْقَاضِي فِيهِمْ، وَإِنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ لِزِيَادٍ: إِنَّهُ كَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا. ثُمَّ بَعَثَ زِيَادٌ حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ مَعَ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ وَكَثِيرِ بْنِ شِهَابٍ إِلَى الشَّامِ. وَكَانَ مَعَ حُجْرِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ جَبَلَةَ الْكِنْدِيِّ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةٌ قِيلَ: عِشْرُونَ رَجُلًا. وَقِيلَ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. مِنْهُمُ ; الْأَرْقَمُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيُّ، وَشَرِيكُ بْنُ شَدَّادٍ الْحَضْرَمِيُّ، وَصَيْفِيُّ بْنُ فَسِيلٍ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ضُبَيْعَةَ بْنِ حَرْمَلَةَ الْعَبْسِيُّ، وَكَرِيمُ بْنُ عَفِيفٍ الْخَثْعَمِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ عَوْفٍ الْبَجَلِيُّ، وَوَرْقَاءُ بْنُ سُمَيٍّ الْبَجَلِيُّ، وَكِدَامُ بْنُ حَيَّانَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ الْعَنَزِيَّانُ مِنْ بَنَى تَمِيمٍ، وَمُحْرِزُ بْنُ شِهَابٍ التَّمِيمِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَوِيَّةَ السَّعْدِيُّ التَّمِيمِيُّ أَيْضًا. فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُهُ الَّذِينَ وَصَلُوا مَعَهُ، فَسَارُوا بِهِمْ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ إِنَّ زِيَادًا أَتْبَعَهُمْ بِرَجُلَيْنِ آخَرَيْنِ ; عُتْبَةَ بْنِ الْأَخْنَسِ مِنْ بَنِي سَعْدٍ، وَسَعْدِ بْنِ نَمِرَانَ الْهَمْدَانِيِّ، فَكَمَلُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. فَيُقَالُ: إِنَّ حُجْرًا لَمَّا دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ غَضَبًا شَدِيدًا، وَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ. وَيُقَالُ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ رَكِبَ فَتَلَقَّاهُمْ إِلَى مَرْجِ عَذْرَاءَ. وَيُقَالُ: بَلْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ مَنْ تَلَقَّاهُمْ إِلَى عَذْرَاءَ تَحْتَ الثَّنِيَّةِ ; ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ فَقُتِلُوا هُنَاكَ، وَكَانَ الَّذِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ، وَهُمْ ; هُدْبَةُ بْنُ فَيَّاضٍ الْقُضَاعِيُّ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكِلَابِيُّ، وَأَبُو شَرِيفٍ
الْبَدِّيُّ،
فَجَاءُوا إِلَيْهِمْ عَشَاءً فَبَاتَ حُجْرٌ وَأَصْحَابُهُ يَصِلُونَ طُولَ
اللَّيْلِ، فَلَمَّا صَلَّوُا الصُّبْحَ قَتَلُوهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْهِ،
ثُمَّ رَدَّهُمْ، فَقُتِلُوا بِعَذْرَاءَ. وَكَانَ مُعَاوِيَةُ قَدِ اسْتَشَارَ
النَّاسَ فِيهِمْ حِينَ وَصَلُوا إِلَى مَرْجِ عَذْرَاءَ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ
حُبِسُوا بِهَا. فَمِنْ مُشِيرٍ بِقَتْلِهِمْ، وَمِنْ مُشِيرٍ بِتَفْرِيقِهِمْ فِي
الْبِلَادِ، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى زِيَادٍ كِتَابًا آخَرَ فِي أَمْرِهِمْ،
فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِقَتْلِهِمْ إِنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ فِي مُلْكِ الْعِرَاقِ،
فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، فَاسْتَوْهَبَ مِنْهُ الْأُمَرَاءُ وَاحِدًا
بَعْدَ وَاحِدٍ، حَتَّى اسْتَوْهَبُوا مِنْهُ سِتَّةً، وَقَتَلَ مِنْهُمْ سِتَّةً،
أَوَّلُهُمْ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ وَرَجَعَ آخَرُ، فَعَفَا عَنْهُ مُعَاوِيَةُ،
وَبَعَثَ بِآخَرَ نَالَ مِنْ عُثْمَانَ وَزَعَمَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَارَ فِي
الْحُكْمِ، وَمَدَحَ عَلِيًّا، فَبَعَثَ بِهِ مُعَاوِيَةُ إِلَى زِيَادٍ، وَقَالَ
لَهُ: لَمْ تَبْعَثْ إِلَيَّ فِيهِمْ أَرْدَى مِنْ هَذَا. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى
زِيَادٍ دَفَنَهُ فِي قُسِّ النَّاطِفِ حَيًّا، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
حَسَّانَ الْعَنَزِيُّ.
وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ الَّذِينَ قُتِلُوا بِعَذْرَاءَ ; حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ
وَشَرِيكُ بْنُ شَدَّادٍ،
وَصَيْفِيُّ
بْنُ فَسِيلٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ضُبَيْعَةَ الْعَبْسِيُّ،
وَمُحْرِزُ بْنُ شِهَابٍ الْمِنْقَرِيُّ السَّعْدِيُّ، وَكِدَامُ بْنُ حَيَّانَ،
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ الْعَنَزِيُّ الْمَبْعُوثُ إِلَى زِيَادٍ
الْمَدْفُونُ فِي قُسِّ النَّاطِفِ، فَلَمَّا قُتِلُوا صُلِّيَ عَلَيْهِمْ
وَدُفِنُوا. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ مَدْفُونُونَ بِمَسْجِدِ
الْقَصَبِ، - وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ مَدْفُونُونَ بِمَسْجِدِ
السَّبْعَةِ خَارِجَ بَابِ تُومَاءَ - وَإِنَّمَا نُسِبَتِ السَّبْعَةُ إِلَيْهِمْ
; لِأَنَّهُمْ سَبْعَةٌ - فِي شَرْقِيَّهِ، وَقِيلَ: هُمْ فِي غَرْبِيِّ مَسْجِدِ
الْقَصَبِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ مَدْفُونُونَ بِعَذْرَاءَ مِنْ غُوطَةِ
دِمَشْقَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَيُذْكَرُ أَنَّ حُجْرًا لَمَّا أَرَادُوا قَتْلَهُ قَالَ: دَعُونِي حَتَّى
أَتَوَضَّأَ. فَقَالُوا: تَوَضَّأْ. فَقَالَ: دَعَونِي حَتَّى أُصَلِّيَ
رَكْعَتَيْنِ. فَصَلَّاهُمَا وَخَفَّفَ فِيهِمَا. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا
صَلَّيْتُ صَلَاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهُمَا، وَلَوْلَا أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ مَا
بِي جَزَعٌ مِنَ الْمَوْتِ. لَطَوَّلْتُهُمَا. ثُمَّ قَالَ: قَدْ تَقَدَّمَ
لَهُمَا صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ. ثُمَّ قَدَّمُوهُ لِلْقَتْلِ وَقَدْ حُفِرَتْ
قُبُورُهُمْ وَنُشِرَتْ أَكْفَانُهُمْ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ إِلَيْهِ السَّيَّافُ
ارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ قُلْتَ: لَسْتُ بِجَازِعٍ مِنَ
الْقَتْلِ. فَقَالَ: وَمَا لِي لَا أَجْزَعُ وَأَنَا أَرَى قَبْرًا مَحْفُورًا
وَكَفَنًا مَنْشُورًا وَسَيْفًا مَشْهُورًا. فَأَرْسَلَهَا مَثَلًا. ثُمَّ
تَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْأَعْوَرُ هُدْبَةُ بْنُ فَيَّاضٍ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ
لَهُ: امْدُدْ عُنُقَكَ. فَقَالَ: لَا أُعِينُ عَلَى
قَتْلِ
نَفْسِي. فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ. وَكَانَ قَدْ أَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ فِي
قُيُودِهِ، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: بَلْ غَسَّلُوهُ وَصَلَّوْا
عَلَيْهِ.
وَرَوَى أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ قَالَ: أَصَلَّوْا عَلَيْهِ وَدَفَنُوهُ فِي
قُيُودِهِ ؟ ! قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: حَجَّهُمْ وَاللَّهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَائِلَ هَذَا إِنَّمَا هُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فَإِنَّ
حُجْرًا إِنَّمَا قُتِلَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَلَاثٍ
وَخَمْسِينَ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْحَسَنُ كَانَ قَدْ مَاتَ قَبْلَهُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَرَحِمَ اللَّهُ حُجْرًا
وَأَصْحَابَهُ.
وَرُوِّينَا أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
عَائِشَةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، وَذَلِكَ بَعْدَ
مَقْتَلِ حُجْرٍ وَأَصْحَابِهِ، قَالَتْ لَهُ: أَيْنَ ذَهَبَ عَنْكَ حِلْمُكَ يَا
مُعَاوِيَةَ حِينَ قَتَلْتَ حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ ؟ فَقَالَ لَهَا: فَقَدْتُهُ
حِينَ غَابَ عَنِّي مِنْ قَوْمِي مِثْلُكِ يَا أُمَّاهُ. ثُمَّ قَالَ لَهَا:
فَكَيْفَ بِرِّي بِكِ يَا أُمَّهْ ؟ فَقَالَتْ: إِنَّكَ بِي لَبَارٌّ. فَقَالَ:
يَكْفِينِي هَذَا عِنْدَ اللَّهِ، وَغَدًا لِي وَلِحُجْرٍ مَوْقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وفِي
رِوَايَةٍ
أَنَّهُ قَالَ لَهَا: إِنَّمَا قَتَلَهُ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوتُ جَعْلَ
يُغَرْغِرُ بِرُوحِهِ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ يَوْمِي بِكَ يَا حُجْرُ بْنَ عَدِيٍّ
لَطَوِيلٌ. قَالَهَا ثَلَاثًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي " الطَّبَقَاتِ ": ذَكَرَ بَعْضُ
أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ حُجْرًا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَخِيهِ هَانِئِ بْنِ عَدِيٍّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ
عَلِيٍّ، فَلَمَّا قَدِمَ زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَالِيًا عَلَى الْكُوفَةِ
دَعَا بِحُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ، فَقَالَ: تَعْلَمُ أَنِّي أَعْرِفُكَ، وَقَدْ كُنْتُ
أَنَا وَإِيَّاكَ عَلَى مَا قَدْ عَلِمْتَ - يَعْنِي مِنْ حُبِّ عَلِيٍّ -
وَأَنَّهُ قَدْ جَاءَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنِّي أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ تُقْطِرَ
لِي مِنْ دَمِكَ قَطْرَةً فَأَسْتَفْرِغَهُ كُلَّهُ، امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ،
وَلْيَسَعْكَ مَنْزِلُكَ، وَهَذَا سَرِيرِي فَهُوَ مَجْلِسُكَ، وَحَوَائِجُكَ
مَقْضِيَّةٌ لَدَيَّ، فَاكْفِنِي نَفْسَكَ فَإِنِّي أَعْرِفُ عِجْلَتَكَ،
فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ، وَإِيَّاكَ وَهَذِهِ السَّفِلَةَ وَهَؤُلَاءِ
السُّفَهَاءَ أَنْ يَسْتَنَزِلُّوكَ عَنْ رَأْيِكَ. فَقَالَ حُجْرٌ: قَدْ
فَهِمْتُ. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَأَتَاهُ الشِّيعَةُ فَقَالُوا: مَا
قَالُ لَكَ ؟ قَالَ: قَالَ لِي كَذَا وَكَذَا. فَقَالُوا: مَا نَصَحَ لَكَ. وَسَارَ
زِيَادٌ إِلَى الْبَصْرَةِ، ثُمَّ جَعَلُوا يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ يَقُولُونَ
لَهُ: أَنْتَ شَيْخُنَا. وَإِذَا جَاءَ إِلَى الْمَسْجِدِ مَشَوْا مَعَهُ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ نَائِبُ زِيَادٍ عَلَى الْكُوفَةِ،
يَقُولُ: مَا هَذِهِ
الْجَمَاعَةُ وَقَدْ أَعْطَيْتَ الْأَمِيرَ مَا قَدْ عَلِمْتَ ؟ فَقَالَ لِلرَّسُولِ: إِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، إِلَيْكَ وَرَاءَكَ أَوْسَعَ لَكَ. فَكَتَبَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ إِلَى زِيَادٍ: إِنْ كَانَتْ لَكَ حَاجَةٌ بِالْكُوفَةِ فَالْعَجَلَ. فَأَعْجَلَ زِيَادٌ السَّيْرَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ بَعَثَ إِلَيْهِ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ وَجَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ، وَخَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِيَنْهَوْهُ عَنْ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ، فَأَتَوْهُ فَجَعَلُوا يُحَدِّثُونَهُ وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، بَلْ جَعَلَ يَقُولُ: يَا غُلَامُ، اعْلِفِ الْبَكْرَ. لِبَكْرٍ مَرْبُوطٍ فِي الدَّارِ. فَقَالَ لَهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: أَمْجَنُونٌ أَنْتَ ؟ نُكَلِّمُكَ وَأَنْتَ تَقُولُ: يَا غُلَامُ، اعْلِفِ الْبَكْرَ ! ثُمَّ قَالَ عَدِيٌّ لِأَصْحَابِهِ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا الْبَائِسَ بَلَغَ بِهِ الضَّعْفُ كُلَّ مَا أَرَى. ثُمَّ نَهَضُوا فَأَخْبَرُوا زِيَادًا بِبَعْضِ الْخَبَرِ وَكَتَمُوهُ بَعْضًا، وَحَسَّنُوا أَمْرَهُ وَسَأَلُوهُ الرِّفْقَ بِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ، بَلْ بَعَثَ إِلَيْهِ الشُّرَطَ وَالْبُخَارِيَّةَ، فَأَتَى بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُ: زِيَادٌ: وَيْلَكَ مَا لَكَ ؟ قَالَ: إِنِّي عَلَى بَيْعَتِي لِمُعَاوِيَةَ. فَجَمَعَ زِيَادٌ سَبْعِينَ مِنْ وُجُوهِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقَالَ: اكْتُبُوا شَهَادَتَكُمْ عَلَى حُجْرٍ وَأَصْحَابِهِ. فَفَعَلُوا ثُمَّ أَوْفَدَهُمْ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ عَائِشَةَ، فَأَرْسَلَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ تَسْأَلُهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ قَرَأَ كِتَابَ زِيَادٍ، وَشَهِدَ الشُّهُودُ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اخْرُجُوا بِهِمْ إِلَى عَذْرَاءَ، فَاقْتُلُوهُمْ هُنَاكَ. فَذَهَبُوا بِهِمْ، ثُمَّ قَتَلُوا مِنْهُمْ سَبْعَةً، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ مُعَاوِيَةَ بِالتَّخْلِيَةِ عَنْهُمْ، وَأَنْ يُطْلِقُوهُمْ كُلَّهُمْ، فَوَجَدَهُمْ قَدْ قَتَلُوا مِنْهُمْ سَبْعَةً فَأَطْلَقُوا السَّبْعَةَ
الْبَاقِينَ،
وَلَكِنْ كَانَ حُجْرٌ فِيمَنْ قُتِلَ، وَكَانَ قَدْ سَأَلَهُمْ أَنْ يُصَلِّيَ
رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَطَوَّلَ فِيهِمَا،
وَقَالَ: إِنَّهُمَا لَأَخَفُّ صَلَاةٍ صَلَّيْتُهَا. وَجَاءَ رَسُولُ عَائِشَةَ
بَعْدَ مَا فُرِغَ مِنْ شَأْنِهِمْ، فَلَمَّا حَجَّ مُعَاوِيَةُ قَالَتْ لَهُ
عَائِشَةُ: أَيْنَ عَزَبَ عَنْكَ حِلْمُكَ حِينَ قَتَلْتَ حُجْرًا ؟ فَقَالَ:
حِينَ غَابَ عَنِّي مِثْلُكِ مِنْ قَوْمِي.
وَيُرْوَى أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ
أَقَتَلْتَ حُجْرَ بْنَ الْأَدْبَرِ ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَتْلُهُ أَحَبُّ
إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَ مَعَهُ مِائَةَ أَلْفٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ
وَغَيْرُهُ عَنْ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنَالُونَ
مِنْ عُثْمَانَ، وَيَقُولُونَ فِيهِ مَقَالَةَ الْجَوْرِ، وَيَنْتَقِدُونَ عَلَى
الْأُمَرَاءِ، وَيُسَارِعُونَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَيُبَالِغُونَ فِي
ذَلِكَ، وَيَتَوَلَّوْنَ شِيعَةَ عَلِيٍّ، وَيَتَشَدَّدُونَ فِي الدِّينِ.
وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا أُخِذَ فِي قُيُودِهِ سَائِرًا مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى
الشَّامِ، تَلَقَّتْهُ بَنَاتُهُ فِي الطَّرِيقِ وَهُنَّ يَبْكِينَ، فَمَالَ
نَحْوَهُنَّ فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: إِنِ الَّذِي يُطْعِمُكُنَّ
وَيَسْقِيكُنَّ وَيَكْسُوكُنَّ هُوَ اللَّهُ، وَهُوَ بَاقٍ لَكُنَّ بَعْدِي،
فَعَلَيْكُنَّ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، وَالصَّبْرِ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ،
وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ أَبَدًا، فَاتَّقِينَ
اللَّهَ وَاصْبِرْنَ، فَإِنِّي لَأَرْجُو مِنْ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، فِي وَجْهِي
هَذَا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ; إِمَّا
الشَّهَادَةَ
وَهِيَ السَّعَادَةُ الْكُبْرَى، وَإِمَّا الِانْصِرَافَ إِلَيْكُنَّ فِي
عَافِيَةٍ، وَإِنِّي لَأَرْجُو مِنَ اللَّهِ الَّذِي كَانَ يَكْفِينِي
مُؤْنَتَكُنَّ أَنْ لَا يُضَيِّعَكُنَّ وَأَنْ يَحْفَظَنِي فَيْكُنَّ. ثُمَّ
انْصَرَفَ فَمَرَّ بِقَوْمِهِ فَجَعَلُوا يَدْعُونَ اللَّهَ لَهُ بِالْعَافِيَةِ،
فَأَتَوْا بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ مَرْجَ عَذْرَاءَ فَقُتِلُوا وَدَفَنُوهُمْ
مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَعَفَا عَنْهُمْ. وَقَدْ قَالَتِ
امْرَأَةٌ مِنَ الْمُتَشَيِّعَاتِ تَرْثِي حُجْرًا، وَهِيَ هِنْدُ بِنْتُ زَيْدِ
بْنِ مَخْرَمَةَ - الْأَنْصَارِيَّةُ - وَيُقَالُ: إِنَّهَا لِهِنْدٍ أُخْتِ
حُجْرٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ -:
تَرَفَّعْ أَيُّهَا الْقَمَرُ الْمُنِيرُ تَبَصَّرْ هَلْ تَرَى حُجْرًا يَسِيرُ
يَسِيرُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ حَرْبٍ لِيَقْتُلَهُ كَمَا زَعَمَ الْأَمِيرُ
يَرَى قَتْلَ الْخِيَارِ عَلَيْهِ حَقًّا لَهُ مِنْ شَرِّ أُمَّتِهِ وَزِيرُ
أَلَّا يَا لَيْتَ حُجْرًا مَاتَ مَوْتًا وَلَمْ يُنْحَرْ كَمَا نُحِرَ الْبَعِيرُ
تَجَبَّرَتِ الْجَبَابِرُ بَعْدَ حُجْرٍ وَطَابَ لَهَا الْخَوَرْنَقُ وَالسَّدِيرُ
وَأَصْبَحَتِ الْبِلَادُ لَهُ مُحُولًا كَأَنْ لَمْ يُحْيِهَا مُزْنٌ مَطِيرُ
أَلَّا يَا حُجْرُ حُجْرَ بَنِي عَدِيٍّ تَلَقَّتْكَ السَّلَامَةُ وَالسُّرُورُ
أَخَافُ
عَلَيْكَ مَا أَرْدَى عَدِيٍّا وَشَيْخًا فِي دِمَشْقَ لَهُ زَئِيرُ
فَإِنْ تَهْلِكْ فَكُلُّ زَعِيمِ قَوْمٍ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى هُلْكٍ يَصِيرُ
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ لَهُ مَرَاثِيَ كَثِيرَةً.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ، أَنَا ابْنُ وَهْبٍ،
أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ قَالَ: دَخَلَ مُعَاوِيَةُ
عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: مَا حَمَلَكَ عَلَى قَتْلِ أَهْلِ عَذْرَاءَ حُجْرٍ
وَأَصْحَابِهِ ؟ فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي رَأَيْتُ فِي
قَتْلِهِمْ صَلَاحًا لِلْأُمَّةِ، وَفِي بَقَائِهِمْ فَسَادًا لِلْأُمَّةِ.
فَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
" سَيُقْتَلُ بِعَذْرَاءَ أُنَاسٌ يَغْضَبُ اللَّهُ لَهُمْ وَأَهْلُ
السَّمَاءِ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ مُنْقَطِعٌ.
وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ
أَبِي الْأَسْوَدِ، أَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: بَلَغَنِي أَنَّهُ سَيُقْتَلُ
بِعَذْرَاءَ أُنَاسٌ يَغْضَبُ اللَّهُ لَهُمْ وَأَهْلُ السَّمَاءِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنِي ابْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ
لَهِيعَةَ،
حَدَّثَنِي
الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَيرٍ الْغَافِقِيِّ قَالَ:
سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، سَيُقْتَلُ مِنْكُمْ سَبْعَةُ
نَفَرٍ بِعَذْرَاءَ، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ. قَالَ: فَقُتِلَ
حُجْرٌ وَأَصْحَابُهُ. ابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ
نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ فِي السُّوقِ، فَنُعِيَ لَهُ حُجْرٌ،
فَأَطْلَقَ حُبْوَتَهُ، وَقَامَ وَغَلَبَ عَلَيْهِ النَّحِيبُ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا، عَنْ عَفَّانَ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ
أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ: لَمَّا
قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: أَقَتَلْتَ
حُجْرًا ؟ فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي وَجَدْتُ قَتْلَ رَجُلٍ فِي
صَلَاحِ النَّاسِ خَيْرًا مِنِ اسْتِحْيَائِهِ فِي فَسَادِهِمْ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ
عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: يَا مُعَاوِيَةُ، قَتَلْتَ
حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ وَفَعَلْتَ الَّذِي فَعَلْتَ، أَمَّا خَشِيتَ أَنْ
أُخَبِّئَ لَكَ رَجُلًا يَقْتُلُكَ ؟ فَقَالَ: لَا، إِنِّي فِي بَيْتِ الْأَمَانِ،
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"
الْإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ، لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ ". يَا أُمَّ
الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ أَنَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ حَاجَاتِكَ وَأَمْرِكَ ؟
قَالَتْ: صَالِحٌ. قَالَ: فَدَعِينِي وَحُجْرًا حَتَّى نَلْتَقِيَ عِنْدَ
رَبِّنَا، عَزَّ وَجَلَّ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا حَجَبَتْهُ وَقَالَتْ: لَا يَدْخُلُ عَلَيَّ أَبَدًا.
فَلَمْ يَزَلْ يَتَلَطَّفُ حَتَّى دَخَلَ، فَلَامَتْهُ فِي قَتْلِهِ حُجْرًا،
فَلَمْ يَزَلْ يَعْتَذِرُ حَتَّى عَذَرَتْهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا كَانَتْ تَتَوَعَّدُهُ وَتَقُولُ: لَوْلَا يَغْلِبُنَا
سُفَهَاؤُنَا لَكَانَ لِي وَلِمُعَاوِيَةَ فِي قَتْلِهِ حُجْرًا شَأْنٌ. فَلَمَّا
اعْتَذَرَ إِلَيْهَا عَذَرَتْهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى زِيَادٌ عَلَى خُرَاسَانَ
بَعْدَ مَوْتِ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو، الرَّبِيعَ بْنَ زِيَادٍ الْحَارِثِيَّ،
فَفَتَحَ بَلْخَ صُلْحًا، وَكَانُوا قَدْ أَغْلَقُوهَا بَعْدَمَا صَالَحَهُمُ
الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، وَفَتَحَ قُوهِسْتَانَ عَنْوَةً، وَكَانَ عِنْدَهَا
أَتْرَاكٌ فَقَتَلَهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا نَيْزَكُ طَرْخَانَ،
فَقَتَلَهُ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي. وَفِيهَا
غَزَا الرَّبِيعُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَغَنِمَ وَسَلِمَ، وَكَانَ قَدْ قَطَعَ
مَا وَرَاءَ النَّهْرِ قَبْلَهُ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ
شَرِبَ مِنَ النَّهْرِ غُلَامٌ لِلْحَكَمِ، فَسَقَى سَيِّدَهُ، وَتَوَضَّأَ
الْحَكَمُ وَصَلَّى وَرَاءَ النَّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ، فَلَمَّا كَانَ
الرَّبِيعُ هَذَا غَزَا مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَغَنِمَ وَسَلِمَ. وَفِيهَا حَجَّ
بِالنَّاسِ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، فِيمَا قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ
وَالْوَاقِدِيُّ.
وَذَكَرَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظِمِ " أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ مِنَ الْأَكَابِرِ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ،
وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ، وَحَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ،
وَحُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَنِيسٍ، وَأَبُو بَكْرَةَ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ
الثَّقَفِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
فَأَمَّا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ
فَأَسْلَمَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ فِي رَمَضَانَ
سَنَةَ عَشْرٍ، وَكَانَ قُدُومُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، وَكَانَ قَدْ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: " إِنَّهُ يَقْدَمُ
عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْفَجِّ مِنْ خَيْرِ ذِي يَمَنٍ، وَإِنَّ عَلَى وَجْهِهِ
مَسْحَةَ مَلَكٍ ". فَلَمَّا دَخَلَ جَرِيرٌ رَمَاهُ النَّاسُ
بِأَبْصَارِهِمْ يَنْظُرُونَ. وَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى.
وَيُرْوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
جَالَسَهُ بَسَطَ لَهُ رِدَاءَهُ وَقَالَ: " إِذَا جَاءَكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ
فَأَكْرَمُوهُ ". وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى ذِي الْخَلَصَةِ - وَهُوَ بَيْتٌ كَانَتْ تُعَظِّمُهُ دَوْسٌ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ - فَذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: "
اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا ". فَذَهَبَ إِلَيْهِ
فَهَدَمَهُ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا
حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ،
وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: جَرِيرٌ
يُوسُفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَقَالَ
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ: رَأَيْتُ جَرِيرًا كَأَنَّ وَجْهَهُ شَقَّةُ
قَمَرٍ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ جَرِيرٌ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مَعَ عُمَرَ فِي بَيْتٍ،
فَاشْتَمَّ عُمَرُ مِنْ بَعْضِهِمْ رِيحًا، فَقَالَ: عَزَمْتُ عَلَى صَاحِبِ
هَذِهِ الرِّيحِ لَمَا قَامَ فَتَوَضَّأَ. فَقَالَ جَرِيرٌ أَوَ نَقُومُ كُلُّنَا
فَنَتَوَضَّأَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ السَّيِّدُ
كَنْتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَنِعْمَ السَّيِّدُ أَنْتَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَدْ كَانَ عَامِلًا لِعُثْمَانَ عَلَى هَمَذَانَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أُصِيبَتْ
عَيْنُهُ هُنَاكَ. فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ اعْتَزَلَ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ،
وَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا بِالْجَزِيرَةِ حَتَّى تُوُفِّيَ بِالسَّرَاةِ سَنَةَ
إِحْدَى وَخَمْسِينَ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَقِيلَ:
سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ.
وَأَمَّا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
فَأَسْلَمَ مَعَ أَبِيهِ حِينَ تَلَقَّيَاهُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ عَامَ
الْفَتْحِ، فَلَمَّا رَدَّهُمَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللَّهِ لَئِنْ
لَمْ
يَأْذَنْ لِي لَآخُذَنَّ بِيَدِ بُنَيَّ هَذَا فَأَذْهَبَنَّ فِي الْأَرْضِ، فَلَا
يُدْرَى أَيْنَ أَذْهَبُ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَّ لَهُ وَأَذِنَ لَهُ، وَقَبِلَ إِسْلَامَهُمَا،
فَأَسْلَمَا إِسْلَامًا حَسَنًا، بَعْدَ مَا كَانَ أَبُو سُفْيَانَ هَذَا يُؤْذِي
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذًى كَثِيرًا، وَشَهِدَ
حُنَينًا، وَكَانَ مِمَّنْ ثَبَتَ يَوْمَئِذٍ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَأَمَّا حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ
فَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَكَانَ مِنْ
فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَقَاعِدِ يَتَحَدَّثَانِ بَعْدَ
خَيْبَرَ. وَأَنَّهُ رَآهُ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ. وَفِي
الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ
قِرَاءَتَهُ فِي الْجَنَّةِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ، ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عُثْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ حَارِثَةَ بْنَ النُّعْمَانِ كَانَ قَدْ كُفَّ
بَصَرُهُ، فَجَعَلَ خَيْطًا مِنْ مُصَلَّاهِ إِلَى بَابِ حُجْرَتِهِ، وَكَانَ
يَضَعُ عِنْدَهُ مِكْتَلًا فِيهِ تَمْرٌ وَغَيْرُهُ، فَإِذَا جَاءَهُ الْمِسْكِينُ
أَخَذَ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ، ثُمَّ أَخَذَ يُمْسِكُ
بِذَلِكَ
الْخَيْطِ حَتَّى يَضَعَ ذَلِكَ فِي يَدِ الْمِسْكِينِ، وَكَانَ أَهْلُهُ
يَقُولُونَ لَهُ: نَحْنُ نَكْفِيكَ ذَلِكَ. فَيَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ مُنَاوَلَةَ
الْمِسْكِينِ تَقِي مَيْتَةَ السُّوءِ ". وَأَمَّا حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ
فَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ مَبْسُوطَةً.
وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْقُرَشِيُّ أَبُو
الْأَعْوَرِ الْعَدَوِيُّ
فَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأُخْتُهُ عَاتِكَةُ زَوْجَةُ عُمَرَ، وَأُخْتُ عُمَرَ
فَاطِمَةُ زَوْجَةُ سَعِيدٍ. أَسْلَمَ قَبْلَ عُمَرَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ،
وَهَاجَرَا، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ.
قَالَ عُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ
وَالْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ
بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَطَلْحَةُ بْنُ
عُبَيْدِ اللَّهِ بَيْنَ يَدَيْهِ يَتَجَسَّسَانِ أَخْبَارَ قُرَيْشٍ، فَلَمْ
يَرْجِعَا حَتَّى فَرَغَ مِنْ بَدْرٍ، فَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِهِمَا وَأَجْرِهِمَا.
وَلَمْ يَذْكُرْهُ عُمَرُ فِي أَهْلِ الشُّورَى لِئَلَّا يُحَابَى بِسَبَبِ
قَرَابَتِهِ مِنْ عُمَرَ فَيُوَلَّى، فَتَرَكَهُ لِذَلِكَ، وَإِلَّا فَهُوَ
مِمَّنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْجَنَّةِ فِي جُمْلَةِ الْعَشَرَةِ، كَمَا صَحَّتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ
الْمُتَعَدِّدَةُ الصَّحِيحَةُ، وَلَمْ يَتَوَلَّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِلَايَةً، وَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ
بِالْكُوفَةِ، وَقِيلَ: بِالْمَدِينَةِ. وَهُوَ الْأَصَحُّ.
قَالَ
الْفَلَّاسُ وَغَيْرُهُ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ ثِنْتَيْنِ
وَخَمْسِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ رَجُلًا طُوَالًا أَشْعَرَ، وَقَدْ غَسَّلَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ،
وَحُمِلَ مِنَ الْعَقِيقِ عَلَى رِقَابِ الرِّجَالِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ
عُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً.
وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيُّ أَبُو يَحْيَى الْمُدْنِيُّ
فَصَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا، وَشَهِدَ مَا
بَعْدَهَا، وَكَانَ هُوَ وَمُعَاذٌ يَكْسِرَانِ أَصْنَامَ الْأَنْصَارِ. لَهُ فِي
" الصَّحِيحِ " حَدِيثٌ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ
وَعِشْرِينَ. وَهُوَ الَّذِي بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ، فَقَتَلَهُ بَعُرَنَةَ،
وَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِخْصَرَةً،
وَقَالَ: " هَذِهِ آيَةُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "
فَأَمْرَ بِهَا. فَدُفِنَتْ مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانِينَ.
وَأَمَّا
أَبُو بَكْرَةَ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ
بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِلَاجِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الثَّقَفِيُّ،
فَصَحَابِيٌّ جَلِيلٌ كَبِيرُ الْقَدْرِ، وَيُقَالُ: كَانَ اسْمَهُ مَسْرُوحٌ.
وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: أَبُو بَكْرَةَ. لِأَنَّهُ تَدَلَّى فِي بَكْرَةَ يَوْمَ
الطَّائِفِ، فَأَعْتَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكُلَّ مَنْ نَزَلَ مِنْ مَوَالِيهِمْ يَوْمَئِذٍ. وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ هِيَ
أُمُّ زِيَادٍ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ
بِالزِّنَى هُوَ وَأَخُوهُ زِيَادٌ، وَمَعَهُمَا شِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَنَافِعُ
بْنُ الْحَارِثِ، فَلَمَّا تَلَكَّأَ زِيَادٌ فِي الشَّهَادَةِ جَلَدَ عُمَرُ
الثَّلَاثَةَ الْبَاقِينَ، ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ فَتَابُوا إِلَّا أَبَا بَكْرَةَ
فَإِنَّهُ صَمَّمَ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، اشْفِنِي مِنْ هَذَا الْعَبْدِ. فَنَهَرَهُ عُمَرُ وَقَالَ لَهُ:
اسْكُتْ لَوْ كَمَلَتِ الشَّهَادَةُ لَرَجَمْتُكَ بِأَحْجَارِكَ. وَكَانَ أَبُو
بَكْرَةَ خَيْرَ هَؤُلَاءِ الشُّهُودِ، وَكَانَ مِمَّنِ اعْتَزَلَ الْفِتَنَ،
فَلَمْ يَحْضُرْ شَيْئًا مِنْهَا، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ:
قَبْلَهَا بِسَنَةٍ. وَقِيلَ: بَعْدَهَا بِسَنَةٍ. وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو
بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ، وَكَانَ قَدْ آخَى بَيْنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِيهَا
تُوُفِّيَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ،
تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ
الْقَضَاءِ سَنَةَ سَبْعٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَكَانَ ابْنَ أُخْتِهَا أُمِّ
الْفَضْلِ لُبَابَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ: تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. أَخْرَجَاهُ. وَثَبَتَ فِي "
صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْهَا أَنَّهُمَا كَانَا حَلَالَيْنِ. وَقَوْلُهَا
مُقَدَّمٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ - وَكَانَ هُوَ السَّفِيرَ بَيْنَهُمَا
- أَنَّهُمَا كَانَا حَلَالَيْنِ. وَيُقَالُ: كَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ، فَسَمَّاهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ. وَتُوُفِّيتُ
بِسَرَفٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ حَيْثُ بَنَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ
ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ. وَالْمَشْهُورُ
الْأَوَّلُ، وَصَلَّى عَلَيْهَا ابْنُ أُخْتِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ
فِيهَا غَزَا بِلَادَ الرُّومِ وَشَتَّى بِهَا سُفْيَانُ بْنُ عَوْفٍ
الْأَزْدِيُّ، فَمَاتَ هُنَالِكَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْجُنْدِ بَعْدَهُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنِ مَسْعَدَةَ الْفَزَارِيَّ، وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي كَانَ أَمِيرَ
الْغَزْوِ بِبِلَادِ الرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ،
وَمَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ عَوْفٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَعِيدُ
بْنُ الْعَاصِ نَائِبُ الْمَدِينَةِ. قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ
وَغَيْرُهُمَا. وَغَزَا الصَّائِفَةَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ.
وَعُمَّالُ الْأَمْصَارِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَّالُهَا فِي السَّنَةِ
الْمَاضِيَةِ.
ذِكْرُ مِنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
خَالِدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ كُلَيْبٍ، أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ
الْخَزْرَجِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا وَالْعَقَبَةَ وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَشَهِدَ
مَعَ عَلِيٍّ قِتَالَ الْحَرَورِيَّةِ، وَفِي دَارِهِ كَانَ نُزُولُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا
مِنْ مَكَّةَ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرًا حَتَّى بَنَى الْمَسْجِدَ وَمَسَاكِنَهُ
حَوْلَهُ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَيْهَا، وَقَدْ كَانَ أَبُو أَيُّوبَ أَنْزَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُفْلِ الدَّارِ، ثُمَّ
تَحَرَّجَ مِنْ أَنْ يَعْلُوَ فَوْقَهُ، فَسَأَلَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى الْعُلْوِ، وَيَكُونُ هُوَ
وَأُمُّ أَيُّوبَ فِي السُّفْلِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ
رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَيْهِ أَبُو أَيُّوبَ
الْبَصْرَةَ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَائِبَهَا، فَخَرَجَ لَهُ عَنْ دَارِهِ
وَأَنْزَلَهُ بِهَا، فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ خَرَجَ لَهُ عَنْ كُلِّ
شَيْءٍ بِهَا، وَزَادَهُ تُحَفًا وَخَدَمًا كَثِيرًا، وَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ
أَلْفًا وَأَرْبَعِينَ عَبْدًا ; إِكْرَامًا لَهُ لِمَا كَانَ أَنْزَلَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِهِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ
أَكْبَرِ الشَّرَفِ لَهُ. وَهُوَ الْقَائِلُ لِزَوْجَتِهِ أُمِّ أَيُّوبَ حِينَ
قَالَتْ لَهُ: أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ ؟ فَقَالَ
لَهَا: أَكُنْتِ فَاعِلَةً ذَلِكَ يَا أُمَّ أَيُّوبَ ؟ فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ.
فَقَالَ: وَاللَّهِ لَهِيَ خَيْرٌ مِنْكِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَوْلَا إِذْ
سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا
الْآيَةَ [ النُّورِ: 12 ]. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبِلَادِ الرُّومِ قَرِيبًا مِنْ
سُورِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي قَبِلَهَا.
وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا. وَكَانَ فِي جَيْشِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
وَإِلَيْهِ أَوْصَى، وَهُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا هَمَّامٌ، ثَنَا
عَاصِمٌ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ أَهْلِ مَكَّةَ، أَنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ كَانَ
أَمِيرًا عَلَى الْجَيْشِ الَّذِي غَزَا فِيهِ أَبُو أَيُّوبَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ
عِنْدَ الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَاقْرَءُوا عَلَى النَّاسِ
مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرُوهُمْ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا
جَعَلَهُ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ ". وَلِيَنْطَلِقُوا بِي فَيَبْعُدُوا بِي
فِي أَرْضِ الرُّومِ مَا اسْتَطَاعُوا. قَالَ: فَحَدَّثَ النَّاسَ لَمَّا مَاتَ
أَبُو أَيُّوبَ، فَاسْتَلْأَمَ النَّاسُ وَانْطَلَقُوا بِجِنَازَتِهِ.
وَقَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، ثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ قَالَ: غَزَا أَبُو أَيُّوبَ مَعَ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ. قَالَ: فَقَالَ: إِذَا مُتُّ فَأَدْخَلُونِي فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ،
فَادْفِنُونِي تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ حَيْثُ تَلْقَونَ الْعَدُوَّ. قَالَ: ثُمَّ
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
" مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخْلَ الْجَنَّةَ ".
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ وَيَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ
الْأَعْمَشِ، سَمِعْتُ أَبَا ظَبْيَانَ، فَذَكَرَهُ، وَقَالَ فِيهِ:
وَسَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، لَوْلَا حَالِي هَذَا مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ
بِاللَّهِ شَيْئًا دَخْلَ الْجَنَّةَ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ قَاصُّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي
صِرْمَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ قَالَ حِينَ حَضَرَتْهُ
الْوَفَاةُ: قَدْ كُنْتُ كَتَمْتُ عَنْكُمْ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " لَوْلَا أَنَّكُمْ
تُذْنِبُونَ لَخَلَقَ اللَّهُ قَوْمًا يُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ ".
وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَالَّذِي قَبِلَهُ هُوَ الَّذِي حَمَلَ يَزِيدَ
بْنَ مُعَاوِيَةَ عَلَى طَرَفٍ مِنَ الْأَرْجَاءِ، وَرَكِبَ بِسَبَبِهِ أَفْعَالًا
كَثِيرَةً أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي تَرْجَمَتِهِ. وَاللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ..
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: مَاتَ أَبُو أَيُّوبَ بِأَرْضِ الرُّومِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ
وَخَمْسِينَ، وَدُفِنَ عِنْدَ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ
وَقَبْرُهُ هُنَالِكَ يَسْتَسْقِي بِهِ الرُّومُ إِذَا قَحَطُوا. وَقِيلَ: إِنَّهُ
مَدْفُونٌ فِي حَائِطِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَعَلَى قَبْرِهِ مَزَارٌ
وَمَسْجِدٌ، وَهُمْ يُعَظِّمُونَهُ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ:
تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ. وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ،
ثَنَا دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، ثَنَا مَيْسَرَةُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، عَنْ
مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ
أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَتَوَجَّهَانِ إِلَى الْمَسْجِدِ
فَيُصَلِّيَانِ، فَيَنْصَرِفُ أَحَدُهُمَا وَصَلَاتُهُ أَوزَنُ مِنْ أُحِدٍ
وَيَنْصَرِفُ الْآخَرُ وَمَا تَعْدِلُ صَلَاتُهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ".
فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعَدِيُّ: وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؟ قَالَ: " إِذَا كَانَ أَحْسَنَهُمَا عَقْلًا ". قَالَ:
وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ ؟ قَالَ: " إِذَا كَانَ أَوْرَعَهُمَا عَنْ مَحَارِمِ
اللَّهِ وَأَحْرَصَهُمَا عَلَى الْمُسَارَعَةِ إِلَى الْخَيْرِ، وَإِنْ كَانَ
دُونَهُ فِي التَّطَوُّعِ ".
وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ وَيُوجِزَ،
فَقَالَ
لَهُ: " إِذَا صَلَّيْتَ صَلَاةً فَصَلِّ صَلَاةَ مُودِّعٍ، وَلَا
تَكَلَّمَنَّ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ، وَأَجْمِعِ الْيَأْسَ مِمَّا فِي
أَيْدِي النَّاسِ ".
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ بْنِ سُلَيْمِ
بْنِ حِضَارِ بْنِ حَرْبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَنْزِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ
عُذْرِ بْنِ وَائِلِ بْنِ نَاجِيَةِ بْنِ جُمَاهِرِ بْنِ الْأَشْعَرِ
الْأَشْعَرِيِّ الْيَمَانِيِّ، أَسْلَمَ بِبِلَادِهِ، وَقَدِمَ مَعَ جَعْفَرٍ
وَأَصْحَابِهِ عَامَ خَيْبَرَ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ هَاجَرَ
أَوَّلًا إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَلَيْسَ هَذَا
بِالْمَشْهُورِ. وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَعَ مُعَاذٍ عَلَى الْيَمَنَ، وَاسْتَنَابَهُ عُمَرُ عَلَى
الْبَصْرَةِ، وَفَتَحَ تُسْتَرَ وَشَهِدَ خُطْبَةَ عُمَرَ بِالْجَابِيَةِ،
وَوَلَّاهُ عُثْمَانُ الْكُوفَةَ وَكَانَ أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ بَيْنَ عَلِيٍّ
وَمُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا خَدَعَ عَمْرٌو أَبَا مُوسَى.
وَكَانَ مِنْ قُرَّاءِ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَائِهِمْ، وَكَانَ أَحْسَنَ
الصَّحَابَةِ صَوْتًا فِي زَمَانِهِ. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: مَا
سَمِعْتُ صَوْتَ صَنْجٍ وَلَا بِرَبْطٍ وَلَا مِزْمَارٍ أَطْيَبَ مِنْ صَوْتِ
أَبِي مُوسَى. وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ
مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ ". وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لَهُ: ذَكِّرْنَا رَبَّنَا
يَا أَبَا مُوسَى.
فَيَقْرَأُ
وَهُمْ يَسْمَعُونَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَتَبَ عُمَرُ فِي وَصِيَّتِهِ أَنْ
لَا يُقَرَّ لِي عَامِلٌ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ إِلَّا أَبَا مُوسَى، فَلْيُقَرَّ
أَرْبَعَ سِنِينَ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظِمِ " أَنَّهُ تُوُفِّيَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ
قَبْلَهَا بِسَنَةٍ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ. وَقِيلَ
غَيْرُ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَّةَ لَمَّا
اعْتَزَلَ النَّاسَ بَعْدَ التَّحْكِيمِ، وَقِيلَ: بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ:
الثَّوِيَّةُ. عَلَى مِيلَيْنِ مِنِ الْكُوفَةِ. وَكَانَ قَصِيرًا نَحِيفَ
الْجِسْمِ، أَثَطَّ، أَيْ لَا لِحْيَةَ لَهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا مِنَ
الصَّحَابَةِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ الْمُزَنِيُّ
وَكَانَ أَحَدَ الْبَكَّائِينَ، وَأَحَدَ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ عُمَرُ
إِلَى الْبَصْرَةِ لِيُفَقِّهُوا النَّاسَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ تُسْتَرَ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ فَتْحِهَا. لَكِنِ الصَّحِيحَ مَا حَكَاهُ
الْبُخَارِيُّ عَنْ مُسَدَّدٍ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتِّينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ:
سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ،
وَكَانَ هُنَاكَ مَكَانٌ مِنْ
وَصَلَ
إِلَيْهِ نَجَا، فَجَعَلَ يُحَاوِلُ الْوُصُولَ إِلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: أَتُرِيدُ
أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ وَعِنْدَكَ مَا عِنْدَكَ ؟ فَاسْتَيْقَظَ، فَعَمَدَ إِلَى
عَيْبَةٍ عِنْدَهُ فِيهَا ذَهَبٌ كَثِيرٌ، فَلَمْ يُصْبِحْ عَلَيْهِ الصَّبَاحُ
إِلَّا وَقَدْ فَرَّقَهَا فِي الْمَسَاكِينِ وَالْمَحَاوِيجِ وَالْأَقَارِبِ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ خَلَفٍ، أَبُو
نُجَيدٍ الْخُزَاعِيُّ
أَسْلَمَ هُوَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَامَ خَيْبَرَ وَشَهِدَ غَزَوَاتٍ، وَكَانَ
مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، اسْتَقْضَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ عَلَى
الْبَصْرَةِ فَحَكَمَ بِهَا، ثُمَّ اسْتَعْفَاهُ فَأَعْفَاهُ، وَلَمْ يَزَلْ بِهَا
حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: مَا قَدِمَ
الْبَصْرَةَ رَاكِبٌ خَيْرٌ مِنْهُ.
وَقَدْ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا اكْتَوَى انْقَطَعَ
عَنْهُ سَلَامُهُمْ، ثُمَّ عَادُوا فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ
بِقَلِيلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ أَيْضًا.
كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ الْأَنْصَارِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، وَهُوَ الَّذِي نَزَلَتَ فِيهِ آيَةُ الْفِدْيَةِ فِي
الْحَجِّ. مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: قَبْلَهَا بِسَنَةٍ. عَنْ خَمْسٍ
أَوْ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجِ بْنِ جَفْنَةَ بْنِ قَتِيرَةَ الْكِنْدِيُّ
الْخَوْلَانِيُّ الْمِصْرِيُّ
صَحَابِيٌّ
عَلَى
قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي التَّابِعَيْنِ مِنَ "
الثِّقَاتِ "، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ شَهِدَ فَتَحَ مِصْرَ، وَهُوَ الَّذِي
وَفَدَ إِلَى عُمَرَ بِفَتْحِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَشَهِدَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ قِتَالَ الْبَرْبَرِ، وَذَهَبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَئِذٍ،
وَوَلِيَ حُرُوبًا كَثِيرَةً فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَكَانَ عُثْمَانِيًّا فِي
أَيَّامِ عَلِيٍّ بِبِلَادِ مِصْرَ، وَلَمْ يُبَايِعْ عَلِيًّا بِالْكُلِّيَّةِ،
فَلَمَّا أَخَذَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ مِصْرَ أَكْرَمَهُ، ثُمَّ
اسْتَنَابَهُ بِهَا بَعْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَإِنَّهُ
نَابَ بِهَا بَعْدَ أَبِيهِ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ عَزَلَهُ مُعَاوِيَةُ وَوَلَّى
مُعَاوِيَةَ بْنَ حُدَيْجٍ هَذَا، فَلَمْ يَزَلْ بِمِصْرَ حَتَّى مَاتَ بِهَا فِي
هَذِهِ السَّنَةِ.
هَانِئُ بْنُ نِيَارٍ، أَبُو بُرْدَةَ الْبَلْوِيُّ، وَهُوَ خَالُ الْبَرَاءِ بْنِ
عَازِبٍ
الْمَخْصُوصُ بِذَبْحِ الْعَنَاقِ وَإِجْزَائِهَا عَنْ غَيْرِهَا مِنَ
الْأَضَاحِيِّ، وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا،
وَكَانَتْ رَايَةُ بَنِي حَارِثَةَ مَعَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ
فَفِيهَا غَزَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ أُمِّ الْحَكَمِ الثَّقَفِيُّ بِلَادَ
الرُّومِ وَشَتَّى بِهَا. وَفِيهَا افْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ - وَعَلَيْهِمْ
جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ - جَزِيرَةَ رُودِسَ، فَأَقَامَ بِهَا طَائِفَةٌ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أَشَدَّ شَيْءٍ عَلَى الْكُفَّارِ، يَعْتَرِضُونَ
لَهُمْ فِي الْبَحْرِ، وَيَقْطَعُونَ سَبِيلَهُمْ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يُدِرُّ
عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ وَالْأُعْطِيَاتِ الْجَزِيلَةَ، وَكَانُوا عَلَى حَذَرٍ
شَدِيدٍ مِنَ الْفِرِنْجِ، يَبِيتُونَ فِي حِصْنٍ عَظِيمٍ عِنْدَهُمْ فِيهِ
حَوَائِجُهُمْ وَدَوَابُّهُمْ وَحَوَاصِلُهُمْ، وَلَهُمْ نَوَاطِيرُ عَلَى
الْبَحْرِ يُنْذِرُونَهُمْ إِنْ قَدِمَ عَدُوٌّ أَوْ كَادَهُمْ أَحَدٌ وَمَا
زَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى كَانَتْ إِمَارَةُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ
أَبِيهِ، فَأَقْفَلَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْجَزِيرَةِ، وَقَدْ كَانَتْ
لِلْمُسْلِمِينَ بِهَا أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ وَزِرَاعَاتٌ غَزِيرَةٌ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَالِي
الْمَدِينَةِ. قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ الْغَسَّانِيُّ،
كَمَا سَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ التَّرَاجِمِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الرَّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ الْحَارِثِيُّ اخْتُلِفَ فِي
صُحْبَتِهِ، وَكَانَ نَائِبَ زِيَادٍ عَلَى خُرَاسَانَ وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ حُجْرَ
بْنَ عَدِيٍّ فَتَأَسَّفَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ ثَارَتِ الْعَرَبُ
لَهُ لَمَا قُتِلَ صَبْرًا، وَلَكِنْ أَقَرَّتِ الْعَرَبُ فَذَلَّتْ. ثُمَّ لَمَّا
كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ دَعَا اللَّهَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَنْ يَقْبِضَهُ
إِلَيْهِ، فَمَا عَاشَ إِلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى
عَمَلِهِ
ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الرَّبِيعِ، فَأَقَرَّهُ زِيَادٌ عَلَى ذَلِكَ،
فَمَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَهْرَيْنِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى عَمَلِهِ بِخُرَاسَانَ
خُلَيْدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنَفِيَّ، فَأَقَرَّهُ زِيَادٌ.
وَرُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، شَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ، وَلَهُ آثَارٌ جَيِّدَةٌ فِي فَتْحِ
بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَمَاتَ بِبَرْقَةَ وَالِيًا مِنْ جِهَةِ مَسْلَمَةَ بْنِ
مُخَلَّدٍ نَائِبِ مِصْرَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ - وَيُقَالُ لَهُ زِيَادُ ابْنُ
أَبِيهِ وَ: زِيَادُ ابْنُ سُمَيَّةَ. وَهِيَ أُمُّهُ - فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ مَطْعُونًا، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ
يَقُولُ لَهُ: إِنِّي قَدْ ضَبَطْتُ لَكَ الْعِرَاقَ بِشِمَالِي، وَيَمِينِي
فَارِغَةٌ. وَهُوَ يُعَرِّضُ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَهُ عَلَى بِلَادِ الْحِجَازِ أَيْضًا،
فَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَ الْحِجَازِ ذَلِكَ جَاءُوا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَشَكَوْا إِلَيْهِ ذَلِكَ، وَخَافُوا أَنْ يَلِيَ
عَلَيْهِمْ زِيَادٌ، فَيَعْسِفَهُمْ كَمَا عَسَفَ أَهْلَ الْعِرَاقِ، فَقَامَ
ابْنُ عُمَرَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَا عَلَى زِيَادٍ وَالنَّاسُ
يُؤَمِّنُونَ، فَطُعِنَ زِيَادٌ بِالْعِرَاقِ فِي يَدِهِ فَضَاقَ ذَرْعًا
بِذَلِكَ، وَاسْتَشَارَ شُرَيْحًا الْقَاضِيَ فِي قَطْعِ يَدِهِ، فَقَالَ لَهُ
شُرَيْحٌ: إِنِّي لَا أَرَى لَكَ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِكَ، فَإِنَّهُ إِنْ
لَمْ يَكُنْ فِي الْأَجَلِّ فُسْحَةٌ لَقِيتَ اللَّهَ أَجْذَمَ قَدْ قَطَعْتَ
يَدَكَ جَزَعًا مِنْ لِقَائِهِ، وَإِنْ كَانَ لَكَ أَجْلٌ بَقِيتَ فِي النَّاسِ
أَجْذَمَ فَيُعَيَّرُ وَلَدُكَ بِذَلِكَ. فَصَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا خَرَجَ
شُرَيْحٌ مِنْ عِنْدِهِ عَاتَبَهُ بَعْضُ النَّاسِ وَقَالُوا: هَلَّا تَرَكَتْهُ
فَقَطَعَ يَدَهُ ؟ فَقَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ ". وَيُقَالُ: إِنَّ
زِيَادًا
جَعَلَ يَقُولُ: أَأَنَامَ أَنَا وَالطَّاعُونُ فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ ؟ فَعَزَمَ
عَلَى قَطْعِ يَدِهِ، فَلَمَّا جِيءَ بِالْمَكَاوِي وَالْحَدِيدِ خَافَ مِنْ
ذَلِكَ، فَتَرَكَ ذَلِكَ. وَذُكِرَ أَنَّهُ جَمَعَ مِائَةً وَخَمْسِينَ طَبِيبًا
لِيُدَاوُوهُ مِمَّا يَجِدُ مِنَ الْحَرِّ فِي بَاطِنِهِ، مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ
أَطِبَّاءَ مِمَّنْ كَانَ يَطِبُّ كِسْرَى بْنَ هُرْمُزَ فَعَجَزُوا عَنْ رَدِّ
الْقَدَرِ الْمَحْتُومِ وَالْأَمْرِ الْمَحْمُومِ، فَمَاتَ فِي ثَالِثِ شَهْرِ
رَمَضَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَدْ قَامَ فِي إِمْرَةِ الْعِرَاقِ خَمْسَ
سِنِينَ. وَدُفِنَ بِالثَّوِيَّةِ خَارِجَ الْكُوفَةِ، وَقَدْ كَانَ بَرَزَ
مِنْهَا قَاصِدًا الْحِجَازَ أَمِيرًا عَلَيْهَا، فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ مَوْتِهِ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: اذْهَبْ إِلَيْكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ، فَلَا
الدُّنْيَا بَقِيَتْ لَكَ، وَلَا الْآخِرَةَ أَدْرَكْتَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ هِشَامِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ ثَعْلَبَةَ أَبُو الْمُقَوَّمِ
الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ أَبِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ السَّائِبِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: جَمَعَ زِيَادٌ أَهْلَ الْكُوفَةِ،
فَمَلَأَ مِنْهُمُ الْمَسْجِدَ وَالرَّحْبَةَ وَالْقَصْرَ ; لِيَعْرِضَهُمْ عَلَى
الْبَرَاءَةِ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ
فَإِنِّي لَمَعَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِي مِنَ الْأَنْصَارِ، وَالنَّاسُ فِي أَمْرٍ
عَظِيمٍ مِنْ ذَلِكَ وَفِي حَصْرٍ. قَالَ: فَهَوَّمْتُ تَهْوِيمَةً - أَيْ
نَعَسْتُ نَعْسَةً - فَرَأَيْتُ شَيْئًا أَقْبَلَ طَوِيلَ الْعُنُقِ، لَهُ عُنُقٌ
مِثْلَ عُنُقِ الْبَعِيرِ، أَهْدَبَ أَهْدَلَ فَقُلْتُ: مَا أَنْتَ ؟
فَقَالَ:
أَنَا النَّقَّادُ ذُو الرَّقَبَةِ، بُعِثْتُ إِلَى صَاحِبِ هَذَا الْقَصْرِ.
فَاسْتَيْقَظْتُ فَزِعًا، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي: هَلْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ ؟
قَالُوا: لَا. فَأَخْبَرْتُهُمْ، وَخَرَجَ عَلَيْنَا خَارِجٌ مِنَ الْقَصْرِ
فَقَالَ: إِنَّ الْأَمِيرَ يَقُولُ لَكُمْ: انْصَرِفُوا عَنِّي، فَإِنِّي عَنْكُمْ
مَشْغُولٌ. وَإِذَا الطَّاعُونُ قَدْ أَصَابَهُ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ زِيَادًا لَمَّا وَلِيَ الْكُوفَةَ سَأَلَ
عَنْ أَعَبْدِ أَهْلِهَا، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الْمُغِيرَةِ الْحِمْيَرِيُّ.
فَجَاءَ بِهِ فَقَالَ لَهُ: الْزَمْ بَيْتَكَ وَلَا تَخْرُجْ مِنْهُ وَأَنَا
أُعْطِيكَ مِنَ الْمَالِ مَا شِئْتَ. فَقَالَ: لَوْ أَعْطَيْتَنِي مُلْكَ
الْأَرْضِ مَا تَرَكْتُ خُرُوجِي لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ. فَقَالَ: الْزَمِ
الْجَمَاعَةَ وَلَا تَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ. فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ تَرْكَ
الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ
عُنُقُهُ. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا.
وَلَمَّا احْتَضَرَ قَالَ لَهُ ابْنُهُ: يَا أَبَةِ، قَدْ هَيَّأْتُ لَكَ سِتِّينَ
ثَوْبًا أُكَفِّنُكَ فِيهَا. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، قَدْ دَنَا مِنْ أَبِيكَ
أَمْرٌ ; إِمَّا لِبَاسٌ خَيْرٌ مِنْ لِبَاسِهِ وَإِمَّا سَلْبٌ سَرِيعٌ.
وَصَعْصَعَةُ بْنُ نَاجِيَةَ بْنِ عِقَالِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ
مُجَاشِعِ بْنِ دَارِمٍ الدَّارِمِيُّ
كَانَ سَيِّدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي الْإِسْلَامِ، يُقَالُ: إِنَّهُ أَحْيَا
فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ مَوْءُودَةً. وَقِيلَ:
أَرْبَعَمِائَةٍ. وَقِيلَ: سِتًّا وَتِسْعِينَ مَوْءُودَةً. فَلَمَّا أَسْلَمَ
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَكَ
أَجْرُ ذَلِكَ إِذْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ بِالْإِسْلَامِ ".
وَيُرْوَى
عَنْهُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا أَحْيَى الْمَوْءُودَةَ أَنَّهُ ذَهَبَ فِي طَلَبِ
نَاقَتَيْنِ شَرَدَتَا لَهُ. قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا فِي اللَّيْلِ أَسِيرُ
إِذَا أَنَا بِنَارٍ تُضِيءُ مَرَّةً وَتَخْبُو أُخْرَى، فَجَعَلْتُ لَا أَهْتَدِي
إِلَيْهَا، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لَكَ عَلَيَّ إِنْ أَوْصَلْتَنِي إِلَيْهَا أَنْ
أَدْفَعَ عَنْ أَهْلِهَا ضَيْمًا إِنْ وَجَدْتُهُ بِهِمْ. قَالَ: فَوَصَلْتُ
إِلَيْهَا، وَإِذَا شَيْخٌ كَبِيرٌ يُوقِدُ نَارًا، وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ
مُجْتَمِعَاتٌ، فَقُلْتُ: مَا أَنْتُنَّ ؟ فَقُلْنَ: إِنَّ هَذِهِ امْرَأَةٌ قَدْ
حَبَسَتْنَا مُنْذُ ثَلَاثٍ، تَطْلَقُ وَلَمْ تَخْلُصْ. فَقَالَ الشَّيْخُ صَاحِبُ
الْمَنْزِلِ: وَمَا خَبَرُكَ ؟ فَقُلْتُ: إِنِّي فِي طَلَبِ نَاقَتَيْنِ شَرَدَتَا
لِي. فَقَالَ: قَدْ وَجَدْتُهُمَا، إِنَّهُمَا لَفِي إِبِلِنَا. قَالَ: فَنَزَلْتُ
عِنْدَهُ. قَالَ: فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ نَزَلْتُ إِذْ قُلْنَ: وَضَعَتْ. فَقَالَ
الشَّيْخُ: إِنْ كَانَ ذَكَرًا فَارْتَحِلُوا، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَلَا تُسْمِعْنَنِي
صَوْتَهَا. فَقُلْتُ: عَلَامَ تَقْتُلُ وَلَدَكَ وَرِزْقُهُ عَلَى اللَّهِ ؟
فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهَا. فَقُلْتُ: أَنَا أَفْتَدِيهَا مِنْكَ
وَأَتْرُكُهَا عِنْدَكَ حَتَّى تَبِينَ عَنْكَ أَوْ تَمُوتَ. قَالَ: بِكَمْ ؟
قُلْتُ. بِإِحْدَى نَاقَتَيَّ. قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَبِهِمَا. قَالَ: لَا إِلَّا
أَنَّ تَزِيدَنِي بَعِيرَكَ هَذَا، فَإِنِّي أَرَاهُ شَابًّا حَسَنَ اللَّوْنِ.
قُلْتُ: نَعَمْ، عَلَى أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى أَهْلِي. قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا
خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِمْ، رَأَيْتُ أَنَّ الَّذِي صَنَعْتُهُ نِعْمَةٌ مِنَ
اللَّهِ مَنَّ بِهَا عَلَيَّ هَدَانِي إِلَيْهَا، فَجَعَلْتُ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ
لَا أَجِدَ مَوْءُودَةً إِلَّا افْتَدَيْتُهَا كَمَا افْتَدَيْتُ هَذِهِ. قَالَ:
فَمَا جَاءَ الْإِسْلَامُ حَتَّى أَحْيَيْتُ مِائَةَ مَوْءُودَةٍ إِلَّا أَرْبَعًا،
وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْمَشَاهِيرِ الْمَذْكُورِينَ
جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ الْغَسَّانِيُّ مَلِكُ نَصَارَى الْعَرَبِ، وَهُوَ
جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ،
وَاسْمُهُ
الْمُنْذِرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَهُوَ ابْنُ مَارِيَةَ ذَاتِ الْقُرْطَيْنِ، وَهُوَ
ابْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَفْنَةَ، وَاسْمُهُ كَعْبُ بْنُ عَامِرِ بْنِ
حَارِثَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَمَارِيَةُ هِيَ بِنْتُ أَرْقَمَ بْنِ
ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَفْنَةَ، وَيُقَالُ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ،
وَكُنْيَةُ جَبَلَةَ أَبُو الْمُنْذِرِ الْغَسَّانِيُّ الْجَفْنِيُّ، وَكَانَ
مَلِكُ غَسَّانَ، وَهُمْ نَصَارَى الْعَرَبِ أَيَّامَ هِرَقْلَ، وَغَسَّانُ أَوْلَادُ
عَمِّ الْأَنْصَارِ ; أَوْسِهَا وَخَزْرَجِهَا، وَكَانَ جَبَلَةُ آخِرَ مُلُوكِ
غَسَّانَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كِتَابًا مَعَ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ
وَكَتَبَ بِإِسْلَامِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ قَطُّ. وَهَكَذَا صَرَّحَ
بِهِ الْوَاقِدِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: شَهِدَ الْيَرْمُوكَ مَعَ الرُّومِ أَيَّامَ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ، فَاتَّفَقَ
أَنَّهُ وَطِئَ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ بِدِمَشْقَ، فَلَطَمَهُ ذَلِكَ
الْمُزْنِيُّ، فَرَفَعَهُ أَصْحَابُ جَبَلَةَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فَقَالُوا:
هَذَا لَطَمَ جَبَلَةَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَلْيَلْطِمْهُ جَبَلَةُ.
فَقَالُوا: أَوَمَا يُقْتَلُ ؟ ! قَالَ: لَا. قَالُوا: فَمَا تُقْطَعُ يَدُهُ ؟ !
قَالَ: لَا، إِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْقَوَدِ. فَقَالَ جَبَلَةُ أَتَرَوْنَ
أَنِّي جَاعِلٌ وَجْهِي بَدَلًا لِوَجْهِ مُزَنِيٍّ جَاءَ مِنْ نَاحِيَةِ
الْمَدِينَةِ ؟ بِئْسَ الدِّينُ هَذَا. ثُمَّ ارْتَدَّ نَصْرَانِيًّا، وَتَرَحَّلَ
بِأَهْلِهِ حَتَّى دَخَلَ أَرْضَ الرُّومِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَشَقَّ
عَلَيْهِ، وَقَالَ لِحَسَّانَ: إِنَّ صَدِيقَكَ جَبَلَةَ ارْتَدَّ عَنِ
الْإِسْلَامِ. فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ثُمَّ
قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالَ: لَطَمَهُ رَجُلٌ مِنْ مُزَيْنَةَ. فَقَالَ: وَحُقَّ لَهُ.
فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ فَضَرَبَهُ بِهَا. وَرَوَاهُ
الْوَاقِدِيُّ،
عَنْ مَعْمَرٍ وَغَيْرِهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَاقَ ذَلِكَ بِأَسَانِيدِهِ إِلَى جَمَاعَةٍ
مِنَ الصَّحَابَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْكَلْبِيِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا بَلَغَهُ إِسْلَامُ
جَبَلَةَ فَرِحَ بِإِسْلَامِهِ، ثُمَّ بَعَثَ يَسْتَدْعِيهِ لِيَرَاهُ
بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: بَلِ اسْتَأْذَنَهُ جَبَلَةُ فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ،
فَأَذِنَ لَهُ، فَرَكِبَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ، قِيلَ: مِائَةٌ
وَخَمْسُونَ رَاكِبًا. وَقِيلَ: خَمْسُمِائَةٍ. وَتَلَقَّتْهُ هَدَايَا عُمَرَ
وَنُزُلُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِمَرَاحِلَ، وَكَانَ يَوْمُ
دُخُولِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا، دَخَلَهَا وَقَدْ أَلْبَسَ خُيُولَهُ قَلَائِدَ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَبِسَ هُوَ تَاجًا عَلَى رَأْسِهِ، مُرَصَّعًا
بِاللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ، وَفِيهِ قُرْطَا مَارِيَةَ جَدَّتِهِ، وَخَرَجَ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا
سَلَّمَ عَلَى عُمَرَ رَحَّبَ بِهِ عُمَرُ وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ، وَشَهِدَ
الْحَجَّ مَعَ عُمَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ
بِالْكَعْبَةِ إِذْ وَطِئَ إِزَارَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ فَانْحَلَّ،
فَرَفَعَ جَبَلَةُ يَدَهُ فَهَشَّمَ أَنْفَ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ قَلَعَ عَيْنَهُ. فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ الْفَزَارِيُّ
عُمَرَ، وَمَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ، فَاسْتَحْضَرَهُ عُمَرُ،
فَاعْتَرَفَ جَبَلَةُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَقِدْهُ. فَقَالَ جَبَلَةُ: كَيْفَ
وَأَنَا مَلِكٌ وَهُوَ سُوقَةٌ ؟ فَقَالَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ جَمَعَكَ وَإِيَّاهُ،
فَلَسْتَ تَفْضُلُهُ إِلَّا بِالتَّقْوَى. فَقَالَ جَبَلَةُ قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ
أَنْ أَكُونَ فِي الْإِسْلَامِ أَعَزَّ مِنِّي فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ
عُمَرُ: دَعْ ذَا عَنْكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُرْضِ الرَّجُلَ أَقَدْتُهُ
مِنْكَ. فَقَالَ: إِذَنْ أَتَنَصَّرَ. فَقَالَ: إِنْ تَنَصَّرْتَ ضَرَبْتُ
عُنُقَكَ. فَلَمَّا رَأَى الْجِدَّ قَالَ: سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي هَذِهِ
اللَّيْلَةَ. فَانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ، فَلَمَّا ادْلَهَمَّ اللَّيْلُ
رَكِبَ
فِي
قَوْمِهِ وَمَنْ أَطَاعَهُ، فَسَارَ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ دَخَلَ بِلَادَ
الرُّومِ، وَدَخَلَ عَلَى هِرَقْلَ فِي مَدِينَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَرَحَّبَ
بِهِ هِرَقْلُ وَأَقْطَعَهُ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَأَجْرَى عَلَيْهِ أَرْزَاقًا
جَزِيلَةً، وَأَهْدَى إِلَيْهِ هَدَايَا جَمِيلَةً، وَجَعَلَهُ مِنْ سُمَّارِهِ، فَمَكَثَ
عِنْدَهُ دَهْرًا ; ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ كَتَبَ كِتَابًا إِلَى هِرَقْلَ مَعَ
رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: جَثَّامَةُ بْنُ مُسَاحِقٍ الْكِنَانِيُّ. فَلَمَّا بَلَغَ
هِرَقْلَ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ لَهُ هِرَقْلُ: هَلْ لَقِيتَ
ابْنَ عَمِّكَ جَبَلَةَ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَالْقَهُ. فَذَكَرَ اجْتِمَاعَهُ
بِهِ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالسُّرُورِ وَالْحُبُورِ
الدُّنْيَوِيِّ، فِي لِبَاسِهِ وَفَرْشِهِ وَمَجْلِسِهِ وَطِيبِهِ، وَجَوَارِيهِ
حَوَالَيْهِ الْحِسَانِ مِنَ الْخَدَمِ وَالْقِيَانِ، وَمَطْعَمِهِ وَشَرَابِهِ
وَسُرُرِهِ وَدَارِهِ الَّتِي تَعَوَّضَ بِهَا عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَذَكَرَ
أَنَّهُ دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْعَوْدِ إِلَى الشَّامِ فَقَالَ: أَبْعَدَ
مَا كَانَ مِنِّي مِنَ الِارْتِدَادِ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ
ارْتَدَّ وَقَاتَلَهُمْ بِالسَّيْفِ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ إِلَى الْحَقِّ
قَبِلُوهُ مِنْهُ، وَزَوَّجَهُ الصِّدِّيقُ بِأُخْتِهِ أُمِّ فَرْوَةَ. قَالَ:
فَالْتَهَى عَنْهُ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْخَمْرَ
فَأَبَى عَلَيْهِ، وَشَرِبَ جَبَلَةُ مِنَ الْخَمْرِ شَيْئًا كَثِيرًا حَتَّى
سَكِرَ، ثُمَّ أَمَرَ جَوَارِيَهُ الْقِيَانَ، فَغَنَّيْنَهُ بِالْعِيدَانِ مِنْ
قَوْلِ حَسَّانَ، يَمْدَحُ بَنِي عَمِّهِ مِنْ غَسَّانَ، وَالشِّعْرُ فِي وَالِدِ
جَبَلَةَ هَذَا الْحَيَوَانِ.
لِلَّهِ دَرُّ عِصَابَةٍ نَادَمْتُهُمْ يَوْمًا بِجِلَّقَ فِي الزَّمَانِ
الْأَوَّلِ أَوْلَادِ جَفْنَةَ حَوْلَ قَبْرِ أَبِيهُمُ
قَبْرِ ابْنِ مَارِيَةَ الْكَرِيمِ الْمُفْضِلِ
يَسْقُونَ
مَنْ وَرَدَ الْبَرِيصَ عَلَيْهِمُ
صَهْبًا تُصَفَّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ بِيضِ الْوُجُوهِ كَرَيْمَةٍ
أَحْسَابُهُمْ
شُمِّ الْأُنُوفِ مِنَ الطِّرَازِ الْأَوَّلِ يُغْشَوْنَ حَتَّى مَا تَهِرُّ
كِلَابُهُمْ
لَا يَسْأَلُونَ عَنِ السَّوَادِ الْمُقْبِلِ
قَالَ: فَأَعْجَبَهُ قَوْلُهُنَّ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا شِعْرُ حَسَّانَ بْنِ
ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ فِينَا وَفِي مُلْكِنَا، ثُمَّ قَالَ لِي: كَيْفَ حَالُ
حَسَّانَ ؟ قُلْتُ لَهُ: تَرَكْتُهُ ضَرِيرًا شَيْخًا كَبِيرًا. ثُمَّ قَالَ
لَهُنَّ: أَطْرِبْنَنِي. فَانْدَفَعْنَ يُغَنِّينَ بِقَوْلِ حَسَّانَ أَيْضًا:
لِمَنِ الدَّارُ أَقْفَرَتْ بِمَعَانِ بَيْنَ فَرْعِ الْيَرْمُوكِ فَالصَّمَّانِ
فَالْقُرَيَّاتِ مِنْ بَلَاسَ فَدَارَيَّا فَسَكَّاءَ فَالْقُصُورِ الدَّوَانِي
فَحِمَى جَاسِمٍ إِلَى مَرْجِ ذِي الصُّفَّرِ مَغْنَى قَبَائِلٍ وَهِجَانِ
تِلْكَ دَارُ الْعَزِيزِ بَعْدَ أَلُوفٍ وَحُلُولٍ عَظِيمَةِ الْأَرْكَانِ
صَلَوَاتُ الْمَسِيحِ فِي ذَلِكَ الدَّيْ رِ دُعَاءُ الْقِسِّيسِ وَالرُّهْبَانِ
ذَاكَ مَغْنًى لِآلِ جَفْنَةَ فِي الدَّهْ رِ مَحَاهُ تَعَاقُبُ الْأَزْمَانِ
فَأُرَانِي هُنَاكَ حَقَّ مَكِينٍ عِنْدَ ذِي التَّاجِ مَجْلِسِي وَمَكَانِي
ثَكِلَتْ أُمُّهُمْ وَقَدْ ثَكِلَتْهُمْ يَوْمَ حَلُّوًا بِحَارِثِ الْجَوْلَانِ
قَدْ -
دَنَا الْفِصْحُ فَالْوَلَائِدُ يَنْظِمْ نَ سِرَاعًا أَكِلَّةَ الْمَرْجَانِ
قَالَ: هَذَا لِابْنِ الْفُرَيْعَةِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، فِينَا وَفِي
مُلْكِنَا وَفِي مَنَازِلِنَا بِأَكْنَافِ غُوطَةِ دِمَشْقَ. قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ
طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ لَهُنَّ: بَكِّينَنِي. فَوَضَعْنَ عِيدَانَهُنَّ
وَنَكَّسْنَ رُءُوسَهُنَّ وَقُلْنَ:
تَنَصَّرَتِ الْأَشْرَافُ مِنْ عَارِ لَطْمَةٍ وَمَا كَانَ فِيهَا لَوْ صَبَرْتُ
لَهَا ضَرَرْ
تَكَنَّفَنِي فِيهَا لَجَاجٌ وَنَخْوَةٌ وَبِعْتُ بِهَا الْعَيْنَ الصَّحِيحَةَ
بِالْعَوَرْ
فَيَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي وَلَيْتَنِي رَجَعْتُ إِلَى الْقَوْلِ الَّذِي
قَالَهُ عُمَرْ
وَيَا لَيْتَنِي أَرْعَى الْمَخَاضَ بِقَفْرَةٍ وَكُنْتُ أَسِيرًا فِي رَبِيعَةَ
أَوْ مُضَرْ
وَيَا لَيْتَ لِي بِالشَّامِ أَدْنَى مَعِيشَةٍ أُجَالِسُ قَوْمِي ذَاهِبَ
السَّمْعِ وَالْبَصَرْ
أَدِينُ بِمَا دَانُوا بِهِ مِنْ شَرِيعَةٍ وَقَدْ يَصْبِرُ الْعَوْدُ الْكَبِيرُ
عَلَى الدَّبَرْ
قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَبَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ
بِدُمُوعِهِ، وَبَكَيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ
هِرَقْلِيَّةٍ، فَقَالَ: خُذْ هَذِهِ فَأَوْصِلْهَا إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ.
وَجَاءَ بِأُخْرَى فَقَالَ: خُذْ هَذِهِ لَكَ. فَقُلْتُ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا،
وَلَا أَقْبَلُ مِنْكَ شَيْئًا وَقَدِ ارْتَدَدْتَ عَنِ الْإِسْلَامِ. فَيُقَالُ:
إِنَّهُ أَضَافَهَا إِلَى الَّتِي لِحَسَّانَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَلْفِ
دِينَارٍ هِرَقْلِيَةٍ، ثُمَّ قَالَ لِي: أَبْلِغْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنِّي
السَّلَامَ وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ. فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ أَخْبَرْتُهُ
خَبَرَهُ، فَقَالَ: وَرَأَيْتَهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ:
أَبْعَدَهُ اللَّهُ، تَعَجَّلَ فَانِيَةً بِبَاقِيَةٍ، فَمَا رَبِحَتْ
تِجَارَتُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَمَا الَّذِي وَجَّهَ بِهِ لِحَسَّانَ ؟ قُلْتُ:
خَمْسُمِائَةِ
دِينَارٍ هِرَقْلِيَّةٍ، فَدَعَا حِسَانًا فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَأَخَذَهَا
وَوَلَّى وَهُوَ يَقُولُ:
إِنَّ ابْنَ جَفْنَةَ مِنْ بَقِيَّةِ مَعْشَرٍ لَمْ يَغْذُهُمْ آبَاؤُهُمْ
بِاللُّومِ
لَمْ يَنْسَنِي بِالشَّامِ إِذْ هُوَ رَبُّهَا كَلًّا وَلَا مُتَنَصِّرًا
بِالرُّومِ
يُعْطِي الْجَزِيلَ وَلَا يَرَاهُ عِنْدَهُ إِلَّا كَبَعْضِ عَطِيَّةِ
الْمَحْرُومِ
وَأَتَيْتُهُ يَوْمًا فَقَرَّبَ مَجْلِسِي وَسَقَى فَرَوَّانِي مِنَ الْخُرْطُومِ
ثُمَّ لَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ بَعَثَ
مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعَدَةَ الْفَزَارِيَّ رَسُولًا إِلَى مَلِكِ
الرُّومِ، فَاجْتَمَعَ بِجَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ، فَرَأَى مَا هُوَ فِيهِ مِنَ
السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأَمْوَالِ ; مِنَ الْخَدَمِ وَالْحَشَمِ
وَالذَّهَبِ وَالْخُيُولِ، فَقَالَ لَهُ جَبَلَةُ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ
مُعَاوِيَةَ يُقْطِعُنِي أَرْضَ الْبَثْنِيَّةِ فَإِنَّهَا مَنَازِلُنَا،
وَعِشْرِينَ قَرْيَةً مِنْ غُوطَةِ دِمَشْقَ وَيَفْرِضُ لِجَمَاعَتِنَا،
وَيُحْسِنُ جَوَائِزَنَا، لَرَجَعْتُ إِلَى الشَّامِ. فَأَخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مَسْعَدَةَ مُعَاوِيَةَ بِقَوْلِهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَنَا أُعْطِيهُ
ذَلِكَ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا مَعَ الْبَرِيدِ بِذَلِكَ، فَمَا أَدْرَكَهُ
الْبَرِيدُ إِلَّا وَقَدْ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَذَكَرَ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ
الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظِمِ "، وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ هَذِهِ
السَّنَةَ، أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ
ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " فَأَطَالَ التَّرْجَمَةَ وَأَفَادَ،
ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا: بَلَغَنِي أَنَّ جَبَلَةَ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ
مُعَاوِيَةَ بِأَرْضِ الرُّومِ، بَعْدَ سَنَةِ أَرْبَعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ
وَفِيهَا شَتَّى مُحَمَّدُ بْنُ مَالِكٍ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَغَزَا الصَّائِفَةَ
مَعْنُ بْنُ يَزِيدَ السُّلَمِيُّ. وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ سَعِيدَ بْنَ
الْعَاصِ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ، وَرَدَّ إِلَيْهَا مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ
وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَهْدِمَ دَارَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَيَصْطَفِي
أَمْوَالَهُ الَّتِي بِأَرْضِ الْحِجَازِ، فَجَاءَ مَرْوَانُ إِلَى دَارِ سَعِيدٍ
لِيَهْدِمَهَا فَقَالَ سَعِيدٌ: مَا كُنْتَ لِتَفْعَلَ ذَلِكَ. فَقَالَ: إِنَّ
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَتَبَ إِلَيَّ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْكَ فِي
دَارِي لَفَعَلْتَهُ. فَقَامَ سَعِيدٌ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ كِتَابَ مُعَاوِيَةَ
إِلَيْهِ حِينَ وَلَّاهُ الْمَدِينَةَ أَنْ يَهْدِمَ دَارَ مَرْوَانَ وَيَصْطَفِيَ
أَمْوَالَهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُجَاحِفُ دُونَهُ حَتَّى صَرَفَ
ذَلِكَ عَنْهُ، فَلَمَّا رَأَى مَرْوَانُ الْكُتُبَ إِلَى سَعِيدٍ بِذَلِكَ،
ثَنَاهُ ذَلِكَ عَنْ دَارِ سَعِيدٍ، وَعَنْ أَخْذِ مَالِهِ، وَلَمْ يَزَلْ
يُدَافِعُ عَنْهُ حَتَّى تَرَكَهُ مُعَاوِيَةُ فِي دَارِهِ وَأَقَرَّ عَلَيْهِ
أَمْوَالَهُ.
وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ عَنِ الْبَصْرَةِ وَكَانَ
زِيَادٌ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَيْهَا، فَأَقَرَّهُ مُعَاوِيَةُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ،
ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ سُمْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَطَعْتُ
اللَّهَ كَمَا أَطَعْتُ مُعَاوِيَةَ لَمَا عَذَّبَنِي أَبَدًا. وَهَذَا لَا
يَصِحُّ عَنْهُ. وَأَقَرَّ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ
عَلَى
نِيَابَةِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ زِيَادٌ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَيْهَا. وَقَدَّمَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَكْرَمَهُ
وَسَأَلَهُ عَنْ نُوَّابِ أَبِيهِ عَلَى الْبِلَادِ، فَأَخْبَرَهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ
وَلَّاهُ إِمْرَةَ خُرَاسَانَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَسَارَ
إِلَى مُقَاطَعَتِهِ، وَتَجَهَّزَ مِنْ فَوْرِهِ غَادِيًا إِلَيْهَا، فَقَطَعَ
النَّهْرَ إِلَى جِبَالِ بُخَارَى، فَفَتَحَ رَامِيثَنَ وَنِصْفَ بَيْكَنْدَ -
وَهُمَا مِنْ مُعَامَلَةِ بُخَارَى - وَلَقِيَ التُّرْكَ هُنَاكَ، فَقَاتَلَهُمْ
قِتَالًا شَدِيدًا، وَهَزَمَهُمْ هَزِيمَةً فَظِيعَةً، بِحَيْثُ إِنَّ
الْمُسْلِمِينَ أَعْجَلُوا امْرَأَةَ الْمَلِكِ أَنَّ تَلْبِسَ خُفَّيْهَا،
فَلَبِسَتْ وَاحِدَةً وَتَرَكَتِ الْأُخْرَى، فَأَخَذَهَا الْمُسْلِمُونَ
فَقَوَّمُوا جَوْرَبَهَا بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَغَنِمُوا مَعَ ذَلِكَ
غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَأَقَامَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِخُرَاسَانَ
سَنَتَيْنِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ نَائِبُ
الْمَدِينَةِ. وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ
أَسِيدٍ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ عَلَيْهَا الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ. وَكَانَ عَلَى
الْبَصْرَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الْكَلْبِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ
مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ مَوْلَاهُ،
وَحِبُّهُ وَابْنُ حِبِّهِ، وَأُمُّهُ بَرَكَةُ أُمَّ أَيْمَنَ مَوْلَاةُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَاضِنَتُهُ، وَلَّاهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِمْرَةَ بَعْدَ مَقْتَلِ أَبِيهِ،
فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِمْرَتِهِ، فَقَالَ
رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ تَطْعَنُوا فِي
إِمَارَتِهِ فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إِمْرَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَايْمُ
اللَّهِ إِنَّ كَانَ لَخَلِيقًا بِالْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ
النَّاسِ إِلَيَّ وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ ".
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُجْلِسُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ،
وَيُجْلِسُ أُسَامَةَ عَلَى فَخْذِهِ الْأُخْرَى وَيَقُولُ: " اللَّهُمَّ
إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا ". وَفَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا،
تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمْرُهُ تِسْعَ
عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ عُمَرُ إِذَا لَقِيَهُ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ
أَيُّهَا الْأَمِيرُ. وَصَحَّحَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ
وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ تُوُفِّيَ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثَوْبَانُ بْنُ بُجْدُدٍ
مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَقَدَّمَتْ
تَرْجَمَتُهُ فِي الْمَوَالِي، وَمَنْ كَانَ يَخْدُمُهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ. أَصْلُ ثَوْبَانَ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَصَابَهُ سِبَاءٌ،
فَاشْتَرَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْتَقَهُ،
فَلَزِمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفَرًا وَحَضَرًا،
فَلَمَّا مَاتَ أَقَامَ بِالرَّمْلَةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى حِمْصٍ
فَابْتَنَى بِهَا دَارَا، وَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ. وَهُوَ غَلَطٌ.
وَيُقَالُ
إِنَّهُ تُوُفِّيَ بِمِصْرَ. وَالصَّحِيحُ بِحِمْصَ.
جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ
تَقَدَّمَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ. سَنَةَ خَمْسِينَ.
الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيٍّ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: اسْمُهُ النُّعْمَانُ بْنُ رِبْعِيٍّ. وَقَالَ غَيْرُهُ:
عَمْرُو بْنُ رِبْعِيٍّ. وَهُوَ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ
الْمَدَنِيُّ فَارِسُ الْإِسْلَامِ، شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، وَكَانَ لَهُ
يَوْمَ ذِي قَرَدٍ سَعْيٌ مَشْكُورٌ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ، قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ: " خَيْرُ
فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ بْنُ
الْأَكْوَعِ ". وَزَعَمَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ أَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا،
وَلَيْسَ هَذَا بِمَعْرُوفٍ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: أَخْبَرَنِي
مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَمَّارٍ: " تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ
الْبَاغِيَةُ ".
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - يَعْنِي سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ - بِالْمَدِينَةِ عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً. وَزَعَمَ
الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ
ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَهَذَا
غَرِيبٌ.
حَكِيمُ بْنُ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ
قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ أَبُو خَالِدٍ الْمَكِّيُّ
وَأُمُّهُ فَاخِتَةُ بِنْتُ زُهَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ
بْنِ
عَبْدِ الْعُزَّى، وَعَمَّتُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ زَوْجَةُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمُّ أَوْلَادِهِ سِوَى
إِبْرَاهِيمَ. وَلَدَتْهُ أُمُّهُ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ قَبْلَ الْفِيلِ
بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ; وَذَلِكَ أَنَّهَا دَخَلَتِ الْكَعْبَةَ تَزُورُ،
فَضَرَبَهَا الطَّلْقُ، فَوَضَعَتْهُ عَلَى نِطْعٍ.
وَكَانَ شَدِيدَ الْمَحَبَّةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَلَمَّا كَانَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فِي الشِّعْبِ لَا
يُبَايَعُونَ وَلَا يُنَاكَحُونَ، كَانَ حَكِيمٌ يُقْبِلُ بِالْعِيرِ تَقْدَمُ
مِنَ الشَّامِ فَيَشْتَرِيهَا مَكَانَهَا، ثُمَّ يَذْهَبُ بِهَا، فَيَضْرِبُ
أَدْبَارَهَا حَتَّى تَلِجَ الشِّعْبَ تَحْمِلُ الطَّعَامَ وَالْكِسْوَةَ ;
تَكْرِمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِعَمَّتِهِ
خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، وَهُوَ الَّذِي اشْتَرَى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ
أَوَّلًا، فَابْتَاعَتْهُ مِنْهُ عَمَّتُهُ خَدِيجَةُ، فَوَهَبَتْهُ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْتَقَهُ. وَهُوَ الَّذِي اشْتَرَى
حُلَّةَ ذِي يَزَنَ، فَأَهْدَاهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَلَبِسَهَا. قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ فِيهَا.
وَمَعَ هَذَا مَا أَسْلَمَ إِلَّا يَوْمَ الْفَتْحِ هُوَ وَأَوْلَادُهُ كُلُّهُمْ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ: عَاشَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ سِتِّينَ سَنَةً،
وَفِي الْإِسْلَامِ سِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ
وَكُرَمَائِهِمْ وَأَعْلَمِهِمْ بِالنَّسَبِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ
وَالْبِرِّ وَالْعَتَاقَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: " أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ
مِنْ خَيْرٍ ". وَقَدْ كَانَ حَكِيمٌ شَهِدَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بَدْرًا،
وَتَقَدَّمَ إِلَى
الْحَوْضِ،
فَكَادَ حَمْزَةُ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَمَا سُحِبَ إِلَّا سَحْبًا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ،
فَلِهَذَا كَانَ إِذَا اجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ يَقُولُ: لَا وَالَّذِي نَجَّانِي
يَوْمَ بَدْرٍ. وَلَمَّا نَزَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ وَمَعَهُ الْجُنُودُ خَرَجَ
حَكِيمٌ وَأَبُو سُفْيَانَ يَتَجَسَّسَانِ الْأَخْبَارَ، فَلَقِيَهُمَا
الْعَبَّاسُ، فَأَخَذَ أَبَا سُفْيَانَ فَأَجَارَهُ، وَأَخَذَ لَهُ أَمَانًا مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ
لَيْلَتَئِذٍ كُرْهًا وَمِنْ صَبِيحَةِ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَسْلَمَ حَكِيمٌ،
وَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَينًا،
وَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، ثُمَّ
سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: " يَا
حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالُ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّهُ مَنْ أَخَذَهُ
بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ
يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ ". فَقَالَ
حَكِيمٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا.
فَلَمْ يَرْزَأْ أَحَدًا بَعْدَهُ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَعْرِضُ عَلَيْهِ
الْعَطَاءَ فَيَأْبَى، وَكَذَلِكَ عُمَرُ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْعَطَاءَ فَيَأْبَى،
فَكَانَ عُمَرُ يُشْهِدُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَعَ هَذَا كَانَ مِنْ
أَغْنَى النَّاسِ ; مَاتَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ مَاتَ وَلِحَكِيمٍ عَلَيْهِ مِائَةُ
أَلْفٍ.
وَقَدْ كَانَ بِيَدِهِ، حِينَ أَسْلَمَ، الرِّفَادَةُ وَدَارُ النَّدْوَةِ،
فَبَاعَهَا بَعْدُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَفِي رِوَايَةٍ:
بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: بِعْتَ
مَكْرُمَةَ قُرَيْشٍ ؟ فَقَالَ لَهُ حَكِيمٌ: ذَهَبَتِ الْمَكَارِمُ إِلَّا
التَّقْوَى، يَا ابْنَ أَخِي، إِنِّي اشْتَرَيْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِزِقِّ
خَمْرٍ، وَلَأَشْتَرِيَنَّ بِهَا دَارًا فِي الْجَنَّةِ، أُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ
جَعَلْتُهَا فِي
سَبِيلِ
اللَّهِ، وَهَذِهِ الدَّارُ كَانَتْ لِقُرَيْشٍ بِمَنْزِلَةِ دَارِ الْعَدْلِ،
وَكَانَ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ صَارَ سِنُّهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً،
إِلَّا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، فَإِنَّهُ دَخَلَهَا وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ
سَنَةً. ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ.
وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ أَنَّ حَكِيمًا حَجَّ عَامًا، فَأَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةٍ
مُجَلِّلَةٍ، وَأَلْفَ شَاةٍ، وَأَوْقَفَ مَعَهُ بِعَرَفَاتٍ مِائَةَ وَصَيْفٍ فِي
أَعْنَاقِهِمْ أَطَوِقَةُ الْفِضَّةِ، وَقَدْ نُقِشَ فِيهَا: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ
اللَّهِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ. فَأَعْتَقَهُمْ وَأَهْدَى جَمِيعَ تِلْكَ
الْأَنْعَامِ. رِضَى اللَّهِ عَنْهُ. تُوُفِّيِّ حَكِيمٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
عَلَى الصَّحِيحِ.، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمَرِ مِائَةٌ
وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى الْعَامِرِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَكَانَ قَدْ عُمِّرَ دَهْرًا
طَوِيلًا، وَلِهَذَا جَعَلَهُ عُمَرُ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ جَدَّدُوا أَنْصَابَ
الْحَرَمِ، وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَرَأَى الْمَلَائِكَةَ
يَوْمَئِذٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَشَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَسَعَى فِي
الصُّلْحِ، فَلَمَّا كَانَ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ كَانَ هُوَ وَسُهَيْلٌ هُمَا
اللَّذَانِ أَمَرَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ، فَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ لَا تَغْرُبَ الشَّمْسُ
وَبِمَكَّةَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. قَالَ: وَفِي كُلِّ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ
أَهُمُّ بِالْإِسْلَامِ، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا مَا يُرِيدُ، فَلَمَّا كَانَ
زَمَنُ الْفَتْحِ خِفْتُ خَوْفًا شَدِيدًا وَهَرَبْتُ، فَلَحِقَنِي أَبُو ذَرٍّ،
وَكَانَ لِي خَلِيلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: يَا حُوَيْطِبُ، مَا لَكَ ؟
فَقُلْتُ: خَائِفٌ. فَقَالَ: لَا تَخَفْ ; فَإِنَّهُ أَبَرُّ النَّاسِ وَأَوْصَلُ
النَّاسِ، وَأَنَا جَارٌ لَكَ،
فَاقْدَمْ مَعِي. فَرَجَعْتُ مَعَهُ، فَوَقَفَ بِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَقَدْ عَلَّمَنِي أَبُو ذَرٍّ أَنْ أَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَلَمَّا قُلْتُ ذَلِكَ قَالَ: " حُوَيْطِبٌ ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ ". وَسُرَّ بِذَلِكَ وَاسْتَقْرَضَنِي مَالًا، فَأَقْرَضْتُهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَشَهِدْتُ مَعَهُ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ، وَأَعْطَانِي مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ مِائَةَ بَعِيرٍ ثُمَّ قَدِمَ حُوَيْطِبٌ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَهَا، وَلَهُ بِهَا دَارٌ. وَلَمَّا وَلِيَ عَلَيْهَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ جَاءَهُ حُوَيْطِبٌ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَمَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَجَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ عِنْدَهُ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا، ثُمَّ اجْتَمَعَ حُوَيْطِبٌ بِمَرْوَانَ يَوْمًا آخَرَ، فَسَأَلَهُ مَرْوَانُ عَنْ عُمْرِهِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: تَأَخَّرَ إِسْلَامُكَ أَيُّهَا الشَّيْخُ حَتَّى سَبَقَكَ الْأَحْدَاثُ. فَقَالَ حُوَيْطِبٌ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ بِالْإِسْلَامِ غَيْرَ مَرَّةٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَعُوقُنِي أَبُوكَ يَقُولُ: تَضَعُ شَرَفَكَ وَتَدَعُ دِينَ آبَائِكَ لِدِينٍ مُحْدَثٍ وَتَصِيرُ تَابِعًا ؟ قَالَ: فَأَسْكَتَ مَرْوَانُ وَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ قَالَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ حُوَيْطِبٌ: أَمَا كَانَ أَخْبَرَكَ عُثْمَانُ مَا كَانَ لَقِيَ مِنْ أَبِيكَ حِينَ أَسْلَمَ ؟ قَالَ: فَازْدَادَ مَرْوَانُ غَمًّا. وَكَانَ حُوَيْطِبٌ مِمَّنْ شَهِدَ دَفْنَ عُثْمَانَ. وَاشْتَرَى مِنْهُ مُعَاوِيَةُ دَارَهُ بِمَكَّةَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَاسْتَكْثَرَهَا النَّاسُ، فَقَالَ حُوَيْطِبٌ: وَمَا هِيَ فِي رَجُلٍ لَهُ خَمْسَةٌ مِنَ الْعِيَالِ ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَ حُوَيْطِبٌ حَمِيدَ
الْإِسْلَامِ،
وَكَانَ أَكْثَرَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ رَبْعًا جَاهِلِيًّا. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ:
عَاشَ حُوَيْطِبٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ سِتِّينَ سَنَةً، وَفِي الْإِسْلَامِ
سِتِّينَ سَنَةً، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِالْمَدِينَةِ وَلَهُ مِائَةٌ
وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: تُوُفِّيَ بِالشَّامِ. لَهُ حَدِيثٌ
وَاحِدٌ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ
السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّعْدِيِّ عَنْ
عُمَرَ فِي الْعُمَالَةِ، وَهُوَ مِنْ عَزِيزِ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ
فِيهِ أَرْبَعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، رِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ.
سَعِيدُ بْنُ يَرْبُوعِ بْنِ عَنْكَثَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَخْزُومٍ
أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَشَهِدَ حُنَيْنًا، وَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسِينَ مِنَ الْإِبِلِ، وَكَانَ اسْمُهُ
صُرْمًا، وَفِي رِوَايَةٍ: أَصْرَمَ، فَسَمَّاهُ سَعِيدًا، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ
النَّفَرِ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ عُمَرُ بِتَجْدِيدِ أَنْصَابِ الْحَرَمِ، وَقَدْ
أُصِيبَ بَصَرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَتَاهُ عُمَرُ يُعَزِّيهِ فِيهِ. رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ
الْوَاقِدِيُّ وَخَلِيفَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
بِالْمَدِينَةِ - وَقِيلَ: بِمَكَّةَ - وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.
مُرَّةُ بْنُ شُرَاحِيلَ الْهَمْدَانِيُّ
وَيُقَالُ لَهُ: مُرَّةُ الطَّيِّبُ، وَمُرَّةُ الْخَيْرِ. رَوَى عَنْ أَبِي
بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ. كَانَ يُصَلِّي كُلَّ
يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ، فَلَمَّا كَبُرَ صَلَّى أَرْبَعَمِائَةِ
رَكْعَةٍ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَجَدَ حَتَّى أَكَلَ التُّرَابُ جَبْهَتَهُ،
فَلَمَّا مَاتَ رُئِيَ فِي الْمَنَامِ وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ الْمَكَانُ نُورًا،
فَقِيلَ لَهُ: أَيْنَ مَنْزِلُكَ ؟ فَقَالَ: بِدَارٍ لَا يَظْعَنُ أَهْلُهَا وَلَا
يَمُوتُونَ.
النُّعَيْمَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رَفَاعَةَ بْنِ الْحَارِثِ
شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يُؤْتَى
بِهِ فِي الشَّرَابِ فَيَجْلِدُهُ النَّبِيُّ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَعَنَهُ اللَّهُ،
مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " لَا تَلْعَنُهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ".
سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ الْقُرَشِيَّةُ الْعَامِرِيَّةُ، أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ
تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ
خَدِيجَةَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ السَّكْرَانِ بْنِ عَمْرٍو أَخِي سُهَيْلِ
بْنِ عَمْرٍو فَلَمَّا كَبِرَتْ هَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِطَلَاقِهَا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ طَلَّقَهَا. فَسَأَلَتْهُ أَنْ
يُبْقِيَهَا فِي نِسَائِهِ وَتَهَبَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ
مِنْهَا وَأَبْقَاهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا الْآيَةَ [ النِّسَاءِ: 128 ]. وَكَانَتْ ذَاتَ عِبَادَةٍ وَوَرَعٍ وَزَهَادَةٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا مِنِ امْرَأَةٍ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ فِي مِسْلَاخِهَا إِلَّا سَوْدَةَ، إِلَّا أَنَّ فِيهَا حِدَّةً تُسْرِعُ مِنْهَا الْفَيْئَةَ. ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَفَاتُهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: تُوُفِّيَتْ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ
فِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ عَنِ
الْبَصْرَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ وَكَانَ سَبَبَ
عَزْلِهِ عَنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَحَصَبَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي
ضَبَّةَ، فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهِ، فَجَاءَ قَوْمُهُ إِلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ:
إِنَّهُ مَتَى بَلَغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّكَ قَطَعْتَ يَدَهُ فِي هَذَا
الصُّنْعِ، فَعَلَ بِهِ وَبِقَوْمِهِ نَظِيرَ مَا فَعَلَ بِحُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ،
فَاكْتُبْ لَنَا كِتَابًا أَنَّكَ قَطَعْتَ يَدَهُ فِي شُبْهَةٍ. فَكَتَبَ لَهُمْ،
فَتَرَكُوهُ عِنْدَهُمْ حِينًا، ثُمَّ جَاءُوا مُعَاوِيَةَ، فَقَالُوا لَهُ: إِنْ
نَائِبَكَ قَطَعَ يَدَ صَاحِبِنَا فِي شُبْهَةٍ فَأَقِدْنَا مِنْهُ. فَقَالَ: لَا
سَبِيلَ إِلَى الْقَوْدِ مِنْ نُوَّابِي وَلَكِنِ الدِّيَةُ. فَأَعْطَاهُمُ
الدِّيَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَعَزَلَ ابْنَ غَيْلَانَ، وَقَالَ لَهُمُ:
اخْتَارُوا مَنْ تُرِيدُونَ أُوَلِّيهِ عَلَيْكُمْ. فَذَكَرُوا رِجَالًا، فَقَالَ:
لَا، وَلَكِنْ أُوَلِّي عَلَيْكُمُ ابْنَ أَخِي عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ
فَوَلَّاهُ، فَاسْتَخْلَفَ ابْنُ زِيَادٍ عَلَى خُرَاسَانَ أَسْلَمَ بْنَ
زُرْعَةَ، فَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يَفْتَحْ شَيْئًا، وَوَلَّى قَضَاءَ الْبَصْرَةِ
لِزُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى ابْنَ أُذَيْنَةَ
الْعَبْدِيَّ، وَوَلَّى شُرْطَتَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حِصْنٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ نَائِبُ
الْمَدِينَةِ. وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدِ بْنِ
أَسِيدٍ عَنِ الْكُوفَةِ وَوَلَّى عَلَيْهَا الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ
الْفِهْرِيَّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
الْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ
أَسْلَمَ قَدِيمًا، يُقَالُ: سَابِعُ سَبْعَةٍ. وَكَانَتْ دَارُهُ كَهْفًا
لِلْمُسْلِمِينَ، يَأْوِي إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَتْ عِنْدَ الصَّفَا، وَقَدْ
صَارَتْ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمَهْدِيِّ، فَوَهَبَهَا لِامْرَأَتِهِ
الْخَيْزُرَانِ أُمِّ مُوسَى الْهَادِي وَهَارُونَ الرَّشِيدِ، فَبَنَتْهَا
وَجَدَّدَتْهَا، فَعُرِفَتْ بِهَا، ثُمَّ صَارَتْ لِغَيْرِهَا. وَقَدْ شَهِدَ
الْأَرْقَمُ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، أَوْصَى
بِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلَهُ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.
سَحْبَانُ بْنُ زُفْرَ بْنِ إِيَاسِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ الْأَحَبِّ
الْبَاهِلِيُّ الْوَائِلِيُّ
الَّذِي يُضْرَبُ بِفَصَاحَتِهِ الْمَثَلُ، فَيُقَالُ: أَفْصَحُ مِنْ سَحْبَانِ
وَائِلٍ. وَوَائِلٌ هُوَ ابْنُ مَعْنِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَعْصُرَ بْنِ سَعْدِ
بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارٍ، وَبَاهِلَةُ امْرَأَةُ
مَالِكِ بْنِ أَعْصُرَ، يُنْسَبُ إِلَيْهَا وَلَدُهَا، وَهِيَ بَاهِلَةُ بَنْتُ
صَعْبِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ.
قَالَ
ابْنُ عَسَاكِرَ: سَحْبَانُ الْمَعْرُوفُ بِسَحْبَانِ وَائِلٍ، بَلَغَنِي أَنَّهُ
وَفَدَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَتَكَلَّمَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَنْتَ الشَّيْخُ ؟
فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَلَمْ يَزِدِ ابْنُ عَسَاكِرَ عَلَى
هَذَا. وَقَدْ نَسَبَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " الْمُنْتَظَمِ
"، كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ بَلِيغًا يُضْرَبُ الْمَثَلُ
بِفَصَاحَتِهِ، دَخَلَ يَوْمًا عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ خُطَبَاءُ
الْقَبَائِلِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ خَرَجُوا ; لِعِلْمِهِمْ بِقُصُورِهِمْ عَنْهُ،
فَقَالَ سَحْبَانُ:
لَقَدْ عَلِمَ الْحَيُّ الْيَمَانُونَ أَنَّنِي إِذَا قُلْتُ أَمَّا بَعْدُ أَنِّي
خَطِيبُهَا
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: اخْطُبْ. فَقَالَ: انْظُرُوا لِي عَصَا تُقِيمُ مِنْ
أَوَدِي. فَقَالُوا: وَمَاذَا تَصْنَعُ بِهَا وَأَنْتَ بِحَضْرَةِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ يَصْنَعُ بِهَا مُوسَى وَهُوَ يُخَاطِبُ
رَبَّهُ. فَأَخَذَهَا وَتَكَلَّمَ مِنَ الظُّهْرِ إِلَى أَنْ قَارَبَتِ الْعَصْرُ،
مَا تَنَحْنَحَ وَلَا سَعَلَ وَلَا تَوَقَّفَ وَلَا ابْتَدَأَ فِي مَعْنَى
فَخَرَجَ عَنْهُ وَقَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ فِيهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
الصَّلَاةُ. فَقَالَ: الصَّلَاةُ أَمَامَكَ، أَلَسْنَا فِي تَحْمَيْدٍ
وَتَمْجِيدٍ، وَعِظَةٍ وَتَنْبِيهٍ وَتَذْكِيرٍ، وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ ؟ فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ: أَنْتَ أَخْطَبُ الْعَرَبِ. قَالَ: الْعَرَبُ وَحْدَهَا ؟ بَلْ
أَخْطَبُ الْجِنِّ وَالْإِنَسِ. قَالَ: كَذَلِكَ أَنْتَ.
سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ
وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ أُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ،
أَبُو إِسْحَاقَ الْقُرَشِيُّ الزُّهْرِيُّ، أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ
لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَحَدُ السِّتَّةِ أَصْحَابِ الشُّورَى الَّذِينَ
تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَنْهُمْ
رَاضٍ، أَسْلَمَ قَدِيمًا. قَالُوا: وَكَانَ يَوْمَ أَسْلَمَ عُمْرُهُ سَبْعَ
عَشْرَةَ سَنَةً.
وَثَبَتَ
عَنْهُ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّهُ قَالَ: مَا أَسْلَمَ أَحَدٌ فِي
الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ، وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ
وَإِنِّي لَثُلُثُ الْإِسْلَامِ. وَهُوَ الَّذِي كَوَّفَ الْكُوفَةَ وَنَفَى
عَنْهَا الْأَعَاجِمَ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَهَاجَرَ وَشَهِدَ بَدْرًا
وَمَا بَعْدَهَا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
وَكَانَ فَارِسًا شُجَاعًا مِنْ أُمَرَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَكَانَ فِي أَيَّامِ الصِّدِّيقِ مُعَظِّمًا جَلِيلَ الْمِقْدَارِ،
وَكَذَلِكَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ، وَقَدِ اسْتَنَابَهُ عَلَى الْكُوفَةِ، وَهُوَ
الَّذِي فَتَحَ الْمَدَائِنَ وَكَانَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقْعَةُ جَلُولَاءَ
وَكَانَ سَيِّدًا مُطَاعًا، وَعَزَلَهُ عُمَرُ عَنِ الْكُوفَةِ عَنْ غَيْرِ عَجْزٍ
وَلَا خِيَانَةٍ، وَلَكِنْ لِمَصْلَحَةٍ ظَهَرَتْ لِعُمَرَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ
ذَكَرَهُ فِي السِّتَّةِ أَصْحَابِ الشُّورَى، ثُمَّ وَلَّاهُ عُثْمَانُ
الْكُوفَةَ بَعْدَهَا، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْهَا.
وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ قَالَ: شَهِدَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عُمَرَ دَوْمَةَ
الْجَنْدَلِ يَوْمَ الْحَكَمَيْنِ.
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَنَّ ابْنَهُ عُمَرَ جَاءَ إِلَيْهِ
وَهُوَ مُعْتَزِلٌ فِي إِبِلِهِ فَقَالَ: النَّاسُ يَتَنَازَعُونَ الْإِمَارَةَ
وَأَنْتَ هَاهُنَا ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْعَبْدَ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ الْتَقِيَّ ".
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ ابْنَ أَخِيهِ
هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ جَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَمُّ،
هَاهُنَا مِائَةُ أَلْفِ سَيْفٍ يَرَوْنَكَ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَذَا
الْأَمْرِ.
فَقَالَ: أُرِيدُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ سَيْفًا وَاحِدًا ; إِذَا ضَرَبْتُ بِهِ
الْمُؤْمِنَ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، وَإِذَا ضَرَبْتُ بِهِ الْكَافِرَ قَطَعَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ
عَمْرٍو، أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَقَامَ
عِنْدَهُ شَهْرَ رَمَضَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَيُفْطِرُ. وَقَالَ غَيْرُهُ:
فَبَايَعَهُ: وَمَا سَأَلَهُ سَعْدٌ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ.
قَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ،
عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ:
قَالَ سَعْدٌ: إِنِّي لَأَوَّلُ رَجُلٍ رَمَى بِسَهْمٍ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَمَا
جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ
قَبْلِي، وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي
".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، ثَنَا
إِسْمَاعِيلُ، عَنْ قَيْسٍ، سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: وَاللَّهُ
إِنِّي لَأَوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَقَدْ كُنَّا
نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا لَنَا
طَعَامٌ نَأْكُلُهُ إِلَّا وَرَقَ الْحُبْلَةِ وَهَذَا السَّمُرُ، حَتَّى إِنَّ
أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةَ مَا لَهُ خِلْطٌ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ
بَنُو
أَسَدٍ
تُعَزِّرُنِي عَلَى الدِّينِ، لَقَدْ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ عَمَلِي. وَقَدْ
رَوَاهُ شُعْبَةُ وَوَكِيعٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي
خَالِدٍ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَعْدٍ قَالَ: جَمَعَ لِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَوَيْهِ يَوْمَ أُحِدٍ.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَقَدْ رَوَاهُ اللَّيْثُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ يَحْيَى
بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ. وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَعْدٍ. وَرَوَاهُ النَّاسُ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ،
عَنْ أَبِيهِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: " فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ".
وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ: " ارْمِ وَأَنْتَ
الْغُلَامُ
الْحَزَوَّرُ ". قَالَ سَعِيدٌ: وَكَانَ سَعْدٌ جَيِّدَ الرَّمْيِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ:
أَوَّلُ النَّاسِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَعْدٌ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعْدِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، سَمِعْتُ عَلِيًّا
يَقُولُ: مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُفَدِّي أَحَدًا بِأَبَوَيْهِ إِلَّا سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ، وَإِنِّي سَمِعْتُهُ
يَقُولُ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ: " ارْمِ سَعْدُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ".
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ بِهِ. وَرَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَرَوَاهُ
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ
بِنْتَ سَعْدٍ تَقُولُ: أَنَا ابْنَةُ الْمُهَاجِرِ الَّذِي فَدَاهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ بِالْأَبَوَيْنِ.
وَقَالَ
الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عُبَيْدَةُ بِنْتُ نَابِلٍ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ
سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَرْمِي بِالسَّهْمِ يَوْمَ
أُحُدٍ، فَيَرُدُّهُ عَلَيَّ رَجُلٌ أَبْيَضُ حَسَنُ الْوَجْهِ لَا أَعْرِفُهُ،
حَتَّى كَانَ بَعْدُ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَلَكٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ،
ثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ
قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَعَنْ يَسَارِهِ يَوْمَ أُحُدٍ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ،
يُقَاتِلَانِ عَنْهُ كَأَشَدِّ الْقِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا
بَعْدُ.
وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ،
عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ زِيَادٍ مَوْلَى سَعْدٍ، عَنْ
سَعْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلَيْنِ يَوْمَ بَدْرٍ يُقَاتِلَانِ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ
وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ، وَإِنَّى لِأَرَاهُ يَنْظُرُ إِلَى ذَا مَرَّةً
وَإِلَى ذَا مَرَّةً ; سُرُورًا بِمَا ظَفَّرَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
قَالَ:
اشْتَرَكْتُ أَنَا وَسَعْدٌ وَعَمَّارٌ يَوْمَ بَدْرٍ فِيمَا أَصَبْنَا مِنَ
الْغَنِيمَةِ، فَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ، وَلَمْ أَجِئْ أَنَا وَعَمَّارٌ
بِشَيْءٍ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ بَدْرٍ يُقَاتِلُ
قِتَالَ الْفَارِسِ لِلرَّاجِلِ.
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ يَقُولُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: بَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرِقًا ذَاتَ لَيْلَةٍ، ثُمَّ قَالَ: " لَيْتَ
رَجُلًا صَالِحًا يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ ". قَالَتْ: إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ
السِّلَاحِ، فَقَالَ: " مَنْ هَذَا ؟ " قَالَ: أَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي
وَقَّاصٍ، أَنَا أَحْرُسُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَتْ: فَنَامَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ.
أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَدَعَا لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَامَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا رِشْدِينُ بْنُ
سَعْدٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْغِفَارِيِّ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ
رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ
مِنْ هَذَا الْبَابِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". فَدَخْلَ سَعْدُ بْنُ
أَبِي وَقَّاصٍ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، ثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الرَّقَاشِيُّ الْخَرَّازُ، بَصْرِيٌّ، ثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ مِنْ ذَا
الْبَابِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". قَالَ: فَلَيْسَ مِنَّا أَحَدٌ
إِلَّا وَهُوَ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَإِذَا سَعْدُ بْنُ
أَبِي وَقَّاصٍ قَدْ طَلَعَ.
وَقَالَ حَرْمَلَةُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ، أَخْبَرَنِي
عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ قَالَ:بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ
أَهْلِ الْجَنَّةِ ". فَاطَّلَعَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ حَتَّى إِذَا
كَانَ الْغَدُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ
ذَلِكَ. قَالَ: فَاطَّلَعَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى تَرْتِيبِهِ
الْأَوَّلِ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ عَلَى تَرْتِيبِهِ، فَلَمَّا قَامَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي غَاضَبْتُ أَبِي، فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا
أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ
حَتَّى تَنْحَلَّ يَمِينِي، فَعَلْتَ. قَالَ أَنَسٌ: فَزَعَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَمْرٍو أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ لَيْلَةً، حَتَّى إِذَا كَانَ مَعَ الْفَجْرِ فَلَمْ
يَقُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ
شَيْئًا،
غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا انْقَلَبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ،
وَكَبَّرَهُ حَتَّى يَقُومَ مَعَ الْفَجْرِ، فَإِذَا صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ
أَسْبَغَ الْوُضُوءَ وَأَتَمَّهُ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُفْطِرًا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَمْرٍو: فَرَمَقَتْهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَأَيَّامَهُنَّ، لَا يَزِيدُ عَلَى
ذَلِكَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَسْمَعُهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتِ
اللَّيَالِي الثَّلَاثُ وَكِدْتُ أَحْتَقِرُ عَمَلَهُ قُلْتُ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ
بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هِجْرَةٌ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ قَبْلُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي
ثَلَاثَةِ مَجَالِسَ: " يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ
". فَاطَّلَعْتَ أَنْتَ أُولَئِكَ الْمَرَّاتِ الثَّلَاثَ، فَأَرَدْتُ أَنْ
آوِيَ إِلَيْكَ حَتَّى أَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِكَ، فَلَمْ أَرَكَ
تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا الَّذِي رَأَيْتَ.
قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ انْصَرَفْتُ عَنْهُ، فَدَعَانِي حِينَ وَلَّيْتُ،
فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي
سُوءًا لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَنْوِي لَهُ شَرًّا وَلَا أَقُولُهُ.
قَالَ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا أُطِيقُ. وَهَكَذَا رَوَاهُ
صَالِحٌ الْمُرِّيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ، عَنْ
سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، فَذَكَرَ مِثْلَ رِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ
شُرَيْحٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [
الْأَنْعَامِ: 52 ]. نَزَلَتْ فِي سِتَّةٍ، أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ مِنْهُمْ.
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنْزَلَ اللَّهُ فِيَّ وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا [ الْعَنْكَبُوتِ: 8 ]. وَذَلِكَ
أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ امْتَنَعَتْ أُمُّهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ
أَيَّامًا، فَقَالَ لَهَا: تَعْلَمِينَ وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ لَكِ مِائَةُ
نَفْسٍ، فَخَرَجَتْ نَفْسًا نَفْسًا، مَا تَرَكْتُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ، إِنْ
شِئْتِ فَكُلِي، وَإِنْ شِئْتِ فَلَا تَأْكُلِي. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الشَّهَادَةِ لِلْعَشَرَةِ بِالْجَنَّةِ، فَثَبَتَ فِي
الصَّحِيحِ، مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَجَاءَ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ حِرَاءَ، ذَكَرَ سَعْدُ بْنُ
أَبِي وَقَّاصٍ مِنْهُمْ.
وَقَالَ هُشَيْمٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ
جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَقْبَلَ سَعْدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" هَذَا خَالِيَ، فَلْيُرَنِي امْرُؤٌ خَالَهُ ". رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ.
وَقَالَ
الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، ثَنَا
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الضَّحَّاكِ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ
صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ مَاعِزٍ التَّمِيمِيِّ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ سَعْدٌ فَقَالَ:
" هَذَا خَالِي ".
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ يَعُودُهُ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ
بِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا
ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ: " لَا ". قُلْتُ:
فَالشَّطْرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " لَا ". قُلْتُ: فَالثُّلُثُ
؟ قَالَ: " الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ
أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ،
وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ
بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِيِّ امْرَأَتِكَ " - وَفِي رِوَايَةٍ:حَتَّى
اللُّقْمَةَ تَضَعُهَا فِي فَمِ امْرَأَتِكَ - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي ؟ فَقَالَ: " إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ
عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً
وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلِّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ
وَيَضُرَّ بِكَ آخَرُونَ ". ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ أَمْضِ
لِأَصْحَابِي
هِجْرَتَهُمْ،
وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ
". يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
مَاتَ بِمَكَّةَ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْجَعْدِ
بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا، فَذَكَرَ نَحْوَهُ،
وَفِيهِ: قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَصَدْرَهُ
وَبَطْنَهُ، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا وَأَتِمَّ لَهُ هِجْرَتَهُ
". قَالَ سَعْدٌ: فَمَا زِلْتُ يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنِّي أَجِدُ بَرْدَ
يَدِهِ عَلَى كَبِدِي حَتَّى السَّاعَةِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ
أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ سَعْدًا
فَقَالَ: " اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُ الْبَاسَ، إِلَهَ النَّاسِ، مَلِكَ
النَّاسِ، أَنْتَ الشَّافِي لَا شَافِيَ لَهُ إِلَّا أَنْتَ، بِسْمِ اللَّهِ
أَرْقِيكَ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ حَسَدٍ وَعَيْنٍ، اللَّهُمَّ أَصِحَّ
قَلْبَهُ وَجِسْمَهُ، وَاكْشِفْ سَقَمَهُ وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ ".
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ قَالَ:
سَأَلْتُ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ: " وَعَسَى أَنْ تَبْقَى يَنْتَفِعُ بِكَ
أَقْوَامٌ وَيَضُرُّ بِكَ آخَرُونَ ". فَقَالَ: أُمِّرَ سَعْدٌ عَلَى
الْعِرَاقِ، فَقَتَلَ قَوْمًا عَلَى الرِّدَّةِ فَضَرَّهُمْ،
وَاسْتَتَابَ
قَوْمًا كَانُوا سَجَعُوا سَجْعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، فَتَابُوا
فَانْتَفَعُوا بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، ثَنَا مَعَانُ بْنُ
رِفَاعَةَ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: جَلَسْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَّرَنَا وَرَقَّقَنَا، فَبَكَى سَعْدُ بْنُ أَبِي
وَقَّاصٍ، فَأَكْثَرَ الْبُكَاءَ، وَقَالَ: يَا لَيْتَنِي مِتُّ. فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا سَعْدُ، أَعِنْدِي تَتَمَنَّى
الْمَوْتَ ! " فَرَدَّدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ: " يَا
سَعْدُ، إِنْ كُنْتَ لِلْجَنَّةِ خُلِقْتَ، فَمَا طَالَ عُمْرُكَ أَوْ حَسُنَ مِنْ
عَمَلِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ ".
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَغَيْرُهُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ،
عَنْ قَيْسٍ، عَنْ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " اللَّهُمَّ سَدِّدْ رَمْيَتَهُ وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ
".
وَرَوَاهُ بَيَانُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
لِسَعْدٍ: " اللَّهُمَّ سَدِّدْ سَهْمَهُ وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ، وَحَبِّبْهُ
إِلَى عِبَادِكَ ".
وَرَوَى
مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَائِذٍ
الدِّمَشْقِيِّ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ مُطْعِمِ بْنِ الْمِقْدَامِ
وَغَيْرِهِ، أَنَّ سَعْدًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ
يُجِيبَ دَعْوَتِي. فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دَعْوَةَ
عَبْدٍ حَتَّى يُطَيِّبَ مَطْعَمَهُ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ
اللَّهَ أَنْ يُطَيِّبَ طُعْمَتِي. فَدَعَا لَهُ. قَالُوا: فَكَانَ سَعْدٌ
يَتَوَرَّعُ مِنَ السُّنْبُلَةِ يَجِدُهَا فِي زَرْعِهِ، فَيَرُدُّهَا مِنْ حَيْثُ
أُخِذَتْ.
وَقَدْ كَانَ كَذَلِكَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، لَا يَكَادُ يَدْعُو بِدُعَاءٍ إِلَّا
اسْتُجِيبَ لَهُ، فَمِنْ أَشْهَرِ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ
" مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ،
أَنْ أَهْلَ الْكُوفَةِ شَكَوَا سَعْدًا إِلَى عُمَرَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى
قَالُوا: لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي. فَقَالَ سَعْدٌ: أَمَّا إِنِّي لَا آلُو أَنْ
أُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ;
أُطِيلُ الْأُولَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ. فَقَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ
بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ. وَكَانَ قَدْ بَعَثَ مِنْ يَسْأَلُ عَنْهُ بِمَحَالِّ
الْكُوفَةِ، فَجَعَلُوا لَا يَسْأَلُونَ أَهْلَ مَسْجِدٍ إِلَّا أَثْنَوْا
خَيْرًا، حَتَّى مَرُّوا بِمَسْجِدٍ لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ
يُقَالُ لَهُ: أَبُو سَعْدَةَ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ. فَقَالَ: إِنَّ سَعْدًا
كَانَ لَا يَسِيرُ فِي السَّرِيَّةِ،
وَلَا
يِقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ. فَبَلَغَ سَعْدًا
قَوْلُهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ
وَسُمْعَةٍ، فَأَطِلْ عُمْرَهُ وَأَدِمْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ. قَالَ:
فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْخًا كَبِيرًا، قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى
عَيْنَيْهِ، يَقِفُ فِي الطَّرِيقِ، فَيَغْمِزُ الْجَوَارِيَ، فَيُقَالُ لَهُ فِي
ذَلِكَ، فَيَقُولُ: شَيْخٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْهُ دَعْوَةُ سَعْدٍ. وَفِي
رِوَايَةٍ غَرِيبَةٍ، أَنَّهُ أَدْرَكَ فِتْنَةَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ
فَقُتِلَ فِيهَا.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا يُوسُفُ الْقَاضِي، ثَنَا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ،
ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ
قَالَ: خَرَجَتْ جَارِيَةٌ لِسَعْدٍ يُقَالُ لَهَا: زَبْرَاءُ. وَعَلَيْهَا
قَمِيصٌ جَدِيدٌ، فَكَشَفَتْهَا الرِّيحُ، فَشَدَّ عَلَيْهَا عُمَرُ بِالدِّرَّةِ،
وَجَاءَ سَعْدٌ لِيَمْنَعَهُ، فَتَنَاوَلَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ، فَذَهَبَ سَعْدٌ
يَدْعُو عَلَى عُمَرَ، فَنَاوَلَهُ الدِّرَّةَ وَقَالَ: اقْتَصَّ. فَعَفَا عَنْ
عُمَرَ.
وَرَوَى أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ سَعْدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ كَلَامٌ، فَهَمَّ
سَعْدٌ أَنْ يَدْعُوَ
عَلَيْهِ،
فَخَافَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَجَعَلَ يَشْتَدُّ فِي الْهَرَبِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْقَادِسِيَّةِ كَانَ
سَعْدٌ عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ أَصَابَتْهُ جِرَاحٌ، فَلَمْ يَشْهَدْ يَوْمَ
الْفَتْحِ، يَعْنِي فَتْحَ الْقَادِسِيَّةِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَجِيلَةَ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ دِينَهُ وَسَعْدٌ بِبَابِ الْقَادِسِيَّةِ
مُعْصَمُ
فَأُبْنَا وَقَدْ آمَتْ نِسَاءٌ كَثِيرَةٌ وَنِسْوَةُ سَعْدٍ لَيْسَ فِيهِنَّ
أَيِّمُ
فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ اكْفِنَا يَدَهُ وَلِسَانَهُ. فَجَاءَهُ سَهْمٌ
غَرْبٌ، فَأَصَابَهُ فَخَرِسَ وَيَبِسَتْ يَدَاهُ جَمِيعًا.
وَقَدْ أَسْنَدَ زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ وَسَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ،
فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَفِيهِ: ثُمَّ خَرَجَ سَعْدٌ، فَأَرَى النَّاسَ مَا بِهِ مِنَ
الْقُرُوحِ فِي ظَهْرِهِ ; لِيَعْتَذِرَ إِلَيْهِمْ.
وَقَالَ
هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَجُلًا نَالَ
مِنْ عَلِيٍّ، فَنَهَاهُ سَعْدٌ فَلَمْ يَنْتَهِ، فَقَالَ سَعْدٌ: أَدْعُو
عَلَيْكَ. فَلَمْ يَنْتَهِ، فَدَعَا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمَا بَرِحَ حَتَّى جَاءَ
بَعِيرٌ نَادٌّ فَتَخَبَّطَهُ.
وَجَاءَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ سَعْدًا رَأَى
جَمَاعَةً عُكُوفًا عَلَى رَجُلٍ، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ مِنْ بَيْنِ اثْنَيْنِ،
فَإِذَا هُوَ يَسُبُّ عَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ،
فَلَمْ يَنْتَهِ، فَقَالَ: أَدْعُو عَلَيْكَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: تَتَهَدَّدُنِي
كَأَنَّكَ نَبِيٌّ ! فَانْصَرَفَ سَعْدٌ، فَدَخَلَ دَارَ آلِ فُلَانٍ،
فَتَوَضَّأَ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ
إِنَّ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَبَّ أَقْوَامًا قَدْ سَبَقَ
لَهُمْ مِنْكَ سَابِقَةُ الْحَسَنَى، وَأَنَّهُ قَدْ أَسْخَطَكَ سَبُّهُ
إِيَّاهُمْ، فَاجْعَلْهُ الْيَوْمَ آيَةً وَعِبْرَةً. قَالَ: فَخَرَجَتْ
بُخْتِيَّةٌ نَادَّةٌ مِنْ دَارِ آلِ فُلَانٍ لَا يَرُدُّهَا شَيْءٌ حَتَّى
دَخَلَتْ بَيْنَ أَضْعَافِ النَّاسِ، فَافْتَرَقَ النَّاسُ، فَأَخَذَتْهُ بَيْنَ
قَوَائِمِهَا، فَلَمْ تَزَلْ تَتَخَبَّطُهُ حَتَّى مَاتَ. قَالَ: فَلَقَدْ
رَأَيْتُ النَّاسَ يَشْتَدُّونَ وَرَاءَ سَعْدٍ يَقُولُونَ: اسْتَجَابَ اللَّهُ
دُعَاءَكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ. وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ
بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ دَاوُدَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُنْكَدِرِ
الْقُرَشِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مِينا مَوْلَى عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَطَّلِعُ عَلَى سَعْدٍ،
فَنَهَاهَا فَلَمْ تَنْتَهِ، فَاطَّلَعَتْ يَوْمًا وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ:
شَاهَ وَجْهُكِ. فَعَادَ وَجْهُهَا فِي قَفَاهَا.
وَقَالَ كَثِيرٌ النَّوَّاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُلَيْلٍ قَالَ: دَخَلَ
سَعْدٌ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ لَمْ تُقَاتِلْ مَعَنَا ؟
فَقَالَ: إِنِّي مَرَّتْ بِي رِيحٌ مُظْلِمَةٌ فَقُلْتُ: أَخْ أَخْ. فَأَنَخْتُ
رَاحِلَتِي حَتَّى انْجَلَتْ عَنِّي، ثُمَّ عَرَفَتِ الطَّرِيقَ فَسِرْتُ. فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَخْ أَخْ، وَلَكِنْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي
تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [ الْحُجُرَاتِ: 9 ]. فَوَاللَّهِ
مَا كُنْتُ مَعَ الْبَاغِيَةِ عَلَى الْعَادِلَةِ، وَلَا مَعَ الْعَادِلَةِ عَلَى
الْبَاغِيَةِ. فَقَالَ سَعْدٌ: مَا كُنْتُ لِأُقَاتِلَ رَجُلًا قَالَ لَهُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ
هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ". فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ: مَنْ سَمِعَ هَذَا مَعَكَ ؟ فَقَالَ: فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَأُمُّ
سَلَمَةَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَمَا إِنِّي لَوْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا قَاتَلْتُ عَلِيًّا. وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ
وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ كَانَ بَيْنَهُمَا وَهُمَا بِالْمَدِينَةِ
فِي حَجَّةٍ حَجَّهَا مُعَاوِيَةُ، وَأَنَّهُمَا قَامَا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ
فَسَأَلَاهَا فَحَدَّثَتْهُمَا بِمَا حَدَّثَ بِهِ سَعْدٌ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
لَوْ سَمِعْتُ هَذَا قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ لَكَنْتُ خَادِمًا لِعَلِيٍّ حَتَّى
يَمُوتَ أَوْ أَمُوتَ. وَفِي إِسْنَادِ هَذَا ضَعْفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ سَعْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَتَكَلَّمُ فِي عَلِيٍّ وَفِي
خَالِدٍ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مَا بَيْنَنَا دِينَنَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: طَافَ سَعْدٌ عَلَى تِسْعِ جَوَارٍ فِي
لَيْلَةٍ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْعَاشِرَةِ أَخَذَهُ النَّوْمُ،
فَاسْتَحْيَتْ أَنْ تُوقِظَهُ.
وَمِنْ كَلَامِهِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ مُصْعَبٍ: يَا بُنَيَّ، إِذَا
طَلَبْتَ شَيْئًا فَاطْلُبْهُ بِالْقَنَاعَةِ، فَإِنَّهُ مَنْ لَا قَنَاعَةَ لَهُ
لَمْ يُغْنِهِ الْمَالُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ
سَعْدٍ قَالَ: كَانَ رَأْسُ أَبِي فِي حِجْرِي وَهُوَ يَقْضِي فَبَكَيْتُ،
فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا بُنَيَّ ؟ وَاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُنِي
أَبَدًا، وَإِنِّي مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِنَّ اللَّهَ يَدِينُ لِلْمُؤْمِنِينَ
بِحَسَنَاتِهِمْ فَاعْمَلُوا لِلَّهِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَيُخَفَّفُ عَنْهُمْ
بِحَسَنَاتِهِمْ، فَإِذَا نَفِدَتْ قَالَ: لِيَطْلُبْ كُلُّ عَامِلٍ ثَوَابَ
عَمَلِهِ مِمَّنْ عَمِلَ لَهُ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمَّا حَضَرَتْ سَعْدًا الْوَفَاةُ دَعَا بِخَلَقِ جُبَّةٍ
فَقَالَ: كَفِّنُونِي فِيهَا، فَإِنِّي لَقِيتُ فِيهَا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ
بَدْرٍ، وَإِنَّمَا كُنْتُ أُخَبِّئُهَا لِهَذَا الْيَوْمِ.
وَكَانَتْ
وَفَاةُ سَعْدٍ بِالْعَقِيقِ خَارِجَ الْمَدِينَةِ، فَحُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ
عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ مَرْوَانُ، وَصَلَّى بِصَلَاتِهِ
أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ،
وَكَانَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ - عَلَى
الْمَشْهُورِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ،
عَلَى الصَّحِيحِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: وَهُوَ آخِرُ الْعَشَرَةِ وَفَاةً. وَقَالَ
غَيْرُهُ: كَانَ آخِرَ الْمُهَاجِرِينَ وَفَاةً. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: سَنَةَ خَمْسِينَ.
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَقَعْنَبُ بْنُ الْمُحَرِّرِ: تُوُفِّيَ
سَعْدٌ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ.
وَقَالَ قَعْنَبٌ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ
سَلَمَةَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ; خَمْسٌ وَخَمْسِينَ.
قَالُوا: وَكَانَ سَعْدٌ قَصِيرًا غَلِيظًا شَثْنَ الْأَصَابِعِ أَفْطَسَ،
أَشْعَرَ الْجَسَدِ،
يُخَضِّبُ
بِالسَّوَادِ، وَكَانَ مِيرَاثُهُ مِائَتَيْ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا.
فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ
أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ أُحُدٌ وَشَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَدَخَلَ الشَّامَ،
وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ أَبِي
الدَّرْدَاءِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ:
سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
كَانَ أَشْبَهَ النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
تَوَلَّى نِيَابَةَ الْمَدِينَةِ فِي أَيَّامِ عَلِيٍّ، وَشَهِدَ فَتْحَ
سَمَرْقَنْدَ مِمَّا وَرَاءَ النَّهَرِ، فَاسْتُشْهِدَ بِهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو الْيَسَرِ الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ
شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا، وَأَسَرَ يَوْمئِذٍ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، وَشَهِدَ مَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمَشَاهِدِ كُلِّهَا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ. زَادَ
غَيْرُهُ: وَهُوَ آخِرُ
مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ
وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ. فَفِيهَا شَتَّى جُنَادَةُ بْنُ أَبِي
أُمَيَّةَ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَسْعُودٍ.
وَقِيلَ: فِيهَا غَزَا فِي الْبَحْرِ يَزِيدُ بْنُ شَجَرَةَ، وَفِي الْبَرِّ
عِيَاضُ بْنُ الْحَارِثِ. وَفِيهَا اعْتَمَرَ مُعَاوِيَةُ فِي رَجَبٍ، وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِيهَا الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. وَفِيهَا
وَلَّى مُعَاوِيَةُ سَعِيدَ بْنَ عُثْمَانَ بِلَادَ خُرَاسَانَ وَعَزَلَ عَنْهَا
عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، فَسَارَ سَعِيدٌ إِلَى خُرَاسَانَ، وَالْتَقَى
مَعَ التُّرْكِ عِنْدَ صُغْدِ سَمَرْقَنْدَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا،
وَاسْتُشْهِدَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ - فِيمَا قِيلَ - قُثَمُ بْنُ
الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ سَأَلَ سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مُعَاوِيَةَ
أَنْ يُوَلِّيَهُ خُرَاسَانَ، فَقَالَ: إِنَّ بِهَا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ
زِيَادٍ. فَقَالَ سَعِيدٌ لِمُعَاوِيَةَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدِ اصْطَنَعَكَ
أَبِي وَرَقَّاكَ، حَتَّى بَلَغْتَ بِاصْطِنَاعِهِ الْمَدَى الَّذِي لَا يُجَارَى
إِلَيْهِ وَلَا يُسَامَى، فَمَا شَكَرْتَ بَلَاءَهُ وَلَا جَازَيْتَهُ بِآلَائِهِ،
وَقَدَّمْتَ عَلَيَّ هَذَا - يَعْنِي يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ - وَبَايَعْتَ
لَهُ، وَوَاللَّهِ لَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ أَبًا وَأُمًّا وَنَفْسًا. فَقَالَ
لَهُ
مُعَاوِيَةُ: أَمَّا بَلَاءُ أَبِيكَ عِنْدِي فَقَدْ يَحِقُّ عَلَيَّ الْجَزَاءُ
بِهِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ شُكْرِي لِذَلِكَ أَنِّي طَلَبْتُ بِدَمِهِ حَتَّى
تَكَشَّفَتِ الْأُمُورُ، وَلَسْتُ بِلَائِمٍ لِنَفْسِي فِي التَّشْمِيرِ، وَأَمَّا
فَضْلُ أَبِيكَ عَلَى أَبِيهِ، فَأَبُوكَ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنِّي وَأَقْرَبُ
بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا فَضْلُ أُمِّكَ
عَلَى أُمِّهِ فَمَا لَا يُنْكَرُ، فَإِنَّ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ خَيْرٌ مِنِ
امْرَأَةٍ مِنْ كَلْبٍ، وَأَمَّا فَضْلُكَ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ
الْغُوطَةَ دُحِسَتْ لِيَزِيدَ رِجَالًا مِثْلَكَ. يَعْنِي أَنَّ الْغُوطَةَ لَوْ
مُلِئَتْ رِجَالًا مِثْلَ سَعِيدِ بْنِ عُثْمَانَ كَانَ يَزِيدُ خَيْرًا وَأَحَبَّ
إِلَيَّ مِنْهُمْ. فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ابْنُ
عَمِّكَ وَأَنْتَ أَحَقُّ مَنْ نَظَرَ فِي أَمْرِهِ، وَقَدْ عَتَبَ عَلَيْكَ فِيَّ
فَأَعْتِبْهُ. قَالَ: فَوَلَّاهُ حَرْبَ خُرَاسَانَ: فَأَتَى سَمَرْقَنْدَ
فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُ الصُّغْدِ مِنَ التَّرْكِ، فَقَاتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ
وَحَصَرَهُمْ فِي مَدِينَتِهِمْ، فَصَالَحُوهُ وَأَعْطَوْهُ رَهْنًا خَمْسِينَ
غُلَامًا يَكُونُونَ فِي يَدِهِ مِنْ أَبْنَاءِ عُظَمَائِهِمْ، فَأَقَامَ
بِالتِّرْمِذِ، وَلَمْ يَفِ لَهُمْ، وَجَاءَ بِالْغِلْمَانِ الرَّهْنِ مَعَهُ
إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَفِيهَا دَعَا مُعَاوِيَةُ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ لِيَزِيدَ وَلَدِهِ أَنْ
يَكُونَ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ قَدْ عَزَمَ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى
هَذَا فِي حَيَاةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ; فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ
طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ الْمُغِيرَةَ كَانَ قَدْ قَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ،
وَاسْتَعْفَاهُ مِنْ إِمْرَةِ الْكُوفَةِ فَأَعْفَاهُ لِكِبَرِهِ وَضَعْفِهِ،
وَعَزَمَ عَلَى تَوْلِيَتِهَا سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ
الْمُغِيرَةَ كَأَنَّهُ نَدِمَ، فَجَاءَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ،
فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَسْأَلَ مِنْ أَبِيهِ أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ
بَعْدِهِ، فَسَأَلَ ذَلِكَ يَزِيدُ مِنْ أَبِيهِ فَقَالَ: مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا ؟
قَالَ: الْمُغِيرَةُ. فَأَعْجَبَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ مِنَ الْمُغِيرَةِ وَرَدَّهُ
إِلَى عَمَلِ الْكُوفَةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْعَى
فِي ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ سَعَى الْمُغِيرَةُ فِي تَوْطِيدِ ذَلِكَ، وَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى زِيَادٍ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ، فَكَرِهَ زِيَادٌ ذَلِكَ ; لِمَا يَعْلَمُ مِنْ لَعِبِ يَزِيدَ وَإِقْبَالِهِ عَلَى اللَّعِبِ وَالصَّيْدِ، فَبَعَثَ زِيَادٌ إِلَيْهِ مَنْ يَثْنِي رَأْيَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ عُبَيْدُ بْنُ كَعْبٍ النُّمَيْرِيُّ - وَكَانَ صَاحِبًا أَكِيدًا لِزِيَادٍ - فَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ، فَاجْتَمَعَ بِيَزِيدَ أَوَّلًا، فَكَلَّمَهُ عَنْ زِيَادٍ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَطْلُبَ ذَلِكَ، فَإِنَّ تَرْكَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنَ السَّعْيِ فِيهِ، فَانْزَجَرَ يَزِيدُ عَمَّا يُرِيدُ مِنْ ذَلِكَ، وَاجْتَمَعَ بِأَبِيهِ وَاتَّفَقَا عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَلَمَّا مَاتَ زِيَادٌ، وَكَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ، شَرَعَ مُعَاوِيَةُ فِي نَظْمِ الْبَيْعَةِ لِيَزِيدَ وَالدُّعَاءِ إِلَيْهَا، وَعَقَدَ الْبَيْعَةَ لِوَلَدِهِ يَزِيدَ، وَكَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ بِذَلِكَ، فَبَايَعَ لَهُ النَّاسُ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ، إِلَّا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَالْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَابْنَ عَبَّاسٍ، فَرَكِبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا، فَلَمَّا اجْتَازَ بِالْمَدِينَةِ مَرْجِعَهُ مِنْ مَكَّةَ اسْتَدْعَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةِ، فَأَوْعَدَهُ وَتَهَدَّدَهُ بِانْفِرَادِهِ، فَكَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ عَلَيْهِ رَدًّا وَأَجْلَدِهِمْ فِي الْكَلَامِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَكَانَ أَلْيَنَهُمْ كَلَامًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، ثُمَّ خَطَبَ مُعَاوِيَةُ وَهَؤُلَاءِ حُضُورٌ تَحْتَ مِنْبَرِهِ، وَبَايَعَ النَّاسُ لِيَزِيدَ وَهُمْ قُعُودٌ، وَلَمْ يُوَافِقُوا وَلَمْ يُظْهِرُوا خِلَافًا ; لِمَا تَهَدَّدَهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ، فَاتَّسَقَتِ الْبَيْعَةُ لِيَزِيدَ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، وَوَفَدَتِ الْوُفُودُ مِنْ سَائِرِ الْأَقَالِيمِ إِلَى يَزِيدَ. فَكَانَ فِيمَنْ قَدِمَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، فَأَمَرَهُ مُعَاوِيَةُ أَنْ يُحَادِثَ يَزِيدَ، فَجَلَسَا ثُمَّ خَرَجَ الْأَحْنَفُ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَاذَا رَأَيْتَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّا نَخَافُ اللَّهَ إِنْ كَذَبْنَا وَنَخَافُكُمْ إِنْ صَدَقْنَا، وَأَنْتَ
أَعْلَمُ
بِهِ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وَسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، وَمَدْخَلِهِ
وَمَخْرَجِهِ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ بِمَا أَرَدْتَ، وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ
نَسْمَعَ وَنُطِيعَ، وَعَلَيْكَ أَنْ تَنْصَحَ لِلْأُمَّةِ. وَقَدْ كَانَ
مُعَاوِيَةُ لَمَّا صَالَحَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَهِدَ لِلْحَسَنِ بِالْأَمْرِ
مِنْ بَعْدِهِ، فَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ قَوِيَ أَمْرُ يَزِيدَ عِنْدَ
مُعَاوِيَةَ، وَرَأَى أَنَّهُ لِذَلِكَ أَهْلًا، وَذَاكَ مِنْ شِدَّةِ مَحَبَّةِ
الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَلِمَا كَانَ يَتَوَسَّمُ فِيهِ مِنَ النَّجَابَةِ
الدُّنْيَوِيَّةِ، وَسِيَّمَا أَوْلَادِ الْمُلُوكِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِالْحُرُوبِ
وَتَرْتِيبِ الْمُلْكِ وَالْقِيَامِ بِأُبَّهَتِهِ، وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا
يَقُومُ أَحَدٌ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ فِي الْمُلْكِ مَقَامَهُ، وَلِهَذَا
قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِيمَا خَاطَبَهُ بِهِ: إِنِّي خِفْتُ أَنْ
أَذَرَ الرَّعِيَّةَ مِنْ بَعْدِي كَالْغَنَمِ الْمَطِيرَةِ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ.
فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: إِذَا بَايَعَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ بَايَعْتُهُ،
وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ. وَقَدْ عَاتَبَ
مُعَاوِيَةَ فِي وِلَايَتِهِ يَزِيدَ سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ،
وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ مَكَانَهُ، فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ لَوْ
مُلِئَتِ الْغُوطَةُ رِجَالًا مِثْلَكَ لَكَانَ يَزِيدُ أَحَبَّ مِنْكُمْ كُلِّكُمْ.
وَرُوِّينَا عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا فِي خُطْبَتِهِ: اللَّهُمَّ
إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي وَلَّيْتُهُ لِأَنَّهُ فِيمَا أَرَاهُ أَهْلٌ
لِذَلِكَ فَأَتْمِمْ لَهُ مَا وَلَّيْتُهُ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي
إِنَّمَا وَلَّيْتُهُ لِأَنِّي أُحِبُّهُ فَلَا تُتْمِمْ لَهُ مَا وَلَّيْتُهُ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ قَدْ سَمَرَ
لَيْلَةً، فَتَكَلَّمَ أَصْحَابُهُ فِي
الْمَرْأَةِ
الَّتِي يَكُونُ وَلَدُهَا نَجِيبًا، فَذَكَرُوا صِفَةَ الْمَرْأَةِ الَّتِي
يَكُونُ وَلَدُهَا نَجِيبًا. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَدِدْتُ لَوْ عُرِّفْتُ
بِامْرَأَةٍ تَكُونُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ. فَقَالَ أَحَدُ جُلَسَائِهِ: قَدْ
وَجَدْتُ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَمَنْ ؟ قَالَ: ابْنَتِي يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَتَزَوَّجَهَا مُعَاوِيَةُ، فَوَلَدَتْ لَهُ يَزِيدَ
بْنَ مُعَاوِيَةَ، فَجَاءَ نَجِيبًا ذَكِيًّا حَاذِقًا. ثُمَّ خَطَبَ امْرَأَةً
أُخْرَى فَحَظِيَتْ عِنْدَهُ، وَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا آخَرَ، وَهَجَرَ أُمَّ
يَزِيدَ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ فِي جَنْبِ دَارِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا فِي
النَّظَّارَةِ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ الْأُخْرَى، إِذْ نَظَرَ إِلَى أُمِّ يَزِيدَ
وَهِيَ تُسَرِّحُهُ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: قَبَّحَهَا اللَّهُ وَقَبَّحَ مَا
تُسَرِّحُ. فَقَالَ: وَلِمَ ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ وَلَدَهَا لَأَنْجَبُ مِنْ
وَلَدِكِ، وَإِنْ أَحْبَبْتِ بَيَّنْتُ لَكِ ذَلِكَ. ثُمَّ اسْتَدْعَى وَلَدَهَا،
فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَنَّ لَهُ أَنْ يُطْلِقَ لَكَ
مَا تَتَمَنَّاهُ عَلَيْهِ، فَاطْلُبْ مِنِّي مَا شِئْتَ. فَقَالَ: أَسْأَلُ مِنْ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُطْلِقَ لِي كِلَابًا لِلصَّيْدِ، وَخَيْلًا
وَرِجَالًا يَكُونُونَ مَعِي فِي الصَّيْدِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ أَمَرْنَا
لَكَ بِذَلِكَ. ثُمَّ اسْتَدْعَى يَزِيدَ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ لِأَخِيهِ،
فَقَالَ يَزِيدُ: أَوَيُعْفِينِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا الْوَقْتِ عَنْ
هَذَا ؟ فَقَالَ: لَا بُدَّ أَنْ تَسْأَلَ حَاجَتَكَ. فَقَالَ: أَسْأَلُ -
وَأَطَالَ اللَّهُ عُمُرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - أَنْ أَكُونَ وَلِيَّ عَهْدِهِ
مِنْ بَعْدِهِ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ عَدْلَ يَوْمٍ فِي الرَّعِيَّةِ
كَعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. فَقَالَ: قَدْ أَجَبْتُكَ إِلَى ذَلِكَ. ثُمَّ
قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كَيْفَ رَأَيْتِ ؟ فَعَلِمَتْ وَتَحَقَّقَتْ فَضْلَ يَزِيدَ
عَلَى وَلَدِهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَفَاةَ أُمِّ حَرَامٍ
بِنْتِ مِلْحَانَ الْأَنْصَارِيَّةِ امْرَأَةِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ،
وَالصَّحِيحُ الَّذِي لَمْ يَذْكُرِ الْعُلَمَاءُ غَيْرَهُ أَنَّهَا تُوُفِّيَتْ
سَنَةَ
سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَكَانَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا مَعَ مُعَاوِيَةَ حِينَ دَخَلَ قُبْرُسَ وَقَصَتْهَا بَغْلَتُهَا فَمَاتَتْ هُنَاكَ وَقَبْرُهَا بِقُبْرُسَ، وَالْعَجَبُ أَنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ أَوْرَدَ فِي تَرْجَمَتِهَا حَدِيثَهَا الْمُخَرَّجَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " فِيقَيْلُولَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا، وَرُؤْيَاهُ فِي مَنَامِهِ قَوْمًا مِنْ أُمَّتِهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ الْبَحْرِ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّهَا سَأَلَتْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهَا أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا، ثُمَّ نَامَ فَرَأَى كَذَلِكَ، فَقَالَتِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: " أَنْتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ " وَهُمُ الَّذِينَ فَتَحُوا قُبْرُسَ، فَكَانَتْ مَعَهُمْ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَمْ تَكُنْ مِنَ الْآخِرِينَ الَّذِينَ غَزَوْا بِلَادَ الرُّومِ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ مَعَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ! وَمَعَهُمْ أَبُو أَيُّوبَ، وَقَدْ تُوُفِّيَ هُنَاكَ، فَقَبْرُهُ قَرِيبٌ مِنْ سُورِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا مُقَرَّرًا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ
فِيهَا كَانَ مَشْتَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ بِأَرْضِ الرُّومِ. قَالَ
الْوَاقِدِيُّ: وَفِي شَوَّالِهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ
عَنِ الْمَدِينَةِ وَوَلَّى عَلَيْهَا الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ، وَهُوَ الَّذِي حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ; لِأَنَّهُ
صَارَتْ إِلَيْهِ إِمْرَةُ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ الضَّحَّاكُ
بْنُ قَيْسٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، وَعَلَى
خُرَاسَانَ سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ
الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ، وَهُوَ أَخُو عُبَادَةَ وَسَهْلٍ ابْنَيْ حُنَيْفٍ،
بَعَثَهُ عُمَرُ لِمِسَاحَةِ خَرَاجِ السَّوَادِ بِالْعِرَاقِ، وَاسْتَنَابَهُ
عُمَرُ عَلَى الْكُوفَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ صُحْبَةَ
عَائِشَةَ، وَامْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِ دَارِ الْإِمَارَةِ نُتِفَتْ لِحْيَتُهُ
وَحَوَاجِبُهُ وَأَشْفَارُ عَيْنَيْهِ وَمُثِّلَ بِهِ، فَلَمَّا جَاءَ عَلِيٌّ
وَسَلَّمَهُ الْبَلَدَ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَارَقَتُكَ ذَا
لِحْيَةٍ، وَاجْتَمَعْتُ بِكَ أَمَرَدَ. فَتَبَسَّمَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، وَقَالَ: لَكَ أَجْرُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ.
وَلَهُ فِي " الْمُسْنَدِ " وَ " السُّنَنِ " حَدِيثُ
الْأَعْمَى الَّذِي سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ
يَدْعُوَ لَهُ لِيَرُدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ ضَوْءَ بَصَرِهِ، فَرَدَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَلَهُ حَدِيثٌ آخَرُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا أَرَّخَ وَفَاتَهُ بِهَذِهِ السَّنَةِ سِوَى ابْنِ الْجَوْزِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ
فِيهَا غَزَا مَالِكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَثْعَمِيُّ أَرْضَ الرُّومِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا قُتِلَ يَزِيدُ بْنُ شَجَرَةَ فِي الْبَحْرِ.
وَقِيلَ: بَلْ غَزَا الْبَحْرَ وَبِلَادَ الرُّومِ جُنَادَةُ بْنُ أَبِي
أُمَيَّةَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا شَتَّى بِأَرْضِ الرُّومِ عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ
الْجُهَنِيُّ.
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْوَلِيدُ بْنُ
عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. وَفِيهَا وَلَّى مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ لِعَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الثَّقَفِيِّ،
وَهُوَ ابْنُ أُمِّ الْحَكَمِ، وَأُمُّ الْحَكَمِ هِيَ أُخْتُ مُعَاوِيَةَ،
وَعَزَلَ عَنْهَا الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، فَوَلَّى ابْنَ أُمِّ الْحَكَمِ عَلَى
شُرْطَتِهِ زَائِدَةَ بْنَ قُدَامَةَ، وَخَرَجَتِ الْخَوَارِجُ فِي أَيَّامِ ابْنِ
أُمِّ الْحَكَمِ، وَكَانَ رَئِيسَهُمْ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ حَيَّانُ بْنُ
ظِبْيَانَ السُّلَمِيُّ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا فَقَتَلُوا الْخَوَارِجَ
جَمِيعًا، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ أُمِّ الْحَكَمِ أَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِ
الْكُوفَةِ، فَأَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ طَرِيدًا، فَرَجَعَ إِلَى
خَالِهِ مُعَاوِيَةَ، فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَأُوَلِّيَنَّكَ مِصْرًا
هُوَ خَيْرٌ لَكَ. فَوَلَّاهُ مِصْرَ، فَلَمَّا
سَارَ
إِلَيْهَا تَلَقَّاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ
مِصْرَ، فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ إِلَى خَالِكَ مُعَاوِيَةَ، فَلَعَمْرِي لَا
تَسِيرُ فِينَا سِيرَتَكَ فِي إِخْوَانِنَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. فَرَجَعَ
ابْنُ أُمِّ الْحَكَمِ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَلَحِقَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ
وَافِدًا عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَ عِنْدَهُ أُخْتَهُ
أُمَّ الْحَكَمِ، وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الَّذِي طَرَدَهُ أَهْلُ
الْكُوفَةِ وَأَهْلُ مِصْرَ، فَلَمَّا رَآهُ مُعَاوِيَةُ قَالَ: بَخٍ بَخٍ، هَذَا
مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ. فَقَالَتْ أُمُّ الْحَكَمِ: لَا مَرْحَبًا بِهِ،
تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ. فَقَالَ: مُعَاوِيَةُ بْنُ
حُدَيْجٍ عَلَى رِسْلِكِ يَا أُمَّ الْحَكَمِ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَزَوَّجْتِ
فَمَا أَكْرَمْتِ، وَوَلَدْتِ فَمَا أَنْجَبْتِ، أَرَدْتِ أَنْ يَلِيَ ابْنُكِ
الْفَاسِقُ عَلَيْنَا، فَيَسِيرَ فِينَا كَمَا سَارَ فِي إِخْوَانِنَا مِنْ أَهْلِ
الْكُوفَةِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُرِيَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ
لَضَرَبْنَاهُ ضَرْبًا يُطَأْطِئُ مِنْهُ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ الْجَالِسُ.
فَالْتَفَتَ إِلَيْهَا مُعَاوِيَةُ فَقَالَ: كُفِّي.
قِصَّةٌ غَرِيبَةٌ
ذَكَرَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " الْمُنْتَظَمِ "
بِسَنَدِهِ، وَمُلَخَّصُهَا أَنَّ مُعَاوِيَةَ بَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا عَلَى
السِّمَاطِ إِذَا شَابٌّ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ قَدْ مَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ،
فَأَنْشَدَهُ شِعْرًا مَضْمُونُهُ التَّشَوُّقُ إِلَى زَوْجَتِهِ سُعَادَ،
فَاسْتَدْنَاهُ مُعَاوِيَةُ، وَاسْتَحْكَاهُ عَنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي كُنْتُ مُزَوَّجًا بِابْنَةِ عَمٍّ لِي، وَكَانَ لِي
إِبِلٌ وَغَنَمٌ، فَأَنْفَقَتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا قَلَّ مَا بِيَدِي
رَغِبَ عَنِّي أَبُوهَا وَشَكَانِي إِلَى عَامِلِكَ
بِالْكُوفَةِ
ابْنِ أُمِّ الْحَكَمِ، وَبَلَغَهُ جَمَالُهَا فَحَبَسَنِي فِي الْحَدِيدِ،
وَحَمَلَنِي عَلَى أَنْ أُطَلِّقَهَا، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا أَعْطَاهُ
عَامِلُكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا، وَقَدْ أَتَيْتُكَ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْتَ غِيَاثُ الْمَحْرُوبِ، وَسَنَدُ
الْمَسْلُوبِ، فَهَلْ مَنْ فَرَجٍ ؟ ثُمَّ بَكَى وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
فِي الْقَلْبِ مِنِّي نَارُ وَالنَّارُ فِيهَا شَرَارُ وَالْجِسْمُ مِنِّي نَحِيلُ
وَاللَّوْنُ فِيهِ اصْفِرَارُ وَالْعَيْنُ تَبْكِي بِشَجْوٍ
فَدَمْعُهَا مِدْرَارُ وَالْحُبُّ دَاءٌ عَسِيرٌ
فِيهِ الطَّبِيبُ يَحَارُ حَمَلْتُ فِيهِ عَظِيمًا
فَمَا عَلَيْهِ اصْطِبَارُ فَلَيْسَ لَيْلِي بِلَيْلٍ
وَلَا نَهَارِي نَهَارُ
قَالَ: فَرَقَّ لَهُ مُعَاوِيَةُ، وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ أُمِّ الْحَكَمِ
يُؤَنِّبُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَعِيبُهُ عَلَيْهِ، وَيَأْمُرُهُ بِطَلَاقِهَا
قَوْلًا وَاحِدًا، فَلَمَّا جَاءَهُ كِتَابُ مُعَاوِيَةَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ،
وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ خَلَّى بَيْنِي وَبَيْنَهَا
سَنَةً، ثُمَّ عَرَضَنِي عَلَى السَّيْفِ. وَجَعَلَ يُؤَامِرُ نَفْسَهُ عَلَى
طَلَاقِهَا، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا تُجِيبُهُ نَفْسُهُ، وَجَعَلَ
الْبَرِيدُ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ يَسْتَحِثُّهُ، فَطَلَّقَهَا وَأَخْرَجَهَا
عَنْهُ وَسَيَّرَهَا مَعَ الْوَفْدِ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا وَقَفَتْ بَيْنَ
يَدَيْهِ رَأَى مَنْظَرًا جَمِيلًا، فَلَمَّا اسْتَنْطَقَهَا، فَإِذَا هِيَ
أَفْصَحُ النَّاسِ وَأَحْلَاهُمْ كَلَامًا، وَأَكْمَلُهُمْ جَمَالًا وَدَلَالًا،
فَقَالَ لِابْنِ عَمِّهَا: يَا أَعْرَابِيُّ، هَلْ مِنْ سُلُوٍّ عَنْهَا
بِأَفْضَلِ الرَّغْبَةِ ؟ قَالَ: نَعَمَ إِذَا فَرَّقْتَ بَيْنَ رَأْسِي
وَجَسَدِي. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
لَا
تَجْعَلَنِّي وَالْأَمْثَالُ تُضْرَبُ بِي كَالْمُسْتَغِيثِ مِنَ الرَّمْضَاءِ
بِالنَّارِ
ارْدُدْ سُعَادَ عَلَى حَيْرَانَ مُكْتَئِبٍ يُمْسِي وَيُصْبِحُ فِي هَمٍّ
وَتِذْكَارِ
قَدْ شَفَّهُ قَلَقٌ مَا مِثْلُهُ قَلَقٌ وَأَسْعَرَ الْقَلْبُ مِنْهُ أَيُ
إِسْعَارِ
وَاللَّهِ وَاللَّهِ لَا أَنْسَى مَحَبَّتَهَا حَتَّى أُغَيَّبَ فِي رَمْسٍ
وَأَحْجَارِ
كَيْفَ السُّلُوُّ وَقَدْ هَامَ الْفُؤَادُ بِهَا وَأَصْبَحَ الْقَلْبُ عَنْهَا
غَيْرَ صَبَّارِ
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: فَإِنَّا نُخَيِّرُهَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ ابْنِ
أُمِّ الْحَكَمِ. فَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:
هَذَا وَإِنْ أَصْبَحَ فِي أَطْمَارِ وَكَانَ فِي نَقْصٍ مِنَ الْيَسَارِ
أَكْثَرُ عِنْدِي مِنْ أَبِي وَجَارِي وَصَاحِبِ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ
أَخْشَى إِذَا غَدَرْتُ حَرَّ النَّارِ
قَالَ: فَضَحِكَ مُعَاوِيَةُ، وَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ
وَمَرْكَبٍ وَوَطَاءٍ. وَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا زَوَّجَهُ بِهَا
وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ. حَذَفْنَا مِنْهَا أَشْعَارًا كَثِيرَةً مُطَوَّلَةً.
وَجَرَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فُصُولٌ طَوِيلَةٌ بَيْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
زِيَادٍ وَالْخَوَارِجِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَجَمْعًا غَفِيرًا،
وَحَبْسَ مِنْهُمْ آخَرِينَ، وَكَانَ صَارِمًا كَأَبِيهِ، مِقْدَامًا فِي
أَمْرِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
تُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ
بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مُنَافٍ الْقُرَشِيُّ
الْأُمَوِيُّ، قُتِلَ أَبُوهُ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ وَنَشَأَ سَعِيدٌ فِي حِجْرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ عُمْرُ سَعِيدٍ يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَ سِنِينَ، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ
وَالْأَجْوَادِ الْمَشْهُورِينَ، وَكَانَ جَدُّهُ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ -
وَيُكَنَّى بِأَبِي أُحَيْحَةَ - رَئِيسًا فِي قُرَيْشٍ، يُقَالُ لَهُ: ذُو
التَّاجِ. لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا اعْتَمَّ لَا يَعْتَمُّ أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ ;
إِعْظَامًا لَهُ، وَكَانَ سَعِيدٌ هَذَا مِنْ عُمَّالِ عُمَرَ عَلَى السَّوَادِ
وَجَعَلَهُ عُثْمَانُ فِيمَنْ يَكْتُبُ الْمَصَاحِفَ ; لِفَصَاحَتِهِ، قَالُوا:
وَكَانَ أَشْبَهُ النَّاسِ لَهْجَةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا الَّذِينَ
يَسْتَخْرِجُونَ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُونَهُ وَيَكْتُبُونَهُ، مِنْهُمْ أُبَيُّ
بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. وَاسْتَنَابَهُ عُثْمَانُ عَلَى الْكُوفَةِ
بَعْدَ عَزْلِهِ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، فَافْتَتَحَ طَبَرِسْتَانَ
وَجُرْجَانَ، وَنَقَضَ الْعَهْدَ أَهْلُ أَذْرَبِيجَانَ فَغَزَاهُمْ فَفَتَحَهَا،
فَلَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ اعْتَزَلَ الْفِتْنَةَ، فَلَمْ يَشْهَدِ الْجَمَلَ وَلَا
صِفِّينَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِمُعَاوِيَةَ وَفَدَ إِلَيْهِ، فَعَتَبَ
عَلَيْهِ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَعَذَرَهُ، فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ
جِدًّا،
وَوَلَّاهُ الْمَدِينَةَ مَرَّتَيْنِ، وَعَزَلَهُ عَنْهَا مَرَّتَيْنِ بِمَرْوَانَ
بْنِ الْحَكَمِ، وَكَانَ سَعِيدٌ هَذَا لَا يَسُبُّ عَلِيًّا، وَمَرْوَانُ
يَسُبُّهُ، وَرَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ، وَعَائِشَةَ، وَعَنْهُ ابْنَاهُ عَمْرُو
بْنُ سَعِيدٍ الْأَشْدَقُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرُهُمْ، وَلَيْسَ لَهُ فِي
" الْمُسْنَدِ " وَلَا فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ شَيْءٌ. وَقَدْ كَانَ
حَسَنَ السِّيرَةِ، جَيِّدَ السَّرِيرَةِ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَجْمَعُ
أَصْحَابَهُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فَيُطْعِمُهُمْ وَيَكْسُوهُمُ الْحُلَلَ، وَيُرْسِلُ
إِلَى بُيُوتِهِمْ بِالْهَدَايَا وَالتُّحَفِ وَالْبِرِّ الْكَثِيرِ، وَكَانَ
يُصِرُّ الصُّرَرَ فَيَضَعُهَا بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّينَ مِنْ ذَوِي
الْحَاجَاتِ فِي الْمَسْجِدِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَقَدْ كَانَتْ لَهُ دَارٌ بِدِمَشْقَ تُعْرَفُ بَعْدَهُ
بِدَارِ نَعِيمٍ، وَحَمَّامِ نَعِيمٍ، بِنَوَاحِي الدِّيمَاسِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى
الْمَدِينَةِ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ، وَكَانَ كَرِيمًا جَوَادًا
مُمَدَّحًا.
ثُمَّ أَوْرَدَ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِهِ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ،
حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْجُعْفِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَجْلَحِ،
ثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ قَالَ:
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "
خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ".
وَمِنْ
طَرِيقِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ
بْنِ أَبَانٍ، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِبُرْدٍ، فَقَالَتْ: إِنِّي نَوَيْتُ أَنْ أُعْطِيَ هَذَا الثَّوْبَ أَكْرَمَ
الْعَرَبِ. فَقَالَ: " أَعْطِيهِ هَذَا الْغُلَامَ "، يَعْنِي سَعِيدَ
بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ وَاقِفٌ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الثِّيَابَ السَّعِيدِيَّةَ.
وَأَنْشَدَ الْفَرَزْدَقُ قَوْلَهُ فِيهِ:
تَرَى الْغُرَّ الْجَحَاجِحَ مِنْ قُرَيْشٍ إِذَا مَا الْخَطْبُ فِي الْحَدَثَانِ
عَالَا قِيَامًا يَنْظُرُونَ إِلَى سَعِيدٍ
كَأَنَّهُمُ يَرَوْنَ بِهِ هِلَالَا
وَذَكَرَ أَنَّ عُثْمَانَ عَزَلَ عَنِ الْكُوفَةِ الْمُغِيرَةَ، وَوَلَّاهَا
سَعِيدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ،
ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، فَأَقَامَ بِهَا حِينًا، وَلَمْ
تُحْمَدْ سِيرَتُهُ فِيهِمْ وَلَمْ يُحِبُّوهُ، ثُمَّ رَكِبَ مَالِكُ بْنُ
الْحَارِثِ - وَهُوَ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ - فِي جَمَاعَةٍ إِلَى عُثْمَانَ،
وَسَأَلُوهُ أَنْ يَعْزِلَ عَنْهُمْ سَعِيدًا، فَلَمْ يَعْزِلْهُ، وَكَانَ
عِنْدَهُ بِالْمَدِينَةِ فَبَعْثَهُ إِلَيْهِمْ، وَسَبَقَ الْأَشْتَرُ إِلَى
الْكُوفَةِ، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَحَثَّهُمْ عَلَى مَنْعِهِ مِنَ الدُّخُولِ
إِلَيْهِمْ، وَرَكِبَ الْأَشْتَرُ فِي جَيْشٍ يَمْنَعُونَهُ مِنَ
الدُّخُولِ،
قِيلَ: تَلَقَّوْهُ إِلَى الْعُذَيْبِ - وَقَدْ نَزَلَ سَعِيدٌ بِالْعُذَيْبِ -
فَمَنَعُوهُ مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى رَدُّوهُ
إِلَى عُثْمَانَ، وَوَلَّى الْأَشْتَرُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ عَلَى
الصَّلَاةِ وَالثَّغْرِ، وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ عَلَى الْفَيْءِ، فَأَجَازَ
ذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَبَعَثُوا إِلَى عُثْمَانَ فِي ذَلِكَ فَأَمْضَاهُ،
وَسَرَّهُ ذَلِكَ فِيمَا أَظْهَرَهُ، وَلَكِنْ كَانَ هَذَا أَوَّلَ وَهَنٍ دَخَلَ
عَلَى عُثْمَانَ.
وَأَقَامَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى كَانَ زَمَنُ حَصْرِ
عُثْمَانَ، فَكَانَ عِنْدَهُ بِالدَّارِ، ثُمَّ لَمَّا رَكِبَ طَلْحَةُ
وَالزُّبَيْرُ مَعَ عَائِشَةَ مِنْ مَكَّةَ يُرِيدُونَ قَتَلَةَ عُثْمَانَ رَكِبَ
مَعَهُمْ، ثُمَّ انْفَرَدَ عَنْهُمْ هُوَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ
وَغَيْرُهُمَا، فَأَقَامَ بِالطَّائِفِ حَتَّى انْقَضَتْ تِلْكَ الْحُرُوبُ
كُلُّهَا، ثُمَّ وَلَّاهُ مُعَاوِيَةُ إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعٍ
وَأَرْبَعِينَ، وَعَزَلَ مَرْوَانَ، فَأَقَامَ سَبْعًا، ثُمَّ رَدَّ مَرْوَانَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ:
بَعَثَنِي زِيَادٌ فِي شُغُلٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ أُمُورِي
قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لِمَنْ يَكُونُ الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ ؟
فَسَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: يَكُونُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ، أَمَّا كَرِيمَةُ
قُرَيْشٍ فَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَأَمَّا فَتَى قُرَيْشٍ حَيَاءً وَدَهَاءً
وَسَخَاءً فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَأَمَّا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ
فَرَجُلٌ سَيِّدٌ كَرِيمٌ، وَأَمَّا الْقَارِئُ لِكِتَابِ اللَّهِ الْفَقِيهُ فِي
دِينِ اللَّهِ، الشَّدِيدُ فِي حُدُودِ اللَّهِ فَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ،
وَأَمَّا رَجُلُ نَفْسِهِ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَمَّا رَجُلٌ
يَرُدُّ
الشَّرِيعَةَ مَعَ دَوَاهِي السِّبَاعِ وَيَرُوغُ رَوَغَانَ الثَّعْلَبِ فَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ.
وَرُوِّينَا أَنَّهُ اسْتَسْقَى يَوْمًا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ،
فَأَخْرَجَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ دَارِهِ مَاءً فَشَرِبَ، ثُمَّ بَعْدَ حِينٍ رَأَى
ذَلِكَ الرَّجُلَ يَعْرِضُ دَارَهُ لِلْبَيْعِ، فَسَأَلَ عَنْهُ: لِمَ يَبِيعُ
دَارَهُ ؟ فَقَالُوا: عَلَيْهِ دَيْنٌ ; أَرْبَعَةُ آلَافِ دِينَارٍ، فَبَعَثَ
إِلَى غَرِيمِهِ فَقَالَ: هِيَ لَكَ عَلَيَّ. وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ الدَّارِ
فَقَالَ: اسْتَمْتِعْ بِدَارِكَ.
وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ يُجَالِسُونَهُ قَدِ افْتَقَرَ
وَأَصَابَتْهُ فَاقَةٌ شَدِيدَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: إِنَّ أَمِيرَنَا
هَذَا يُوصَفُ بِكَرَمٍ، فَلَوْ ذَكَرْتَ لَهُ حَالَكَ فَلَعَلَّهُ يَسْمَحُ لَكَ
بِشَيْءٍ. فَقَالَ: وَيْحَكِ، لَا تُخْلِقِي وَجْهِي، فَأَلَحَّتْ عَلَيْهِ فِي
ذَلِكَ، فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّاسُ عَنْهُ مَكَثَ
الرَّجُلُ جَالِسًا فِي مَكَانِهِ، فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: أَظُنُّ جُلُوسَكَ
لِحَاجَةٍ. فَسَكَتَ الرَّجُلُ، فَقَالَ سَعِيدٌ لِغِلْمَانِهِ: انْصَرِفُوا.
ثُمَّ قَالَ لَهُ سَعِيدٌ: لَمْ يَبْقَ غَيْرِي وَغَيْرُكَ. فَسَكَتَ، فَأَطْفَأَ
الْمِصْبَاحَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: رَحِمَكَ اللَّهُ، لَسْتَ تَرَى وَجْهِي،
فَاذْكُرْ حَاجَتَكَ. فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، أَصَابَتْنَا فَاقَةٌ
وَحَاجَةٌ فَأَحْبَبْتُ ذِكْرَهَا لَكَ فَاسْتَحْيَيْتُ. فَقَالَ لَهُ: إِذَا
أَصْبَحْتَ فَالْقَ فُلَانًا وَكِيلِي. فَلَمَّا أَصْبَحَ الرَّجُلُ لَقِيَ
الْوَكِيلَ، فَقَالَ لَهُ الْوَكِيلُ: إِنَّ الْأَمِيرَ قَدْ أَمَرَ لَكَ بِشَيْءٍ
فَأْتِ بِمَنْ يَحْمِلُهُ مَعَكَ. فَقَالَ: مَا عِنْدِي مَنْ يَحْمِلُهُ. ثُمَّ
انْصَرَفَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَلَامَهَا، وَقَالَ: حَمَلْتِينِي عَلَى
بَذْلِ وَجْهِيَ لِلْأَمِيرِ، فَقَدْ أَمَرَ لِي بِشَيْءٍ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ
يَحْمِلُهُ، وَمَا أَرَاهُ أَمَرَ لِي إِلَّا بِدَقِيقٍ أَوْ طَعَامٍ، وَلَوْ
كَانَ مَالًا لَمَا احْتَاجَ إِلَى مَنْ يَحْمِلُهُ، وَلَأَعْطَانِيهِ. فَقَالَتْ
لَهُ الْمَرْأَةُ: فَمَهْمَا أَعْطَاكَ فَإِنَّهُ يَقُوتُنَا
فَخُذْهُ.
فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى الْوَكِيلِ، فَقَالَ لَهُ الْوَكِيلُ: إِنِّي أَخْبَرْتُ
الْأَمِيرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ أَحَدٌ يَحْمِلُهُ، وَقَدْ أَرْسَلَ بِهَؤُلَاءِ
الثَّلَاثَةِ السُّودَانِ يَحْمِلُونَهُ مَعَكَ. فَذَهَبَ الرَّجُلُ، فَلَمَّا
وَصَلَ إِلَى مَنْزِلِهِ إِذَا عَلَى رَأْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةُ
آلَافِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لِلْغِلْمَانِ: ضَعُوا مَا مَعَكُمْ وَانْصَرِفُوا.
فَقَالُوا: إِنَّ الْأَمِيرَ قَدْ أَطْلَقْنَا لَكَ، فَإِنَّهُ مَا بَعَثَ مَعَ
خَادِمٍ هَدِيَّةً إِلَى أَحَدٍ إِلَّا كَانَ الْخَادِمُ الَّذِي يَحْمِلُهَا مِنْ
جُمْلَتِهَا. قَالَ: فَحَسُنَ حَالُ ذَلِكَ الرَّجُلِ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بَعَثَ إِلَى
سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِهَدَايَا وَأَمْوَالٍ وَكِتَابٍ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ
يَخْطُبُ إِلَيْهِ ابْنَتَهُ أُمَّ عُثْمَانَ مِنْ أُمَيَّةَ بِنْتِ جَرِيرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، فَلَمَّا وَصَلَتِ الْهَدَايَا وَالْأَمْوَالُ
وَالْكِتَابُ قَرَأَهُ، ثُمَّ فَرَّقَ الْهَدَايَا فِي جُلَسَائِهِ، ثُمَّ كَتَبَ
إِلَيْهِ كِتَابًا لَطِيفًا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [
الْعَلَقِ: 6، 7 ]. وَالسَّلَامُ.
وَرُوِّينَا أَنَّ سَعِيدًا خَطَبَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ مِنْ
فَاطِمَةَ، الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَجَابَتْ إِلَى
ذَلِكَ وَشَاوَرَتْ أَخَوَيْهَا فَكَرِهَا ذَلِكَ - وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّمَا
كَرِهَ ذَلِكَ الْحُسَيْنُ وَأَجَابَ الْحَسَنُ - فَهَيَّأَتْ دَارَهَا وَنَصَبَتْ
سَرِيرًا وَتَوَاعَدُوا لِلْكِتَابِ، وَأَمَرَتِ ابْنَهَا زَيْدَ بْنَ عُمَرَ أَنْ
يُزَوِّجَهَا مِنْهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا بِمِائَةِ أَلْفٍ - وَفِي رِوَايَةٍ:
بِمِائَتَيْ أَلْفٍ - مَهْرًا. وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ أَصْحَابُهُ لِيَذْهَبُوا
مَعَهُ،
فَقَالَ:
إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُحْرِجَ ابْنَيْ فَاطِمَةَ. فَتَرَكَ التَّزْوِيجَ،
وَأَطْلَقَ جَمِيعَ ذَلِكَ الْمَالِ لَهَا.
وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ وَعَبْدُ الْأَعَلَى بْنُ حَمَّادٍ: سَأَلَ أَعْرَابِيٌّ
سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ فَأَمَرَ لَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَقَالَ الْخَادِمُ:
خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ دِينَارٍ ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا أَمَرْتُكَ
بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَإِذْ قَدْ جَاشَ فِي نَفْسِكَ أَنَّهَا دَنَانِيرُ،
فَادْفَعْ إِلَيْهِ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ. فَلَمَّا قَبَضَهَا الْأَعْرَابِيُّ
جَلَسَ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ: مَالِكٌ ؟ أَلَمْ تَقْبِضْ نَوَالَكَ ؟ قَالَ:
بَلَى وَاللَّهِ، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى الْأَرْضِ كَيْفَ تَأْكُلُ مِثْلَكَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ: جَاءَ رَجُلٌ فِي حَمَالَةِ أَرْبَعِ
دِيَاتٍ سَأَلَ فِيهَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَقِيلَ لَهُ: عَلَيْكَ بِالْحَسَنِ
بْنِ عَلِيٍّ، أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَوْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ،
أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. فَانْطَلَقَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا
سَعِيدٌ دَاخِلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا ؟ فَقِيلَ: سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ.
فَقَصَدَهُ فَذَكَرَ لَهُ مَا أَقْدَمَهُ، فَتَرَكَهُ حَتَّى انْصَرَفَ مِنَ
الْمَسْجِدِ إِلَى الْمَنْزِلِ، فَقَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: ائْتِ بِمَنْ يَحْمِلُ
مَعَكَ ؟ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ، إِنَّمَا سَأَلْتُكَ مَالًا لَا تَمْرًا.
فَقَالَ: أَعْرِفُ، ائْتِ بِمَنْ يَحْمِلُ مَعَكَ ؟ فَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ
أَلْفًا، فَأَخَذَهَا الْأَعْرَابِيُّ، وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَسْأَلْ غَيْرَهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، أَخْزَى اللَّهُ الْمَعْرُوفُ
إِذَا لَمْ يَكُنِ
ابْتِدَاءً
مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، فَأَمَّا إِذَا أَتَاكَ الرَّجُلُ تَكَادُ تَرَى دَمَهُ
فِي وَجْهِهِ، أَوْ جَاءَكَ مُخَاطِرًا لَا يَدْرِي أَتُعْطِيهِ أَمْ تَمْنَعُهُ،
فَوَاللَّهِ لَوْ خَرَجْتَ لَهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِكِ مَا كَافَأْتَهُ.
وَقَالَ سَعِيدٌ: لِجَلِيسِي عَلَيَّ ثَلَاثٌ ; إِذَا دَنَا رَحَّبْتُ بِهِ،
وَإِذَا جَلَسَ أَوْسَعْتُ لَهُ، وَإِذَا حَدَّثَ أَقْبَلْتُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَيْضًا: يَا بُنَيَّ، لَا تُمَازِحِ الشَّرِيفَ فَيَحْقِدَ عَلَيْكَ،
وَلَا الدَّنِيءَ فَتَهُونَ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَيَجْتَرِئَ عَلَيْكَ.
وَخَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ: مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا فَلْيَكُنْ
أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، إِنَّمَا يَتْرُكُهُ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ ; إِمَّا
مُصْلِحٌ فَيَسْعَدُ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ وَتَخِيبُ أَنْتَ، وَالْمُصْلِحُ لَا
يَقِلُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِمَّا مُفْسِدٌ فَلَا يَبْقَى لَهُ شَيْءٌ. فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ: جَمَعَ أَبُو عُثْمَانَ طُرَفَ الْكَلَامِ.
وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ
الْعَاصِ: مَوْطِنَانِ لَا أَسْتَحْيِي مِنْ رِفْقِي فِيهِمَا وَالتَّأَنِّي
عِنْدَهُمَا، مُخَاطَبَتِي جَاهِلًا أَوْ سَفِيهًا، وَعِنْدَ مَسْأَلَتِي حَاجَةً
لِنَفْسِي.
وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ مِنَ الْعَابِدَاتِ، وَهُوَ أَمِيرُ الْكُوفَةِ،
فَأَكْرَمهَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: لَا جَعَلَ اللَّهُ لَكَ إِلَى
لَئِيمٍ حَاجَةً، وَلَا زَالَتِ الْمِنَّةُ لَكَ فِي أَعْنَاقِ الْكِرَامِ،
وَإِذَا أَزَالَ عَنْ كَرِيمٍ نِعْمَةً جَعَلَكَ سَبَبًا لِرَدِّهَا عَلَيْهِ.
وَقَدْ كَانَ لَهُ عَشَرَةٌ مِنَ
الْوَلَدِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَكَانَتْ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ أُمَّ الْبَنِينَ بِنْتَ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أُخْتَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ. وَلَمَّا حَضَرَتْ سَعِيدًا الْوَفَاةُ جَمَعَ بَنِيهِ، وَقَالَ لَهُمْ: لَا يَفْقِدْنَ أَصْحَابِي غَيْرَ وَجْهِي، وَصِلُوهُمْ بِمَا كُنْتُ أَصِلُهُمْ بِهِ، وَأَجْرُوا عَلَيْهِمْ مَا كُنْتُ أُجْرِي عَلَيْهِمْ، وَاكْفُوهُمْ مُؤْنَةَ الطَّلَبِ ; فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا طَلَبَ الْحَاجَةَ اضْطَرَبَتْ أَرْكَانُهُ، وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ ; مَخَافَةَ أَنْ يُرَدَّ، فَوَاللَّهِ لَرَجُلٌ يَتَمَلْمَلُ عَلَى فِرَاشِهِ يَرَاكُمْ مَوْضِعًا لِحَاجَتِهِ، أَعْظَمُ مِنَّةً عَلَيْكُمْ مِمَّا تُعْطُونَهُ. ثُمَّ أَوْصَاهُمْ بِوَصَايَا كَثِيرَةٍ، مِنْهَا أَنْ يُوَفُّوا مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ وَالْوُعُودِ، وَأَنْ لَا يُزَوِّجُوا أَخَوَاتِهِمْ إِلَّا مِنَ الْأَكْفَاءِ، وَأَنْ يُسَوِّدُوا أَكْبَرَهُمْ. فَتَكَفَّلَ بِذَلِكَ كُلِّهِ ابْنُهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْأَشْدَقُ، فَلَمَّا مَاتَ دَفَنَهُ بِالْبَقِيعِ، ثُمَّ رَكِبَ عَمْرٌو إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَعَزَّاهُ فِيهِ، وَاسْتَرْجَعَ مُعَاوِيَةُ وَحَزِنَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: هَلْ تَرَكَ مِنْ دَيْنٍ عَلَيْهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَكَمْ ؟ قَالَ: ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: ثَلَاثُ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هِيَ عَلَيَّ. فَقَالَ ابْنُهُ: لَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ أَوْصَانِي أَنْ لَا أَقْضِيَ دَيْنَهُ إِلَّا مِنْ ثَمَنِ أَرَاضِيهِ. فَاشْتَرَى مِنْهُ مُعَاوِيَةُ أَرَاضِيَ بِمَبْلَغِ الدَّيْنِ، وَسَأَلَ مِنْهُ عَمْرٌو أَنْ يَحْمِلَهَا لَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَحَمَلَهَا لَهُ، ثُمَّ شَرَعَ عَمْرٌو يَقْضِي مَا عَلَى أَبِيهِ مِنَ الدَّيْنِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ طَالَبَهُ شَابٌّ مَعَهُ رُقْعَةٌ مِنْ أَدِيمٍ فِيهَا عِشْرُونَ أَلْفًا، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: كَيْفَ اسْتَحْقَقْتَ هَذِهِ عَلَى أَبِي ؟ فَقَالَ الشَّابُّ: إِنَّهُ كَانَ يَوْمًا يَمْشِي وَحْدَهُ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَلَمَّا وَصَلَ قَالَ: هَلْ مِنْ حَاجَةٍ ؟ فَقُلْتُ: لَا إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ الْأَمِيرَ يَمْشِي وَحْدَهُ فَاخْتَرْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَقَالَ: أَبْغِنِي رُقْعَةً مِنْ أَدِيمٍ. فَذَهَبْتُ إِلَى الْخَرَّازِينَ
فَأَتَيْتُهُ
بِهَذِهِ، فَكَتَبَ لِي فِيهَا هَذَا الْمَبْلَغَ، وَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ لَيْسَ
عِنْدَهُ الْيَوْمَ شَيْءٌ. فَدَفَعَ إِلَيْهِ عَمْرٌو ذَلِكَ الْمَالَ، وَزَادَهُ
شَيْئًا كَثِيرًا. وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ:
مَنْ تَرَكَ مِثْلَكَ لَمْ يَمُتْ. ثُمَّ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عُثْمَانَ.
ثُمَّ قَالَ: قَدْ مَاتَ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي وَمَنْ هُوَ أَصْغَرُ مِنِّي،
ثُمَّ أَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
إِذَا سَارَ مَنْ دُونَ امْرِئٍ وَأَمَامَهُ وَأَوْحَشَ مِنْ إِخْوَانِهِ فَهُوَ
سَائِرُ
وَكَانَتْ وَفَاةُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي
الَّتِي قَبْلَهَا. وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ
وَفَاتُهُ قَبْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ بِجُمُعَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
شَدَّادُ بْنُ أَوْسِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ، أَبُو يَعْلَى
الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ.
وَحَكَى ابْنُ مَنْدَهْ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّهُ قَالَ: شَهِدَ
بَدْرًا. قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ: وَهُوَ وَهْمٌ. وَكَانَ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي
الْعِبَادَةِ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ، كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ يُعَلِّقُ
عَلَى فِرَاشِهِ، وَيَتَقَلَّبُ عَلَيْهِ وَيَتَلَوَّى كَمَا تَتَلَوَّى الْحَيَّةُ،
وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ خَوْفَ النَّارِ قَدْ أَقْلَقَنِي. ثُمَّ يَقُومُ
إِلَى صَلَاتِهِ.
قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: كَانَ شَدَّادٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ وَالْحِلْمَ.
نَزَلَ
شَدَّادٌ فِلَسْطِينَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ:
سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ
عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ الْقُرَشِيُّ الْعَبْشَمِيُّ،
ابْنُ خَالِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
وُلِدَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَلَ
فِي فِيهِ، فَجَعَلَ يَبْتَلِعُ رِيقَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " إِنَّهُ لَمِسْقَاءٌ ". فَكَانَ لَا يُعَالِجُ
أَرْضًا إِلَّا ظَهَرَ لَهُ الْمَاءُ، وَكَانَ كَرِيمًا مُمَدَّحًا مَيْمُونَ
النَّقِيبَةِ، اسْتَنَابَهُ عُثْمَانُ عَلَى الْبَصْرَةِ بَعْدَ أَبِي مُوسَى،
وَوَلَّاهُ بِلَادَ فَارِسَ بَعْدَ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَعُمْرُهُ
إِذْ ذَاكَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَفَتَحَ خُرَاسَانَ كُلَّهَا وَأَطْرَافَ
فَارِسَ وَسِجِسْتَانَ وَكَرْمَانَ وَبِلَادَ غَزْنَةَ، وَقُتِلَ كِسْرَى مَلِكُ
الْمُلُوكِ فِي أَيَّامِهِ - وَهُوَ يَزْدَجِرْدُ - ثُمَّ أَحْرَمَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَامِرٍ بِحَجَّةٍ - وَقِيلَ: بِعُمْرَةٍ - مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ، شُكْرًا
لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَفَرَّقَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً
جَزِيلَةً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ لَبِسَ الْخَزَّ بِالْبَصْرَةِ. وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْحِيَاضَ بِعَرَفَةَ وَأَجْرَى إِلَيْهَا الْمَاءَ
الْمَعِينَ وَالْعَيْنَ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى الْبَصْرَةِ حَتَّى قُتِلَ
عُثْمَانُ، فَأَخَذَ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ وَتَلَقَّى بِهَا طَلْحَةَ
وَالزُّبَيْرَ، وَحَضَرَ مَعَهُمُ الْجَمَلَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى دِمَشْقَ، وَلَمْ
يُسْمَعْ لَهُ بِذِكْرٍ فِي صِفِّينَ، وَلَكِنْ
وَلَّاهُ
مُعَاوِيَةُ الْبَصْرَةَ بَعْدَ صُلْحِهِ مَعَ الْحَسَنِ، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ بِأَرْضِهِ بِعَرَفَاتٍ، وَأَوْصَى إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ.
لَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْكُتُبِ شَيْءٌ.
رَوَى مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ
قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ
قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ".
وَقَدْ زَوَّجَهُ مُعَاوِيَةُ بِابْنَتِهِ هِنْدَ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً، فَكَانَتْ
تَلِي خِدْمَتَهُ بِنَفْسِهَا مِنْ مَحَبَّتِهَا لَهُ، فَنَظَرَ يَوْمًا فِي
الْمِرْآةِ، فَرَأَى صَبَاحَةَ وَجْهِهَا وَشَيْبَةً فِي لِحْيَتِهِ فَطَلَّقَهَا،
وَبَعَثَ إِلَى أَبِيهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا بِشَابٍّ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ
مُصْحَفٍ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: بَعْدَهَا بِسَنَةٍ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. قَالَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ
بَكَّارٍ قَالَ: وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَةٌ. وَأُمُّهُ أُمُّ رُومَانَ أُمُّ
عَائِشَةَ فَهُوَ شَقِيقُهَا، بَارَزَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ مَعَ
الْمُشْرِكِينَ، وَأَرَادَ قَتْلَ أَبِيهِ أَبِي بَكْرٍ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ
أَبُوهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " أَمْتِعْنَا بْنفْسِكَ ". ثُمَّ أَسْلَمَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ
بَعْدَ
ذَلِكَ فِي الْهُدْنَةِ، وَهَاجَرَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَرَزَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ كُلَّ سَنَةٍ أَرْبَعِينَ
وَسْقًا، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ.
وَهُوَ الَّذِي دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَ مَاتَ، وَعَائِشَةُ مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِهَا، وَمَعَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ، فَأَمَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَصَرَهُ، فَأَخَذَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ السِّوَاكَ، فَقَضَمَتْهُ
وَطَيَّبَتْهُ، ثُمَّ دَفَعَتْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَاسْتَنَّ بِهِ أَحْسَنَ اسْتِنَانٍ، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ
فِي الرَّفِيقِ الْأَعَلَى ". ثُمَّ قَضَى.
قَالَتْ: فَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ، وَمَاتَ بَيْنَ سَحْرِي
وَنَحْرِي، فِي بَيْتِي وَيَوْمِي، لَمْ أَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا.
وَقَدْ شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَتْحَ الْيَمَامَةِ وَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ
سَبْعَةً، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ مُحَكَّمَ بْنَ الطُّفَيْلِ صَدِيقَ مُسَيْلِمَةَ
عَلَى بَاطِلِهِ، كَانَ مُحَكَّمٌ وَاقِفًا فِي ثُلْمَةِ حَائِطٍ، فَرَمَاهُ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَسَقَطَ مُحَكَّمٌ، فَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ تِلْكَ
الثُّلْمَةِ فَخَلَصُوا إِلَى مُسَيْلِمَةَ فَقَتَلُوهُ. وَقَدْ شَهِدَ فَتْحَ
الشَّامَ، وَكَانَ مُعَظَّمًا بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَنُفِلَ لَيْلَى
بِنْتَ الْجُودِيِّ مَلِكِ عَرَبِ الشَّامِ، نَفَلَهُ إِيَّاهَا خَالِدُ بْنُ
الْوَلِيدِ عَنْ أَمْرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ مُفَصَّلًا.
وَقَدْ
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ - وَلَمْ
يُجَرَّبْ عَلَيْهِ كَذْبَةٌ قَطُّ - ذَكَرَ عَنْهُ حِكَايَةً ; أَنَّهُ لَمَّا
جَاءَتْ بَيْعَةُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ لِمَرْوَانَ: جَعَلْتُمُوهَا وَاللَّهِ هِرَقْلِيَّةً
وَكِسْرَوِيَّةً. يَعْنِي جَعَلْتُمْ مُلْكَ الْمَلِكِ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ
وَلَدِهِ. فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: اسْكُتْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الَّذِي أَنْزَلَ
اللَّهُ فِيكَ: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ
أُخْرَجَ [ الْأَحْقَافِ: 17 ]. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَاللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فِينَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنَّهُ أَنْزَلَ عُذْرِي. وَيُرْوَى
أَنَّهَا بَعَثَتْ إِلَى مَرْوَانَ تَعْتِبُهُ وَتُؤَنِّبُهُ وَتُخْبِرُهُ
بِخَبَرٍ فِيهِ ذَمٌّ لَهُ وَلِأَبِيهِ لَا يَصِحُّ عَنْهَا.
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: بَعَثَ
مُعَاوِيَةُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بِمِائَةِ أَلْفِ
دِرْهَمٍ بَعْدَ أَنْ أَبَى الْبَيْعَةَ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَرَدَّهَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ وَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهَا، وَقَالَ: أَبِيعُ دِينِي بِدُنْيَايَ ؟ !
وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: ثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ، ثَنَا مَالِكٌ
قَالَ: تُوُفِّيَ
عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي نَوْمَةٍ نَامَهَا. وَرَوَاهُ أَبُو مُصْعَبٍ
عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، فَذَكَرَهُ وَزَادَ: فَأَعْتَقَتْ
عَنْهُ عَائِشَةُ رِقَابًا. وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ،
عَنِ الْقَاسِمِ، فَذَكَرَهُ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الْحُبْشِيُّ -
عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ. وَقِيلَ: اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا -
فَحَمَلَهُ الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى دُفِنَ بِأَعَلَى مَكَّةَ
فَلَمَّا قَدِمَتْ عَائِشَةُ مَكَّةَ زَارَتْهُ، وَقَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ
شَهِدْتُكَ لَمْ أَبْكِ عَلَيْكَ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَكَ لَمْ أَنْقُلْكَ مِنْ
مَوْضِعِكَ الَّذِي مِتَّ فِيهِ. ثُمَّ تَمَثَّلَتْ بِشِعْرِ مُتَمِّمِ بْنِ
نُوَيْرَةَ فِي أَخِيهِ مَالِكٍ:
وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ
يَتَصَدَّعَا
فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ
لَيْلَةً مَعَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى فُسْطَاطًا مَضْرُوبًا عَلَى
قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - ضَرَبَتْهُ عَائِشَةُ بَعْدَ مَا ارْتَحَلَتْ -
فَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ بِنَزْعِهِ وَقَالَ: إِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا الْعَامِ فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ
التَّارِيخِ، وَيُقَالُ: إِنَّ
عَبْدَ
الرَّحْمَنِ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ
وَكَاتِبُهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقِيلَ:
سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ
الصَّدِيقِ مَعَ لَيْلَى بِنْتِ الْجُودِيِّ مَلِكِ عَرَبِ الشَّامِ
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ
الْحِزَامِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ،
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَدِمَ الشَّامَ فِي تِجَارَةٍ -
يَعْنِي فِي زَمَانِ جَاهِلِيَّتِهِ - فَرَأَى هُنَالِكَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا:
لَيْلَى ابْنةُ الْجُودِيِّ. عَلَى طُنْفُسَةٍ، حَوْلَهَا وَلَائِدُهَا،
فَأَعْجَبَتْهُ - قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: رَآهَا بِأَرْضِ بُصْرَى، فَقَالَ
فِيهَا:
تَذَكَّرْتُ لَيْلَى وَالسَّمَاوَةُ دُونَهَا فَمَا لِابْنَةِ الْجُودِيِّ لَيْلَى
وَمَا لِيَا وَأَنَّى تَعَاطَى قَلْبُهُ حَارِثِيَّةً
تُدَمِّنُ بُصْرَى أَوْ تَحُلُّ الْجَوَابِيَا
وَأَنَّى
تُلَاقِيهَا بَلَى وَلَعَلَّهَا
إِنِ النَّاسُ حَجُّوا قَابِلًا أَنْ تُوَافِيَا
قَالَ: فَلَمَّا بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ جَيْشَهُ إِلَى الشَّامِ قَالَ
لِلْأَمِيرِ عَلَى الْجَيْشِ: إِنْ ظَفِرْتَ بِلَيْلَى بِنْتِ الْجُودِيِّ
عَنْوَةً فَادْفَعْهَا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ. فَظَفِرَ
بِهَا فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَأُعْجِبَ بِهَا وَآثَرَهَا عَلَى نِسَائِهِ، حَتَّى
جَعَلْنَ يَشْكُونَهُ إِلَى عَائِشَةَ، فَعَاتَبَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى ذَلِكَ،
فَقَالَ: وَاللَّهِ كَأَنِّي أَرْشُفُ بِأَنْيَابِهَا حَبَّ الرُّمَّانِ.
فَأَصَابَهَا وَجَعٌ سَقَطَ لَهُ فُوهَا، فَجَفَاهَا حَتَّى شَكَتْهُ إِلَى
عَائِشَةَ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، لَقَدْ أَحْبَبْتَ
لَيْلَى فَأَفْرَطْتَ، وَأَبْغَضَتْهَا فَأَفْرَطَتْ، فَإِمَّا أَنْ تُنْصِفَهَا،
وَإِمَّا أَنْ تُجَهِّزَهَا إِلَى أَهْلِهَا. فَجَهَّزَهَا إِلَى أَهْلِهَا.
قَالَ الزُّبَيْرِيُّ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَفَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي
بَكْرٍ لَيْلَى بِنْتَ الْجُودِيِّ حِينَ فَتَحَ دِمَشْقَ، وَكَانَتِ ابْنةَ
مَلِكِ دِمَشْقَ. يَعْنِي ابْنَةَ مَلِكِ الْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ حَوْلَ
دِمَشْقَ فِي زَمَنِ الرُّومِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ
ابْنُ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَصْغَرَ مِنْ
أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بِسَنَةٍ. وَأُمُّهُمَا أُمُّ الْفَضْلِ لُبَابَةُ بِنْتُ
الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ. وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ كَرِيمًا جَمِيلًا
وَسِيمًا، يُشْبِهُ أَبَاهُ فِي الْجَمَالِ.
رُوِّينَا
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصِفُ عَبْدَ
اللَّهِ وَعُبَيْدَ اللَّهِ وَكَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُ: " مَنْ سَبَقَ إِلَيَّ
فَلَهُ كَذَا ". فَيَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ فَيَقَعُونَ عَلَى ظَهْرِهِ
وَصَدْرِهِ فَيُقَبِّلُهُمْ وَيَلْتَزِمُهُمْ.
وَقَدِ اسْتَنَابَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ عَلَى
الْيَمَنِ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَسَنَةَ سَبْعٍ
وَثَلَاثِينَ، فَلَمَّا كَانَ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ اخْتَلَفَ هُوَ
وَيَزِيدُ بْنُ شَجَرَةَ الرَّهَاوِيُّ الَّذِي قَدِمَ عَلَى الْحَجِّ مِنْ جِهَةِ
مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ الْحَجَبِيِّ،
فَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ عَامَئِذٍ، ثُمَّ لَمَّا صَارَتِ الشَّوْكَةُ
لِمُعَاوِيَةَ تَسَلَّطَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ،
فَقَتَلَ لَهُ وَلَدَيْنِ، وَجَرَتْ أُمُورٌ بِالْيَمَنِ قَدْ ذَكَرْنَا
بَعْضَهَا. وَكَانَ يَقْدُمُ هُوَ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ الْمَدِينَةَ
فَيُوسِعُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ عِلْمًا، وَيُوسِعُهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ كَرَمًا.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي مَسِيرٍ لَهُ، مَعَ مَوْلًى لَهُ عَلَى خَيْمَةِ
رَجُلٍ مِنَ الْأَعْرَابِ، فَلَمَّا رَآهُ الْأَعْرَابِيُّ أَعْظَمَهُ
وَأَجَلَّهُ، وَرَأَى حُسْنَهُ وَشَكْلَهُ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: وَيْحَكِ !
مَاذَا عِنْدَكِ لِضَيْفِنَا هَذَا ؟ فَقَالَتْ: لَيْسَ عِنْدَنَا إِلَّا هَذِهِ
الشُّوَيْهَةُ الَّتِي حَيَاةُ ابْنَتِكَ مِنْ لَبَنِهَا. فَقَالَ: إِنَّهُ لَا
بُدَّ مِنْ ذَبْحِهَا. فَقَالَتْ: أَتَقْتُلُ ابْنَتَكَ ؟ فَقَالَ: وَإِنْ.
فَأَخَذَ الشَّفْرَةَ وَالشَّاةَ، وَجَعَلَ يَذْبَحُهَا وَيَسْلُخُهَا، وَهُوَ
يَقُولُ مُرْتَجِزًا:
يَا جَارَتِي لَا تُوقِظِي الْبُنَيَّهْ
إِنْ
تُوقِظِيهَا تَنْتَحِبْ عَلَيَّهْ وَتَنْزِعِ الشَّفْرَةَ مِنْ يَدَيَّهْ
ثُمَّ هَيَّأَهَا طَعَامًا، فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْ عُبَيْدِ اللَّهِ
وَمَوْلَاهُ فَعَشَّاهُمَا، وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ قَدْ سَمِعَ مُحَاوَرَتَهُ
لِامْرَأَتِهِ فِي الشَّاةِ، فَلَمَّا أَرَادَ الِارْتِحَالَ قَالَ لِمَوْلَاهُ:
وَيْلَكَ ! مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْمَالِ ؟ فَقَالَ: مَعِي خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ
فَضَلَتْ مِنْ نَفَقَتِكَ. فَقَالَ: ادْفَعْهَا إِلَى الْأَعْرَابِيِّ. فَقَالَ:
سُبْحَانَ اللَّهِ، تُعْطِيهِ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ، وَإِنَّمَا ذَبْحَ لَكَ
شَاةً وَاحِدَةً تُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ؟ ! فَقَالَ: وَيْحَكَ ! وَاللَّهِ
لَهْوَ أَسْخَى مِنَّا وَأَجْوَدُ ; لِأَنَّا إِنَّمَا أَعْطَيْنَاهُ بَعْضَ مَا
نَمْلِكُ، وَجَادَ هُوَ عَلَيْنَا بِجَمِيعِ مَا يَمْلُكُ، وَآثَرَنَا عَلَى
مُهْجَةِ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: لِلَّهِ
دَرُّ عُبَيْدِ اللَّهِ ! مِنْ أَيِّ بَيْضَةٍ خَرَجَ ؟ ! وَمَنْ أَيِّ شَيْءٍ
دَرَجَ ؟ !
قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: تُوُفِّيَ فِي أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ. وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: بِالْيَمَنِ. وَلَهُ حَدِيثٌ
وَاحِدٌ.
قَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا هُشَيْمٌ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ،
عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَتِ الْغُمَيْصَاءُ - أَوِ الرُّمَيْصَاءُ
- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو زَوْجَهَا ;
تَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا، فَمَا كَانَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ
زَوْجُهَا، فَزَعَمَ أَنَّهَا كَاذِبَةً، وَأَنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى
زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " لَيْسَ لَكِ ذَلِكَ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ رَجُلٌ
غَيْرُهُ ". وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ
هُشَيْمٍ بِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أُمُّ
الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَحَبُّ
أَزْوَاجِهِ إِلَيْهِ، الْمُبَرَّأَةُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا، وَأُمُّهَا هِيَ أُمُّ رُومَانَ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ عُوَيْمِرٍ
الْكِنَانِيَّةُ، تُكَنَّى عَائِشَةُ بِأُمِّ عَبْدِ اللَّهِ، قِيلَ: كَنَّاهَا
بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; بِابْنِ أُخْتِهَا
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا أَسْقَطَتْ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُقْطًا، فَسَمَّاهُ عَبْدُ اللَّهِ.
وَلَمْ يَتَزَوَّجْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكْرًا
غَيْرَهَا، وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ غَيْرِهَا،
وَلَمْ يَكُنْ فِي أَزْوَاجِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْهَا، تَزَوَّجَهَا بِمَكَّةَ
بَعْدَ وَفَاةِ خَدِيجَةَ، وَقَدْ أَتَاهُ الْمَلَكُ بِهَا فِي الْمَنَامِ فِي
سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَيَقُولُ: هَذِهِ زَوْجَتُكَ.
قَالَ: " فَأَكْشِفُ عَنْكِ فَإِذَا هِيَ أَنْتِ ". فَأَقُولُ: "
إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ
يُمْضِهِ ". فَخَطَبَهَا مِنْ أَبِيهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أَوَتَحِلُّ لَكَ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: أَوَلَسْتُ أَخَاكَ ؟
قَالَ: " بَلَى، فِي الْإِسْلَامِ، وَهِيَ لِي حَلَالٌ " فَتَزَوَّجَهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَظِيَتْ عِنْدَهُ. وَقَدْ
قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي أَوَّلِ السِّيرَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ
بِسَنَتَيْنِ، وَقِيلَ: بِسَنَةٍ وَنِصْفٍ. وَقِيلَ: بِثَلَاثِ سِنِينَ. وَكَانَ
عُمْرُهَا إِذْ ذَاكَ سِتَّ سِنِينَ، ثُمَّ دَخَلَ بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ
سِنِينَ بَعْدَ بَدْرٍ فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ
فَأَحَبَّهَا. وَلَمَّا تَكَلَّمَ فِيهَا أَهْلُ الْإِفْكِ بِالزُّورِ
وَالْبُهْتَانِ غَارَ اللَّهُ لَهَا، فَأَنْزَلَ لَهَا بَرَاءَتَهَا فِي عَشْرِ
آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ تُتْلَى عَلَى تَعَاقُبِ الْأَزْمَانِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا
ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِيمَا سَلَفَ، وَشَرَحْنَا الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ
الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، وَبَسَطْنَا ذَلِكَ أَيْضًا
فِي كِتَابِ " التَّفْسِيرِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَمَقْنَعٌ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَىتَكْفِيرِ
مَنْ قَذَفَهَا بَعْدَ بَرَاءَتِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي بَقِيَّةِ أُمَّهَاتِ
الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ يَكْفُرُ مَنْ قَذَفَهُنَّ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ،
وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَكْفُرُ ; لِأَنَّ الْمَقْذُوفَةَ زَوْجَةُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا غَضِبَ
لَهَا، لِأَنَّهَا زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَهِيَ وَغَيْرُهَا مِنْهُنَّ سَوَاءٌ.
وَمِنْ خَصَائِصِهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا كَانَ لَهَا فِي الْقَسْمِ
يَوْمَانِ ; يَوْمُهَا وَيَوْمُ سَوْدَةَ حِينَ وَهَبَتْهَا ذَلِكَ تَقَرُّبًا
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ مَاتَ فِي
يَوْمِهَا وَفِي بَيْتِهَا، وَبَيْنَ سَحْرِهَا وَنَحْرِهَا، وَجَمْعَ اللَّهُ
بَيْنَ رِيقِهِ وَرِيقِهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِهِ مِنَ الدُّنْيَا،
وَأَوَّلِ سَاعَةٍ مِنَ الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ فِي بَيْتِهَا.
وَقَدْ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُصْعَبِ
بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّهُ لَيُهَوِّنُ عَلَيَّ أَنِّي رَأَيْتُ
بَيَاضَ كَفِّ عَائِشَةَ فِي الْجَنَّةِ ".. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَهَذَا فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَحَبَّةِ الْعَظِيمَةِ ; أَنَّهُ
يَرْتَاحُ لِأَنَّهُ رَأَى بَيَاضَ كَفِّهَا أَمَامَهُ فِي الْجَنَّةِ.
وَمِنْ خَصَائِصِهَا أَنَّهَا أَعْلَمُ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ هِيَ أَعْلَمُ النِّسَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ; قَالَ
الزُّهْرِيُّ: لَوْ جُمِعَ عِلْمُ عَائِشَةَ إِلَى عِلْمِ جَمِيعِ أَزْوَاجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِلْمِ جَمِيعِ النِّسَاءِ،
لَكَانَ عِلْمُ عَائِشَةَ أَفْضَلَ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ كَانَتْ
عَائِشَةُ أَفْقَهَ النَّاسِ، وَأَعْلَمَ النَّاسِ، وَأَحْسَنَ النَّاسِ رَأْيًا
فِي الْعَامَّةِ. وَقَالَ عُرْوَةُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِفِقْهٍ وَلَا
طِبٍّ وَلَا شِعْرٍ مِنْ عَائِشَةَ. وَلَمْ تَرْوِ امْرَأَةٌ وَلَا رَجُلٌ، غَيْرُ
أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ
الْأَحَادِيثِ بِقَدْرِ رِوَايَتِهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا - أَصْحَابَ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلْنَا
عَائِشَةَ، إِلَّا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَقَالَ أَبُو الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ: رَأَيْتُ مَشْيَخَةَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ
الْأَكَابِرَ يَسْأَلُونَهَا عَنِ الْفَرَائِضِ.
فَأَمَّا
مَا يَلْهَجُ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَعُلَمَاءِ الْأُصُولِ مِنْ
إِيرَادِ حَدِيثِ: " خُذُوا شَطْرَ دِينِكُمْ عَنِ الْحُمَيْرَاءِ ".
فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ، وَلَا هُوَ مُثْبَتٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أُصُولِ
الْإِسْلَامِ، وَسَأَلَتُ عَنْهُ شَيْخَنَا أَبَا الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ
فَقَالَ: لَا أَصْلَ لَهُ.
ثُمَّ لَمْ يَكُنْ فِي النِّسَاءِ أَعْلَمُ مِنْ تِلْمِيذَاتِهَا ; عَمْرَةَ
بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَحَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، وَعَائِشَةَ بِنْتِ
طَلْحَةَ، وَقَدْ تَفَرَّدَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا، بِمَسَائِلَ مِنْ بَيْنِ الصَّحَابَةِ لَمْ تُوجَدْ إِلَّا عِنْدَهَا،
وَانْفَرَدَتْ بِاخْتِيَارَاتٍ أَيْضًا، وَرَدَّتْ أَخْبَارًا بِخِلَافِهَا
بِنَوْعٍ مِنَ التَّأْوِيلِ. وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ مَسْرُوقٌ إِذَا حَدَّثَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ:
حَدَّثَتْنِي الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللَّهِ،
الْمُبَرَّأَةُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ.
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُثْمَانَ
النَّهْدِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ: " عَائِشَةُ ". قُلْتُ:
وَمِنَ الرِّجَالِ ؟ قَالَ: " أَبُوهَا ".
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " أَيْضًا، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"
كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ
بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ
فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى
سَائِرِ الطَّعَامِ ". وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِمَّنْ
ذَهَبَ إِلَى تَفْضِيلِ عَائِشَةَ عَلَى خَدِيجَةَ، بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ
دَخَلَ فِيهِ سَائِرُ النِّسَاءِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرُهُنَّ.
وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائ&