الأحد، 1 أغسطس 2021

2/24 البداية والنهاية - عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ

 

 2/24      البداية والنهاية - عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ         وَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: مَا بَلَغَ مِنْ طَمَعِكَ؟ فَقَالَ. مَا زُفَّتْ عَرُوسٌ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا رَجَوْتُ أَنْ تُزَفَّ إِلَيَّ فَكَسَحْتُ دَارِي وَنَظَّفَتْ ثِيَابِي.
وَاجْتَازَ يَوْمًا بِرَجُلٍ يَصْنَعُ طَبَقًا مِنْ قَشٍّ، فَقَالَ: زِدْ فِيهِ طَوْرًا أَوْ طَوْرَيْنِ لَعَلَّهُ يُهْدَى لَنَا فِيهِ يَوْمًا هَدِيَّةٌ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ أَشْعَبَ غَنَّى يَوْمًا لِسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَوْلَ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ:
مُغِيرِيَّةٌ كَالْبَدْرِ سُنَّةُ وَجْهِهَا مُطَهَّرَةُ الْأَثْوَابِ وَالدِّينُ وَافِرُ لَهَا حَسَبٌ زَاكٍ وَعِرْضٌ مُهَذَّبٌ
وَعَنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ مِنَ الْأَمْرِ زَاجِرُ مِنَ الْخَفِرَاتِ الْبِيضِ لَمْ تَلْقَ رِيبَةً
وَلَمْ يَسْتَمِلْهَا عَنْ تُقَى اللَّهِ شَاعِرُ
فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ: أَحْسَنْتَ، زِدْنَا. فَغَنَّاهُ:
أَلَمَّتْ بِنَا وَاللَّيْلُ دَاجٍ كَأَنَّهُ جَنَاحُ غُرَابٍ عَنْهُ قَدْ نَفَضَ الْقَطْرَا
فَقُلْتُ أَعَطَّارٌ ثَوَى فِي رِحَالِنَا وَمَا حَمَلَتْ لَيْلَى سِوَى رِيحِهَا عِطْرًا
فَقَالَ لَهُ: أَحْسَنْتَ، وَلَوْلَا أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ لَأَجْزَلْتُ لَكَ الْجَائِزَةَ، وَإِنَّكَ مِنَ الْأَمْرِ بِمَكَانٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ، وَالْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ

يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، وَقُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ، وَاسْمُهُ كُنْيَتُهُ، وَقِيلَ: اسْمُهُ زَبَّانُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
وَهُوَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ الْعُرْيَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُصَيْنِ التَّمِيمِيُّ الْمَازِنِيُّ الْبَصَرِيُّ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ، كَانَ عَلَّامَةَ زَمَانِهِ فِي اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَعِلْمِ الْقُرْآنِ، وَمِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، يُقَالُ: إِنَّهُ كَتَبَ مِلْءَ بَيْتٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَزَهَّدَ، فَأَحْرَقَهُ ثُمَّ رَاجَعَ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ سِوَى مَا كَانَ يَحْفَظُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَكَانَ قَدْ لَقِيَ خَلْقًا مِنْ أَعْرَابِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ مُقَدَّمًا أَيَّامَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَبَعْدَهُ.
وَمِنِ اخْتِيَارَاتِهِ الْغَرِيبَةِ قَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِ الْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ: إِنَّهَا لَا يُقْبَلُ فِيهَا إِلَّا أَبْيَضُ غُلَامًا كَانَ أَوْ جَارِيَةً. وَفَهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ قَالَ: وَلَوْ أُرِيدَ أَيُّ عَبْدٍ كَانَ أَوْ جَارِيَةٍ لَمَا قَيَّدَهُ بِالْغُرَّةِ، وَإِنَّمَا الْغُرَّةُ الْبَيَاضُ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: وَهَذَا غَرِيبٌ، وَلَا أَعْلَمُ هَلْ يُوَافِقُ قَوْلَ أَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ أَمْ لَا.

وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ لَا يُنْشِدُ فِيهِ بَيْتًا مِنَ الشِّعْرِ حَتَّى يَنْسَلِخَ، وَأَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِي لَهُ كُلَّ يَوْمٍ كُوزًا جَدِيدًا وَرَيْحَانًا طَرِيًّا، وَقَدْ صَحِبَهُ الْأَصْمَعِيُّ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ.
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَبْرُهُ بِالشَّامِ. وَقِيلَ: بِالْكُوفَةِ. وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ جَاوَزَهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ صَالِحِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، مَرْفُوعًا:لَأَنْ يُرَبِّي أَحَدُكُمْ بَعْدَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ جِرْوَ كَلْبٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُرَبِّيَ وَلَدًا لِصُلْبِهِ. وَهَذَا مُنْكَرٌ جِدًّا، وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ. ذَكَرَهُ مِنْ فَوَائِدِ تَمَّامٍ، عَنْ خَيْثَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَوْفٍ الْحِمْصِيِّ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السِّمْطِ، عَنْ صَالِحٍ، بِهِ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ السِّمْطِ هَذَا لَا أَعْرِفُهُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْمِيزَانِ "، وَقَالَ: رَوَى عَنْ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ حَدِيثًا مَوْضُوعًا.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا دَخَلَ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ بِلَادَ إِفْرِيقِيَّةَ، فَافْتَتَحَهَا عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ، وَقَتَلَ مَنْ كَانَ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا مِنَ الْخَوَارِجِ، وَقَتَلَ أُمَرَاءَهُمْ، وَأَصْغَرَ كُبَرَاءَهُمْ، وَأَذَلَّ أَشْرَافَهُمْ، وَأَرْغَمَ آنَافَهُمْ، وَبَدَّدَ آلَافَهُمْ، وَاسْتَبْدَلَ أَهْلُ الْبِلَادِ هُنَاكَ بِالْخَوْفِ سَلَامَةً، وَبِالْإِهَانَةِ كَرَامَةً، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَتَلَ مِنْ أُمَرَائِهِمْ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عَبَّادٍ الْخَارِجِيَّانِ. ثُمَّ لَمَّا اسْتَقَامَتْ لَهُ وَبِهِ الْأُمُورُ فِي الْبُلْدَانِ دَخَلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِلَادَ الْقَيْرَوَانِ، فَمَهَّدَهَا وَأَطَّدَهَا، وَأَقَرَّ أَهْلَهَا، وَقَرَّرَ أُمُورَهَا، وَأَزَالَ مَحْذُورَهَا.

بِنَاءُ الرَّافِقَةِ الْمَدِينَةِ الْمَشْهُورَةِ
وَفِيهَا أَمَرَ الْمَنْصُورُ وَلَدَهُ الْمَهْدِيَّ بِبِنَاءِ الرَّافِقَةِ عَلَى مِنْوَالِ بِنَاءِ بَغْدَادَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ هَذِهِ السَّنَةَ الْمُبَارَكَةَ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْمَنْصُورُ بِبِنَاءِ سُورٍ، وَعَمَلِ خَنْدَقٍ حَوْلَ الْكُوفَةِ، وَأَخَذَ مَا غَرِمَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِهَا; مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ ذَوِي الْيَسَارِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا. وَكَانَ قَدْ فَرَضَهَا أَوَّلًا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَجُبِيَتْ أَرْبَعِينَ أَرْبَعِينَ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُهُمْ:

يَا لَقَوْمِي مَا لَقِينَا مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَا قَسَمَ الْخَمْسَةَ فِينَا
وَجَبَانَا الْأَرْبَعِينَا
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ يَزِيدُ بْنُ أَسَدٍ السُّلَمِيُّ.
وَفِيهَا طَلَبَ مَلِكُ الرُّومِ الصُّلْحَ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَلَى أَنْ يَحْمِلَ إِلَى الْمَنْصُورِ الْجِزْيَةَ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمَنْصُورُ أَخَاهُ الْعَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنِ الْجَزِيرَةِ، وَغَرَّمَهُ أَمْوَالًا كَثِيرَةً.
وَفِيهَا عَزَلَ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ إِمْرَةِ الْكُوفَةِ، فَقِيلَ: لِأُمُورٍ بَلَغَتْهُ عَنْهُ فِي تَعَاطِي مُنْكِرَاتٍ وَأُمُورٍ لَا تَلِيقُ بِالْعُمَّالِ. وَقِيلَ: لِقَتْلِهِ عَبْدَ الْكَرِيمِ بْنَ أَبِي الْعَوْجَاءِ. وَقَدْ كَانَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ هَذَا زِنْدِيقًا، يُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِوَضْعِ أَرْبَعَةِ آلَافِ حَدِيثٍ يُحِلُّ فِيهَا الْحَرَامَ، وَيُحَرِّمُ فِيهَا الْحَلَالَ، وَيُصَوِّمُ النَّاسَ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيُفَطِّرُهُمْ فِي أَيَّامِ الصِّيَامِ، فَأَرَادَ الْمَنْصُورُ أَنْ يَجْعَلَ قَتْلَهُ لَهُ ذَنْبًا، فَعَزَلَهُ بِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يُقِيدَهُ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَعْزِلْهُ بِهَذَا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا قَتَلَهُ عَلَى الزَّنْدَقَةِ، وَمَتَّى عَزَلْتَهُ بِهَذَا شَكَرَتْهُ الْعَامَّةُ وَذَمُّوكَ. فَتَرَكَهُ حِينًا، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنِ الْكُوفَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا عَمْرَو بْنَ زُهَيْرٍ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمَنْصُورُ عَنِ الْمَدِينَةِ الْحَسَنَ بْنَ زَيْدٍ، وَوَلَّى عَلَيْهَا عَمَّهُ عَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ عَلِيٍّ، وَجَعَلَ مَعَهُ فُلَيْحَ بْنَ سُلَيْمَانَ مُشْرِفًا عَلَيْهِ.

وَعَلَى إِمْرَةِ مَكَّةَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى الْكُوفَةِ عَمْرُو بْنُ زُهَيْرٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ الْهَيْثَمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَعَلَى مِصْرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلَى إِفْرِيقِيَّةَ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ الدِّمَشْقِيَّانِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ، وَمِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ.
وَحَمَّادٌ الرَّاوِيَةُ
، وَهُوَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى مَيْسَرَةُ - وَيُقَالُ: سَابُورُ - بْنِ الْمُبَارَكِ بْنِ عُبَيْدٍ الدَّيْلِمِيُّ الْكُوفِيُّ، مَوْلَى مُكْنِفِ بْنِ زَيْدِ الْخَيْلِ الطَّائِيِّ، كَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِأَيَّامِ الْعَرَبِ وَأَخْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَلُغَاتِهَا، وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ السَّبْعَ الْمُعَلَّقَاتِ الطِّوَالَ، وَإِنَّمَا سُمِّي الرَّاوِيَةَ; لِكَثْرَةِ رِوَايَتِهِ الشِّعْرَ عَنِ الْعَرَبِ، اخْتَبَرَهُ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنْشَدَهُمْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ قَصِيدَةً عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، كُلُّ قَصِيدَةٍ نَحْوٌ مَنْ مِائَةِ بَيْتٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى شَاعِرٌ مِنْ شُعَرَاءِ الْعَرَبِ إِلَّا أَنْشَدَ لَهُ مَا لَا

يَحْفَظُهُ غَيْرُهُ، فَأَطْلَقَ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَرِيرِيُّ فِي كِتَابِهِ " دُرَّةِ الْغَوَّاصِ "، أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ اسْتَدْعَاهُ مِنَ الْعِرَاقِ مِنْ نَائِبِهِ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ إِذَا هُوَ فِي دَارٍ قَوْرَاءَ مُرَخَّمَةٍ بِالرُّخَامِ وَالذَّهَبِ، وَإِذَا عِنْدَهُ جَارِيَتَانِ حَسْنَاوَانِ جِدًّا، فَاسْتَنْشَدَهُ شَيْئًا فَأَنْشَدَهُ، فَقَالَ لَهُ: سَلْ حَاجَتَكَ. فَقَالَ: كَائِنَةً مَا كَانَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تُطْلِقُ لِي إِحْدَى هَاتَيْنِ الْجَارِيَتَيْنِ. فَقَالَ: هُمَا لَكَ وَمَا عَلَيْهِمَا. وَأَخْلَاهُ فِي بَعْضِ دَارِهِ، وَأَطْلَقَ لَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ. هَذَا مُلَخَّصُ الْحِكَايَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْخَلِيفَةَ إِنَّمَا هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ، فَإِنَّهُ ذُكِرَ أَنَّهُ شَرِبَ مَعَهُ، وَهِشَامٌ لَمْ يَكُنْ يَشْرَبُ، وَلَمْ يَكُنْ نَائِبَهُ عَلَى الْعِرَاقِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ، وَإِنَّمَا كَانَ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ، وَبَعْدَهُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ. وَكَانَتْ وَفَاةُ حَمَّادٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتِّينَ سَنَةً.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ وَقِيلَ: إِنَّهُ أَدْرَكَ أَوَّلَ خِلَافَةِ الْمَهْدِيِّ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا قُتِلَ حَمَّادُ عَجْرَدٍ عَلَى الزَّنْدَقَةِ، وَهُوَ حَمَّادُ بْنُ عُمَرَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ كُلَيْبٍ الْكُوفِيُّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ وَاسِطِيٌّ. مَوْلَى بَنِي سُوَاءَةَ، وَكَانَ شَاعِرًا مَاجِنًا ظَرِيفًا خَلِيعًا، لَكِنَّهُ كَانَ مُتَّهَمًا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقَدْ أَدْرَكَ الدَّوْلَتَيْنِ الْأُمَوِيَّةَ

وَالْعَبَّاسِيَّةَ، وَلَكِنَّهُ مَا اشْتُهِرَ إِلَّا فِي أَيَّامِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَشَّارِ بْنِ بُرْدٍ مُهَاجَاةٌ كَثِيرَةٌ، وَلَمَّا قُتِلَ بِشَّارٌ عَلَى الزَّنْدَقَةِ أَيْضًا، دُفِنَ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ حَمَّادَ عَجْرَدٍ مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا ظَفِرَ الْهَيْثَمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ نَائِبُ الْمَنْصُورِ بِعَمْرِو بْنِ شَدَّادٍ الَّذِي كَانَ عَامِلًا لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى فَارِسَ، فَقُتِلَ بِالْبَصْرَةِ; قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ، وَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، ثُمَّ صُلِبَ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمَنْصُورُ الْهَيْثَمَ بْنَ مُعَاوِيَةَ عَنِ الْبَصْرَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا قَاضِيَهَا سَوَّارَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالصَّلَاةِ، وَجَعَلَ عَلَى شُرْطَتِهَا وَأَحْدَاثِهَا سَعِيدَ بْنَ دَعْلَجٍ، وَرَجَعَ الْهَيْثَمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ إِلَى بَغْدَادَ، فَمَاتَ فِيهَا فَجْأَةً فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ عَلَى بَطْنِ جَارِيَةٍ لَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ الْمَنْصُورُ، وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ بَنِي هَاشِمٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخُو أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَنُوَّابُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَعَلَى فَارِسَ وَالْأَهْوَازِ وَكُوَرِ دِجْلَةَ عُمَارَةُ بْنُ حَمْزَةَ، وَعَلَى كَرْمَانَ وَالسِّنْدِ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَمْزَةُ الزَّيَّاتُ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْقُرَّاءِ الْمَشْهُورِينَ وَالْعُبَّادِ

الْمَذْكُورِينَ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْمُدُودُ الطَّوِيلَةُ فِي الْقِرَاءَةِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بِسَبَبِهَا بَعْضُ الْأَئِمَّةِ. وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ السُّنَنَ، فِي قَوْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَوْذَبٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ الْإِفْرِيقِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ ذَرٍّ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا بَنَى الْمَنْصُورُ قَصْرَهُ الْمُسَمَّى بِالْخُلْدِ فِي بَغْدَادَ، وَكَانَ الْمُسْتَحِثَّ فِي عِمَارَتِهِ أَبَانُ بْنُ صَدَقَةَ، وَالرَّبِيعُ مَوْلَى الْمَنْصُورِ.
وَفِيهَا حَوَّلَ الْمَنْصُورُ الْأَسْوَاقَ مِنْ قُرْبِ دَارِ الْإِمَارَةِ إِلَى بَابِ الْكَرْخِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ سَبَبَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا أَمَرَ بِتَوْسِعَةِ الطُّرُقَاتِ.
وَفِيهَا أَمَرَ بِعَمَلِ جِسْرٍ عِنْدَ بَابِ الشَّعِيرِ.
وَفِيهَا اسْتَعْرَضَ الْمَنْصُورُ جُنْدَهُ وَهُمْ مُلْبَسُونَ السِّلَاحَ، وَهُوَ أَيْضًا لَابِسٌ سِلَاحًا عَظِيمًا، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ دِجْلَةَ.
وَفِيهَا عَزَلَ عَنِ السِّنْدِ هِشَامَ بْنَ عَمْرٍو، وَوَلَّى عَلَيْهَا مَعْبَدَ بْنَ الْخَلِيلِ.
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ يَزِيدُ بْنُ أَسِيدٍ السُّلَمِيُّ، فَأَوْغَلَ فِي بِلَادِ الرُّومِ، وَبَعَثَ سِنَانًا مَوْلَى الْبَطَّالِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَفَتَحَ بَعْضَ الْحُصُونِ وَسَبَى وَغَنِمَ.

وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَنُوَّابُ الْبِلَادِ فِيهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، وَالْإِمَامُ أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ، فَقِيهُ أَهْلِ الشَّامِ، وَقَدْ بَقِيَ أَهْلُ الشَّامِ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْبِلَادِ عَلَى مَذْهَبِهِ نَحْوًا مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ.

وَهَذَا ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ تَرْجَمَةِ الْأَوْزَاعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرِو بْنِ يَحْمَدَ أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ. وَالْأَوْزَاعُ بَطْنٌ مِنْ حِمْيَرَ، وَهُوَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا نَزَلَ فِي مَحَلَّةِ الْأَوْزَاعِ، وَكَانَتْ قَرْيَةً خَارِجَ بَابِ

الْفَرَادِيسِ مِنْ دِمَشْقَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو السَّيْبَانِيِّ. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: وَأَصْلُهُ مِنْ سِبَاءِ السِّنْدِ فَنَزَلَ الْأَوْزَاعَ، فَغَلَبَ عَلَيْهِ النِّسْبَةُ إِلَيْهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: وُلِدَ بِبَعْلَبَكَّ، وَنَشَأَ بِالْبِقَاعِ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أُمِّهِ، وَكَانَتْ تَنْتَقِلُ بِهِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَتَأَدَّبَ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ وَالْوُزَرَاءِ أَعْقَلُ مِنْهُ، وَلَا أَوْرَعُ، وَلَا أَعْلَمُ، وَلَا أَفْصَحُ، وَلَا أَوْقَرُ، وَلَا أَحْلُمُ، وَلَا أَكْثَرُ صَمْتًا مِنْهُ، وَمَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ إِلَّا كَانَ الْمُتَعَيَّنَ عَلَى مَنْ يُجَالِسُهُ أَنْ يَكْتُبَهَا; مِنْ حُسْنِهَا، وَكَانَ يُعَانِي الرَّسَائِلَ وَالْكِتَابَةَ.
وَقَدِ اكْتُتِبَ فِي بَعْثٍ إِلَى الْيَمَامَةِ، فَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَانْقَطَعَ إِلَيْهِ، فَأَرْشَدَهُ إِلَى الرِّحْلَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ لِيَسْمَعَ مِنَ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، فَسَارَ إِلَيْهَا فَوَجَدَ الْحَسَنَ قَدْ تُوُفِّيَ مِنْ شَهْرَيْنِ، وَوَجَدَ ابْنَ سِيرِينَ مَرِيضًا، فَجَعَلَ يَتَرَدَّدُ لِعِيَادَتِهِ، فَقَوِيَ الْمَرَضُ بِهِ، وَمَاتَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ الْأَوْزَاعِيُّ شَيْئًا، وَجَاءَ فَنَزَلَ دِمَشْقَ بِمَحَلَّةِ الْأَوْزَاعِ خَارِجَ بَابِ الْفَرَادِيسِ، وَسَادَ أَهْلَهَا فِي زَمَانِهِ وَسَائِرَ الْبِلَادِ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْمَغَازِي وَعُلُومِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ أَدْرَكَ خَلْقًا مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَاتٌ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِهِ.
وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَدَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ; قَالَ

مَالِكٌ: كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ: كَانَ إِمَامَ أَهْلِ زَمَانِهِ.
وَقَدْ حَجَّ مَرَّةً، فَدَخَلَ مَكَّةَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ آخِذٌ بِزِمَامِ جَمَلِهِ، وَمَالِكٌ يَسُوقُ بِهِ، وَالثَّوْرِيُّ يَقُولُ: افْسَحُوا لِلشَّيْخِ.
وَقَدْ تَذَاكَرَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الظُّهْرِ حَتَّى صَلَّيَا الْعَصْرَ، وَمِنَ الْعَصْرِ حَتَّى صَلَّيَا الْمَغْرِبَ، فَغَمَرَهُ الْأَوْزَاعِيُّ فِي الْمَغَازِي، وَغَمَرَهُ مَالِكٌ فِي الْفِقْهِ.
وَتَنَاظَرَ هُوَ وَالثَّوْرِيُّ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ فِي مَسْأَلَةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، فَاحْتَجَّ الْأَوْزَاعِيُّ بِمَا رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَاحْتَجَّ الثَّوْرِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، فَغَضِبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَقَالَ: أَتُعَارِضُ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ بِحَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ وَهُوَ رَجُلٌ ضَعِيفٌ؟! فَاحْمَارَّ وَجْهُ الثَّوْرِيِّ، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَعَلَّكَ كَرِهْتَ مَا قُلْتُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَقُمْ بِنَا حَتَّى نَلْتَعِنَ عِنْدَ الرُّكْنِ أَيُّنَا عَلَى الْحَقِّ. فَسَكَتَ الثَّوْرِيُّ.

وَقَالَ هِقْلُ بْنُ زِيَادٍ: أَفْتَى الْأَوْزَاعِيُّ فِي سَبْعِينَ أَلْفَ مَسْأَلَةٍ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: رُوِيَ عَنْهُ سِتُّونَ أَلْفَ مَسْأَلَةٍ.
وَقَالَ غَيْرُهُمَا: أَفْتَى فِي سَنَةٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُفْتِي حَتَّى مَاتَ.
وَقَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ عَنْ مَالِكٍ: اجْتَمَعَ عِنْدِي الْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. فَقُلْتُ: أَيُّهُمْ أَرْجَحُ؟ قَالَ: الْأَوْزَاعِيُّ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَنْصَحَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَوْزَاعِيِّ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: مَا رُئِيَ الْأَوْزَاعِيُّ ضَاحِكًا مُقَهْقِهًا قَطُّ، وَلَقَدْ كَانَ يَعِظُ النَّاسَ فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي مَجْلِسِهِ إِلَّا بَكَى بِعَيْنِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ، وَمَا رَأَيْنَاهُ يَبْكِي فِي مَجْلِسِهِ قَطُّ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: الْعُلَمَاءُ أَرْبَعَةٌ; الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالُكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ.

وَالْأَوْزَاعِيُّ ثِقَةٌ، وَلَيْسَ هُوَ فِي الزُّهْرِيِّ بِذَاكَ. أَخَذَ كِتَابَ الزُّبَيْدِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَمَا أَقَلَّ مَا رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَانَ ثِقَةً مُتَّبِعًا لِمَا سَمِعَ. قَالُوا: وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا يَلْحَنُ فِي كَلَامِهِ، وَكَانَتْ كُتُبُهُ تَرِدُ عَلَى الْمَنْصُورِ، فَيَنْظُرُ فِيهَا وَيَتَأَمَّلُهَا، وَيَتَعَجَّبُ مِنْ فَصَاحَتِهَا وَحَلَاوَتِهَا، فَقَالَ يَوْمًا لِأَحْظَى كُتَّابِهِ عِنْدَهُ وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُجَالِدٍ: يَنْبَغِي أَنْ تُجِيبَ الْأَوْزَاعِيَّ عَنْ كُتُبِهِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّا لَنَسْتَعِينُ بِكَلَامِهِ فِيمَا نُكَاتِبُ بِهِ أَهْلَ الْآفَاقِ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ كَلَامَ الْأَوْزَاعِيِّ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ جَلَسَ يَذْكُرُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَأْثُرُ عَنِ السَّلَفِ ذَلِكَ. قَالَ: ثُمَّ يَقُومُونَ فَيَتَذَاكَرُونَ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ.
وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَبَّ الْعِزَّةِ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَقُلْتُ: بِفَضْلِكَ يَا رَبِّ. قُلْتُ: يَا رَبِّ أَمِتْنِي عَلَى الْإِسْلَامِ. فَقَالَ: وَعَلَى السُّنَّةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ شَابُورَ: قَالَ لِي شَيْخٌ بِجَامِعِ دِمَشْقَ: أَنَا مَيِّتٌ

فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ رَأَيْتُهُ فِي صَحْنِ الْجَامِعِ يَتَفَلَّى، فَقَالَ لِي: اذْهَبْ إِلَى سَرِيرِ الْمَوْتَى فَأَحْرِزْهُ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ أَنْ تُسْبَقَ إِلَيْهِ. فَقُلْتُ: مَا تَقُولُ؟! فَقَالَ: هُوَ مَا أَقُولُ لَكَ; إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: فَلَانٌ قَدَرِيٌّ، وَفُلَانٌ كَذَا، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ نِعْمَ الرَّجُلُ، وَأَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ خَيْرُ مِنْ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَأَنْتَ مَيِّتٌ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ: فَمَا جَاءَ الظُّهْرُ حَتَّى مَاتَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَهَا، وَأُخْرِجَتْ جِنَازَتُهُ. رَوَاهَا ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، حَسَنَ الصَّلَاةِ، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ أَطَالَ الْقِيَامَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ طُولَ الْقِيَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا [ الْإِنْسَانِ: 26، 27 ].
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنَ الْأَوْزَاعِيِّ فِي الْعِبَادَةِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: حَجَّ فَمَا نَامَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، إِنَّمَا هُوَ فِي صَلَاةٍ، فَإِذَا نَعَسَ اسْتَنَدَ إِلَى الْقَتْبِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ مِنْ شِدَّةِ الْخُشُوعِ كَأَنَّهُ أَعْمَى.
وَدَخَلَتِ امْرَأَةٌ عَلَى امْرَأَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، فَرَأَتِ الْحَصِيرَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ مَبْلُولًا،

فَقَالَتْ لَهَا: لَعَلَّ الصَّبِيَّ بَالَ هَاهُنَا. فَقَالَتْ: لَا، هَذَا مِنْ أَثَرِ دُمُوعِ الشَّيْخِ فِي سُجُودِهِ، وَهَكَذَا يُصْبِحُ كُلَّ يَوْمٍ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: عَلَيْكَ بِآثَارِ مَنْ سَلَفَ وَإِنْ رَفَضَكَ النَّاسُ، وَإِيَّاكَ وَرَأْيَ الرِّجَالِ وَإِنْ زَخْرَفُوهُ بِالْقَوْلِ; فَإِنَّ الْأَمْرَ يَنْجَلِي وَأَنْتَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَقَالَ أَيْضًا: اصْبِرْ عَلَى السُّنَّةِ، وَقِفْ حَيْثُ وَقَفَ الْقَوْمُ، وَقُلْ مَا قَالُوا، وَكُفَّ عَمَّا كَفُّوا، وَلْيَسَعْكَ مَا وَسِعَهُمْ.
وَكَانَ يَقُولُ: الْعِلْمُ مَا جَاءَ عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، وَمَا لَمْ يَجِئْ عَنْهُمْ فَلَيْسَ بِعِلْمٍ.
وَكَانَ يَقُولُ: لَا يَجْتَمِعُ حُبُّ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ إِلَّا فِي قَلْبٍ مُؤْمِنٍ. وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ شَرًّا فَتَحَ عَلَيْهِمْ بَابَ الْجَدَلِ وَسَدَّ عَنْهُمْ بَابَ الْعَمَلِ.
قَالُوا: وَقَدْ كَانَ مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ وَأَسْخَاهُمْ، وَكَانَ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْخُلَفَاءِ إِقْطَاعٌ، فَصَارَ إِلَيْهِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَبَنِي الْعَبَّاسِ نَحْوٌ مَنْ سَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمْ يَقْتَنِ مِنْهَا شَيْئًا، وَلَا تَرَكَ يَوْمَ مَاتَ سِوَى سَبْعَةِ دَنَانِيرَ، كَانَ يُنْفِقُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي الْفُقَرَاءِ.

وَلَمَّا دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ دِمَشْقَ، وَسُلِبَ الْمُلْكُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ تَطَلَّبَ الْأَوْزَاعِيَّ، فَتَغَيَّبَ عَنْهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ وَفِي يَدِهِ خَيْزُرَانَةٌ، وَالْمُسَوِّدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، مَعَهُمُ السُّيُوفُ مُصْلَتَةٌ وَالْعُمُدُ الْحَدِيدُ، فَسَلَّمْتُ فَلَمْ يَرُدَّ، وَنَكَتَ بِتِلْكَ الْخَيْزُرَانَةِ الَّتِي فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَوْزَاعِيُّ، مَا تَرَى فِيمَا صَنَعْنَا مِنْ إِزَالَةِ أَيْدِي أُولَئِكَ الظَّلَمَةِ أَرِبَاطٌ هُوَ ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِىَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ. قَالَ: فَنَكَتَ بِالْخَيْزُرَانَةِ أَشَدَّ مِمَّا كَانَ يَنْكُتُ، وَجَعَلَ مَنْ حَوْلَهُ يَعَضُّونَ أَيْدِيَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَوِزَاعِيُّ، مَا تَقُولُ فِي دِمَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ؟ فَقُلْتُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ; النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ. فَنَكَتَ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: مَا تَقُولُ فِي أَمْوَالِهِمْ؟ فَقُلْتُ: إِنْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمْ حَرَامًا فَهِيَ حَرَامٌ عَلَيْكَ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ حَلَالًا فَلَا تَحِلُّ لَكَ إِلَّا بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ. فَنَكَتَ أَشَدَّ مِمَّا كَانَ يَنْكُتُ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا نُوَلِّيكَ الْقَضَاءَ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ أَسْلَافَكَ لَمْ يَكُونُوا

يَشُقُّونَ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَتِمَّ مَا ابْتَدَءُونِي بِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ. فَقَالَ: كَأَنَّكَ تُحِبُّ الِانْصِرَافَ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ وَرَائِي حُرَمًا، وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى الْقِيَامِ عَلَيْهِمْ وَسَتْرِهِمْ. قَالَ: وَانْتَظَرْتُ رَأْسِي أَنْ يَسْقُطَ بَيْنَ يَدَيَّ، فَأَمَرَنِي بِالِانْصِرَافِ، فَلَمَّا خَرَجْتُ إِذَا رَسُولُهُ مِنْ وَرَائِي، وَإِذَا مَعَهُ مِائَتَا دِينَارٍ، فَقَالَ: يَقُولُ لَكَ الْأَمِيرُ: أَنْفِقْ هَذِهِ. قَالَ: فَتَصَدَّقْتُ بِهَا.
وَكَانَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ صَائِمًا طَاوِيًا، فَيُقَالُ: إِنَّ الْأَمِيرَ لَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ عَرَضَ عَلَيْهِ الْإِفْطَارَ عِنْدَهُ، فَأَبَى أَنْ يُفْطِرَ عِنْدَهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالُوا: ثُمَّ رَحَلَ الْأَوْزَاعِيُّ مِنْ دِمَشْقَ، فَنَزَلَ بَيْرُوتَ مُرَابِطًا بِأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ. قَالَ: وَأَعْجَبَنِي فِيهَا أَنِّي مَرَرْتُ بِقُبُورِهَا، فَإِذَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، فَقُلْتُ لَهَا: أَيْنَ الْعِمَارَةُ يَا هَنْتَاهُ ؟ فَقَالَتْ: إِنْ أَرَدْتَ الْعِمَارَةَ فَهِيَ هَذِهِ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْخَرَابَ فَأَمَامَكَ. وَأَشَارَتْ إِلَى الْبَلَدِ، فَعَزَمْتُ عَلَى الْإِقَامَةِ بِهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ: سَمِعْتُ الْأَوْزَاعِيَّ يَقُولُ: خَرَجْتُ يَوْمًا إِلَى الصَّحْرَاءِ، فَإِذَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ فِي السَّمَاءِ، وَإِذَا شَخْصٌ رَاكِبٌ عَلَى جَرَادَةٍ مِنْهَا وَعَلَيْهِ سِلَاحُ الْحَدِيدِ، وَكُلَّمَا قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا مَالَ الْجَرَادُ مَعَ يَدِهِ وَهُوَ

يَقُولُ: الدُّنْيَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ مَا فِيهَا، الدُّنْيَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ مَا فِيهَا، الدُّنْيَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ مَا فِيهَا.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ يَخْرُجُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ إِلَى الصَّيْدِ وَلَا يَنْتَظِرُ الْجُمْعَةَ، فَخُسِفَ بِبَغْلَتِهِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا أُذُنُهَا.
وَخَرَجَ الْأَوْزَاعِيُّ يَوْمًا مِنْ بَابِ مَسْجِدِ بَيْرُوتَ، وَهُنَاكَ دُكَّانٌ فِيهِ نَاطِفٌ، وَإِلَى جَانِبِهِ رَجُلٌ يَبِيعُ الْبَصَلَ وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَحْلَى مِنَ النَّاطِفِ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا يَرَى هَذَا بِالْكَذِبِ بَأْسًا ؟.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كُنَّا قَبْلَ الْيَوْمِ نَضْحَكُ وَنَلْعَبُ، أَمَّا إِذْ صِرْنَا أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِنَا فَيَنْبَغِي أَنْ نَتَحَفَّطَ.
وَكَتَبَ إِلَى أَخٍ لَهُ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ أُحِيطَ بِكَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَإِنَّهُ يُسَارُ بِكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَاحْذَرِ اللَّهَ وَالْقِيَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِكَ بِهِ، وَالسَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ، سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ كَاتِبَ

اللَّيْثِ يَذْكُرُ عَنِ الْهِقْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، أَنَّهُ وَعَظَ فَقَالَ فِي مَوْعِظَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، تَقَوَّوْا بِهَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي أَصْبَحْتُمْ فِيهَا عَلَى الْهَرَبِ مِنْ نَارِ اللَّهِ الْمُوقَدَةِ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ، فَإِنَّكُمْ فِي دَارٍ الثَّوَاءُ فِيهَا قَلِيلٌ، وَأَنْتُمْ فِيهَا مُرَحَّلُونَ، خَلَائِفُ بَعْدَ الْقُرُونِ الَّتِي اسْتَقْبَلُوا مِنَ الدُّنْيَا أُنُفَهَا وَزَهْرَتَهَا، فَهُمْ كَانُوا أَطْوَلَ مِنْكُمْ أَعْمَارًا وَأَمَدَّ أَجْسَامًا، وَأَعْظَمَ آثَارًا، فَخَدَّدُوا الْجِبَالَ وَجَابُوا الصُّخُورَ، وَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ، مُؤَيَّدِينَ بِبَطْشٍ شَدِيدٍ، وَأَجْسَادٍ كَالْعِمَادِ، فَمَا لَبِثَتِ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي أَنْ طَوَتْ مُدَّتَهُمْ وَعَفَتْ آثَارَهُمْ، وَأَخْرَبَتْ مَنَازِلَهُمْ، وَأَنْسَتْ ذِكْرَهُمْ، فَمَا تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ وَلَا تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا، كَانُوا بِلَهْوِ الْأَمَلِ آمِنِينَ، وَلِمِيقَاتِ يَوْمٍ غَافِلِينَ، أَوْ لِصَبَاحِ قَوْمٍ نَادِمِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِي نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ بَيَانًا مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ، فَأَصْبَحَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ، وَأَصْبَحَ الْبَاقُونَ يَنْظُرُونَ فِي آثَارِ نِقَمِهِ، وَزَوَالِ نِعَمِهِ، وَمَسَاكِنَ خَاوِيَةٍ، وَفِيهَا آيَةٌ لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، وَعِبْرَةٌ لِمَنْ يَخْشَى، وَأَصْبَحْتُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ فِي أَجَلٍ مَنْقُوصٍ، وَدُنْيَا مَقْبُوضَةٍ، فِي زَمَانٍ قَدْ وَلَّى عَفْوُهُ، وَذَهَبَ رَخَاؤُهُ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا حُمَةُ شَرٍّ، وَصُبَابَةُ كَدَرٍ، وَأَهَاوِيلُ غِيَرٍ، وَعُقُوبَاتُ عِبَرٍ، وَإِرْسَالُ فِتَنٍ، وَتَتَابُعُ زَلَازِلَ، وَرُذَالَةُ خَلْفٍ، بِهِمْ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَلَا تَكُونُوا أَشْبَاهًا لِمَنْ

خَدَعَهُ الْأَمَلُ، وَغَرَّهُ طُولُ الْأَجَلِ، وَتَبَلَّغَ بِالْأَمَانِي، نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ وَعَى نُذُرَهُ وَانْتَهَى، وَعَقَلَ مَثْوَاهُ فَمَهَدَ لِنَفْسِهِ.
وَقَدِ اجْتَمَعَ الْأَوْزَاعِيُّ بِالْمَنْصُورِ حِينَ دَخَلَ الشَّامَ وَوَعَظَهُ، وَأَحَبَّهُ الْمَنْصُورُ وَعَظَّمَهُ، وَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ اسْتَأْذَنَهُ فِي أَنْ لَا يَلْبَسَ السَّوَادَ فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ الْمَنْصُورُ لِلرَّبِيعِ الْحَاجِبِ: الْحَقْهُ فَسَلْهُ لِمَ كَرِهَ لُبْسَ السَّوَادِ؟ وَلَا تُخْبِرْهُ أَنِّي قُلْتُ لَكَ. فَسَأَلَهُ الرَّبِيعُ فَقَالَ: لِأَنِّي لَمْ أَرَ مُحْرِمًا أَحْرَمَ فِيهِ، وَلَا مَيِّتًا كُفِّنَ فِيهِ، وَلَا عَرُوسًا جُلِيَتْ فِيهِ، فَلِهَذَا أَكْرَهُهُ.
وَقَدْ كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي الشَّامِ مُعَظَّمًا مُكَرَّمًا، أَمْرُهُ أَعَزُّ عِنْدَهُمْ مِنْ أَمْرِ السُّلْطَانِ، وَهَمَّ بِهِ بَعْضُ الْوُلَاةِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: دَعْهُ عَنْكَ فَوَاللَّهِ لَوْ أَمَرَ الشَّامِيِّينَ أَنْ يَقْتُلُوكَ لَقَتَلُوكَ.
وَلَمَّا مَاتَ جَلَسَ عِنْدَ قَبْرِهِ بَعْضُ الْوُلَاةِ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُ مِنْكَ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَافُ مِنَ الَّذِي وَلَّانِي. وَقَدْ قَالَ أَبُو مُسْهِرٍ: مَا مَاتَ الْأَوْزَاعِيُّ حَتَّى جَلَسَ وَحْدَهُ، وَسَمِعَ شَتْمَهُ بِأُذُنِهِ.
وَقَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا

عِنْدَ الثَّوْرِيِّ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: رَأَيْتُ كَأَنَّ رَيْحَانَةً مِنَ الْمَغْرِبِ قُلِعَتْ. قَالَ: إِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاكَ فَقَدْ مَاتَ الْأَوْزَاعِيُّ. فَكَتَبُوا ذَلِكَ، فَجَاءَ مَوْتُ الْأَوْزَاعِيِّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ.
وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ: بَلَغَنَا أَنَّ سَبَبَ مَوْتِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّ امْرَأَتَهُ أَغْلَقَتْ عَلَيْهِ بَابَ حَمَّامٍ، فَمَاتَ فِيهِ، وَلَمْ تَكُنْ عَامِدَةً لِذَلِكَ، فَأَمَرَهَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ. قَالَ: وَمَا خَلَّفَ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً وَلَا عَقَارًا وَلَا مَتَاعًا، إِلَّا سِتَّةَ دَنَانِيرَ فَضَلَتْ مِنْ عَطَائِهِ. وَكَانَ قَدِ اكْتُتِبَ فِي دِيوَانِ السَّاحِلِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ الَّذِي أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَ الْحَمَّامِ صَاحِبُ الْحَمَّامِ، وَذَهَبَ إِلَى حَاجَةٍ، ثُمَّ جَاءَ فَفَتَحَ الْحَمَّامَ، فَوَجَدَهُ مَيِّتًا قَدْ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قُلْتُ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ مَاتَ بِبَيْرُوتَ مُرَابِطًا، وَاخْتَلَفُوا فِي سَنَةِ وَفَاتِهِ; فَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ يَحْيَى: رَأَيْتُ الْأَوْزَاعِيَّ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ.

وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ الْبَيْرُوتِيُّ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَحَدِ، أَوَّلَ النَّهَارِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ صَفَرٍ، سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ. وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْهِرٍ، وَهِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ - فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ - وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَدُحَيْمٍ، وَخَلِيفَةَ بْنِ خَيَّاطٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِ وَاحِدٍ.
قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ: وَلَمْ يَبْلُغْ سَبْعِينَ سَنَةً.
قُلْتُ: وَقَالَ غَيْرُهُ: جَاوَزَ السَّبْعِينَ. وَالصَّحِيحُ تِسْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً; لِأَنَّهُ كَانَ مِيلَادُهُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ.
وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى اللَّهِ. فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ فِي الْجَنَّةِ دَرَجَةً أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ الْمَحْزُونِينَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا تَكَامَلَ بِنَاءُ قَصْرِ الْمَنْصُورِ الْمُسَمَّى بِالْخُلْدِ، وَسَكَنَهُ أَيَّامًا يَسِيرَةً، ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَهُ.
وَفِيهَا مَاتَ طَاغِيَةُ الرُّومِ.
وَفِيهَا وَجَّهَ الْمَنْصُورُ ابْنَهُ الْمَهْدِيَّ إِلَى الرَّقَّةِ، وَأَمَرَهُ بِعَزْلِ مُوسَى بْنِ كَعْبٍ عَنِ الْمَوْصِلِ، وَأَنْ يُوَلِّيَ عَلَيْهَا خَالِدَ بْنَ بَرْمَكَ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ نُكْتَةٍ غَرِيبَةٍ اتَّفَقَتْ لِيَحْيَى بْنِ خَالِدٍ; وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْصُورَ كَانَ قَدْ تَغَضَّبَ عَلَى خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، وَأَلْزَمَهُ بِحَمْلِ ثَلَاثَةِ آلَافِ أَلْفٍ، فَضَاقَ ذَرْعًا بِذَلِكَ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَالٌ وَلَا حَالٌ، وَعَجَزَ عَنْ أَكْثَرِ مَا طُلِبَ مِنْهُ، وَقَدْ أَجَّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَدَمُهُ هَدْرٌ، فَجَعَلَ يُرْسِلُ ابْنَهُ يَحْيَى إِلَى أَصْحَابِهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ يَسْتَقْرِضُ مِنْهُمْ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَعْطَاهُ الْمِائَةَ أَلْفٍ، وَمِنْهُمْ أَقَلَّ وَأَكْثَرَ.
قَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ: فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ تِلْكَ الْأَيَّامِ عَلَى جِسْرِ بَغْدَادَ، وَأَنَا مَهْمُومٌ فِي تَحْصِيلِ مَا طُلِبَ مَنَّا وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، إِذْ وَثَبَ إِلَيَّ زَاجِرٌ - يَعْنِي مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَكُونُونَ عِنْدَ الْجِسْرِ مِنَ الطُّرُقِيَّةِ - فَقَالَ لِي: أَبْشِرْ. فَلَمْ أَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَتَقَدَّمَ حَتَّى أَخَذَ بِلِجَامِ فَرَسِي، ثُمَّ قَالَ لِي: أَنْتَ مَهْمُومٌ، وَاللَّهِ لَيُفَرِّجَنَّ اللَّهُ

هَمَّكَ، وَلَتَمُرَّنَّ غَدًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَاللِّوَاءُ بَيْنَ يَدَيْكَ، فَإِنْ كَانَ مَا قُلْتُ حَقًّا فَلِي عَلَيْكَ خَمْسَةُ آلَافٍ. فَقُلْتُ: نَعَمْ. وَلَوْ قَالَ: خَمْسُونَ أَلْفًا. لَقُلْتُ: نَعَمْ. لِبُعْدِ ذَلِكَ عِنْدِي. قَالَ: وَذَهَبْتُ لِشَأْنِي، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْنَا مِنَ الْحِمْلِ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ، فَوَرَدَ الْخَبَرُ إِلَى الْمَنْصُورِ بِانْتِقَاضِ الْمَوْصِلِ وَانْتِشَارِ الْأَكْرَادِ بِهَا، فَاسْتَشَارَ الْأُمَرَاءَ مَنْ يَصْلُحُ لِلْمَوْصِلِ؟ فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِخَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: وَيْحَكَ! أَوَيُصْلِحُ لِذَلِكَ بَعْدَمَا فَعَلْنَا بِهِ مَا فَعَلْنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَأَنَا الضَّامِنُ أَنَّهُ يَصْلُحُ لَهَا. فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، فَوَلَّاهُ إِيَّاهَا، وَوَضَعَ عَنْهُ بَقِيَّةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَعَقَدَ لَهُ اللِّوَاءَ، وَوَلَّى ابْنَهُ يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ أَذْرَبِيجَانَ، وَخَرَجَ النَّاسُ فِي خِدْمَتِهِمَا. قَالَ يَحْيَى: فَمَرَرْنَا بِالْجِسْرِ، فَثَارَ إِلَيَّ ذَلِكَ الزَّاجِرُ فَطَالَبَنِي بِمَا وَعَدْتُهُ بِهِ فَأَمَرْتُ لَهُ بِهِ، فَقَبَضَ خَمْسَةَ آلَافٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْمَنْصُورُ إِلَى الْحَجِّ، فَسَاقَ الْهَدْيَ مَعَهُ، فَلَمَّا جَاوَزَ الْكُوفَةَ بِمَرَاحِلَ أَخَذَهُ وَجَعُهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَكَانَ عِنْدَهُ سُوءُ مِزَاجٍ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَرُكُوبِهِ فِي الْهَوَاجِرِ، وَأَخَذَهُ إِسْهَالٌ وَأَفْرَطَ بِهِ، فَقَوِيَ مَرَضُهُ، وَدَخَلَ مَكَّةَ، فَتُوُفِّيَ بِهَا لَيْلَةَ السَّبْتِ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَدُفِنَ بِكَدَاءٍ عِنْدَ ثَنِيَّةِ الْمُعَلَّى الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثًا - وَقِيلَ: أَرْبَعًا. وَقِيلَ: خَمْسًا - وَسِتِّينَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِنَّهُ بَلَغَ ثَمَانِيًا وَسِتِّينَ سَنَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ كَتَمَ الرَّبِيعُ مَوْتَهُ حَتَّى أَخَذَ الْبَيْعَةَ لِلْمَهْدِيِّ، مِنَ الْقُوَّادِ وَرُءُوسِ بَنِي هَاشِمٍ، ثُمَّ دُفِنَ. وَكَانَ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَهُوَ الَّذِي أَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.

وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ. وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ أَخِيهِ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ، اسْمُهَا سَلَّامَةُ.
رَوَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ. أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ السُّلَمِيِّ عَنِ الْمَأْمُونِ، عَنِ الرَّشِيدِ، عَنِ الْمَهْدِيِّ، عَنْ أَبِيهِ الْمَنْصُورِ بِهِ.
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَخِيهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَعُمُرُهُ يَوْمَئِذٍ إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سَنَةً; لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي صَفَرٍ مِنْهَا بِالْحُمَيْمَةِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً إِلَّا أَيَّامًا.
وَكَانَ أَسْمَرَ اللَّوْنِ، مَوْفُورَ اللِّمَّةِ، خَفِيفَ اللِّحْيَةِ، رَحْبَ الْجَبْهَةِ، أَقْنَى الْأَنْفِ بَيِّنَ الْقَنَا، أَعْيَنَ كَأَنَّ عَيْنَيْهِ لِسَانَانِ نَاطِقَانِ، تُخَالِطُهُ أُبَّهَةُ الْمُلْكِ، وَتَقْبَلُهُ الْقُلُوبُ وَتَتْبَعُهُ الْعُيُونُ يُعْرَفُ الشَّرَفُ فِي تَوَاضُعِهِ، وَالْعِتْقُ فِي صُورَتِهِ، وَاللُّبُّ فِي مِشْيَتِهِ. هَكَذَا وَصَفَهُ بَعْضُ مَنْ رَآهُ.

وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مِنَّا السَّفَّاحُ وَالْمَنْصُورُ وَالْمَهْدِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى يُسَلِّمَهَا إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا، وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ أُمَّهُ سَلَّامَةَ قَالَتْ: رَأَيْتُ حِينَ حَمَلْتُ بِهِ كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنِّي أَسَدٌ، فَزَأَرَ وَأَقْعَى عَلَى يَدَيْهِ، فَمَا بَقِيَ أَسَدٌ حَتَّى جَاءَ فَسَجَدَ لَهُ.
وَقَدْ رَأَى الْمَنْصُورُ فِي صِغَرِهِ مَنَامًا غَرِيبًا، فَكَانَ يَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ فِي أَلْوَاحِ الذَّهَبِ، وَيُعَلَّقَ فِي أَعْنَاقِ الصِّبْيَانِ. قَالَ: رَأَيْتُ كَأَنِّي فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَعْبَةِ، وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ حَوْلَهَا، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ مُنَادٍ فَنَادَى: أَيْنَ عَبْدُ اللَّهِ؟ فَقَامَ أَخِي السَّفَّاحُ يَتَخَطَّى الرِّجَالَ حَتَّى جَاءَ بَابَ الْكَعْبَةِ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ، فَأَدْخَلَهُ إِيَّاهَا، فَمَا لَبِثَ أَنْ خَرَجَ وَمَعَهُ لِوَاءٌ أَسْوَدُ. ثُمَّ نُودِيَ: أَيْنَ عَبْدُ اللَّهِ؟ فَقُمْتُ أَنَا وَعَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ نَسْتَبِقُ، فَسَبَقْتُهُ إِلَى بَابِ الْكَعْبَةِ، فَدَخَلْتُهَا، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَبِلَالٌ، فَعَقَدَ لِي لِوَاءً، وَأَوْصَانِي بِأُمَّتِهِ، وَعَمَّمَنِي عِمَامَةً كَوَّرَهَا ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ كَوْرًا، وَقَالَ: خُذْهَا إِلَيْكَ أَبَا الْخُلَفَاءِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ سِجْنُ الْمَنْصُورِ فِي أَيَّامِ بَنِي أُمَيَّةَ، فَاجْتَمَعَ بِهِ فِي السِّجْنِ نُوبَخْتُ

الْمُنَجِّمُ، وَتَوَسَّمَ فِيهِ الرِّيَاسَةَ، فَقَالَ لَهُ: مِمَّنْ تَكُونُ؟ فَلَمَّا عَرَفَ نَسَبَهُ وَكُنْيَتَهُ قَالَ: أَنْتَ الْخَلِيفَةُ الَّذِي يَلِي الْأَرْضَ. فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ! مَاذَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: هُوَ مَا أَقُولُ لَكَ، فَضَعْ لِي خَطَّكَ فِي هَذِهِ الرُّقْعَةِ أَنْ تُعْطِيَنِي شَيْئًا إِذَا وَلِيتَ. فَكَتَبَ لَهُ، فَلَمَّا وَلِيَ أَكْرَمَهُ الْمَنْصُورُ، وَأَعْطَاهُ وَأَسْلَمَ نُوبَخْتُ عَلَى يَدَيْهِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مَجُوسِيًّا، ثُمَّ كَانَ مِنْ أَخَصِّ أَصْحَابِ الْمَنْصُورِ عِنْدَهُ.
وَقَدْ حَجَّ الْمَنْصُورُ بِالنَّاسِ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، أَحْرَمَ مِنَ الْحِيرَةِ، وَفِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَفِي سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَفِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ، ثُمَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا وَفَاتُهُ. وَبَنَى مَدِينَةَ السَّلَامِ بَغْدَادَ، وَالرَّافِقَةَ، وَقَصْرَ الْخُلْدِ.
قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ يُونُسَ الْحَاجِبُ: سَمِعْتُ الْمَنْصُورَ يَقُولُ: الْخُلَفَاءُ أَرْبَعَةٌ; أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَالْمُلُوكُ أَرْبَعَةٌ; مُعَاوِيَةُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَهِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: قَالَ لِي الْمَنْصُورُ: مَنْ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقُلْتُ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ. فَقَالَ: أَصَبْتَ، وَذَلِكَ رَأْيُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَعَنْ إِسْمَاعِيلَ الْفِهْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ الْمَنْصُورَ عَلَى مِنْبَرِ عَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا سُلْطَانُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، أَسُوسُكُمْ بِتَوْفِيقِهِ وَرُشْدِهِ، وَخَازِنُهُ عَلَى مَالِهِ، أُقَسِّمُهُ بِإِرَادَتِهِ، وَأُعْطِيهِ بِإِذْنِهِ، وَقَدْ جَعَلَنِي اللَّهُ عَلَيْهِ

قُفْلًا، إِذَا شَاءَ أَنْ يَفْتَحَنِي لِإِعْطَائِكُمْ وَقَسْمِ أَرْزَاقِكُمْ فَتَحَنِي، وَإِذَا شَاءَ أَنْ يُقْفِلَنِي عَلَيْهِ أَقْفَلَنِي، فَارْغُبُوا إِلَى اللَّهِ أَيُّهَا النَّاسُ، وَسَلُوهُ - فِي هَذَا الْيَوْمِ الشَّرِيفِ الَّذِي وَهَبَ لَكُمْ فِيهِ مِنْ فَضْلِهِ مَا أَعْلَمَكُمْ بِهِ فِي كِتَابِهِ، إِذْ يَقُولُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [ الْمَائِدَةِ: 3 ]. أَنْ يُوَفِّقَنِي لِلصَّوَابِ، وَيُسَدِّدَنِي لِلرَّشَادِ، وَيُلْهِمَنِي الرَّأْفَةَ بِكُمْ، وَالْإِحْسَانَ إِلَيْكُمْ، وَيَفْتَحَنِي لِإِعْطَائِكُمْ، وَقَسْمِ أَرْزَاقِكُمْ بِالْعَدْلِ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَقَدْ خَطَبَ يَوْمًا، فَاعْتَرَضَهُ رَجُلٌ وَهُوَ يُثْنِي عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اذْكُرْ مَنْ أَنْتَ ذَاكِرُهُ، وَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا تَأْتِيهِ وَتَذَرُهُ. فَسَكَتَ الْمَنْصُورُ حَتَّى انْتَهَى كَلَامُ الرَّجُلِ، فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فِيهِ: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [ الْبَقَرَةِ: 206 ]. أَوْ أَنْ أَكُونَ جَبَّارًا عَصِيًّا، أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الْمَوْعِظَةَ عَلَيْنَا نَزَلَتْ، وَمِنْ عِنْدِنَا بُيِّنَتْ. ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: مَا أَظُنُّكَ فِي مَقَالَتِكَ هَذِهِ تُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: وَعَظَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا فَتَفْعَلُوا كَفِعْلِهِ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَاحْتُفِظَ بِهِ، وَعَادَ إِلَى خُطْبَتِهِ فَأَكْمَلَهَا، ثُمَّ قَالَ لِمَنْ هُوَ عِنْدَهُ: اعْرِضْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَإِنْ قَبِلَهَا فَأَعْلِمْنِي، وَإِنْ رَدَّهَا فَأَعْلِمْنِي. فَمَا زَالَ بِهِ الرَّجُلُ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ حَتَّى أَخَذَ الْمَالَ وَالْجَوَارِيَ، وَوَلَّاهُ الْحِسْبَةَ وَالْمَظَالِمَ، وَأَدْخَلَهُ عَلَى الْخَلِيفَةِ فِي بِزَّةٍ حَسَنَةٍ، وَثِيَابٍ وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ، فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَةُ: وَيْحَكَ! إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ مُحِقًّا لَمَا قَبِلْتَ شَيْئًا مِمَّا أَرَى، وَلَكِنْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ عَنْكَ: إِنَّكَ وَعَظْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَرَجْتَ عَلَيْهِ.

ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
وَقَدْ قَالَ الْمَنْصُورُ لِابْنِهِ الْمَهْدِيِّ: إِنَّ الْخَلِيفَةَ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا التَّقْوَى، وَالسُّلْطَانَ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الطَّاعَةُ، وَالرَّعِيَّةَ لَا يُصْلِحُهَا إِلَّا الْعَدْلُ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِالْعَفْوِ أَقْدَرُهُمْ عَلَى الْعُقُوبَةِ، وَأَنْقَصُ النَّاسِ عَقْلًا مَنْ ظَلَمَ مَنْ هُوَ دُونَهُ.
وَقَالَ أَيْضًا: يَا بُنَيَّ، اسْتَدِمِ النِّعْمَةَ بِالشُّكْرِ، وَالْقُدْرَةَ بِالْعَفْوِ، وَالطَّاعَةَ بِالتَّأْلِيفِ، وَالنَّصْرَ بِالتَّوَاضُعِ وَالرَّحْمَةِ لِلنَّاسِ، وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَنَصِيبَكَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
وَحَضَرَ عِنْدَهُ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ يَوْمًا، وَقَدْ أَمَرَ بِرَجُلٍ أَنْ تُضْرَبَ عُنُقُهُ، وَأَحْضَرَ النِّطْعَ وَالسَّيْفَ، فَقَالَ لَهُ مُبَارَكٌ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: لِيَقُمْ مَنْ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. فَلَا يَقُومُ إِلَّا مَنْ عَفَا. فَأَمَرَ بِالْعَفْوِ عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ. ثُمَّ أَخَذَ يُعَدِّدُ عَلَى جُلَسَائِهِ عَظِيمَ جَرَائِمِهِ وَمَا كَانَ صَنَعَهُ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أُتِيَ الْمَنْصُورُ بِرَجُلٍ لِيُعَاقِبَهُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الِانْتِقَامُ عَدْلٌ، وَالْعَفْوُ فَضْلٌ، وَنُعِيذُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ أَنْ يَرْضَى لِنَفْسِهِ بِأَوْكَسِ النَّصِيبَيْنِ، دُونَ أَنْ يَبْلُغَ أَرْفَعَ الدَّرَجَتَيْنِ. قَالَ: فَعَفَا عَنْهُ.

قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قَالَ الْمَنْصُورُ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: احْمَدِ اللَّهَ يَا أَعْرَابِيُّ الَّذِي رَفَعَ عَنْكُمُ الطَّاعُونَ بِوِلَايَتِنَا. فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ عَلَيْنَا حَشَفًا وَسُوءَ كَيْلٍ ; وِلَايَتَكُمْ وَالطَّاعُونَ. وَالْحِكَايَاتُ فِي ذِكْرِ حِلْمِهِ وَعَفْوِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَدَخَلَ بَعْضُ الزُّهَّادِ عَلَى الْمَنْصُورِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا، فَاشْتَرِ نَفْسَكَ بِبَعْضِهَا، وَاذْكُرْ لَيْلَةً تَبِيتُ فِي الْقَبْرِ لَمْ تَبِتْ قَبْلَهَا لَيْلَةً، وَاذْكُرْ لَيْلَةً تَمَخَّضُ عَنْ يَوْمٍ لَا لَيْلَةَ بَعْدَهُ. قَالَ: فَأَفْحَمَ الْمَنْصُورَ قَوْلُهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِمَالٍ فَقَالَ: لَوِ احْتَجْتُ إِلَى مَالِكَ لَمَا وَعَظْتُكَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ الْقَدَرِيِّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْمَنْصُورِ، فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَأَدْنَاهُ، وَسَأَلَهُ عَنْ أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ، عِظْنِي. فَقَرَأَ عَلَيْهِ أَوَّلَ سُورَةِ " الْفَجْرِ " إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [ الْفَجْرِ: 14 ]. قَالَ: فَبَكَى الْمَنْصُورُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ قَبْلَ تِلْكَ السَّاعَةِ ثُمَّ قَالَ: زِدْنِي. فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَاكَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا، فَاشْتَرِ نَفْسَكَ بِبَعْضِهَا، وَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ كَانَ لِمَنْ قَبْلَكَ. ثُمَّ صَارَ إِلَيْكَ، ثُمَّ هُوَ صَائِرٌ لِمَنْ بَعْدَكَ، وَاذْكُرْ لَيْلَةً تُسْفِرُ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَبَكَى الْمَنْصُورُ أَشَدَّ مِنْ بُكَائِهِ الْأَوَّلِ حَتَّى اخْتَلَفَ جَفْنَاهُ. فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ مُجَالِدٍ: رِفْقًا بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ عَمْرٌو: وَمَاذَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ

يَبْكِيَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ أَمَرَ لَهُ الْمَنْصُورُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: وَاللَّهِ لَتَأْخُذَنَّهَا. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا آخُذَنَّهَا. فَقَالَ لَهُ الْمَهْدِيُّ وَهُوَ جَالِسٌ فِي سَوَادِهِ وَسَيْفِهِ، إِلَى جَنْبِ أَبِيهِ: أَيَحْلِفُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَحْلِفُ أَنْتَ؟! فَالْتَفَتَ إِلَى الْمَنْصُورِ، فَقَالَ: وَمَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا ابْنِي مُحَمَّدٌ الْمَهْدِيُّ وَلِيُّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِي. فَقَالَ: أَسْمَيْتَهُ اسْمًا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ بِعَمَلِهِ هَذَا، وَأَلْبَسْتَهُ لَبُوسًا مَا هُوَ لَبُوسُ الْأَبْرَارِ، وَلَقَدْ مَهَّدْتَ لَهُ أَمْرًا أَمْتَعَ مَا يَكُونُ بِهِ، أَشْغَلَ مَا تَكُونُ عَنْهُ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْمَهْدِيِّ فَقَالَ: يَابْنَ أَخِي، إِذَا حَلَفَ أَبُوكَ حَلَفَ عَمُّكَ; لِأَنَّ أَبَاكَ أَقْدَرُ عَلَى الْكَفَّارَةِ مِنْ عَمِّكَ. ثُمَّ قَالَ الْمَنْصُورُ: يَا أَبَا عُثْمَانَ، هَلْ مِنْ حَاجَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: لَا تَبْعَثْ إِلَيَّ حَتَّى آتِيَكَ. فَقَالَ: إِذًا وَاللَّهِ لَا نَلْتَقِي. فَقَالَ: عَنْ حَاجَتِي سَأَلْتَنِي. فَوَدَّعَهُ وَانْصَرَفَ، فَلَمَّا وَلَّى أَبَدَّهُ بَصَرَهُ وَهُوَ يَقُولُ:
كُلُّكُمْ يَمْشِي رُوَيْدْ كُلُّكُمْ يَطْلُبُ صَيْدْ غَيْرَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدْ
وَيُقَالُ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ أَنْشَدَ الْمَنْصُورَ قَصِيدَةً فِي مَوْعِظَتِهِ إِيَّاهُ، وَهِيَ قَوْلُهُ:
يَا أَيُّهَذَا الَّذِي قَدْ غَرَّهُ الْأَمَلُ وَدُونَ مَا يَأْمَلُ التَّنْغِيصُ وَالْأَجَلْ
أَلَا تَرَى أَنَّمَا الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا كَمَنْزِلِ الرَّكْبِ حَلُّوا ثُمَّتَ ارْتَحَلُوا
حُتُوفُهَا رَصَدٌ وَعَيْشُهَا نَكَدٌ وَصَفْوُهَا كَدَرٌ وَمُلْكُهَا دُوَلٌ
تَظَلُّ تَقْرَعُ بِالرَّوْعَاتِ سَاكِنَهَا فَمَا يَسُوغُ لَهُ لِينٌ وَلَا جَدَلُ

كَأَنَّهُ لِلْمَنَايَا وَالرَّدَى غَرَضٌ تَظَلُّ فِيهِ بَنَاتُ الدَّهْرِ تَنْتَضِلُ
تُدِيرُهُ مَا أَدَارَتْهُ دَوَائِرُهَا مِنْهَا الْمُصِيبُ وَمِنْهَا الْمُخْطِئُ الزَّلِلُ
وَالنَّفْسُ هَارِبَةٌ وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهَا وَكُلُّ عَثْرَةِ رَجُلٍ عِنْدَهَا جَلَلُ
وَالْمَرْءُ يَسْعَى بِمَا يَسْعَى لِوَارِثِهِ وَالْقَبْرُ وَارِثُ مَا يَسْعَى لَهُ الرَّجُلُ
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ، عَنِ الرِّيَاشِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: رَأَتْ جَارِيَةٌ لِلْمَنْصُورِ ثَوْبَهُ مَرْقُوعًا فَقَالَتْ: خَلِيفَةٌ وَقَمِيصُهُ مَرْقُوعٌ؟! فَقَالَ: وَيْحَكِ! أَمَا سَمِعْتِ مَا قَالَ ابْنُ هَرْمَةَ:
قَدْ يُدْرِكُ الشَّرَفَ الْفَتَى وَرِدَاؤُهُ خَلَقٌ وَجَيْبُ قَمِيصِهِ مَرْقُوعُ
وَمِنْ شَعْرِهِ لَمَّا عَزَمَ عَلَى قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ:
إِذَا كُنْتَ ذَا رَأْيٍ فَكُنْ ذَا عَزِيمَةٍ فَإِنَّ فَسَادَ الرَّأْيِ أَنْ تَتَرَدَّدَا
وَلَا تُمْهِلِ الْأَعْدَاءَ يَوْمًا بِقُدْرَةٍ وَبَادِرْهُمْ أَنْ يَمْلِكُوا مِثْلَهَا غَدَا
وَلَمَّا قَتَلَهُ وَرَآهُ طَرِيحًا بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ:
قَدِ اكْتَنَفَتْكَ خَلَّاتٌ ثَلَاثٌ جَلَبْنَ عَلَيْكَ مَحْتُومَ الْحِمَامِ
خِلَافُكَ وَامْتِنَاعُكَ مِنْ يَمِينِي وَقَوْدُكَ لِلْجَمَاهِيرِ الْعِظَامِ

وَمِنْ شَعْرِهِ أَيْضًا:
الْمَرْءُ يَأْمُلُ أَنْ يَعِي شِ وَطُولُ عُمْرٍ قَدْ يَضُرُّهْ
تَبْلَى بَشَاشَتُهُ وَيَبْ قَى بَعْدَ حُلْوِ الْعَيْشِ مُرُّهْ
وَتَخُونُهُ الْأَيَّامُ حَتَّ ى لَا يَرَى شَيْئًا يَسُرُّهْ
كُمْ شَامِتٍ بِي إِنْ هَلَكْ تُ وَقَائِلٍ لِلَّهِ دَرُّهْ
قَالُوا: وَكَانَ الْمَنْصُورُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَتَصَدَّى لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْوِلَايَاتِ وَالْعَزْلِ، وَالنَّظَرِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَإِذَا صَلَّى الظُّهْرَ دَخَلَ مَنْزِلَهُ، وَاسْتَرَاحَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ إِلَى الْعَصْرِ، فَإِذَا صَلَّاهَا جَلَسَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ وَمَصَالِحِهِمُ الْخَاصَّةِ، فَإِذَا صَلَّى الْعَشَاءَ نَظَرَ فِي الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ الْوَارِدَةِ مِنَ الْآفَاقِ، وَجَلَسَ عِنْدَهُ مَنْ يُسَامِرُهُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَقُومُ إِلَى أَهْلِهِ، فَيَنَامُ فِي فِرَاشِهِ إِلَى الثُّلُثِ الْآخِرِ، فَيَقُومُ إِلَى وَضُوئِهِ وَصَلَاتِهِ حَتَّى يَتَفَجَّرَ الصَّبَاحُ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيَجْلِسُ فِي إِيوَانِهِ.
وَقَدْ وَلَّى بَعْضَ الْعُمَّالِ عَلَى بَلَدٍ، فَبَلَغَهُ أَنَّهُ قَدْ تَصَدَّى لِلصَّيْدِ، وَأَعَدَّ لِذَلِكَ الْكِلَابَ وَالْبُزَاةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ وَعَدِمَتْكَ عَشِيرَتُكَ، وَيْحَكَ! إِنَّا إِنَّمَا اسْتَكْفَيْنَاكَ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ نَسْتَكْفِكَ أُمُورَ الْوُحُوشِ، فَسَلِّمْ مَا كُنْتَ تَلِي مِنْ عَمَلِنَا إِلَى فُلَانٍ، وَالْحَقْ بِأَهْلِكَ مَلُومًا مَدْحُورًا.
وَأُتِيَ يَوْمًا بِخَارِجِيٍّ قَدْ هَزَمَ جُيُوشَ الْمَنْصُورِ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَلَمَّا أُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ

قَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: وَيْحَكَ! يَا ابْنَ الْفَاعِلَةِ، مِثْلُكُ يَهْزِمُ الْجُيُوشَ؟ فَقَالَ الْخَارِجِيُّ: وَيْلَكَ، سَوْءَةٌ لَكَ! بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَمْسِ السَّيْفُ وَالْقَتْلُ، وَالْيَوْمَ الْقَذْفُ وَالسَّبُّ! وَمَا يُؤَمِّنُكَ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ وَقَدْ يَئِسْتُ مِنَ الْحَيَاةِ، فَلَا تَسْتَقِيلُهَا أَبَدًا؟! قَالَ: فَاسْتَحْيَا مِنْهُ الْمَنْصُورُ وَأَطْلَقَهُ. فَمَا رَأَى لَهُ وَجْهًا إِلَى الْحَوْلِ.
وَقَالَ أَيْضًا: يَا بُنَيَّ، لَيْسَ الْعَاقِلُ مَنْ يَحْتَالُ لِلْأَمْرِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَحْتَالُ لِلْأَمْرِ الَّذِي غَشِيَهُ حَتَّى لَا يَقَعَ فِيهِ.
وَقَالَ الْمَنْصُورُ أَيْضًا يَوْمًا لِابْنِهِ الْمَهْدِيِّ: يَا بُنَيَّ، لَا تَجْلِسْ مَجْلِسًا إِلَّا وَعِنْدَكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ يُحَدِّثُكَ; فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ قَالَ: عِلْمُ الْحَدِيثِ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا ذُكْرَانُ الرِّجَالِ، وَلَا يَكْرَهُهُ إِلَّا مُؤَنَّثُوهُمْ، وَصَدَقَ أَخُو زُهْرَةَ.
وَقَدْ كَانَ الْمَنْصُورُ فِي شَبِيبَتِهِ يَطْلُبُ الْعِلْمَ مِنْ مَظَانِّهِ وَالْحَدِيثَ وَالْفِقْهَ، فَنَالَ مِنْ ذَلِكَ جَانِبًا جَيِّدًا، وَطَرَفًا صَالِحًا، وَقَدْ قِيلَ لَهُ يَوْمًا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنَ اللَّذَّاتِ لَمْ تَنَلْهُ؟ قَالَ: لَا، سِوَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: قَوْلُ الْمُحَدَّثِ لِلشَّيْخِ: مَنْ ذَكَرْتَ، رَحِمَكَ اللَّهُ؟ فَاجْتَمَعَ وُزَرَاؤُهُ وَكُتَّابُهُ، وَجَلَسُوا حَوْلَهُ، وَقَالُوا: لِيُمْلِ عَلَيْنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ. فَقَالَ: لَسْتُمْ بِهِمْ، إِنَّمَا هُمُ الدَّنِسَةُ ثِيَابُهُمْ، الْمُشَقَّقَةُ أَرْجُلُهُمْ، الطَّوِيلَةُ شُعُورُهُمْ، بُرُدُ الْآفَاقِ، وَنَقْلَةُ الْحَدِيثِ.

وَقَالَ الْمَنْصُورُ يَوْمًا لِلْمَهْدِيِّ: كَمْ عِنْدَكَ رَايَةً؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ: هَذَا هُوَ التَّقْصِيرُ، أَنْتَ لِأَمْرِ الْخِلَافَةِ أَشَدُّ تَضْيِيعًا، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا بُنَيَّ.
وَقَالَتْ خَالِصَةُ إِحْدَى حَظِيَّاتِ الْمَهْدِيِّ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى الْمَنْصُورِ وَهُوَ يَشْتَكِي ضِرْسَهُ، وَيَدَاهُ عَلَى صُدْغَيْهِ، فَقَالَ لِي: كَمْ عِنْدَكِ مِنَ الْمَالِ يَا خَالِصَةُ؟ فَقُلْتُ: أَلْفُ دِرْهَمٍ. فَقَالَ: ضَعِي يَدَكِ عَلَى رَأْسِي وَاحْلِفِي. فَقُلْتُ: عِنْدِي عَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ. قَالَ: اذْهَبِي فَاحْمِلِيهَا إِلَيَّ. قَالَتْ: فَذَهَبْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى سَيِّدِي الْمَهْدِيِّ وَهُوَ مَعَ وَزَوْجَتِهِ الْخَيْزُرَانِ، فَشَكَوْتُ إِلَيْهِ مَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَرَكَلَنِي بِرِجْلِهِ، وَقَالَ: وَيْحَكِ! إِنَّهُ لَيْسَ بِهِ وَجَعٌ، وَلَكِنِّي سَأَلْتُهُ بِالْأَمْسِ مَالًا، فَتَمَارَضَ وَإِنَّهُ لَا يَسَعُكِ إِلَّا مَا أَمَرَكِ بِهِ. فَذَهَبَتْ إِلَيْهِ خَالِصَةُ وَمَعَهَا عَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ، فَاسْتَدْعَى بِالْمَهْدِيِّ، فَقَالَ لَهُ: تَشْكُو الْحَاجَةَ وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ خَالِصَةَ؟ !
وَقَالَ الْمَنْصُورُ لِخَازِنِهِ: إِذَا عَلِمْتَ بِمَجِيءِ الْمَهْدِيِّ فَائْتِنِي بِخُلْقَانِ الثِّيَابِ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ. فَجَاءَ بِهَا فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَدَخَلَ الْمَهْدِيُّ وَالْمَنْصُورُ يُقَلِّبُهَا، فَجَعَلَ الْمَهْدِيُّ يَضْحَكُ، فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، مَنْ لَيْسَ لَهُ خَلَقٌ مَا لَهُ جَدِيدٌ، وَقَدْ حَضَرَ الشِّتَاءُ فَنَحْتَاجُ نُعِينُ الْعِيَالِ وَالْوَلَدَ. فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: عَلَيَّ كُسْوَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَعِيَالِهِ. فَقَالَ: دُونَكَ فَافْعَلْ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْهَيْثَمِ، أَنَّ الْمَنْصُورَ أَطْلَقَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لِبَعْضِ أَعْمَامِهِ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ فَرَّقَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَلَا يُعْلَمُ

خَلِيفَةٌ فَرَّقَ مِثْلَ هَذَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ.
وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ عِنْدَ الْمَنْصُورِ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [ الْحَدِيدِ: 24 ]. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الْمَالَ حِصْنٌ لِلسُّلْطَانِ وَدِعَامَةٌ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا وَعِزُّهُمَا وَزِينَتُهُمَا مَا بِتُّ لَيْلَةً وَاحِدَةً وَأَنَا أُحْرِزُ مِنْهُ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا; لِمَا أَجِدُ لِبَذْلِ الْمَالِ مِنَ اللَّذَاذَةِ، وَلِمَا أَعْلَمُ فِي إِعْطَائِهِ مِنْ جَزِيلِ الْمَثُوبَةِ.
وَقَرَأَ عِنْدَهُ قَارِئٌ آخَرُ: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [ الْإِسْرَاءِ: 29 ]. فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا أَدَّبَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ!
وَقَالَ الْمَنْصُورُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي; عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَادَةُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا الْأَسْخِيَاءُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْأَتْقِيَاءُ.
وَلَمَّا عَزَمَ الْمَنْصُورُ عَلَى الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ - دَعَا وَلَدَهُ الْمَهْدِيَّ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ فَأَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَفِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَبِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، وَعَلَّمَهُ كَيْفَ يَفْعَلُ الْأَشْيَاءَ، وَيَسُدُّ الثُّغُورَ بِوَصَايَا يَطُولُ بَسْطُهَا، وَحَرَّجَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ خَزَائِنِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ وَفَاتَهُ; فَإِنَّ بِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا يَكْفِي الْمُسْلِمِينَ لَوْ لَمْ يُجْبَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْخَرَاجِ دِرْهَمٌ عَشْرَ سِنِينَ، وَعَهِدَ إِلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَهُوَ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ،

فَإِنَّهُ لَمْ يَرَ قَضَاءَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. فَامْتَثَلَ الْمَهْدِيُّ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَأَحْرَمَ الْمَنْصُورُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ مِنَ الرُّصَافَةِ، وَسَاقَ بُدُنَهُ، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنِّي وُلِدْتُ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَقَدْ وَقَعَ لِي أَنِّي أَمُوتُ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَدَانِي عَلَى الْحَجِّ عَامِي هَذَا. وَوَدَّعَهُ وَسَارَ، وَاعْتَرَاهُ مَرَضُ الْمَوْتِ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَمَا دَخَلَ مَكَّةَ إِلَّا وَهُوَ مُثْقَلٌ جِدًّا، فَلَمَّا كَانَ بِآخِرِ مَنْزِلٍ نَزَلَهُ دُونَ مَكَّةَ إِذَا فِي صَدْرِ مَنْزِلِهِ مَكْتُوبٌ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
أَبَا جَعْفَرٍ حَانَتْ وَفَاتُكَ وَانْقَضَتْ سُنُوكَ وَأَمْرُ اللَّهِ لَا بُدَّ وَاقِعُ
أَبَا جَعْفَرٍ هَلْ كَاهِنٌ أَوْ مُنَجِّمٌ لَكَ الْيَوْمَ مِنْ كَرْبِ الْمَنِيَّةِ مَانِعُ
فَدَعَا بِالْحَجَبَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِقِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَعَرَفَ أَنَّ أَجْلَهُ قَدْ نُعِيَ إِلَيْهِ.
قَالُوا: وَرَأَى الْمَنْصُورُ فِي مَنَامِهِ، وَيُقَالُ: بَلْ هَتَفَ بِهِ هَاتِفٌ، وَهُوَ يَقُولُ:
أَمَا وَرَبِّ السُّكُونِ وَالْحَرَكْ إِنَّ الْمَنَايَا كَثِيرَةُ الشَّرَكْ
عَلَيْكِ يَا نَفْسُ إِنْ أَسَأْتِ وَإِنْ أَحْسَنْتِ يَا نَفْسُ كَانَ ذَاكَ لَكْ
مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا دَارَتْ نُجُومُ السَّمَاءِ فِي الْفَلَكْ
إِلَّا بِنَقْلِ السُّلْطَانِ عَنْ مَلِكٍ إِذَا انْقَضَى مُلْكُهُ إِلَى مَلِكْ
حَتَّى يَصِيرَا بِهِ إِلَى مَلِكٍ مَا عَزَّ سُلْطَانُهُ بِمُشْتَرَكِ

ذَاكَ بَدِيعُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاَلْ مُرْسِي الْجِبَالَ الْمُسَخِّرُ الْفَلَكِ
فَقَالَ الْمَنْصُورُ: هَذَا وَاللَّهِ أَوَانُ حُضُورِ أَجَلِي وَانْقِضَاءِ عُمْرِي.
وَكَانَ قَدْ رَأَى قَبْلَ ذَلِكَ فِي قَصْرِهِ الْخُلْدِ الَّذِي بَنَاهُ وَتَأَنَّقَ فِيهِ، مَنَامًا أَفْزَعَهُ، فَقَالَ لِلرَّبِيعِ: وَيْحَكَ يَا رَبِيعُ! لَقَدْ رَأَيْتُ مَنَامًا هَالَنِي; رَأَيْتُ قَائِلًا وَقَفَ فِي بَابِ هَذَا الْقَصْرِ، وَهُوَ يَقُولُ:
كَأَنِّي بِهَذَا الْقَصْرِ قَدْ بَادَ آهِلُهُ وَعُرِّيَ مِنْهُ أَهْلُهُ وَمَنَازِلُهُ
وَصَارَ رَئِيسُ الْقَوْمِ مِنْ بَعْدِ بَهْجَةٍ إِلَى جَدَثٍ تُبْنَى عَلَيْهِ جَنَادِلُهُ
فَمَا أَقَامَ فِي الْخُلْدِ إِلَّا أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ حَتَّى خَرَجَ إِلَى الْحَجِّ عَامَهُ هَذَا، وَمَرِضَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَدَخَلَهَا مُدْنَفًا ثَقِيلًا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ لِسِتٍّ - وَقِيلَ: لِسَبْعٍ - مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
وَكَانَ آخَرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لِي فِي لِقَائِكَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ، إِنْ كُنْتُ عَصَيْتُكَ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ فَقَدْ أَطَعْتُكَ فِي أَحَبِّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْكَ; شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا. ثُمَّ مَاتَ.
وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: اللَّهُ ثِقَةُ عَبْدِ اللَّهِ، وَبِهِ يُؤْمِنُ.
وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ وَفَاتِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً عَلَى الْمَشْهُورِ; مِنْهَا ثِنْتَانِ وَعِشْرُونَ

سَنَةً فِي الْخِلَافَةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الْمُعَلَّى، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمِمَّا رُثِيَ بِهِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، قَوْلُ سَلْمٍ الْخَاسِرِ الشَّاعِرِ:
عَجَبًا لِلَّذِي نَعَى النَّاعِيَانِ كَيْفَ فَاهَتْ بِمَوْتِهِ الشَّفَتَانِ
مَلِكٌ إِنْ غَدَا عَلَى الدَّهْرِ يَوْمًا أَصْبَحَ الدَّهْرُ سَاقِطًا لِلْجِرَانِ
لَيْتَ كَفًّا حَثَتْ عَلَيْهِ تُرَابًا لَمْ تَعُدْ فِي يَمِينِهَا بَبَنَانُ
حِينَ دَانَتْ لَهُ الْبِلَادُ عَلَى الْعَسْ فِ وَأَغْضَى مِنْ خَوْفِهِ الثَّقَلَانِ
أَيْنَ رَبُّ الزَّوْرَاءِ قَدْ قَلَّدَتْهُ الْ مُلْكَ عِشْرُونَ حِجَّةً وَاثْنَتَانِ
إِنَّمَا الْمَرْءُ كَالزِّنَادِ إِذَا مَا أَخَذَتْهُ قَوَادِحُ النِّيرَانِ
لَيْسَ يَثْنِي هَوَاهُ زَجْرٌ وَلَا يَقْ دَحُ فِي حَبْلِهِ ذَوُو الْأَذْهَانِ
قَلَّدَتْهُ أَعِنَّةَ الْمُلْكِ حَتَّى قَادَ أَعْدَاءَهُ بِغَيْرِ عَنَانٍ
يُكْسَرُ الطَّرْفُ دُونَهُ وَتُرَى الْأَيْ دِي مِنْ خَوْفِهِ إِلَى الْأَذْقَانِ
ضَمَّ أَطْرَافَ مُلْكِهِ ثُمَّ أَضْحَى خَلْفَ أَقْصَاهُمْ وَدُونَ الدَّانِي
هَاشِمِيُّ التَّشْمِيرِ لَا يَحْمِلُ الثِّقْ لَ عَلَى غَارِبِ الشَّرُودِ الْهِدَانِ
ذُو أَنَاةٍ يَنْسَى لَهَا الْخَائِفُ الْخَوْ فَ وَعَزْمٍ يَلْوِي بِكُلِّ جَنَانِ
ذَهَبَتْ دُونَهُ النُّفُوسُ حِذَارًا غَيْرَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ فِي الْأَبْدَانِ
وَقَدْ دُفِنَ الْمَنْصُورُ بِثَنِيَّةِ الْمُعَلَّى عِنْدَ بَابِ مَكَّةَ، وَلَا يُعْرَفُ قَبْرُهُ; لِأَنَّهُ عُمِّيَ قَبْرُهُ; فَإِنَّ الرَّبِيعَ حَفَرَ مِائَةَ قَبْرٍ، وَدَفَنَهُ فِي غَيْرِهَا لِئَلَّا يُعْرَفَ.

ذِكْرُ أَوْلَادِ الْمَنْصُورِ
مُحَمَّدٌ الْمَهْدِيُّ، وَكَانَ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَجَعْفَرٌ الْأَكْبَرُ، مَاتَ فِي حَيَاتِهِ، وَأُمُّهُمَا أَرْوَى بِنْتُ مَنْصُورٍ، وَعِيسَى، وَيَعْقُوبُ، وَسُلَيْمَانُ، وَأُمُّهُمْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، مِنْ وَلَدِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَجَعْفَرٌ الْأَصْغَرُ مِنْ أُمِّ وَلَدٍ كُرْدِيَّةٍ، وَصَالِحٌ الْمِسْكِينُ مِنْ أُمِّ وَلَدٍ رُومِيَّةٍ يُقَالُ لَهَا: قَالِي الْفَرَّاشَةُ. وَالْقَاسِمُ مِنْ أُمِّ وَلَدٍ أَيْضًا. وَالْعَالِيَةُ مِنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ.

ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمَهْدِيِّ ابْنِ الْمَنْصُورِ
لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ الْمَنْصُورُ بِمَكَّةَ لِسِتٍّ - وَقِيلَ: لِسَبْعٍ - مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، أُخِذَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ بِمَكَّةَ مِنْ رُءُوسِ بَنِي هَاشِمٍ وَالْقُوَّادِ الَّذِينَ هُمْ مَعَ الْمَنْصُورِ فِي الْحَجِّ قَبْلَ دَفْنِهِ، وَبُعِثَ بِالْبَيْعَةِ وَبِالْبُرْدَةِ وَالْقَضِيبِ مَعَ الْبَرِيدِ إِلَى الْمَهْدِيِّ وَهُوَ بِبَغْدَادَ، فَوَصَلَهُ الْبَرِيدُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِلنِّصْفِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، وَأَعْطَاهُ الْكُتُبَ بِالْبَيْعَةِ، وَبَايَعَهُ أَهْلُ مَدِينَةِ السَّلَامِ، وَنَفَذَتِ الْبَيْعَةُ إِلَى سَائِرِ الْآفَاقِ وَالْأَقَالِيمِ، وَقَدْ كَانَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمَنْصُورَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِيَوْمٍ تَحَامَلَ وَتَسَانَدَ، وَاسْتَدْعَى

بِالْأُمَرَاءِ، فَجَدَّدَ لَهُمُ الْبَيْعَةَ لِابْنِهِ الْمَهْدِيِّ، فَتَسَارَعُوا إِلَى ذَلِكَ وَتَبَادَرُوا إِلَيْهِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ وَصِيَّةِ عَمِّهِ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي صَلَّى عَلَى الْمَنْصُورِ عِيسَى بْنُ مُوسَى وَلِيُّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ الْمَهْدِيِّ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ; لِأَنَّهُ كَانَ نَائِبَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ.
وَعَلَى إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى الْكُوفَةِ عَمْرُو بْنُ زُهَيْرٍ الضَّبِّيُّ، أَخُو الْمُسَيِّبِ بْنِ زُهَيْرٍ أَمِيرِ الشُّرْطَةِ لِلْخَلِيفَةِ، وَعَلَى خُرَاسَانَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَعَلَى خَرَاجِ الْبَصْرَةِ وَأَرْضِهَا عُمَارَةُ بْنُ حَمْزَةَ، وَعَلَى صَلَاتِهَا وَقَضَائِهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ، وَعَلَى أَحْدَاثِهَا سَعِيدُ بْنُ دَعْلَجٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَأَصَابَ النَّاسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَبَاءٌ شَدِيدٌ. فَتُوُفِّيَ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، مِنْهُمْ أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَحَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ بِمَكَّةَ، وَزُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ بْنِ قَيْسِ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مُكَمِّلِ بْنِ ذُهْلِ بْنِ ذُؤَيْبِ بْنِ جُذَيْمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُنْجُودِ بْنِ جُنْدَبِ بْنِ الْعَنْبَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمِ بْنِ

مُرِّ بْنِ أُدِّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إِلْيَاسِ بْنِ مُضَرِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ التَّمِيمِيُّ الْعَنْبَرِيُّ الْكُوفِيُّ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ. أَقْدَمُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفَاةً، وَأَكْثَرَهُمُ اسْتِعْمَالًا لِلْقِيَاسِ، وَكَانَ عَابِدًا اشْتَغِلْ أَوَّلًا بِعِلْمِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ الْفِقْهُ وَالْقِيَاسُ. وُلِدَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَتُوَفِّي سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَخَلِيفَةُ النَّاسِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَهْدِيُّ ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، فَبَعَثَ فِي أَوَّلِهَا الْعَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدٍ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، وَرَكِبَ مَعَهُمْ مُشَيِّعًا لَهُمْ، فَسَارُوا إِلَيْهَا، فَافْتَتَحُوا مَدِينَةً عَظِيمَةً لِلرُّومِ وَمَطْمُورَةَ، وَغَنِمُوا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَرَجَعُوا سَالِمِينَ، لَمْ يُفْقَدْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ نَائِبُ خُرَاسَانَ، فَوَلَّى الْمَهْدِيُّ مَكَانَهُ أَبَا عَوْنٍ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ يَزِيدَ، وَوَلَّى حَمْزَةَ بْنَ مَالِكٍ سِجِسْتَانَ، وَوَلَّى جَبْرَئِيلَ بْنَ يَحْيَى سَمَرْقَنْدَ.
وَفِيهَا بَنَى الْمَهْدِيُّ مَسْجِدَ الرُّصَافَةِ وَخَنْدَقَهَا.
وَفِيهَا جَهَّزَ الْمَهْدِيُّ جَيْشًا كَثِيفًا إِلَى بِلَادِ الْهِنْدِ، فَوَصَلُوا إِلَيْهَا فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ نَائِبُ السِّنْدِ مَعْبَدُ بْنُ الْخَلِيلِ، فَوَلَّى الْمَهْدِيُّ مَكَانَهُ رَوْحَ بْنَ حَاتِمٍ بِمَشُورَةِ وَزِيرِهِ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ.
وَفِيهَا أَطْلَقَ الْمَهْدِيُّ مَنْ كَانَ فِي السُّجُونِ إِلَّا مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا عَلَى

دَمٍ، أَوْ مِمَّنْ يَسْعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، أَوْ عِنْدَهُ حَقٌّ لِأَحَدٍ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَخْرَجَ مِنَ الْمُطْبِقِ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ مَوْلَى بَنِي سُلَيْمٍ، وَالْحُسْنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِصَيْرُورَةِ الْحَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى نُصَيْرٍ الْخَادِمِ لِيَحْتَرِزَ عَلَيْهِ.
وَكَانَ الْحَسَنُ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْهَرَبِ مِنَ السِّجْنِ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ مِنَ السِّجْنِ، نَاصَحَ الْخَلِيفَةَ بِمَا كَانَ عَزَمَ عَلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، فَنَقَلَهُ الْخَلِيفَةُ مِنَ السِّجْنِ، وَأَوْدَعَهُ عِنْدَ نُصَيْرٍ الْخَادِمِ لِيَحْتَاطَ عَلَيْهِ، وَحَظِيَ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ عِنْدَ الْمَهْدِيِّ جَدًّا حَتَّى صَارَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِي اللَّيْلِ بِلَا اسْتِئْذَانٍ، وَجَعَلَهُ الْخَلِيفَةُ عَلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ فَوَّضَهَا إِلَيْهِ، وَأَطْلَقَ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمَا زَالَ عِنْدَهُ كَذَلِكَ حَتَّى تَمَكَّنَ الْمَهْدِيُّ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، فَسَقَطَتْ مَنْزِلَةُ يَعْقُوبَ عِنْدَ الْمَهْدِيِّ. وَقَدْ عَزَلَ الْمَهْدِيُّ نُوَّابًا كَثِيرَةً عَنِ الْبِلَادِ، وَوَلَّى بَدَلَهُمْ عَلَيْهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ الْمَهْدِيُّ بِابْنَةِ عَمِّهِ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتِ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَعْتَقَ جَارِيَتَهُ الْخَيْزُرَانَ، وَتَزَوَّجَهَا أَيْضًا، وَهِيَ أُمُّ الرَّشِيدِ.
وَفِيهَا وَقَعُ حَرِيقٌ عَظِيمٌ فِي السُّفُنِ الَّتِي بِدِجْلَةَ بَغْدَادَ.
وَلَمَّا وَلِيَ الْمَهْدِيُّ سَأَلَ عِيسَى بْنَ مُوسَى - وَكَانَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ الْمَهْدِيِّ - أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْأَمْرِ، فَامْتَنَعَ عَلَى الْمَهْدِيِّ، وَسَأَلَ أَنْ يُقِيمَ بِأَرْضِ الْكُوفَةِ فِي ضَيْعَةٍ لَهُ، فَأَذِنَ لَهُ، وَكَانَ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَى إِمْرَةِ الْكُوفَةِ رَوْحُ بْنُ حَاتِمٍ، فَكَتَبَ إِلَى الْمَهْدِيِّ: إِنَّ عِيسَى بْنَ مُوسَى لَا يَأْتِي الْجُمْعَةَ وَلَا الْجَمَاعَةَ مَعَ النَّاسِ إِلَّا

شَهْرَيْنِ مِنَ السَّنَةِ، وَإِنَّهُ إِذَا جَاءَ يَدْخُلُ بِدَوَابِّهِ إِلَى دَاخِلِ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَتَرُوثُ دَوَابُّهُ حَيْثُ يُصَلِّي النَّاسُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمَهْدِيُّ أَنْ يَعْمَلَ خَشَبًا عَلَى أَفْوَاهِ السِّكَكِ; حَتَّى لَا يَصِلَ النَّاسُ إِلَى الْجَامِعِ إِلَّا مُشَاةً، فَعَلِمَ بِذَلِكَ عِيسَى بْنُ مُوسَى، فَاشْتَرَى قَبْلَ الْجُمْعَةِ دَارَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ مِنْ وَرَثَتِهِ، وَكَانَتْ مُلَاصِقَةَ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ يَأْتِي إِلَيْهَا مِنْ يَوْمِ الْخَمِيسِ، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ الْجُمْعَةِ رَكِبَ حِمَارًا إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَنَزَلَ عَنْهُ، وَشَهِدَ الصَّلَاةَ مَعَ النَّاسِ، وَأَقَامَ بِالْكُلِّيَّةِ فِي الْكُوفَةِ بِأَهْلِهِ، ثُمَّ أَلَحَّ الْمَهْدِيُّ عَلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى فِي أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَتَوَعَّدَهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَوَعَدَهُ إِنْ فَعَلَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَعْطَاهُ أَقْطَاعًا عَظِيمَةً، وَجَعَلَ لَهُ مِنَ الْمَالِ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ: عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفٍ. وَبَايَعَ الْمَهْدِيُّ لِوَلَدَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ; مُوسَى الْهَادِي، ثُمَّ لِهَارُونَ الرَّشِيدِ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَزِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ خَالُ الْمَهْدِيِّ، وَكَانَ نَائِبًا عَلَى الْيَمَنِ، فَوَلَّاهُ الْمَوْسِمَ، وَاسْتَقْدَمَهُ عَلَيْهِ شَوْقًا إِلَيْهِ.
وَغَالِبُ نُوَّابِ الْبِلَادِ قَدْ تَغَيَّرُوا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، غَيْرَ أَنَّ إِفْرِيقِيَّةَ مَعَ يَزِيدَ بْنِ حَاتِمٍ، وَعَلَى مِصْرَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَبُو ضَمْرَةَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ أَبُو عَوْنٍ، وَعَلَى السِّنْدِ بِسِطَامُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَلَى الْأَهْوَازِ وَفَارِسَ عُمَارَةُ بْنُ حَمْزَةَ، وَعَلَى الْيَمَنِ رَجَاءُ بْنُ رَوْحٍ، وَعَلَى الْيَمَامَةِ بِشْرُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَعَلَى الْجَزِيرَةِ الْفَضْلُ بْنُ صَالِحٍ، وَعَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ الْجُمَحِيُّ، وَعَلَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ الْجُمَحِيُّ، وَعَلَى أَحْدَاثِ الْكُوفَةِ إِسْحَاقُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْكِنْدِيُّ، وَعَلَى خَرَاجِهَا ثَابِتُ بْنُ مُوسَى، وَعَلَى قَضَائِهَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِيُّ، وَعَلَى أَحْدَاثِ الْبَصْرَةِ عُمَارَةُ بْنُ حَمْزَةَ، وَعَلَى صَلَاتِهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ

أَيُّوبَ بْنِ ظَبْيَانَ النُّمَيْرِيُّ، وَعَلَى قَضَائِهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ الْعَزِيزِ ابْنُ أَبِي رَوَّادٍ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، وَمَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ الْمَدَنِيُّ، نَظِيرُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي الْفِقْهِ، وَرُبَّمَا أَنْكَرَ عَلَى مَالِكٍ فِي تَرْكِهِ الْأَخْذَ بِبَعْضِ الْأَحَادِيثِ; لِمَآخِذَ كَانَ يَرَاهَا مَالِكٌ مِنْ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَالِكِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ وَمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ بِخُرَاسَانَ عَلَى الْمَهْدِيِّ مُنْكِرًا عَلَيْهِ أَحْوَالَهُ وَسِيرَتَهُ، يُقَالُ لَهُ: يُوسُفُ الْبَرْمُ. وَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَتَفَاقَمَ أَمْرُهُ وَعَظُمَ الْخَطْبُ بِهِ، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ مَزْيَدٍ، فَلَقِيَهُ فَاقْتَتَلَا حَتَّى تَنَازَلَا وَتَعَانَقَا، فَأَسَرَ يَزِيدُ بْنُ مَزْيَدٍ يُوسُفَ هَذَا، وَأَسَرَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، فَبَعَثَهُ وَبَعَثَهُمْ إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَأُدْخِلُوا عَلَيْهِ وَقَدْ حُمِلُوا عَلَى جِمَالٍ، مُحَوَّلَةً وُجُوهُهُمْ إِلَى نَاحِيَةِ أَذْنَابِ الْإِبِلِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ هَرْثَمَةَ بْنَ أَعْيَنَ أَنْ يَقْطَعَ يَدَيْ يُوسُفَ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ تُضْرَبَ عُنُقُهُ وَأَعْنَاقُ مَنْ مَعَهُ، وَصَلَبَهُمْ عَلَى جِسْرِ دِجْلَةَ الْأَكْبَرِ مِمَّا يَلِي عَسْكَرَ الْمَهْدِيَّ، وَأَطْفَأَ اللَّهُ نَائِرَتَهُمْ، وَكَفَى شَرَّهُمْ.

ذِكْرُ الْبَيْعَةِ لِمُوسَى الْهَادِي وَهَارُونَ الرَّشِيدِ
كَانَ الْخَلِيفَةُ الْمَهْدِيُّ قَدْ أَلَحَّ عَلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى فِي أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ عَنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَمْتَنِعُ، وَهُوَ مُقِيمٌ بِالْكُوفَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَهْدِيُّ

أَحَدَ الْقُوَّادِ الْكِبَارِ، وَهُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ مُحَمَّدُ بْنُ فَرُّوخَ فِي أَلْفٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لِإِحْضَارِهِ إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَصْحِبُوا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ طَبْلًا، فَإِذَا وَاجَهُوا الْكُوفَةَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِطَبْلِهِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَارْتَجَّتِ الْكُوفَةُ، وَخَافَ عِيسَى بْنُ مُوسَى، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ دَعَوْهُ إِلَى حَضْرَةِ الْخَلِيفَةِ، فَأَظْهَرَ التَّشَكِّي، فَلَمْ يَقْبَلُوا، وَأَخَذُوهُ مَعَهُمْ، فَدَخَلُوا بَغْدَادَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ وُجُوهُ بَنِي هَاشِمٍ وَالْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَسَأَلُوهُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ يَمْتَنِعُ، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ النَّاسُ بِهِ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ حَتَّى أَجَابَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَئِذٍ. وَبُويِعَ لِوَلَدَيْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ; مُوسَى وَهَارُونَ الرَّشِيدِ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْخَمِيسِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَجَلَسَ الْمَهْدِيُّ فِي قُبَّةٍ عَظِيمَةٍ فِي إِيوَانِ الْخِلَافَةِ، وَدَخَلَ الْأُمَرَاءُ فَبَايَعُوا، ثُمَّ نَهَضَ الْمَهْدِيُّ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَجَلَسَ ابْنُهُ مُوسَى الْهَادِي تَحْتَهُ، وَقَامَ عِيسَى بْنُ مُوسَى عَلَى أَوَّلِ دَرَجَةٍ مِنْهُ، وَخَطَبَ الْمَهْدِيُّ، فَأَعْلَمَهُمْ بِمَا وَقَعَ مِنْ خَلْعِ عِيسَى بْنِ مُوسَى نَفْسَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ حَلَّلَ النَّاسَ مِنَ الْأَيْمَانِ الَّتِي لَهُ فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَجَعَلَ ذَلِكَ إِلَى مُوسَى الْهَادِي، فَصَدَّقَ عِيسَى بْنُ مُوسَى ذَلِكَ، وَبَايَعَ الْمَهْدِيَّ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ نَهَضَ النَّاسُ فَبَايَعُوا الْخَلِيفَةَ عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ وَأَسْنَانِهِمْ، وَكَتَبَ عَلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى مَكْتُوبًا مُؤَكَّدًا بِالْأَيْمَانِ الْبَالِغَةِ مِنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ جَمَاعَةَ الْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَأَعْيَانِ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَفِيهَا وَصَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شِهَابٍ الْمِسْمَعِيُّ مَدِينَةَ بَارْبَدَ مِنَ الْهِنْدِ فِي جَحْفَلٍ

كَثِيرٍ مَعَهُ، فَحَاصَرُوهَا وَنَصَبُوا عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، وَرَمَوْهَا بِالنِّفْطِ، فَأَحْرَقُوا مِنْهَا طَائِفَةً، وَهَلَكَ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَفَتَحُوهَا عَنْوَةً وَأَرَادُوا الِانْصِرَافَ فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ; لِاغْتِلَامِ الْبَحْرِ، فَأَقَامُوا هُنَالِكَ، فَأَصَابَهُمْ دَاءٌ فِي أَفْوَاهِهِمْ يُقَالُ لَهُ: حُمَامُ قُرٍّ. فَمَاتَ مِنْهُمْ أَلْفُ نَفْسٍ، مِنْهُمُ الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ، فَلَمَّا أَمْكَنَهُمُ الْمَسِيرُ رَكِبُوا فِي الْبَحْرِ، فَهَاجَتْ عَلَيْهِمْ رِيحٌ، فَغَرِقَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ أَيْضًا، وَوَصَلَ بَقِيَّتُهُمْ إِلَى الْبَصْرَةِ وَمَعَهُمْ سَبْيٌّ كَثِيرٌ، فِيهِمْ بِنْتُ مَلِكِهِمْ.
وَفِيهَا حَكَمَ الْمَهْدِيُّ بِإِلْحَاقِ نَسَبِ وَلَدِ أَبِي بَكْرَةَ الثَّقَفِيِّ إِلَى وَلَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَطَعَ نَسَبَهُمْ مِنْ ثَقِيفٍ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ كِتَابًا إِلَى وَالِي الْبَصْرَةِ، وَقَطَعَ نَسَبَهُ مِنْ زِيَادٍ وَمِنْ نَسَبِ نَافِعٍ، فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ، وَهُوَ خَالِدٌ النَّجَّارُ:
إِنَّ زِيَادًا وَنَافِعًا وَأَبَا بَكْرَةَ عِنْدِي مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ ذَا قُرَشِيٌّ كَمَا يَقُولُ وَذَا
مَوْلًى وَهَذَا بِزَعْمِهِ عَرَبِيٌّ
فَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ نَائِبَ الْبَصْرَةِ لَمْ يُنَفِّذْ ذَلِكَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَهْدِيُّ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَادَ ابْنَهُ مُوسَى الْهَادِي، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ ابْنَهُ هَارُونَ الرَّشِيدَ وَخَلْقًا مِنَ الْأُمَرَاءِ، مِنْهُمْ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ عَلَى مَنْزِلَتِهِ وَمَكَانَتِهِ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَدْ هَرَبَ مِنَ الْخَادِمِ، فَلَحِقَ بِأَرْضِ الْحِجَازِ، فَاسْتَأْمَنَ لَهُ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ، فَأَحْسَنَ الْمَهْدِيُّ

صِلَتَهُ، وَأَجْزَلَ جَائِزَتَهُ، وَفَرَّقَ الْمَهْدِيُّ فِي أَهْلِ مَكَّةَ مَالًا عَظِيمًا جِدًّا، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ مَعَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَمِائَةِ أَلْفِ ثَوْبٍ، وَجَاءَ مِنْ مِصْرَ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنَ الْيَمَنِ مِائَتَا أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَعْطَاهَا كُلَّهَا فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.
وَشَكَتِ الْحَجَبَةُ إِلَى الْمَهْدِيِّ أَنَّهُمْ يَخَافُونَ عَلَى الْكَعْبَةِ أَنْ تَنْهَدِمَ مِنْ كَثْرَةِ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْكَسَاوِي، فَأَمَرَ بِتَجْرِيدِهَا مِنَ الْكُسْوَةِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى كَسَاوِي هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَجَدَهَا مِنْ دِيبَاجٍ ثَخِينٍ جِدًّا، وَبَقِيَّةُ كَسَاوِي الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَلَمَّا جَرَّدَهَا طَلَاهَا بِالْخَلُوقِ، وَكَسَاهَا كُسْوَةً حَسَنَةً جِدًّا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ اسْتَفْتَى مَالِكًا فِي إِعَادَةِ الْكَعْبَةِ إِلَى مَا كَانَ بَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ مَوْضِعِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ يَوَدُّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ مَالِكٌ: دَعْهَا عَلَى حَالِهَا; فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّخِذَهَا الْمُلُوكُ مَلْعَبَةً. فَتَرَكَهَا كَمَا كَانَتْ.
وَحَمَلَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ نَائِبُ الْبَصْرَةِ الثَّلْجَ إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ أَوَّلَ خَلِيفَةٍ حُمِلَ لَهُ الثَّلْجُ إِلَيْهَا. وَلَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ وَسَّعَ الْمَسْجِدَ النَّبَوِيِّ، وَكَانَ فِيهِ مَقْصُورَةٌ، فَأَزَالَهَا. وَأَرَادَ أَنْ يَنْقُصَ مِنَ الْمِنْبَرِ مَا كَانَ زَادَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: إِنَّهُ يَخْشَى أَنْ يَنْكَسِرَ الْخَشَبُ الْعَتِيقُ إِذَا زُعْزِعَ. فَتَرَكَهُ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ.
وَتَزَوَّجَ مِنَ الْمَدِينَةِ رُقَيَّةَ بِنْتَ عَمْرٍو الْعُثْمَانِيَّةَ، وَانْتَخَبَ مِنْ أَهْلِهَا مِنَ الْأَنْصَارِ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ أَعْيَانِهَا لِيَكُونُوا حَوْلَهُ حَرَسًا بِالْعِرَاقِ وَأَنْصَارًا لَهُ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ أَرْزَاقًا غَيْرَ أُعْطِيَاتِهِمْ، وَأَقْطَعَهُمْ أَقْطَاعًا مَعْرُوفَةً بِهِمْ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ، وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، أَحَدُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَشُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ بْنِ الْوَرْدِ الْعَتَكِيُّ الْأَزْدِيُّ أَبُو بِسِطَامٍ الْوَاسِطِيُّ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ. رَأَى شُعْبَةُ الْحَسَنَ، وَابْنَ سِيرِينَ، وَرَوَى عَنْ أُمَمٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنْ مَشَايِخِهِ وَأَقْرَانِهِ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ شَيْخُ الْمُحَدِّثِينَ الْمُلَقَّبُ فِيهِمْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَهُ الثَّوْرِيُّ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ إِمَامُ الْمُتَّقِينَ. وَكَانَ فِي غَايَةِ الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ وَالتَّقَشُّفِ وَالْحِفْظِ وَحُسْنِ الطَّرِيقَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْلَاهُ مَا عُرِفَ الْحَدِيثُ بِالْعِرَاقِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: كَانَ أُمَّةً وَحْدَهُ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ مِثْلُهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا حُجَّةً، صَاحِبَ حَدِيثٍ.

وَقَالَ وَكِيعٌ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَرْفَعَ اللَّهُ لِشُعْبَةَ فِي الْجَنَّةِ دَرَجَاتٍ بِذَبِّهِ عَنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَزَرَةُ: كَانَ شُعْبَةُ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الرِّجَالِ، وَتَبِعَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ، ثُمَّ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ.
وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنْ مَالِكٍ، وَلَا أَشَدَّ تَقَشُّفًا مِنْ شُعْبَةَ، وَلَا أَنْصَحَ لِلْأُمَّةِ مِنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَلَا أَحْفَظَ لِلْحَدِيثِ مِنَ الثَّوْرِيِّ.
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: مَا دَخَلْتُ عَلَى شُعْبَةَ فِي وَقْتِ صَلَاةٍ إِلَّا وَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي، وَكَانَ أَبَا الْفُقَرَاءِ وَأُمَّهُمْ.
وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: مَا رَأَيْتُ أَرْحَمَ بِمِسْكِينٍ مِنْهُ، كَانَ إِذَا رَأَى مِسْكِينًا لَا يَزَالُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ حَتَّى يَغِيبَ عَنْهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا رَأَيْتُ أَعْبَدَ مِنْهُ; لَقَدْ عَبَدَ اللَّهَ حَتَّى لَصِقَ جِلْدُهُ بِعَظْمِهِ.
وَقَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ: مَا رَأَيْتُ أَرَقَّ لِلْمِسْكِينِ مِنْهُ، كَانَ يُدْخِلُ الْمِسْكِينَ مَنْزِلَهُ فَيُعْطِيهِ مَا أَمْكَنَهُ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ: مَاتَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَةٍ بِالْبَصْرَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ ثُمَامَةُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَنَزَلَ دَابِقَ، وَجَاشَتِ الرُّومُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِحَفْرِ الرَّكَايَا وَعَمَلِ الْمَصَانِعِ وَبِنَاءِ الْقُصُورِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، وَوَلَّى عَلَى ذَلِكَ يَقْطِينَ بْنَ مُوسَى، فَلَمْ يَزَلْ يَعْمَلُ فِي ذَلِكَ إِلَى سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ، حَتَّى صَارَتْ طَرِيقُ الْحِجَازِ مِنْ أَرْفَقِ الطُّرُقَاتِ وَآمَنِهَا وَأَطْيَبِهَا.
وَفِيهَا وَسَّعَ الْمَهْدِيُّ جَامِعَ الْبَصْرَةِ مِنْ قِبْلَتِهِ وَغَرْبِهِ.
وَفِيهَا كَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ أَنْ لَا تَبْقَى مَقْصُورَةٌ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ، وَأَنْ تُقَصَّرَ الْمَنَابِرُ إِلَى مِقْدَارِ مَا كَانَ مِنْبَرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفُعِلَ ذَلِكَ فِي الْمَدَائِنِ كُلِّهَا.
وَفِيهَا اتَّضَعَتْ مَنْزِلَةُ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ وَزِيرِ الْمَهْدِيِّ عِنْدَهُ، وَظَهَرَتْ عِنْدَهُ خِيَانَتُهُ، فَضَمَّ إِلَيْهِ الْمَهْدِيُّ مَنْ يُشْرِفُ عَلَيْهِ، فَكَانَ مِمَّنْ ضُمَّ إِلَيْهِ إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، ثُمَّ أَبْعَدَهُ وَأَقْصَاهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ مُعَسْكَرِهِ.
وَفِيهَا وَلِيَ الْقَضَاءَ عَافِيَةُ بْنُ يَزِيدَ الْأَزْدِيُّ، فَكَانَ يَحْكُمُ هُوَ وَابْنُ عُلَاثَةَ فِي عَسْكَرِ الْمَهْدِيِّ بِالرُّصَافَةِ.

وَفِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْمُقَنَّعُ. بِخُرَاسَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى مَرْوَ، وَكَانَ يَقُولُ بِالتَّنَاسُخِ، وَاتَّبَعَهُ عَلَى ضَلَالَتِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَجَهَّزَ لَهُ الْمَهْدِيُّ عِدَّةً مِنْ أُمَرَائِهِ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ جُيُوشًا كَثِيرَةً، مِنْهُمْ مُعَاذُ بْنُ مُسْلِمٍ أَمِيرُ خُرَاسَانَ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِهِمْ مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُوسَى الْهَادِي ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ وَلِيُّ عَهْدِ أَبِيهِ، كَمَا قَدَّمْنَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، وَزَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ، وَسُفْيَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ الثَّوْرِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَعُبَّادِهِ وَالْمُقْتَدَى بِهِمْ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيُّ، رَوَى عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِمْ.
قَالَ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَأَبُو عَاصِمٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: كَتَبْتُ عَنْ أَلْفٍ وَمِائَةِ شَيْخٍ، هُوَ أَفْضَلُهُمْ.

وَقَالَ أَيُّوبُ: مَا رَأَيْتُ كُوفِيًّا أُفَضِّلُهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ: مَا رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنَ الثَّوْرِيِّ.
وَقَالَ شُعْبَةُ: سَادَ فِي النَّاسِ بِالْوَرَعِ وَالْعِلْمِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَصْحَابُ الْحَدِيثِ ثَلَاثَةٌ; ابْنُ عَبَّاسٍ فِي زَمَانِهِ، وَالشَّعْبِيُّ فِي زَمَانِهِ، وَالثَّوْرِيُّ فِي زَمَانِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا يَتَقَدَّمُهُ فِي قَلْبِي أَحَدٌ. ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرِي مَنِ الْإِمَامُ؟ الْإِمَامُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: سَمِعْتُ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: مَا اسْتَوْدَعْتُ قَلْبِي شَيْئًا قَطُّ فَخَانَنِي.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَأَنْ أَتْرُكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ يُحَاسِبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْتَاجَ إِلَى النَّاسِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَجْمَعُوا أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ، سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ.

وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ أَرْبَعًا وَسِتِّينَ سَنَةً. وَرَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ يَطِيرُ فِي الْجَنَّةِ مِنْ نَخْلَةٍ إِلَى نَخْلَةٍ، وَهُوَ يَقْرَأُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [ الزُّمَرِ: 74 ].
أَبُو دُلَامَةَ
زَنْدُ بْنُ الْجَوْنِ، الشَّاعِرُ الْمَاجِنُ، أَحَدُ الظُّرَفَاءِ، أَصْلُهُ مِنَ الْكُوفَةِ، وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ، وَحَظِيَ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ; لِأَنَّهُ كَانَ يُضْحِكُهُ، وَيُنْشِدُهُ وَيَمْدَحُهُ; حَضَرَ يَوْمًا جِنَازَةَ امْرَأَةِ الْمَنْصُورِ وَابْنَةِ عَمِّهِ حَمَّادَةَ بِنْتِ عِيسَى، وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدْ وَجِدَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا شَهِدَ الْقَبْرَ نَظَرَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ ثُمَّ قَالَ لِأَبِي دُلَامَةَ: وَيْحَكَ يَا أَبَا دُلَامَةَ ! مَا أَعْدَدْتَ لِهَذَا؟ فَقَالَ: ابْنَةَ عَمِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَضَحِكَ الْمَنْصُورُ حَتَّى اسْتَلْقَى، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ! فَضَحْتَنَا بَيْنَ النَّاسِ.
وَدَخَلَ يَوْمًا عَلَى الْمَهْدِيِّ يُهَنِّئُهُ بِقُدُومِهِ مِنْ سَفَرِهِ وَأَنْشَدَهُ:
إِنِّي حَلَفْتُ لَئِنْ رَأَيْتُكُ سَالِمًا بِقُرَى الْعِرَاقِ وَأَنْتَ ذُو وَفْرِ لَتُصَلِّيَنَّ عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ
وَلَتَمْلَأَنَّ دَرَاهِمًا حِجْرِي
فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَعَمْ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا. فَقَالَ: هُمَا كَلِمَتَانِ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. فَمَلَأَ حِجْرَهُ دَرَاهِمَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: قُمْ. فَقَالَ: إِذًا يَنْخَرِقُ قَمِيصِي. فَأُفْرِغَتْ فِي أَكْيَاسِهَا، ثُمَّ قَامَ وَأَخَذَهَا.

وَذَكَرَ عَنْهُ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ مَرِضَ ابْنُهُ فَدَاوَاهُ طَبِيبٌ، فَلَمَّا عُوفِيَ قَالَ لَهُ: لَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ، وَلَكِنِ ادَّعِ عَلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ بِمَبْلَغِ مَا تَسْتَحِقُّهُ; حَتَّى أَشْهَدَ أَنَا وَوَلَدِي عَلَيْهِ. فَادَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ قَاضِي الْكُوفَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - وَقِيلَ: ابْنُ شُبْرُمَةَ - فَأَنْكَرَ الْيَهُودِيُّ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَبُو دُلَامَةَ وَابْنُهُ، فَلَمْ يَسْتَطِعِ الْقَاضِي أَنْ يَرُدَّ شَهَادَتَهُمَا، وَخَافَ مِنْ طَلَبِ التَّزْكِيَةِ، فَأَعْطَى الْمُدَّعِي الْمَالَ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَطْلَقَ الْيَهُودِيَّ، وَجَمَعَ الْقَاضِي بَيْنَ الْمَصَالِحِ.
تُوُفِّيَ أَبُو دُلَامَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَدْرَكَ خِلَافَةَ الرَّشِيدِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ هَاشِمٍ الْيَشْكُرِيُّ بِأَرْضِ قِنِّسْرِينَ، وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، فَقَاتَلَهُ خَلْقٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَجَهَّزَ إِلَيْهِ الْمَهْدِيُّ جُيُوشًا، وَأَنْفَقَ فِيهِمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَهَزَمَ الْخَارِجِيُّ الْجُيُوشَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ إِنَّهُ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ فِي ثَمَانِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُرْتَزِقَةِ سِوَى الْمُطَّوِّعَةِ، فَقَهَرَ الرُّومَ، وَحَرَقَ بُلْدَانًا كَثِيرَةً وَخَرَّبَهَا، وَأَسَرَ خَلْقًا مِنَ الذَّرَارِي.
وَكَذَلِكَ غَزَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي أُسَيْدٍ السُّلَمِيُّ بِلَادَ الرُّومِ مِنْ بَابِ قَالِيقَلَا، فَغَنَمَ وَسَلِمَ وَسَبَى خَلْقًا كَثِيرًا.
وَفِيهَا خَرَجَتْ طَائِفَةٌ بِجُرْجَانَ، فَلَبِسُوا الْحُمْرَةَ; وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُمُ: الْمُحَمِّرَةُ. مَعَ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ الْقَهَّارِ. فَغَزَاهُ عُمَرُ بْنُ الْعَلَاءِ مِنْ طَبَرِسْتَانَ، فَقَهَرَ عَبْدَ الْقَهَّارِ، فَقَتَلَهُ وَأَصْحَابَهُ.
وَفِيهَا أَجْرَى الْمَهْدِيُّ الْأَرْزَاقَ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ وَالْآفَاقِ عَلَى الْمُجَذَّمِينَ

وَالْمُحْبَسِينَ، وَهَذِهِ مَثُوبَةٌ عَظِيمَةٌ وَمَكْرُمُةٌ جَسِيمَةٌ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْمَنْصُورِ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْعُبَّادِ، وَمِنْ أَكَابِرِ مَنْ لَهُ هِمَّةٌ عَالِيَةٌ مِنَ الْعُبَّادِ، وَدَاوُدُ الطَّائِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ، وَزُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَيَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِيُّ.
فَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، أَبُو إِسْحَاقَ التَّمِيمِيُّ، وَيُقَالُ: الْعِجْلِيُّ. فَهُوَ أَحَدُ الزُّهَّادِ، أَصْلُهُ مِنْ بَلْخَ. وَسَكَنَ الشَّامَ، وَدَخَلَ دِمَشْقَ، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ، وَالْأَعْمَشِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ صَاحِبِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، وَخَلْقٍ.
وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنْهُمْ; بَقِيَّةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرٍ، وَحَكَى عَنْهُ الْأَوْزَاعِيُّ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجَزَرِيِّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:

دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُصَلِّي جَالِسًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تُصَلِّي جَالِسًا، فَمَا أَصَابَكَ؟ قَالَ: " الْجُوعُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ". قَالَ: فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: " لَا تَبْكِ; فَإِنَّ شِدَّةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا تُصِيبُ الْجَائِعَ إِذَا احْتَسَبَ فِي دَارِ الدُّنْيَا ".
وَمِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْفِتْنَةَ تَجِيءُ فَتَنْسِفُ الْعِبَادَ نَسْفًا، وَيَنْجُو الْعَالِمُ مِنْهَا بِعِلْمِهِ.
قَالَ النَّسَائِيُّ: هُوَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ، أَحَدُ الزُّهَّادِ.
وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي " رِسَالَتِهِ " أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَتَصَيَّدُ إِذْ أَتْبَعَ ثَعْلَبًا أَوْ أَرْنَبًا، فَهَتَفَ بِهِ هَاتِفٌ مِنْ قَرَبُوسِ سَرْجِهِ: أَلِهَذَا خُلِقْتَ أَمْ بِهَذَا أُمِرْتَ؟ فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ وَجَاءَ إِلَى رَاعِي غَنَمٍ لِأَبِيهِ، فَأَخَذَ جُبَّةً مِنْ صُوفٍ فَلَبِسَهَا، وَأَعْطَاهُ فَرَسَهُ وَلِبَاسَهُ وَمَا كَانَ مَعَهُ، وَذَهَبَ فِي الْبَادِيَةِ، فَدَخَلَ مَكَّةَ، وَصَحِبَ الثَّوْرِيَّ، وَالْفُضَيْلَ بْنَ

عِيَاضٍ، وَدَخَلَ الشَّامَ وَمَاتَ بِهَا.
وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، مِثْلَ الْحَصَادِ، وَحِفْظِ الْبَسَاتِينِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَإِنَّهُ رَأَى فِي الْبَادِيَةِ رَجُلًا عَلَّمَهُ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ، فَدَعَا بِهِ بَعْدَهُ، فَرَأَى الْخَضِرَ، فَقَالَ: إِنَّمَا عَلَّمَكَ أَخِي دَاوُدُ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ. ثُمَّ سَاقَهُ الْقُشَيْرِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ لَا يَصِحُّ. وَرَوَاهَا ابْنُ عَسَاكِرَ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ إِلْيَاسَ هُوَ عَلَّمَكَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ كَبِيرَ الشَّأْنِ فِي بَابِ الْوَرِعِ، وَيُحْكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَطِبْ مَطْعَمَكَ، وَلَا عَلَيْكَ أَنْ لَا تَقُومَ اللَّيْلَ، وَتَصُومَ النَّهَارَ.
وَقِيلَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ انْقُلْنِي مِنْ ذُلِّ مَعْصِيَتِكَ إِلَى عِزِّ طَاعَتِكَ.
وَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ: إِنَّ اللَّحْمَ قَدْ غَلَا. فَقَالَ: أَرْخِصُوهُ. أَيْ لَا تَشْتَرُوهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَتَفَ بِهِ الْهَاتِفُ قَائِلًا لَهُ مِنْ فَوْقِهِ: يَا إِبْرَاهِيمُ، مَا هَذَا

الْعَبَثُ؟ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 115 ]. اتَّقِ اللَّهَ، وَعَلَيْكَ بِالزَّادِ لِيَوْمِ الْفَاقَةِ. قَالَ: فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ، وَرَفَضَ الدُّنْيَا، وَأَخَذَ فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ - بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ - عَنِ ابْتِدَاءِ أَمْرِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا فِي مَنْظَرَةٍ لِي بِبَلْخَ، وَإِذَا بِشَيْخٍ حَسَنٍ قَدِ اسْتَظَلَّ بِفَيْئِهَا، فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ قَلْبِي، فَأَمَرْتُ غُلَامِي، فَطَلَبَهُ فَدَخَلَ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ الطَّعَامَ، فَأَبَى، فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ وَرَاءِ النَّهْرِ. قُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْحَجَّ. قُلْتُ: فِي هَذَا الْوَقْتِ؟ - وَكَانَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ ثَانِيَهُ - فَقَالَ: يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ. فَقُلْتُ: الصُّحْبَةَ. قَالَ: إِنْ أَحْبَبْتَ ذَلِكَ فَمَوْعِدُكَ اللَّيْلُ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَنِي فَقَالَ: قُمْ بِسْمِ اللَّهِ. فَأَخَذْتُ ثِيَابَ سَفَرِي، وَسِرْنَا نَمْشِي كَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُجْذَبُ مِنْ تَحْتِنَا، وَنَحْنُ نَمُرُّ عَلَى الْبُلْدَانِ، وَنَقُولُ هَذِهِ فُلَانَةُ، هَذِهِ فُلَانَةُ. فَإِذَا كَانَ الصَّبَاحُ فَارَقَنِي وَيَقُولُ: مَوْعِدُكَ اللَّيْلُ. فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَنِي، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَزُرْنَا قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ سِرْنَا إِلَى مَكَّةَ، فَجِئْنَاهَا لَيْلًا، فَقَضَيْنَا الْحَجَّ مَعَ النَّاسِ، ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى الشَّامِ، فَزُرْنَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ: إِنِّي عَازِمٌ عَلَى الْمُقَامِ بِالشَّامِ. وَرَجَعْتُ أَنَا إِلَى بَلَدِي بَلْخَ أَسِيرُ سَيْرَ الضُّعَفَاءِ، حَتَّى رَجَعْتُ إِلَيْهَا، وَلَمْ أَسْأَلْهُ عَنِ اسْمِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ أَمْرِي. وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِيهِ نَظَرٌ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: كَانَ

إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ يُشْبِهُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ، وَلَوْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ لَكَانَ رَجُلًا فَاضِلًا.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ رَجُلًا فَاضِلًا، لَهُ سَرَائِرُ، وَمَا رَأَيْتُهُ يُظْهِرُ تَسْبِيحًا وَلَا شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ، وَلَا أَكَلَ مَعَ أَحَدٍ طَعَامًا إِلَّا كَانَ آخِرَ مَنْ يَرْفَعُ يَدَهُ.
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْحَافِي: أَرْبَعَةٌ رَفَعَهُمُ اللَّهُ بِطِيبِ الْمَطْعَمِ; إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، وَسُلَيْمَانُ الْخَوَّاصُ، وَوُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ، وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَفْصٍ قَالَ: إِنَّمَا سَمِعَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ مِنْ مَنْصُورٍ حَدِيثًا، فَأَخَذَ بِهِ، فَسَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُحِبُّنِي اللَّهُ عَلَيْهِ وَيُحِبُّنِي النَّاسُ. قَالَ: " إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يُحِبَّكَ اللَّهُ فَأَبْغِضِ الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ يُحِبَّكَ النَّاسُ فَمَا كَانَ عِنْدَكَ مِنْ فُضُولِهَا فَانْبِذْهُ إِلَيْهِمْ ".
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ، عَنْ إِدْرِيسَ قَالَ: جَلَسَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ إِلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فَجَعَلُوا يَتَذَاكَرُونَ الْحَدِيثَ وَإِبْرَاهِيمُ سَاكِتٌ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ. ثُمَّ سَكَتَ، فَلَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ حَتَّى قَامَ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَعَاتَبَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي لَأَخْشَى مَضَرَّةَ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ

فِي قَلْبِي إِلَى هَذَا الْيَوْمِ.
وَقَالَ رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ: مَرَّ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ بِالْأَوْزَاعِيِّ، وَحَوْلَهُ حَلْقَةٌ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ هَذِهِ الْحَلْقَةَ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ لَعَجَزَ عَنْهُمْ. فَقَامَ الْأَوْزَاعِيُّ وَتَرَكَهُمْ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ: قِيلَ لِابْنِ أَدْهَمَ: لِمَ لَا تَكْتُبُ الْحَدِيثَ؟ فَقَالَ: إِنِّي مَشْغُولٌ بِثَلَاثٍ; بِالشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ، وَبِالِاسْتِغْفَارِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَبِالِاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ. ثُمَّ صَاحَ وَغُشِيَ عَلَيْهِ، فَسَمِعُوا هَاتِفًا يَقُولُ: لَا تَدْخُلُوا بَيْنِي وَبَيْنَ أَوْلِيَائِي.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَوْمًا لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ: قَدْ رُزِقْتَ مِنَ الْعِبَادَةِ شَيْئًا صَالِحًا، فَلْيَكُنِ الْعِلْمُ مِنْ بَالِكَ; فَإِنَّهُ رَأَسُ الْعِبَادَةِ وَقِوَامُ الدِّينِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: مَاذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ! لَا يَسْأَلُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ زَكَاةٍ، وَلَا عَنْ حَجٍّ، وَلَا عَنْ جِهَادٍ، وَلَا عَنْ صِلَةِ رَحِمٍ، إِنَّمَا يَسْأَلُ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينَ. يَعْنِي الْأَغْنِيَاءَ.
وَقَالَ شَقِيقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: لَقِيتُ ابْنَ أَدْهَمَ بِالشَّامِ، وَقَدْ كُنْتُ رَأَيْتُهُ بِالْعِرَاقِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ ثَلَاثُونَ شَاكِرِيًّا. فَقُلْتُ لَهُ: تَرَكْتَ خُرَاسَانَ، وَخَرَجْتَ مِنْ

نِعْمَتِكَ؟ فَقَالَ: قَدْ تَهَنَّيْتُ بِالْعَيْشِ هَاهُنَا، أَفِرُّ بِدِينِي مِنْ شَاهِقٍ إِلَى شَاهِقٍ، فَمَنْ يَرَانِي يَقُولُ: مُوَسْوَسٌ. أَوْ: حَمَّالٌ. أَوْ: مَلَّاحٌ. ثُمَّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ يُؤْتَى بِالْفَقِيرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ لَهُ: يَا عَبْدِي، مَا لَكَ لَمْ تَحُجَّ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَمْ تُعْطِنِي شَيْئًا أَحُجُّ بِهِ. فَيَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: صَدَقَ عَبْدِي، اذْهَبُوا بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ قَالَ: أَقَمْتُ بِالشَّامِ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً لَمْ أَجِئْ لِجِهَادٍ وَلَا رِبَاطٍ، إِنَّمَا جِئْتُ لِأَشْبَعَ مِنْ خُبْزِ الْحَلَالِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: الْحُزْنُ حُزْنَانِ; حُزْنٌ لَكَ وَحُزْنٌ عَلَيْكَ; فَحُزْنُكَ عَلَى الْآخِرَةِ وَخَيْرِهَا لَكَ، وَحُزْنُكَ عَلَى الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا عَلَيْكَ.
وَقَالَ: الزُّهْدُ ثَلَاثَةٌ، وَاجِبٌ، وَمُسْتَحَبٌّ، وَزُهْدُ سَلَامَةٍ، فَالزُّهْدُ فِي الْحَرَامِ وَاجِبٌ، وَالزُّهْدُ عَنِ الشَّهَوَاتِ الْحَلَالِ مُسْتَحَبٌّ، وَالزُّهْدُ عَنِ الشُّبَهَاتِ سَلَامَةٌ.
وَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَمْنَعُونَ أَنْفُسَهُمُ الْحَمَّامَ وَالْمَاءَ الْبَارِدَ وَالْحِذَاءَ، وَلَا يَجْعَلُونَ فِي مِلْحِهِمْ أَبْزَارًا.
وَكَانَ إِذَا جَلَسَ عَلَى سُفْرَةٍ فِيهَا طَعَامٌ طَيِّبٌ رَمَى بِطَيِّبِهَا إِلَى أَصْحَابِهِ، وَأَكَلَ

هُوَ الْخَبْزَ وَالزَّيْتُونَ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: قِلَّةُ الْحِرْصِ وَالطَّمَعُ تُوَرِّثُ الصِّدْقَ وَالْوَرَعَ، وَكَثْرَةُ الْحِرْصِ وَالطَّمَعِ تُوَرِّثُ الْغَمَّ وَالْجَزَعَ.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: هَذِهِ جُبَّةٌ أُحِبُّ أَنْ تَقْبَلَهَا مِنِّي. فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ غَنِيًّا قَبِلْتُهَا، وَإِنْ كُنْتَ فَقِيرًا لَمْ أَقْبَلْهَا. قَالَ: أَنَا غَنِيٌّ. قَالَ: كَمْ عِنْدَكَ؟ قَالَ: أَلْفَانِ. قَالَ: تَوَدُّ أَنْ تَكُونَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْتَ فَقِيرٌ لَا أَقْبَلُهَا.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: لَوْ تَزَوَّجْتَ؟! فَقَالَ: لَوْ أَمْكَنَنِي أَنْ أُطَلِّقَ نَفْسِي لَطَلَّقْتُهَا.
وَمَكَثَ بِمَكَّةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا شَيْءَ مَعَهُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ زَادٌ سِوَى الرَّمْلِ بِالْمَاءِ.
وَصَلَّى بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ خَمْسَ عَشْرَةَ صَلَاةً.
وَأَكَلَ يَوْمًا عَلَى حَافَّةِ الشَّرِيعَةِ كُسَيْرَاتٍ مَبْلُولَةً، وَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ أَبُو يُوسُفَ الْغَسُولِيُّ، ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ مِنَ الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ جَاءَ فَاسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ، وَقَالَ: يَا أَبَا يُوسُفَ، لَوْ عَلِمَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ لَجَالَدُونَا بِالسُّيُوفِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ. فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: طَلَبَ الْقَوْمُ الرَّاحَةَ

وَالنَّعِيمَ فَأَخْطَئُوا الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ. فَتَبَسَّمَ إِبْرَاهِيمُ وَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا الْكَلَامُ؟
وَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا بِالْمِصِّيصَةِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ جَاءَهُ رَاكِبٌ فَقَالَ: أَيُّكُمْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ؟ فَأُرْشِدَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا سَيِّدِي، أَنَا غُلَامُكَ، وَإِنَّ أَبَاكَ قَدْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا هُوَ عِنْدَ الْقَاضِي، وَقَدْ جِئْتُكَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ لِتُنْفِقَهَا عَلَيْكَ إِلَى بَلْخَ، وَفَرَسٍ وَبَغْلَةٍ. فَسَكَتَ إِبْرَاهِيمُ طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَالدَّرَاهِمُ وَالْفَرَسُ وَالْبَغْلَةُ لَكَ، وَلَا تُخْبِرْ بِهِ أَحَدًا. وَيُقَالُ إِنَّهُ ذَهَبَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى بَلْخَ، وَأَخَذَ الْمَالَ مِنَ الْحَاكِمِ، وَجَعَلَهُ كُلَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَكَانَ مَعَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَمَكَثُوا شَهْرَيْنِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ شَيْءٌ يَأْكُلُونَهُ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: ادْخُلْ إِلَى هَذِهِ الْغَيْضَةِ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ. قَالَ: فَدَخَلْتُ فَوَجَدْتُ شَجَرَةً عَلَيْهَا خَوْخٌ كَثِيرٌ، فَمَلَأْتُ مِنْهُ جِرَابِي، ثُمَّ خَرَجْتُ، فَقَالَ: مَا مَعَكَ؟ فَقُلْتُ: خَوْخٌ. فَقَالَ: يَا ضَعِيفَ الْيَقِينِ، لَوْ صَبَرْتَ لَوَجَدْتَ رُطَبًا جَنِيًّا، كَمَا رُزِقَتْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ.
وَشَكَا إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الْجُوعَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا حَوْلَهُ دَنَانِيرُ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ: خُذْ مِنْهَا دِينَارًا. فَأَخَذَهُ وَاشْتَرَى لَهُمْ بِهِ طَعَامًا.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ بِالْفَاعِلِ، ثُمَّ يَذْهَبُ فَيَشْتَرِي الْخَبْزَ الْأَبْيَضَ وَالزُّبْدَ، وَتَارَةً الشِّوَاءَ وَالْجُوذَابَاتِ، وَالْخَبِيصَ فَيُطْعِمُهُ أَصْحَابَهُ وَهُوَ صَائِمٌ، فَإِذَا أَفْطَرَ

يَأْكُلُ مِنْ رَدِيءِ الطَّعَامِ، وَيَحْرِمُ نَفْسَهُ الْمَطْعَمَ الطَّيِّبَ لِيُؤْثِرَ بِهِ النَّاسَ; تَأْلِيفًا لَهُمْ وَتَحَبُّبًا وَتَوَدُّدًا إِلَيْهِمْ.
وَأَضَافَ الْأَوْزَاعِيُّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ، فَقَصَّرَ إِبْرَاهِيمُ فِي الْأَكْلِ، فَقَالَ: مَا لَكَ قَصَّرْتَ؟ فَقَالَ: لِأَنَّكَ قَصَّرْتَ فِي الطَّعَامِ. ثُمَّ عَمِلَ إِبْرَاهِيمُ طَعَامًا كَثِيرًا، وَدَعَا الْأَوْزَاعِيَّ، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: أَمَا تَخَافُ أَنْ يَكُونَ سَرَفًا؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّمَا السَّرَفُ مَا كَانَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَأَمَّا مَا أَنْفَقَهُ الرَّجُلُ عَلَى إِخْوَانِهِ، فَهُوَ مِنَ الدِّينِ.
وَذُكِرَ أَنَّهُ حَصَدَ مَرَّةً بِعِشْرِينَ دِينَارًا، فَجَلَسَ مَرَّةً عِنْدَ حَجَّامٍ هُوَ وَصَاحِبٌ لَهُ لِيَحْلِقَ رُءُوسَهُمْ وَيَحْجِمَهُمْ، فَكَأَنَّهُ تَبَرَّمَ بِهِمْ، وَاشْتَغَلَ عَنْهُمْ بِغَيْرِهِمْ، فَتَأَذَّى صَاحِبُهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمُ الْحَجَّامُ فَقَالَ: مَاذَا تُرِيدُونَ؟ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: أُرِيدُ أَنْ تَحْلِقَ رَأْسِي وَتَحْجِمَنِي. فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَأَعْطَاهُ إِبْرَاهِيمُ تِلْكَ الْعِشْرِينَ دِينَارًا، وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ لَا تُحَقِّرَ بَعْدَهَا فَقِيرًا أَبَدًا.
وَقَالَ مَضَاءُ بْنُ عِيسَى: مَا فَاقَ إِبْرَاهِيمُ أَصْحَابَهُ بِصَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ، وَلَكِنْ بِالصَّدَقَةِ وَالسَّخَاءِ.
وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ يَقُولُ: فِرُّوا مِنَ النَّاسِ كَفِرَارِكُمْ مِنَ الْأَسَدِ الضَّارِي، وَلَا تَخَلَّفُوا عَنِ الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ.

وَكَانَ إِذَا سَافَرَ مَعَ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَخْدِمُهُ إِبْرَاهِيمُ، وَكَانَ إِذَا حَضَرَ فِي مَجْلِسٍ فَكَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ; هَيْبَةً لَهُ وَإِجْلَالًا.
وَرُبَّمَا تَسَامَرَ هُوَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي اللَّيْلَةِ التَّامَّةِ إِلَى الصَّبَاحِ، وَكَانَ الثَّوْرِيُّ يَتَحَرَّزُ مَعَهُ فِي الْكَلَامِ.
وَرَأَى رَجُلًا، فَقِيلَ لَهُ: هَذَا قَاتِلُ خَالِكَ. فَذَهَبَ إِلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَأَهْدَى لَهُ، وَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَبْلُغُ دَرَجَةَ الْيَقِينِ حَتَّى يَأْمَنَهُ عَدُوُّهُ.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: طُوبَى لَكَ; أَفْنَيْتَ عُمْرَكَ فِي الْعِبَادَةِ، وَتَرَكْتَ الدُّنْيَا وَالزَّوْجَاتِ. فَقَالَ: أَلَكَ عِيَالٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: لَرَوْعَةُ الرَّجُلِ بِعِيَالِهِ - يَعْنِي فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ مِنَ الْفَاقَةِ - أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ كَذَا وَكَذَا سَنَةً.
وَرَآهُ الْأَوْزَاعِيُّ بِبَيْرُوتَ وَعَلَى عُنُقِهِ حِزْمَةُ حَطَبٍ فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، إِنَّ إِخْوَانَكَ يَكْفُونَكَ هَذَا. فَقَالَ لَهُ: اسْكُتْ يَا أَبَا عَمْرٍو، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ إِذَا وَقَفَ الرَّجُلُ مَوْقِفَ مَذَلَّةٍ فِي طَلَبِ الْحَلَالِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ.
وَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَمَرَّ بِطَبَرِيَّةَ، فَأَخَذَتْهُ الْمَسْلَحَةُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالُوا: أَنْتَ عَبْدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: آبِقٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَسَجَنُوهُ. فَبَلَغَ أَهْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَبَرُهُ، فَجَاءُوا بِرُمَّتِهِمْ إِلَى نَائِبِ طَبَرِيَةَ فَقَالُوا: عَلَامَ

سَجَنْتَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ؟ قَالَ: مَا سَجَنْتُهُ. قَالُوا: بَلَى، هُوَ فِي سِجْنِكَ. فَاسْتَحْضَرَهُ، فَقَالَ: عَلَامَ حُبِسْتَ؟ فَقَالَ: سَلِ الْمَسْلَحَةَ، قَالُوا: أَنْتَ عَبْدٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ. قَالُوا: وَأَنْتَ آبِقٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَأَنَا عَبْدٌ آبِقٌ مِنْ ذُنُوبِي. فَخَلَّى سَبِيلَهُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ مَرَّ مَعَ رُفْقَةٍ، فَإِذَا الْأَسَدُ عَلَى الطَّرِيقِ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ فَقَالَ لَهُ: يَا قَسْوَرَةُ، إِنْ كُنْتَ أُمِرْتَ فِينَا بِشَيْءٍ فَامْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ، وَإِلَّا فَعَوْدَكَ عَلَى بَدْئِكَ. قَالُوا: فَوَلَّى السَّبُعُ ذَاهِبًا يَضْرِبُ بِذَنَبِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا إِبْرَاهِيمُ فَقَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ احْرُسْنَا بِعَيْنِكَ الَّتِي لَا تَنَامُ، وَاكْنُفْنَا بِرُكْنِكَ الَّذِي لَا يُرَامُ، وَارْحَمْنَا بِقُدْرَتِكَ عَلَيْنَا، وَلَا نَهْلِكُ وَأَنْتَ رَجَاؤُنَا، يَا اللَّهُ، يَا اللَّهُ، يَا اللَّهُ. قَالَ خَلَفُ بْنُ تَمِيمٍ: فَمَا زِلْتُ أَقُولُهَا مُنْذُ سَمِعْتُهَا فَمَا عَرَضَ لِي لِصٌّ وَلَا غَيْرُهُ.
وَقَدْ رُوِيَ لِهَذَا شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَجَاءَهُ أُسْدٌ ثَلَاثَةٌ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَحَدُهُمْ، فَشَمَّ ثِيَابَهُ، ثُمَّ ذَهَبَ، فَرَبَضَ قَرِيبًا مِنْهُ، وَجَاءَ الثَّانِي فَفَعَلَ مِثْلَ كَذَلِكَ، وَجَاءَ الثَّالِثُ فَفَعَلَ كَذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ إِبْرَاهِيمُ فِي صِلَاتِهِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ السَّحَرِ قَالَ لَهُمْ: إِنْ كُنْتُمْ أُمِرْتُمْ بِشَيْءٍ فَهَلُمَّ، وَإِلَّا فَانْصَرِفُوا. فَانْصَرَفُوا.
وَصَعِدَ مَرَّةً جَبَلًا بِمَكَّةَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَقَالَ لَهُمْ: لَوْ أَنَّ وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ

قَالَ لِجَبَلٍ: زُلْ. لَزَالَ. فَتَحَرَّكَ الْجَبَلُ تَحْتَهُ، فَرَكَلَهُ بِرِجْلِهِ وَقَالَ: اسْكُنْ، فَإِنَّمَا ضَرَبْتُكَ مَثَلًا لِأَصْحَابِي. وَفِي رِوَايَةٍ: وَكَانَ الْجَبَلُ أَبَا قُبَيْسٍ.
وَرَكِبَ مَرَّةً سَفِينَةً، فَأَخَذَهُمُ الْمَوْجُ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَلَفَّ إِبْرَاهِيمُ رَأْسَهُ بِكِسَائِهِ، وَاضْطَجَعَ، وَعَجَّ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ بِالضَّجِيجِ، وَأَيْقَظُوهُ، وَقَالُوا: أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ؟ فَقَالَ: لَيْسَ هَذِهِ شِدَّةً، إِنَّمَا الشِّدَّةُ الْحَاجَةُ إِلَى النَّاسِ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَرَيْتَنَا قُدْرَتَكَ فَأَرِنَا عَفْوَكَ. فَصَارَ الْبَحْرُ كَأَنَّهُ قَدَحُ زَيْتٍ.
وَكَانَ قَدْ طَالَبَهُ صَاحِبُ السَّفِينَةِ بِأُجْرَةِ حَمْلِهِ دِينَارَيْنِ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ مَعَهُ مَرَّةً إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ: أَيْنَ الدِّينَارَانِ. فَتَوَضَّأَ إِبْرَاهِيمُ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا، فَإِذَا مَا حَوْلَهُ قَدْ مُلِئَ دَنَانِيرَ، فَقَالَ لَهُ خُذْ حَقَّكَ، وَلَا تَزِدْ، وَلَا تَذْكُرْ هَذَا لِأَحَدٍ.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ الْمَرْعَشِيِّ قَالَ: أَوَيْتُ أَنَا وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ إِلَى مَسْجِدٍ خَرَابٍ بِالْكُوفَةِ، وَكَانَ قَدْ مَضَى عَلَيْنَا أَيَّامٌ لَمْ نَأْكُلْ فِيهَا شَيْئًا، فَقَالَ لِي: كَأَنَّكَ جَائِعٌ. قُلْتُ: نَعَمْ. فَأَخَذَ رُقْعَةً فَكَتَبَ فِيهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَنْتَ الْمَقْصُودُ إِلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ، الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِكُلِّ مَعْنًى:
أَنَا حَامِدٌ أَنَا شَاكِرٌ أَنَا ذَاكِرٌ أَنَا جَائِعٌ أَنَا نَائِعٌ أَنَا عَارِي

هِيَ سِتَّةٌ وَأَنَا الضَّمِينُ لِنِصْفِهَا
فَكُنِ الضَّمِينَ لِنِصْفِهَا يَا بَارِي مَدْحِي لِغَيْرِكَ وَهْجُ نَارٍ خُضْتُهَا
فَأَجِرْ عُبَيْدَكَ مِنْ دُخُولِ النَّارِ
ثُمَّ قَالَ لِي: اخْرُجْ وَلَا تُعَلِّقْ قَلْبَكَ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَادْفَعْ هَذِهِ الرُّقْعَةَ لِأَوَّلِ رَجُلٍ تَلْقَاهُ. فَخَرَجْتُ فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى بَغْلَةٍ، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَرَأَهَا بَكَى، وَدَفَعَ إِلَيَّ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ وَانْصَرَفْتُ فَسَأَلْتُ رَجُلًا: مَنْ هَذَا الَّذِي عَلَى الْبَغْلَةِ؟ فَقَالَ: هُوَ رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ. فَجِئْتُ إِبْرَاهِيمَ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: الْآنَ يَجِيءُ فَيُسْلِمُ. فَمَا كَانَ غَيْرَ قَرِيبٍ حَتَّى جَاءَ، فَأَكَبَّ عَلَى رَأْسِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَسْلَمَ.
وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ: دَارُنَا أَمَامَنَا، وَحَيَاتُنَا بَعْدَ وَفَاتِنَا، فَإِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ.
وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ: مَثِّلْ لِبَصَرِ قَلْبِكَ حُضُورَ مَلَكِ الْمَوْتِ وَأَعْوَانِهِ لَقَبْضِ رُوحِكَ، وَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ، وَمَثِّلْ لَهُ هَوْلَ الْمَطْلَعِ وَمُسَاءَلَةَ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، وَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ، وَمَثِّلْ لَهُ الْقِيَامَةَ وَأَهْوَالَهَا وَأَفْزَاعَهَا وَالْعَرْضَ وَالْحِسَابَ، وَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ. ثُمَّ صَرَخَ صَرْخَةً خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ.
وَنَظَرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَضْحَكُ فَقَالَ لَهُ: لَا تَطْمَعْ فِيمَا لَا يَكُونُ، وَلَا تَيْأَسْ مِمَّا يَكُونُ. فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ هَذَا يَا أَبَا إِسْحَاقَ؟ فَقَالَ: لَا تَطْمَعْ فِي الْبَقَاءِ وَالْمَوْتُ يَطْلُبُكَ، فَكَيْفَ يَضْحَكُ مَنْ يَمُوتُ وَلَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ; إِلَى

جَنَّةٍ أَمْ إِلَى نَارٍ؟! وَلَا تَيْأَسْ مِمَّا يَكُونُ، الْمَوْتُ يَأْتِيكَ صَبَاحًا أَوْ مَسَاءً. ثُمَّ قَالَ: أَوَّهْ أَوَّهْ. ثُمَّ خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ.
وَكَانَ يَقُولُ: مَا لَنَا نَشْكُو فَقْرَنَا إِلَى مِثْلِنَا، وَلَا نَسْأَلُ كَشْفَهُ مِنْ رَبِّنَا. ثُمَّ يَقُولُ: ثَكِلَتْ عَبْدًا أَمُّهُ أَحَبَّ الدُّنْيَا، وَنَسِيَ مَا فِي خَزَائِنِ مَوْلَاهُ.
وَقَالَ: إِذَا كُنْتَ بِاللَّيْلِ نَائِمًا، وَبِالنَّهَارِ هَائِمًا، وَبِالْمَعَاصِي دَائِمًا، فَكَيْفَ يَرْضَى مَنْ هُوَ بِأَمْرِكَ قَائِمًا.
وَرَآهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِمَسْجِدِ بَيْرُوتَ وَهُوَ يَبْكِي، وَيَضْرِبُ بِيَدَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ ذَكَرْتُ يَوْمًا تَنْقَلِبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ.
وَقَالَ: إِنَّكَ كُلَّمَا أَمْعَنْتَ النَّظَرَ فِي مِرْآةِ التَّوْبَةِ بَانَ لَكَ قُبْحُ شَيْنِ الْمَعْصِيَةِ.
وَكَتَبَ إِلَى الثَّوْرِيِّ: مَنْ عَرَفَ مَا يَطْلُبُ هَانَ عَلَيْهِ مَا يَبْذُلُ، وَمَنْ أَطْلَقَ بَصَرَهُ طَالَ أَسَفُهُ، وَمَنْ أَطْلَقَ أَمَلَهُ سَاءَ عَمَلُهُ، وَمَنْ أَطْلَقَ لِسَانَهُ قَتَلَ نَفْسَهُ.
وَسَأَلَهُ بَعْضُ الْوُلَاةِ: مِنْ أَيْنَ مَعِيشَتُكَ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
نُرَقِّعُ دُنْيَانَا بِتَمْزِيقِ دِينِنَا فَلَا دِينُنَا يَبْقَى وَلَا مَا نُرَقِّعُ
وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:

لِمَا تُوعِدُ الدُّنْيَا بِهِ مِنْ شُرُورِهَا يَكُونُ بُكَاءُ الطِّفْلِ سَاعَةَ يُوضَعُ
وَإِلَّا فَمَا يُبْكِيهِ مِنْهَا وَإِنَّهَا لَأَرْوَحُ مِمَّا كَانَ فِيهِ وَأَوْسَعُ
إِذَا أَبْصَرَ الدُّنْيَا اسْتَهَلَّ كَأَنَّمَا يَرَى مَا سَيَلْقَى مِنْ أَذَاهَا وَيَسْمَعُ
وَكَانَ يَتَمَثَّلُ أَيْضًا بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ وَيُتْبِعُهَا الذَّلَ إِدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُو بِ وَالْخَيْرُ لِلنَّفْسِ عِصْيَانُهَا
وَمَا أَهْلَكَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا
وَبَاعُوا النُّفُوسَ فَلَمْ يَرْبَحُوا وَلَمْ يَغْلُ بِالْبَيْعِ أَثْمَانُهَا
لَقَدْ وَقَعَ الْقَوْمِ فِي جِيفَةٍ تَبِينُ لِذِي اللُّبِ أَنْتَانُهَا
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: إِنَّمَا يَتِمُّ الْوَرَعُ بِتَسْوِيَةِ كُلِّ الْخَلْقِ فِي قَلْبِكَ، وَالِاشْتِغَالِ عَنْ عُيُوبِهِمْ بِذَنْبِكَ، وَعَلَيْكَ بِاللَّفْظِ الْجَمِيلِ مِنْ قَلْبٍ ذَلِيلٍ لِرَبٍّ جَلِيلٍ، فَكِّرْ فِي ذَنْبِكَ، وَتُبْ إِلَى رَبِّكَ يَثْبُتُ الْوَرَعُ فِي قَلْبِكَ، وَاقْطَعِ الطَّمَعَ إِلَّا مِنْ رَبِّكَ.
وَقَالَ أَيْضًا: لَيْسَ مِنْ أَعْلَامِ الْحُبِّ أَنْ تُحِبَّ مَا يُبْغِضُهُ حَبِيبُكَ، ذَمَّ مَوْلَانَا

الدُّنْيَا فَمَدَحْنَاهَا، وَأَبْغَضَهَا فَأَحْبَبْنَاهَا، وَزَهَّدَنَا فِيهَا فَآثَرْنَاهَا، وَرَغَّبَنَا فِي طَلَبِهَا، وَوَعَدَكُمْ خَرَابَ الدُّنْيَا فَحَصَّنْتُمُوهَا، وَنَهَاكُمْ عَنْ طَلَبِهَا فَطَلَبْتُمُوهَا، وَأَنْذَرَكُمُ الْكُنُوزَ فَكَنَزْتُمُوهَا، دَعَتْكُمْ إِلَى هَذِهِ الْغَرَّارَةِ دَوَاعِيهَا، فَأَجَبْتُمْ مُسْرِعِينَ مُنَادِيَهَا، خَدَعَتْكُمْ بِغُرُورِهَا، وَمَنَّتْكُمْ فَأَقْرَرْتُمْ خَاضِعِينَ لِأَمَانِيِّهَا، تَتَمَرَّغُونَ فِي زَهَرَاتِهَا، وَتَتَنَعَّمُونَ فِي لَذَّاتِهَا، وَتَتَقَلَّبُونَ فِي شَهَوَاتِهَا، وَتَتَلَوَّثُونَ بِتَبِعَاتِهَا، تَنْبُشُونَ بِمَخَالِبِ الْحِرْصِ عَنْ خَزَائِنِهَا، وَتَحْفِرُونَ بِمَعَاوِلِ الطَّمَعِ فِي مَعَادِنِهَا.
وَشَكَى رَجُلٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ كَثْرَةَ الْعِيَالِ فَقَالَ: ابْعَثْ إِلَيَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا رِزْقُهُ عَلَى اللَّهِ. فَسَكَتَ الرَّجُلُ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: مَرَرْتُ فِي بَعْضِ جِبَالِ الشَّامِ فَإِذَا بِحَجَرٍ مَكْتُوبٍ عَلَيْهِ بِالْعَرَبِيَّةِ:
كُلُّ حَيٍّ وَإِنْ بَقِيَ فَمِنَ الْعُمْرِ يَسْتَقِي
فَاعَمَلِ الْيَوْمَ وَاجْتَهِدْ وَاحْذَرِ الْمَوْتَ يَا شَقِي
فَبَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ أَقْرَأُ وَأَبْكِي، إِذَا بِرَجُلٍ أَشْعَثَ أَغْبَرَ عَلَيْهِ مِدْرَعَةٌ مِنْ شَعْرٍ، فَسَلَّمَ وَقَالَ: مِمَّ تَبْكِي؟ فَقُلْتُ: مِنْ هَذَا. فَأَخَذَ بِيَدِي وَمَضَى غَيْرَ بَعِيدٍ، فَإِذَا صَخْرَةٌ عَظِيمَةٌ مِثْلُ الْمِحْرَابِ فَقَالَ: اقْرَأْ وَابْكِ، وَلَا تُقَصِّرْ. وَقَامَ هُوَ يُصَلِّي فَإِذَا فِي أَعْلَاهُ نَقْشٌ بَيِّنٌ عَرَبِيٌّ:

لَا تَبْتَغِي جَاهًا وَجَاهُكَ سَاقِطٌ عِنْدَ الْمَلِيكِ وَكُنْ لِجَاهِكَ مُصْلِحًا
وَفِي الْجَانِبِ الْآخَرِ نَقْشٌ بَيِّنٌ عَرَبِيٌّ:
مَنْ لَمْ يَثِقْ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ لَاقَى هُمُومًا كَثِيرَةَ الضَّرَرْ
وَفِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنْهُ نَقْشُ بَيِّنٌ عَرَبِيٌّ:
مَا أَزْيَنَ التُّقَى، وَمَا أَقْبَحَ الْخَنَا
، وَكُلٌّ مَأْخُوذٌ بِمَا جَنَى، وَعِنْدَ اللَّهِ الْجَزَا
.
وَفِي أَسْفَلِ الْمِحْرَابِ فَوْقَ الْأَرْضِ بِذِرَاعٍ أَوْ أَكْثَرَ:
إِنَّمَا الْفَوْزُ وَالْغِنَى فِي تُقَى اللَّهِ وَالْعَمَلْ
قَالَ: فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الْقِرَاءَةِ الْتَفَتُّ فَإِذَا لَيْسَ الرَّجُلُ هُنَاكَ، فَمَا أَدْرِي انْصَرَفَ أَوْ حُجِبَ عَنِّي؟
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: أَثْقَلُ الْأَعْمَالِ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُهَا عَلَى الْأَبْدَانِ، وَمَنْ وَفَّى الْعَمَلَ وُفِّيَ لَهُ الْأَجْرُ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ رَحَلَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ بِلَا قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ.
وَقَالَ أَيْضًا: كُلُّ سُلْطَانٍ لَا يَكُونُ عَادِلًا فَهُوَ وَاللِّصُّ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكُلُّ عَالَمٍ لَا يَكُونُ وَرِعًا فَهُوَ وَالذِّئْبُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكُلُّ مَنْ خَدَمَ سِوَى اللَّهِ فَهُوَ وَالْكَلْبُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَقَالَ أَيْضًا: أَعْرَبْنَا فِي الْمَقَالِ حَتَّى لَمْ نَلْحَنْ، وَلَحَنَّا فِي الْفِعَالِ حَتَّى لَمْ نُعْرِبُ.
وَقَالَ: كُنَّا إِذَا رَأَيْنَا الشَّابَّ يَتَكَلَّمُ فِي الْمَجْلِسِ أَيِسْنَا مِنْ خَيْرِهِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَصْحَابِهِ: جَانِبُوا النَّاسَ، وَلَا تَنْقَطِعُوا عَنْ جُمْعَةٍ وَلَا جَمَاعَةٍ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ رَامِينَ الْإِسْتَرَابَاذِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحُمَيْدِيُّ الشِّيرَازِيُّ، أَنْبَأَنَا الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خُرَّزَادَ الْأَهْوَازِيُّ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَصْرِيُّ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَلَبِيُّ، سَمِعْتُ سَرِيًّا السَّقَطِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ الْحَافِي يَقُولُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: وَقَفْتُ عَلَى رَاهِبٍ فِي جَبَلِ لُبْنَانَ، فَأَشْرَفَ عَلَيَّ فَقُلْتُ لَهُ: عِظْنِي. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
خُذْ عَنِ النَّاسِ جَانِبًا كَيْ يَعُدُّوكَ رَاهِبًا
إِنَّ دَهْرًا أَظَلَّنِي قَدْ أَرَانِي الْعَجَائِبَا

قَلِّبِ النَّاسَ كَيْفَ شِئْ تَ تَجِدْهُمْ عَقَارِبًا
قَالَ بِشْرٌ: فَقُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ: هَذِهِ مَوْعِظَةُ الرَّاهِبِ لَكَ، فَعِظْنِي أَنْتَ. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
تَوَحَّشْ مِنَ الْإِخْوَانِ لَا تَبْغِ مُؤْنِسًا وَلَا تَتَّخِذْ خِلًّا وَلَا تَبْغِ صَاحِبًا
وَكُنْ سَامِرِيَّ الْفِعْلِ مِنْ نَسْلِ آدَمِ وَكُنْ أَوْحَدِيًّا مَا قَدَرْتَ مُجَانِبَا
فَقَدْ فَسَدَ الْإِخْوَانُ وَالْحُبُّ وْالْإِخَا فَلَسْتَ تَرَى إِلَّا مَذُوقًا وَكَاذِبَا
فَقُلْتُ وَلَوْلَا أَنْ يُقَالَ مُدَهْدَهٌ وَتُنْكَرُ حَالَاتِي لَقَدْ صِرْتُ رَاهِبًا
قَالَ سَرِيٌّ: فَقُلْتُ لِبِشْرٍ: هَذِهِ مَوْعِظَةُ إِبْرَاهِيمَ لَكَ، فَعِظْنِي أَنْتَ. فَقَالَ: عَلَيْكَ بِلُزُومِ بَيْتِكِ. فَقُلْتُ: بَلَغَنِي عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا اللَّيْلُ وَمُلَاقَاةُ الْإِخْوَانِ مَا كُنْتُ أُبَالِي مَتَى مُتُّ. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يَا مَنْ يُسَرُّ بِرُؤْيَةِ الْإِخْوَانِ مَهْلًا أَمِنْتَ مَكَائِدَ الشَّيْطَانِ
خَلَتِ الْقُلُوبُ مِنَ الْمَعَادِ وَذِكْرِهِ وَتَشَاغَلُوا بِالْحِرْصِ وَالْخُسْرَانِ
صَارَتْ مَجَالِسُ مَنْ تَرَى وَحَدِيثُهُمْ فِي هَتْكِ مَسْتُورٍ وَخَلْقِ قُرَانِ
قَالَ الْحَلَبِيُّ: فَقُلْتُ لِسَرِيٍّ: هَذِهِ مَوْعِظَةُ بِشْرٍ لَكَ، فَعِظْنِي أَنْتَ. فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالْإِخْمَالِ. فَقُلْتُ: إِنِّي أُحِبُّ ذَاكَ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يَا مَنْ يُرِيدُ بِزَعْمِهِ إِخْمَالَا إِنْ كَانَ حَقًا فَاسْتَعِدَّ خِصَالَا
تَرْكُ الْمَجَالِسِ وَالتَّذَاكُرِ يَا أَخِي وَاجْعَلْ خُرُوجَكَ لِلصَّلَاةِ خَيَالَا

بَلْ كُنْ بِهَا حَيًّا كَأَنَّكَ مَيَّتٌ لَا يَرْتَجِي مِنْهُ الْقَرِيبُ وِصَالَا
قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَصْرِيُّ: قُلْتُ لِلْحَلَبِيِّ: هَذِهِ مَوْعِظَةُ سَرِيٍّ لَكَ، فَعِظْنِي أَنْتَ. فَقَالَ: يَا أَخِي، أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا أُصْدِرَ إِلَيْهِ مِنْ قَلْبٍ زَاهِدٍ فِي الدُّنْيَا، فَازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
أَنْتَ فِيِ دَارِ شَتَاتٍ فَتَأَهَّبْ لِشَتَاتِكَ
وَاجْعَلِ الدُّنْيَا كَيَوْمٍ صُمْتَهُ عَنْ شَهَوَاتِكَ
وَاجْعَلِ الْفِطْرَ إِذَا مَا صُمْتَهُ يَوْمَ وَفَاتِكَ
قَالَ ابْنُ خُرَّزَادَ: فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ: هَذِهِ مَوْعِظَةُ الْحَلَبِيِّ لَكَ، فَعِظْنِي أَنْتَ. فَقَالَ لِي: احْفَظْ وَقْتَكَ وَاسْخُ بِنَفْسِكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَانْزِعْ قِيمَةَ الْأَشْيَاءِ عَنْ قَلْبِكَ يَصْفُ لَكَ بِذَلِكَ سِرُّكَ، وَيَزْكُ بِهِ ذِكْرُكَ. ثُمَّ أَنْشَدَنِي:
حَيَاتُكَ أَنْفَاسٌ تُعَدُّ فَكُلَّمَا مَضَى نَفَسٌ مِنْهَا انْتُقِصْتَ بِهِ جُزْءًا
فَتُصْبحُ فِي نَقْصٍ وَتُمْسِي بِمِثْلِهِ وَمَا لَكَ مَعْقُولٌ تُحِسُّ بِهِ رُزْءًا
يُمِيتُكَ مَا يُحْيِيكَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَيَحْدُوكَ حَادٍ مَا يُرِيدُ بِكَ الْهُزْءَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: هَذِهِ مَوْعِظَةُ عَلِيٍّ لَكَ، فَعِظْنِي. فَقَالَ: يَا أَخِي، عَلَيْكَ بِلُزُومِ الطَّاعَةِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَبْرَحَ بَابَ الْقَنَاعَةِ، وَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ، وَلَا تُؤْثِرْ هَوَاكَ، وَلَا تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ، وَاشْتَغِلْ بِمَا يَعْنِيكَ بِتَرْكِ مَا لَا يَعْنِيكَ. ثُمَّ أَنْشَدَنِي:
نَدِمْتُ عَلَى مَا كَانَ مِنِّي نَدَامَةً وَمَنْ يَتْبَعْ مَا تَشْتَهِي النَّفْسُ يَنْدَمِ

فَخَافُوا لِكَيْمَا تَأْمَنُوا بَعْدَ مَوْتِكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبًّا عَادِلًا لَيْسَ يَظْلِمْ
فَلَيْسَ لِمَغْرُورٍ بِدُنْيَاهُ زَاجِرٌ سَيَنْدَمُ إِنْ زَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ فَاعْلَمْ
قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ رَامِينَ فَقُلْتُ لِأَبِي مُحَمَّدٍ: هَذِهِ مَوْعِظَةُ أَحْمَدَ لَكَ، فَعِظْنِي أَنْتَ. فَقَالَ: اعْلَمْ، رَحِمَكَ اللَّهُ، أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، يُنْزِلُ الْعَبِيدَ حَيْثُ نَزَلَتْ قُلُوبُهُمْ بِهُمُومِهَا، فَانْظُرْ أَيْنَ أَنْزَلَتْ قَلْبَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تُقَرَّبُ الْقُلُوبُ عَلَى حَسَبِ مَا قَرُبَ إِلَيْهَا، فَانْظُرْ مَنِ الْقَرِيبُ مِنْ قَلْبِكَ. وَأَنْشَدَنِي:
قُلُوبُ رِجَالٍ فِي الْحِجَابِ نُزُولُ وَأَرْوَاحُهُمْ فِيمَا هُنَاكَ حُلُولُ
بِرَوْحِ نَعِيمِ الْأُنْسِ فِي عِزِّ قُرْبِهِ بِإِفْرَادِ تَوْحِيدِ الْمَلِيكَ تَحُولُ
لَهُمْ بِفِنَاءِ الْقُرْبِ مِنْ مَحْضِ بِرِّهِ عَوَائِدُ بَذْلٍ خَطْبُهُنَّ جَلِيلُ
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: فَقُلْتُ لِلْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ رَامِينَ: هَذِهِ مَوْعِظَةُ الْحُمَيْدِيِّ لَكَ، فَعِظْنِي. فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، وَثِقْ بِهِ وَلَا تَتَّهِمْهُ; فَإِنَّ اخْتِيَارَهُ لَكَ خَيْرٌ مِنَ اخْتِيَارِكَ لِنَفْسِكَ. وَأَنْشَدَنِي:
اتَّخِذِ اللَّهَ صَاحِبًا وَذَرِ النَّاسَ جَانِبًا
جَرِّبِ النَّاسَ كَيْفَ شِئْ تَ تَجِدْهُمُ عَقَارِبًا
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ غَيْثٌ الصُّورِيُّ: فَقُلْتُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ: هَذِهِ مَوْعِظَةُ ابْنِ رَامِينَ لَكَ، فَعِظْنِي أَنْتَ. فَقَالَ: احْذَرْ نَفْسَكَ الَّتِي هِيَ أَعْدَى أَعْدَائِكَ أَنْ تُتَابِعَهَا عَلَى هَوَاهَا، فَذَاكَ أَعْضَلُ دَائِكَ، وَاسْتَشْعِرِ الْخَوْفَ مِنَ اللَّهِ بِخِلَافِهَا،

وَكَرِّرْ عَلَى قَلْبِكَ ذِكْرَ نُعُوتِهَا وَأَوْصَافِهَا، فَإِنَّهَا الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ، وَالْمُورِدَةُ مَنْ أَطَاعَهَا مَوَارِدَ الْعَطَبِ وَالْبَلَاءِ، وَاعْمِدْ فِي جَمِيعِ أُمُورِكَ إِلَى تَحَرِّي الصِّدْقِ، وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ لِمَنْ خَالَفَ هَوَاهُ أَنْ يَجْعَلَ دَارَ الْخُلْدِ قَرَارَهُ وَمَأْوَاهُ. ثُمَّ أَنْشَدَ لِنَفْسِهِ:
إِنْ كُنْتَ تَبْغِي الرَّشَادَ مَحْضًا فِي أَمْرِ دُنْيَاكَ وَالْمَعَادِ
فَخَالِفِ النَّفْسَ فِي هَوَاهَا إِنَّ الْهَوَى جَامِعُ الْفَسَادِ
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: الْمَحْفُوظُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ إِحْدَى. وَقِيلَ: سَنَةَ ثَلَاثٍ. وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِجَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ بَحْرِ الرُّومِ وَهُوَ مُرَابِطٌ، وَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْخَلَاءِ لَيْلَةَ وَفَاتِهِ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً، وَكُلُّ مَرَّةٍ يُجَدِّدُ الْوُضُوءَ بَعْدَهَا، فَلَمَّا غَشِيَهُ الْمَوْتُ قَالَ: أَوْتِرُوا لِي قَوْسِي. وَقَبَضَ عَلَى الْقَوْسِ، وَمَاتَ وَهُوَ كَذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: سَمِعَتْ السِّرِيَّ بْنَ حَيَّانَ يَقُولُ - وَكَانَ سُفْيَانُ مُعْجَبًا بِهِ -:

أَجَاعَتْهُمُ الدُّنْيَا فَجَاعُوا وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ ذُو التَّقْوَى عَنِ الْعَيْشِ مُلْجَمًا
أَخُو طَيِّئٍ دَاوُدُ مِنْهِمُ وَمِسْعَرٌ وَمِنْهُمْ وُهَيْبٌ وَالْغَرِيبُ ابْنُ أَدْهَمَا
وَفِي ابْنِ سَعِيدٍ قُدْوَةَ الْبِرِّ وَالنُّهَى وَفِي الْوَارِثِ الْفَارُوقِ صِدْقًا مُقَدَّمًا
وَحَسْبُكَ مِنْهُمْ بِالْفُضَيْلِ مَعَ ابْنِهِ وَيُوسُفُ إِنْ لَمْ يَأْلُ أَنْ يَتَسَلَّمَا
أُولَئِكَ أَصْحَابِي، وَأَهْلُ مَوَدَّتِي فَصَلَّى عَلَيْهِمْ ذُو الْجَلَالِ وَسَلِّمَا
فَمَا ضَرَّ ذَا التَّقْوَى نِصَالُ أَسِنَّةٍ وَمَا زَالَ ذُو التَّقْوَى أَعَزَّ وَأَكْرَمَا
وَمَا زَالَتِ التَّقْوَى تُرِيكَ عَلَى الْفَتَى إِذَا مَحَّضَ التَّقْوَى مِنَ الْعِزِّ مِيسَمَا
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " الْأَدَبِ " عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، وَأَخْرَجَ لَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي " جَامِعِهِ " حَدِيثًا مُعَلَّقًا فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَأَمَّا دَاوُدُ الطَّائِيُّ فَهُوَ دَاوُدُ بْنُ نُصَيْرٍ الطَّائِيُّ، أَبُو سُلَيْمَانَ الْكُوفِيُّ الْفَقِيهُ الزَّاهِدُ، أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: ثُمَّ تَرَكَ طَلَبَ الْفِقْهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَدَفَنَ كُتُبَهُ.

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: وَهَلِ الْأَمْرُ إِلَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ دَاوُدُ الطَّائِيُّ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كَانَ ثِقَةً. وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: تَرَكَ الْفِقْهَ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ حَتَّى مَاتَ، وَقَدْ قَدِمَ عَلَى الْمَهْدِيِّ بَغْدَادَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْكُوفَةِ.
مَاتَ فِي سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ فِي " تَارِيخِهِ " أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا حُصِرَ الْمُقَنَّعُ الزِّنْدِيقُ الَّذِي كَانَ قَدْ نَبَغَ بِخُرَاسَانَ وَقَالَ بِالتَّنَاسُخِ، وَاتَّبَعَهُ عَلَى جَهَالَتِهِ وَضَلَالَتِهِ خَلْقٌ مِنَ الطَّغَامِ وَسُفَهَاءِ الْأَنَامِ، وَالسَّفِلَةِ مِنَ الْعَوَامِّ، وَمَنَعُوهُ مِنَ الْجُنُودِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لَجَأَ إِلَى قَلْعَةِ كَشٍّ، فَحَاصَرَهُ سَعِيدٌ الْحَرِشِيُّ فَأَلَحَّ عَلَيْهِ فِي الْحِصَارِ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِالْغَلَبَةِ تَحَسَّى سُمًّا وَسَمَّ نِسَاءَهُ، فَمَاتُوا جَمِيعًا، عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ. وَدَخَلَ الْجَيْشُ الْإِسْلَامِيُّ قَلْعَتَهُ، فَاحْتَزُّوا رَأَسَهُ، وَبَعَثُوا بِهِ إِلَى الْمَهْدِيِّ، وَكَانَ الْمَهْدِيُّ حِينَ جَاءَهُ رَأْسُ الْمُقَنَّعِ بِحَلَبَ.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: الْمُقَنَّعُ الْخُرَاسَانِيُّ قِيلَ: اسْمُهُ عَطَاءٌ. وَقِيلَ: حَكِيمٌ. وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَكَانَ أَوَّلًا قَصَّارًا، ثُمَّ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ أَعْوَرَ قَبِيحَ الْمَنْظَرِ، وَكَانَ يَتَّخِذُ لَهُ وَجْهًا مِنْ ذَهَبٍ، وَاتَّبَعَهُ عَلَى جَهَالَتِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ

الْجَهَلَةِ، وَكَانَ يُرِي النَّاسَ قَمَرًا يُرَى مِنْ مَسِيرَةِ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ يَغِيبُ، فَعَظُمَ اعْتِقَادُهُمْ فِيهِ، وَمَنَعُوهُ بِالسِّلَاحِ، وَكَانَ يَزْعُمُ - لَعَنَهُ اللَّهُ، وَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا - أَنَّ اللَّهَ ظَهَرَ فِي صُورَةِ آدَمَ، وَلِهَذَا سَجَدَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ، ثُمَّ فِي نُوحٍ، ثُمَّ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدًا وَاحِدًا، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَيْهِ، وَلَمَّا حَاصَرَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي قَلْعَتِهِ الَّتِي كَانَ جَدَّدَهَا بِنَاحِيَةِ كَشٍّ مِمَّا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَيُقَالُ لَهَا: سَنَامُ. سَقَى نِسَاءَهُ وَأَهْلَهُ سُمًّا، وَتَحَسَّى هُوَ أَيْضًا مِنْهُ، فَمَاتُوا كُلُّهُمْ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ - وَاسْتَحْوَذَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ كُلِّهَا.
وَفِيهَا جَهَّزَ الْمَهْدِيُّ الْبُعُوثَ مِنْ خُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ لِغَزْوِ الرُّومِ، وَأَمَّرَ عَلَى الْجَمِيعِ وَلَدَهُ هَارُونَ الرَّشِيدَ، وَخَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ مُشَيِّعًا لَهُ، فَسَارَ مَعَهُ مَرَاحِلَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَادَ وَلَدَهُ مُوسَى الْهَادِي، وَكَانَ فِي هَذَا الْجَيْشِ الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَالرَّبِيعُ الْحَاجِبُ، وَخَالِدُ بْنُ بَرْمَكَ، وَهُوَ مِثْلُ الْوَزِيرِ لِلرَّشِيدِ وَلِيِّ الْعَهْدِ، وَيَحْيَى بْنُ خَالِدٍ، وَهُوَ كَاتِبُهُ وَإِلَيْهِ النَّفَقَاتُ. وَمَا زَالَ الْمَهْدِيُّ مَعَ وَلَدِهِ مُشَيِّعًا لَهُ حَتَّى بَلَغَ دَرْبَ الرُّومِ عِنْدَ جَيْحَانَ، وَارْتَادَ هُنَاكَ الْمَدِينَةَ الْمُسَمَّاةَ بِالْمَهْدِيَّةِ فِي بِلَادِ الرُّومِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الشَّامِ، وَزَارَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَسَارَ الرَّشِيدُ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فِي جَحَافِلَ عَظِيمَةٍ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فُتُوحَاتٍ كَثِيرَةً، وَغَنِمُوا أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا، وَكَانَ لِخَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ جَمِيلٌ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ، وَبَعَثُوا

بِالْبِشَارَةِ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ بَرْمَكَ إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَأَكْرَمَهُ الْمَهْدِيُّ وَأَجْزَلَ عَطَاءَهُ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمَهْدِيُّ عَمَّهُ عَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ عَلِيٍّ عَنِ الْجَزِيرَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا زُفَرَ بْنَ عَاصِمٍ الْهِلَالِيَّ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ.
وَفِيهَا وَلَّى الْمَهْدِيُّ وَلَدَهُ هَارُونَ الرَّشِيدِ بِلَادَ الْمَغْرِبِ وَأَذْرَبِيجَانَ وَأَرْمِينِيَّةَ، وَجَعَلَ عَلَى رَسَائِلِهِ يَحْيَى بْنَ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، وَوَلَّى وَعَزَلَ جَمَاعَةً مِنَ النُّوَّابِ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَلِيٌّ ابْنُ الْمَهْدِيِّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، وَحَرِيزُ بْنُ عُثْمَانَ الرَّحَبِيُّ الْحِمْصِيُّ، وَمُوسَى بْنُ عَلِيٍّ اللَّخْمِيُّ الْمِصْرِيُّ، وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، وَعِيسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَمُّ السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ قَصْرُ عِيسَى، وَنَهْرُ عِيسَى بِبَغْدَادَ، قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كَانَ لَهُ مَذْهَبٌ جَمِيلٌ، وَكَانَ مُعْتَزِلًا لِلسُّلْطَانِ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَهَمَّامُ بْنُ يَحْيَى،

وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْمِصْرِيُّ. وَعُبَيْدَةُ بِنْتُ أَبِي كِلَابٍ الْعَابِدَةُ، بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى عَمِيَتْ. وَكَانَتْ تَقُولُ: أَشْتَهِي الْمَوْتَ، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ أَجْنِيَ عَلَى نَفْسِي جِنَايَةً تَكُونُ سَبَبَ هَلَاكِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا عَبْدُ الْكَبِيرِ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، بِلَادَ الرُّومِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ مِيخَائِيلُ الْبِطْرِيقُ فِي نَحْوِ تِسْعِينَ أَلْفًا، فِيهِمْ طَازَاذُ الْأَرْمَنِيُّ الْبِطْرِيقُ، فَفَشَلَ عَنْهُ عَبْدُ الْكَبِيرِ، وَمَنَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْقِتَالِ، وَانْصَرَفَ، فَأَرَادَ الْمَهْدِيُّ ضَرْبَ عُنُقِهِ، فَكُلِّمَ فِيهِ، فَحَبَسَهُ فِي الْمُطْبِقِ. وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ فِي أَوَاخِرِ ذِي الْقِعْدَةِ أَسَّسَ الْمَهْدِيُّ قَصْرًا مِنْ لَبِنٍ بِعِيسَابَاذْ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى الْحَجِّ، فَقَلَّ الْمَاءُ، وَأَصَابَهُ حُمًّى، فَرَجَعَ مِنْ أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَعَطِشَ النَّاسُ فِي الرَّجْعَةِ حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَهْلَكُ، فَغَضِبَ الْمَهْدِيُّ عَلَى يَقْطِينَ صَاحِبِ الْمَصَانِعِ، وَبَعَثَ مِنْ حَيْثُ رَجَعَ صَالِحَ ابْنَ أَبِي جَعْفَرٍ لِيَحُجَّ بِالنَّاسِ، فَحَجَّ بِهِمْ عَامَئِذٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَمَّادٌ الرَّاوِيَةُ - فِي قَوْلٍ - وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِأَيَّامِ النَّاسِ وَالشِّعْرِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَدَبِ، وَقَدْ كَانَتْ بَنُو أُمَيَّةَ تُعَظِّمُهُ وَتُسْنِي جَائِزَتَهُ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَى الْمَنْصُورِ وَالْمَهْدِيِّ.... وَشَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّحْوِيُّ.

وَعَبْدُ الْعَزِيزِ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ، وَمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ صَاحِبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا جَهَّزَ الْمَهْدِيُّ وَلَدَهُ هَارُونَ الرَّشِيدَ لِغَزْوِ الصَّائِفَةِ، وَأَنْفَذَ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ خَمْسَةً وَتِسْعِينَ أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةٍ وَثَلَاثَةً وَتِسْعِينَ رَجُلًا، وَكَانَ مَعَهُ مِنَ النَّفَقَةِ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَرْبَعَةٌ وَتِسْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ دِينَارًا، وَمِنَ الْفِضَّةِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَأَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ، وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. فَبَلَغَ بِجُنُودِهِ خَلِيجَ الْبَحْرِ الَّذِي عَلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَصَاحِبُ الرُّومِ يَوْمَئِذٍ أُغَسْطَةُ امْرَأَةُ أَلْيُونَ، وَمَعَهَا ابْنُهَا فِي حِجْرِهَا مِنَ الْمَلِكِ الَّذِي تُوُفِّيَ عَنْهَا، فَطَلَبَتِ الصُّلْحَ مِنَ الرَّشِيدِ عَلَى أَنْ تَدْفَعَ لَهُ سَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهَا، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا قَتَلَ مِنَ الرُّومِ فِي الْوَقَائِعِ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا، وَأَسَرَ مِنَ الذَّرَارِيِّ خَمْسَةَ آلَافِ رَأْسٍ وَسِتَّمِائَةٍ وَثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ رَأْسًا، وَقَتَلَ مِنَ الْأَسْرَى أَلْفَيْ أَسِيرٍ صَبْرًا، وَغَنِمَ مِنَ الدَّوَابِّ بِأَدَوَاتِهَا عِشْرِينَ أَلْفَ فَرَسٍ، وَذَبَحَ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مِائَةَ أَلْفِ رَأْسٍ، وَبِيعَ الْبِرْذَوْنُ بِدِرْهَمٍ، وَالْبَغْلُ بِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَالدِّرْعُ بِأَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ، وَعِشْرُونَ سَيْفًا بِدِرْهَمٍ،

فَقَالَ فِي ذَلِكَ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ
أَطُفْتَ بِقُسْطَنْطِينَةِ الرُّومِ مُسْنِدًا إِلَيْهَا الْقَنَا حَتَّى اكْتَسَى الذُّلَّ سُورُهَا وَمَا رُمْتَهَا حَتَّى أَتَتْكَ مُلُوكُهَا
بِجِزْيَتِهَا وَالْحَرْبُ تَغْلِي قُدُورُهَا
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَالِحُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ زَبْرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ، وَوُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا قَدِمَ الرَّشِيدُ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، فَدَخَلَ بَغْدَادَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَمَعَهُ الرُّومُ يَحْمِلُونَ الْجِزْيَةَ مِنَ الذَّهَبِ وَغَيْرِهِ.
وَفِيهَا أَخَذَ الْمَهْدِيُّ الْبَيْعَةَ لِوَلَدِهِ هَارُونَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى الْهَادِي، وَلَقَّبَ هَارُونَ بِالرَّشِيدِ.
وَفِيهَا سَخِطَ الْمَهْدِيُّ عَلَى يَعْقُوبَ بْنِ دَاوُدَ، وَكَانَ قَدْ حَظِيَ عِنْدَهُ حَتَّى اسْتَوْزَرَهُ، وَارْتَفَعَتْ مَنْزِلَتُهُ فِي الْوِزَارَةِ حَتَّى فُوِّضَ إِلَيْهِ جَمِيعُ أَمْرِ الْخِلَافَةِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ:
بَنِي أُمَيَّةَ هُبُّوا طَالَ نَوْمُكُمُ إِنَّ الْخَلِيفَةَ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ ضَاعَتْ خِلَافَتُكُمْ يَا قَوْمُ فَاطَّلِبُوا
خَلِيفَةَ اللَّهِ بَيْنَ الدُّفِّ وَالْعُودِ
فَلَمْ تَزَلِ السُّعَاةُ وَالْوُشَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلِيفَةِ حَتَّى أَخْرَجُوهُ عَلَيْهِ، وَكُلَّمَا سَعَوْا بِهِ إِلَيْهِ، دَخَلَ إِلَيْهِ فَأَصْلَحَ أَمْرَهُ عِنْدَهُ، حَتَّى وَقَعَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَأَذْكُرُهُ; وَهُوَ أَنَّهُ دَخَلَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمَهْدِيِّ فِي مَجْلِسٍ عَظِيمٍ قَدْ فُرِشَ بِأَنْوَاعِ الْفُرُشِ وَأَلْوَانِ الْحَرِيرِ، وَحَوْلَ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَشْجَارٌ مُزْهِرَةٌ بِأَنْوَاعِ الْأَزَاهِيرِ، فَقَالَ: يَا يَعْقُوبُ،

كَيْفَ رَأَيْتَ مَجْلِسَنَا هَذَا؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ. فَقَالَ: هُوَ لَكَ بِمَا فِيهِ، وَهَذِهِ الْجَارِيَةُ لِيَتِمَّ بِهَا سُرُورُكَ، وَلِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ أُحِبُّ أَنْ تَقْضِيَهَا لِي. قَالَ: وَمَا هِيَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: حَتَّى تَقُولَ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: يَأْمُرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَيَّ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ. فَقَالَ: آللَّهِ؟ فَقُلْتُ: آللَّهِ. قَالَ: وَحَيَاةُ رَأْسِي. قُلْتُ: وَحَيَاةُ رَأْسِكَ. فَقَالَ: ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِي وَقُلْ ذَلِكَ. فَفَعَلْتُ، فَقَالَ: إِنَّ هَاهُنَا رَجُلًا مِنَ الْعَلَوِيِّينَ أُحِبُّ أَنْ تَكْفِيَنِيهِ - وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: وَعَجَّلَ عَلَيَّ. ثُمَّ أَمَرَ بِتَحْوِيلِ مَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ إِلَى مَنْزِلِي، وَأَمَرَ لِي بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَتِلْكَ الْجَارِيَةِ، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِهَا، فَلَمَّا صَارَتْ إِلَى مَنْزِلِي حَجَبْتُهَا مِنْ جَانِبِ الدَّارِ فِي الْخِدْرِ، فَأَمَرْتُ بِذَلِكَ الْعَلَوِيِّ فَجِيءَ بِهِ، فَجَلَسَ إِلَيَّ فَتَكَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنْهُ وَلَا أَفْهَمَ، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا يَعْقُوبُ، تَلْقَى اللَّهَ بِدَمِي وَأَنَا رَجُلٌ مَنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، وَلَكِنِ اذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ. فَقَالَ: إِنِّي أَخْتَارُ بِلَادَ كَذَا وَكَذَا. فَقُلْتُ: اذْهَبْ كَيْفَ شِئْتَ، وَلَا يَظْهَرَنَّ عَلَيْكَ الْمَهْدِيُّ فَتَهْلِكُ وَأَهْلِكُ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِي وَجَهَّزْتُ مَعَهُ رَجُلَيْنِ يُسَفِّرَانِهِ وَيُوَصِّلَانِهِ بَعْضَ الْبِلَادِ، وَلَمْ أَشْعُرْ بِأَنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ أَحَاطَتْ عِلْمًا بِمَا جَرَى، وَبَعَثَتْ بِخَادِمِهَا إِلَى الْمَهْدِيِّ فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ، وَقَالَتْ لَهُ: هَذَا الَّذِي آثَرْتَهُ بِي قَدْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. فَغَضِبَ الْمَهْدِيُّ وَبَعَثَ إِلَى تِلْكَ الطَّرِيقِ، فَرَدُّوا الْعَلَوِيَّ، فَحَبَسَهُ عِنْدَهُ فِي بَيْتٍ مِنْ دَارِ

الْخِلَافَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَيَّ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَذَهَبْتُ وَأَنَا لَا أَسْتَشْعِرُ أَمْرَ الْعَلَوِيِّ، فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ قَالَ: مَا فَعَلَ الْعَلَوِيُّ؟ قُلْتُ: مَاتَ. قَالَ: آللَّهِ؟ قُلْتُ: آللَّهِ. قَالَ: فَضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِي، وَاحْلِفْ بِحَيَاتِهِ. فَفَعَلْتُ، فَقَالَ: يَا غُلَامُ أَخْرِجْ مَا فِي هَذَا الْبَيْتِ. فَخَرَجَ الْعَلَوِيُّ، فَأُسْقِطَ فِي يَدِي، فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: دَمُكَ لِي حَلَالٌ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُلْقِيَ فِي بِئْرٍ فِي الْمُطْبِقِ. قَالَ يَعْقُوبُ: فَكُنْتُ فِي مَكَانٍ لَا أَسْمَعُ فِيهِ وَلَا أُبْصِرُ، فَذَهَبَ بَصَرِي، وَطَالَ شَعْرِي حَتَّى صِرْتُ مِثْلَ الْبَهَائِمِ، ثُمَّ مَضَتْ عَلَيَّ مُدَدٌ مُتَطَاوِلَةٌ، فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ دُعِيتُ فَخَرَجْتُ مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي فِي ذَلِكَ الْمُطْبِقِ، فَقِيلَ لِي: سَلِّمْ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَسَلَّمْتُ وَأَنَا أَظُنُّهُ الْمَهْدِيَّ، فَلَمَّا ذَكَرْتُ الْمَهْدِيَّ فِي كَلَامِي، قَالَ رَحِمَ اللَّهُ الْمَهْدِيَّ. فَقُلْتُ: الْهَادِي؟ فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ الْهَادِي. فَقُلْتُ: الرَّشِيدُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ رَأَيْتَ مَا حَلَّ بِي مِنَ الضَّعْفِ وَالْعِلَّةِ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُطْلِقَنِي. فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ تَذْهَبُ؟ قُلْتُ: مَكَّةُ. فَقَالَ: اذْهَبْ رَاشِدًا. فَسَارَ إِلَى مَكَّةَ، فَمَا لَبِثَ بِهَا إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ كَانَ يَعْقُوبُ هَذَا يَعِظُ الْمَهْدِيَّ فِي تَعَاطِيهِ شُرْبَ النَّبِيذِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَثْرَةِ سَمَاعِ الْغِنَاءِ، وَيَلُومُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَقُولُ: مَا عَلَى هَذَا اسْتَوْزَرْتَنِي، وَلَا عَلَى هَذَا صَحِبْتُكَ، أَبَعْدَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يُشْرَبُ عِنْدَكَ النَّبِيذُ وَيُسْمَعُ السَّمَاعُ بَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: فَقَدْ سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ. فَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا قُرْبَةً لَكَانَ كُلَّمَا دَاوَمَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ كَانَ

أَفْضَلَ لَهُ.
وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
فَدَعْ عَنْكَ يَعْقُوبَ بْنَ دَاوُدَ جَانِبًا وَأَقْبِلْ عَلَى صَهْبَاءَ طَيِّبَةِ النَّشْرِ
وَفِيهَا ذَهَبَ الْمَهْدِيُّ إِلَى قَصْرِهِ الْمُسَمَّى بِقَصْرِ السَّلَامِ بِعِيسَابَاذْ - بُنِيَ لَهُ بِالْآجُرِّ بَعْدَ الْقَصْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي بَنَاهُ بِاللَّبِنِ - فَسَكَنَهُ وَضَرَبَ هُنَاكَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِإِقَامَةِ الْبَرِيدِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَنِ، وَلَمْ يُفْعَلْ هَذَا قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا خَرَجَ مُوسَى الْهَادِي إِلَى جُرْجَانَ، وَقَدْ جَعَلَ عَلَى الْقَضَاءِ أَبَا يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ صَاحِبَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ عَامِلُ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَائِفَةٌ; لِلْهُدْنَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الرَّشِيدِ وَبَيْنَ الرُّومِ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ صَدَقَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّمِينُ، وَأَبُو الْأَشْهَبِ الْعُطَارِدِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ النَّهْشَلِيُّ، وَعُفَيْرُ بْنُ مَعْدَانَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا وَجَّهَ الْمَهْدِيُّ ابْنَهُ مُوسَى الْهَادِي إِلَى جُرْجَانَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، وَجَعَلَ عَلَى رَسَائِلِهِ أَبَانَ بْنَ صَدَقَةَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عِيسَى بْنُ مُوسَى الَّذِي كَانَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ الْمَهْدِيِّ فَخُلِعَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْكُوفَةِ، فَأَشْهَدَ نَائِبُهَا رَوْحُ بْنُ حَاتِمٍ عَلَى وَفَاتِهِ الْقَاضِي وَجَمَاعَةً مِنَ الْأَعْيَانِ، ثُمَّ دُفِنَ، وَكَانَ قَدِ امْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَهْدِيَّ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يُعَنِّفُهُ أَشَدَّ التَّعْنِيفِ وَأَمَرَ بِمُحَاسَبَتِهِ عَلَى عَمَلِهِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمَهْدِيُّ أَبَا عُبَيْدِ اللَّهِ مُعَاوِيَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ دِيوَانِ الرَّسَائِلِ، وَوَلَّاهُ الرَّبِيعَ بْنَ يُونُسَ الْحَاجِبَ، فَاسْتَخْلَفَ فِيهِ سَعِيدَ بْنَ وَاقِدٍ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَى مَرْتَبَتِهِ.
وَفِيهَا وَقَعَ وَبَاءٌ شَدِيدٌ وَسُعَالٌ كَثِيرٌ بِبَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ وَأَظْلَمَتِ الدُّنْيَا فَكَانَتْ كَاللَّيْلِ حَتَّى تَعَالَى النَّهَارُ، وَكَانَ ذَلِكَ لِلَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا تَتَبَّعَ الْمَهْدِيُّ جَمَاعَةً مِنَ الزَّنَادِقَةِ فِي سَائِرِ الْآفَاقِ، فَاسْتَحْضَرَهُمْ وَقَتَلَهُمْ

صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ الْمُتَوَلِّيَ أَمْرَ الزَّنَادِقَةِ عُمَرُ الْكَلْوَاذِيُّ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِزِيَادَةٍ كَبِيرَةٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ دُورٌ كَثِيرَةٌ، وَوَلَّى ذَلِكَ يَقْطِينَ بْنَ مُوسَى الْمُوَكَّلَ بِأَمْرِ الْحَرَمَيْنِ وَمَصَالِحِهِمَا، فَلَمْ يَزَلْ فِي عِمَارَةِ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ الْمَهْدِيُّ كَمَا سَيَأْتِي، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ صَائِفَةٌ; لِلْهُدْنَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَائِبُ الْمَدِينَةِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَتُوُفِّيَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْحَجِّ بِأَيَّامٍ، وَوَلِيَ مَكَانَهُ إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ، أَبُو مُعَاذٍ الشَّاعِرُ مَوْلَى عُقَيْلٍ، وُلِدَ أَعْمًى، وَقَالَ الشِّعْرَ وَهُوَ دُونَ عَشْرِ سِنِينَ، وَلَهُ التَّشْبِيهَاتُ الَّتِي لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهَا الْبُصَرَاءُ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ الْأَصْمَعِيُّ وَالْجَاحِظُ وَأَبُو تَمَّامٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَقَالَ: لَهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ بَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ جَيِّدٍ. فَلَمَّا بَلَغَ الْمَهْدِيَّ أَنَّهُ هَجَاهُ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ قَوْمٌ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ، أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ حَتَّى مَاتَ عَنْ بِضْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ "، فَقَالَ: بَشَّارُ بْنُ بُرْدِ بْنِ يَرْجُوخَ الْعُقَيْلِيُّ

مَوْلَاهُمْ، وَقَدْ نَسَبَهُ صَاحِبُ الْأَغَانِي فَأَطَالَ نَسَبَهُ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَأَصْلُهُ مِنْ طَخَارِسْتَانَ، وَكَانَ ضَخْمًا عَظِيمَ الْخَلْقِ، وَشِعْرُهُ فِي أَوَّلِ طَبَقَاتِ الْمُوَلَّدِينَ، وَمِنْ شِعْرِهِ الْبَيْتُ الْمَشْهُورُ:
هَلْ تَعْلَمِينَ وَرَاءَ الْحُبِّ مَنْزِلَةً تُدْنِي إِلَيْكِ فَإِنَّ الْحُبَّ أَقْصَانِي
وَقَوْلُهُ:
أَنَا وَاللَّهِ أَشْتَهِي سِحْرَ عَيْنَيْ كِ وَأَخْشَى مَصَارِعَ الْعُشَّاقِ
وَلَهُ أَيْضًا:
يَا قَوْمُ أُذْنِي لِبَعْضِ الْحَيِّ عَاشِقَةٌ وَالْأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ الْعَيْنِ أَحْيَانَا
قَالُوا بِمَنْ لَا تَرَى تَهْذِي فَقُلْتُ لَهُمْ الْأُذُنُ كَالْعَيْنِ تُولِي الْقَلْبَ مَا كَانَا
وَلَهُ أَيْضًا:
إِذَا بَلَغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ بِحَزْمِ نَصِيحٍ أَوْ نَصِيحَةِ حَازِمِ
وَلَا تَجْعَلِ الشُّورَى عَلَيْكَ غَضَاضَةً فَرِيشُ الْخَوَافِي تَابِعٌ لِلْقَوَادِمِ

وَمَا خَيْرُ كَفٍّ أَمْسَكَ الْغُلُّ أُخْتَهَا وَمَا خَيْرُ سَيْفٍ لَمْ يُؤَيَّدْ بِقَائِمِ
كَانَ بَشَّارٌ يَمْدَحُ الْمَهْدِيَّ حَتَّى وَشَى إِلَيْهِ الْوَزِيرُ أَنَّهُ هَجَاهُ وَقَذَفَهُ، وَنُسِبَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الزَّنْدَقَةِ، وَأَنَّهُ يَقُولُ بِتَفْضِيلِ النَّارِ عَلَى التُّرَابِ، وَعُذْرِ إِبْلِيسَ فِي تَرْكِ السُّجُودِ لِآدَمَ، وَأَنَّهُ أَنْشَدَ:
الْأَرْضُ مُظْلِمَةٌ وَالنَّارُ مُشْرِقَةٌ وَالنَّارُ مَعْبُودَةٌ مُذْ كَانَتِ النَّارُ
فَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِضَرْبِهِ، فَضُرِبَ حَتَّى مَاتَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ غُرِّقَ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حُيَيٍّ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَالرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَعُتْبَةُ

الْغُلَامُ; وَهُوَ عُتْبَةُ بْنُ أَبَانِ بْنِ صَمْعَةَ، أَحَدُ الْعُبَّادِ الْمَشْهُورِينَ، وَالْبَكَّائِينَ الْمَذْكُورِينَ، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ فِي الْخُوصِ، وَيَصُومُ الدَّهْرَ وَيُفْطِرُ عَلَى الْخُبْزِ وَالْمِلْحِ. وَالْقَاسِمُ الْحُدَّانِيُّ، وَأَبُو هِلَالٍ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ، وَأَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا، فِي رَمَضَانَ مِنْهَا، نَقَضَتِ الرُّومُ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصُّلْحِ الَّذِي عَقَدَهُ لَهُمْ هَارُونُ الرَّشِيدُ عَنْ أَمْرِ أَبِيهِ الْمَهْدِيِّ، وَلَمْ يَسْتَمِرُّوا عَلَى الصُّلْحِ إِلَّا ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا، فَبَعَثَ نَائِبُ الْجَزِيرَةِ خَيْلًا إِلَى الرُّومِ، فَقَتَلُوا وَأَسَرُوا وَغَنِمُوا وَسَلِمُوا.
وَفِيهَا اتَّخَذَ الْمَهْدِيُّ دَوَاوِينَ الْأَزِمَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ بَنُو أُمَيَّةَ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَهْدِيُّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: ابْنُ رَيْطَةَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ زَيْدِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَّاهُ الْمَنْصُورُ الْمَدِينَةَ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ غَضِبَ عَلَيْهِ، فَعَزَلَهُ وَحَبَسَهُ، وَأَخَذَ جَمِيعَ مَالِهِ. وَحَمَّادُ عَجْرَدٍ، كَانَ ظَرِيفًا مَاجِنًا شَاعِرًا، وَكَانَ مِمَّنْ يُعَاشِرُ الْوَلِيدَ بْنَ يَزِيدَ، وَيُهَاجِي بَشَّارَ بْنَ بُرْدٍ، وَقَدِمَ عَلَى الْمَهْدِيِّ، وَنَزَلَ الْكُوفَةَ، وَاتُّهِمَ بِالزَّنْدَقَةِ.

قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي " طَبَقَاتِ الشُّعَرَاءِ ": ثَلَاثَةٌ حَمَّادُونَ بِالْكُوفَةِ يُرْمَوْنَ بِالزَّنْدَقَةِ; حَمَّادٌ الرَّاوِيَةُ، وَحَمَّادُ عَجْرَدٍ، وَحَمَّادُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ النَّحْوِيُّ، وَكَانُوا يَتَعَاشَرُونَ وَيَتَمَاجَنُونَ.
وَخَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحُصَيْنِ بْنِ أَبِي الْحُرِّ الْعَنْبَرِيُّ، قَاضِي الْبَصْرَةِ بَعْدَ سَوَّارٍ، سَمِعَ خَالِدًا الْحَذَّاءَ، وَدَاوُدَ بْنَ أَبِي هِنْدٍ، وَسَعِيدًا الْجُرَيْرِيَّ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ. وَكَانَ ثِقَةً فَقِيهًا، لَهُ اخْتِيَارَاتٌ تُعْزَى إِلَيْهِ غَرِيبَةٌ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَقَدْ سُئِلَ مَرَّةً عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَأَخْطَأَ فِي الْجَوَابِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: الْحُكْمُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا. فَأَطْرَقَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: إِذًا أَرْجِعُ، وَأَنَا صَاغِرٌ، لَأَنْ أَكُونَ ذَنَبًا فِي الْحَقِّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ رَأْسًا فِي الْبَاطِلِ. تُوُفِّيَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: بَعْدَ ذَلِكَ بِعَشْرِ سِنِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
غَوْثُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ زِيَادِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نُعَيْمٍ أَبُو يَحْيَى الْحَضْرَمِيُّ،

قَاضِي مِصْرَ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْحُكَّامِ، وَلِيَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي أَيَّامِ الْمَنْصُورِ وَالْمَهْدِيِّ. وَفُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَقَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلٍ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُلَاثَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ مَالِكٍ أَبُو الْيَسِيرِ الْعُقَيْلِيُّ، قَاضِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَغْدَادَ لِلْمَهْدِيِّ، هُوَ وَعَافِيَةُ بْنُ يَزِيدَ. وَكَانَ يُقَالُ لِابْنِ عُلَاثَةَ: قَاضِي الْجِنِّ؛ لِأَنَّهُ كَانَتْ بِئْرٌ يُصَابُ مَنْ أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا فَقَالَ: أَيُّهَا الْجِنُّ إِنَّا حَكَمْنَا أَنَّ لَكُمُ اللَّيْلَ وَلَنَا النَّهَارَ. فَكَانَ مَنْ أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا فِي النَّهَارِ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ. قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: كَانَ ثِقَةً. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: فِي حِفْظِهِ شَيْءٌ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا تُوَفِّيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَهْدِيُّ ابْنُ الْمَنْصُورِ الْعَبَّاسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: مَاسَبَذَانُ. بِالْحُمَّى، وَقِيلَ: مَسْمُومًا. وَقِيلَ: بِعَضَّةِ فَرَسٍ، فَمَاتَ. كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ:
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَهْدِيُّ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا لُقِّبَ بِالْمَهْدِيِّ طَمَعًا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَوْعُودَ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ، فَلَمْ يَكُنْ بِهِ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الِاسْمِ; لِأَنَّهُ لَمْ يُشْبِهْهُ فِي الْفِعْلِ، ذَاكَ يَأْتِي آخِرَ الزَّمَانِ وَعِنْدَ فَسَادِهِ، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ فِي أَيَّامِهِ يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ بِدِمَشْقَ. كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثِ الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ وَذِكْرِ الْمَهْدِيِّ وَنُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّ الْمَهْدِيَّ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَقَدْ جَاءَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَلَا يَصِحُّ

ذَلِكَ، وَبِتَقْدِيرِ صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى التَّعْيِينِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: الْمَهْدِيُّ مِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ " فَهُوَ يُعَارِضُ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمُّهُ أُمُّ مُوسَى بِنْتُ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحِمْيَرِيِّ.
رَوَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَهَرَ بِ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". رَوَاهُ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ الْبَتْلَهِيُّ قَاضِي دِمَشْقَ، وَذُكِرَ أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ الْمَهْدِيِّ حِينَ قَدِمَ دِمَشْقَ فَجَهَرَ فِي السُّورَتَيْنِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَأَسْنَدَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ. وَرَوَى الْمَهْدِيُّ عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ. وَرَوَى عَنْهُ أَيْضًا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيُّ، وَأَبُو سُفْيَانَ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مَهْدِيٍّ.
وَكَانَ مَوْلِدُ الْمَهْدِيِّ فِي سَنَةِ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ - وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى - وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، بِالْحُمَيْمَةِ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ، وَاسْتُخْلِفَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ ثَلَاثٍ أَوْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ عَشْرَ

سِنِينَ وَشَهْرًا وَبَعْضَ شَهْرٍ، وَكَانَ أَسْمَرَ طَوِيلًا، جَعْدَ الشَّعْرِ، عَلَى إِحْدَى عَيْنَيْهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، فَقِيلَ: عَيْنُهُ الْيُمْنَى. وَقِيلَ: الْيُسْرَى.
قَالَ الرَّبِيعُ الْحَاجِبُ: رَأَيْتُ الْمَهْدِيَّ يُصَلِّي فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ فِي بَهْوٍ لَهُ، عَلَيْهِ ثِيَابٌ حِسَانٌ، فَمَا أَدْرِي هُوَ أَحْسَنُ أَمِ الْقَمَرُ، أَمْ بَهْوُهُ، أَمْ ثِيَابُهُ. فَقَرَأَ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [ مُحَمَّدٍ: 22 ]. ثُمَّ أَمَرَنِي فَأَحْضَرْتُ رَجُلًا مِنْ قَرَابَتِهِ كَانَ مَسْجُونًا، فَأَطْلَقَهُ.
وَلَمَّا جَاءَهُ خَبَرُ مَوْتِ أَبِيهِ بِمَكَّةَ، وَهُوَ بِبَغْدَادَ مَعَ مَنَارَةَ الْبَرْبَرِيِّ مَوْلَاهُ، فِي السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ، كَتَمَ الْأَمْرَ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ نُودِيَ فِي النَّاسِ يَوْمَ الْخَمِيسِ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً. فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا، فَأَعْلَمَهُمْ بِمَوْتِ أَبِيهِ، فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ دُعِيَ فَأَجَابَ، وَقَدْ قُلِّدْتُ بَعْدَهُ جَسِيمًا، فَعِنْدَ اللَّهِ أَحْتَسِبُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى خِلَافَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَبَايَعَهُ النَّاسُ بِالْخِلَافَةِ يَوْمئِذٍ، وَقَدْ عَزَّاهُ أَبُو دُلَامَةَ وَهَنَّأَهُ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
عَيْنَايَ وَاحِدَةٌ تُرَى مَسْرُورَةً بِأَمِيرِهَا جَذْلَى وَأُخْرَى تَذْرِفُ تَبْكِي وَتَضْحَكُ تَارَةً وَيَسُوءُهَا
مَا أَنْكَرَتْ وَيَسُرُّهَا مَا تَعْرِفُ فَيَسُوءُهَا مَوْتُ الْخَلِيفَةِ مُحْرِمًا
وَيَسُرُّهَا أَنْ قَامَ هَذَا الْأَرْأَفُ

مَا إِنْ رَأَيْتُ كَمَا رَأَيْتُ وَلَا أَرَى
شَعْرًا أُرَجِّلُهُ وَآخَرُ يُنْتَفُ هَلَكَ الْخَلِيفَةُ يَالَأُمَّةِ أَحْمَدَ
وَأَتَاكُمْ مِنْ بَعْدِهِ مَنْ يَخْلُفُ أَهْدَى لِهَذَا اللَّهُ فَضْلَ خِلَافَةٍ
وَلِذَاكَ جنَاتِ النَّعِيمِ تُزَخْرَفُ
وَقَدْ قَالَ الْمَهْدِيُّ يَوْمًا فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَسِرُّوا مِثْلَمَا تُعْلِنُونَ مِنْ طَاعَتِنَا تَهْنِكُمُ الْعَافِيَةُ، وَتَحْمَدُوا الْعَاقِبَةَ، وَاخْفِضُوا جَنَاحَ الطَّاعَةِ لِمَنْ نَشَرَ مِعْدِلَتَهُ فِيكُمْ، وَطَوَى ثَوْبَ الْإِصْرِ عَنْكُمْ، وَأَهَالَ عَلَيْكُمُ السَّلَامَةَ وَلِينَ الْمَعِيشَةِ مِنْ حَيْثُ أَرَاهُ اللَّهُ، مُقَدِّمًا ذَلِكَ فِعْلَ مَنْ تَقَدَّمَهُ، وَاللَّهِ لَأُفْنِيَنَّ عُمْرِي بَيْنَ عُقُوبَتِكُمْ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْكُمْ. قَالَ: فَأَشْرَقَتْ وُجُوهُ النَّاسِ مِنْ حُسْنِ كَلَامِهِ.
ثُمَّ اسْتَخْرَجَ الْمَهْدِيُّ حَوَاصِلَ أَبِيهِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّتِي كَانَتْ لَا تُحَدُّ وَلَا تُوصَفُ كَثْرَةً، فَفَرَّقَهَا فِي النَّاسِ، وَلَمْ يُعْطِ أَهْلَهُ وَمَوَالِيَهُ مِنْهَا، بَلْ أَجْرَى لَهُمْ أَرْزَاقًا بِحَسَبِ كِفَايَتِهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ خَمْسُمِائَةٍ فِي الشَّهْرِ غَيْرَ الْأُعْطِيَّاتِ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ الْمَنْصُورُ حَرِيصًا عَلَى تَوْفِيرِ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُنْفِقُ فِي السَّنَةِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ مَنْ مَالِ الشَّرَاةِ، وَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِبِنَاءِ مَسْجِدِ الرُّصَافَةِ وَعَمَلِ خَنْدَقٍ وَسُورٍ حَوْلَهَا، وَبَنَى مُدُنًا قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَرَى الصَّلَاةَ خَلْفَهُ، فَأَحْضَرَهُ إِلَيْهِ فَتَكَلَّمَ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ الْمَهْدِيُّ فِي كَلَامٍ: يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ. فَقَالَ: مَهْ مَهْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَقَدْ كَانَتْ صَوَّامَةً قَوَّامَةً. فَقَالَ لَهُ: يَا زِنْدِيقُ لَأَقْتُلَنَّكَ. فَضَحِكَ

شَرِيكٌ، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ لِلزَّنَادِقَةِ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا; شُرْبُهُمُ الْقَهَوَاتِ، وَاتِّخَاذُهُمُ الْقَيْنَاتِ. فَأَطْرَقَ الْمَهْدِيُّ، وَخَرَجَ شَرِيكٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ هَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فِي زَمَنِ الْمَهْدِيِّ فَدَخَلَ الْمَهْدِيُّ بَيْتًا فِي دَارِهِ، فَأَلْزَقَ خَدَّهُ بِالتُّرَابِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ أَنَا الْمَطْلُوبَ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ دُونَ النَّاسِ فَهَا أَنَا ذَا بَيْنِ يَدَيْكَ، اللَّهُمَّ لَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى انْجَلَتْ.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ يَوْمًا وَمَعَهُ نَعْلٌ، فَقَالَ: هَذِهِ نَعْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَهْدَيْتُهَا لَكَ. فَقَالَ: هَاتِهَا. فَنَاوَلَهُ إِيَّاهَا، فَقَبَّلَهَا وَوَضَعَهَا عَلَى عَيْنَيْهِ، وَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ الْآفِ دِرْهَمٍ. فَلَمَّا انْصَرَفَ الرَّجُلُ قَالَ الْمَهْدِيُّ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرَ هَذِهِ النَّعْلَ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَلْبَسَهَا، وَلَكِنْ لَوْ رَدَدْتُهُ لَذَهَبَ يَقُولُ لِلنَّاسِ: أَعْطَيْتُهُ نَعْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّهَا عَلَيَّ. فَيُصَدِّقُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ; لِأَنَّ الْعَامَّةَ تَمِيلُ إِلَى أَمْثَالِهَا، وَمِنْ شَأْنِهِمْ نَصْرُ الضَّعِيفِ عَلَى الْقَوِيِّ وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا، فَاشْتَرَيْنَا لِسَانَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَرَأَيْنَا هَذَا أَرْجَحَ وَأَنْجَحَ.
وَاشْتُهِرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْحَمَامَ وَالسِّبَاقَ بَيْنَهَا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، فِيهِمْ غِيَاثُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، فَحَدَّثَهُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا سَبْقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ ". وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: " أَوْ جَنَاحٍ ". فَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ

آلَافٍ. وَلَمَّا خَرَجَ قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى قَفَاكَ قَفَا كَذَّابٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ أَمَرَ بِالْحَمَامِ فَذُبِحَ، وَلَمْ يَذْكُرْ غِيَاثًا بَعْدَهَا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى الْمَهْدِيِّ، فَحَدَّثْتُهُ بِأَحَادِيثَ، فَكَتَبَهَا عَنِّي ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ بُيُوتَ نِسَائِهِ، ثُمَّ خَرَجَ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ غَيْظًا، فَقُلْتُ: مَا لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْخَيْزُرَانِ، فَقَامَتْ إِلَيَّ، وَمَزَّقَتْ ثَوْبِي، وَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا. وَإِنِّي وَاللَّهِ يَا وَاقَدِيُّ إِنَّمَا اشْتَرَيْتُهَا مِنْ نَخَّاسٍ، وَقَدْ نَالَتْ عِنْدِي مَا نَالَتْ، وَقَدْ بَايَعْتُ لِوَلَدَيْهَا بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَعْدِي. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّهُنَّ يَغْلِبْنَ الْكِرَامَ وَيَغْلِبُهُنَّ اللِّئَامُ. وَقَالَ خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي. وَقَالَ خُلِقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجَ إِنْ قَوَّمْتَهُ كَسَرْتَهُ. وَحَدَّثْتُهُ فِي هَذَا الْبَابِ بِكُلِّ مَا حَضَرَنِي، فَأَمَرَ لِي بِأَلْفَيْ دِينَارٍ، فَلَمَّا وَافَيْتُ الْمَنْزِلَ إِذَا رَسُولُ الْخَيْزُرَانِ قَدْ لَحِقَنِي بِأَلْفَيْ دِينَارٍ إِلَّا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، وَإِذَا مَعَهُ أَثْوَابٌ أُخَرُ، وَبَعَثَتْ تَتَشَكَّرُ لِي وَتُثْنِي عَلَيَّ مَعْرُوفًا.
وَذَكَرُوا أَنَّ الْمَهْدِيَّ كَانَ قَدْ أَهْدَرَ دَمَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَجَعَلَ لِمَنْ جَاءَ

بِهِ مِائَةَ أَلْفٍ، فَدَخَلَ الرَّجُلُ بَغْدَادَ مُتَنَكِّرًا، فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا فِي بَعْضِ أَزِقَّةِ بَغْدَادَ إِذْ لَقِيَهُ رَجُلٌ، فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ ثَوْبِهِ وَنَادَى: هَذَا طِلْبَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَجَعَلَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يَنْفَلِتَ مِنْهُ فَلَا يَقْدِرُ، فَبَيْنَا هُمَا كَذَلِكَ إِذَا أَمِيرٌ فِي مَوْكِبِهِ قَدْ أَقْبَلَ وَإِذَا هُوَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ، خَائِفٌ مُسْتَجِيرٌ. فَقَالَ: وَيْحَكَ! مَا لَكَ وَلَهُ؟ فَقَالَ هَذَا طِلَبَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، جَعَلَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ مِائَةَ أَلْفٍ. قَالَ مَعْنٌ: وَيْحَكَ! أَوَمَا عَلِمْتَ أَنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ؟ أَرْسِلْهُ مِنْ يَدِكَ. ثُمَّ أَمَرَ بَعْضَ غِلْمَانِهِ فَتَرَجَّلَ وَأَرْكَبَهُ، وَذَهَبَ بِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَانْطَلَقَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى بَابِ الْخَلِيفَةِ فَأَنْهَى إِلَيْهِ الْخَبَرَ، فَبَلَغَ الْمَهْدِيَّ. فَأَرْسَلَ إِلَى مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ الْمَهْدِيُّ. وَقَالَ: يَا مَعْنُ، أَبَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ أَنْ تُجِيرَ عَلَيَّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَنَعَمْ أَيْضًا. قَالَ: نَعْمَ، قَدْ قَتَلْتُ فِي دَوْلَتِكُمْ أَرْبَعَةَ آلَافِ مُصَلٍّ، أَفَلَا يُجَارُ لِي رَجُلٌ وَاحِدٌ؟! فَأَطْرَقَ الْمَهْدِيُّ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجْرْتَ يَا مَعْنُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الرَّجُلَ ضَعِيفٌ. فَأَمَرَ لَهُ الْمَهْدِيُّ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا. فَقَالَ: إِنَّ جَرِيمَتَهُ عَظِيمَةٌ، وَإِنَّ جَوَائِزَ الْخُلَفَاءِ عَلَى قَدْرِ ذُنُوبِ الرَّعِيَّةِ. فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَحُمِلَتْ بَيْنَ يَدَيْ مَعْنٍ إِلَى الرَّجُلِ، فَقَالَ لَهُ مَعْنٌ: ادْعُ لِلْخَلِيفَةِ وَأَصْلِحْ نِيَّتَكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَقَدِمَ الْمَهْدِيُّ مَرَّةً الْبَصْرَةَ، فَخَرَجَ لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مُرْ هَؤُلَاءِ فَلْيَنْتَظِرُونِي حَتَّى أَتَوَضَّأَ. فَأَمَرَهُمُ الْمَهْدِيُّ بِانْتِظَارِهِ، وَوَقَفَ الْمَهْدِيُّ فِي الْمِحْرَابِ حَتَّى قِيلَ لَهُ: هَذَا الْأَعْرَابِيُّ قَدْ جَاءَ، فَكَبَّرَ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ سَمَاحَةِ أَخْلَاقِهِ.

وَقَدِمَ أَعْرَابِيٌّ وَمَعَهُ كِتَابٌ مَخْتُومٌ، فَجَعَلَ يَقُولُ: هَذَا كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْنَ الرَّجُلُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الرَّبِيعُ؟ فَدَلُّوهُ عَلَى الرَّبِيعِ الْحَاجِبِ، فَأَخَذَ الْكِتَابَ وَجَاءَ بِهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَوْقَفَ الْأَعْرَابِيَّ، وَفَتَحَ الْكِتَابَ، فَإِذَا هُوَ قِطْعَةُ أَدِيمٍ، فِيهَا كِتَابَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَالْأَعْرَابِيُّ يَزْعُمُ أَنَّ هَذَا خَطُّ الْخَلِيفَةِ، فَتَبَسَّمَ الْمَهْدِيُّ وَقَالَ: صَدَقَ الْأَعْرَابِيُّ هَذَا خَطِّي، إِنِّي خَرَجْتُ يَوْمًا إِلَى الصَّيْدِ، فَضِعْتُ مِنَ الْجَيْشِ، وَأَقْبَلَ اللَّيْلُ، فَتَعَوَّذْتُ بِتَعَوُّذِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُفِعُ لِي نَارٌ مِنْ بُعْدٍ، فَقَصَدْتُهَا فَإِذَا هُوَ الشَّيْخُ وَامْرَأَتُهُ فِي خِبَاءٍ يُوقِدَانِ نَارًا، فَسَلَّمْتُ، فَرَدَّ السَّلَامَ، وَفَرَشَ لِي كِسَاءً، وَسَقَانِي مِنْ مَذْقَةٍ مِنْ لَبَنٍ مَشُوبٍ بِمَاءٍ، فَمَا شَرِبْتُ شَيْئًا إِلَّا وَهِيَ أَطْيَبُ مِنْهُ، وَنِمْتُ نَوْمَةً عَلَى تِلْكَ الْعَبَاءَةِ مَا أَذْكُرُ أَنِّي نِمْتُ نَوْمَةً أَحْلَى مِنْهَا. فَقَامَ إِلَى شُوَيْهَةٍ لَهُ فَذَبَحَهَا، فَسَمِعْتُ امْرَأَتَهُ تَقُولُ لَهُ: عَمَدْتَ إِلَى مَعِيشَتِكَ وَمَعِيشَةِ أَوْلَادِكَ فَذَبَحْتَهَا؟! أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ وَعِيَالِكَ. فَمَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا، وَاسْتَيْقَظْتُ مِنَ النَّوْمِ فَاشْتَوَيْتُ مِنْ تِلْكَ الشُّوَيْهَةِ، وَقُلْتُ لَهُ: أَعْنَدَكَ شَيْءٌ أَكْتُبُ لَكَ فِيهِ كِتَابًا؟ فَأَتَانِي بِهَذِهِ الرُّقْعَةِ مِنَ الْأَدِيمِ فَكَتَبْتُ لَهُ بِعُودٍ مِنْ ذَلِكَ الرَّمَادِ خَمْسَمِائَةِ أَلْفٍ، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَاللَّهِ لَأُنْفِذَنَّهَا لَهُ كُلَّهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ سِوَاهَا. فَقَبَضَهَا الْأَعْرَابِيُّ، وَاسْتَمَرَّ مُقِيمًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَهُوَ فِي طَرِيقِ الْحَاجِّ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَنْبَارِ فَجَعَلَ يُقْرِي النَّاسَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَعُرِفَ بِمَنْزِلِ مُضِيفِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَهْدِيِّ.
وَعَنْ سَوَّارٍ - صَاحِبِ رَحْبَةِ سَوَّارٍ - قَالَ: انْصَرَفْتُ يَوْمًا مِنْ عِنْدِ الْمَهْدِيِّ، فَجِئْتُ مَنْزِلِي فَوُضِعَ لِيَ الْغَدَاءُ، فَلَمْ تُقْبِلْ نَفْسِي عَلَيْهِ، فَدَخَلْتُ خَلْوَتِي لِأَنَامَ

فِي الْقَائِلَةِ، فَلَمْ يَأْخُذْنِي نَوْمٌ، فَاسْتَدْعَيْتُ بِبَعْضَ حَظَايَايَ لِأَتَلَهَّى بِهَا، فَلَمْ يَقِرَّ لِي قَرَارٌ، فَنَهَضْتُ فَخَرَجْتُ مِنَ الْمَنْزِلِ، وَرَكِبْتُ بَغْلَتِي، فَمَا جَاوَزْتُ الدَّارَ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى لَقِيَنِي رَجُلٌ وَمَعَهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ، فَقُلْتُ: مَنْ أَيْنَ هَذِهِ؟ فَقَالَ: مِنْ مُلْكِكَ الْجَدِيدِ. فَاسْتَصْحَبْتُهُ مَعِي، وَسِرْتُ فِي أَزِقَّةِ بَغْدَادَ أَتَشَاغَلُ مِمَّا أَنَا فِيهِ مِنَ الضَّجَرِ، فَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ عِنْدَ مَسْجِدٍ فِي بَعْضِ الْحَارَاتِ، فَنَزَلْتُ لِأُصَلِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا قَضَيْتُ الصَّلَاةَ إِذَا بِرَجُلٍ أَعْمَى قَدْ أَخَذَ بِثِيَابِي فَقَالَ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً. فَقُلْتُ: مَا حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ ضَرِيرٌ، وَلَكِنَّنِي لَمَّا شَمَمْتُ رَائِحَةَ طِيبِكَ ظَنَنْتُ أَنَّكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النِّعْمَةِ وَالثَّرْوَةِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُفْضِيَ بِحَاجَتِي إِلَيْكَ. فَقُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْقَصْرَ الَّذِي تُجَاهَ الْمَسْجِدِ كَانَ لِأَبِي، فَسَافَرَ مِنْهُ إِلَى خُرَاسَانَ، وَبَاعَهَ وَأَخَذَنِي مَعَهُ وَأَنَا صَغِيرٌ، فَافْتَرَقْنَا هُنَاكَ، وَأَصَابَنِي الضَّرَرُ، فَرَجَعْنَا إِلَى بَغْدَادَ، فَجِئْتُ إِلَى صَاحِبِ هَذَا الْقَصْرِ أَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا أَتَبَلَّغُ بِهِ لَعَلِّي أَجْتَمِعُ بِسَوَّارٍ، فَإِنَّهُ كَانَ صَاحِبًا لِأَبِي، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ سِعَةٌ يَجُودُ مِنْهَا عَلَيَّ. فَقُلْتُ: وَمَنْ أَبُوكَ؟ فَذَكَرَ رَجُلًا كَانَ أَصْحَبَ النَّاسَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: إِنِّي أَنَا سَوَّارٌ صَاحِبُ أَبِيكَ، وَقَدْ مَنَعَنِي اللَّهُ فِي يَوْمِكَ هَذَا النَّوْمَ وَالْقَرَارَ وَالْأَكْلَ وَالرَّاحَةَ، حَتَّى أَخْرَجَنِي مِنْ مَنْزِلِي لِأَجْتَمِعَ بِكَ، وَأَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَأَمَرْتُ وَكِيلِي، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْأَلْفَيْنِ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ، وَقُلْتُ: إِذَا كَانَ الْغَدُ فَأْتِ مَنْزِلِي فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا. وَرَكِبْتُ فَجِئْتُ دَارَ الْخِلَافَةِ وَقُلْتُ: مَا أُتْحِفَ الْمَهْدِيَّ اللَّيْلَةَ فِي السَّمَرِ بِأَغْرَبَ مِنْ هَذَا. فَلَمَّا قَصَصْتُ عَلَيْهِ

الْقِصَّةَ تَعَجَّبَ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا، وَأَمَرَ لِلْأَعْمَى بِأَلْفَيْ دِينَارٍ، وَقَالَ لِي: عَلَيْكَ دَيْنٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: كَمْ؟ قُلْتُ: خَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ. فَسَكَتَ وَحَادَثَنِي سَاعَةً، فَلَمَّا قُمْتُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَوَصَلْتُ الْمَنْزِلَ إِذَا الْحَمَّالُونَ قَدْ سَبَقُونِي إِلَى الْمَنْزِلِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَأَلْفَيْ دِينَارٍ لِلْأَعْمَى، فَانْتَظَرْتُ الْأَعْمَى أَنْ يَجِيءَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَتَأَخَّرَ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ جَلَسْتُ إِلَى الْمَهْدِيُّ فَقَالَ: قَدْ فَكَّرْتُ فِي أَمْرِكَ، فَوَجَدْتُكَ إِذَا قَضَيْتَ دَيْنَكَ لَمْ يَبْقَ مَعَكَ شَيْءٌ، وَقَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ أُخْرَى. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ جَاءَنِي الْمَكْفُوفُ فَقُلْتُ: قَدْ رَزَقَ اللَّهُ بِسَبَبِكَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَدَفَعْتُ إِلَيْهِ الْأَلْفَيْ دِينَارٍ الَّتِي مِنْ عِنْدِ الْخَلِيفَةِ، وَزِدْتُهُ أَلْفَيْ دِينَارٍ مِنْ مَالِي أَيْضًا.
وَوَقَفَتِ امْرَأَةٌ لِلْمَهْدِيُّ فَقَالَتْ: يَا عَصَبَةَ رَسُولِ اللَّهِ، اقْضِ حَاجَتِي. فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: مَا سَمِعْتُهَا مِنْ غَيْرِهَا، اقْضُوا حَاجَتَهَا وَأَعْطُوهَا عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَدَخَلَ ابْنُ الْخَيَّاطِ عَلَى الْمَهْدِيِّ، وَامْتَدَحَهُ فَأَمَرَ لَهُ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَفَرَّقَهَا ابْنُ الْخَيَّاطِ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أَخَذْتُ بِكَفِّي كَفَّهُ أَبْتَغِي الْغِنَى وَلَمْ أَدْرِ أَنَّ الْجُودَ مِنْ كَفِّهِ يُعْدِي
فَلَا أَنَا مِنْهُ مَا أَفَادَ ذَوُو الْغِنَى أَفَدْتُ وَأَعْدَانِي فَبَدَّدْتُ مَا عِنْدِي
قَالَ: فَنَمَّى ذَلِكَ إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَأَعْطَاهُ بَدَلَ كُلِّ دِرْهَمٍ دِينَارًا.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَهُ مَآثِرُ وَمَحَاسِنُ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَاسَبَذَانَ،

كَانَ قَدْ خَرَجَ إِلَيْهَا لِيَبْعَثَ إِلَى ابْنِهِ الْهَادِي لِيَحْضُرَ إِلَيْهِ مِنْ جُرْجَانَ حَتَّى يَخْلَعَهُ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَيَجْعَلَهُ بَعْدَ هَارُونَ الرَّشِيدِ، فَامْتَنَعَ الْهَادِي مِنْ ذَلِكَ، فَرَكِبَ الْمَهْدِيُّ مِنْ بَغْدَادَ قَاصِدًا إِحْضَارَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِمَاسَبَذَانَ مَاتَ بِهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَكَانَ قَدْ رَأَى فِي النَّوْمِ وَهُوَ بِقَصْرِهِ بِبَغْدَادَ - وَأَظُنُّهُ الْمُسَمَّى بِقَصْرِ السَّلَامَةِ - كَأَنَّ شَيْخًا وَقَفَ بِبَابِ الْقَصْرِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَمِعَ هَاتِفًا يَقُولُ:
كَأَنِي بِهَذَا الْقَصْرِ قَدْ بَادَ آهِلُهُ وَأَوْحَشَ مِنْهُ أَهْلُهُ وَمَنَازِلُهُ
وَصَارَ عَمِيدُ الْقَوْمِ مِنْ بَعْدِ بَهْجَةٍ وَمُلْكٍ إِلَى قَبْرٍ عَلَيْهِ جَنَادِلُهُ
وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا ذِكْرُهُ وَحَدِيثُهُ يُنَادِي بِلَيْلٍ مُعْوِلَاتٍ حَلَائِلُهُ
فَمَا عَاشَ بَعْدَهَا إِلَّا عَشْرًا حَتَّى تُوُفِّيَ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَسَامَحَهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ.
وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ الْهَاتِفَ:
كَأَنِّي بِهَذَا الْقَصْرِ قَدْ بَادَ آهِلُهُ وَقَدْ دَرَسَتْ أَعْلَامُهُ وَمَنَازِلُهُ
فَأَجَابَهُ الْمَهْدِيُّ:
كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ يَبْلَى جَدِيدُهَا وُكُلُّ فَتًى يَوْمًا سَتَبْلَى فَعَائِلُهُ

فَقَالَ الْهَاتِفُ:
تَزَوَّدْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّكَ مَسْئُولٌ فَمَا أَنْتَ قَائِلُهُ
فَأَجَابَهُ الْمَهْدِيُّ:
أَقُولُ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ شَهِدْتُهُ فَذَلِكَ قَوْلٌ لَيْسَ تُحْصَى فَضَائِلُهُ
فَقَالَ الْهَاتِفُ
تَزَوَّدْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ رَاحِلٌ وَقَدْ أَزَفَ الْأَمْرُ الَّذِي بِكَ نِازِلُهُ
فَأَجَابَهُ الْمَهْدِيُّ:
مَتَى ذَاكَ خَبِّرْنِي هُدِيتَ فَإِنَّنِي سَأَفْعَلُ مَا قَدْ قُلْتَ لِي وَأُعَاجِلُهُ
فَقَالَ الْهَاتِفُ:
تَلَبَّثْ ثَلَاثًا بَعْدَ عِشْرِينَ لَيْلَةً إِلَى مُنْتَهَى شَهْرٍ وَمَا أَنْتَ كَامِلُهُ
قَالُوا: فَلَمْ يَعِشْ بَعْدَهَا إِلَّا تِسْعًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا حَتَّى مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ اخْتِلَافًا فِي سَبَبِ مَوْتِهِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ سَاقَ خَلْفَ ظَبْيٍ وَالْكِلَابُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَخَلَ الظَّبْيُ إِلَى خَرِبَةٍ، فَدَخَلَتِ الْكِلَابُ وَرَاءَهُ، وَجَاءَ الْفَرَسُ، فَحَمَلَ بِهِ فِي مِشْوَارِهِ، فَدَخَلَ الْخَرِبَةَ، فَكُسِرَ ظَهْرُ الْخَلِيفَةِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ وَفَاتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَ حَظَايَاهُ بَعَثَتْ إِلَى أُخْرَى لَبَنًا مَسْمُومًا، فَمَرَّ الرَّسُولُ بِالْمَهْدِيِّ، فَأَكَلَ مِنْهُ فَمَاتَ. وَقِيلَ: بَلْ بَعَثَتْ إِلَيْهَا بِصِينِيَّةٍ فِيهَا كُمِّثْرَى، وَفِي

أَعْلَاهَا وَاحِدَةٌ كَبِيرَةٌ فِيهَا سُمٌّ، وَكَانَ الْمَهْدِيُّ يُعْجِبُهُ الْكُمِّثْرَى، فَمَرَّتِ الْجَارِيَةُ تَحْمِلُ تِلْكَ الصِّينِيَّةَ فَرَآهَا فَاسْتَدْعَاهَا، فَأَخَذَ الَّتِي فِي أَعْلَاهَا، فَأَكَلَهَا فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ، فَجَعَلَتِ الْحَظِيَّةُ تَنْدُبُهُ، وَتَقُولُ: وَاأَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَاهُ، أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِي وَحْدِي، فَقَتَلْتُكَ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ - وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً عَلَى الْمَشْهُورِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ عَشْرَ سِنِينَ وَشَهْرًا وَكُسُورًا، وَقَدْ رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ بِمَرَاثٍ كَثِيرَةٍ قَدْ أَوْرَدَ مِنْهَا الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ طَرَفًا وَكَذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيَادٍ، وَنَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ، وَنَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ الْقَارِئُ.

خِلَافَةُ مُوسَى الْهَادِي ابْنِ الْمَهْدِيِّ
تُوُفِّيَ أَبُوهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ أَوَّلِ سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ، لَكِنْ كَانَ أَبُوهُ قَدْ عَزَمَ عَلَى تَقْدِيمِ أَخِيهِ هَارُونَ الرَّشِيدِ عَلَيْهِ فِي وِلَايَةِ الْعَهْدِ، فَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ أَبُوهُ بِمَاسَبَذَانَ فِي شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ، وَكَانَ الْهَادِي إِذْ ذَاكَ بِجُرْجَانَ، فَهَمَّ بَعْضُ الدَّوْلَةِ مِنْهُمُ; الرَّبِيعُ الْحَاجِبُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ عَلَى تَقْدِيمِ الرَّشِيدِ عَلَيْهِ وَالْمُبَايَعَةِ لَهُ، وَكَانَ حَاضِرًا بِبَغْدَادَ، وَعَزَمُوا عَلَى النَّفَقَةِ فِي الْجُنْدِ لِذَلِكَ تَنْفِيذًا لِمَا رَامَهُ الْمَهْدِيُّ مِنْ ذَلِكَ. فَأَسْرَعَ الْهَادِي السَّيْرَ مِنْ جُرْجَانَ إِلَى بَغْدَادَ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَسَاقَ مِنْهَا إِلَيْهَا فِي عِشْرِينَ يَوْمًا فَدَخَلَ بَغْدَادَ وَقَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، وَأَخَذَ الْبَيْعَةَ مِنْهُمْ فَبَايَعُوهُ، وَتَغَيَّبَ الرَّبِيعُ الْحَاجِبُ، فَتَطَلَّبَهُ الْهَادِي حَتَّى حَضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَفَا عَنْهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَقَرَّهُ عَلَى وَظِيفَةِ الْحُجُوبِيَّةِ، وَزَادَهُ الْوِزَارَةَ وَوِلَايَاتٍ أُخَرَ، وَشَرَعَ الْهَادِي فِي تَطَلُّبِ الزَّنَادِقَةِ مِنَ الْآفَاقِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ طَائِفَةً كَثِيرَةً، وَاقْتَدَى فِي ذَلِكَ بِأَبِيهِ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى الْهَادِي مِنْ أَفْكَهِ النَّاسِ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي الْخَلْوَةِ، فَإِذَا جَلَسَ فِي مَقَامِ الْخِلَافَةِ لَا يَسْتَطِيعُونَ النَّظَرَ إِلَيْهِ; لِمَا يَعْلُوهُ مِنَ الْمَهَابَةِ وَالرِّيَاسَةِ، وَكَانَ شَابًّا حَسَنًا وَقُورًا مَهِيبًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ - خَرَجَ بِالْمَدِينَةِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَصْبَحَ

يَوْمًا وَقَدْ لَبِسَ الْبَيَاضَ، وَجَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَجَاءَ النَّاسُ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَمَّا رَأَوْهُ وَلَّوْا رَاجِعِينَ، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ، فَبَايَعُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرِّضَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ. وَكَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِ أَنَّ مُتَوَلِّيَهَا خَرَجَ مِنْهَا إِلَى بَغْدَادَ لِتَلَقِّي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَهْنِئَتِهِ بِالْوِلَايَةِ، وَتَعْزِيَتِهِ فِي أَبِيهِ الْمَهْدِيِّ، فَجَرَتْ أُمُورٌ اقْتَضَتْ أَنْ خَرَجَ حُسَيْنٌ هَذَا، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ، وَجَعَلُوا مَأْوَاهُمُ الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ، وَمَنَعُوا النَّاسَ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَلَمْ يُجِبْهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَجَعَلُوا يَدْعُونَ عَلَيْهِ لِامْتِهَانِهِمُ الْمَسْجِدَ، حَتَّى ذُكِرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَذِّرُونَ فِي جَنْبَاتِ الْمَسْجِدِ، وَقَدِ اقْتَتَلُوا مَعَ الْمُسَوِّدَةِ مَرَّاتٍ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ وَقُتِلَ مِنْهُمْ، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى مَكَّةَ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى زَمَنِ الْحَجِّ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْهَادِي جَيْشًا، فَقَاتَلُوهُ بَعْدَ فَرَاغِ النَّاسِ مِنَ الْمَوْسِمِ، فَقَتَلُوهُ وَقَتَلُوا طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَانْهَزَمَ بَقِيَّتُهُمْ، وَتَفَرَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ، فَكَانَ مُدَّةُ خُرُوجِهُ إِلَى أَنْ قُتِلَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَقَدْ كَانَ كَرِيمًا مِنْ أَجْوَدِ النَّاسِ; دَخَلَ يَوْمًا عَلَى الْمَهْدِيِّ، فَأَطْلَقَ لَهُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَفَرَّقَهَا فِي أَهْلِهِ وَأَصْدِقَائِهِ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ، وَمَا خَرَجَ مِنْهَا وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ، إِنَّمَا عَلَيْهِ فَرْوَةٌ لَيْسَ دُونَهَا قَمِيصٌ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ سُلَيْمَانُ ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَمُّ الْخَلِيفَةِ.
وَغَزَا الصَّائِفَةَ مِنْ طَرِيقِ دَرْبِ الرَّاهِبِ مَعْيُوفُ بْنُ يَحْيَى فِي جَحْفَلٍ كَثِيفٍ، وَقَدْ أَقْبَلَتِ الرُّومُ مَعَ بَطْرِيقِهَا فَبَلَغُوا الْحَدَثَ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قُتِلَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، كَمَا ذَكَرْنَا. الرَّبِيعُ بْنُ يُونُسَ الْحَاجِبُ، مَوْلَى الْمَنْصُورِ وَحَاجِبُهُ وَوَزِيرُهُ، وَقَدْ وَزَرَ أَيْضًا لِلْهَادِي. وَقِيلَ: إِنَّهُ وَزَرَ أَيْضًا لِلْمَهْدِيِّ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَطْعَنُ فِي نَسَبِهِ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْخَطِيبُ فِي تَرْجَمَتِهِ حَدِيثًا مِنْ طَرِيقِهِ، وَلَكِنَّهُ مُنْكَرٌ، فِي صِحَّتِهِ عَنْهُ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ وَلِيَ الْحُجُوبِيَّةَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَلَّاهُ إِيَّاهَا الْخَلِيفَةُ الْهَادِي.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا عَزَمَ الْهَادِي عَلَى خَلْعِ أَخِيهِ هَارُونَ مِنَ الْخِلَافَةِ، وَوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ وَمُبَايَعَةِ ابْنِهِ جَعْفَرٍ ابْنِ الْهَادِي، فَانْقَادَ هَارُونُ لِذَلِكَ، وَلَمْ يُظْهِرِ الْمُنَازَعَةَ بَلِ الْمُطَاوَعَةَ، وَاسْتَدْعَى الْهَادِي جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَبَتْ ذَلِكَ أُمُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْخَيْزُرَانُ، وَكَانَتْ أَمْيَلَ إِلَى ابْنِهَا هَارُونَ الرَّشِيدِ، وَكَانَ الْهَادِي قَدْ مَنَعَهَا التَّصَرُّفَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَمْلَكَةِ، بَعْدَ مَا كَانَتْ قَدِ اسْتَحْوَذَتْ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ وِلَايَتِهِ، وَانْقَلَبَتِ الدُّوَلُ إِلَى بَابِهَا، وَالْأُمَرَاءُ إِلَى جَانِبِهَا فَحَلَفَ الْهَادِي لَئِنْ عَادَ أَمِيرٌ يَلُوذُ بِبَابِهَا لَيَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ، وَلَا يَقْبَلُ لَهَا شَفَاعَةً أَبَدًا، فَامْتَنَعَتْ مِنَ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ، وَحَلَفَتْ لَا تُكَلِّمُهُ أَبَدًا، وَانْتَقَلَتْ عَنْهُ إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ، وَأَلَحَّ هُوَ عَلَى أَخِيهِ هَارُونَ فِي الْخَلْعِ، وَبَعَثَ إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ - وَكَانَ مِنْ أَكَابِرَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ هُمْ فِي صَفِّ الرَّشِيدِ - فَقَالَ لَهُ: مَاذَا تَرَى فِيمَا أُرِيدُ مَنْ خَلْعِ الرَّشِيدِ، وَتَوْلِيَةِ ابْنِي جَعْفَرٍ؟ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أَخْشَى أَنْ تَهُونَ الْأَيْمَانُ عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنْ مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَنْ تَجْعَلَ جَعْفَرًا وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ هَارُونَ، وَأَيْضًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ لَا يُجِيبَ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَى الْبَيْعَةِ لِجَعْفَرٍ; وَهُوَ دُونُ الْبُلُوغِ، فَيَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ وَيَخْتَلِفَ النَّاسُ فَيَنَالَهَا بَعْضُ أَهْلِكَ، لَا هَذَا وَلَا هَذَا.

فَأَطْرَقَ مَلِيًّا - وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا - ثُمَّ أَمَرَ بِسَجْنِهِ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ.
وَجَاءَ يَوْمًا إِلَيْهِ أَخُوهُ هَارُونُ الرَّشِيدُ، فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِهِ بَعِيدًا عَنْهُ، فَجَعَلَ الْهَادِي يَنْظُرُ إِلَيْهِ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ: يَا هَارُونُ، أَتَطْمَعُ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَا الْمَهْدِيِّ حَقًّا؟ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ، وَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ لَأَصِلَنَّ مَنْ قَطَعْتَ، وَلَأُنْصِفَنَّ مَنْ ظَلَمْتَ، وَلَأُزَوِّجَنَّ بَنِيكَ مِنْ بَنَاتِي. فَقَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ. فَقَامَ إِلَيْهِ هَارُونُ لِيُقَبِّلَ يَدَهُ، فَحَلَفَ الْهَادِي لَيَجْلِسَنَّ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، فَجَلَسَ مَعَهُ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَنْ يَدْخُلَ الْخَزَائِنَ فَيَأْخُذَ مِنْهَا مَا أَرَادَ، وَإِذَا جَاءَ الْخَرَاجُ فَلْيُدْفَعْ إِلَيْهِ نِصْفُهُ. فَفُعِلَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَرَضِيَ الْهَادِي عَنِ الرَّشِيدِ. ثُمَّ سَافَرَ إِلَى حَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَادَ مِنْهَا، فَمَاتَ بِعِيسَابَاذَ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ لِلنِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ - وَقِيلَ: الْآخَرُ - سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ. وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَنَةً وَشَهْرًا وَثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَكَانَ طَوِيلًا جَمِيلًا أَبْيَضَ بِشَفَتِهِ الْعُلْيَا تَقَلُّصٌ.
وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ خَلِيفَةٌ، وَهُوَ الْهَادِي، وَوَلِيَ خَلِيفَةٌ، وَهُوَ الرَّشِيدُ، وَوُلِدَ خَلِيفَةٌ، وَهُوَ الْمَأْمُونُ ابْنُ الرَّشِيدِ. وَقَدْ كَانَتِ الْخَيْزُرَانُ أُمُّ الْخَلِيفَةِ قَالَتْ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ يُولَدُ اللَّيْلَةَ خَلِيفَةٌ، وَيَمُوتُ خَلِيفَةٌ، وَيَتَوَلَّى خَلِيفَةٌ. يُقَالُ: إِنَّهَا سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْزَاعِيِّ قَبْلَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ، وَقَدْ سَرَّهَا ذَلِكَ جِدًّا. وَيُقَالُ: إِنَّهَا سَمَّتِ وَلَدَهَا الْهَادِيَ خَوْفًا عَلَى ابْنِهَا الرَّشِيدِ مِنْهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ

كَانَ قَدْ أَبْعَدَهَا وَأَقْصَاهَا، وَقَرَّبَ حَظِيَّتَهُ خَالِصَةَ وَأَدْنَاهَا. فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَهَذَا ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ تَرْجَمَةِ الْهَادِي
هُوَ مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْهَادِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ابْنُ الْمَهْدِيِّ ابْنِ الْمَنْصُورِ. وَلِيَ الْخِلَافَةَ - كَمَا ذَكَرْنَا - فِي مُحَرَّمٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي النِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أَوِ الْآخِرِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثٌ - وَقِيلَ أَرْبَعٌ. وَقِيلَ: سِتٌّ - وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ أَحَدٌ قَبْلَهُ فِي سِنِّهِ. وَكَانَ حَسَنًا جَمِيلًا طَوِيلًا أَبْيَضَ، فِي شَفَتِهِ الْعُلْيَا تَقَلُّصٌ، وَكَانَ قَوِيَّ الْبَأْسِ يَثِبُ عَلَى الدَّابَّةِ وَعَلَيْهِ دِرْعَانِ، وَكَانَ أَبُوهُ يُسَمِّيهِ رَيْحَانَتِي.
وَذَكَرَ عِيسَى بْنُ دَأَبٍ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَ الْهَادِي، إِذْ جِيءَ بِطَسْتٍ فِيهِ رَأْسَا جَارِيَتَيْنِ، لَمْ أَرَ أَحْسَنَ مِنْهُمَا، وَلَا مِثْلَ شُعُورِهِمَا، وَفِي شُعُورِهِمَا اللَّآلِئُ وَالْجَوَاهِرُ مُنَضَّدَةً، وَلَا مِثْلَ طِيبِ رِيحِهِمَا، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا شَأْنُ هَاتَيْنِ؟ قُلْنَا: لَا. فَقَالَ: إِنَّهُ ذُكِرَ لِي عَنْهُمَا أَنَّهُمَا يَرْتَكِبَانِ الْفَاحِشَةَ، فَأَمَرْتُ الْخَادِمَ، فَرَصَدَهُمَا ثُمَّ جَاءَنِي فَقَالَ: إِنَّهُمَا مُجْتَمِعَتَانِ. فَجِئْتُ فَوَجَدْتُهُمَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ وَهُمَا عَلَى

الْفَاحِشَةِ، فَأَمَرْتُ بِحَزِّ رِقَابِهِمَا. ثُمَّ أَمَرَ بِرَفْعِ رُءُوسِهِمَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَرَجَعَ إِلَى حَدِيثِهِ الْأَوَّلِ، كَأَنْ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا. وَكَانَ شَهْمًا خَبِيرًا بِالْمُلْكِ كَرِيمًا.
وَمِنْ كَلَامِهِ: مَا أُصْلِحَ الْمُلْكُ بِمِثْلِ تَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ لِلْجَانِي، وَالْعَفْوِ عَنِ الزَّلَّاتِ الْقَرِيبَةِ، لِيَقِلَّ الطَّمَعُ عَنِ الْمُلْكِ.
وَغَضِبَ يَوْمًا مِنْ رَجُلٍ، فَاسْتُرْضِيَ عَنْهُ فَرَضِيَ، فَشَرَعَ الرَّجُلُ يَعْتَذِرُ، فَقَالَ الْهَادِي: إِنَّ الرِّضَا قَدْ كَفَاكَ مُؤْنَةَ الِاعْتِذَارِ.
وَعَزَّى الْهَادِي رَجُلًا فِي وَلَدٍ لَهُ تُوُفِّيَ: فَقَالَ لَهُ: أَسَرَّكَ وَهُوَ عَدُوٌّ وَفِتْنَةٌ، وَأَحْزَنَكَ وَهُوَ صَلَاةٌ وَرَحْمَةٌ.
وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ أَبِي حَفْصَةَ أَنْشَدَ الْهَادِي قَصِيدَةً لَهُ، مِنْهَا:
تَشَابَهَ يَوْمًا بَأْسُهُ وَنَوَالُهُ فَمَا أَحَدٌ يَدْرِي لِأَيِّهِمَا الْفَضْلُ
فَقَالَ لَهُ الْهَادِي: أَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ ثَلَاثُونَ أَلْفًا مُعَجَّلَةً أَوْ مِائَةُ أَلْفٍ تَدُورُ فِي الدَّوَاوِينِ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَكُونُ ثَلَاثُونَ أَلْفًا مُعَجَّلَةً وَمِائَةُ أَلْفٍ تَدُورُ بِالدَّوَاوِينِ. فَقَالَ الْهَادِي: أَوْ أَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ; نُعَجِّلُ الْجَمِيعَ لَكَ. فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا مُعَجَّلَةً.

وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: حَدَّثَنِي الْأَزْهَرِيُّ، ثَنَا سَهْلُ بْنُ أَحْمَدَ الدِّيبَاجِيُّ، ثَنَا الصُّولِيُّ، ثَنَا الْغَلَابِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّيْمِيُّ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنِي الْمُطَّلِبُ بْنُ عُكَّاشَةَ الْمُزَنِيُّ قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ الْهَادِي شُهُودًا عَلَى رَجُلٍ مِنَّا شَتَمَ قُرَيْشًا، وَتَخَطَّى إِلَى ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسَ لَنَا مَجْلِسًا أَحْضَرَ فِيهِ فُقَهَاءَ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَمَنْ كَانَ بِالْحَضْرَةِ عَلَى بَابِهِ، وَأَحْضَرَ الرَّجُلَ وَأَحْضَرَنَا، فَشَهِدْنَا عَلَيْهِ بِمَا سَمِعْنَا مِنْهُ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ الْهَادِي، ثُمَّ نَكَّسَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَفَعَهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ أَبِي الْمَهْدِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ الْمَنْصُورِ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ أَرَادَ هَوَانَ قُرَيْشٍ أَهَانَهُ اللَّهُ، وَأَنْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ لَمْ تَرْضَ بِأَنْ أَرَدْتَ ذَلِكَ مِنْ قُرَيْشٍ حَتَّى تَخَطَّيْتَ إِلَى ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! اضْرِبُوا عُنُقَهُ. فَمَا بَرِحْنَا حَتَّى قُتِلَ.
تُوُفِّيَ الْهَادِي فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ هَارُونُ وَلِيُّ الْعَهْدِ، وَدُفِنَ فِي قَصْرٍ بَنَاهُ وَسَمَّاهُ الْأَبْيَضَ بِعِيسَابَاذَ مِنَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَغْدَادَ. وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ تِسْعَةٌ; سَبْعَةٌ ذُكُورٌ وَابْنَتَانِ، فَالذُّكُورُ; جَعْفَرٌ - وَهُوَ الَّذِي كَانَ قَدْ رَشَّحَهُ لِلْخِلَافَةِ - وَعَبَّاسٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ وَإِسْحَاقُ وَإِسْمَاعِيلُ وَسُلَيْمَانُ وَمُوسَى الْأَعْمَى الَّذِي وُلِدَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَسُمِّيَ بِاسْمِ أَبِيهِ، وَالْبِنْتَانِ هُمَا أُمُّ عِيسَى الَّتِي تَزَوَّجَهَا الْمَأْمُونُ، وَالْأُخْرَى أُمُّ

الْعَبَّاسِ تُلَقَّبُ نُوتَةَ.

خِلَافَةُ هَارُونَ الرَّشِيدِ ابْنِ الْمَهْدِيِّ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ لَيْلَةَ مَاتَ أَخُوهُ الْهَادِي، وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ لِلنِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ عُمْرُ الرَّشِيدِ يَوْمَئِذٍ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَبَعَثَ إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، فَأَخْرَجَهُ مِنَ السِّجْنِ، وَقَدْ كَانَ الْهَادِي عَزَمَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَلَى قَتْلِهِ وَقَتْلِ هَارُونَ الرَّشِيدِ، فَأَخْرَجَهُ الرَّشِيدُ، وَكَانَ ابْنَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَوَلَّاهُ حِينَئِذٍ الْوِزَارَةَ، وَوَلَّى يُوسُفَ بْنَ الْقَاسِمِ بْنِ صُبَيْحٍ كِتَابَةَ الْإِنْشَاءِ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي قَامَ خَطِيبًا بَيْنَ يَدَيْهِ حِينَ أُخِذَتِ الْبَيْعَةُ لَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِعِيسَابَاذَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لِمَا مَاتَ الْهَادِي فِي اللَّيْلِ جَاءَ يَحْيَى بْنُ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ إِلَى الرَّشِيدِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا، فَقَالَ لَهُ: قُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: كَمْ تُرَوِّعُنِي، وَلَوْ سَمِعَ بِهَذَا الْكَلَامِ هَذَا الرَّجُلُ لَكَانَ ذَلِكَ أَكْبَرَ ذُنُوبِي عِنْدَهُ. فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: قَدْ مَاتَ الرَّجُلُ. فَجَلَسَ هَارُونُ فَقَالَ: أَشِرْ عَلَيَّ. فَجَعَلَ يَذْكُرُ لَهُ وِلَايَاتِ الْأَقَالِيمِ لِرِجَالٍ يُسَمِّيهِمْ، فَيُوَلِّيهِمُ الرَّشِيدُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ; فَقَدْ وُلِدَ لَكَ السَّاعَةَ غُلَامٌ. فَقَالَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَهُوَ الْمَأْمُونُ ثُمَّ أَصْبَحَ فَصَلَّى عَلَى أَخِيهِ الْهَادِي، وَدَفَنَهُ بِعِيسَابَاذَ، وَحَلَفَ لَا يُصَلِّي الظُّهْرَ إِلَّا بِبَغْدَادَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْجِنَازَةِ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِ أَبِي عِصْمَةَ الْقَائِدِ; لِأَنَّهُ

كَانَ مَعَ جَعْفَرٍ ابْنِ الْهَادِي فَزَاحَمُوا هَارُونَ عَلَى جِسْرٍ، فَقَالَ أَبُو عِصْمَةَ: قِفْ حَتَّى يَجُوزَ وَلِيُّ الْعَهْدِ. فَقَالَ الرَّشِيدُ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِلْأَمِيرِ. فَجَازَ جَعْفَرٌ وَوَقَفَ الرَّشِيدُ، فَلَمَّا وَلِيَ أَمَرَ بِقَتْلِ أَبِي عِصْمَةَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى بَغْدَادَ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى جِسْرِ بَغْدَادَ اسْتَدْعَى بِالْغَوَّاصِينَ فَقَالَ: إِنِّي سَقَطَ مِنِّي هَاهُنَا خَاتَمٌ، كَانَ وَالِدِي الْمَهْدِيُّ قَدِ اشْتَرَاهُ لِي بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَيَّامٍ بَعَثَ وَرَائِي الْهَادِي يَطْلُبُهُ، فَأَلْقَيْتُهُ إِلَى الرَّسُولِ، فَسَقَطَ هَاهُنَا. فَغَاصُوا وَرَاءَهُ فَوَجَدُوهُ، فَسُرَّ بِهِ الرَّشِيدُ سُرُورًا كَثِيرًا.
وَلَمَّا وَلَّى الرَّشِيدُ يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ الْوِزَارَةَ قَالَ لَهُ: قَدْ فَوَّضْتُ إِلَيْكَ أَمْرَ الرَّعِيَّةِ، وَخَلَعْتُ ذَلِكَ مِنْ عُنُقِي، وَجَعَلْتُهُ فِي عُنُقِكَ، فَوَلِّ مَنْ رَأَيْتَ، وَاعْزِلْ مَنْ رَأَيْتَ. فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلِيُّ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّمْسَ كَانَتْ سَقِيمَةً فَلَمَّا وَلِيَ هَارُونُ أَشْرَقَ نُورُهَا بِيُمْنِ أَمِينِ اللَّهِ هَارُونَ ذِي النَّدَى
فَهَارُونُ وَالِيهَا وَيَحْيَى وَزِيرُهَا
وَكَانَتِ الْخَيْزُرَانُ هِيَ الْمُشَاوَرَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، لَا يَقْطَعُ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ أَمْرًا حَتَّى يُشَاوِرَهَا فِيمَا يُبْرِمُهُ وَيَحِلُّهُ وَيُمْضِيهِ وَيُحْكُمُهُ.
وَفِيهَا أَمَرَ الرَّشِيدُ بِسَهْمِ ذِي الْقُرْبَى أَنْ يُقَسَّمَ فِي بَنِي هَاشِمٍ عَلَى السَّوَاءِ.
وَفِيهَا تَتَبَّعَ الرَّشِيدُ خَلْقًا مِنَ الزَّنَادِقَةِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ طَائِفَةً كَثِيرَةً.
وَفِيهَا خَرَجَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْبَيْتِ.
فِيهَا وُلِدَ الْأَمِينُ مُحَمَّدٌ ابْنُ الرَّشِيدِ مِنْ زُبَيْدَةَ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لِسِتَّ

عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَوَّالَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا كَمُلَ بِنَاءُ مَدِينَةِ طَرَسُوسَ عَلَى يَدَيْ فَرَجٍ الْخَادِمِ التُّرْكِيِّ، وَنَزَلَهَا النَّاسُ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونُ الرَّشِيدُ، وَأَعْطَى أَهْلَ الْحَرَمَيْنِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً جِدًّا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ غَزَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا. وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ دَاوُدُ بْنُ رَزِينٍ الشَّاعِرُ:
بِهَارُونَ لَاحَ النُّورُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ وَقَامَ بِهِ فِي عَدْلِ سِيرَتِهِ النَّهْجُ
إِمَامٌ بِذَاتِ اللَّهِ أَصْبَحَ شُغْلُهُ وَأَكْثَرُ مَا يُعْنَى بِهِ الْغَزْوُ وَالْحَجُّ
تَضِيقُ عُيُونُ النَّاسِ عَنْ نُورِ وَجْهِهِ إِذَا مَا بَدَا لِلنَّاسِ مَنْظَرُهُ الْبَلْجُ
وَإِنَّ أَمِينَ اللَّهِ هَارُونَ ذَا النَّدَى يُنِيلُ الَّذِي يَرْجُوهُ أَضْعَافَ مَا يَرْجُو
وَغَزَا الصَّائِفَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيُّ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَرَاهِيدِيُّ - وَيُقَالُ الْفُرْهُودِيُّ - الْأَزْدِيُّ الْيَحْمَدِيُّ، شَيْخُ النُّحَاةِ، وَعَنْهُ أَخَذَ سِيبَوَيْهِ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَكَابِرِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَرَعَ عِلْمَ الْعَرُوضِ، قَسَّمَهُ إِلَى

خَمْسِ دَوَائِرَ، وَفَرَّعَهُ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ بَحْرًا، وَزَادَ الْأَخْفَشُ فِيهِ بَحْرًا آخَرَ، وَهُوَ الْخَبَبُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
قَدْ كَانَ شِعْرُ الْوَرَى صَحِيحًا مِنْ قَبْلُ أَنْ يُخْلَقَ الْخَلِيلُ
وَقَدْ كَانَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِعِلْمِ النَّغَمِ، وَلَهُ فِيهِ تَصْنِيفٌ أَيْضًا، وَلَهُ كِتَابُ " الْعَيْنِ " فِي اللُّغَةِ، ابْتَدَأَهُ وَأَكْمَلَهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وَأَضْرَابُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، كَمُؤَرِّجٍ السَّدُوسِيِّ، وَنَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيِّ. فَلَمْ يُنَاسِبُوا مَا وَضَعَهُ الْخَلِيلُ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ وَضَعَ ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ كِتَابًا بَيَّنَ فِيهِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ الْخَلَلِ، فَأَفَادَ.
وَقَدْ كَانَ الْخَلِيلُ رَجُلًا صَالِحًا عَاقِلًا كَامِلًا حَلِيمًا وَقُورًا، وَكَانَ مُتَقَلِّلًا مِنَ الدُّنْيَا، صَبُورًا عَلَى الْعَيْشِ الْخَشِنِ الضَّيِّقِ، وَكَانَ يَقُولُ: لَا يُجَاوِزُ هَمِّي مَا وَرَاءَ بَابِي. وَكَانَ ظَرِيفًا حَسَنَ الْخُلُقِ.
وَذُكِرَ أَنَّهُ اشْتَغَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فِي الْعُرُوضِ، قَالَ: وَكَانَ بَعِيدَ الْفَهْمِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ يَوْمًا: كَيْفَ تُقَطِّعُ هَذَا الْبَيْتَ؟
إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ
فَشَرَعَ مَعِي فِي تَقْطِيعِهِ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَهَضَ مِنْ عِنْدِي فَلَمْ يَعُدْ إِلَيَّ، وَكَأَنَّهُ فَهِمَ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَحْمَدَ سِوَى أَبِيهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وُلِدَ الْخَلِيلُ سَنَةَ مِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَمَاتَ بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتِّينَ، وَزَعَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " شُذُورِ الْعُقُودِ " أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا. وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ كَامِلٍ الْمُرَادِيُّ مَوْلَاهُمُ، الْمِصْرِيُّ الْمُؤَذِّنُ، رَاوِيَةُ الشَّافِعِيِّ، وَآخِرُ مَنْ رَوَى عَنْهُ. وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا تَفَرَّسَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ، وَفِي الْبُوَيْطِيِّ وَالْمُزَنِيِّ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَمِنْ شِعْرِ الرَّبِيعِ هَذَا:
صَبْرًا جَمِيلًا مَا أَسْرَعَ الْفَرَجَا مَنْ صَدَقَ اللَّهَ فِي الْأُمُورِ نَجَا
مَنْ خَشِيَ اللَّهَ لَمْ يَنَلْهُ أَذَى وَمَنْ رَجَا اللَّهَ كَانَ حَيْثُ رَجَا
فَأَمَّا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الْجِيزِيُّ، فَإِنَّهُ رَوَى عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا. وَقَدْ مَاتَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا أَضَافَ الرَّشِيدُ الْخَاتَمَ إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ مَعَ الْوِزَارَةِ.
وَفِيهَا قَتَلَ الرَّشِيدُ أَبَا هُرَيْرَةَ مُحَمَّدَ بْنَ فَرُّوخٍ نَائِبَ الْجَزِيرَةِ صَبْرًا فِي قَصْرِ الْخُلْدِ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَفِيهَا خَرَجَ الْفَضْلُ بْنُ سَعِيدٍ الْحَرُورِيُّ فَقُتِلَ.
وَفِيهَا قَدِمَ رَوْحُ بْنُ حَاتِمٍ إِفْرِيقِيَّةَ. وَخَرَجَتْ أُمُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْخَيْزُرَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَأَقَامَتْ بِهَا حَتَّى شَهِدَتِ الْحَجَّ، وَكَانَ الَّذِي حَجَّ بِالنَّاسِ عَمُّ الْخُلَفَاءِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَكْرَمَهُ، وَتَقَبَّلَ مِنْهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا وَضَعَ الرَّشِيدُ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ الْعُشْرَ الَّذِي كَانَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ بَعْدَ النِّصْفِ.
وَفِيهَا خَرَجَ الرَّشِيدُ مِنْ بَغْدَادَ يَرْتَادُ لَهُ مَوْضِعًا يَسْكُنُهُ غَيْرَهَا، فَلَمْ يَبْرَحْ إِلَّا أَنْ تَشَوَّشَ فِيهَا ثُمَّ رَجَعَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ يَعْقُوبُ ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَمُّ هَارُونَ الرَّشِيدِ.
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بِالْبَصْرَةِ، فَأَمَرَ الرَّشِيدُ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى حَوَاصِلِهِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلْخُلَفَاءِ، فَوَجَدُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، فَقَبَضُوهُ; مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْأَمْتِعَةِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى الْحَرْبِ وَعَلَى تَقَوِّي الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعُدَدِ وَالْبِرَكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأُمُّهُ أُمُّ حَسَنٍ بِنْتُ جَعْفَرِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَكَانَ مِنْ رِجَالَاتِ قُرَيْشٍ وَشُجْعَانِهِمْ. جَمَعَ لَهُ الْمَنْصُورُ بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَزَوَّجَهُ الْمَهْدِيُّ ابْنَتَهُ الْعَبَّاسَةَ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ دَخْلُهُ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ أَلْفٍ. وَكَانَ لَهُ خَاتَمٌ مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ.
رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ الْأَكْبَرِ - وَهُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ - حَدِيثًا مَرْفُوعًا فِي مَسْحِ رَأْسِ الْيَتِيمِ إِلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ، وَمَسْحِ رَأْسِ مَنْ لَهُ أَبٌ إِلَى مُؤَخَّرِهِ.

وَقَدْ وَفَدَ عَلَى الرَّشِيدِ، فَهَنَّأَهُ بِالْخِلَافَةِ، فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ، وَزَادَهُ فِي عَمَلِهِ شَيْئًا كَثِيرًا. وَلَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ خَرَجَ مَعَهُ الرَّشِيدُ يُشَيِّعُهُ إِلَى كَلْوَاذَى.
تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَخَمْسِينَ سَنَةً.
وَقَدْ أَرْسَلَ الرَّشِيدُ مَنِ اصْطَفَى مِنْ مَالِهِ الصَّامِتِ، فَوَجَدَ لَهُ مِنَ الذَّهَبِ ثَلَاثَةَ آلَافِ أَلْفٍ دِينَارٍ، وَمِنَ الدَّرَاهِمِ سِتِّينَ أَلْفَ أَلْفٍ، خَارِجًا عَنِ الْأَمْلَاكِ وَالْجَوَاهِرِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ وَفَاتَهُ وَوَفَاةَ الْخَيْزُرَانِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ.
وَقَدْ وَقَفَتْ جَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِيهِ عَلَى قَبْرِهِ، فَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:
أَمْسَى التُّرَابُ لِمَنْ هَوِيتُ مَبِيتَا الْقَ التُّرابَ فَقُلْ لَهُ حُيِّيتَا إِنَّا نُحِبُّكَ يَا تُرَابُ وَمَا بِنَا
إِلَّا كَرَامَةُ مَنْ عَلَيْهِ حُثِيتَا
وَفِيهَا تُوُفِّيَتِ الْخَيْزُرَانُ جَارِيَةُ الْمَهْدِيِّ وَأُمُّ أَمِيرَيِ الْمُؤْمِنِينَ الْهَادِي وَالرَّشِيدِ، اشْتَرَاهَا الْمَهْدِيُّ وَحَظِيَتْ عِنْدَهُ جَدَّا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَوَلَدَتْ لَهُ خَلِيفَتَيْنِ; مُوسَى الْهَادِي وَالرَّشِيدَ، وَلَمْ يَتَّفِقْ هَذَا لِغَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا لِوَلَّادَةَ بِنْتِ الْعَبَّاسِ الْعَبْسِيَّةِ، زَوْجَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَهِيَ أُمُّ الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ. وَإِلَّا لِشَاهِفِرِنْدَ

بِنْتِ فَيْرُوزَ بْنِ يَزْدَجِرْدَ، وَلَدَتْ لِمَوْلَاهَا الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمَ، وَكِلَاهُمَا وَلِيَ الْخِلَافَةَ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْخَيْزُرَانِ، عَنْ مَوْلَاهَا الْمَهْدِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَقَاهُ اللَّهُ كُلَّ شَيْءٍ.
وَلَمَّا عُرِضَتْ عَلَى الْمَهْدِيِّ لِيَشْتَرِيَهَا أَعْجَبَتْهُ إِلَّا دِقَّةَ سَاقَيْهَا، فَقَالَ لَهَا: يَا جَارِيَةُ، إِنَّكِ لَعَلَى غَايَةِ الْمُنَى لَوْلَا خُمُوشَةٌ فِي سَاقَيْكَ. فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ أَحْوَجُ مَا تَكُونُ إِلَيْهِمَا لَا تَرَاهُمَا. فَاسْتَحْسَنَ جَوَابَهَا وَاشْتَرَاهَا، وَحَظِيَتْ عِنْدَهُ جِدًّا.
وَقَدْ حَجَّتِ الْخَيْزُرَانُ مَرَّةً فِي حَيَاةِ الْمَهْدِيِّ، فَكَتَبَ إِلَيْهَا وَهِيَ بِمَكَّةَ يَسْتَوْحِشُ لَهَا، وَيَتَشَوَّقُ إِلَيْهَا، يَقُولُ:
نَحْنُ فِي غَايَةِ السُّرُورِ وَلَكِنْ لَيْسَ إِلَّا بِكُمْ يَتِمُّ السُّرُورُ
عَيْبُ مَا نَحْنُ فِيهِ يَا أَهْلَ وُدِّي أَنَّكُمْ غُيَّبٌ وَنَحْنُ حُضُورُ
فَأَجِدُّوا فِي السَّيْرِ بَلْ إِنْ قَدَرْتُمْ أَنْ تَطِيرُوا مَعَ الرِّيَاحِ فَطِيرُوا
فَأَجَابَتْهُ أَوْ قَالَتْ لِمَنْ أَجَابَهُ:
قَدْ أَتَانَا الَّذِي وَصَفْتَ مِنَ الشَّوْ قِ فَكَدِنْا وَمَا فَعَلْنَا نَطِيرُ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهل التأويل يتعرون أمام قانوني الحق والميزان

    بسم الله الرحمن الرحيم خلاصة قانون الحق = أن الله خلق السماوات والارض وما فيهم وما بينهم وما لأجلهم بقدر قام في وقت محدد وزمن مع...