الاثنين، 2 أغسطس 2021

—28 //2 البداية والنهاية لابن كثير

 —28 //2 البداية والنهاية لابن كثير

بَادِيسُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ بُلُكِّينَ بْنِ زِيرِي بْنِ مُنَادٍ الْحِمْيَرِيُّ
أَبُو الْمُعِزِّ مُنَادِ بْنِ  بَادِيسَ، نَائِبُ الْحَاكِمِ عَلَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ وَابْنُ نَائِبِهَا، وَلَقَّبَهُ الْحَاكِمُ نَصِيرَ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ ذَا هَيْبَةٍ وَسَطْوَةٍ وَحُرْمَةٍ وَافِرَةٍ، كَانَ إِذَا هَزَّ رُمْحًا كَسَرَهُ. كَانَتْ وَفَاتُهُ بَغْتَةً لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ سَلْخَ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَيُقَالُ: إِنَّ بَعْضَ الصَّالِحِينَ دَعَا عَلَيْهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ الْمُعِزُّ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، احْتَرَقَ مَشْهَدُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بِكَرْبَلَاءَ وَأَرْوِقَتُهُ، وَكَانَ سَبَبَهُ أَنَّ الْقَوْمَةَ أَشْعَلُوا شَمْعَتَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ، فَمَالَتَا فِي اللَّيْلِ عَلَى التَّأْزِيرِ فَاحْتَرَقَ، وَنَفَذَتِ النَّارُ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ حَتَّى كَانَ مِنْهُ مَا كَانَ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أَيْضًا احْتَرَقَتْ دَارُ الْقُطْنِ بِبَغْدَادَ وَأَمَاكِنُ كَثِيرَةٌ بِبَابِ الْبَصْرَةِ وَاحْتَرَقَ جَامِعُ سَامَرَّا.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ وَرَدَ الْخَبَرُ بِتَشْعِيثِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَسُقُوطِ جِدَارٍ بَيْنَ يَدَيْ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ سَقَطَتِ الْقُبَّةُ الْكَبِيرَةُ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ الِاتِّفَاقَاتِ وَأَعْجَبِهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَتِ الشِّيعَةُ الَّذِينَ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَلَمْ يُتْرَكْ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ لَا يُعْرَفُ.
وَفِيهَا كَانَ امْتِدَادُ دَوْلَةِ الْعَلَوِيِّينَ بِالْأَنْدَلُسِ، وَلِيَهَا عَلِيُّ بْنُ حَمُّودِ بْنِ أَبِي الْعَيْشِ الْعَلَوِيُّ، فَدَخَلَ قُرْطُبَةَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَتَلَ سُلَيْمَانَ بْنَ الْحَكَمِ الْأُمَوِيَّ، وَقَتَلَ أَبَاهُ أَيْضًا، وَكَانَ شَيْخًا صَالِحًا، وَبَايَعَهُ النَّاسُ، وَتَلَقَّبَ بِالْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ قُتِلَ فِي الْحَمَّامِ فِي ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ

السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ الْقَاسِمُ بْنُ حَمُّودٍ وَتَلَقَّبَ بِالْمَأْمُونِ، فَأَقَامَ فِي الْمُلْكِ سِتَّ سِنِينَ، ثُمَّ كَانَ ابْنُ أَخِيهِ يَحْيَى، ثُمَّ إِدْرِيسُ أَخُو يَحْيَى، ثُمَّ مَلَكَ الْأُمَوِيُّونَ، ثُمَّ أَجَانِبُ، حَتَّى مَلَكَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ بْنِ تَاشِفِينَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ بِلَادَ خُوَارِزْمَ بَعْدَ مَلِكِهَا خُوَارِزْمَ شَاهْ مَأْمُونٍ.
وَفِيهَا اسْتَوْزَرَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ أَبُو شُجَاعٍ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ الْفَضْلِ الرَّامَهُرْمُزِيَّ، عِوَضًا عَنْ فَخْرِ الْمُلْكِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلَعِ الْوِزَارَةِ، وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ بِلَادِ الْعِرَاقِ لِفَسَادِ الْبِلَادِ وَالطُّرُقَاتِ، وَعَيْثِ الْأَعْرَابِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ دُوسْتَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَزَّازُ
أَحَدُ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَكَانَ يُذَاكِرُ بِحَضْرَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَيَتَكَلَّمُ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، فَيُقَالُ: إِنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ تَكَلَّمَ فِيهِ بِذَلِكَ السَّبَبِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي غَيْرِهِ بِمَا لَا يَقْدَحُ فِيهِ كَبِيرَ شَيْءٍ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: رَأَيْتُ كُتُبَهُ كُلَّهَا طَرِيَّةً، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّ أُصُولَهُ الْعُتُقَ غَرِقَتْ. وَقَدْ أَمْلَى الْحَدِيثَ مِنْ حَفِظِهِ، وَالْمُخَلِّصُ وَابْنُ شَاهِينَ حَيَّانِ مَوْجُودَانِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.

الْوَزِيرُ فَخْرُ الْمُلْكِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ، أَبُو غَالِبٍ، كَانَ مِنْ أَهْلِ وَاسِطٍ وَكَانَ أَبُوهُ صَيْرَفِيًّا، فَتَنَقَّلَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ إِلَى أَنْ وَزَرَ لِبَهَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَاقْتَنَى أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَبَنَى دَارًا عَظِيمَةً تُعْرَفُ بِالْفَخْرِيَّةِ، وَكَانَتْ أَوَّلًا لِلْخَلِيفَةِ الْمُتَّقِي لِلَّهِ فَأَنْفَقَ عَلَيْهَا أَمْوَالًا كَثِيرَةً وَنَفَقَاتٍ غَزِيرَةً، وَكَانَ كَرِيمًا جَوَّادًا بَذَّالًا، كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ، كَسَا فِي يَوْمٍ أَلْفَ فَقِيرٍ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ أَيْضًا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ فَرَّقَ الْحَلَاوَةَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَكَانَ فِيهِ مَيْلٌ إِلَى التَّشَيُّعِ، وَقَدْ قَتَلَهُ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِالْأَهْوَازِ، وَأَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِ شَيْئًا كَثِيرًا ; مِنْ ذَلِكَ أَزْيَدُ مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، خَارِجًا عَنِ الْأَمْلَاكِ وَالْأَثَاثِ وَالْمَتَاعِ، وَكَانَ عُمُرُهُ يَوْمَ قُتِلَ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ سَبَبَ هَلَاكِهِ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَهُ بَعْضُ غِلْمَانِهِ، فَاسْتَعْدَتِ امْرَأَةُ الرَّجُلِ عَلَيْهِ إِلَى الْوَزِيرِ، وَرَفَعَتْ إِلَيْهِ قِصَصًا، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ ذَاتَ يَوْمٍ: أَرَأَيْتَ الْقِصَصَ الَّتِي رَفَعْتُهَا إِلَيْكَ وَلَا تَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، قَدْ رَفَعْتُهَا إِلَى اللَّهِ، وَأَنَا أَنْتَظِرُ التَّوْقِيعَ عَلَيْهَا. فَلَمَّا مُسِكَ الْوَزِيرُ، قَالَ: قَدْ وَاللَّهِ خَرَجَ تَوْقِيعُ الْمَرْأَةِ. فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالرَّوَافِضِ بِبَغْدَادَ، فَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ.
وَفِيهَا مَلَكَ أَبُو الْمُظَفَّرِ أَرْسَلَانُ خَانَ بِلَادَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَغَيْرَهَا. وَتَلَقَّبَ بِشَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ أَخِيهِ طُغَانَ خَانَ، وَقَدْ كَانَ طُغَانُ خَانَ هَذَا دَيِّنًا فَاضِلًا، يُحِبُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَقَدْ غَزَا التُّرْكَ مَرَّةً، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مِائَتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَأَسَرَ مِنْهُمْ مِائَةَ أَلْفٍ، وَغَنِمَ مِنْ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَوَانِي الصِّينِ شَيْئًا لَمْ يُعْهَدُ لِأَحَدٍ مِثْلُهُ، فَلَمَّا مَاتَ ظَهَرَتْ مُلُوكُ التُّرْكِ فِي الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا وَلِيَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ بِلَادَ الْبَطَائِحِ بَعْدَ أَبِيهِ، فَقَاتَلَهُ ابْنُ عَمَّتِهِ، فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا، وَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ، ثُمَّ لَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ فِيهَا حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ آلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ صَاحِبِ بَغْدَادَ.

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ضَعُفَ أَمْرُ الدَّيْلَمِ بِبَغْدَادَ، وَطَمِعَ فِيهِمُ الْعَامَّةُ، فَنَزَلُوا إِلَى وَاسِطٍ فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُهَا مَعَ التُّرْكِ أَيْضًا.
وَفِيهَا وَلِيَ نُورُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْأَغَرِّ دُبَيْسُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ.
وَفِيهَا قَدِمَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ وَضُرِبَ الطَّبْلُ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ، وَلَمْ تَجْرِ بِذَلِكَ عَادَةٌ، وَعَقَدَ عَقْدَهُ عَلَى بِنْتِ قِرْوَاشٍ، عَلَى صَدَاقٍ مَبْلَغُهُ خَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ لِفَسَادِ الْبِلَادِ، وَعَيْثِ الْأَعْرَابِ، وَضَعْفِ الدَّوْلَةِ.
وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": أَخْبَرَنَا سَعْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الْبَزَّازُ، أَنْبَأَ أَبُو بَكْرٍ الطُّرَيْثِيثِيُّ، أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: وَفِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ اسْتَتَابَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فُقَهَاءَ الْمُعْتَزِلَةِ الْحَنَفِيَّةَ، فَأَظْهَرُوا الرُّجُوعَ، وَتَبَرَّءُوا مِنَ الِاعْتِزَالِ وَالرَّفْضِ وَالْمَقَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِسْلَامِ، وَأَخَذَ خُطُوطَهُمْ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ مَتَى خَالَفُوهُ حَلَّ بِهِمْ مِنَ النَّكَالِ وَالْعُقُوبَةِ مَا يَتَّعِظُ بِهِ أَمْثَالُهُمْ، وَامْتَثَلَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ وَأَمِينُ الْمِلَّةِ أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ أَمْرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ فِي أَعْمَالِهِ الَّتِي اسْتَخْلَفَهُ عَلَيْهَا مِنْ خُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا، فِي قَتْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَالْجَهْمِيةِ وَالْمُشَبِّهَةِ، وَصَلَبَهُمْ

وَحَبَسَهُمْ وَنَفَاهُمْ، وَأَمَرَ بِلَعْنِهِمْ عَلَى مَنَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِبْعَادِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَطَرْدِهِمْ عَنْ دِيَارِهِمْ، وَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً فِي الْإِسْلَامِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْحَاجِبُ الْكَبِيرُ شَبَاشَى أَبُو طَاهِرٍ
مَوْلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَلَقَّبَهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ بِالسَّعِيدِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْأَوْقَافِ عَلَى وُجُوهِ الْقُرُبَاتِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ وَقَفَ دَبَاهَا عَلَى الْمَارَسْتَانِ، وَكَانَتْ تُغِلُّ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْخَرَاجِ، وَبَنَى قَنْطَرَةَ الْخَنْدَقِ وَالْيَاسِرِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَمَّا دُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، أَوْصَى أَنْ لَا يُبْنَى عَلَيْهِ فَخَالَفُوهُ، فَعَقَدُوا عَلَى قَبْرِهِ قُبَّةً فَسَقَطَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِنَحْوٍ مَنْ سَبْعِينَ سَنَةً، وَاجْتَمَعَ نِسْوَةٌ عِنْدَ قَبْرِهِ يَنُحْنَ وَيَبْكِينَ، فَلَمَّا رَجَعْنَ رَأَتْ عَجُوزٌ مِنْهُنَّ - كَانَتْ هِيَ الْمُقَدَّمَةَ فِيهِنَّ - فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ تُرْكِيًّا خَرَجَ إِلَيْهَا مِنْ قَبْرِهِ وَمَعَهُ دَبُّوسٌ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا وَزَجَرَهَا، فَإِذَا هُوَ الْحَاجِبُ السَّعِيدُ، فَانْتَبَهَتْ مَذْعُورَةً.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ قُرِئَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ فِي الْمَوْكِبِ كِتَابٌ فِي مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، فَهُوَ كَافِرٌ حَلَالُ الدَّمِ.
وَفِي النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فَاضَ مَاءُ الْبَحْرِ الْمَالِحِ وَوَافَى الْأُبُلَّةَ، وَدَخَلَ الْبَصْرَةَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ.
وَفِيهَا غَزَا مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ الْهِنْدِ، وَتَوَاقَعَ هُوَ وَمَلِكُ مُلُوكِ الْهِنْدِ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا عَظِيمًا، ثُمَّ انْجَلَتْ عَنْ هَزِيمَةِ الْهِنْدِ، فَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا عَظِيمَةً مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِائَتَيْ فِيلٍ، وَاقْتَصُّوا آثَارَ الْمُنْهَزِمِينَ مِنْهُمْ، وَهَدَمُوا مَعَاقِلَ كَثِيرَةً جِدًّا، ثُمَّ عَادَ إِلَى غَزْنَةَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا اسْتَوْزَرَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ ذَا السَّعَادَتَيْنِ أَبَا غَالِبٍ الْحَسَنَ بْنَ مَنْصُورٍ، وَلَمْ يَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ ; لِفَسَادِ الْبِلَادِ وَعَيْثِ الْأَعْرَابِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

رَجَاءُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَنْصِنَاوِيُّ
نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى مِصْرَ، يُقَالُ لَهَا: أَنْصِنَا. قَدِمَ بَغْدَادَ فَحَدَّثَ بِهَا، وَسَمِعَ مِنْهُ الْحُفَّاظُ، وَكَانَ ثِقَةً، فَقِيهًا مَالِكِيًّا، عَدْلًا مَقْبُولًا عِنْدَ الْحُكَّامِ، مَرْضِيًّا، فَرْضِيًّا. ثُمَّ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَلَّانَ، أَبُو أَحْمَدَ قَاضِي الْأَهْوَازِ، كَانَ ذَا يُسْرَةٍ كَثِيرَةٍ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ، مِنْهَا كِتَابٌ فِي مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَمَعَ فِيهِ أَلْفَ مُعْجِزَةٍ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ، تُوَفِّي فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ، أَبُو الْحَسَنِ، مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ
صَاحِبُ بِلَادِ الْبَطِيحَةِ، كَانَتْ لَهُ مَكَارِمُ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ النَّاسُ يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ فِي الشَّدَائِدِ، فَيُؤْوِيهِمْ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، وَمِنْ أَكْبَرِ مَنَاقِبِهِ فِي ذَلِكَ إِحْسَانُهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرِ بِاللَّهِ حِينَ اسْتَجَارَ بِهِ، وَنَزَلَ عِنْدَهُ بِالْبَطَائِحِ فَارًّا مِنَ الطَّائِعِ لِلَّهِ فَآوَاهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَكَانَ فِي خِدْمَتِهِ حَتَّى وَلِيَ إِمْرَةَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانَتْ لَهُ بِهَا عِنْدَهُ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ وَقَدْ وَلِيَ الْبَطَائِحَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَشُهُورًا، وَتُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ عَنْ ثِنْتَيْنِ

وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ أَنَّهُ افْتَصَدَ فَانْتَفَخَ زِرَاعُهُ حَتَّى مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدِ بْنِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ
الْمِصْرِيُّ الْحَافِظُ، كَانَ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ وَفُنُونِهِ، وَلَهُ فِيهِ الْمُصَنَّفَاتُ الْكَثِيرَةُ الشَّهِيرَةُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيُّ الْحَافِظُ: مَا رَأَتْ عَيْنَايَ مِثْلَهُ فِي مَعْنَاهُ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: مَا رَأَيْتُ بِمِصْرَ مِثْلَ شَابٍّ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ الْغَنِيِّ، كَأَنَّهُ شُعْلَةُ نَارٍ. وَجَعَلَ يُفَخِّمُ أَمْرَهُ وَيَرْفَعُ ذِكْرَهُ.
وَقَدْ صَنَّفَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ هَذَا كِتَابًا فِيهِ أَوْهَامُ الْحَاكِمِ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ جَعَلَ يَقْرَؤُهُ عَلَى النَّاسِ، وَيَعْتَرِفُ لِعَبْدِ الْغَنِيِّ بِالْفَضْلِ، وَيَشْكُرُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَرْجِعُ إِلَى مَا أَصَابَ فِيهِ مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وُلِدَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرِ بِاللَّهِ وَيُكَنَّى بِأَبِي الْفَضْلِ
كَانَ أَبُوهُ قَدْ

جَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَضُرِبَتِ السِّكَّةُ بِاسْمِهِ، وَخَطَبَ لَهُ الْخُطَبَاءُ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَلُقِّبَ بِالْغَالِبِ بِاللَّهِ، فَلَمْ يَقْدِرْ ذَلِكَ. وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ، أَبُو الْفَتْحِ الْبَزَّازُ الطَّرَسُوسِيُّ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْبَصْرِيِّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ عَنِ الْمَشَايِخِ، وَسَمِعَ مِنْهُ الصُّورِيُّ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ حِينَ أَقَامَ بِهِ، وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَحِمَنَا أَجْمَعِينَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، يَذْكُرُ فِيهِ مَا افْتَتَحَهُ مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ فِي السَّنَةِ الْخَالِيَةِ، وَفِيهِ أَنَّهُ دَخَلَ مَدِينَةً، وَجَدَ بِهَا أَلْفَ قَصْرٍ مُشَيَّدٍ، وَأَلْفَ بَيْتٍ لِلْأَصْنَامِ، وَمَبْلَغُ مَا فِي الصَّنَمِ مِنَ الذَّهَبِ يُقَارِبُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمَبْلَغُ الْأَصْنَامِ الْفِضَّةِ زِيَادَةٌ عَلَى أَلْفِ صَنَمٍ، وَعِنْدَهُمْ صَنَمٌ مُعْظَّمٌ يُؤَرِّخُونَ مُدَّتُهُ بِجَهَالَتِهِمْ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ عَامٍ، وَقَدْ عَمَّ الْمُجَاهِدُونَ هَذِهِ الْمَدِينَةَ بِالْإِحْرَاقِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا الرُّسُومُ، وَبَلَغَ عَدَدُ الْهَالِكِينَ مِنَ الْهِنْدِ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَأَسْلَمَ مِنْهُمْ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَأُفْرِدَ خُمْسُ الرَّقِيقِ فَبَلَغَ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ أَلْفًا، وَاسْتُعْرِضَ مِنَ الْأَفْيَالِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَخَمْسُونَ فِيلًا، وَحُصِّلَ مِنَ الْأَمْوَالِ عِشْرُونَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ جَلَسَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ وَقُرِئَ عَهْدُ الْمَلِكِ أَبِي الْفَوَارِسِ، وَلُقِّبَ قِوَامَ الدَّوْلَةِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ بِخِلَعٍ حُمِلَتْ إِلَيْهِ بِوِلَايَةِ كَرْمَانَ وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْعِرَاقِ ; لِفَسَادِ الْأَعْرَابِ فِي الطُّرُقَاتِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْأُصَيْفِرُ الْمُنْتَفِقِيُّ الَّذِي كَانَ يَخْفِرُ الْحَاجَّ.

أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ مَرْدَوَيْهِ بْنِ فُورَكَ، أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ الْأَصْبَهَانِيُّ
تُوَفِّي فِي رَمَضَانَ هَذِهِ السَّنَةِ.
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ سَلَامَةَ، أَبُو الْقَاسِمِ
الضَّرِيرُ الْمُقْرِئُ الْمُفَسِّرُ، كَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ وَأَحْفَظِهِمْ لِلتَّفْسِيرِ، وَكَانَتْ لَهُ حَلْقَةٌ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ.
رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ قَالَ: كَانَ لَنَا شَيْخٌ نَقْرَأُ عَلَيْهِ، فَمَاتَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَرَآهُ فِي النَّوْمِ، فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي. قَالَ: فَمَا كَانَ حَالُكَ مَعَ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ ؟ قَالَ: لَمَّا أَجْلَسَانِي وَسَأَلَانِي أَلْهَمَنِي اللَّهُ تَعَالَى أَنْ قُلْتُ: بِحَقِّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ دَعَانِي. فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: قَدْ أَقْسَمَ عَلَيْنَا بِعَظِيمٍ، فَدَعْهُ. فَتَرَكَانِي وَذَهَبَا.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا عُدِمَ الْحَاكِمُ الْعُبَيْدِيُّ صَاحِبُ مِصْرَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الثُّلَاثَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ شَوَّالٍ فُقِدَ الْحَاكِمُ بْنُ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيُّ صَاحِبُ مِصْرَ، فَاسْتَبْشَرَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا، وَشَيْطَانًا مَرِيدًا، وَلْنَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ الْقَبِيحَةِ، وَسِيرَتِهِ الْمَلْعُونَةِ:
كَانَ قَبَّحَهُ اللَّهُ كَثِيرَ التَّلَوُّنِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، جَائِرًا فِي كَيْفِيَّةِ بُلُوغِهِ مَا يَأْمَلُهُ مِنْ ضَمِيرِهِ الْمَلْعُونِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَرُومُ أَنْ يَدَّعِيَ الْأُلُوهِيَّةَ كَمَا ادَّعَاهَا فِرْعَوْنُ فِي زَمَانِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَكَانَ قَدْ أَمَرَ الرَّعِيَّةَ إِذَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَنَّ يَقُومَ النَّاسُ عَلَى أَقْدَامِهِمْ صُفُوفًا ; إِعْظَامًا لِذِكْرِهِ وَاحْتِرَامًا لِاسْمِهِ، فَكَانَ يُفْعَلُ هَذَا فِي سَائِرِ مَمَالِكِهِ حَتَّى فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَكَانَ أَهْلُ مِصْرَ عَلَى الْخُصُوصِ إِذَا قَامُوا خَرُّوا سُجُودًا، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْجُدُ بِسُجُودِهِمْ مَنْ فِي الْأَسْوَاقِ مِنَ الرَّعَاعِ وَغَيْرِهِمْ.

وَأَمَرَ فِي وَقْتٍ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ بِالدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ كُرْهًا، ثُمَّ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْعَوْدِ إِلَى أَدْيَانِهِمْ، وَخَرَّبَ الْكَنَائِسَ، ثُمَّ عَمَّرَهَا، وَخَرَّبَ قُمَامَةَ، ثُمَّ أَعَادَهَا، وَابْتَنَى الْمَدَارِسَ وَجَعَلَ فِيهَا الْفُقَهَاءَ وَالْمَشَايِخَ، ثُمَّ قَتَلَهُمْ وَخَرَّبَهَا.
وَأَلْزَمَ النَّاسَ بِإِغْلَاقِ الْأَسْوَاقِ نَهَارًا، وَفَتْحِهَا لَيْلًا، فَامْتَثَلُوا ذَلِكَ دَهْرًا طَوِيلًا، حَتَّى اجْتَازَ مَرَّةً بِشَيْخٍ يَعْمَلُ النِّجَارَةَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَلَمْ نَنْهَكُمْ عَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي، أَمَا كَانَ النَّاسُ يَسْهَرُونَ لَمَّا كَانُوا يَتَعَيَّشُونَ بِالنَّهَارِ، فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ السَّهَرِ، فَتَبَسَّمَ وَتَرَكَهُ. وَأَعَادَ النَّاسَ إِلَى أَمْرِهِمُ الْأَوَّلِ، وَكُلُّ هَذَا تَغْيِيرٌ لِلرُّسُومِ، وَاخْتِبَارٌ لِطَاعَةِ الْعَامَّةِ، لِيَرْقَى فِي ذَلِكَ إِلَى مَا هُوَ أَطَمُّ مِنْ ذَلِكَ، لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ الْحِسْبَةَ بِنَفْسِهِ، يَدُورُ فِي الْأَسْوَاقِ عَلَى حِمَارٍ لَهُ، وَكَانَ لَا يَرْكَبُ إِلَّا حِمَارًا، فَمَنْ وَجَدَهُ قَدْ غَشَّ فِي مَعِيشَتِهِ أَمَرَ عَبْدًا أَسْوَدَ مَعَهُ، يُقَالُ لَهُ: مَسْعُودٌ، أَنْ يَفْعَلَ بِهِ الْفَاحِشَةَ الْعُظْمَى جِهَارًا، وَهَذَا أَمْرٌ مُنْكَرٌ مَلْعُونٌ، لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ.
وَكَانَ قَدْ مَنَعَ النِّسَاءَ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ مَنَازِلِهِنَّ، وَقَطَعَ الْأَعْنَابَ حَتَّى لَا يَتَّخِذَ النَّاسُ خَمْرًا، وَمَنَعَهُمْ مِنْ طَبْخِ الْمُلُوخِيَّةٍ، وَأَشْيَاءَ مِنَ الرَّعُونَاتِ الَّتِي لَا تَنْضَبِطُ وَلَا تَنْحَصِرُ.
وَكَانَتِ الْعَامَّةُ مُوتُورِينَ مِنْهُ يُبْغِضُونَهُ كَثِيرًا، وَيَكْتُبُونَ لَهُ الْأَوْرَاقَ الَّتِي فِيهَا الشَّتِيمَةُ الْبَلِيغَةُ لَهُ وَلِأَسْلَافِهِ وَحَرِيمِهِ فِي صُورَةِ قِصَصٍ، فَإِذَا قَرَأَهَا ازْدَادَ حَنَقًا عَلَيْهِمْ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ مِصْرَ عَمِلُوا صُورَةَ امْرَأَةٍ مِنْ وَرَقٍ بِخُفَّيْهَا وَإِزَارِهَا، وَفِي يَدِهَا قِصَّةٌ فِيهَا مِنَ الشَّتْمِ وَاللَّعْنِ وَالْمُخَالَفَةِ لَهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا رَآهَا ظَنَّهَا امْرَأَةً، فَذَهَبَ مِنْ نَاحِيَتِهَا، وَأَخَذَ الْقِصَّةَ مِنْ يَدِهَا، فَقَرَأَهَا فَرَأَى مَا فِيهَا، فَأَغْضَبَهُ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، فَلَمَّا تَحَقَّقَهَا مِنْ وَرَقٍ

ازْدَادَ أَيْضًا غَضَبًا عَلَى غَضَبِهِ، ثُمَّ لَمَّا وَصَلَ إِلَى الْقَاهِرَةِ أَمَرَ الْعَبِيدَ مِنَ السُّودَانِ أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى مِصْرَ فَيُحَرِّقُوهَا وَيَنْهَبُوا مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَرِيمِ، فَذَهَبَتِ الْعَبِيدُ فَامْتَثَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ مِصْرَ قِتَالًا عَظِيمًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالنَّارُ تَعْمَلُ فِي الدُورِ وَالْحَرِيمِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، يَخْرُجُ هُوَ بِنَفْسِهِ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - فَيَقِفُ مِنْ بَعِيدٍ وَيَبْكِي، وَيَقُولُ: مَنْ أَمَرَ هَؤُلَاءِ الْعُبَيْدَ بِهَذَا ؟ ثُمَّ اجْتَمَعَ النَّاسُ فِي الْجَوَامِعِ، وَرَفَعُوا الْمَصَاحِفَ، وَجَأَرُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاسْتَغَاثُوا بِهِ، فَرَقَّ لَهُمُ التُّرْكُ وَالْمَشَارِقَةُ، وَانْحَازُوا إِلَيْهِمْ، فَقَاتَلُوا مَعَهُمْ عَنْ حَرِيمِهِمْ وَدُورِهِمْ، وَتَفَاقَمَ الْحَالُ جِدًّا، ثُمَّ رَكِبَ الْحَاكِمُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - يَفْصِلُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَكَفَّ الْعَبِيدَ عَنْهُمْ، وَقَدْ كَانَ يُظْهِرُ التَّنَصُّلَ مِنَ الْقِصَّةِ، وَأَنَّ الْعَبِيدَ ارْتَكَبُوا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ وَإِذْنِهِ، وَكَانَ يُنْفِذُ لَهُمُ السِّلَاحَ وَيَحُثُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ، لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَمَا انْجَلَى الْحَالُ حَتَّى أُحْرِقَ مِنْ مِصْرَ نَحْوٌ مَنْ ثُلُثِهَا، وَنُهِبَ قَرِيبٌ مِنْ نِصْفِهَا، وَسُبِيَتْ حَرِيمُ خَلْقٍ كَثِيرٍ، فَفُعِلَ بِهِنَّ الْفَوَاحِشُ وَالْمُنْكَرَاتُ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُنَّ مَنْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا خَوْفًا مِنَ الْعَارِ وَالْفَضِيحَةِ، وَاشْتَرَى الرِّجَالُ مِنْهُمْ مَنْ سُبِيَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَالْحَرِيمِ مِنْ أَيْدِي الْعَبِيدِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ثُمَّ زَادَ ظُلْمُ الْحَاكِمِ، وَعَنَّ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ الرُّبُوبِيَّةَ، فَصَارَ قَوْمٌ مِنَ الْجُهَّالِ إِذَا رَأَوْهُ يَقُولُونَ: يَا وَاحِدُ يَا أَحَدُ، يَا مُحْيِي يَا مُمِيتُ.

صِفَةُ مَقْتَلِهِ، لَعَنَهُ اللَّهُ
كَانَ قَدْ تَعَدَّى شَرُّهُ إِلَى النَّاسِ حَتَّى إِلَى أُخْتِهِ، يَتَّهِمُهَا بِالْفَاحِشَةِ، وَيُسْمِعُهَا

أَغْلَظَ الْكَلَامِ، فَتَبَرَّمَتْ مِنْهُ، وَعَمِلَتْ عَلَى قَتْلِهِ، فَرَاسَلَتْ فِيهِ أَكْبَرَ الْأُمَرَاءِ، يُقَالُ لَهُ: ابْنُ دَوَّاسٍ، فَتَوَافَقَتْ هِيَ وَهُوَ عَلَى قَتْلِهِ، وَتَوَاطَآ عَلَى ذَلِكَ، فَجَهَّزَ مِنْ عِنْدِهِ عَبْدَيْنِ أَسْوَدَيْنِ مِنْ عَبِيدِهِ شَهْمَيْنِ، فَقَالَتْ لَهُمَا: إِذَا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ فَكُونَا بِجَبَلِ الْمُقَطَّمِ، فَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ يَكُونُ الْحَاكِمُ هُنَاكَ فِي اللَّيْلِ لِيَنْظُرَ فِي النُّجُومِ، وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ إِلَّا رِكَابِيٌّ وَصَبِيٌّ، فَاقْتُلَاهُ وَاقْتُلَاهُمَا مَعَهُ. وَاتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ وَتَقَرَّرَ، فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ قَالَ الْحَاكِمُ لِأُمِّهِ: عَلَيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ قَطْعٌ عَظِيمٌ، فَإِنْ نَجَوْتُ مِنْهُ عَمَّرْتُ نَحْوًا مِنْ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَمَعَ هَذَا فَانْقُلِي حَوَاصِلِي إِلَيْكِ، فَإِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكِ مِنْ أُخْتِي، فَنَقَلَ حَوَاصِلَهُ إِلَى أُمِّهِ، وَكَانَ لَهُ فِي صَنَادِيقَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَجَوَاهِرُ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: يَا مَوْلَانَا، إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ فَارْحَمْنِي وَلَا تَرْكَبْ فِي لَيْلَتِكَ هَذِهِ إِلَى مَوْضِعٍ وَكَانَ يُحِبُّهَا، فَقَالَ: أَفْعَلُ. وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَدُورَ حَوْلَ الْقَصْرِ كُلَّ لَيْلَةٍ، فَدَارَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْقَصْرِ، فَنَامَ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ، فَاسْتَيْقَظَ، وَقَالَ: إِنْ لَمْ أَرْكَبِ اللَّيْلَةَ فَاضَتْ نَفْسِي. فَرَكِبَ فَرَسًا وَصَحِبَهُ صَبِيٌّ، وَصَعِدَ الْجَبَلَ الْمُقَطَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ ذَانِكَ الْعَبْدَانِ، فَأَنْزَلَاهُ عَنْ مَرْكُوبِهِ، وَقَطَعَا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَبَقَرَا جَوْفَهُ، وَحَمَلَاهُ فَأَتَيَا بِهِ مَوْلَاهُمَا ابْنَ دَوَّاسٍ، فَحَمَلَهُ إِلَى أُخْتِهِ، فَدَفَنَتْهُ فِي مَجْلِسِ دَارِهَا، وَاسْتَدْعَتِ الْأُمَرَاءَ وَالْأَكَابِرَ وَالْوَزِيرَ، وَقَدْ أَطْلَعَتْهُ عَلَى الْحِيلَةِ، فَبَايَعَهُمْ لِوَلَدِ الْحَاكِمِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيٍّ، وَلُقِّبَ بِالظَّاهِرِ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ. وَكَانَ بِدِمَشْقَ، فَاسْتَدْعَتْ بِهِ وَجَعَلَتْ تَقُولُ لِلنَّاسِ: إِنَّ الْحَاكِمَ قَالَ لِي: إِنَّهُ يَغِيبُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يَعُودُ. فَاطْمَأَنَّ النَّاسُ، وَجَعَلَتْ تُرْسِلُ رِكَابِيِّينَ يَصْعَدُونَ الْجَبَلَ وَيَجِيئُونَ وَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُ بِالْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ. وَيَقُولُ الَّذِينَ بَعْدَهُمْ: تَرَكْنَاهُ فِي

مَوْضِعِ كَذَا. حَتَّى اطْمَأَنَّ النَّاسُ، وَقَدِمَ ابْنُ أَخِيهَا وَقَدِ اسْتَصْحَبَ مَعَهُ مِنْ تِنِّيسَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ وَأَلْفَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَحِينَ وَصَلَ أَلْبَسَتْهُ تَاجَ الْمُعِزِّ جَدِّ أَبِيهِ، وَحُلَّةً عَظِيمَةً، وَأَجْلَسَتْهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَبَايَعَهُ الْأُمَرَاءُ وَالرُّؤَسَاءُ، وَأَطْلَقَ لَهُمُ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ، وَخَلَعَتْ عَلَى ابْنِ دَوَّاسٍ خِلْعَةً سَنِيَّةً هَائِلَةً، وَعَمِلَتْ عَزَاءَ أَخِيهَا الْحَاكِمِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَرْسَلَتْ إِلَى ابْنِ دَوَّاسٍ طَائِفَةً مِنَ الْجُنْدِ لِيَكُونُوا بَيْنَ يَدَيْهِ بِسُيُوفِهِمْ وُقُوفًا فِي خِدْمَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَتْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَنْ يَقُولُوا لَهُ: أَنْتَ قَاتِلُ مَوْلَانَا، ثُمَّ يَهْبُرُونَهُ بِسُيُوفِهِمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَقَتَلَتْ كُلَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى سِرِّهَا فِي قَتْلِ أَخِيهَا، فَعَظُمَتْ هَيْبَتُهَا، وَقَوِيَتْ حُرْمَتُهَا، وَثَبَتَتْ دَوْلَتُهَا. وَقَدْ كَانَ عُمُرُ الْحَاكِمِ حِينَ قُتِلَ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، كَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ مِنْ ذَلِكَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا تَوَلَّى الْقَاضِي أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ السَّمَنَانِيُّ الْحِسْبَةَ وَالْمَوَارِيثَ بِبَغْدَادَ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ بِالسَّوَادِ.
وَفِيهَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِلْمَلِكِ الْكَبِيرِ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ: أَنْتَ أَكْبَرُ مُلُوكِ الْأَرْضِ، وَفِي كُلِّ سَنَةٍ تَفْتَحُ طَائِفَةً مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ، وَهَذِهِ طَرِيقُ الْحَجِّ قَدْ تَعَطَّلَتْ مِنْ مُدَّةِ سِنِينَ، وَفَتْحُكَ لَهَا أَوْجَبُ مِنْ غَيْرِهَا. فَتَقَدَّمَ إِلَى قَاضِي الْقُضَاةِ بِعَمَلِهِ أَبِي مُحَمَّدٍ النَّاصِحِيِّ أَنْ يَكُونَ أَمِيرَ الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَبَعَثَ مَعَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ لِلْأَعْرَابِ، غَيْرَ مَا جَهَّزَ مِنَ الصَّدَقَاتِ إِلَى الْحَرَمَيْنِ، فَسَارَ النَّاسُ صُحْبَتَهُ، فَلَمَّا كَانُوا بِفَيْدَ اعْتَرَضَهُمُ الْأَعْرَابُ، فَصَالَحَهُمُ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ النَّاصِحِيُّ بِخَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ فَامْتَنَعُوا، وَصَمَّمَ كَبِيرُهُمْ، وَهُوَ جَمَّازُ بْنُ عَدِيٍّ، عَلَى أَخْذِ الْحَجِيجِ، وَرَكِبَ فَرَسَهُ، وَجَالَ جَوْلَةً وَاسْتَنْهَضَ مَنْ مَعَهُ مِنْ شَيَاطِينِ الْعَرَبِ، فَتَقَدَّمُ إِلَيْهِ غُلَامٌ مِنْ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَوَصَلَ إِلَى قَلْبِهِ، فَسَقَطَ مَيِّتًا، وَانْهَزَمَتِ الْأَعْرَابُ، وَسَلَكَ الْحَجِيجُ الطَّرِيقَ، فَحَجُّوا وَرَجَعُوا سَالِمِينَ آمِنِينَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَفْصٍ، أَبُو سَعْدٍ الْمَالِينِيُّ الصُّوفِيُّ
وَمَالِينُ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى هَرَاةَ كَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ الرَّحَّالِينَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إِلَى الْآفَاقِ، وَكَتَبَ كَثِيرًا، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا صَالِحًا، مَاتَ بِمِصْرَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ رَامِينَ الْقَاضِي، أَبُو مُحَمَّدٍ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ
نَزَلَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الشَّافِعِيَّةِ، فَاضِلًا صَالِحًا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَسَنُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَبُو غَالِبٍ
الْوَزِيرُ الْمُلَقَّبُ ذَا السَّعَادَتَيْنِ، وُلِدَ بِسِيرَافَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَتَنَقَّلَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ حَتَّى وَزَرَ بِبَغْدَادَ، ثُمَّ قُتِلَ وَصُودِرَ ابْنُهُ عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ.
الْحُسَيْنُ بْنُ عُمَرَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْغَزَّالُ، سَمِعَ النَّجَّادَ وَالْخُلْدِيَّ وَابْنَ السَّمَّاكِ وَغَيْرَهُمْ. قَالَ الْخَطِيبُ: كَتَبْتُ عَنْهُ، وَكَانَ شَيْخًا ثِقَةً صَالِحًا كَثِيرَ

الْبُكَاءِ عِنْدَ الذِّكْرِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، أَبُو بَكْرٍ الْعَنْبَرِيُّ الشَّاعِرُ
كَانَ أَدِيبًا ظَرِيفًا، حَسَنَ الشِّعْرِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِنِّي نَظَرْتُ إِلَى الْزَمَا نِ وَأَهْلِهِ نَظَرًا كَفَانِي فَعَرَفْتُهُ وَعَرَفْتُهُمْ
وَعَرَفْتُ عِزِّيَ مِنْ هَوَانِي فَلِذَاكَ أَطْرَحُ الصَّدِي
قَ فَلَا أَرَاهُ وَلَا يَرَانِي وَزَهِدْتُ فِيمَا فِي يَدَيْ
هِ وَدُونَهُ نَيْلُ الْأَمَانِي فَتَعَجَّبُوا لِمُغَالِبٍ
وَهَبَ الْأَقَاصِيَ لِلْأَدَانِي وَانْسَلَّ مِنْ بَيْنِ الزِّحَا
مِ فَمَا لَهُ فِي الْكَوْنِ ثَانِي
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ مُتَصَوِّفًا، ثُمَّ خَرَجَ عَنْهُمْ، وَذَمَّهُمْ بِقَصَائِدَ ذَكَرْتُهَا فِي " تَلْبِيسِ إِبْلِيسَ ". تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَانِيَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رِزْقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْبَزَّازُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ رَزْقَوَيْهِ
قَالَ الْخَطِيبُ: هُوَ أَوَّلُ شَيْخٍ كَتَبْتُ عَنْهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ دَرَسَ الْقُرْآنَ، وَدَرَسَ الْفِقْهَ

عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا، كَثِيرَ السَّمَاعِ وَالْكِتَابَةِ، حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، جَمِيلَ الْمَذْهَبِ، مُدِيمًا لِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، شَدِيدًا عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ، وَمَكَثَ دَهْرًا عَلَى الْحَدِيثِ، وَكَانَ يَقُولُ: لَا أَحَبُّ الدُّنْيَا إِلَّا لِذِكْرِ اللَّهِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتِي عَلَيْكُمُ الْحَدِيثَ. وَقَدْ بَعَثَ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ إِلَى الْعُلَمَاءِ بِذَهَبٍ، فَقَبِلُوا كُلُّهُمْ غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ شَيْئًا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَقْبَرَةِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى النَّيْسَابُورِيُّ
رَوَى عَنِ الْأَصَمِّ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ مَشَايِخُ الْبَغَادِدَةِ، كَالْأَزْهَرِيِّ وَالْعُشَارِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَرَوَى عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: كَانَتْ لَهُ عِنَايَةٌ بِأَخْبَارِ الصُّوفِيَّةِ، فَصَنَّفَ لَهُمْ تَفْسِيرًا وَسُنَنًا وَتَارِيخًا، وَجَمَعَ شُيُوخًا وَتَرَاجِمَ وَأَبْوَابًا، لَهُ بِنَيْسَابُورَ دَارٌ مَعْرُوفَةٌ، وَفِيهَا صُوفِيَّةٌ، وَبِهَا قَبْرُهُ. ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ النَّاسِ فِي تَضْعِيفِهِ فِي الرِّوَايَةِ، فَحَكَى عَنِ الْخَطِيبِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْقَطَّانِ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكُنْ بِثِقَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ سَمِعَ مِنَ الْأَصَمِّ كَثِيرًا، فَلَمَّا مَاتَ الْحَاكِمُ رَوَى عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَكَانَ يَضَعُ لِلصُّوفِيَّةِ الْأَحَادِيثَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ثَالِثِ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.

أَبُو عَلِيٍّ، الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ النَّيْسَابُورِيُّ
كَانَ يَعِظُ النَّاسَ وَيَتَكَلَّمُ عَلَى الْأَحْوَالِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَمِنْ كَلَامِهِ: مَنْ تَوَاضَعَ لِأَحَدٍ لِأَجْلِ دُنْيَاهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ ; لِأَنَّهُ خَضَعَ لَهُ بِلِسَانِهِ وَأَرْكَانِهِ، فَلَوْ خَضَعَ لَهُ بِقَلْبِهِ ذَهَبَ دِينُهُ كُلُّهُ.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ اذْكُرُونِي وَأَنْتُمْ أَحْيَاءٌ أَذْكُرْكُمْ وَأَنْتُمْ تَحْتَ التُّرَابِ.
وَقَالَ: الْبَلَاءُ الْأَكْبَرُ أَنْ تُرِيدَ وَلَا تُرَادُ، وَتَدْنُوَ فَتُرَدَّ إِلَى الْإِبْعَادِ.
وَأَنْشَدَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ [ يُوسُفَ: 84 ].
جُنِنَّا بِلَيْلَى وَهِيَ جُنَّتْ بِغَيْرِنَا وَأُخْرَى بِنَا مَجْنُونَةٌ لَا نُرِيدُهَا
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ. إِذَا كَانَ الْمَخْلُوقُ لَا وُصُولَ إِلَيْهِ إِلَّا بِتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ لَمْ يَزُلْ ؟ !
صَرِيعُ الدِّلَاءِ الشَّاعِرُ، أَبُو الْحَسَنِ، عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ

الْفَقِيهُ الْبَغْدَادِيُّ، الشَّاعِرُ الْمَاجِنُ، الْمَعْرُوفُ بِصَرِيعِ الدِّلَاءِ، قَتِيلُ الْغَوَاشِي ذِي الرَّقَاعَتَيْنِ، لَهُ قَصِيدَةٌ مَقْصُورَةٌ فِي الْهَزْلِ، عَارَضَ بِهَا قَصِيدَةَ أَبِي بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ، يَقُولُ فِيهَا:

وَأَلْفُ حِمْلٍ مِنْ مَتَاعِ تُسْتَرٍ أَنْفَعُ لِلْمِسْكِينِ مَنْ لَقَطِ النَّوَى
مَنْ طَبَخَ الدِّيكَ وَلَا يَذْبَحُهُ طَارَ مِنَ الْقِدْرِ إِلَى حَيْثُ انْتَهَى
مَنْ دَخَلَتْ فِي عَيْنِهِ مِسَلَّةٌ فَسَلْهُ مِنْ سَاعَتِهِ كَيْفَ الْعَمَى
وَالذَّقَنُ شَعْرٌ فِي الْوُجُوهِ طَالِعٌ كَذَلِكَ الْعِقْصَةُ مِنْ خَلْفِ الْقَفَا
مَنْ أَكَلَ الْكِرْشَ وَلَا يَغْسِلُهُ سَالَ عَلَى لِحْيَتِهِ شِبْهُ الْخَرَا
إِلَى أَنْ خَتْمَهَا بِالْبَيْتِ الَّذِي حُسِدَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
مَنْ فَاتَهُ الْعِلْمُ وَأَخْطَاهُ الْغِنَى فَذَاكَ وَالْكَلْبُ عَلَى حَدٍّ سَوَا
قَدِمَ مِصْرَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَامْتَدَحَ فِيهَا خَلِيفَتَهَا الظَّاهِرَ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ بْنَ الْحَاكِمِ، وَاتَّفَقَتْ وَفَاتُهُ بِهَا فِي رَجَبِ هَذِهِ السَّنَةِ، سَامَحَهُ اللَّهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
وَفِيهَا جَرَتْ كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ، وَمُصِيبَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَاكِمِ اتَّفَقَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْحُجَّاجِ الْمِصْرِيِّينَ عَلَى أَمْرِ سَوْءٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَهُوَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ طَافَ هَذَا الرَّجُلُ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ جَاءَ لِيُقَبِّلَهُ، فَضَرَبَهُ بِدَبُّوسٍ كَانَ مَعَهُ ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ، وَقَالَ: إِلَى مَتَى يُعْبَدُ هَذَا الْحَجَرَ ؟ وَلَا مُحَمَّدٌ وَلَا عَلَيٌّ يَمْنَعُنِي مِمَّا أَفْعَلُهُ، فَإِنِّي أَهْدِمُ الْيَوْمَ هَذَا الْبَيْتَ، وَجَعَلَ يَرْتَعِدُ، فَاتَّقَاهُ أَكْثَرُ الْحَاضِرِينَ، وَتَأَخَّرُوا عَنْهُ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا طِوَالًا جَسِيمًا، أَحْمَرَ اللَّوْنِ، أَشْقَرَ الشَّعْرِ، وَعَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُرْسَانِ وُقُوفٌ لِيَمْنَعُوهُ مِمَّنْ أَرَادَهُ بِسُوءٍ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ مَعَهُ خِنْجَرٌ، فَوَجَأَهُ بِهَا، وَتَكَاثَرَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَقَتَلُوهُ وَقَطَّعُوهُ قِطَعًا وَحَرَّقُوهُ، وَتَتَبَّعُوا أَصْحَابَهُ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، وَنَهَبَتْ أَهْلُ مَكَّةَ رَكْبَ الْمِصْرِيِّينَ، وَتَعَدَّى النَّهْبُ إِلَى غَيْرِهِمْ أَيْضًا، وَجَرَتْ خَبْطَةٌ عَظِيمَةٌ وَفِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ جِدًّا، ثُمَّ سَكَنَ الْحَالُ بَعْدَ أَنْ تُتُبِّعَ أُولَئِكَ النَّفَرُ الَّذِينَ تَمَالَئُوا عَلَى الْإِلْحَادِ فِي أَشْرَفِ الْبِلَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ سَقَطَ مِنَ الْحَجَرِ ثَلَاثُ فِلَقٍ مِثْلُ الْأَظْفَارِ، وَبَدَا مَا تَحْتَهَا أَسْمَرَ يَضْرِبُ إِلَى صُفْرَةٍ، مُحَبَّبًا مِثْلَ الْخَشْخَاشِ، فَأَخَذَ

بَنُو شَيْبَةَ تِلْكَ الْفِلَقَ فَعَجَنُوهَا بِالْمِسْكِ وَاللَّكِّ، وَحَشَوْا بِهَا تِلْكَ الشُّقُوقَ الَّتِي بَدَتْ، فَاسْتَمْسَكَ الْحَجْرُ وَاسْتَمَرَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآنَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَ الْمَارَسْتَانُ الَّذِي بَنَاهُ الْوَزِيرُ مُؤَيِّدُ الْمُلْكِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ الرُّخَجِيُّ وَزِيرُ شَرَفِ الْمُلْكِ بِوَاسِطٍ، وَرَتَّبَ لَهُ الْخُزَّانَ وَالْأَشْرِبَةَ وَالْعَقَاقِيرَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَهُوَ حَسَبُنَا وَنَعِمَ الْوَكِيلُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

ابْنُ الْبَوَّابِ الْكَاتِبُ، عَلِيُّ بْنُ هِلَالٍ، أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْبَوَّابِ
صَاحِبُ الْخَطِّ الْمَنْسُوبِ، صَحِبَ أَبَا الْحُسَيْنِ بْنَ سَمْعُونَ الْوَاعِظَ، وَكَانَ يَقُصُّ بِجَامِعِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ أَثْنَى عَلَى ابْنِ الْبَوَّابِ غَيْرُ وَاحِدٍ فِي دِينِهِ، وَأَمَّا خَطُّهُ وَطَرِيقَتُهُ فَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهِ، وَخَطُّهُ أَوْضَحُ تَعْرِيبًا مَنْ خَطِّ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ أَكْتَبُ مِنْهُ، وَعَلَى طَرِيقَتِهِ النَّاسُ الْيَوْمَ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ إِلَّا الْقَلِيلَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: تُوُفِّيَ يَوْمَ السَّبْتِ ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ حَرْبٍ، وَقَدْ رَثَاهُ بَعْضُهُمْ بِأَبْيَاتٍ مِنْهَا:
فَلِلْقُلُوبِ الَّتِي أَبْهَجْتَهَا حَزَنٌ وَلِلْعُيُونِ الَّتِي أَقْرَرْتَهَا سَهَرُ

فَمَا لِعَيْشٍ وَقَدْ وَدَّعْتَهُ أَرَجٌ
وَمَا لِلَيْلٍ وَقَدْ فَارَقْتَهُ سَحَرُ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ السِّتْرِيِّ. لِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ مُلَازِمًا لِسِتْرِ الْبَابِ، وَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْبَوَّابِ وَكَانَ قَدْ أَخَذَ الْخَطَّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْبَزَّارِ، وَقَدْ سَمِعَ ابْنُ أَسَدٍ هَذَا عَلَى النَّجَّادِ وَغَيْرِهِ، وَتُوُفِّيَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَمَّا ابْنُ الْبَوَّابِ فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَقَدْ رَثَاهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ:
اسْتَشْعَرَ الْكُتَّابُ فَقْدَكَ سَالِفًا وَقَضَتْ بِصِحَّةِ ذَلِكَ الْأَيَّامُ
فَلِذَاكَ سُوِّدَتِ الدَّوِيُّ كَآَبَةً أَسَفًا عَلَيْكَ وَشُقَّتِ الْأَقْلَامُ
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَقِيلَ: إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنْ قُرَيْشٍ حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، أَخَذَهَا مِنْ بِلَادِ الْحِيرَةِ عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: أَسْلَمُ بْنُ سِدْرَةَ. وَسُئِلَ عَمَّنِ اقْتَبَسَهَا ؟ فَقَالَ: مِنْ وَاضِعِهَا ; رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: مُرَامِرُ بْنُ مُرَّةَ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْأَنْبَارِ. فَأَصْلُ الْكِتَابَةِ فِي الْعَرَبِ مِنَ الْأَنْبَارِ. وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: وَقَدْ كَانَ لِحِمْيَرَ كِتَابَةٌ يُسَمُّونَهَا الْمُسْنَدَ، وَهِيَ حُرُوفٌ مُتَّصِلَةٌ غَيْرُ مُنْفَصِلَةٍ، وَكَانُوا يَمْنَعُونَ الْعَامَّةَ مِنْ تَعَلُّمِهَا، وَجَمِيعُ كِتَابَاتِ النَّاسِ تَنْتَهِي إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ صِنْفًا ; وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ، وَالْحِمْيَرِيَّةُ، وَالْيُونَانِيَّةُ، وَالْفَارِسِيَّةُ، وَالسُّرْيَانِيَّةُ، وَالْعِبْرَانِيَّةُ، وَالرُّومِيَّةُ، وَالْقِبْطِيَّةُ، وَالْبَرْبَرِيَّةُ، وَالْهِنْدِيَّةُ، وَالْأَنْدَلُسِيَّةُ، وَالصِّينِيَّةُ. وَقَدِ انْدَرَسَ كَثِيرٌ مِنْهَا، فَقَلَّ مَنْ يَعْرِفُ كَثِيرًا مِنْهَا.

عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْفَارِسِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالسُّكَّرِيِّ، الشَّاعِرُ، وَكَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ، وَيَعْرِفُ الْقِرَاءَاتِ، وَصَحِبَ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيَّ، وَأَكْثَرُ شَعْرِهِ فِي مَدِيحِ الصَّحَابَةِ وَذَمِّ الرَّافِضَةِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنْ قَبْرِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ وَقَدْ أَوْصَى أَنْ يُكْتَبَ عَلَى قَبْرِهِ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ الَّتِي عَمِلَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ:
نَفْسُ يَا نَفْسُ كَمْ تَمَادَيْنَ فِي الْغَيِّ وَتَأْتِينَ فِي الْفِعَالِ الْمَعِيبِ
رَاقِبِي اللَّهَ وَاحْذَرِي مَوْقِفَ الْعَرْ ضِ وَخَافِي يَوْمَ الْحِسَابِ الْعَصِيبِ
لَا تَغُرَّنَّكِ السَّلَامَةُ فِي الْعَيْ شِ فَإِنَّ السَّلِيمَ رَهْنُ الْخُطُوبِ
كُلُّ حَيٍّ فَلِلْمَنُونِ وَلَا يَدْ فَعُ كَأْسَ الْمَنُونِ كَيْدُ الْأَرِيبِ
وَاعْلَمِي أَنْ لِلْمَنِيَّةِ وَقْتًا سَوْفَ يَأْتِي عَجْلَانَ غَيْرَ هَيُوبِ
إِنَّ حُبَّ الصَّدِيقِ فِي مَوْقِفِ الْحَشْ رِ أَمَانٌ لِلْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، أَبُو جَعْفَرٍ، الْبَيِّعُ
وَيُعْرَفُ بِالْعَتِيقِيِّ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَقَامَ بِطَرَسُوسَ مُدَّةً، وَسَمِعَ بِهَا وَبِغَيْرِهَا، وَحَدَّثَ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمُعَلِّمِ
شَيْخُ الْإِمَامِيَّةِ الرَّافِضَةِ، وَالْمُصَنِّفُ لَهُمْ، وَالْمُحَامِي عَنْ حَوْزَتِهِمْ، كَانَتْ لَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ مُلُوكِ الْأَطْرَافِ، لِمَيْلِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ إِلَى التَّشَيُّعِ، وَكَانَ مَجْلِسُهُ يَحْضُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ تَلَامِيذِهِ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى وَقَدْ رَثَاهُ بِقَصِيدَةٍ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، مِنْهَا قَوْلُهُ:
مَنْ لِفَضْلٍ أَخْرَجْتَ مِنْهُ حُسَامَا وَمَعَانٍ فَضَضْتَ عَنْهَا خِتَامَا
مَنْ يُثِيرُ الْعُقُولَ مِنْ بَعْدِ مَا كُنَّ هُمُودًا وَيَفْتَحُ الْأَفْهَامَا
مَنْ يُعِيرُ الصَّدِيقَ رَأْيًا إِذَا مَا سَلَّهُ فِي الْخُطُوبِ كَانَ حُسَامًا

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ الْمَلِكُ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ فَخَرَجَ الْخَلِيفَةُ فِي الطَّيَّارِ لِتَلَقِّيهِ، وَصَحِبَتْهُ الْأُمَرَاءُ وَالْقُضَاةُ وَالْفُقَهَاءُ وَالْوُزَرَاءُ وَالرُّؤَسَاءُ، فَلَمَّا وَاجَهَهُمُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ قَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ مَرَّاتٍ وَالْجَيْشُ وَاقِفٌ بِرُمَّتِهِ، وَالْعَامَّةُ فِي الْجَانِبَيْنِ وَالْخَلِيفَةُ يَبْعَثُ الرُّسُلَ إِلَيْهِ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِيهَا وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّهُ دَخَلَ بِلَادَ الْهِنْدِ أَيْضًا، وَأَنَّهُ فَتَحَ بِلَادًا، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ صَالَحَهُ بَعْضُ مُلُوكِهِمْ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِهَدَايَا سَنِيَّةٍ، فِيهَا فُيُولٌ عَدِيدَةٌ، وَمِنْهَا طَائِرٌ عَلَى هَيْئَةِ الْقُمْرِيِّ، إِذَا وُضِعَ عِنْدَ الْخِوَانِ وَفِيهِ سُمٌّ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ وَجَرَى مِنْهُمَا مَاءٌ، وَتَحَجَّرَ، وَيُحَكُّ وَيُؤْخَذُ مَا تَحَصَّلَ مِنْهُ، فَيُطْلَى بِهِ الْجِرَاحَاتُ ذَوَاتُ الْأَفْوَاهِ الْوَاسِعَةِ فَيَلْحُمُهَا، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَحَجَّ أَهْلُ الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَكِنْ رَجَعُوا عَلَى طَرِيقِ الشَّامِ لِاحْتِيَاجِهِمْ إِلَى ذَلِكَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلَانَ، أَبُو مُحَمَّدٍ الرَّامَهُرْمُزِيُّ
وَزِيرُ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى سُورَ الْحَائِرِ عِنْدَ مَشْهَدِ الْحُسَيْنِ، قُتِلَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكَشْفُلِيُّ الطَّبَرِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ، وَكَانَ فَهْمًا فَاضِلًا صَالِحًا زَاهِدًا، وَهُوَ الَّذِي دَرَّسَ بَعْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ فِي مَسْجِدِهِ، مَسْجِدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ فِي قَطِيعَةِ الرَّبِيعِ، وَكَانَ الطَّلَبَةُ عِنْدَهُ مُكَرَّمِينَ، اشْتَكَى بَعْضُهُمْ إِلَيْهِ حَاجَةً، وَأَنَّهُ قَدْ تَأَخَرَّتْ عَنْهُ نَفَقَتُهُ الَّتِي تَرِدُ إِلَيْهِ مِنْ أَبِيهِ، فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ، وَذَهَبَ إِلَى بَعْضِ التُّجَّارِ بِقَطِيعَةِ الرَّبِيعِ، فَاسْتَقْرَضَ لَهُ مِنْهُ خَمْسِينَ دِينَارًا، فَقَالَ التَّاجِرُ: حَتَّى تَأْكُلَ شَيْئًا. وَمَدَّ سِمَاطًا، فَأَكَلُوا، ثُمَّ قَالَ: يَا جَارِيَةُ هَاتِي الْمَالَ. فَأَحْضَرَتْ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ، فَوَزَنَ مِنْهُ خَمْسِينَ دِينَارًا، وَدَفَعَهَا إِلَى الشَّيْخِ، فَلَمَّا قَامَا إِذَا بِوَجْهِ ذَلِكَ الْفَقِيهِ قَدْ تَغَيَّرَ. فَقَالَ لَهُ الْكَشْفُلِيُّ: مَا لَكَ ؟ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي، قَدْ سَكَنَ قَلْبِي حُبُّ هَذِهِ الْجَارِيَةِ. فَرَجَعَ بِهِ إِلَى التَّاجِرِ، فَقَالَ: قَدْ وَقَعْنَا فِي فِتْنَةٍ أُخْرَى. قَالَ: وَمَا هِيَ ؟ فَقَالَ: إِنَّ الْفَقِيهَ قَدْ هَوَى الْجَارِيَةَ. فَأَمَرَ التَّاجِرُ أَنْ تَخْرُجَ،

فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، وَقَالَ: رُبَّمَا يَكُونُ قَدْ وَقَعَ فِي قَلْبِهَا مِنْهُ مِثْلُ الَّذِي قَدْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ مِنْهَا. فَلَمَّا كَانَ عَنْ قَرِيبٍ قَدِمَتْ عَلَى الْفَقِيهِ النَّفَقَةُ مِنْ أَبِيهِ سِتُّمِائَةِ دِينَارٍ، فَوَفَّى التَّاجِرَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ الْجَارِيَةِ وَالْقَرْضِ، وَذَلِكَ بِسِفَارَةِ الشَّيْخِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ حَرْبٍ.
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَهْضَمٍ، أَبُو الْحَسَنِ الصُّوفِيُّ الْمَكِّيُّ
صَاحِبُ " بَهْجَةِ الْأَسْرَارِ "، كَانَ شَيْخَ الصُّوفِيَّةِ بِمَكَّةَ، وَبِهَا تُوُفِّيَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ كَذَّابًا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ الَّذِي وَضَعَ حَدِيثَ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ.
الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، أَبُو عُمَرَ الْهَاشِمِيُّ الْبَصْرِيُّ
قَاضِي الْبَصْرَةِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا، وَهُوَ رَاوِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ اللُّؤْلُؤِيِّ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَبُو الْفَرَجِ الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ سُمَيْكَةَ، رَوَى عَنِ النَّجَّادِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ ثِقَةً، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ حَرْبٍ.

مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، أَبُو جَعْفَرٍ النَّسَفِيُّ، عَالِمُ الْحَنَفِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، وَلَهُ طَرِيقَةٌ فِي الْخِلَافِ، وَكَانَ فَقِيرًا مُتَزَهِّدًا، بَاتَ لَيْلَةً قَلِقًا لِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ، فَعَرَضَ لَهُ فِكْرٌ فِي فَرْعٍ مِنَ الْفُرُوعِ كَانَ أَشْكَلَ عَلَيْهِ، فَانْفَتَحَ لَهُ، فَقَامَ يَرْقُصُ وَيَقُولُ: أَيْنَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ ؟ فَسَأَلَتْهُ امْرَأَتُهُ عَنْ خَبَرِهِ، فَأَعْلَمَهَا بِمَا حَصَلَ لَهُ، فَتَعَجَّبَتْ مِنْ شَأْنِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
هِلَالُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ سَعْدَانَ، أَبُو الْفَتْحِ الْحَفَّارُ
سَمِعَ إِسْمَاعِيلَ الصَّفَّارَ وَالنَّجَّادَ وَابْنَ السَّمَّاكِ وَابْنَ الصَّوَّافِ، وَكَانَ ثِقَةً. تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنِ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا بِمَنِّهِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا أَلْزَمَ الْوَزِيرُ جَمَاعَةً مِنَ الْأَتْرَاكِ وَالْمُوَلَّدِينَ وَالشَّرِيفَ الْمُرْتَضَى وَنِظَامَ الْحَضْرَةِ أَبَا الْحَسَنِ الزَّيْنَبِيَّ وَقَاضِيَ الْقُضَاةِ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ أَبِي الشَّوَارِبِ وَالشُّهُودَ، بِالْحُضُورِ لِتَجْدِيدِ الْبَيْعَةِ لِمُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ تَوَهَّمَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْبَيْعَةُ لِنِيَّةٍ فَاسِدَةٍ مِنْ أَجْلِهِ، فَبَعَثَ إِلَى الْقَاضِي وَالرُّؤَسَاءِ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْحُضُورِ، فَاخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَمُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ اصْطَلَحَا وَتَصَافَيَا، وَجُدِّدَتِ الْبَيْعَةُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْآخَرِ.
وَلَمْ يَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ رَكْبِ خُرَاسَانَ أَحَدٌ، وَاتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ مِنْ جِهَةِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ شَهِدَ الْمَوْسِمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ صَاحِبُ مِصْرَ بِخِلَعٍ عَظِيمَةٍ لِيَحْمِلَهَا لِلْمَلِكِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، فَلَمَّا رَجَعَ بِهَا إِلَى أُسْتَاذِهِ الْمَلِكِ مَحْمُودٍ أَرْسَلَ بِهَا إِلَى بَغْدَادَ فَحُرِقَتْ بِالنَّارِ عَلَى بَابِ النُّوْبَى لِلْخَلِيفَةِ الْقَادِرِ بِاللَّهِ الْعَبَّاسِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجَزَاهُ خَيْرًا عَنْ قَصْدِهِ وَسِيرَتِهِ الْحَسَنَةِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ خَالِدِ بْنِ الرُّفَيْلِ، أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَدَّلُ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمُسْلِمَةِ، وُلِدَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ أَبَاهُ وَأَحْمَدَ بْنَ كَامِلٍ وَالنَّجَّادَ وَالْخُطَبِيَّ وَدَعْلَجَ بْنَ أَحْمَدَ وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَ ثِقَةً، يَسْكُنُ الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ مِنْ بَغْدَادَ وَيُمْلِي فِي أَوَّلِ كُلِّ سَنَةٍ مَجْلِسًا فِي الْمُحَرَّمِ، وَكَانَ عَاقِلًا فَاضِلًا، كَثِيرَ الْمَعْرُوفِ، دَارُهُ مَأْلَفٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَانَ قَدْ تَفَقَّهَ بِأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، وَكَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ، وَيَقْرَأُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعًا، وَيُعِيدُهُ بِعَيْنِهِ فِي تَهَجُّدِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبَانٍ الضَّبِّيُّ، أَبُو الْحَسَنِ الْمَحَامِلِيُّ
نِسْبَةً إِلَى بَيْعِ الْمَحَامِلِ، تَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَبَرَعَ فِي الْفِقْهِ، حَتَّى كَانَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ يَقُولُ: هُوَ أَحْفَظُ لِلْفِقْهِ مِنِّي. وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْمَشْهُورَةُ مِنْهَا " اللُّبَابُ " وَ " الْأَوْسَطِ " وَ " الْمُقْنِعُ "، وَلَهُ فِي الْخِلَافِ، وَعَلَّقَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ تَعْلِيقَةً كَبِيرَةً. قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ.
وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِتِسْعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ

الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ شَابٌّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ
تُوُفِّيَ بِشِيرَازَ، عَنْ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَخَمْسَةِ أَشْهُرٍ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَبُو الْقَاسِمِ الْخَفَّافُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ النَّقِيبِ
كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَحِينَ بَلَغَهُ مَوْتُ ابْنِ الْمُعَلِّمِ جَلَسَ لِلتَّهْنِئَةِ، وَقَالَ: مَا أُبَالِي أَيَّ وَقْتٍ مِتُّ بَعْدَ أَنْ شَاهَدْتُ مَوْتَ ابْنِ الْمُعَلِّمِ وَمَكَثَ دَهْرًا طَوِيلًا يُصَلِّي الْفَجْرَ بِوُضُوءِ الْعَشَاءِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ مَوْلِدِهِ، فَقَالَ: فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَذْكُرُ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْمُقْتَدِرَ وَالْقَاهِرَ وَالرَّاضِيَ وَالْمُتَّقِيَ وَالْمُسْتَكْفِيَ وَالْمُطِيعَ وَالطَّائِعَ وَالْقَادِرَ وَالْغَالِبَ بِاللَّهِ. خُطِبَ لَهُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَلْخِ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ مِائَةٍ وَعَشْرِ سِنِينَ.
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ تَعْوِيذٍ، أَبُو حَفْصٍ الدَّلَّالُ. قَالَ: سَمِعْتُ الشِّبْلِيَّ يُنْشِدُ قَوْلَهُ:

وَقَدْ كَانَ شَيْءٌ يُسَمَّى السُّرُورَ قَدِيمًا سَمِعْنَا بِهِ مَا فَعَلْ خَلِيلَيَّ إِنْ دَامَ هَمُّ النُّفُوسِ
قَلِيلًا عَلَى مَا نَرَاهُ قَتَلْ يُؤَمِّلُ دُنْيَا لِتَبْقَى لَهُ
فَمَاتَ الْمُؤَمِّلُ قَبْلَ الْأَمَلْ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَقْسَاسِيُّ الْعَلَوِيُّ
نَائِبُ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى فِي إِمْرَةِ الْحَجِّ، فَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي سِنِينَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَلَهُ فَصَاحَةٌ وَشِعْرٌ جَيِّدٌ، وَهُوَ مِنْ سُلَالَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا قَوِيَ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ بِبَغْدَادَ، وَنَهَبُوا الدُّورَ جَهْرَةً، وَاسْتَهَانُوا بِأَمْرِ السُّلْطَانِ، وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا تُوُفِّيَ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ صَاحِبُ بَغْدَادَ وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكَثُرَتِ الشُّرُورُ بِبَغْدَادَ، وَنُهِبَتِ الْخَزَائِنُ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى تَوْلِيَةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ أَبِي الطَّاهِرِ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَهُوَ عَلَى الْبَصْرَةِ وَخَلَعَ عَلَى شَرَفِ الْمُلْكِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ مَاكُولَا وَزِيرِهِ، وَلُقِّبَ عَلَمَ الدِّينِ، سَعْدَ الدَّوْلَةِ، أَمِينَ الْمِلَّةِ، شَرَفَ الْمُلْكِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ لُقِّبَ بِالْأَلْقَابِ الْكَثِيرَةِ، ثُمَّ طَلَبَ مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يُبَايِعَ لِأَبِي كَالِيجَارَ إِذْ كَانَ وَلِيَّ عَهْدِ أَبِيهِ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ، الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَلَيْهِمْ، فَتَوَقَّفَ الْجَوَابُ، ثُمَّ وَافَقَهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا مِنْ ذَلِكَ، وَأُقِيمَتِ الْخُطْبَةُ لِلْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَادِسَ عَشَرَ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ تَفَاقَمَ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ بِبَغْدَادَ، وَكَبَسُوا الدُّورَ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَضَرَبُوا أَهْلَهَا كَمَا يُضْرَبُ الْمُصَادَرُونَ، وَيَسْتَغِيثُ أَحَدُهُمْ فَلَا يُغَاثُ، وَاشْتَدَّ الْحَالُ، وَهَرَبَتِ الشُّرَطُ مِنْ بَغْدَادَ وَلَمْ تُغْنِ الْأَتْرَاكُ شَيْئًا، وَعَمِلَتِ الشَّرَايِجُ عَلَى أَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَلَمْ يَفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَأُحْرِقَتْ دَارُ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى فَانْتَقَلَ مِنْهَا، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ جَدًّا، وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ

وَخُرَاسَانَ، فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

سَابُورُ بْنُ أَرْدَشِيرَ
وَزَرَ لِبَهَاءِ الدَّوْلَةِ أَبِي نَصْرِ بْنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَوَزَرَ لِمُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ أَيْضًا، وَكَانَ كَاتِبًا سَدِيدًا عَفِيفًا عَنِ الْأَمْوَالِ، كَثِيرَ الْخَيْرِ، سَلِيمَ الْبَاطِنِ، وَكَانَ إِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ لَا يَشْغَلُهُ شَئٌ عَنِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ وَقَفَ دَارًا لِلْعِلْمِ فِي سِنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَجَعَلِ فِيهَا كُتُبًا كَثِيرَةً جِدًّا، وَوَقَّفَ عَلَيْهَا غَلَّةً كَثِيرَةً، فَبَقِيَتْ سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ أُحْرِقَتْ عِنْدَ مَجِيءِ الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ فِي سَنَةِ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَتْ مَحَلَّتُهَا بَيْنَ السُّورَيْنِ، وَقَدْ كَانَ جَيِّدَ الْمُعَاشَرَةِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ عُمَّالَهُ سَرِيعًا، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ.
عُثْمَانُ النَّيْسَابُورِيُّ الْخَرْكُوشِيُّ الْوَاعِظُ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: صَنَّفَ كِتَابًا فِي الْوَعْظِ مِنْ أَبْرَدِ الْأَشْيَاءِ، وَفِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ، وَكَلِمَاتٌ مَرْذُولَةٌ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ خَيِّرًا صَالِحًا، وَكَانَتْ لَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ، وَكَانَ الْمَلِكُ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ إِذَا رَآهُ قَامَ لَهُ، وَكَانَتْ مَحَلَّتُهُ حِمَى يَحْتَمِي بِهَا مِنَ

الظَّلَمَةِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي بَلْدَتِهِ نَيْسَابُورَ مَوْتٌ، وَكَانَ يُغَسِّلُ الْمَوْتَى مُحْتَسِبًا، فَغَسَّلَ نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ مَيِّتٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحَانِ، أَبُو مَنْصُورٍ
الْوَزِيرُ لِمُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ وَلِبَهَاءِ الدَّوْلَةِ أَيْضًا، كَانَ وَزِيرَ صِدْقٍ، جَيِّدَ الْمُبَاشَرَةِ، حَسَنَ الصَّلَاةِ، مُحَافِظًا عَلَى أَوْقَاتِهَا، وَكَانَ مُحْسِنًا إِلَى الشُّعَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
الْمَلِكُ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ، أَبُو عَلِيِّ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، أَبِي نَصْرِ بْنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيِّ
صَاحِبُ بَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ. أَصَابَهُ مَرَضٌ حَادٌّ فَتُوُفِّيَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ عَنْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا.
الْتِّهَامِيُّ، عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ التِّهَامِيُّ أَبُو الْحَسَنِ
لَهُ دِيوَانٌ مَشْهُورٌ، وَلَهُ مَرْثَاةٌ فِي وَلَدِهِ، وَكَانَ قَدْ مَاتَ صَغِيرًا أَوَّلُهَا:
حُكْمُ الْمَنِيَّةِ فِي الْبَرِيَّةِ جَارِي مَا هَذِهِ الدُّنْيَا بِدَارِ قَرَارِ

وَمِنْهَا:
إِنِّي لَأَرْحَمُ حَاسِدِيَّ لِحَرِّ مَا ضَمَّتْ صُدُورُهُمُ مِنَ الْأَوْغَارِ
نَظَرُوا صَنِيعَ اللَّهِ بِي فَعُيُونُهُمْ فِي جَنَّةٍ وَقُلُوبُهُمْ فِي نَارِ
وَمِنْهَا فِي ذَمِّ الدُّنْيَا، وَكُلُّ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ مَلِيحٌ مُخْتَارٌ:
طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا صَفْوًا مِنَ الْأَقْذَارِ وَالْأَكْدَارِ
وَمُكَلِّفُ الْأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا مُتَطَلِّبٌ فِي الْمَاءِ جَذْوَةَ نَارِ
وَإِذَا رَجَوْتَ الْمُسْتَحِيلَ فَإِنَّمَا تَبْنِي الرَّجَاءَ عَلَى شَفِيرٍ هَارِ
وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي وَلَدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ:
جَاوَرْتُ أَعْدَائِي وَجَاوَرَ رَبَّهُ شَتَّانَ بَيْنَ جِوَارِهِ وَجِوَارِي
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَآهُ فِي النَّوْمِ فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، فَقَالَ: بِمَ نِلْتَ ذَلِكَ ؟ قَالَ: بِهَذَا الْبَيْتِ. تُوُفِّيَ بِحَبْسِ خِزَانَةِ الْبُنُودِ مِنَالْقَاهِرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْأَسْفَهْسِلَارِيَّةِ وَبَيْنَ الْعَيَّارِينَ، وَرَكِبَتْ لَهُمُ الْأَتْرَاكُ بِالدَّبَادِبِ، كَمَا يُفْعَلُ فِي الْحَرْبِ، وَأُحْرِقَتْ أَبْوَابٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الدُّورِ الَّتِي احْتَمَى فِيهَا الْعَيَّارُونَ، وَأُحْرِقَ مِنَ الْكَرْخِ جَانِبٌ كَبِيرٌ، وَنُهِبَ أَهْلُهُ، وَتَعَدَّى النَّهْبُ إِلَى غَيْرِهِ أَيْضًا، وَكَانَتْ فِتْنَةً هَائِلَةً شَنِيعَةً، ثُمَّ خَمَدَتْ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَقُرِّرَ عَلَى أَهْلِ الْكَرْخِ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ مُصَادَرَةً ; لِإِثَارَتِهِمُ الْفِتَنَ وَالشُّرُورَ.
وَفِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ شَهِدَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ الصَّيْمَرِيُّ عِنْدَ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ بَعْدَمَا كَانَ اسْتَتَابَهُ عَمَّا ذُكِرَ عَنْهُ مِنَ الِاعْتِزَالِ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا انْقَضَّ كَوْكَبٌ سُمِعَ لَهُ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ الرَّعْدِ، وَوَقَعَ فِي سَلْخِ شَوَّالٍ بَرَدٌ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَجَمَدَ الْمَاءُ طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، حَتَّى حَافَّاتِ دِجْلَةَ وَالْأَنْهَارِ الْكِبَارِ، وَقَاسَى النَّاسُ شِدَّةً عَظِيمَةً، وَتَأَخَّرَ الْمَطَرُ وَزِيَادَةُ دِجْلَةَ، وَقَلَّتِ الزِّرَاعَةُ، وَامْتَنَعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَنْ

التَّصَرُّفِ. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنَ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لِفَسَادِ الْبِلَادِ وَالطُّرُقَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، أَبُو الْحَسَنِ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ قَاضِي قُضَاةِ بَغْدَادَ بَعْدَ ابْنِ الْأَكْفَانِيِّ بِثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ عَفِيفًا نَزِهًا، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ وَعَبْدِ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُحَدِّثْ. قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
وَحَكَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْعَلَاءِ الْوَاسِطِيِّ أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ هَذَا آخِرُ مَنْ وَلِيَ الْحُكْمَ بِبَغْدَادَ مِنْ سُلَالَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، وَقَدْ وَلِيَ الْحُكْمَ مِنْ سُلَالَتِهِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ وُلُّوا قَضَاءَ قُضَاةِ بَغْدَادَ. قَالَ أَبُو الْعَلَاءِ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ أَبِي الْحَسَنِ هَذَا ; جَلَالَةً وَنَزَاهَةً وَصِيَانَةً وَشَرَفًا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ كَانَ لَهُ صَدِيقًا وَصَاحِبًا، وَأَنَّ رَجُلًا مِنْ خِيَارِ النَّاسِ أَوْصَى لَهُ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ، فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ الْمَاوَرْدِيُّ، فَأَبَى الْقَاضِي أَنْ يَقْبَلَهَا، فَجَهَدَ عَلَيْهِ كُلَّ الْجَهْدِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ لَا تَذْكُرْ هَذَا لِأَحَدٍ مَا دُمْتُ

حَيًّا. فَفَعَلَ، فَلَمْ يُخْبِرْ عَنْهُ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ. وَكَانَ ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ فَقِيرًا إِلَيْهَا وَإِلَى مَا هُوَ دُونَهَا، فَلَمْ يَقْبَلْهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
جَعْفَرُ بْنُ بَايٍ، أَبُو مُسْلِمٍ الْجِيلِيُّ
سَمِعَ ابْنَ بَطَّةَ وَدَرَسَ فِقْهَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً دَيِّنًا فَاضِلًا، تُوَفِّيَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدَوَيْهِ، أَبُو حَازِمٍ الْهُذَلِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ
سَمِعَ ابْنَ نُجَيْدٍ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّ وَخَلْقًا، وَسَمِعَ مِنْهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ النَّاسُ يَسْمَعُونَ بِإِفَادَتِهِ وَانْتِخَابِهِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ مِنْهَا.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْمُقْرِئُ الْمَعْرُوفُ بِالْحَمَّامِيِّ
سَمِعَ النَّجَّادَ وَالْخُلْدِيَّ وَابْنَ السَّمَّاكِ وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَ صَدُوقًا فَاضِلًا، حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، وَتَفَرَّدَ بِأَسَانِيدِ الْقِرَاءَاتِ وَعُلُوِّهَا، تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ

هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
صَاعِدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عِيسَى الرَّبَعِيُّ الْبَغْدَادِيُّ اللُّغَوِيُّ
صَاحِبُ كِتَابِ " الْفُصُوصِ " فِي اللُّغَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَالِي فِي " الْأَمَالِي " صَنَّفَهُ لِلْمَنْصُورِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، فَأَجَازَهُ عَلَيْهِ خَمْسَةَ آلَافِ دِينَارٍ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ: إِنَّهُ كَذَّابٌ مُتَّهَمٌ فِيمَا يَنْقُلُهُ، فَأَمَرَ بِإِلْقَاءِ الْكِتَابِ فِي النَّهْرِ. فَقَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
قَدْ غَاصَ فِي الْمَاءِ كِتَابُ الْفُصُوصْ وَهَكَذَا كُلُّ ثَقِيلٍ يَغُوصْ
فَلَمَّا بَلَغَ صَاعِدًا هَذَا الْبَيْتُ أَنْشَدَ:
عَادَ إِلَى عُنْصُرِهِ إِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ الْبُحُورِ الْفُصُوصْ
قُلْتُ: كَأَنَّهُ سَمَّى هَذَا الْكِتَابَ بِهَذَا الِاسْمِ لِيُشَاكِلَ بِهِ " الصِّحَاحَ " لِلْجَوْهَرِيِّ، لَكِنَّهُ كَانَ مَعَ فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَعِلْمِهِ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ فِيمَا يَرْوِيهِ وَيَنْقُلُهُ، فَلِهَذَا رَفَضَ النَّاسُ كِتَابَهُ، وَلَمْ يَشْتَهِرْ بَيْنَهُمْ، وَقَدْ كَانَ ظَرِيفًا مَاجِنًا سَرِيعَ الْجَوَابِ، سَأَلَهُ رَجُلٌ أَعْمَى عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ، فَقَالَ لَهُ: مَا الْجَرَنْفُلُ ؟ فَأَطْرَقَ سَاعَةً، وَعَرِفَ أَنَّهُ افْتَعَلَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: هُوَ الَّذِي يَأْتِي نِسَاءَ الْعُمْيَانِ، وَلَا يَتَعَدَّاهُنَّ إِلَى غَيْرِهِنَّ. فَاسْتَحْيَى ذَلِكَ الْأَعْمَى، وَضَحِكَ الْحَاضِرُونَ. وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، سَامَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

الْقَفَّالُ الْمَرْوَزِيُّ هُوَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَفَّالُ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ الْكِبَارِ، عِلْمًا وَرُشْدًا وَحِفْظًا وَتَصْنِيفًا وَوَرَعًا، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الطَّرِيقَةُ الْخُرَاسَانِيَّةُ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ، وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَأَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ، قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَأَخَذَ عَنْهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ ; لِأَنَّ سِنَّ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ ; فَإِنَّ الْقَفَّالَ هَذَا تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِسِجِسْتَانَ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وُلِدَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ بَعْدَ وَفَاةِ الْقَفَّالِ بِسَنَتَيْنِ. وَمَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ كَمَا سَيَأْتِي. وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: الْقَفَّالُ ; لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا يَعْمَلُ الْأَقْفَالَ، وَلَمْ يَشْتَغِلْ إِلَّا وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الِاشْتِغَالِ بَعْدَ ذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَقَعَ بَرَدٌ أَهْلَكَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْغَنَمِ وَالْوُحُوشِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ فِي كُلِّ بَرَدَةٍ رِطْلَانِ وَأَكْثَرُ، وَفِي وَاسِطٍ بَلَغَتِ الْبَرَدَةُ أَرْطَالًا، وَفِي بَغْدَادَ بِقَدْرِ الْبَيْضِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَأَلَتِ الْأَسْفَهْسِلَارِيَّةُ وَالْغِلْمَانُ الْخَلِيفَةَ أَنْ يَعْزِلَ عَنْهُمْ أَبَا كَالِيجَارَ ; لِتَهَاوُنِهِ بِأَمْرِهِمْ، وَفَسَادِهِ وَفَسَادِ الْأُمُورِ فِي أَيَّامِهِ، وَيُوَلِّيَ جَلَالَ الدَّوْلَةِ الَّذِي كَانُوا قَدْ عَدَلُوا عَنْهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَمَاطَلَهُمُ الْخَلِيفَةُ فِي ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي كَالِيجَارَ أَنْ يَتَدَارَكَ أَمْرَهُ، وَأَنْ يُسْرِعَ الْأَوْبَةَ إِلَى بَغْدَادَ قَبْلَ أَنْ يَفُوتَ الْأَمْرُ، وَأَلَحَّ أُولَئِكَ عَلَى الْخَلِيفَةِ فِي تَوْلِيَةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَأَقَامُوا لَهُ الْخُطْبَةَ بِبَغْدَادَ، وَتَفَاقَمَ الْحَالُ، وَفَسَدَ النِّظَامُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ أَنَّهُ دَخَلَ بِلَادَ الْهِنْدِ أَيْضًا، وَأَنَّهُ كَسَرَ الصَّنَمَ الْأَعْظَمَ الَّذِي لَهُمُ الْمُسَمَّى بِسُومَنَاتَ، وَقَدْ كَانُوا يَفِدُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَيُنْفِقُونَ عِنْدَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، وَكَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْقَافِ عَشَرَةُ آلَافِ قَرْيَةٍ مَشْهُورَةٍ وَقَدِ امْتَلَأَتْ خَزَائِنُهُ أَمْوَالًا،

وَعِنْدَهُ أَلْفُ رَجُلٍ يَخْدِمُونَهُ، وَثَلَاثُمِائَةٍ يَحْلِقُونَ حَجِيجِهِ، وَثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ يُغَنُّونَ وَيَرْقُصُونَ عَلَى بَابِ الصَّنَمِ، وَقَدْ كَانَ الْعَبْدُ - يَعْنِي الْمَلِكَ مَحْمُودَ بْنَ سُبُكْتِكِينَ - يَتَمَنَّى قَلْعَ هَذَا الصَّنَمِ، وَكَانَ يَعُوقُهُ عَنْهُ طُولُ الْمَفَاوِزِ وَكَثْرَةُ الْمَوَانِعِ، ثُمَّ اسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى وَتَجَشَّمَ بِجَيْشِهِ تِلْكَ الْأَهْوَالَ إِلَيْهِ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا مِمَّنِ اخْتَارَهُمْ سِوَى الْمُطَّوِّعَةِ، فَسَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى بَلَدِ هَذَا الْوَثَنِ، فَمَلَكْنَاهُ وَقَتَلْنَا مِنْ أَهْلِهِ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَقَلَعْنَا هَذَا الْوَثَنَ وَأَوْقَدْنَا تَحْتَهُ النَّارَ.
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْهُنُودَ بَذَلُوا أَمْوَالًا جَزِيلَةً لِلْمَلِكِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ لِيَتْرُكَ لَهُمْ هَذَا الصَّنَمَ الْأَعْظَمَ، فَأَشَارَ مَنْ أَشَارَ مِنَ الْأُمَرَاءِ بِقَبُولِ تِلْكَ الْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ، فَقَالَ: حَتَّى أَسْتَخِيرَ اللَّهَ تَعَالَى. فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: إِنِّي فَكَّرْتُ فِي الْأَمْرِ فَرَأَيْتُ إِذَا نُودِيتُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: أَيْنَ مَحْمُودٌ الَّذِي كَسَرَ الصَّنَمَ ؟ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُقَالَ: أَيْنَ مَحْمُودٌ الَّذِي تَرَكَ الصَّنَمَ ؟ ثُمَّ عَزَمَ فَكَسَرَهُ، فَوَجَدَ عَلَيْهِ وَفِيهِ مِنَ الذَّهَبِ وَاللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ مَا يُنَيِّفُ عَلَى مَا بَذَلُوهُ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، مَعَ مَا ادَّخَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنَ الْأَجْرِ الْجَزِيلِ فِي الْآخِرَةِ وَالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الْأُولَى، فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَالِثِ رَمَضَانَ دَخَلَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ فَتَلَقَّاهُ الْخَلِيفَةُ فِي دِجْلَةَ فِي الطَّيَّارِ، وَمَعَهُ الْأَكَابِرُ وَالْأَعْيَانُ، فَلَمَّا وَاجَهَ جَلَالَ الدَّوْلَةِ قَبَّلَ الْأَرْضَ دَفَعَاتٍ، ثُمَّ سَارَ إِلَى دَارِ الْمُلْكِ، وَعَادَ الْخَلِيفَةُ إِلَى دَارِهِ، وَأَمَرَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ أَنْ يُضْرَبَ لَهُ الطَّبْلُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الثَّلَاثِ، كَمَا كَانَ الْأَمْرُ فِي زَمَنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَصَمْصَامِهَا وَشَرَفِهَا وَبَهَائِهَا، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ يُضْرَبُ لَهُ الطَّبْلُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَأَرَادَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ ذَلِكَ، فَقِيلَ: لَا يَحْسُنُ مُسَاوَاةُ الْخَلِيفَةِ. ثُمَّ صَمَّمَ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِيهَا وَقَعَ بَرَدٌ شَدِيدٌ حَتَّى جَمَدَ الْخَلُّ وَالنَّبِيذُ وَأَبْوَالُ الدَّوَابِّ وَالْمِيَاهُ الْكِبَارُ وَحَافَّاتُ دِجْلَةَ.
وَلَمْ يَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّاهِدُ
خَطَبَ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَخْطُبُ إِلَّا بِخُطْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي كُلِّ جُمُعَةِ، فَإِذَا سَمِعَهَا النَّاسُ مِنْهُ ضَجُّوا بِالْبُكَاءِ، وَخَشَعُوا لِصَوْتِهِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَبُو الْقَاسِمِ الْوَزِيرُ الْمَغْرِبِيُّ
وُلِدَ بِمِصْرَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهَرَبَ مِنْهَا حِينَ قَتَلَ صَاحِبُهَا أَبَاهُ وَعَمَّهُ، وَقَصَدَ مَكَّةَ ثُمَّ الشَّامَ وَوَزَرَ فِي عِدَّةِ أَمَاكِنَ، وَقَدْ وَزَرَ لِشَرَفِ الدَّوْلَةِ بَعْدَ الرُّخَّجِيِّ، وَكَانَ يَقُولُ الشِّعْرَ الْحَسَنَ، وَقَدْ تَذَاكَرَ هُوَ وَبَعْضُ الصَّالِحِينَ، فَأَنْشَدَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ شِعْرًا:
إِذَا شِئْتَ أَنْ تَحْيَا غَنِيًّا فَلَا تَكُنْ عَلَى حَالَةٍ إِلَّا رَضِيتَ بِدُونِهَا

فَاعْتَزَلَ الْمَنَاصِبَ وَالسُّلْطَانَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: تَرَكْتَ الْمَنَاصِبَ فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِكَ. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
كُنْتُ فِي سَفْرَةِ الْبِطَالَةِ وَالْجَهْ لِ زَمَانًا فَحَانَ مِنِّي الْقُدُومُ
تُبْتُ مِنْ كُلِّ مَأْثَمٍ فَعَسَى يُمْ حِي بِهَذَا الْحَدِيثِ ذَاكَ الْقَدِيمُ
بَعْدَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ لَقَدْ مَا طَلْتُ إِلَّا أَنَّ الْغَرِيمَ كَرِيمُ
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَيَّافَارِقِينَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِمَشْهَدِ عَلِيٍّ، بِحِيلَةٍ احْتَالَهَا قَبْلَ وَفَاتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْخَفَّافِ
رَوَى عَنِ الْقَطِيعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَدِ اتَّهَمُوهُ بِوَضْعِ الْأَسَانِيدِ وَالْأَحَادِيثِ. قَالَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ.
أَبُو الْقَاسِمِ اللَّكَائِيُّ، هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مَنْصُورٍ الرَّازِيُّ
وَهُوَ طَبَرِيُّ الْأَصْلِ أَحَدُ تَلَامِذَةِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَكَانَ يَفْهَمُ وَيَحْفَظُ، وَعُنِيَ بِالْحَدِيثِ، فَصَنَّفَ فِيهِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَلَكِنْ عَاجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ قَبْلَ أَنْ تَنْتَشِرَ أَكْثَرُ كُتُبِهِ، وَلَهُ كِتَابٌ فِي السُّنَّةِ وَشَرْحِهَا، وَذَكَرَ طَرِيقَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي ذَلِكَ، وَقَعَ لَنَا سَمَاعُهُ عَلَى الْحَجَّارِ، عَالِيًا عَنْهُ، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِالدِّينَوَرِ فِي رَمَضَانَ

مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَرَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي. قَالَ: بِمَاذَا ؟ قَالَ: بِالسُّنَّةِ. رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرِ بِاللَّهِ
تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ الثَّانِي مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَمَشَى النَّاسُ فِي جِنَازَتِهِ، وَحَزِنَ عَلَيْهِ أَبُوهُ حُزْنًا شَدِيدًا، وَقُطِعَ الطَّبْلُ أَيَّامًا.
ابْنُ طَبَاطَبَا الشَّرِيفُ
كَانَ شَاعِرًا مُجِيدًا، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ.
الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِهْرَانَ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ، رُكْنُ الدِّينِ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، الْمُتَكَلِّمُ الْأُصُولِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ فِي الْأَصْلَيْنِ ; مِنْهَا " جَامِعُ الْجِلَى " فِي خَمْسِ مُجَلَّدَاتٍ، وَتَعْلِيقَةٌ نَافِعَةٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَدَعْلَجٍ وَغَيْرِهِمَا، وَأَخَذَ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَالْحَاكِمُ النَّيْسَابُورِيُّ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِنَيْسَابُورَ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى بَلَدِهِ فَدُفِنَ فِي مَشْهَدِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْقُدُورِيُّ

الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ، صَاحِبُ الْمُصَنَّفِ الْمُخْتَصَرِ الَّذِي يُحْفَظُ، كَانَ إِمَامًا بَارِعًا عَالِمًا، دَيِّنًا مُنَاظِرًا، وَكَانَ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى مُنَاظَرَةَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَكَانَ يُطْرِيهِ، وَيَقُولُ: هُوَ أَعْلَمُ وَأَنْظَرُ مِنَ الشَّافِعِيِّ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْأَحَدِ الْخَامِسِ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرٍ الْخُوَارِزْمِيِّ الْحَنَفِيِّ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا وَقَعَ بَيْنَ الْجَيْشِ وَبَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَنَهَبُوا دَارَ وَزِيرِهِ، وَجَرَتْ أُمُورٌ طَوِيلَةٌ آلَ الْحَالُ فِيهَا إِلَى أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الْبَلَدِ، فَهُيِّئَ لَهُ زَبْزَبٌ رَثٌّ، فَخَرَجَ وَفِي يَدِهِ طَبَرٌ نَهَارًا، فَجَعَلُوا لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ، وَلَا يُفَكِّرُونَ فِيهِ، فَلَمَّا عَزَمَ فِي الرُّكُوبِ فِي ذَلِكَ الزَّبْزَبِ الرَّثِّ رَثَوْا لَهُ وَرَقُّوا عَلَيْهِ، فَجَاءُوا إِلَيْهِ، وَقَبَّلُوا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَانْصَلَحَتْ قَضِيَّتُهُ بَعْدَ فَسَادِهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَلَّ الرُّطَبُ جِدًّا بِسَبَبِ هَلَاكِ النَّخْلِ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ بِالْبَرَدِ، فَبِيعَ الرَّطْبُ كُلُّ ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ بِدِينَارٍ جَلَالِيٍّ، وَوَقَعَ بَرَدٌ شَدِيدٌ أَيْضًا فَأَهْلَكَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ النَّخْلِ أَيْضًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، إِلَّا أَنَّ قَوْمًا مِنْ خُرَاسَانَ رَكِبُوا فِي الْبَحْرِ مِنْ مَدِينَةِ مُكْرَانَ فَانْتَهَوْا إِلَى جَدَّةَ فَحَجُّوا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَحِمَهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

حَمْزَةُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو الْخَطَّابِ الْمُنَجِّمُ حَظِيَ عِنْدَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ وَعَلَّمَهُ النُّجُومَ، وَكَانَ لَهُ ذَا وَجَاهَةٍ عِنْدَهُ، حَتَّى أَنَّ الْوُزَرَاءَ كَانُوا يُكَارِمُونَهُ وَيُرَاسِلُونَهُ وَيَتَوَسَّلُونَ بِهِ إِلَيْهِ فِي أُمُورِهِمْ، ثُمَّ حَارَ أَمْرُهُ حَتَّى مَاتَ - يَوْمَ مَاتَ بِالْكَرْخِ مِنْ سَامَرَّا - غَرِيبًا فَقِيرًا مَفْلُوجًا، قَدْ ذَهَبَ مَالُهُ وَجَاهُهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَخْلَدٍ، أَبُو الْحَسَنِ
التَّاجِرُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ عَلَى الْمَشَايِخِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَتَفَرَّدَ بِعُلُوِّ الْإِسْنَادِ، وَكَانَ ذَا مَالٍ جَزِيلٍ، فَخَافَ مِنَ الْمُصَادَرَةِ بِبَغْدَادَ، فَانْتَقَلَ إِلَى مِصْرَ، فَأَقَامَ بِهَا سَنَةً، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ فَاتَّفَقَ مُصَادَرَةُ أَهْلِ مَحَلَّتِهِ، فَقُسِّطَ عَلَيْهِ مَا أَفْقَرَهُ، وَمَاتَ حِينَ مَاتَ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُبَارَكٌ الْأَنْمَاطِيُّ
كَانَ ذَا مَالٍ جَزِيلٍ، خَلَّفَ يَوْمَ تُوُفِّيَ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا سِوَى ابْنَةٍ وَاحِدَةٍ بِبَغْدَادَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ.
أَبُو الْفَوَارِسِ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ
كَانَ ظَالِمًا، وَكَانَ إِذَا سَكِرَ يَضْرِبُ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ وَزِيرِهِ مِائَتَيْ مِقْرَعَةٍ، بَعْدَ أَنْ يُحَلِّفَهُ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يَتَأَوَّهُ، وَلَا يُخْبِرُ بِذَلِكَ أَحَدًا. فَيُقَالُ: إِنَّ حَوَاشِيَهُ سَمُّوهُ. فَلَمَّا مَاتَ نَادُوا

بِشِعَارِ ابْنِ أَخِيهِ أَبِي كَالِيجَارَ.
أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ بَاشَاذَ
وَزِيرُ أَبِي كَالِيجَارَ، لَقَّبَهُ مُعِزَّ الدِّينِ فَلَكَ الدَّوْلَةِ، سَيِّدَ الْأُمَّةِ، وَزِيرَ الْوُزَرَاءِ، عِمَادَ الْمُلْكِ، ثُمَّ سُلِّمَ إِلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ فَاعْتَقَلَهُ، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُتَكَلِّمُ
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. هَكَذَا رَأَيْتُ ابْنَ الْجَوْزِيِّ تَرْجَمَهُ مُخْتَصَرًا.
ابْنُ غَلْبُونَ الشَّاعِرُ، أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمُحْسِنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ غَالِبِ بْنِ غَلْبُونَ الشَّامِيُّ ثُمَّ الصُّورِيُّ
الشَّاعِرُ الْمُطَبِّقُ، لَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ مَلِيحٌ بَلِيغٌ، كَانَ قَدْ نَظَمَ قَصِيدَةً بَلِيغَةً فِي بَعْضِ الرُّؤَسَاءِ، ثُمَّ أَنْشَدَهَا لِرَئِيسٍ آخَرَ يُقَالُ لَهُ: ذُو الْمَنْقَبَتَيْنِ. وَزَادَ فِيهَا بَيْتًا وَاحِدًا يَقُولُ فِيهِ:
وَلَكَ الْمَنَاقِبُ كَلُّهَا فَلِمَ اقْتَصَرْتَ عَلَى اثْنَتَيْنِ
فَأَجَازَهُ جَائِزَةً سَنِيَّةً، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ فِيكَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْبَيْتَ وَحْدَهُ بِقَصِيدَةٍ.

وَلَهُ أَيْضًا فِي بَخِيلٍ نَزَلَ عِنْدَهُ:
وَأَخٍ مَسَّهُ نُزُولِي بِقَرْحٍ مِثْلَ مَا مَسَّنِي مِنَ الْجُوعِ قَرْحُ
بِتُّ ضَيْفًا لَهُ كَمَا حَكَمَ الدَّهْ رُ وَفِي حُكْمِهِ عَلَى الْحُرِّ قُبْحُ
فَابْتَدَانِي يَقُولُ وَهْوَ مِنَ ال سُّكْرِ بِالْهَمِّ طَافِحٌ لَيْسَ يَصْحُو
لِمْ تَغَرَّبْتَ قَلْتُ قَالَ رَسُولُ ال لَّهِ وَالْقَوْلُ مِنْهُ نُصْحٌ وَنُجْحُ
سَافَرُوا تَغْنَمُوا " فَقَالَ وَقَدْ قَا لَ تَمَامَ الْحَدِيثِ " صُومُوا تَصِحُّوَا
"

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا سَقَطَ بِنَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ مَطَرٌ شَدِيدٌ مَعَهُ بَرَدٌ كِبَارٌ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: حُزِرَتِ الْبَرَدَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْهُ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رِطْلًا، وَغَاصَتْ فِي الْأَرْضِ نَحْوًا مِنْ ذِرَاعٍ.
وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ أَنَّهُ أَحَلَّ بِطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الرَّيِّ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ وَالرَّوَافِضِ قَتْلًا ذَرِيعًا، وَصَلْبًا شَنِيعًا، وَأَنَّهُ انْتَهَبَ أَمْوَالَ رَئِيسِهِمْ رُسْتُمَ بْنِ عَلِيٍّ الدَّيْلِمِيِّ، فَحَصَّلَ مَا يُقَارِبُ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقَدْ كَانَ فِي حِبَالَتِهِ نَحْوٌ مَنْ خَمْسِينَ امْرَأَةً حُرَّةً، وَقَدْ وَلَدْنَ لَهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَلَدًا مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَكَانُوا يَرَوْنَ إِبَاحَةَ ذَلِكَ.
وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا انْقَضَتْ كَوَاكِبُ كَثِيرَةٌ شَدِيدَةُ الصَّوْتِ قَوِيَّةُ الضَّوْءِ.
وَفِي شَعْبَانَ كَثُرَتِ الْعَمَلَاتُ، وَضَعُفَتْ رِجَالُ الْمَعُونَةِ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْعَيَّارِينَ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ عَشَرَ مِنْهُ غَارَ مَاءُ دِجْلَةَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَوَقَفَتِ الْأَرْحَاءُ، وَتَعَذَّرَ الطَّحْنُ.

وَفِي هَذَا الْيَوْمِ جُمِعَ الْقُضَاةُ وَالْعُلَمَاءُ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، وَقُرِئَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ جَمَعَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ فِيهِ مَوَاعِظُ وَتَفَاصِيلُ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالرَّدُّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَفِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ جُمِعُوا أَيْضًا، وَقُرِئَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ آخَرُ جَمَعَهُ الْخَلِيفَةُ أَيْضًا فِيهِ أَخْبَارٌ وَمَوَاعِظُ، وَالرَّدُّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ، وَتَفْسِيقُ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَصِفَةُ مَا وَقَعَ بَيْنَ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَحْمَدَ الْكَتَّانِيِّ مِنَ الْمُنَاظَرَةِ، ثُمَّ خَتَمَ الْقَوْلَ بِالْوَعْظِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَخَذَ خُطُوطَ الْحَاضِرِينَ بِالْمُوَافَقَةِ لِمَا سَمِعُوهُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ غُرَّةِ ذِي الْقَعْدَةِ جُمِعُوا أَيْضًا كُلُّهُمْ، وَقُرِئَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ آخَرُ طَوِيلٌ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ السُّنَّةِ، وَالرَّدَّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ، وَمُنَاظَرَةَ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالْكَتَّانِيِّ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفَضْلَ الصَّحَابَةِ، وَذِكْرَ فَضَائِلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلَمْ يَفْرَغُوا مِنْهُ إِلَّا بَعْدَ الْعَتَمَةِ، وَأُخِذَتْ خُطُوطُهُمْ بِمُوَافَقَةِ مَا سَمِعُوهُ، وَعُزِلَ خُطَبَاءُ الشِّيعَةِ، وَوَلِيَ خُطَبَاءُ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَجَرَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِمَسْجِدِ بَرَاثَا، وَضَرَبُوا الْخَطِيبَ السُّنِّيَّ بِالْآجُرِّ حَتَّى كَسَرُوا أَنْفَهُ وَخَلَعُوا كَتِفَهُ، فَانْتَصَرَ لَهُ الْخَلِيفَةُ وَأَهَانَ الشِّيعَةَ وَأَذَلَّهُمْ، حَتَّى جَاءُوا يَعْتَذِرُونَ مِمَّا صَنَعُوا، وَأَنَّهُ مَا تَعَاطَاهُ إِلَّا سُفَهَاؤُهُمْ وَسَقَطُهُمْ.
وَلَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْحَجِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْهُبَيْشِ، أَبُو عَلِيٍّ الزَّاهِدُ
أَحَدُ الْعُبَّادِ وَالزُّهَّادِ وَأَصْحَابِ الْأَحْوَالِ، دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْوُزَرَاءِ فَقَبَّلَ يَدَهُ، فَعُوتِبَ الْوَزِيرُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: كَيْفَ لَا أُقَبِّلُ يَدًا مَا امْتَدَّتْ إِلَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ؟!
عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ الْفَرَجِ بْنِ صَالِحٍ، أَبُو الْحَسَنِ الرَّبَعِيُّ النَّحْوِيُّ
أَخَذَ الْعَرَبِيَّةَ أَوَّلًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ السِّيرَافِيِّ، ثُمَّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَلَازَمَهُ عِشْرِينَ سَنَةً حَتَّى كَانَ يَقُولُ: قُولُوا لَهُ: لَوْ سَارَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ لَمْ يَجِدْ أَحَدًا أَنْحَى مِنْهُ. وَكَانَ يَوْمًا يَمْشِي عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ إِذْ نَظَرَ إِلَى الشَّرِيفَيْنِ الرَّضِيِّ وَالْمُرْتَضَى فِي سَفِينَةٍ، وَمَعَهُمَا عُثْمَانُ بْنُ جِنِّيٍّ، فَقَالَ لَهُمَا: مِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ أَنَّ عُثْمَانَ مَعَكُمَا، وَعَلِيٌّ بَعِيدٌ مِنْكُمَا يَمْشِي عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ الدَّيْرِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَتْبَعْ جِنَازَتَهُ سِوَى ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ.
أَسَدُ الدَّوْلَةِ، أَبُو عَلِيٍّ صَالِحُ بْنُ مِرْدَاسِ بْنِ إِدْرِيسَ الْكِلَابِيُّ
أَوَّلُ مُلُوكِ بَنِي مِرْدَاسٍ بِحَلَبَ، انْتَزَعَهَا مِنْ يَدَيْ نَائِبِهَا الظَّاهِرِ بْنِ الْحَاكِمِ الْعُبَيْدِيِّ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، ثُمَّ جَاءَهُ جَيْشٌ كَثِيفٌ مِنْ مِصْرَ، فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ أَسَدُ الدَّوْلَةِ هَذَا فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَقَامَ حَفِيدُهُ نَصْرٌ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
لَمَّا كَانَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ، الْكَبِيرُ الْمُثَاغِرُ، الْمُرَابِطُ الْمُؤَيَّدُ، الْمَنْصُورُ الْمُجَاهِدُ، يَمِينُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ، صَاحِبُ بِلَادِ غَزْنَةَ وَتِلْكَ الْمَمَالِكِ الْكِبَارِ، وَفَاتِحُ أَكْثَرِ بِلَادِ الْهِنْدِ قَهْرًا، وَكَاسِرُ بُدُودِهِمْ وَأَوْثَانِهِمْ كَسْرًا، وَقَاهِرُ هُنُودِهِمْ وَسُلْطَانِهِمُ الْأَعْظَمِ قَهْرًا، وَقَدْ تَمَرَّضَ نَحْوًا مِنْ سَنَتَيْنِ لَمْ يَضْطَجِعْ فِيهِمَا عَلَى فِرَاشٍ وَلَا تَوَسَّدَ وِسَادًا، بَلْ كَانَ يَنَامُ قَاعِدًا حَتَّى مَاتَ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لِشَهَامَتِهِ وَصَرَامَتِهِ وَقُوَّةِ عَزْمِهِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ سِتُّونَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ عَهِدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ مُحَمَّدٍ، فَلَمْ يَتِمَّ أَمْرُهُ حَتَّى غَافَصَهُ أَخُوهُ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودٍ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى مَمَالِكِ أَبِيهِ، مَعَ مَا كَانَ إِلَيْهِ مِمَّا يَلِيَهُ وَفَتَحَهُ هُوَ بِنَفْسِهِ مِنْ بِلَادِ الْكُفَّارِ ; مِنَ الرَّسَاتِيقِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، فَاسْتَقَرَّتْ لَهُ الْمَمَالِكُ شَرْقًا وَغَرْبًا فِي تِلْكَ النَّوَاحِي فِي أَوَاخِرِ هَذَا الْعَامِ، وَجَاءَتْهُ الرُّسُلُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَمِنْ كُلِّ مَلِكٍ هُمَامٍ، بِالتَّحِيَّةِ وَالسَّلَامِ وَالْإِكْرَامِ، وَسَتَأْتِي تَرْجَمَةُ الْمَلِكِ مَحْمُودٍ فِي الْوَفِيَّاتِ.
وَفِيهَا اسْتَحْوَذَتِ السَّرِيَّةُ الَّتِي كَانَ بَعَثَهَا الْمَلِكُ مَحْمُودٌ إِلَى بِلَادِ الْهِنْدِ عَلَى

أَكْبَرِ مَدَائِنِهِمْ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ نَرْسَى، دَخَلُوهَا فِي نَحْوِ مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، مَا بَيْنَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، فَنَهَبُوا سُوقَ الْعِطْرِ وَالْجَوَاهِرِ بِهَا نَهَارًا كَامِلًا، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُحَوِّلُوا مَا فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الطِّيبِ وَالْمِسْكِ وَالْجَوَاهِرِ وَاللَّآلِئِ وَالْيَوَاقِيتِ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَدْرِ أَكْثَرُ أَهْلِهَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِاتِّسَاعِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي غَايَةِ الْكِبَرِ، طُولُهَا مَسِيرَةُ مَنْزِلَةٍ مِنْ مَنَازِلِ الْهِنْدِ، وَعَرْضُهَا كَذَلِكَ، وَأُخِذَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالتُّحَفِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُمُ اقْتَسَمُوا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ بِالْكَيْلِ. وَلَمْ يَصِلْ جَيْشٌ مِنْ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى هَذِهِ الْمَدِينَةِ، لَا قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ وَلَا بَعْدَهَا.
وَفِيهَا عَمِلَتِ الرَّافِضَةُ بِدْعَتَهُمُ الشَّنْعَاءَ، وَحَادِثَتَهُمُ الصَّلْعَاءَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، مِنْ تَعْلِيقِ الْمُسُوحِ، وَتَغْلِيقِ الْأَسْوَاقِ، وَالنَّوْحِ وَالْبُكَاءِ، فِي الْأَزِقَّةِ وَالْأَرْجَاءِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي الْحَدِيدِ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ، وَجَرَتْ فِتَنٌ كَبِيرَةٌ، وَشُرُورٌ مُسْتَطِيرَةٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَرِضَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ وَعَهِدَ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى وَلَدِهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ، وَخُطِبَ لَهُ بِذَلِكَ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَضُرِبَ اسْمُهُ عَلَى السِّكَّةِ الْمُتَعَامَلِ بِهَا فِي الْبَادِي وَالْحَاضِرِ.
وَفِيهَا أَقْبَلَ مَلِكُ الرُّومِ مِنْ قُسْطَنْطِينِيَّةَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَسَارَ حَتَّى

بَلَغَ بِلَادَ حَلَبَ وَعَلَيْهَا شِبْلُ الدَّوْلَةِ نَصْرُ بْنُ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ، فَنَزَلُوا عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ مِنْهَا، وَمِنْ عَزْمِ مَلِكِ الرُّومِ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - أَنْ يَسْتَحْوِذَ عَلَى بِلَادِ الشَّامِ بِكَمَالِهَا، وَأَنْ يَسْتَرِدَّهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي أَيْدِيهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَقَيْصَرُ هُوَ مَنْ مَلَكَ الشَّامَ مَعَ بِلَادِ الرُّومِ، فَلَا سَبِيلَ لِمَلِكِ الرُّومِ إِلَى هَذَا الرَّوْمِ الَّذِي أَرَادَهُ هَذَا الْمَذْمُومُ، فَلَمَّا نَزَلَ بِجَيْشِهِ قَرِيبًا مِنْ حَلَبَ كَمَا ذَكَرْنَا، أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَطَشًا شَدِيدًا، وَخَالَفَ بَيْنَ كَلِمَتِهِمْ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ الدُّمُسْتُقُ، فَعَامَلَ طَائِفَةً مِنَ الْجَيْشِ عَلَى قَتْلِهِ لِيَسْتَقِلَّ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، فَفَهِمَ ذَلِكَ مَلِكُ الرُّومِ، فَكَرَّ مِنْ فَوْرِهِ رَاجِعًا وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [ الْأَحْزَابِ: 25 ] وَلَمَّا كَرُّوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، اتَّبَعَهُمُ الْأَعْرَابُ يَنْهَبُونَهُمْ لَيْلًا وَنَهَارًا وَصَبَاحًا وَمَسَاءً، وَهَلَكَ أَكْثَرُ الرُّومِ جُوعًا وَعَطَشًا، وَنَهْبَهُمُ الْأَعْرَابُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا مَلَكَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ وَاسِطًا وَاسْتَنَابَ وَلَدَهُ عَلَيْهَا، وَبَعَثَ وَزِيرَهُ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مَاكُولَا إِلَى الْبَطَائِحِ وَالْبَصْرَةِ، فَفَتَحَ الْبَطَائِحَ وَسَارَ فِي الْمَاءِ إِلَى الْبَصْرَةِ وَعَلَيْهَا نَائِبٌ لِأَبِي كَالِيجَارَ، فَهَزَمَهُمُ الْبَصْرِيُّونَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ جَلَالُ الدَّوْلَةِ بِنَفْسِهِ، فَدَخَلَهَا فِي شَعْبَانِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُقَّتِ الْبَشَائِرُ فَرَحًا بِبَغْدَادَ ; فَرَحًا بِنَصْرِهِ.
وَفِيهَا جَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ بِغَزْنَةَ، فَأَهْلَكَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا تَصَدَّقَ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ بِأَلْفِ أَلْفِ

دِرْهَمٍ وَأَجْرَى أَرْزَاقًا لِلْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ بِبِلَادِهِ، عَلَى عَادَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَفَتَحَ بُلْدَانًا كَثِيرَةً، وَاتَّسَعَتْ مَمَالِكُهُ جِدًّا، وَعَظُمَ شَأْنُهُ وَقَوِيَتْ أَرْكَانُهُ، وَكَثُرَتْ جُنُودُهُ وَأَعْوَانُهُ.
وَفِيهَا دَخَلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَكْرَادِ إِلَى بَغْدَادَ يَسْرِقُونَ خَيْلَ الْأَتْرَاكِ لَيْلًا، فَتَحَصَّنَ النَّاسُ مِنْهُمْ، وَحَصَّنُوا خُيُولَهُمْ حَتَّى خَيْلَ السُّلْطَانِ.
وَفِيهَا سَقَطَ جِسْرٌ بِبَغْدَادَ، وَهُوَ الَّذِي عِنْدَ الزَّيَّاتِينَ عَلَى نَهْرِ عِيسَى.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ النَّازِلِينَ بِبَابِ الْبَصْرَةِ وَبَيْنَ الْهَاشِمِيِّينَ، فَرَفَعُوا الْمَصَاحِفَ، وَرَمَتْهُمُ الْأَتْرَاكُ بِالنُّشَّابِ، وَجَرَتْ خَبْطَةٌ عَظِيمَةٌ، ثُمَّ اصْطَلَحَتِ الْحَالُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ.
وَفِيهَا كَثُرَتِ الْعَمَلَاتُ بِبَغْدَادَ، وَأُخِذَتِ الدُّورُ جَهْرَةً، وَكَثُرَ الْعَيَّارُونَ وَلُصُوصُ الْأَكْرَادِ.
وَفِيهَا تَعَطَّلَ الْحَجُّ أَيْضًا مِنْ بِلَادِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ لِفَسَادِ الْبِلَادِ، وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ سِوَى سَرِيَّةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ ; رَكِبُوا مِنْ جِمَالِ الْبَادِيَةِ مَعَ الْأَعْرَابِ مُخَاطَرَةً، فَفَازُوا بِالْحَجِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو الْحَسَنِ الْوَاعِظُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الرَّانِ

صَاحِبُ كَرَامَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ، كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ فَسَكَنَ دِمَشْقَ وَكَانَ يَعِظُ النَّاسَ بِالزِّيَادَةِ الْقِبَلِيَّةِ حَيْثُ كَانَ يَجْلِسُ الْقُصَّاصُ. قَالَ ذَاكَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ. قَالَ: وَصَنَّفَ كُتُبًا فِي الْوَعْظِ، وَحَكَى حِكَايَاتٍ كَثِيرَةً، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ السَّمَرْقَنْدِيِّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا طَاهِرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي صَقْرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الرَّانِ الْوَاعِظَ يُنْشِدُ أَبْيَاتًا:
أَنَا مَا أَصْنَعُ بِاللَّذَّ اتِ شُغْلِي بِالذُّنُوبِ إِنَّمَا الْعِيدُ لِمَنْ فَا
زَ بِوَصْلٍ مِنْ حَبِيبِ أَصْبَحَ النَّاسُ عَلَى رَوْ
حٍ وَرَيْحَانٍ وَطِيبِ ثُمَّ أَصْبَحْتُ عَلَى نَوْ
حٍ وَحُزْنٍ وَنَحِيبَ فَرِحُوا حِينَ أَهَلُّوا
شَهْرَهُمْ بَعْدَ الْمَغِيبِ وَهِلَالِي مُتَوَارٍ
مِنْ وَرَا حُجْبِ الْغُيُوبِ فَلِهَذَا يَا خَلِيلِي
قُلْتُ لِلذَّاتِ غِيبِي وَجَعَلْتُ الْهَمَّ وَالْحُزْ
نَ مِنَ الدُّنْيَا نَصِيبِي يَا حَيَاتِي وَمَمَاتِي
وَشَقَائِي وَطَبِيبِي جُدْ لِصَبٍّ يَتَلَظَّى
مِنْكَ بِالرَّحْبِ الرَّحِيبِ
ثُمَّ أَرَّخَ وَفَاتَهُ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِمَسْجِدِ الْقِدَمِ.

الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَالِعُ
الشَّاعِرُ، لَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ حَسَنٌ مَلِيحٌ، عَمَّرَ طَوِيلًا، وَوَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِنٍّ عَالِيَةٍ.
الْمَلِكُ الْكَبِيرُ الْعَادِلُ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ، أَبُو الْقَاسِمِ، الْمُلَقَّبُ بِيَمِينِ الدَّوْلَةِ وَأَمِينِ الْمِلَّةِ
صَاحِبُ بِلَادِ غَزْنَةَ وَمَا وَالَاهَا، وَجَيْشُهُ يُقَالُ لَهُمْ: السَّامَانِيَّةُ. وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ تَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ، وَتُوَفِّي سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَتَمَلَّكَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ هَذَا، فَسَارَ فِيهِمْ وَفِي سَائِرِ الرَّعَايَا سِيرَةً عَادِلَةً، وَقَامَ بِأَعْبَاءِ الْإِسْلَامِ قِيَامًا تَامًّا، وَفَتَحَ فُتُوحَاتٍ كَثِيرَةً فِي بِلَادِ الْهِنْدِ وَغَيْرِهَا وَعَظُمَ شَأْنُهُ فِي الْعَالَمِينَ، وَاتَّسَعَتْ مَمْلَكَتُهُ وَامْتَدَّتْ رَعَايَاهُ وَطَالَتْ أَيَّامُهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَكَانَ يَخْطُبُ فِي سَائِرِ مَمَالِكِهِ لِلْخَلِيفَةِ الْعَبَّاسِيِّ الْقَادِرِ بِاللَّهِ وَكَانَتْ رُسُلُ الْفَاطِمِيِّينَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ تَفِدُ إِلَيْهِ بِالْكُتُبِ وَالْهَدَايَا وَالتُّحَفِ، فَيُحْرِقُ بِهِمْ، وَيُقَطِّعُ كُتُبَهُمْ، وَيُخَرِّقُ حِلَلَهُمْ. وَقَدِ اتَّفَقَ لَهُ فِي بِلَادِ الْهِنْدِ فُتُوحَاتٌ لَمْ تَتَّفِقْ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُلُوكِ، لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَغَنِمَ مَغَانِمَ كَثِيرَةً لَا تَنْحَصِرُ وَلَا تَنْضَبِطُ كَثْرَةً، مِنَ الذَّهَبِ وَاللَّآلِئِ وَالسَّبْيِ، وَكَسَّرَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ وَأَبْدَادِهِمْ

وَأَوْثَانِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، بَيَّضَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِيمَا سَلَفَ مُفَرَّقًا فِي السِّنِينَ، كَانَ فِي جُمْلَةِ مَا كَسَرَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ بُدٌّ عَظِيمٌ لِلْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ: سُومَنَاتُ. بَلَغَ مَا تَحَصَّلَ مِنْهُ مِنَ الذَّهَبِ عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَسَرَ مَلِكَ الْهِنْدِ الْكَبِيرَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: جِيبَالُ. وَقَهَرَ مَلِكَ التُّرْكِ الْأَعْظَمَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: إِيلَكُ خَانَ. وَأَبَادَ مُلْكَ السَّامَانِيَّةِ، وَقَدْ مَلَكُوا بِخُرَاسَانَ مِائَةَ سَنَةٍ بِلَادَ سَمَرْقَنْدَ وَمَا حَوْلَهَا، ثُمَّ هَلَكُوا، وَبَنَى عَلَى جَيْحُونَ جِسْرًا غَرِمَ عَلَيْهِ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَتَّفِقْ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُلُوكِ، وَكَانَ مَعَهُ فِي جَيْشِهِ أَرْبَعُمِائَةِ فِيلٍ تُقَاتِلُ، وَهَذِهِ عَظِيمَةٌ هَائِلَةٌ وَمَرْتَبَةٌ طَائِلَةٌ، وَجَرَتْ لَهُ فُصُولٌ ذِكْرُ تَفْصِيلِهَا يَطُولُ.
وَكَانَ فِي غَايَةِ الدِّيَانَةِ وَالصِّيَانَةِ يُحِبُّ الْعُلَمَاءَ وَالْمُحَدِّثِينَ، وَيُكْرِمُهُمْ، وَيُجَالِسُهُمْ، وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ، ثُمَّ صَارَ شَافِعِيًّا عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ الصَّغِيرِ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ كَرَّامِيًّا عَلَى اعْتِقَادِهِمْ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُجَالِسُهُ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْضَمِ، وَتَنَاظَرَ هُوَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْعَرْشِ مُنَاظَرَةً طَوِيلَةً، ذَكَرَهَا ابْنُ الْهَيْضَمِ فِي مُصَنَّفٍ لَهُ، فَمَالَ السُّلْطَانُ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ إِلَى قَوْلِ ابْنِ الْهَيْضَمِ، وَنَقَمَ عَلَى ابْنِ فُورَكَ كَلَامَهُ، وَأَمَرَ بِطَرْدِهِ وَإِخْرَاجِهِ ; لِمُوَافَقَتِهِ لِرَأْيِ الْجَهْمِيَّةِ.
وَكَانَتْ مَعْدِلَتُهُ جَيِّدَةً ; اشْتَكَى إِلَيْهِ رَجُلٌ أَنَّ ابْنَ أُخْتِ الْمَلِكِ يَهْجِمُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَيُخْرِجُهُ مِنَ الْبَيْتِ وَيَخْتَلِي بِامْرَأَتِهِ، وَقَدْ حَارَ فِي أَمْرِهِ، وَكُلَّمَا اشْتَكَاهُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ لَا يَتَجَاسَرُ عَلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ; يَهَابُونَ الْمَلِكَ. فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: وَيْحَكَ ! مَتَى جَاءَكَ فَائْتِنِي فَأَعْلِمْنِي، وَلَا تَسْمَعْنَ مِنْ أَحَدٍ مَنَعَكَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيَّ، وَلَوْ كَانَ فِي اللَّيْلِ. وَتَقَدَّمَ إِلَى الْحَجَبَةِ

أَنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُهُ أَحَدٌ مَتَى جَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ. فَذَهَبَ الرَّجُلُ مَسْرُورًا، فَمَا كَانَ إِلَّا لَيْلَةٌ أَوْ لَيْلَتَانِ حَتَّى هَجَمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الشَّابُّ فَأَخْرَجَهُ وَاخْتَلَى بِأَهْلِهِ، فَذَهَبَ بَاكِيًا إِلَى دَارِ الْمَلِكِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الْمَلِكَ نَائِمٌ. فَقَالَ: قَدْ تَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِمَا سَمِعْتُمْ، فَأَنْبَهُوا الْمَلِكَ، فَخَرَجَ مَعَهُ بِنَفْسِهِ وَحْدَهُ، وَجَاءَ مَنْزِلَ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَنَظَرَ إِلَى الْغُلَامِ وَهُوَ نَائِمٌ مَعَ الْمَرْأَةِ فِي فِرَاشِ الرَّجُلِ، وَعِنْدَهُمَا شَمْعَةٌ تَقِدُ، فَتَقَدَّمَ الْمَلِكُ فَأَطْفَأَ الضَّوْءَ، ثُمَّ جَاءَ فَاحْتَزَّ رَأْسَ الْغُلَامِ، وَقَالَ لِلرَّجُلِ: وَيْحَكَ ! أَلْحَقَنِي بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ، فَسَقَاهُ، ثُمَّ انْطَلَقَ لِيَذْهَبَ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ لِمَ أَطْفَأْتَ الشَّمْعَةَ ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ ! إِنَّهُ ابْنُ أُخْتِي، وَكَرِهْتُ أَنْ أُشَاهِدَهُ حَالَ الذَّبْحِ. قَالَ: وَلِمَ طَلَبْتَ الْمَاءَ سَرِيعًا ؟ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ آلَيْتُ مُنْذُ أَخْبَرْتَنِي أَنْ لَا أَطْعَمَ طَعَامًا وَلَا أَشْرَبَ شَرَابًا حَتَّى أَقُومَ بِحَقِّكَ، فَكُنْتُ عَطْشَانَ هَذِهِ الْأَيَّامَ، حَتَّى كَانَ مَا رَأَيْتُ. فَدَعَا لَهُ، وَانْصَرَفَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَكَانَ مَرَضُهُ سُوءَ مِزَاجٍ اعْتَرَاهُ وَانْطِلَاقَ الْبَطْنِ سَنَتَيْنِ، فَكَانَ فِيهِمَا لَا يَضْطَجِعُ عَلَى فِرَاشٍ، وَلَا يَتَّكِئُ عَلَى شَيْءٍ لِقُوَّةِ بَأْسِهِ، بَلْ كَانَ يَسْتَنِدُ إِلَى مَخَادَّ تُوضَعُ لَهُ، وَيَحْضُرُ مَجْلِسَ مُلْكِهِ، وَيَفْصِلُ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى عَادَتِهِ، حَتَّى مَاتَ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، مَلَكَ مِنْهَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَخَلَّفَ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا، مِنْ ذَلِكَ سَبْعُونَ رَطْلًا مِنْ جَوْهَرٍ، سَامَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ صَارَ الْمُلْكُ إِلَى ابْنِهِ الْآخَرِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودٍ، فَأَشْبَهَ أَبَاهُ، وَقَدْ صَنَّفَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مُجَلَّدًا فِي سِيرَتِهِ وَأَيَّامِهِ وَفُتُوحَاتِهِ وَمَمَالِكِهِ، فَأَفَادَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْقَادِرِ بِاللَّهِ وَخِلَافَةُ ابْنِهِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ وَبَيَانُهُ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالرَّوَافِضِ، وَقَوِيَتْ عَلَيْهِمُ السُّنَّةُ، وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنْهُمْ، وَنَهَبُوا الْكَرْخَ وَدَارَ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى وَنَهَبَتِ الْعَامَّةُ دُورَ الْيَهُودِ ; لِأَنَّهُمْ نُسِبُوا إِلَى مُعَاوَنَةِ أَهْلِ الْكَرْخِ مِنَ الرَّوَافِضِ، وَتَعَدَّى النَّهْبُ إِلَى دُورٍ كَثِيرَةٍ وَانْتَشَرَتِ الْفِتْنَةُ جِدًّا، ثُمَّ سَكَنَتْ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا كَثُرَتِ الْعَمَلَاتُ وَانْتَشَرَتِ الْمِحْنَةُ بِأَمْرِ الْعَيَّارِينَ فِي أَرْجَاءِ الْبَلَدِ، وَتَجَاسَرُوا عَلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَنَهَبُوا دُورًا وَأَمَاكِنَ سِرًّا وَجَهْرًا، لَيْلًا وَنَهَارًا، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

خِلَافَةُ الْقَائِمِ بِاللَّهِ
أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَادِرِ بِاللَّهِ، بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ لَمَّا تُوَفِّيَ أَبُوهُ الْقَادِرُ بِاللَّهِ

أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ بْنِ الْأَمِيرِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بْنِ الرَّشِيدِ بْنِ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ، فِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَعَشَرَةِ أَشْهُرٍ وَأَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَلَمْ يُعَمَّرْ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ هَذَا الْعُمُرَ وَلَا بَعْدَهُ، مِنْ ذَلِكَ فِي الْخِلَافَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَهَذَا أَيْضًا شَيْءٌ لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ إِلَيْهِ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ اسْمُهَا تَمَنِّي، مَوْلَاةُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الْمُقْتَدِرِ، وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ مُحِبًّا لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالصَّلَاحِ، يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٌ كَانَتْ تُقْرَأُ عَلَى النَّاسِ، وَكَانَ أَبْيَضَ، حَسَنَ الْجِسْمِ، طَوِيلَ اللِّحْيَةِ عَرِيضَهَا يَخْضِبُهَا، وَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، كَثِيرَ الصَّدَقَةِ، مُحِبًّا لِلسُّنَّةِ وَأَهْلِهَا، يَبْغَضُ الْبِدْعَةَ وَالْقَائِمَيْنِ بِهَا، وَكَانَ يُكْثِرُ الصَّوْمَ، وَيَبَرُّ الْفُقَرَاءَ مِنْ أَقْطَاعِهِ، يَبْعَثُ مِنْهُ إِلَى الْمُجَاوِرِينَ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ وَجَامِعِ الرُّصَافَةِ، وَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ دَارِهِ فِي زِيِّ الْعَامَّةِ، فَيَزُورُ قُبُورَ الصَّالِحِينَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا صَالِحًا مَنْ سِيرَتِهِ عِنْدَ ذِكْرِ وِلَايَتِهِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَجَلَسُوا فِي عَزَائِهِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لِعِظَمِ الْمُصِيبَةِ بِهِ، وَلِتَوْطِيدِ الْبَيْعَةِ لِوَلَدِهِ الْقَائِمِ بِاللَّهِ أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَادِرِ، وَأُمُّهُ قَطْرُ النَّدَى أَرْمَنِيَّةٌ، أَدْرَكَتْ خِلَافَتَهُ. وَكَانَ مَوْلِدُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَتْ بَيْعَتُهُ بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ وَالْأَعْيَانِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى وَأَنْشَدَهُ أَبْيَاتًا:

فَإِمَّا مَضَى جَبَلٌ وَانْقَضَى فَمِنْكَ لَنَا جَبَلٌ قَدْ رَسَا وَإِمَّا فُجِعْنَا بِبَدْرِ التَّمَامِ
فَقَدْ بَقِيَتْ مِنْهُ شَمْسُ الضُّحَى لَنَا حَزَنٌ فِي مَحَلِّ السُّرُورِ
فَكَمْ ضَحِكٌ فِي خِلَالِ الْبُكَا فَيَا صَارِمًا أَغْمَدَتْهُ يَدٌ
لَنَا بَعْدَكَ الصَّارِمُ الْمُنْتَضَى وَلَمَّا حَضَرْنَاكَ عَقْدَ الْبِيَاعِ
عَرَفْنَا بِهَدْيِكَ طُرْقَ الْهُدَى فَقَابَلْتَنَا بِوَقَارِ الْمَشِيبِ
كَمَالًا وَسِنُّكَ سِنُّ الْفَتَى
طَالَبَتْهُ الْأَتْرَاكُ بِرَسْمِ الْبَيْعَةِ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَ الْخَلِيفَةِ شَيْءٌ ; لِأَنَّ أَبَاهُ لَمْ يَتْرُكْ مَالًا، فَكَادَتِ الْفِتْنَةُ تَقَعُ بَيْنَ النَّاسِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، حَتَّى دَفَعَ عَنْهُ الْمَلِكُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ مَالًا جَزِيلًا، نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاسْتَوْزَرَ الْخَلِيفَةُ أَبَا طَالِبٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَيُّوبَ، وَاسْتَقْضَى ابْنَ مَاكُولَا.
وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ سِوَى شِرْذِمَةٍ خَرَجُوا مِنَ الْكُوفَةِ مَعَ الْعَرَبِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْكُبَرَاءِ غَيْرِ الْخَلِيفَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ:
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، أَبُو عَلِيِّ بْنُ مَاكُولَا
الْوَزِيرُ لِجَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ بُعِثَ إِلَى الْبَطِيحَةِ فَفَتَحَهَا، وَرَامَ أَخْذَ الْبَصْرَةِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ، وَقَاتَلُوهُ دُونَهَا فَأَسَرُوهُ، فَسَأَلَ أَنْ يُذْهَبَ بِهِ إِلَى الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، فَعَفَا عَنْهُ وَأَطْلَقَهُ، فَلَمَّا صَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ تَعَامَلَ عَلَيْهِ غُلَامٌ لَهُ وَجَارِيَةٌ، فَقَتَلَاهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَخَمْسِينَ سَنَةً.

عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ هَارُونَ بْنِ مَالِكِ بْنِ طَوْقٍ
صَاحِبُ الرَّحْبَةِ، التَّغْلِبِيُّ الْبَغْدَادِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَمُصَنِّفِيهِمْ، لَهُ كِتَابُ " التَّلْقِينِ " يَحْفَظُهُ الطَّلَبَةُ، وَلَهُ غَيْرُهُ فِي الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ، وَقَدْ أَقَامَ بِبَغْدَادَ دَهْرًا، وَوَلِيَ قَضَاءَ بَادَرَايَا وَبَاكُسَايَا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ لِضِيقِ حَالِهِ، فَدَخَلَ مِصْرَ، فَأَكْرَمَهُ الْمَغَارِبَةُ، وَأَعْطَوْهُ ذَهَبًا كَثِيرًا، فَتَمَوَّلَ جَدًّا، فَأَنْشَأَ يَقُولُ مُتَشَوِّقًا إِلَى بَغْدَادَ:
سَلَامٌ عَلَى بَغْدَادَ فِي كُلِّ مَوْقِفٍ وَحُقَّ لَهَا مِنِّي السَّلَامُ مُضَاعَفُ فَوَاللَّهِ مَا فَارَقْتُهَا عَنْ قِلًى لَهَا
وَإِنِّي بِشَطَّيْ جَانِبَيْهَا لَعَارِفُ وَلَكِنَّهَا ضَاقَتْ عَلَيَّ بِأَسْرِهَا
وَلَمْ تَكُنِ الْأَرْزَاقُ فِيهَا تُسَاعِفُ فَكَانَتْ كَخِلٍّ كُنْتُ أَهْوَى دُنُوَّهُ
وَأَخْلَاقُهُ تَنْأَى بِهِ وَتُخَالِفُ
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: سَمِعَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنِ ابْنِ السَّمَّاكِ وَكَتَبْتُ عَنْهُ، وَكَانَ ثِقَةً، وَلَمْ تَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَحَدًا أَفْقَهَ مِنْهُ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفِيَاتِ " عَنْهُ: وَعِنْدَمَا وَصَلَ إِلَى الدِّيَارِ

الْمِصْرِيَّةِ، وَحَصَلَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ، وَحَسُنَ حَالُهُ، مَرِضَ مِنْ أَكْلَةٍ اشْتَهَاهَا، فَذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَقَلَّبُ وَيَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، عِنْدَمَا عِشْنَا مِتْنَا. قَالَ: وَلَهُ أَشْعَارٌ رَائِقَةٌ طَرِيفَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَنَائِمَةٍ قَبَّلْتُهَا. فَتَنَبَّهَتْ فَقَالَتْ تَعَالَوْا وَاطْلُبُوا اللِّصَّ بِالْحَدِّ
فَقُلْتُ لَهَا إِنِّي فَدَيْتُكِ غَاصِبٌ وَمَا حَكَمُوا فِي غَاصِبٍ بِسِوَى الرَّدِّ
خُذِيهَا وَكُفِّي عَنْ أَثِيمٍ ظُلَامَةً وَإِنْ أَنْتِ لَمْ تَرْضِي فَأَلْفًا عَلَى الْعَدِّ
فَقَالَتْ قِصَاصٌ يَشْهَدُ الْعَقْلُ أَنَّهُ عَلَى كَبِدِ الْجَانِي أَلَذُّ مِنَ الشَّهْدِ
فَبَاتَتْ يَمِينِي وَهْيَ هِمْيَانُ خِصْرِهَا وَبَاتَتْ يَسَارِي وَهْيَ وَاسِطَةُ الْعِقْدِ
فَقَالَتْ أَلَمْ أُخْبَرْ بِأَنَّكَ زَاهِدٌ فَقُلْتُ بَلَى مَا زِلْتُ أَزْهَدُ فِي الزُّهْدِ
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ:
بَغْدَادُ دَارٌ لِأَهْلِ الْمَالِ طَيِّبَةٌ وَلِلْمَفَالِيسِ دَارُ الضَّنْكِ وَالضِّيقِ
ظَلَلْتُ حَيْرَانَ أَمْشِي فِي أَزِقَّتِهَا كَأَنَّنِي مُصْحَفٌ فِي بَيْتِ زِنْدِيقِ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي سَادِسِ الْمُحَرَّمِ اسْتَسْقَى أَهْلُ بَغْدَادَ لِتَأَخُّرِ الْمَطَرِ عَنْ أَوَانِهِ، فَلَمْ يُسْقَوْا، وَكَثُرَ الْمَوْتُ فِي النَّاسِ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ عَمِلَتِ الرَّوَافِضُ الْبِدْعَةَ الشَّنْعَاءَ، وَكَثُرَ النَّوْحُ وَالْبُكَاءُ، وَامْتَلَأَتْ بِذَلِكَ الطُّرُقَاتُ وَالْأَسْوَاقُ وَالْأَرْجَاءُ.
وَفِي صَفَرٍ أُمِرَ النَّاسُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الِاسْتِسْقَاءِ لِقُحُوطِ الْأَمْطَارِ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ بِاتِّسَاعِهَا مِائَةُ إِنْسَانٍ فِي الْجَوَامِعِ كُلِّهَا.
وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ الْجَيْشِ وَبَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، فَاتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى خُرُوجِهِ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَرَدَّ كَثِيرًا مِنْ جَوَارِيهِ إِلَى أُسْتَاذِهِنَّ قَبْلَهُ، وَاسْتَبْقَى بَعْضَهُنَّ مَعَهُ، وَخَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ سَادِسِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، وَكَتَبَ الْغِلْمَانُ الْأَسْفَهْسِلَارِيَّةُ إِلَى الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ ; لِيُقْدِمَ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ تَمَهَّدَتِ الْبِلَادُ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِنَادِ وَالْإِلْحَادِ، وَنَهَبُوا دَارَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَغَيْرَهَا، وَتَأَخَّرَ مَجِيءُ أَبِي كَالِيجَارَ، وَذَلِكَ أَنَّ وَزِيرَهُ الْعَادِلَ بْنَ مَافَنَّةَ أَشَارَ عَلَيْهِ بِعَدَمِ الْقُدُومِ إِلَى بَغْدَادَ

فَكَثُرَ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ، وَتَفَاقَمَ الْحَالُ بِهِمْ، وَفَسَدَ الْبَلَدُ، وَافْتَقَرَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ بِحَيْثُ إِنَّهُ احْتَاجَ إِلَى أَنْ بَاعَ بَعْضَ ثِيَابِهِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَجَعَلَ أَبُو كَالِيجَارَ يَتَوَهَّمُ مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَيَطْلُبُ مِنْهُمْ رَهَائِنَ، فَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ، وَطَالَ الْفَصْلُ، فَرَجَعُوا إِلَى مُكَاتَبَةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ، وَشَرَعُوا فِي الِاعْتِذَارِ إِلَيْهِ، وَخَطَبُوا لَهُ فِي الْبَلَدِ عَلَى عَادَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً إِلَى بَغْدَادَ، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الرُّسُلَ إِلَى الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَمِمَّنْ بَعَثَ إِلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ، يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَيَسْتَوْحِشُ مِنْهُ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَقَدْ تَحَمَّلَ أَمْرًا عَظِيمًا، فَسَأَلَ أَنْ يُلَقَّبَ بِالسُّلْطَانِ الْمُعَظَّمِ مَالِكِ الْأُمَمِ، فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا لَا يُمْكِنُ ; لِأَنَّ السُّلْطَانَ الْمُعَظَّمَ الْخَلِيفَةُ، وَكَذَلِكَ مَالِكُ الْأُمَمِ. ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى تَلْقِيبِهِ بِمَلِكِ الدَّوْلَةِ، فَأَرْسَلَ مَعَ الْمَاوَرْدِيِّ تُحَفًا عَظِيمَةً ; مِنْهَا أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ سَابُورِيَّةٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الدَّرَاهِمِ آلَافٌ، وَتُحَفٌ وَأَلْطَافٌ. وَاجْتَمَعَ الْجُنْدُ عَلَى طَلَبِ أَرْزَاقِهِمْ مِنَ الْخَلِيفَةِ، فَتَعَذَّرَ ذَلِكَ، فَرَامُوا أَنْ يَقْطَعُوا خُطْبَتَهُ، فَلَمْ تُصَلَّ الْجُمُعَةُ فِي هَذَا الْوَقْتِ، ثُمَّ خُطِبَ لَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ الْقَابِلَةِ، وَتَخَبَّطَ الْبَلَدُ جِدًّا وَكَثُرَ الْعَيَّارُونَ.
ثُمَّ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ حَلَفَ الْخَلِيفَةُ لِجَلَالِ الدَّوْلَةِ بِخُلُوصِ النِّيَّةِ وَصَفَائِهَا، وَأَنَّهُ عَلَى مَا يُحِبُّ مِنَ الصِّدْقِ وَصَلَاحِ النِّيَّةِ وَالسَّرِيرَةِ، ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ لَعِبِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَشُرْبِهِ النَّبِيذَ وَتَهَتُّكِهِ بِهِ، ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَاصْطَلَحَا عَلَى فَسَادٍ.
وَفِي رَجَبٍ غَلَتِ الْأَسْعَارُ جِدًّا بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنْ أَرَاضِي الْعِرَاقِ، وَلَمْ يَحُجَّ

أَحَدٌ مِنْهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ مُوتَانٌ عَظِيمٌ بِبِلَادِ الْهِنْدِ وَغَزْنَةَ وَخُرَاسَانَ وَجُرْجَانَ وَالرَّيِّ وَأَصْبَهَانَ، خَرَجَ مِنْهَا فِي أَدْنَى مُدَّةٍ أَرْبَعُونَ أَلْفَ جِنَازَةٍ، وَفِي نَوَاحِي الْجَبَلِ وَالْمَوْصِلِ وَبَغْدَادَ طَرَفٌ قَوِيٌّ مِنْ ذَلِكَ بِالْجُدَرِيِّ، بِحَيْثُ لَمَّ تَخْلُ دَارٌ مِنْ مُصَابٍ بِهِ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِي حَزِيرَانَ وَتَمُّوزَ وَآبَ وَأَيْلُولَ وَتِشْرِينَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَكَانَ فِي الصَّيْفِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْخَرِيفِ. قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ". وَقَدْ رَأَى رَجُلٌ فِي مَنَامِهِ مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُنَادِيًا يُنَادِي بِصَوْتٍ جَهْوَرِيٍّ: يَا أَهْلَ أَصْبَهَانَ سَكَتَ، نَطَقَ، سَكَتَ، نَطَقَ. فَانْتَبَهَ الرَّجُلُ مَذْعُورًا، فَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ تَأْوِيلَهَا، حَتَّى قِيلَ ذَلِكَ لِرَجُلٍ لَبِيبٍ، فَقَالَ: احْذَرُوا يَا أَهْلَ أَصْبَهَانَ فَإِنِّي قَرَأْتُ فِي شِعْرِ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ قَوْلَهُ:
سَكَتَ الدَّهْرُ زَمَانًا عَنْهُمُ ثُمَّ أَبْكَاهُمُ دَمًا حِينَ نَطَقْ
فَمَا كَانَ غَيْرَ قَلِيلٍ حَتَّى جَاءَ الْمَلِكُ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، حَتَّى قَتَلَ النَّاسَ فِي الْجَوَامِعِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَفَرَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ بِالْخَادِمِ صَنْدَلٍ، فَقَتَلَهُ، وَكَانَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى مَمْلَكَتِهِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى الِاسْمِ، فَاسْتَرَاحَ مِنْهُ.
وَفِيهَا مَاتَ مَلِكُ التُّرْكِ الْكَبِيرُ صَاحِبُ بِلَادِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَاسْمُهُ قَدْرَخَانُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

رَوْحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِّيُّ
قَالَ الْخَطِيبُ: سَمِعَ جَمَاعَةً، وَقِدَمَ عَلَيْنَا حَاجًّا فَكَتَبْتُ عَنْهُ، وَكَانَ صَدُوقًا فَهِمَا أَدِيبًا، يَتَفَقَّهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَوَلِيِ قَضَاءَ أَصْبَهَانَ. قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُ مَاتَ بِالْكَرْخِ سَنَةَ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نُعَيْمٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالنُّعَيْمِيِّ، الْحَافِظُ الشَّاعِرُ الْمُّتَكَلِّمُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ. قَالَ الْبَرْقَانِيُّ: هُوَ كَامِلٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَوْلَا بَأْوٌ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعَ عَلَى جَمَاعَةٍ.
وَمِنْ شَعْرِهِ قَوْلُهُ:
إِذَا أَظْمَأَتْكَ أَكُفُّ اللِّئَامِ كَفَتْكَ الْقَنَاعَةُ شِبْعًا وَرِيَّا فَكُنْ رَجُلًا رِجْلُهُ فِي الثَّرَى
وَهَامَةُ هِمَّتِهِ فِي الثُّرَيَّا أَبِيًّا لِنَائِلِ ذِي ثَرْوَةٍ
تَرَاهُ بِمَا فِي يَدَيْهِ أَبِيَّا فَإِنَّ إِرَاقَةَ مَاءِ الْحَيَا
ةِ دُونَ إِرَاقَةِ مَاءِ الْمُحَيَّا

مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مُوسَى، أَبُو بَكْرٍ الصَّبَّاغُ
حَدَّثَ عَنِ النَّجَّادِ وَأَبِي بَكْرٍ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ صَدُوقًا، وَقَدْ حَكَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّهُ تَزَوَّجَ تِسْعَمِائَةِ امْرَأَةٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَلِيُّ بْنُ هِلَالٍ
الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ، ذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ. كَمَا قَدَّمْنَا.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا تَفَاقَمَ الْحَالُ بِأَمْرِ الْعَيَّارِينَ، وَتَزَايَدَ أَمْرُهُمْ وَأَخْذُهُمُ الْعَمَلَاتِ، وَقَوِيَ أَمْرُ مُقَدِّمِهِمِ الْبُرْجُمِيِّ، وَقَتَلَ صَاحِبَ الشُّرْطَةِ غِيلَةً، وَتَوَاتَرَتِ النُّهُبَاتُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَاحْتَفَظَ النَّاسُ بِدُورِهِمْ وَحَرَسُوهَا حَتَّى دَارَ الْخَلِيفَةِ وَسُورَ الْبَلَدِ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ بِهِمْ جِدًّا، وَكَانَ مِنْ شَأْنِ هَذَا الْبُرْجُمِيِّ أَنَّهُ لَا يُؤْذِي امْرَأَةً، وَلَا يَأْخُذُ مِمَّا عَلَيْهَا شَيْئًا، وَهَذِهِ مُرُوءَةٌ فِي الظُّلْمِ، فَيُقَالُ لَهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ
وَفِيهَا أَخَذَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ الْبَصْرَةَ وَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَلَدَهُ الْعَزِيزَ، فَأَقَامَ بِهَا الْخُطْبَةَ لِأَبِيهِ، وَقُطِعَتْ مِنْهَا خُطْبَةُ أَبِي كَالِيجَارَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَالَّتِي بَعْدَهَا، ثُمَّ اسْتُرْجِعَتْ مِنْ يَدِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا وَلَدَهُ، وَرَجَعَتِ الْخُطْبَةُ لِأَبِي كَالِيجَارَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَارَتِ الْأَتْرَاكُ بِالْمَلِكِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ ; لِتَأَخُّرِ أَرْزَاقِهِمْ، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ دَارِهِ، وَرَسَمُوا عَلَيْهِ فِي مَسْجِدِهِ، وَأُخْرِجَتْ حَرِيمُهُ، فَذَهَبَ

فِي اللَّيْلِ إِلَى دَارِ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى فَنَزَلَ بِهَا، ثُمَّ اصْطَلَحَتِ الْأَتْرَاكُ عَلَيْهِ، وَحَلَفُوا لَهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَرَجَعَ إِلَى دَارِهِ، وَكَثُرَتِ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ، وَاسْتَطَالُوا عَلَى النَّاسِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَسِرًّا وَجِهَارًا، وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ هَذِهِ السَّنَةَ ; لِفَسَادِ الْبِلَادِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو الْحُسَيْنِ
الْوَاعِظُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّمَّاكِ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ جَعْفَرًا الْخُلْدِيَّ وَغَيْرَهُ، وَكَانَ يَعِظُ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ وَجَامِعِ الْمَهْدِيِّ، وَيَتَكَلَّمُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ فِيهِ وَنَسَبَ إِلَيْهِ الْكَذِبَ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا السُّلْطَانُ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ الْهِنْدِ، وَفَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً، فَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ حَاصَرَ قَلْعَةً حَصِينَةً، فَخَرَجَتْ مِنَ السُّورِ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ سَاحِرَةٌ، وَأَخَذَتْ مِكْنَسَةً فَبَلَّتْهَا وَرَشَّتْهَا عَلَى نَاحِيَةِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَرِضَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَرَضًا شَدِيدًا، فَارْتَحَلَ عَنْ تِلْكَ الْقَلْعَةِ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّ ذَاهِبًا عَنْهَا عُوفِيَ عَافِيَةً كَامِلَةً، وَرَجَعَ إِلَى غَزْنَةَ سَالِمًا.
وَفِيهَا تَوَلَّى الْبَسَاسِيرِيُّ حِمَايَةَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَادَ لَمَّا تَفَاقَمَ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ، وَكَثُرَ سِرُّهُمْ وَفَسَادُهُمْ.
وَفِيهَا وَلِيَ سِنَانُ بْنُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ غَرِيبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَقْنٍ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ، فَقَصَدَ عَمَّهُ قِرْوَاشًا، فَأَقَرَّهُ وَسَاعَدَهُ عَلَى اسْتِقَامَةِ أُمُورِهِ.
وَفِيهَا هَلَكَ مَلِكُ الرُّومِ أَرْمَانُوسُ، فَمَلَكَهُمْ مِنْ بَعْدِهِ رَجُلٌ لَيْسَ مِنْ بَيْتِ مُلْكِهِمْ، قَدْ كَانَ صَيْرَفِيًّا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، إِلَّا أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ

بَانِي الْمَدِينَةِ الَّتِي لَهُمْ.
وَفِيهَا كَثُرَتِ الزَّلَازِلُ بِمِصْرَ وَالشَّامِ، فَهَدَمَتْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَمَاتَ تَحْتَ الرَّدْمِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَانْهَدَمَ مِنَ الرَّمْلَةِ ثُلُثُهَا، وَتَقَطَّعَ جَامِعُهَا تَقْطِيعًا، وَخَرَجَ أَهْلُهَا مِنْهَا، فَأَقَامُوا ظَاهِرَهَا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ سَكَنَ الْحَالُ فَعَادُوا إِلَيْهَا، وَسَقَطَ بَعْضُ حَائِطِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَوَقَعَ مِنْ مِحْرَابِ دَاوُدَ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ، وَمِنْ مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ قِطْعَةٌ، وَسَلَّمَتِ الْحُجْرَةُ، وَسَقَطَتْ مَنَارَةُ عَسْقَلَانَ وَرَأْسُ مَنَارَةِ غَزَّةَ وَسَقَطَ نِصْفُ بُنْيَانِ نَابُلُسَ وَخُسِفَ بِقَرْيَةٍ بِإِزَائِهَا وَبِأَهْلِهَا وَبَقَرِهَا وَغَنَمِهَا، وَسَاخَتْ فِي الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ قُرًى كَثِيرَةٌ هُنَالِكَ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
وَكَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَعَصَفَتْ رِيحٌ سَوْدَاءُ بِنَصِيبِينَ، فَأَلْقَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَشْجَارِ كَالتُّوتِ وَالْجَوْزِ وَالْعُنَّابِ، وَاقْتَلَعَتْ قَصْرًا مُشَيَّدًا بِحِجَارَةٍ وَآجُرٍّ وَكِلْسٍ، ثُمَّ سَقَطَ مَطَرٌ مَعَهُ بَرَدٌ أَمْثَالُ الْأَكُفِّ وَالزُّنُودِ وَالْأَصَابِعِ، وَجَزَرَ الْبَحْرُ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ ثَلَاثَةَ فَرَاسِخَ، فَذَهَبَ النَّاسُ خَلْفَ السَّمَكِ، فَرَجَعَ الْمَاءُ عَلَيْهِمْ، فَهَلَكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ.
وَفِيهَا كَثُرَ الْمَوْتُ بِالْخَوَانِيقِ، حَتَّى كَانَ يُغْلَقُ الْبَابُ عَلَى مَنْ فِي الدَّارِ، كُلُّهُمْ قَدْ مَاتَ، وَكَانَ أَكْثَرُ ذَلِكَ بِبَغْدَادَ، فَمَاتَ مِنْ أَهْلِهَا فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ

سَبْعُونَ أَلْفًا.
وَفِيهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالرَّوَافِضِ، حَتَّى بَيْنَ الْعَيَّارِينَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَمَنَعَ ابْنَا الْأَصْبِهَانِيِّ - وَهُمَا مُقَدَّمَا عَيَّارِي أَهْلِ السُّنَّةِ - أَهْلَ الْكَرْخِ مِنْ وُرُودِ مَاءِ دِجْلَةَ، فَضَاقَ عَلَيْهِمُ النِّطَاقُ. وَقُتِلَ ابْنُ الْبُرْجُمِيِّ وَأَخُوهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ غَالِبٍ الْحَافِظُ، أَبُو بَكْرٍ
الْمَعْرُوفُ بِالْبَرْقَانِيِّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ إِلَى الْبِلَادِ، وَجَمَعَ كُتُبًا كَثِيرَةً جِدًّا، وَكَانَ عَالِمًا بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالنَّحْوِ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي الْحَدِيثِ حَسَنَةٌ نَافِعَةٌ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: إِذَا مَاتَ الْبَرْقَانِيُّ ذَهَبَ هَذَا الشَّأْنُ، وَمَا رَأَيْتُ أَتْقَنَ مِنْهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَا رَأَيْتُ أَعْبَدَ مِنْهُ فِي أَهْلِ الْحَدِيثِ. تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ مُسْتَهَلِّ رَجَبٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى الْهَاشِمِيُّ، وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ الْجَامِعِ بِبَغْدَادَ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ شَعْرِهِ قَوْلَهُ:
أُعَلِّلُ نَفْسِي بِكَتْبِ الْحَدِيثِ وَأَحْمِلُ فِيهِ لَهَا الْمَوْعِدَا

وَأَشْغَلُ نَفْسِي بِتَصْنِيفِهِ
وَتَخْرِيجِهِ دَائِمًا سَرْمَدَا فَطَوْرًا أُصَنِّفُهُ فِي الشُّيُو
خِ وَطَوْرًا أُصَنِّفُهُ مُسْنَدَا وَأَقْفُو الْبُخَارِيَّ فِيمَا نَحَا
هُ وَصَنَّفَهُ جَاهِدًا مُجْهَدَا وَمُسْلِمَ إِذْ كَانَ زَيْنَ الْأَنَامِ
بِتَصْنِيفِهِ مُسْلِمًا مُرْشِدَا وَمَا لِيَ فِيهِ سِوَى أَنَّنِي
أَرَاهُ هَوًى صَادَفَ الْمَقْصِدَا وَأَرْجُو الثَّوَابَ بِكَتْبِ الصَّلَا
ةِ عَلَى السَّيِّدِ الْمُصْطَفَى أَحَمَدَا وَأَسْأَلُ رَبِّي إِلَهَ الْعِبَا
دِ جَرْيًا عَلَى مَا بِهِ عَوَّدَا
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ، أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَبِيوَرْدِيُّ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، مِنْ تَلَامِيذِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، كَانَتْ لَهُ حَلْقَةٌ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ لَلْفُتْيَا، وَكَانَ يُدَرِّسُ فِي قَطِيعَةِ الرَّبِيعِ، وَوَلِيَ الْحُكْمَ بِبَغْدَادَ نِيَابَةً عَنِ ابْنِ الْأَكْفَانِيِّ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، جَمِيلَ الطَّرِيقَةِ، فَصِيحَ اللِّسَانِ، صَبُورًا عَلَى الْفَقْرِ، كَاتِمًا لَهُ، وَكَانَ يَقُولُ الشِّعْرَ الْجَيِّدَ، وَكَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [ الْبَقَرَةِ: 273 ]. تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ حَرْبٍ.
أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ، الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى، الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، وَتِلْمِيذُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَيْضًا، وَلَمْ

يَكُنْ فِي أَصْحَابِهِ مِثْلُهُ، دَرَّسَ وَأَفْتَى وَحَكَمَ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ دَيِّنًا وَرِعًا. تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا.
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ، أَبُو الْفَرَجِ التَّمِيمِيُّ
الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ الْوَاعِظُ، سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ أَثَرًا مُسَلْسَلًا عَنْ عَلِيٍّ: الْحَنَّانُ الَّذِي يُقْبِلُ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَالْمَنَّانُ الَّذِي يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ. تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
غَرِيبُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَقْنٍ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، أَبُو سِنَانٍ
كَانَ قَدْ ضَرَبَ السِّكَّةَ بِاسْمِهِ، وَكَانَ مَلِكًا مُتَمَكِّنًا فِي الدَّوْلَةِ، وَخَلَّفَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقَامَ ابْنُهُ سِنَانٌ بَعْدَهُ، وَتَقَوَّى بِعَمِّهِ قِرْوَاشٍ، وَاسْتَقَامَتْ أُمُورُهُ بِهِ، تُوُفِّيَ بِكَرْخِ سَابُورَ عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ كَثُرَ تَرَدُّدُ الْأَعْرَابِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ إِلَى حَوَاشِي بَغْدَادَ وَمَا حَوْلَهَا، بِحَيْثُ كَانُوا يَسْتَلِبُونَ مَا عَلَى النِّسَاءِ، وَمَنْ أَسَرُوهُ أَخَذُوا مَا مَعَهُ وَطَالَبُوهُ بِفِدَاءِ نَفْسِهِ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ بِبَغْدَادَ، وَكَثُرَتْ شُرُورُهُمْ وَإِفْسَادُهُمْ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ زَادَتْ دِجْلَةُ بِحَيْثُ ارْتَفَعَ الْمَاءُ عَلَى الضَّيَاعِ ذِرَاعَيْنِ، وَسَقَطَ مِنَ الْبَصْرَةِ فِي مُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ نَحْوٌ مَنْ أَلْفَيْ دَارٍ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ بِأَنَّهُ قَدْ فَتَحَ فَتْحًا عَظِيمًا فِي الْهِنْدِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَأَسَرَ تِسْعِينَ أَلْفًا، وَغَنِمَ شَيْئًا كَثِيرًا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ أَهْلِ بَغْدَادَ وَالْعَيَّارِينَ، وَوَقَعَ حَرِيقٌ كَثِيرٌ فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا، وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَلَا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ فِي هَذَا الْعَامِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ كُلَيْبٍ الشَّاعِرُ
أَحَدُ مَنْ هَلَكَ بِالْعِشْقِ، رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " بِسَنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيْدِيِّ بِسَنَدِهِ: أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ كُلَيْبٍ هَذَا الْمِسْكِينَ الْعَثَرِيَّ تَعَشَّقَ شَابًّا يُقَالُ لَهُ: أَسْلَمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ، مِنْ بَنِي خَالِدٍ، وَكَانَ فِيهِمْ وِزَارَةٌ وَحِجَابَةٌ، فَأَنْشَدَ فِيهِ أَشْعَارًا تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَا، وَكَانَ أَسْلَمُ هَذَا يَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي مَجَالِسِ الْمَشَايِخِ، فَاسْتَحْيَا مِنَ النَّاسِ وَانْقَطَعَ فِي دَارِهِ، فَلَا يَجْتَمِعُ بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَازْدَادَ غَرَامُ ابْنِ كُلَيْبٍ بِهِ حَتَّى مَرِضَ مِنْ ذَلِكَ مَرَضًا شَدِيدًا، عَادَهُ النَّاسُ مِنْهُ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ عَادَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ، فَسَأَلَهُ عَنْ مَرَضِهِ فَقَالَ: أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ دَائِي وَدَوَائِي، لَوْ زَارَنِي أَسْلَمُ، وَنَظَرَ إِلَيَّ نَظْرَةً، وَنَظَرْتُهُ نَظْرَةً وَاحِدَةً بَرِئْتُ، وَإِلَّا فَأَنَا هَالِكٌ. فَرَأَى ذَلِكَ الشَّيْخُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَنْ لَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَزُورَهُ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً مُخْتَفِيًا، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى انْطَلَقَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَا دَرْبَهُ تَغَيَّرَ الْغُلَامُ وَاسْتَحْيَا مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ جِدًّا،

وَرَجَعَ، فَحَرَصَ بِهِ الرَّجُلُ كُلَّ الْحِرْصِ لِيُدْخِلَهُ عَلَيْهِ، فَأَبَى وَانْصَرَفَ، فَدَخَلَ الرَّجُلُ عَلَى ابْنِ كُلَيْبٍ، فَذَكَرَ لَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، وَقَدْ كَانَ غُلَامُهُ دَخَلَ إِلَيْهِ فَبَشَّرَهُ بِقُدُومِ أَسْلَمَ عَلَيْهِ، فَفَرِحَ جِدًّا، فَلَمَّا تَحَقَّقَ رُجُوعَهُ اخْتَلَطَ كَلَامُهُ وَاضْطَرَبَ فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: اسْمَعْ يَا أَبَا عَبْدَ اللَّهِ مِنِّي وَاحْفَظْ عَنِّي. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
أَسْلَمُ يَا رَاحَةَ الْعَلِيلِ رَفْقًا عَلَى الْهَائِمِ النَّحِيلِ وَصْلُكَ أَشْهَى إِلَى فُؤَادِي
مِنْ رَحْمَةِ الْخَالِقِ الْجَلِيلِ
فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: اتَّقِ اللَّهَ، مَا هَذِهِ الْعَظِيمَةُ ؟! فَقَالَ: قَدْ كَانَ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ عِنْدِهِ، فَمَا تَوَسَّطَ الدَّرْبَ حَتَّى سَمِعَ الصُّرَاخَ عَلَيْهِ، وَقَدْ فَارَقَ الدُّنْيَا.
وَهَذِهِ زَلَّةٌ شَنْعَاءُ، وَعَظِيمَةٌ صَلْعَاءُ، وَدَاهِيَةٌ دَهْيَاءُ، وَلَوْلَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ ذَكَرُوهَا مَا ذَكَرْتُهَا، وَلَكِنَّ فِيهَا عِبْرَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَتَنْبِيهٌ لِذَوِي الْعُقُولِ أَنْ يَسْأَلُوا اللَّهَ رَحْمَتَهُ وَلُطْفَهُ بِهِمْ أَنْ يُثَبِّتَهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ عِنْدَ الْمَمَاتِ، إِنَّهُ كَرِيمٌ جَوَّادٌ.
قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: وَأَنْشَدَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَنْشَدَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّحْوِيُّ لِأَحْمَدَ بْنِ كُلَيْبٍ، وَقَدْ أَهْدَى إِلَى أَسْلَمَ كِتَابَ

" الْفَصِيحِ " لِثَعْلَبَ:
هَذَا كِتَابُ الُفَصِيحِ بَكُلِّ لَفْظٍ مَلِيحِ
وَهَبْتُهُ لَكَ طَوْعًا كَمَا وَهَبْتُكَ رُوحِي
الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شَاذَانَ بْنِ حَرْبِ بْنِ مِهْرَانَ، أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ الْبَزَّازُ
أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا، جَاءَهُ يَوْمًا شَابٌّ غَرِيبٌ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لِي: اذْهَبْ إِلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَاذَانَ فَسَلْ عَلَيْهِ، وَأُقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ. ثُمَّ انْصَرَفَ الشَّابُّ، فَبَكَى الشَّيْخُ، وَقَالَ: مَا أَعْلَمُ لِي عَمَلًا أَسْتَحِقُّ بِهِ هَذَا غَيْرَ صَبْرِي عَلَى إِسْمَاعِ الْحَدِيثِ، وَصَلَاتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا ذُكِرَ. ثُمَّ تُوُفِّيَ بَعْدَ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَا، فِي مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ الدَّيْرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَسَنُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَوْرَةَ، أَبُو عُمَرَ الْوَاعِظُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْفَلْوِ
سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ جَمَاعَةٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ يَعِظُ، وَلَهُ بَلَاغَةٌ، وَفِيهِ كَرَمٌ، وَكَانَ ثِقَةً يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ،

وَمِنْ شَعْرِهِ:
دَخَلْتُ عَلَى السُّلْطَانِ فِي دَارِ عِزِّهِ بِفَقْرٍ وَلَمْ أُجْلِبْ بَخِيلٍ وَلَا رَجْلِ
وَقُلْتُ انْظُرُوا مَا بَيْنَ فَقْرِي وَمُلْكِكُمْ بِمِقْدَارِ مَا بَيْنَ الْوِلَايَةِ وَالْعَزْلِ
تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ، وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ حَرْبٍ إِلَى جَانِبِ ابْنِ السَّمَّاكِ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ تَكَامَلَتْ عِمَارَةُ قَنْطَرَةِ عِيسَى الَّتِي كَانَتْ قَدْ سَقَطَتْ، وَكَانَ الَّذِي يَلِي مُشَارَفَةَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْقُدُورِيُّ الْحَنَفِيُّ.
وَفِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ تَفَاقَمَ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ، وَكَبَسُوا الدُّورَ، وَتَزَايَدَ شَرُّهُمْ وَعَمَلَاتُهُمْ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ صَاحِبُ مِصْرَ الظَّاهِرُ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحَاكِمِ بْنِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَأَشْهَرٌ، وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَتِهِ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَتْ سِيرَتُهُ جَيِّدَةً، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ الْمُسْتَنْصِرُ، وَعُمُرُهُ سَبْعُ سِنِينَ، وَاسْمُهُ مَعَدٌّ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو تَمِيمٍ، وَتَكَفَّلَ

بِأَعْبَاءِ الْمَمْلَكَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ الْأَفْضَلُ أَمِيرُ الْجُيُوشِ، وَاسْمُهُ بَدْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجَمَالِيُّ، وَكَانَ الظَّاهِرُ الْمَذْكُورُ قَدِ اسْتَوْزَرَ الصَّاحِبَ أَبَا الْقَاسِمِ عَلِيَّ بْنَ أَحْمَدَ الْجَرْجَرَائِيَّ - وَكَانَ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ مِنَ الْمِرْفِقَيْنِ - فِي سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، فَاسْتَمَرَّ فِي الْوِزَارَةِ مُدَّةَ وِلَايَةِ الظَّاهِرِ، ثُمَّ لِوَلَدِهِ الْمُسْتَنْصِرِ، حَتَّى تُوُفِّيَ الْوَزِيرُ الْجَرْجَرَائِيُّ الْمَذْكُورُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَكَانَ قَدْ سَلَكَ فِي وِزَارَتِهِ الْعِفَّةَ الْعَظِيمَةَ، وَكَانَ الَّذِي يُعَلِّمُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُضَاعِيُّ صَاحِبُ كِتَابِ " الشِّهَابِ "، وَكَانَتْ عَلَامَتَهُ عَنْهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرًا لِنِعْمَتِهِ. وَكَانَ الَّذِي قَطَعَ يَدَيْهِ مِنَ الْمِرْفِقَيْنِ الْحَاكِمُ ; لِخِيَانَةٍ ظَهَرَتْ مِنْهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ سَنَةَ تِسْعٍ، فَلَمَّا فُقِدَ الْحَاكِمُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، ثُمَّ تَمَلَّكَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ الظَّاهِرُ الْمَذْكُورُ، تَنَقَّلَتْ بِالْجَرْجَرَائِيِّ الْمَذْكُورِ الْأَحْوَالُ حَتَّى اسْتَوْزَرَ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ هَجَاهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ:
يَا أَحْمَقًا اسْمَعْ وَقُلْ وَدَعِ الرَّقَاعَةَ وَالتَّحَامُقْ أَأَقَمْتَ نَفْسَكَ فِي الثِّقَا
تِ وَهَبْكَ فِيمَا قُلْتَ صَادِقْ فَمِنَ الْأَمَانَةِ وَالتُّقَى
قُطِعَتْ يَدَاكَ مِنَ الْمَرَافِقْ

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعَالِبِيُّ
وَيُقَالُ: الثَّعْلَبِيُّ - وَهُوَ لَقَبٌ

أَيْضًا وَلَيْسَ بِنِسْبَةٍ - النَّيْسَابُورِيُّ الْمُفَسِّرُ الْمَشْهُورُ، لَهُ " التَّفْسِيرُ الْكَبِيرُ "، وَلَهُ كِتَابُ " الْعَرَائِسِ " فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ، وَاسِعَ السَّمَاعِ ; وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كُتُبِهِ مِنَ الْغَرَائِبِ شَيْءٌ كَثِيرٌ. ذَكَرَهُ عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْفَارِسِيُّ فِي " تَارِيخِ نَيْسَابُورَ " وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: هُوَ صَحِيحُ النَّقْلِ مَوْثُوقٌ بِهِ. تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا، وَرُئِيَتْ لَهُ مَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ، وَقَالَ السَّمْعَانِيُّ: وَنَيْسَابُورُ كَانَتْ مَقْصَبَةً، فَأَمَرَ سَابُورُ الثَّانِي بِبِنَائِهَا مَدِينَةً، وَ " نَيْ " هُوَ الْقَصَبُ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا خَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى أَبِي تَمَامٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الزَّيْنَبِيِّ، وَقَلَّدَهُ مَا كَانَ إِلَى أَبِيهِ مِنْ نِقَابَةِ الْعَبَّاسِيِّينَ وَالصَّلَاةِ.
وَفِيهَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الْجُنْدِ وَبَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَقَطَعُوا خُطْبَتَةُ وَخُطْبَةَ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، ثُمَّ أَعَادُوا الْخُطْبَةَ لَهُمَا وَصَلَحَتْ حَالُ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَحَلَفَ الْخَلِيفَةُ لَهُ وَعَزَلَ وَزِيرَهُ ابْنَ مَاكُولَا وَاسْتَوْزَرَ أَبَا الْمَعَالِي بْنَ عَبْدِ الرَّحِيمِ. وَكَانَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ قَدْ جَمَعَ خَلْقًا كَثِيرًا مَعَهُ، مِنْهُمُ الْبَسَاسِيرِيُّ، وَدُبَيْسُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ، وَقِرْوَاشُ بْنُ مُقَلَّدٍ الْعُقَيْلِيُّ، وَنَازَلَ بَغْدَادَ مِنْ جَانِبِهَا الْغَرْبِيِّ حَتَّى أَخَذَهَا قَهْرَا، وَاصْطَلَحَ هُوَ وَأَبُو كَالِيجَارَ عَلَى يَدَيْ أَقَضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيِّ، وَتَزَوَّجَ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ أَبِي كَالِيجَارَ بِابْنَةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ عَلَى صَدَاقِ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمَا، وَحَسُنَ حَالُ الدَّوْلَةِ.
وَفِيهَا نَزَلَ مَطَرٌ بِبِلَادِ فَمِ الصُّلْحِ وَمَعَهُ سَمَكٌ، وَزْنُ السَّمَكَةِ رَطْلٌ وَرَطْلَانِ.

وَفِيهَا بَعَثَ صَاحِبُ مِصْرَ بِمَالٍ لِيُنْفَقَ عَلَى نَهْرٍ بِالْكُوفَةِ إِنْ أَذِنَ الْخَلِيفَةُ الْعَبَّاسِيُّ فِي ذَلِكَ، فَجَمَعَ الْقَائِمُ بِاللَّهِ الْفُقَهَاءَ، وَسَأَلَهُمُ عَنْ هَذَا الْمَالِ، فَأَفْتَوْا بِأَنَّ هَذَا الْمَالَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِمْ، فَأَذِنَ فِي صَرْفِهِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَفِيهَا ثَارَ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ، وَفَتَحُوا السِّجْنَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَأَخَذُوا مِنْهُ رِجَالًا، وَقَتَلُوا مِنْ رِجَالَةِ الشُّرَطِ سَبْعَةَ عَشْرَ رَجُلًا، وَانْتَشَرَتِ الْفِتَنُ وَالشُّرُورُ فِي الْبَلَدِ جِدًّا.
وَفِيهَا وَلِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ سَلَامَةَ إِمَارَةَ تِهَامَةَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَفِيهَا وَلِيَ عُمَانَ الْقَاسِمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُكْرَمٍ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ أَيْضًا. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ; لِفَسَادِ الْبِلَادِ وَاخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْقُدُورِيُّ الْحَنَفِيُّ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أَبُو الْحُسَيْنِ الْقُدُورِيُّ
قَالَ الْخَطِيبُ: سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَوْشَبِيِّ، وَلَمْ

يُحَدِّثْ إِلَّا بِشَيْءٍ يَسِيرٍ، كَتَبْتُ عَنْهُ، وَكَانَ صَدُوقًا، وَكَانَ مِمَّنْ أَنْجَبَ فِي الْفِقْهِ ; لِذَكَائِهِ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ فِي الْعِرَاقِ رِيَاسَةُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَارْتَفَعَ جَاهُهُ. وَكَانَ بَرَّزَ فِي الْقِرَاءَاتِ. تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَحَدِ الْخَامِسِ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِدَارِهِ فِي دَرْبِ خَلَفٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَسَنُ بْنُ شِهَابِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، أَبُو عَلِيٍّ الْعُكْبَرِيُّ، الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ الشَّاعِرُ
وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، سَمِعَ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا، كَمَا قَالَ الْبَرْقَانِيُّ، وَكَانَ يَسْتَرْزِقُ مِنَ الْوِرَاقَةِ - وَهُوَ النَّسْخُ - يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ دِيوَانَ الْمُتَنَبِّي فِي ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَيَبِيعُهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنْ تَرِكَتِهِ أَلْفَ دِينَارٍ سِوَى الْأَمْلَاكِ، وَكَانَ قَدْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فِي نَفَقَةِ الْحَنَابِلَةِ، فَلَمْ يُصْرَفْ ذَلِكَ.
لُطْفُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى، أَبُو الْفَضْلِ الْهَاشِمِيُّ
وَلِيَ الْقَضَاءَ

وَالْخَطَابَةَ بِدَرْزِيجَانَ، وَكَانَ ذَا لِسَانٍ، وَقَدْ أَضَرَّ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَكَانَ يَرْوِي حِكَايَاتٍ وَأَنَاشِيدَ مِنْ حَفْظِهِ، وَتُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُوسَى، عِيسَى بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمَطْلَبِ، أَبُو عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ
الْقَاضِي، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى، أَبُو الْحَسَنِ الْأَهْوَازِيُّ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيِّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ وَخَرَّجَ لَهُ أَبُو الْحَسَنِ النُّعَيْمِيُّ أَجْزَاءَ مِنْ حَدِيثِهِ، فَسَمِعَ مِنْهُ الْبَرْقَانِيُّ، إِلَّا أَنَّهُ بَانَ كَذِبُهُ، حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ جِرَابَ الْكَذِبِ. أَقَامَ بِبَغْدَادَ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.

مِهْيَارُ الدَّيْلَمِيُّ الشَّاعِرُ، مِهْيَارُ بْنُ مَرْزَوَيْهِ، أَبُو الْحَسَنِ
الْكَاتِبُ الْفَارِسِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ: الدَّيْلَمِيُّ. كَانَ مَجُوسِيًّا فَأَسْلَمَ، إِلَّا أَنَّهُ سَلَكَ سَبِيلَ الرَّافِضَةِ، فَكَانَ يُنَظِّمُ الشِّعْرَ الْقَوِيَّ الْفَحْلَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ مِنْ سَبِّ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ لَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بُرْهَانَ: يَا مِهْيَارُ، انْتَقَلْتَ مِنْ زَاوِيَةٍ فِي النَّارِ إِلَى زَاوِيَةٍ أُخْرَى ; كُنْتَ مَجُوسِيًّا، فَأَسْلَمْتَ، فَصِرْتَ تَسُبُّ الصَّحَابَةَ. وَقَدْ كَانَ مَنْزِلُهُ بِدَرْبِ رَبَاحٍ مِنَ الْكَرْخٍ، وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ كَبِيرٌ مَشْهُورٌ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
أَسْتَنْجِدُ الصَّبْرَ فِيكُمْ وَهْوَ مَغْلُوبُ وَأَسْأَلُ النَّوْمَ عَنْكُمْ وَهْوَ مَسْلُوبُ وَأَبْتَغِي عِنْدَكُمْ قَلْبًا سَمَحْتُ بِهِ
وَكَيْفَ يُرْجِعُ شَيْءٌ وَهْوَ مَوْهُوبُ مَا كُنْتُ أَعْرِفُ مَا مِقْدَارُ وَصْلِكُمُ
حَتَّى هَجَرْتُمْ وَبَعْضُ الْهَجْرِ تَأْدِيبُ
وَلِمِهْيَارَ أَيْضًا قَوْلُهُ:
أَجَارَتَنَا بِالْغَوْرِ وَالرَّكْبُ مُتَّهَمُ أَيَعْلَمُ خَالٍ كَيْفَ بَاتَ الْمُتَيَّمُ
رَحَلْتُمْ وَعُمْرُ اللَّيْلِ فِينَا وَفِيكُمُ سَوَاءٌ وَلَكِنْ سَاهِرُونَ وَنُوَّمُ
بِنَا أَنْتُمْ مِنْ ظَاعِنِينَ وَخَلَّفُوا قُلُوبًا أَبَتْ أَنْ تَعْرِفَ الصَّبْرَ عَنْهُمُ
وَلَمَّا جَلَا التَّوْدِيعُ عَمَّا حَذِرْتُهُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا نَظْرَةٌ تَتَغَنَّمُ
بَكَيْتُ عَلَى الْوَادِي فَحَرَّمْتُ مَاءَهُ وَكَيْفَ يَحِلُّ الْمَاءُ أَكْثَرُهُ دَمُ

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَمَّا كَانَ شِعْرُهُ كُلُّهُ جَيِّدًا اقْتَصَرْتُ مِنْهُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ.
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، أَبُو الْحُسَيْنِ الْمَعْرُوفُ بِالْحَاجِبِ
كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْأَدَبِ وَالتَّدَيُّنِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
يَا لَيْلَةً سَلَكَ الْزَمَا نُ بِطِيبِهَا فِي كُلِّ مَسْلَكْ
إِذْ أَرْتَعِي رَوْضَ الْمَسَرَّ ةِ مُدْرِكًا مَا لَيْسَ يُدْرَكْ
وَالْبَدْرُ قَدْ فَضَحَ الظَّلَا مَ فَسِتْرُهُ فِيهِ مُهَتَّكْ
وَكَأَنَّمَا زُهْرُ النُّجُو مِ بِلَمْعِهَا شُعَلٌ تُحَرَّكْ
وَالْغَيْمُ أَحْيَانًا يَلُو حُ كَأَنَّهُ ثَوْبٌ مُمَسَّكْ
وَكَأَنَّ تَجْعِيدَ الرِّيَا حِ لِدِجْلَةٍ ثَوْبٌ مُفَرَّكْ
وَكَأَنَّ نَشْرَ الْمِسْكِ يَنْ فَحُ فِي النَّسِيمِ إِذَا تَحَرَّكْ
وَكَأَنَّمَا الْمَنْثُورُ مُصْ فَرَّ الذُّرَا ذَهَبٌ مُشَبَّكْ
وَالنُّورُ يَبْسِمُ فِي الرِّيَا ضِ فَإِنْ نَظَرْتَ إِلَيْهِ سَرَّكْ
شَارَطْتُ نَفْسِي أَنْ أَقُو مَ بِحَقِّهَا وَالشَّرْطُ أَمْلَكْ
حَتَّى تَوَلَّى اللَّيْلُ مُنْ هَزِمًا وَجَاءَ الصُّبْحُ يَضْحَكْ

وَاهِ الْفَتَى لَوْ أَنَّهُ فِي ظِلِّ طِيبِ الْعَيْشِ يُتْرَكْ
وَالدَّهْرُ يَحْسُبُ عُمْرَهُ فَإِذَا أَتَاهُ الشَّيْبُ فَذْلَكْ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا، الطَّبِيبُ الْفَيْلَسُوفُ، الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِينَا
الشَّيْخُ الرَّئِيسُ، الَّذِي كَانَ نَادِرَةً فِي زَمَانِهِ، كَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ بَلْخَ وَانْتَقَلَ إِلَى بُخَارَى، وَاشْتَغَلَ بِهَا ابْنُ سِينَا فَقَرَأَ الْقُرْآنَ، وَأَتْقَنَ عُلُومَهُ وَهُوَ ابْنُ عَشْرٍ، وَأَتْقَنَ الْحِسَابَ وَالْجَبْرَ وَالْمُقَابَلَةَ وَ " إِقْلِيدِسَ " وَ " الْمَجَسْطِيَّ "، ثُمَّ اشْتَغَلَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ النَّاتِلِيِّ الْحَكِيمِ، فَبَرَعَ فِيهِ، وَفَاقَ أَهْلَ زَمَانِهِ، وَتَرَدَّدَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَاشْتَغَلُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَدْ عَالَجَ بَعْضَ الْمُلُوكِ السَّامَانِيَّةِ، وَهُوَ الْأَمِيرُ نُوحُ بْنُ نَصْرٍ، فَأَعْطَاهُ جَائِزَةً سَنِيَّةً، وَحَكَّمَهُ فِي خِزَانَةِ كُتُبِهِ، فَرَأَى فِيهَا مِنَ الْعَجَائِبِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ عَزَا بَعْضَ تِلْكَ الْكُتُبِ إِلَى نَفْسِهِ. وَلَهُ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالطَّبِيعِيَّاتِ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ.

قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: لَهُ نَحْوٌ مِنْ مِائَةِ مُصَنَّفٍ ; صِغَارٍ وَكِبَارٍ، مِنْهَا " الْقَانُونُ " وَ " الشِّفَاءُ " وَ " النَّجَاةُ " وَ " الْإِشَارَاتُ " وَ " سلَامَانُ وَإِبْسَالُ " وَ " حَيُّ بْنُ يَقْظَانَ " وَغَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ: وَكَانَ مِنْ فَلَاسِفَةِ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ أَوْرَدَ لَهُ مِنَ الْأَشْعَارِ قَصِيدَتَهُ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ الْمَحَلِّ الْأَرْفَعِ وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّعِ
مَحْجُوبَةٌ عَنْ كُلِّ مُقْلَةِ عَارِفٍ وَهْيَ الَّتِي سَفَرَتْ فَلَمْ تَتَبَرْقَعِ
وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ وَرْبَّمَا كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وَهْيَ ذَاتُ تَفُجُّعِ
وَهِيَ طَوِيلَةٌ. وَقَوْلُهُ أَيْضًا:
اجْعَلْ غِذَاءَكَ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً وَاحْذَرْ طَعَامًا قَبْلَ هَضْمِ طَعَامِ
وَاحْفَظْ مَنِيَّكَ مَا اسْتَطَعْتَ فَإِنَّهُ مَاءُ الْحَيَاةِ يُرَاقُ فِي الْأَرْحَامِ
وَذَكَرَ أَنَّهُ مَاتَ بِالْقُولَنْجِ فِي هَمَذَانَ، وَقِيلَ: بِأَصْبَهَانَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، عَنْ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. قُلْتُ: وَقَدْ لَخَّصَ الْغَزَّالِيُّ كَلَامَهُ فِي " مَقَاصِدِ الْفَلَاسِفَةِ "، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ فِي " تَهَافُتِ الْفَلَاسِفَةِ " فِي عِشْرِينَ مَسْأَلَةً، كَفَّرَهُ فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ مِنْهُنَّ ; وَهِيَ قَوْلُهُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، وَعَدَمِ الْمَعَادِ الْجُسْمَانِيِّ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ، وَبَدَّعَهُ فِي الْبَوَاقِي، وَيُقَالُ: إِنَّهُ تَابَ عِنْدَ الْمَوْتِ. فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا بُدُوُّ مُلْكِ السَّلَاجِقَةِ.
وَفِيهَا اسْتَوْلَى رُكْنُ الدَّوْلَةِ أَبُو طَالِبٍ طُغْرُلْبَكُ مُحَمَّدُ بْنُ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ عَلَى نَيْسَابُورَ وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهَا، وَبَعَثَ أَخَاهُ دَاوُدَ إِلَى سَائِرِ بِلَادِ خُرَاسَانَ، فَمَلَكَهَا وَانْتَزَعَهَا مِنْ نُوَّابِ الْمَلِكِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ.
وَفِيهَا قَتْلُ جَيْشِ الْمِصْرِيِّينَ لِصَاحِبِ حَلَبَ وَهُوَ شِبْلُ الدَّوْلَةِ نَصْرُ بْنُ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى حَلَبَ وَأَعْمَالِهَا.
وَفِيهَا سَأَلَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ الْخَلِيفَةَ أَنْ يُلَقَّبَ بِمُلْكِ الدَّوْلَةِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ تَمَنُّعٍ.
وَفِيهَا اسْتَدْعَى الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ، وَأَحْضَرَ جَاثَلِيقَ النَّصَارَى وَرَأَسَ جَالُوتِ الْيَهُودِ، وَأُلْزِمُوا بِالْغِيَارِ.
وَفِي رَمَضَانَ لُقِّبَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ شَاهِنْشَاهِ الْأَعْظَمَ مَلِكَ الْمُلُوكِ بِأَمْرِ الْخَلِيفَةِ، وَخُطِبَ بِذَلِكَ عَلَى الْمَنَابِرِ، فَنَفَرَتِ الْعَامَّةُ مِنْ ذَلِكَ، وَرَمَوُا الْخُطَبَاءَ بِالْآجُرِّ، وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَاسْتُفْتِيَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَأَفْتَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ

الصَّيْمَرِيُّ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْقَصْدُ وَالنِّيَّةُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا [ الْبَقَرَةِ: 247 ] وَقَالَ: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ [ الْكَهْفِ: 79 ] وَإِذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ مُلُوكٌ جَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ; لِتَفَاضُلِهِمْ فِي الْقُوَّةِ وَالْإِمْكَانِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ أَعْظَمَ مِنْ بَعْضٍ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ التَّكَبُّرَ وَلَا الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِينَ. وَكَتَبَ الْقَاضِيأَبُو الطِّيبِ الطَّبَرِيُّ: إِنَّ إِطْلَاقَ مَلِكِ الْمُلُوكِ جَائِزٌ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ مَلِكَ مُلُوكِ الْأَرْضِ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يُقَالَ: كَافِي الْكُفَاةِ وَقَاضِي الْقُضَاةِ، جَازَ مَلِكُ الْمُلُوكِ. وَإِذَا كَانَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مُلُوكُ الْأَرْضِ زَالَتِ الشُّبْهَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: اللَّهُمَّ أَصْلِحِ الْمَلِكَ، فَيُصْرَفُ الْكَلَامُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ، وَكَتَبَ التَّمِيمِيُّ الْحَنْبَلِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ صَاحِبُ " الْحَاوِي الْكَبِيرِ " فَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَالشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ فِي " أَدَبِ الْمُفْتِي " أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَصَرَّ عَلَى الْمَنْعِ، مَعَ صُحْبَتِهِ لِلْمَلِكِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَكَثْرَةِ تَرْدَادِهِ إِلَيْهِ، وَوَجَاهَتِهِ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ الْحُضُورِ فِي مَجْلِسِهِ حَتَّى اسْتَدْعَاهُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، دَخَلَ وَهُوَ وَجِلٌ خَائِفٌ أَنْ يُوقِعَ بِهِ مَكْرُوهًا، فَلَمَّا وَاجَهَهُ قَالَ لَهُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ إِنَّمَا مَنَعَكَ مِنْ مُوَافَقَةِ الَّذِينَ جَوَّزُوا ذَلِكَ، مَعَ صُحْبَتِكَ إِيَّايَ وَوَجَاهَتِكَ عِنْدِي، دِينُكَ وَاتِّبَاعُكَ الْحَقَّ، وَلَوْ حَابَيْتَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ لَحَابَيْتَنِي، وَقَدْ زَادَكَ ذَلِكَ

عِنْدِي مَحَبَّةً وَمَكَانَةً.
قُلْتُ: وَالَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ هُوَ السُّنَّةُ الَّتِي وَرَدَتْ بِهَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ ; قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي " مَسْنَدِهِ ": حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: أَخْنَعُ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ تَسَمَّى بِمَلِكِ الْأَمْلَاكِ. قَالَ أَحْمَدُ: سَأَلْتُ أَبَا عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ عَنْ " أَخْنَعِ اسْمٍ " قَالَ: أَوْضَعُ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخْبَثُهُ رَجُلٌ تَسَمَّى بِمَلِكِ الْأَمْلَاكِ، لَا مَلِكَ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ خِلَاسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ نَبِيُّهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ تَسَمَّى بِمَلِكِ الْأَمْلَاكِ، لَا مَلِكَ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الثَّعَالِبِيُّ صَاحِبُ " يَتِيمَةِ الدَّهْرِ " أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ

إِسْمَاعِيلَ الثَّعَالِبِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ
كَانَ إِمَامًا فِي اللُّغَةِ وَالْأَخْبَارِ وَأَيَّامِ النَّاسِ، بَارِعًا مُفِيدًا، لَهُ التَّصَانِيفُ الْكِبَارُ فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ، وَأَكْبَرُ كُتُبِهِ " يَتِيمَةُ الدَّهْرِ فِي مَحَاسِنِ أَهْلِ الْعَصْرِ "، وَفِيهَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ:
أَبْيَاتُ أَشْعَارِ الْيَتِيمَهْ أَبْكَارُ أَفْكَارٍ قَدِيمَهْ مَاتُوا وَعَاشَتْ بَعْدَهُمْ
فَلِذَاكَ سُمِّيَتِ الْيَتِيمَهْ
وَإِنَّمَا سُمِّيَ الثَّعَالِبِيَّ ; لِأَنَّهُ كَانَ فَرَّاءً يَخِيطُ جُلُودَ الثَّعَالِبِ، وَلَهُ أَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ مَلِيحَةٌ. وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ
أَحَدُ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَكَانَ مَاهِرًا فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا عِلْمُ الْحِسَابِ وَالْفَرَائِضِ، وَكَانَ ذَا مَالٍ وَثَرْوَةٍ، أَنْفَقَهُ كُلُّهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، وَصَنَّفَ فِي الْعُلُومِ، وَدَرَّسَ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ عِلَمًا، وَكَانَ اشْتِغَالُهُ عَلَى الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَأَخَذَ عَنْهُ نَاصِرٌ الْمَرْوَزِيُّ وَغَيْرُهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا الْتَقَى الْمَلِكُ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ وَالْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ السَّلْجُوقِيُّ وَمَعَهُ أَخُوهُ دَاوُدُ فِي شَعْبَانَ، فَهَزَمَهُمَا مَسْعُودٌ، وَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِمَا خَلْقًا كَثِيرًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَطَبَ شَبِيبُ بْنُ وَثَّابٍ لِلْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ بِحَرَّانَ وَالرَّقَّةِ وَقَطَعَ خُطْبَةَ الْمُسْتَنْصِرِ الْعُبَيْدِيِّ.
وَفِيهَا خُوطِبَ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ جَلَالِ الدَّوْلَةِ بِالْمَلِكِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ مُقِيمٌ بِوَاسِطٍ، وَهَذَا الْعَزِيزُ هُوَ الَّذِي كَانَ آخِرُ مَنْ تَمَلَّكَ مِنْ بَنِي بُوَيْهِ بِبَغْدَادَ، لَمَّا طَغَوْا وَبَغَوْا وَتَمَرَّدُوا وَتَسَمَّوْا بِمَلِكِ الْأَمْلَاكِ، وَهُوَ اسْمٌ يُبْغِضُهُ اللَّهُ، فَسَلَبَهُمُ اللَّهُ مَا كَانَ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ الْمُلْكَ إِلَى غَيْرِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمِ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [ الرَّعْدِ: 11 ].
وَفِيهَا خَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى قَاضِي الْقُضَاةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَاكُولَا خِلْعَةَ تَشْرِيفٍ.

وَفِيهَا وَقَعَ ثَلْجٌ عَظِيمٌ بِبَغْدَادَ مِقْدَارَ شِبْرٍ عَلَى الْأَسْطِحَةِ حَتَّى جَرَفَهُ النَّاسُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مَلَكَ بَنُو سَلْجُوقَ بِلَادَ خُرَاسَانَ وَالْجَبَلَ، وَتَقَسَّمُوا الْأَطْرَافَ، وَهُوَ أَوَّلُ مُلْكِ السَّلْجُوقِيَّةِ.
وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، وَلَا مِنَ الشَّامِ وَمِصْرَ إِلَّا الْقَلِيلُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بْنِ مِهْرَانَ، أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ
الْحَافِظُ الْكَبِيرُ ذُو التَّصَانِيفِ الْمُفِيدَةِ الْكَثِيرَةِ الشَّهِيرَةِ، مِنْ ذَلِكَ " حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ " فِي مُجَلَّدَاتٍ كَثِيرَةٍ، دَلَّتْ عَلَى اتِّسَاعِ رِوَايَتِهِ، وَكَثْرَةِ مَشَايِخِهِ، وَقُوَّةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَخَارِجِ الْأَحَادِيثِ، وَتَشَعُّبِ طُرُقِهَا، وَلَهُ " مُعْجَمُ الصَّحَابَةِ " وَهُوَ عِنْدِي بِخَطِّهِ، وَلَهُ " صِفَةُ الْجَنَّةِ " وَ " دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ "، وَكِتَابٌ فِي الطِّبِّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الْمُفِيدَةِ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: كَانَ أَبُو نُعَيْمٍ يَخْلِطُ الْمَسْمُوعَ لَهُ بِالْمَجَازِ، وَلَا يُوَضِّحُ أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخَرِ.

وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ النَّخْشَبِيُّ: لَمْ يَسْمَعْ أَبُو نُعَيْمٍ " مُسْنَدَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ " مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ خَلَّادٍ بِتَمَامِهِ، فَحَدَّثَ بِهِ كُلِّهِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَصَنَّفَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ مَيْلًا كَثِيرًا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الثَّامِنَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا، عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ وُلِدَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي بْنُ خَلِّكَانَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، قَالَ: وَلَهُ " تَارِيخُ أَصْبَهَانَ ". وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَرْجَمَةِ وَالِدِهِ أَنَّ مِهْرَانَ أَسْلَمَ، وَأَنَّ وَلَاءَهُمْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَذَكَرَ أَنَّ مَعْنَى أَصْبَهَانَ - وَأَصْلُهُ بِالْفَارِسِيَّةِ سَبَاهَانُ - أَيْ مَجْمَعُ الْعَسَاكِرِ، وَأَنَّ إِسْكَنْدَرَ بَنَاهَا، قَالَهُ السَّمْعَانِيُّ.
الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أَبُو عَلِيٍّ الرُّخَّجِيُّ
وَزَرَ لِشَرَفِ الدَّوْلَةِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ سَنَتَيْنِ ثُمَّ عُزِلَ، وَكَانَ عَظِيمَ الْجَاهِ فِي زَمَانِ عُطْلَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى الْمَارَسْتَانَ بِوَاسِطٍ، وَرَتَّبَ فِيهِ الْأَشْرِبَةَ وَالْأَطِبَّاءَ وَالْأَدْوِيَةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَوَقَفَ عَلَيْهِ كِفَايَتَهُ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَسَنُ بْنُ حَفْصٍ، أَبُو الْفُتُوحِ الْعَلَوِيُّ، أَمِيرُ مَكَّةَ.

الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُؤَدَّبُ
وَهُوَ أَخُو أَبِي مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ، سَمِعَ " صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ " مِنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكُشْمَيْهَنِيِّ، وَسَمِعَ غَيْرَهُ. تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرَانَ بْنِ مِهْرَانَ، أَبُو الْقَاسِمِ الْوَاعِظُ
سَمِعَ النَّجَّادَ وَدَعْلَجَ بْنَ أَحْمَدَ وَالْآجُرِّيَّ وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا، وَكَانَ يَشْهَدُ عِنْدَ الْحُكَّامِ، فَتَرَكَ ذَلِكَ رَغْبَةً عَنْهُ، وَمَاتَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ فِي جَامِعِ الرُّصَافَةَ، وَكَانَ الْجَمْعُ حَافِلًا، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ، وَكَانَ أَوْصَى بِذَلِكَ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ خَلَفِ بْنِ الْفَرَّاءِ، أَبُو خَازِمٍ
أَخُو الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، الْحَنْبَلِيُّ، سَمِعَ الدَّارَقُطْنِيَّ وَابْنَ شَاهِينَ. قَالَ الْخَطِيبُ: كَانَ لَا بَأْسَ بِهِ، وَرَأَيْتُ لَهُ أُصُولًا سَمَاعُهُ فِيهَا، ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ خَلَطَ فِي الْحَدِيثِ بِمِصْرَ، وَاشْتَرَى مِنَ الْوَرَّاقِينَ صُحُفًا فَرَوَى مِنْهَا، وَكَانَ يَذْهَبُ إِلَى الِاعْتِزَالِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِتِنِّيسَ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ.

مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ الدِّينَوَرِيُّ
الزَّاهِدُ، كَانَ خَشِنَ الْعَيْشِ، وَكَانَ ابْنُ الْقَزْوِينِيِّ يُثْنِي عَلَيْهِ، وَكَانَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ صَاحِبُ بَغْدَادَ يَزُورُهُ، وَقَدْ سَأَلَهُ مَرَّةً أَنْ يُطْلِقَ لِلنَّاسِ مَكْسَ الْمِلْحِ، وَكَانَ فِي السَّنَةِ أَلْفَيْ دِينَارٍ، فَتَرَكَهُ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ اجْتَمَعَ أَهْلُ الْبَلَدِ لِجِنَازَتِهِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مَرَّاتٍ، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْفَضْلُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَبُو الرِّضَا، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الظَّرِيفِ
وَكَانَ شَاعِرًا ظَرِيفًا، وَمِنْ شِعْرِهِ الْفَائِقِ وَنَظْمِهِ الرَّائِقِ قَوْلُهُ:
يَا قَالَةَ الشِّعْرِ قَدْ نَصَحْتُ لَكُمْ وَلَسْتُ أُدْهَى إِلَّا مِنَ النُّصْحِ قَدْ ذَهَبَ الدَّهْرُ بِالْكِرَامِ وَفِي
ذَاكَ أُمُورٌ طَوِيلَةُ الشَّرْحِ وَتَطْلُبُونَ النَّوَالَ مِنْ رَجُلٍ
قَدْ طُبِعَتْ نَفْسُهُ عَلَى الشُّحِّ وَأَنْتُمُ تَمْدَحُونَ بِالْحُسْنِ وَال
ظَّرْفِ وُجُوهًا فِي غَايَةِ الْقُبْحِ مِنْ أَجْلِ ذَا تُحْرَمُونَ رِزْقَكُمْ
لِأَنَّكُمْ تَكْذِبُونَ فِي الْمَدْحِ صُونُوا الْقَوَافِيَ فَمَا أَرَى أَحَدًا
يَغْتَرُّ فِيهِ الرَّجَاءُ بِالنُّجْحِ فَإِنْ شَكَكْتُمْ فِيمَا أَقُولُ لَكُمْ
فَكَذِّبُونِي بِوَاحِدٍ سَمْحِ
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَاكُولَا وَزَرَ لِجَلَالِ الدَّوْلَةِ مِرَارًا، وَكَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ، عَارِفًا بِالشِّعْرِ وَالْأَخْبَارِ، خُنِقَ بِهِيتَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.

أَبُو زَيْدٍ الدَّبُّوسِيُّ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عِيسَى
الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ، أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ عَلِمَ الْخِلَافَ، وَأَبْرَزَهُ إِلَى الْوُجُودِ. قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ قَالَ: وَكَانَ يُضْرَبُ بِهِ الْمِثْلُ، وَالدَّبُّوسِيُّ: نِسْبَةٌ إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ أَعْمَالِ بُخَارَى. قَالَ: وَلَهُ كِتَابُ " الْأَسْرَارِ " وَ " تَقْوِيمِ الْأَدِلَّةِ ". وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّصَانِيفِ وَالتَّعَالِيقِ. قَالَ: وَرُوِيَ أَنَّهُ نَاظَرَ الْفُقَهَاءَ، فَبَقِيَ بَعْضُهُمْ كُلَّمَا أَلْزَمَهُ أَبُو زَيْدٍ إِلْزَامًا تَبَسَّمَ أَوْ ضَحِكَ، فَأَنْشَدَ أَبُو زَيْدٍ:
مَا لِي إِذَا أَلْزَمْتُهُ حُجَّةً قَابَلَنِي بِالضِّحْكِ وَالْقَهْقَهَهْ
إِنْ كَانَ ضِحْكُ الْمَرْءِ مِنْ فِقْهِهِ فَالدُّبُّ فِي الصَّحَرَاءِ مَا أَفْقَهَهْ
الْحَوْفِيُّ صَاحِبُ " إِعْرَابِ الْقُرْآنِ "، أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ يُوسُفَ الْحَوْفِيُّ النَّحْوِيُّ
لَهُ كِتَابٌ فِي النَّحْوِ كَبِيرٌ وَ " إِعْرَابُ الْقُرْآنِ " فِي عَشْرِ مُجَلَّدَاتٍ، وَلَهُ " تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ " أَيْضًا، وَكَانَ إِمَامًا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالنَّحْوِ وَالْأَدَبِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ انْتَفَعَ النَّاسُ بِهَا، قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَالْحَوْفِيُّ: نِسْبَةٌ إِلَى نَاحِيَةٍ بِمِصْرَ، يُقَالُ لَهَا: الشَّرْقِيَّةُ، وَقَصَبَتُهَا مَدِينَةُ بُلْبَيْسَ فَجَمِيعُ رِيفِهَا يُسَمَّوْنَ الْحَوْفَ، وَاحِدُهُمْ حَوْفِيٌّ، وَهُوَ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: شَبْرَا اللَّنْجَةِ مِنْ أَعْمَالِ الشَّرْقِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّانَا بِمَنِّهِ وَرَحْمَتِهِ، آمِينَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً بِحَيْثُ حَمَلَتِ الْجِسْرَ وَمَنْ عَلَيْهِ، فَأَلْقَتْهُمْ بِأَسْفَلِ الْبَلَدِ وَسَلِمُوا.
وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ الْجُنْدِ وَبَيْنَ الْمَلِكِ جَلَالَ الدَّوْلَةِ شَغَبٌ، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَجَرَتْ شُرُورٌ طَوِيلَةٌ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ، وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ، وَنَهَبَتِ الْأَتْرَاكُ دُورَ النَّاسِ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْمَلِكِ عِنْدَهُمْ حُرْمَةٌ وَلَا كَلِمَةٌ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ جِدًّا.
وَفِيهَا بَعَثَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ وَزِيرَهُ الْعَادِلَ بْنَ مَافَنَّةَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَمَلَكَّهَا لَهُ. وَفِيهَا زَارَ الْمَلِكُ أَبُو طَاهِرٍ مَشْهَدَ عَلِيٍّ وَمَشْهَدَ الْحُسَيْنِ، وَمَشَى حَافِيًا فِي بَعْضِ تِلْكَ الزِّيَارَاتِ، وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الضَّرِيرُ الْحِيرِيُّ،

مِنْ أَهْلِ نَيْسَابُورَ كَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْفُضَلَاءِ الْأَذْكِيَاءِ، وَالثِّقَاتِ الْأُمَنَاءِ، قَدِمَ بَغْدَادَ حَاجًّا فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ جَمِيعَ " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " فِي ثَلَاثَةِ مَجَالِسَ بِرِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ الْكُشْمَيْهَنِيِّ، عَنِ الْفِرَبْرِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
بُشْرَى الْفَاتِنِيُّ
وَهُوَ بُشْرَى بْنُ مَسِيسَ، مِنْ سَبْيِ الرُّومِ، أَهْدَاهُ بَعْضُ أُمَرَاءِ بَنِي حَمْدَانَ لِفَاتِنَ غُلَامِ الْمُطِيعِ، فَأَدَّبَهُ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَرَوَى عَنْهُ الْخَطِيبُ، وَقَالَ: كَانَ صَدُوقًا صَالِحًا دَيِّنًا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ مَرْوَانَ، أَبُو الْعَلَاءِ الْوَاسِطِيُّ
وَأَصْلُهُ مِنْ فَمِ الصُّلْحِ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَقَرَأَ الْقِرَاءَاتِ وَرَوَاهَا، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي رِوَايَتِهِ فِي الْقِرَاءَاتِ وَالْحَدِيثِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا عَظُمَ شَأْنُ السَّلْجُوقِيَّةِ، وَارْتَفَعَ شَأْنُ مَلِكِهِمْ طُغْرُلْبَكَ مُحَمَّدٍ وَأَخِيهِ جَغْرِيبَكَ دَاوُدَ، وَهُمَا ابْنَا مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ بْنِ دُقَاقَ، وَقَدْ كَانَ جَدُّهُمْ دُقَاقُ هَذَا مِنْ مَشَايِخِ التُّرْكِ الْقُدَمَاءِ الَّذِينَ لَهُمُ الرَّأْيُ وَالْمَكِيدَةُ وَالْمَكَانَةُ عِنْدَ مَلِكِهِمُ الْأَعْظَمِ، وَنَشَأَ وَلَدُهُ سَلْجُوقُ نَجِيبًا شَهْمًا، فَقَدَّمَهُ الْمَلِكُ وَلَقَّبَهُ سُبَاشَى، فَأَطَاعَتْهُ الْجُيُوشُ، وَانْقَادَتْ لَهُ النَّاسُ بِحَيْثُ تَخَوَّفَ مِنْهُ الْمَلِكُ، وَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَسْلَمَ فَازْدَادَ عِزًّا وَعُلُوًّا، ثُمَّ تُوُفِّيَ عَنْ مِائَةٍ وَسَبْعِ سِنِينَ، وَخَلَّفَ أَرْسَلَانَ وَمِيكَائِيلَ وَمُوسَى، فَأَمَّا مِيكَائِيلُ فَإِنَّهُ اعْتَنَى بِقِتَالِ الْكُفَّارِ مِنَ الْأَتْرَاكِ، حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا، وَخَلَّفَ وَلَدَيْهِ طُغْرُلْبَكَ مُحَمَّدًا، وَجَغْرِيبَكَ دَاوُدَ، فَعَظُمَ شَأْنُهُمَا فِي بَنِي عَمِّهِمَا، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمَا التُّرْكُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ تُرْكُ الْإِيمَانِ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمُ الْيَوْمَ: تَرْكُمَانُ. وَهُمُ السَّلَاجِقَةُ بَنُو سَلْجُوقَ جَدِّهِمْ هَذَا، فَفَتَحُوا بِلَادَ خُرَاسَانَ بِكَمَالِهَا بَعْدَ مَوْتِ مَحْمُودِ بْنِ

سُبُكْتِكِينَ، فَقَدْ كَانَ يَتَخَوَّفُ مِنْهُمُ الْمَلِكُ مَحْمُودٌ بَعْضَ التَّخَوُّفِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَقَامَ وَلَدُهُ مَسْعُودٌ مِنْ بَعْدِهِ قَاتَلَهُمْ وَقَاتَلُوهُ مِرَارًا، فَيَهْزِمُونَهُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاقِفِ، وَاسْتُكْمِلَ لَهُمْ مُلْكُ خُرَاسَانَ بِأَسَرِهَا، ثُمَّ قَصَدَهُمْ مَسْعُودٌ فِي جُنُودٍ يَضِيقُ بِهِمُ الْفَضَاءُ فَكَسَرُوهُ فِيهَا، وَكَبَسَهُ مَرَّةً دَاوُدُ، فَانْهَزَمَ مِنْهُ مَسْعُودٌ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى حَوَاصِلِهِ وَخِيَامِهِ، وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِهِ، وَفَرَّقَ الْغَنَائِمَ، وَمَكَثَ جَيْشُهُ عَلَى خُيُولِهِمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لَا يَنْزِلُونَ عَنْهَا ; خَوْفًا مِنْ دُهْمَةِ الْعَدُوِّ، وَبِمِثْلِ هَذَا الِاحْتِرَاسِ تَمَّ لَهُمْ مَا رَامُوهُ، وَكَمَلَ جَمِيعُ مَا أَمَّلُوهُ، ثُمَّ كَانَ مِنْ سَعَادَتِهِمْ أَنَّ الْمَلِكَ مَسْعُودًا تَوَجَّهَ نَحْوَ بِلَادِ الْهِنْدِ لِيُشَتِّيَ بِهَا، وَتَرَكَ مَعَ وَلَدِهِ مَوْدُودٍ جَيْشًا كَثِيفًا بِسَبَبِ قِتَالِ السَّلَاجِقَةِ، فَلَمَّا عَبَرَ الْجِسْرَ الَّذِي عَلَى سَيَحْوُنَ نَهَبَتْ جُنُودُهُ حَوَاصِلَهُ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى أَخِيهِ مُحَمَّدٍ، وَخَلَعُوا مَسْعُودًا، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ مَسْعُودٌ، فَقَاتَلَهُمْ، فَهَزَمُوهُ وَأَسَرُوهُ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّكَ عَلَى سُوءِ صَنِيعِكَ إِلَيَّ، وَلَكِنِ اخْتَرْ لِنَفْسِكَ أَيَّ بَلَدٍ تَكُونُ فِيهِ أَنْتَ وَعِيَالُكَ. فَاخْتَارَ قَلْعَةً كُبْرَى فَكَانَ بِهَا، ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَ مُحَمَّدًا جَعَلَ لِوَلَدِهِ أَحْمَدَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، وَبَايَعَ الْجَيْشُ لَهُ، وَقَدْ كَانَ فِي أَحْمَدَ هَوَجٌ وَقِلَّةُ عَقْلٍ، فَاتَّفَقَ هُوَ وَعَمُّهُمْ يُوسُفُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ عَلَى قَتْلِ مَسْعُودٍ لِيَصْفُوَ لَهُمُ الْأَمْرُ، وَيَتِمَّ لَهُمُ الْمُلْكُ، فَسَارَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْ أَبِيهِ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا عَلِمَ أَبُوهُ غَاظَهُ ذَلِكَ وَعَتَبَ عَلَى ابْنِهِ عَتْبًا شَدِيدًا، وَبَعَثَ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، وَيُقْسِمُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ حَتَّى كَانَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَوْدُودُ بْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: رَزَقَ اللَّهُ وَلَدَكَ الْمَعْتُوهَ عَقْلًا يَعِيشُ بِهِ، فَقَدِ ارْتَكَبَ أَمْرًا عَظِيمًا، وَأَقْدَمَ عَلَى إِرَاقَةِ دَمِ مَلِكٍ مِثْلِ وَالِدِي، لَقَّبَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِسَيِّدِ الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ، وَسَتَعْلَمُونَ أَيَّ حَتْفٍ تَوَرَّطْتُمْ وَأَيَّ شَرِّ تَأَبَّطْتُمْ: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبِ يَنْقَلِبُونَ

[ الشُّعَرَاءِ: 227 ]. ثُمَّ سَارَ إِلَيْهِمْ فِي جُنُودٍ عَظِيمَةٍ، فَقَاتَلَهُمْ، فَقَهَرَهُمْ وَأَسَرَهُمْ، فَقَتَلَ عَمَّهُ مُحَمَّدًا وَابْنَهُ أَحْمَدَ وَبَنِي عَمِّهِ كُلَّهُمْ، إِلَّا عَبْدَ الرَّحِيمِ وَخَلْقًا مِنْ رُءُوسِ أُمَرَائِهِمْ، وَابْتَنَى قَرْيَةً هُنَالِكَ وَسَمَّاهَا فَتْحَا بَادَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى غَزْنَةَ فَدَخَلَهَا فِي شَعْبَانَ، فَأَظْهَرَ الْعَدْلَ وَسَلَكَ سِيرَةَ جَدِّهِ مَحْمُودٍ، فَأَطَاعَهُ النَّاسُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ بِالِانْقِيَادِ وَالِاتِّبَاعِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَهْلَكَ قَوْمَهُ بِيَدِهِ، وَكَانَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ سَعَادَةِ السَّلَاجِقَةِ.
وَفِيهَا خَالَفَ أَوْلَادُ حَمَّادٍ عَلَى الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فَحَاصَرَهُمْ قَرِيبًا مِنْ سَنَتَيْنِ، وَوَقَعَ بِإِفْرِيقِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِسَبَبِ تَأَخُّرِ الْأَمْطَارِ عَنْهُمْ.
وَوَقَعَ بِبَغْدَادَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكَرْخِ وَأَهْلِ بَابِ الْبَصْرَةِ فَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَلَمْ يَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَضَوَاحِيهَا.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، أَبُو يَعْلَى الْبَصْرِيُّ الصُّوفِيُّ
أَذْهَبَ عُمُرَهُ فِي الْأَسْفَارِ وَالتَّغْرِيبِ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، فَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الْحَدِيدِ الدِّمَشْقِيِّ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ جُمَيْعٍ الْغَسَّانِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا أَدِيبًا حَسَنَ الشِّعْرِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا مَلَكَ طُغْرُلْبَكُ جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى نَيْسَابُورَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا.
وَفِيهَا وَلِيَ ظَهِيرُ الدَّوْلَةِ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ كَاكَوَيْهِ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ، فَوَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخَوَيْهِ ; أَبِي كَالِيجَارَ وَكُرْشَاسِفَ.
وَفِيهَا دَخَلَ أَبُو كَالِيجَارَ هَمَذَانَ وَدَفَعَ الْغُزَّ عَنْهَا.
وَفِيهَا شَغَبَتِ الْأَتْرَاكُ بِبَغْدَادَ بِسَبَبِ تَأَخُّرِ الْعَطَاءِ عَنْهُمْ. وَسَقَطَتْ قَنْطَرَةُ بَنِي زُرَيْقٍ عَلَى نَهْرِ عِيسَى، وَكَذَا الْقَنْطَرَةُ الْعَتِيقَةُ الَّتِي تُقَارِبُهَا.
وَفِيهَا دَخَلَ بَغْدَادَ رَجُلٌ مِنَ الْبَلْغَرِ يُرِيدُ الْحَجَّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ كِبَارِهِمْ، فَأُنْزِلَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ الْأَرْزَاقُ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ مُوَلَّدُونَ مِنَ التُّرْكِ وَالصَّقَالِبَةِ، وَأَنَّهُمْ فِي أَقْصَى بِلَادِ التُّرْكِ، وَأَنَّ النَّهَارَ يَقْصُرُ عِنْدَهُمْ حَتَّى يَكُونَ سِتَّ سَاعَاتٍ،

وَكَذَا اللَّيْلُ، وَعِنْدَهُمْ عُيُونٌ وَزُرُوعٌ وَثِمَارٌ عَلَى الْمَطَرِ وَالسَّقْيِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُرِئَ الِاعْتِقَادُ الْقَادِرِيُّ الَّذِي كَانَ جَمَعَهُ الْخَلِيفَةُ الْقَادِرُ بِاللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأُخِذَتْ خُطُوطُ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ بِأَنَّهُ اعْتِقَادُ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ خَالَفَهُ فَقَدْ فَسَقَ وَكَفَرَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْقَزْوِينِيُّ، ثُمَّ كَتَبَ بَعْدَهُ الْعُلَمَاءُ، وَقَدْ سَرَدَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ " بِتَمَامِهِ، وَفِيهِ جُمْلَةٌ جَيِّدَةٌ مِنِ اعْتِقَادِ السَّلَفِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

بَهْرَامُ بْنُ مَافَنَّةَ، أَبُو مَنْصُورٍ الْوَزِيرُ لِأَبِي كَالِيجَارَ
كَانَ عَفِيفًا نَزِهَا صِيِّنَا، عَادِلًا فِي سِيرَتِهِ، وَقَدْ وَقَفَ خِزَانَةَ كُتُبٍ فِي مَدِينَةِ فِيرُوزَابَاذَ، تَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعَةِ آلَافِ مُجَلَّدٍ، مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ آلَافِ وَرَقَةٍ بِخَطِّ أَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ابْنَىْ مُقْلَةَ.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَبُو الْحُسَيْنِ
الْمَعْرُوفُ بِالْجَهْرَمِيِّ، قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: هُوَ أَحَدُ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ لَقِينَاهُمْ وَسَمِعْنَا مِنْهُمْ، وَكَانَ يُجِيدُ الْقَوْلَ وَمِنْ شِعْرِهِ:

يَا وَيْحَ قَلْبِي مِنْ تَقَلُّبِهِ أَبَدًا يَحِنُّ إِلَى مُعَذِّبِهِ قَالُوا كَتَمْتَ هَوَاهُ عَنْ جَلَدٍ
لَوْ أَنَّ لِي جَلَدًا لَبُحْتُ بِهِ بِأَبِي حَبِيبٍ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ
عَنِّي وَيُكْثِرُ مِنْ تَعَتُّبِهِ حَسْبِي رِضَاهُ مِنَ الْحَيَاةِ وَيَا
قَلَقِي وَمَوْتِي مِنْ تَغَضُّبِهِ
مَسْعُودٌ الْمَلِكُ بْنُ الْمَلِكِ مَحْمُودِ بْنِ الْمَلِكِ سُبُكْتِكِينَ
صَاحِبُ بِلَادِ غَزْنَةَ وَابْنُ صَاحِبِهَا، قَتَلَهُ ابْنُ عَمِّهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُودٍ، فَانْتَقَمَ لَهُ ابْنُهُ مَوْدُودُ بْنُ مَسْعُودٍ، فَقَتَلَ عَمَّهُ وَابْنَ عَمِّهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ مِنْ أَجْلِ أَبِيهِ، وَاسْتَتَبَّ لَهُ الْأَمْرُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ مِنْ قَوْمِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
بِنْتُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِيِّ لِلَّهِ
تَأَخَّرَتْ مُدَّتُهَا حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهَا فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ سَنَةً بِالْحَرِيمِ الطَّاهِرِيِّ، وَدُفِنَتْ بِالرُّصَافَةِ، رَحِمَهَا اللَّهُ وَإِيَّانَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا أَمَرَ الْمَلِكُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ أَبُو طَاهِرٍ بِجِبَايَةِ أَمْوَالِ الْجَوَالَى، وَمَنَعَ أَصْحَابَ الْخَلِيفَةِ مِنْ قَبْضِهَا، فَانْزَعَجَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَعَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَغْدَادَ وَأَرْسَلَ لِلْفُقَهَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ فِي التَّأَهُّبِ لِلْخُرُوجِ صُحْبَتَهُ، وَارْتَجَّتْ بَغْدَادُ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِمَدِينَةِ تِبْرِيزَ هَدَمَتْ قَلْعَتَهَا وَسُورَهَا وَأَسْوَاقَهَا وَدُورَهَا، حَتَّى مِنْ دَارِ الْإِمَارَةِ عَامَّةَ قُصُورِهَا، وَمَاتَ تَحْتَ الْهَدْمِ خَمْسُونَ أَلْفًا، وَلَبِسَ أَهْلُهَا الْمُسُوحَ لِشِدَّةِ مُصَابِهِمْ.
وَفِيهَا اسْتَوْلَى السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكُ عَلَى أَكْثَرِ الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَدِينَةُ خُوَارِزْمَ وَدِهِسْتَانُ وَطَبَسُ وَالرَّيُّ وَبِلَادُ الْجَبَلِ وَكَرْمَانُ وَأَعْمَالُهَا وَقَزْوِينُ. وَخُطِبَ لَهُ فِي تِلْكَ النَّوَاحِي كُلِّهَا، وَعَظُمَ شَأْنُهُ جِدًّا، وَاتَّسَعَ صِيتُهُ.
وَفِيهَا مَلَكَ سَمَّاكُ بْنُ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ حَلَبَ أَخَذَهَا مِنَ الْفَاطِمِيِّينَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمِصْرِيُّونَ مَنْ حَارَبَهُ.

وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَا فِيمَا قَبْلَهَا.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ عَبَدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ
سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ إِلَى الْأَقَالِيمِ، وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَ فِي الْعَرَبِ، وَأَقَامَ بِالسَّرَوَاتِ، وَكَانَ يَحُجُّ كُلَّ سَنَةٍ، وَيُقِيمُ بِمَكَّةَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، وَيَسْمَعُ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ عَنْهُ الْمَغَارِبَةُ مَذْهَبَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ عَنِ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيِّ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّهُ أَخَذَ مَذْهَبَ مَالِكٍ عَنِ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَقَدْ كَانَ ثِقَةً حَافِظًا ضَابِطًا، تُوُفِّيَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَبُو الْفَتْحِ الشَّيْبَانِيُّ الْعَطَّارُ
وَيُعْرَفُ بِقُطَيْطٍ، سَافَرَ الْكَثِيرَ إِلَى الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ شَيْخًا ظَرِيفًا، يَسْلُكُ طَرِيقَ التَّصَوُّفِ، وَكَانَ يَقُولُ: لَمَّا وُلِدْتُ سُمِّيتُ قُطَيْطًا عَلَى أَسْمَاءِ الْبَادِيَةِ، ثُمَّ سَمَّانِي بَعْضُ أَهْلِي مُحَمَّدًا.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا رُدَّتِ الْجَوَالَى إِلَى نُوَّابِ الْخَلِيفَةِ. وَفِيهَا وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ جَلَالِ الْمُلْكِ طُغْرُلْبَكَ إِلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ يَأْمُرُهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الرَّعَايَا وَالْوَصَاةِ بِهِمْ.
ذِكْرُ مُلْكِ أَبِي كَالِيجَارَ بَغْدَادَ، بَعْدَ وَفَاةِ أَخِيهِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ بْنِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ أَبُو طَاهِرٍ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، فَمَلَكَ بَغْدَادَ بَعْدَهُ أَخُوهُ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ أَبُو كَالِيجَارَ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَخُطِبَ لَهُ بِهَا عَنْ مُمَالَأَةِ أُمَرَائِهَا، وَأَخْرَجُوا الْمَلِكَ الْعَزِيزَ أَبَا مَنْصُورِ بْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، فَتَنَقَّلَ فِي الْبِلَادِ، وَتَشَرَّدَ مِنْ مَمْلَكَتِهِ إِلَى غَيْرِهَا حَتَّى تُوفِيَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَحُمِلَ فَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ بِمَقَابِرِ قُرَيْشٍ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ الْمَلِكُ مَوْدُودُ بْنُ مَسْعُودٍ عَسْكَرًا كَثِيفًا إِلَى خُرَاسَانَ فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ أَلْبُ أَرْسَلَانَ بْنُ دَاوُدَ بْنِ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ فِي عَسْكَرٍ آخَرَ، فَاقْتَتَلَا قِتَالًا عَظِيمًا.

وَفِيهَا فِي صَفَرٍ مِنْهَا أَسْلَمَ مِنَ التَّرْكِ الَّذِينَ كَانُوا يَطْرُقُونَ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ نَحْوٌ مِنْ عَشْرَةِ آلَافِ خَرْكَاهُ، وَضَحَّوْا فِي يَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى بِعِشْرِينَ أَلْفَ رَأْسٍ مِنْ غَنَمٍ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، وَلَمْ يُسْلِمْ مِنَ الْخَطَا وَالتَّتَرِ أَحَدٌ، وَهُمْ بِنَوَاحِي الصِّينِ.
وَفِيهَا نَفَى مَلِكُ الرُّومِ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ كُلَّ غَرِيبٍ لَهُ دُونَ الْعِشْرِينَ سَنَةً فِيهَا.
وَفِيهَا خَطَبَ الْمُعِزُّ أَبُو تَمِيمِ بْنُ بَادِيسَ صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ بِبِلَادِهِ لِلْخَلِيفَةِ الْعَبَّاسِيِّ، وَقَطَعَ خُطْبَةَ الْفَاطِمِيِّينَ، وَأَحْرَقَ أَعْلَامَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ الْخِلَعَ وَاللِّوَاءَ وَالْمَنْشُورَ، وَفِيهِ تَعْظِيمٌ لَهُ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَقَضَى الْقُضَاةِ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ الْمَاوَرْدِيَّ قَبْلَ وَفَاةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ إِلَى الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَأَبِي كَالِيجَارَ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَالْتَقَاهُ بَجُرْجَانَ، فَتَلَقَّاهُ الْمَلِكُ عَلَى أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ إِكْرَامًا لِمَنْ أَرْسَلَهُ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ إِلَى السَّنَةِ الْآتِيَةِ. فَلَمَّا قَدِمَ أَخْبَرَهُ بِطَاعَتِهِ وَإِكْرَامِهِ لَهُ وَاحْتِرَامِهِ مِنْ أَجْلِ الْخَلِيفَةِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْحُسَيْنُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفٍ الْعِجْلِيُّ
أَبُو سَعْدٍ، أَحَدُ الرَّحَّالِينَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إِلَى الْبِلَادِ الْمُتَبَايِنَةِ، ثُمَّ أَقَامَ بِبَغْدَادَ مُدَّةً وَحَدَّثَ بِهَا، وَرَوَى عَنْهُ الْخَطِيبُ، وَقَالَ: كَانَ صَدُوقًا، ثُمَّ انْتَقَلَ فِي

آخِرِ عُمُرِهِ إِلَى مَكَّةَ فَسَكَنَهَا حَتَّى مَاتَ بِهَا فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْفَرَجِ بْنِ الْأَزْهَرِ، أَبُو الْقَاسِمِ الْأَزْهَرِيُّ
الْحَافِظُ الْمُحَدِّثُ الشَّهِيرُ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ السَّوَادِيِّ، سَمِعَ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مَالِكٍ وَخَلْقٍ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا دَيِّنًا، صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ حَسَنَ السِّيرَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ.
الْمَلِكُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ، أَبُو طَاهِرِ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ
صَاحِبُ بَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، كَانَ فِيهِ مَحَبَّةً عَظِيمَةً لِلْعِبَادِ وَيَزُورُهُمْ، وَيَلْتَمِسُ الدُّعَاءَ مِنْهُمْ، وَقَدْ نُكِبَ مَرَّاتٍ عَدِيدَةً، وَخَالَفَهُ الْأَتْرَاكُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ دَارِهِ وَمِنْ بَغْدَادَ بِالْكُلِّيَّةِ غَيْرَ مَا طَرِيقٍ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِمْ وَيَرْضَوْنَ عَنْهُ حَتَّى اعْتَرَاهُ وَجَعٌ فِي كَبِدِهِ، هَذِهِ السَّنَةَ، فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ الْخَامِسِ مِنْ شَعْبَانِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ إِحْدَى وَخَمْسُونَ سَنَةً وَأَشْهُرٌ، وَوَلِيَ بَغْدَادَ مِنْ ذَلِكَ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا دَخَلَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ بَغْدَادَ وَأَمَرَ بِضَرْبِ الطَّبْلِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلَمْ تَكُنِ الْمُلُوكُ قَبْلَهُ تَفْعَلُهُ، إِنَّمَا كَانَ يُضْرَبُ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ ثَلَاثَةَ أَوْقَاتٍ، وَمَا كَانَ يُضْرَبُ فِي الْأَوْقَاتِ الْخَمْسِ إِلَّا لِلْخَلِيفَةِ، وَكَانَ دُخُولُهُ فِي رَمَضَانَ، وَقَدْ فَرَّقَ عَلَى الْجُنْدِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَبَعَثَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَخَلَعَ عَلَى مُقَدِّمِي الْجُيُوشِ، وَهُمُ الْبَسَاسِيرِيُّ، وَالنَّشَاوَوْرِيُّ، وَالْهُمَامُ أَبُو اللِّقَاءِ، وَلَقَبَّهُ الْخَلِيفَةُ مُحْيِيَ الدَّوْلَةِ، وَخُطِبَ لَهُ فِي بِلَادٍ كَثِيرَةٍ بِأَمْرِ مُلُوكِهَا، وَخُطِبَ لَهُ بِهَمَذَانَ وَلَمْ يَبْقَ لِنُوَّابِ طُغْرُلْبَكَ فِيهَا أَمْرٌ.
وَفِيهَا اسْتَوْزَرَ طُغْرُلْبَكُ أَبَا الْقَاسِمِ عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْجُوَيْنِيَّ، وَهُوَ أَوَّلُ وَزِيرٍ وَزَرَ لَهُ.
وَفِيهَا وَزَرَ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ لِصَاحِبِ مِصْرَ، وَكَانَ يَهُودِيًّا، فَأَسْلَمَ بَعْدَ مَوْتِ الْجَرْجَرَائِيِّ.
وَفِيهَا تَوَلَّى نِقَابَةَ الْعَلَوِيِّينَ الشَّرِيفُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدْنَانَ بْنِ الشَّرِيفِ الرَّضِيُّ، وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ عَمِّهِ الْمُرْتَضَى أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيٍّ. وَسَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ.

وَفِيهَا وَلِيَ الْقَضَاءَ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ ; قَضَاءَ الْكَرْخِ، مُضَافًا إِلَى مَا كَانَ يَتَوَلَّاهُ مِنَ الْقَضَاءِ بِبَابِ الطَّاقِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْقَاضِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيِّ.
وَفِيهَا نَظَرَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْمُسْلِمَةِ فِي كِتَابَةِ دِيوَانِ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةٍ عَالِيَةٍ. وَلَمْ يَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ
نِسْبَةً إِلَى نَهْرٍ بِالْبَصْرَةِ، يُقَالُ لَهُ: الصَّيْمَرُ، عَلَيْهِ عِدَّةُ قُرَى. أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلِيَ قَضَاءَ الْمَدَائِنِ، ثُمَّ قَضَاءَ رَبْعِ الْكَرْخِ، وَحَدَّثَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْمُفِيدِ، وَابْنِ شَاهِينَ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ صَدُوقًا، وَافِرَ الْعَقْلِ، جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ، حَسَنَ الْعِبَارَةِ، عَارِفًا بِحُقُوقِ الْعُلَمَاءِ. تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو الْحُسَيْنِ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمُشْتَرِي، الْأَهْوَازِيُّ، كَانَ عَلَى قَضَاءِ الْأَهْوَازِ وَنَوَاحِيهَا، شَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ، كَانَ لَهُ مَنْزِلَةٌ كَبِيرَةٌ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَكَانَ صَدُوقًا، كَثِيرَ الْمَالِ، حَسَنَ السِّيرَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى، عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ،

الشَّرِيفُ الْمُوسَوِيُّ
الْمُلَقَّبُ بِالْمُرْتَضَى ذِي الْمَجْدَيْنِ - كَانَ أَكْبَرَ مِنْ أَخِيهِ الرَّضِيِّ، ذِي الْحَسَبَيْنِ - نَقِيبُ الطَّالِبِيِّينَ، وَكَانَ جَيِّدَ الشِّعْرِ، عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِيَّةِ وَالِاعْتِزَالِ، يُنَاظَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ يُنَاظَرُ عِنْدَهُ فِي كُلِّ الْمَذَاهِبِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي التَّشَيُّعِ ; أُصُولًا وَفُرُوعًا.
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَرْجَمَتِهِ أَشْيَاءَ مِنْ تَفَرُّدَاتِهِ فِي التَّشَيُّعِ، فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ السُّجُودُ إِلَّا عَلَى الْأَرْضِ أَوْ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِهَا. وَأَنَّ الِاسْتِجْمَارَ إِنَّمَا يُجْزِئُ فِي الْغَائِطِ لَا فِي الْبَوْلِ. وَأَنَّ الْكِتَابِيَّاتِ حَرَامٌ، وَذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ حَرَامٌ، وَكَذَا مَا وَلُوهُ هُمْ وَسَائِرُ الْكُفَّارِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ. وَأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ، وَالْمُعَلَّقَ مِنْهُ لَا يَقَعُ وَإِنْ وُجِدَ شَرْطُهُ. وَمَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ وَجَبَ قَضَاؤُهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصْبِحَ صَائِمًا كَفَّارَةً لِمَا وَقَعَ مِنْهُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا جَزَّتْ شَعْرَهَا يَجِبُ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ قَتْلِ الْخَطَأِ. وَمَنْ شَقَّ ثَوْبَهُ فِي مُصِيبَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَهَا زَوْجٌ لَا يَعْلَمُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ. وَأَنَّ قَطْعَ السَّارِقِ مِنْ أُصُولِ الْأَصَابِعِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: نَقَلْتُهَا مِنْ خَطِّ أَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عُقَيْلٍ. قَالَ: وَهَذِهِ مَذَاهِبٌ عَجِيبَةٌ تَخْرُقُ الْإِجْمَاعَ، وَأَعْجَبُ مِنْهَا ذَمُّ الصَّحَابَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. ثُمَّ سَرَدَ مِنْ كَلَامِهِ شَيْئًا قَبِيحًا فِي تَكْفِيرِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَبَّحَهُ وَأَمْثَالَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ تَابَ، فَقَدْ

رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الطُّيُورِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ بُرْهَانَ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى أَبِي الْقَاسِمِ الْعَلَوِيِّ فِي مَرَضِهِ، وَإِذَا قَدْ حَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ وَلِيَا فَعَدَلَا، وَاسْتَرْحَمَا فَرَحِمَا، أَفَأَنَا أَقُولُ: ارْتَدَّا بَعْدَ مَا أَسْلَمَا ؟! قَالَ: فَقُمْتُ فَمَا بَلَغْتُ عَتَبَةَ الْبَابِ حَتَّى سَمِعْتُ الزَّعْقَةَ عَلَيْهِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ وَأَوْرَدَ شَيْئًا مِنْ أَشْعَارِهِ الرَّائِقَةِ. قَالَ: وَيُقَالُ: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي وَضَعَ كِتَابَ " نَهْجِ الْبَلَاغَةِ ".
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، أَبُو مَنْصُورٍ الرُّويَانِيُّ
صَاحِبُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ. قَالَ الْخَطِيبُ: سَكَنَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا، وَكَتَبْنَا عَنْهُ، وَكَانَ صَدُوقًا يَسْكُنُ قَطِيعَةَ الرَّبِيعِ. وَمَاتَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ، مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الطَّيِّبِ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ الْمُتَكَلِّمُ
شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْمُنْتَصِرُ لَهُمْ، وَالْحَامِي عَنْ ذِمَارِهِمْ بِالتَّصَانِيفِ الْكَثِيرَةِ، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْقَاضِي

أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ، وَدُفِنَ فِي الشُّونِيزِيَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ سِوَى حَدِيثٍ وَاحِدٍ، رَوَاهُ عَنْهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي " تَارِيخِهِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الطَّيِّبِ، قُرِئَ عَلَى هِلَالِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَخِي هِلَالٍ الرَّأْيُ بِالْبَصْرَةِ وَأَنَا أَسْمَعُ، قِيلَ لَهُ: حَدَّثَكُمْ أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ وَأَبُو خَلِيفَةَ الْفَضْلُ بْنُ الْحُبَابِ الْجُمَحِيُّ وَالْغَلَّابِيُّ وَالْمَازِنِيُّ وَالزُّرَيْقِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رَبْعِيٍّ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ وَالْغَلَابِيُّ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَالْمَازِنِيُّ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ حَيَّانَ، وَالزُّرَيْقِيُّ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَالِدٍ الْبَصْرِيُّ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا بَعَثَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكُ السَّلْجُوقِيُّ أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ إِلَى بِلَادِ الْجَبَلِ، فَمَلَكَهَا وَأَخْرَجَ مِنْهَا صَاحِبَهَا كَرْشَاسِفَ بْنَ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ، فَالْتَحَقَ بِالْأَكْرَادِ، ثُمَّ سَارَ إِبْرَاهِيمُ يَنَّالُ إِلَى الدِّينَوَرِ فَمَلَكَهَا، وَأَخْرَجَ مِنْهَا صَاحَبَهَا وَهُوَ أَبُو الشَّوْكِ، فَسَارَ إِلَى حُلْوَانَ فَتَبِعَهُ إِبْرَاهِيمُ، فَمَلَكَهَا قَهْرًا، وَأَحْرَقَ دَارَهُ، وَغَنِمَ أَمْوَالَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَجَهَّزَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ صَاحِبُ بَغْدَادَ لِقِتَالِ السَّلَاجِقَةِ الَّذِينَ غَزَوْا أَنْصَارَهُ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ لِقِلَّةِ الظَّهْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْآفَةَ اعْتَرَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْخَيْلَ، فَمَاتَ لَهُ فِيهَا نَحْوٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ فَرَسٍ، بِحَيْثُ جَافَتْ بَغْدَادَ مِنْ نَتَنِ الْخَيْلِ.
وَفِيهَا وَقَعَ بِبَغْدَادَ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى نَهْبِ دُورِ الْيَهُودِ، وَإِحْرَاقِ الْكَنِيسَةِ الْعَتِيقَةِ الَّتِي لَهُمْ، وَاتَّفَقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَوْتُ رَجُلٍ مِنْ أَكَابِرِ النَّصَارَى بِوَاسِطٍ، فَجَلَسَ أَهْلُهُ لِعَزَائِهِ عَلَى بَابِ مَسْجِدٍ هُنَاكَ، وَأَخْرَجُوا جِنَازَتَهُ جَهْرَةً، وَمَعَهَا طَائِفَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ يَحْرُسُونَهَا، فَحَمَلَتْ عَلَيْهِمُ الْعَامَّةُ، فَأَخَذُوا الْمَيِّتَ مِنْهُمْ، وَاسْتَخْرَجُوهُ مِنْ أَكْفَانِهِ فَأَحْرَقُوهُ، وَرَمَوْهُ فِي دِجْلَةَ، وَمَضَوْا إِلَى الدَّيْرِ فَنَهَبُوهُ، وَعَجَزَ الْأَتْرَاكُ عَنْ دَفْعِهِمْ. وَلَمْ يَحُجَّ أَهْلُ الْعِرَاقِ فِي هَذَا الْعَامِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

فَارِسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَنَانٍ
صَاحِبُ الدِّينَوَرِ وَحُلْوَانَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا الْأَوَانِ.
خَدِيجَةُ بِنْتُ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاعِظَةُ
وَتُعْرَفُ بِبِنْتِ الْبَقَّالِ، وَتُكَنَّى أُمَّ سَلَمَةَ، قَالَ الْخَطِيبُ: كَتَبْتُ عَنْهَا، وَكَانَتْ فَقِيرَةً صَالِحَةً فَاضِلَةً.
أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الْمَنَازِيُّ
الشَّاعِرُ الْكَاتِبُ، وَزِيرُ أَحْمَدَ بْنِ مَرْوَانَ الْكُرْدِيِّ، صَاحِبُ مَيَّافَارِقِينَ وَدِيَارِ بَكْرٍ، كَانَ فَاضِلًا بَارِعًا لَطِيفًا، تَرَدَّدَ فِي التَّرَسُّلِ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَحَصَّلَ كُتُبًا كَثِيرَةً أَوْقَفَهَا عَلَى جَامِعَيْ آمِدَ وَمَيَّافَارِقِينَ، وَدَخَلَ يَوْمًا عَلَى أَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي مُعْتَزِلُ النَّاسِ، وَهُمْ يُؤْذُونَنِي. فَقَالَ: وَلِمَ وَقَدْ تَرَكَتْ لَهُمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ؟! وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ قَلِيلُ النَّظِيرِ عَزِيزُ الْوُجُودِ، حَرَصَ عَلَيْهِ الْقَاضِي الْفَاضِلُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَمِنْ شِعْرِهِ فِي وَادِي بُزَاعَا قَوْلُهُ:
وَقَانَا لَفْحَةَ الرَّمْضَاءِ وَادٍ وَقَاهُ مُضَاعَفُ النَّبْتِ الْعَمِيمِ نَزَلْنَا دَوْحَهُ فَحَنَا عَلَيْنَا
حُنُوَّ الْمُرْضِعَاتِ عَلَى الْفَطِيمِ وَأَرْشَفَنَا عَلَى ظَمَأٍ زُلَالًا
أَلَذَّ مِنَ الْمُدَامَةِ لِلنَّدِيمِ

يُرَاعِي الشَّمْسَ أَنَّى قَابَلَتْهُ
فَيَحْجُبُهَا وَيَأْذَنُ لِلنَّسِيمِ تَرُوعُ حَصَاهُ حَالِيَةَ الْعَذَارَى
فَتَلْمَسُ جَانِبَ الْعِقْدِ النَّظِيمِ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ بَدِيعَةٌ فِي بَابِهَا.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْمُوتَانُ كَثِيرٌ فِي الدَّوَابِّ جِدًّا حَتَّى جَافَتْ بَغْدَادَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَرُبَّمَا أَحْضَرَ بَعْضُ النَّاسِ الْأَطِبَّاءَ إِلَى دَوَابِّهِمْ فَيَسْقُونَهَا مَاءَ الشَّعِيرِ وَيُطَبِّبُونَهَا.
وَفِيهَا حَاصَرَ السُّلْطَانُ ابْنُ طُغْرُلْبَكَ أَصْبَهَانَ فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى مَالٍ يَحْمِلُونَهُ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُخْطَبَ لَهُ بِهَا، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ.
وَفِيهَا مَلَكَ مُهَلْهِلٌ قَرْمَيْسِينَ وَالدِّينَوَرَ.
وَفِيهَا تَأَمَّرَ عَلَى بَنِي خَفَاجَةَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: رَجَبُ بْنُ أَبِي مَنِيعِ بْنِ ثُمَالٍ. بَعْدَ وَفَاةِ بَدْرَانَ بْنِ سُلْطَانَ بْنِ ثُمَالٍ، وَهَؤُلَاءِ الْأَعْرَابُ هُمْ أَكْثَرُ مَنْ يَصُدُّ الْحَجِيجَ عَنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَلَا جَزَاهُمُ اللَّهُ خَيْرًا، وَقَبَّحَهُمْ يَوْمَ يقومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [ سُورَةُ غَافِرٍ: 52 ].

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ

ابْنِ حَيَّوَيْهِ
الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ إِمَامُ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، وَهُوَ وَالِدُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَبِي الْمَعَالِي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهَا: سِنْبِسُ. وَجُوَيْنُ مِنْ نَوَاحِي نَيْسَابُورَ سَمِعَ الْحَدِيثِ مِنْ بِلَادٍ شَتَّى عَلَى جَمَاعَةٍ، وَقَرَأَ الْأَدَبَ عَلَى أَبِيهِ، وَتَفَقَّهَ بِأَبِي الطَّيِّبِ سَهْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصُّعْلُوكِيِّ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مَرْوَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْقَفَّالِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى نَيْسَابُورَ وَعَقَدَ مَجْلِسَ الْمُنَاظَرَةِ، وَكَانَ مَهِيبًا لَا يَجْرِي بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَّا الْجِدُّ، وَصَنَّفَ التَّصَانِيفَ الْكَثِيرَةَ فِي أَنْوَاعٍ مِنَ الْعُلُومِ، وَكَانَ وَرِعًا زَاهِدًا شَدِيدَ الِاحْتِيَاطِ، رُبَّمَا أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مَرَّتَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ " وَمَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ فِي مَدْحِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ صَنَّفَ " التَّفْسِيرَ الْكَبِيرَ " الْمُشْتَمِلَ عَلَى أَنْوَاعٍ الْعُلُومِ وَلَهُ فِي الْفِقْهِ " التَّبْصِرَةُ " وَ " التَّذْكِرَةُ " وَ " مُخْتَصَرُ الْمُخْتَصَرِ " وَ " الْفَرْقُ وَالْجَمْعُ " وَ " السِّلْسِلَةُ " وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَالْأَدَبِ وَالْعَرَبِيَّةِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - وَقِيلَ: سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ، قَالَهُ السَّمْعَانِيُّ فِي " الْأَنْسَابِ " - وَهُوَ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهل التأويل يتعرون أمام قانوني الحق والميزان

    بسم الله الرحمن الرحيم خلاصة قانون الحق = أن الله خلق السماوات والارض وما فيهم وما بينهم وما لأجلهم بقدر قام في وقت محدد وزمن مع...