الأحد، 1 أغسطس 2021

17 /1 البداية والنهاية تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

 

:     17 /1    البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

رُسْتُمَ، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: هِلَالُ بْنُ عُلَّفَةَ التَّيْمِيُّ. رَمَاهُ رُسْتُمُ بِنُشَّابَةٍ، فَأَصَابَ قَدَمَهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ هِلَالٌ فَقَتَلَهُ وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَوَلَّتِ الْفُرْسُ، فَأَتْبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يُقَتِّلُونَهُمْ، فَأَدْرَكُوهُمْ فِي مَكَانٍ قَدْ نَزَلُوا فِيهِ وَاطْمَأَنُّوا، فَبَيْنَمَا هُمْ سُكَارَى قَدْ شَرِبُوا وَلَعِبُوا إِذْ هَجَمَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَقُتِلَ هُنَالِكَ الْجَالِنُوسُ، قَتَلَهُ زُهْرَةُ بْنُ حَوِيَّةَ التَّمِيمِيُّ، ثُمَّ سَارُوا خَلْفَهُمْ فَكُلَّمَا تَوَاجَهَ الْفَرِيقَانِ نَصَرَ اللَّهُ حِزْبَ الرَّحْمَنِ، وَخَذَلَ حِزْبَ الشَّيْطَانِ وَعَبَدَةَ النِّيرَانِ، وَاحْتَازَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا يَعْجَزُ عَنْ حَصْرِهِ مِيزَانٌ وَقَبَّانٌ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَنْ يُقَايِضُ بَيْضَاءَ بِصَفْرَاءَ. لِكَثْرَةِ مَا غَنِمُوا مِنَ الْفُرْسَانِ. وَلَمْ يَزَالُوا يَتْبَعُونَهُمْ حَتَّى جَازُوا الْفُرَاتَ وَرَاءَهُمْ، وَفَتَحُوا الْمَدَائِنَ وَجَلُولَاءَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ أُمِّ كَثِيرٍ امْرَأَةِ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ النَّخَعِيِّ قَالَتْ: شَهِدْنَا الْقَادِسِيَّةَ مَعَ سَعْدٍ مَعَ أَزْوَاجِنَا، فَلَمَّا أَتَانَا أَنْ قَدْ فُرِغَ مِنَ النَّاسِ، شَدَدْنَا عَلَيْنَا ثِيَابَنَا وَأَخَذْنَا الْهَرَاوَى، ثُمَّ أَتَيْنَا الْقَتْلَى، فَمَنْ كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَقَيْنَاهُ وَرَفَعْنَاهُ، وَمَنْ كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَجْهَزْنَا عَلَيْهِ، وَمَعَنَا الصِّبْيَانُ فَنُوَلِّيهِمْ ذَلِكَ. تَعْنِي اسْتِلَابَهُمْ ; لِئَلَّا يَكْشِفْنَ عَنْ عَوْرَاتِ الرِّجَالِ.
وَقَالَ سَيْفٌ بِأَسَانِيدِهِ عَنْ شُيُوخِهِ قَالُوا: وَكَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ يُخْبِرُهُ بِالْفَتْحِ

وَبِعِدَّةِ مَنْ قَتَلُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَبِعِدَّةِ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَعَثَ بِالْكِتَابِ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُمَيْلَةَ الْفَزَّارِيِّ، وَصُورَتُهُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ نَصَرَنَا عَلَى أَهْلِ فَارِسَ، وَمَنَحَهُمْ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ بَعْدَ قِتَالٍ طَوِيلٍ، وَزِلْزَالٍ شَدِيدٍ، وَقَدْ لَقُوا الْمُسْلِمِينَ بِعِدَّةٍ لَمْ يَرَ الرَّاءُونَ مِثْلَ زُهَائِهَا، فَلَمْ يَنْفَعْهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ بَلْ سُلِبُوهُ، وَنَقَلَهُ عَنْهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَتْبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْأَنْهَارِ، وَصُفُوفِ الْآجَامِ، وَفِي الْفِجَاحِ، وَأُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدِ الْقَارِّيُّ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَرِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنَّهُ بِهِمْ عَالِمٌ، كَانُوا يُدَوُّونَ بِالْقُرْآنِ إِذَا جَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، وَهُمْ آسَادٌ فِي النَّهَارِ لَا تُشْبِهُهُمُ الْأُسُودُ، وَلَمْ يُفَضُلْ مَنْ مَضَى مِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ إِلَّا بِفَضْلِ الشَّهَادَةِ إِذَا لَمْ تُكْتَبُ لَهُمْ. فَيُقَالُ: إِنَّ عُمَرَ قَرَأَ هَذِهِ الْبِشَارَةَ عَلَى النَّاسِ فَوْقَ الْمِنْبَرِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. ثُمَّ قَالَ عُمَرُ لِلنَّاسِ: إِنِّي حَرِيصٌ عَلَى أَنْ لَا أَرَى حَاجَةً إِلَّا سَدَدْتُهَا مَا اتَّسَعَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ، فَإِذَا عَجَزَ ذَلِكَ عَنَّا تَأَسَّيْنَا فِي عَيْشِنَا حَتَّى نَسْتَوِيَ فِي الْكَفَافِ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّكُمْ عَلِمْتُمْ مِنْ نَفْسِي مِثْلَ الَّذِي وَقَعَ فِيهَا لَكُمْ، وَلَسْتُ مُعْلِمَكُمْ إِلَّا بِالْعَمَلِ، إِنِّي وَاللَّهِ لَسْتُ بِمَلِكٍ فَأَسْتَعْبِدَكُمْ، وَلَكِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، عَرَضَ عَلَيَّ الْأَمَانَةَ، فَإِنْ أَبَيْتُهَا وَرَدَدْتُهَا عَلَيْكُمْ وَاتَّبَعْتُكُمْ حَتَّى تَشْبَعُوا فِي بُيُوتِكُمْ وَتَرْوَوْا سَعِدْتُ بِكُمْ، وَإِنْ أَنَا حَمَلْتُهَا وَاسْتَتْبَعْتُهَا إِلَى بَيْتِي شَقِيتُ بِكُمْ، فَفَرِحْتُ

قَلِيلًا وَحَزِنَتْ طَوِيلًا، فَبَقِيتُ لَا أُقَالُ وَلَا أُرَدُّ فَأُسْتَعْتَبَ.
وَقَالَ سَيْفٌ عَنْ شُيُوخِهِ قَالُوا: وَكَانَتِ الْعَرَبُ مِنَ الْعُذَيْبِ إِلَى عَدَنِ أَبْيَنَ يَتَرَبَّصُونَ وَقْعَةَ الْقَادِسِيَّةَ هَذِهِ، يَرَوْنَ أَنَّ ثَبَاتَ مُلْكِهِمْ وَزَوَالَهُ بِهَا، وَقَدْ بَعَثَ أَهْلُ كُلِّ بَلْدَةٍ قَاصِدًا يَكْشِفُ مَا يَكُونُ مِنْ خَبِرِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ مَا كَانَ مِنَ الْفَتْحِ سَبَقَتِ الْجِنُّ بِالْبِشَارَةِ إِلَى أَقْصَى الْبِلَادِ قَبْلَ رُسُلِ الْإِنْسِ، فَسُمِعَتِ امْرَأَةٌ لَيْلًا بِصَنْعَاءَ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَهِيَ تَقُولُ:
فَحُيِّيتِ عَنَّا عِكْرِمَ ابْنَةَ خَالِدٍ وَمَا خَيْرُ زَادٍ بِالْقَلِيلِ الْمُصَرِّدِ
وَحَيَّتْكِ عَنِّي الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَحَيَّاكِ عَنِّي كُلُّ نَاجٍ مُفَرَّدِ
وَحَيَّتْكِ عَنِّي عُصْبَةٌ نَخَعِيَّةٌ حِسَانُ الْوُجُوهِ آمَنُوا بِمُحَمَّدِ
أَقَامُوا لِكِسْرَى يَضْرِبُونَ جُنُودَهُ بِكُلِّ رَقِيقِ الشَّفْرَتَيْنِ مُهَنَّدِ
إِذَا ثَوَّبَ الدَّاعِي أَنَاخُوا بِكَلْكَلٍ مِنَ الْمَوْتِ مُسْوَدِّ الْغَيَاطِلِ أَجْرَدِ
قَالُوا: وَسَمِعَ أَهْلُ الْيَمَامَةِ مُجْتَازًا يُغَنِّي بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
وَجَدْنَا الْأَكْثَرِينَ بَنِي تَمِيمٍ غَدَاةَ الرَّوْعِ أَكْثَرَهُمْ رِجَالَا
هُمُ سَارُوا بِأَرْعَنَ مُكْفَهِرٍّ إِلَى لَجَبٍ فَزَرَّتْهُمْ رِعَالَا
بُحُورٌ لِلْأَكَاسِرِ مِنْ رِجَالٍ كَأُسْدِ الْغَابِ تَحْسَبُهُمْ جِبَالَا

تَرَكْنَ لَهُمْ بِقَادِسَ عِزَّ فَخْرٍ
وَبِالْخَيْفَيْنِ أَيَّامًا طِوَالَا مُقَطَّعَةً أَكُفُّهُمُ وَسُوقٌ
بِمُرْدٍ حَيْثُ قَابَلَتِ الرَّجَّالَا
قَالُوا: وَسُمِعَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ بِلَادِ الْعَرَبِ.
وَقَدْ كَانَتْ بِلَادُ الْعِرَاقِ بِكَامِلِهَا الَّتِي فَتَحَهَا خَالِدٌ نَقَضَتِ الْعُهُودَ وَالذِّمَمَ وَالْمَوَاثِيقَ الَّتِي كَانُوا أَعْطَوْهَا خَالِدًا سِوَى أَهْلِ بَانِقْيَا وَبَارُوسْمَا وَأَهْلِ أُلَّيْسٍ الْآخِرَةِ، ثُمَّ عَادَ الْجَمِيعُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا، وَادَّعَوْا أَنَّ الْفُرْسَ أَجْبَرُوهُمْ عَلَى نَقْضِ الْعُهُودِ، وَأَخَذُوا مِنْهُمُ الْخَرَاجَ وَغَيْرَ ذَلِكَ. فَصَدَّقُوهُمْ فِي ذَلِكَ ; تَأَلُّفًا لِقُلُوبِهِمْ، وَسَنَذْكُرُ حُكْمَ أَهْلِ السَّوَادِ فِي كِتَابِنَا " الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَهَبَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ وَقْعَةَ الْقَادِسِيَّةِ كَانَتْ فِي سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ. وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهَا كَانَتْ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ. وَأَمَّا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ وَجَمَاعَةٌ فَذَكَرُوهَا فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَفِيهَا ذَكَرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْوَاقِدِيُّ: وَفِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ جَمَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي التَّرَاوِيحِ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْهَا، وَكَتَبَ إِلَى سَائِرِ الْأَمْصَارِ يَأْمُرُهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْزِلَ بِهَا بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَطْعِ مَادَّةِ أَهْلِ فَارِسَ عَنِ الَّذِينَ بِالْمَدَائِنِ وَنَوَاحِيهَا مِنْهُمْ، فِي قَوْلِ الْمَدَائِنِيِّ. وَرِوَايَتُهُ قَالَ: وَزَعَمَ سَيْفٌ أَنَّ الْبَصْرَةَ إِنَّمَا مُصِّرَتْ فِي رَبِيعٍ مِنْ سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ، وَأَنَّ عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ إِنَّمَا خَرَجَ إِلَى الْبَصْرَةِ مِنَ الْمَدَائِنِ بَعْدَ فَرَاغِ سَعْدٍ مِنْ جَلُولَاءَ وَتَكْرِيتَ، وَجَّهَهُ إِلَيْهَا سَعْدٌ بِأَمْرِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ مَجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: إِنَّ عُمَرَ بَعَثَ عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ إِلَى أَرْضِ الْبَصْرَةِ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَسَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَعْرَابِ مَا كَمَّلَ مَعَهُ خَمْسَمِائَةٍ، فَنَزَلَهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَالْبَصْرَةُ يَوْمَئِذٍ تُدْعَى أَرْضَ الْهِنْدِ، فِيهَا حِجَارَةٌ بِيضُ خَشِنَةٌ، وَجَعَلَ يَرْتَادُ لَهُمْ مَنْزِلًا حَتَّى جَاءُوا حِيَالَ الْجِسْرِ الصَّغِيرِ، فَإِذَا فِيهِ حَلَفٌ وَقَصَبٌ نَابِتٌ فَنَزَلُوا، فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ صَاحِبُ الْفُرَاتِ فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ أُسْوَارٍ، فَالْتَقَاهُ عُتْبَةُ بَعْدَمَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوا الْفُرْسَ عَنْ آخِرِهِمْ، وَأَسَرُوا صَاحِبَ الْفُرَاتِ، وَقَامَ عُتْبَةُ خَطِيبًا فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِصُرْمٍ، وَوَلَّتْ حَذَّاءَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ، وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارِ الْقَرَارِ، فَانْتَقِلُوا بِخَيْرِ مَا

بِحَضْرَتِكُمْ، فَقَدْ ذُكِرَ لِي لَوْ أَنَّ صَخْرَةً أُلْقِيَتْ مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ هَوَتْ سَبْعِينَ خَرِيفًا وَلَتَمْلَأْنَّهُ، أَوَعَجِبْتُمْ ؟ ! وَلَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَلَيَأْتِينَ عَلَيْهِ يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا سَابِعُ سَبْعَةٍ، وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ السَّمُرِ، حَتَّى تَقَرَّحَتْ أَشْدَاقُنَا، وَالْتَقَطْتُ بُرْدَةً فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدٍ فَمَا مِنَّا مِنْ أُولَئِكَ السَّبْعَةِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا هُوَ أَمِيرٌ عَلَى مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ، وَسَتُجَرِّبُونَ النَّاسَ بَعْدَنَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ.
وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ، أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ حِينَ وَجَّهَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ: يَا عُتْبَةُ إِنِّي اسْتَعْمَلْتُكَ عَلَى أَرْضِ الْهِنْدِ، وَهِيَ حَوْمَةٌ مِنْ حَوْمَةِ الْعَدُوِّ، وَأَرْجُو أَنْ يَكْفِيَكَ اللَّهُ مَا حَوْلَهَا، وَأَنْ يُعِينَكَ عَلَيْهَا، وَقَدْ كَتَبْتُ إِلَى الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ يُمِدُّكَ بِعَرْفَجَةَ بْنِ هَرْثَمَةَ، فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْكَ فَاسْتَشِرْهُ وَقَرِّبْهُ، وَادْعُ إِلَى اللَّهِ، فَمَنْ أَجَابَكَ فَاقْبَلْ مِنْهُ وَمَنْ أَبَى فَالْجِزْيَةُ عَنْ صِغَارٍ وَذِلَّةٍ، وَإِلَّا فَالسَّيْفُ فِي غَيْرِ هَوَادَةٍ، وَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا وُلِّيتَ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُنَازِعَكَ نَفْسُكَ إِلَى كِبْرٍ فَتُفْسِدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكِ، وَقَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَزَزْتَ بِهِ بَعْدَ الذِّلَّةِ، وَقَوِيتَ بِهِ بَعْدَ الضَّعْفِ، حَتَّى صِرْتَ أَمِيرًا مُسَلَّطًا، وَمَلِكًا مُطَاعًا، تَقُولُ فَيُسْمَعُ مِنْكَ، وَتَأْمُرُ فَيُطَاعُ أَمْرُكَ، فَيَا لَهَا نِعْمَةٍ إِنْ لَمْ تَرْقَ فَوْقَ قَدْرِكَ وَتَبْطَرْ عَلَى مَنْ دُونَكَ، احْتَفِظْ مِنَ النِّعْمَةِ احْتِفَاظَكَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَلَهِيَ أَخْوَفُهُمَا عِنْدِي عَلَيْكَ أَنْ تَسْتَدْرِجَكَ وَتَخْدَعَكَ فَتَسْقُطَ سَقْطَةً فَتَصِيرَ بِهَا إِلَى جَهَنَّمَ،

أُعِيذُكَ بِاللَّهِ وَنَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، إِنَّ النَّاسَ أَسْرَعُوا إِلَى اللَّهِ حَتَّى رُفِعَتْ لَهُمُ الدُّنْيَا فَأَرَادُوهَا، فَأَرِدِ اللَّهَ وَلَا تُرِدِ الدُّنْيَا، وَاتَّقِ مَصَارِعَ الظَّالِمِينَ.
وَقَدْ فَتَحَ عُتْبَةُ الْأُبُلَّةَ فِي رَجَبٍ أَوْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَمَّا مَاتَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ عُمَرُ عَلَى الْبَصْرَةِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ سَنَتَيْنِ، فَلَمَّا رُمِيَ بِمَا رُمِيَ بِهِ عَزَلَهُ وَوَلَّى عَلَيْهَا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ابْنَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ فِي الشَّرَابِ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ، وَفِيهَا ضَرَبَ أَبَا مِحْجَنٍ الثَّقَفِيَّ فِي الشَّرَابِ أَيْضًا سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَضَرَبَ مَعَهُ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ. وَفِيهَا نَزَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ بِ الْكُوفَةِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. قَالَ: وَكَانَ بِمَكَّةَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ، وَبِالشَّامِ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَبِالْبَحْرَيْنِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَقِيلَ: الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ. وَعَلَى الْعِرَاقِ سَعْدٌ، وَعَلَى عُمَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ.

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ مِنَ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ.
فَفِيهَا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فِي قَوْلٍ، وَالصَّحِيحُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بْنِ جَابِرِ بْنِ وُهَيْبٍ الْمَازِنِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، صَحَابِيٌّ بَدْرِيٌّ، وَأَسْلَمَ قَدِيمًا بَعْدَ سَنَةٍ، وَهَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اخْتَطَّ الْبَصْرَةَ عَنْ أَمْرِ عُمَرَ، وَإِمْرَتُهُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَهُ فَضَائِلُ

وَمَآثِرُ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ. وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ. وَقِيلَ: سَنَةَ عِشْرِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ جَاوَزَ الْخَمْسِينَ. وَقِيلَ: بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، وَيُقَالُ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ. صَحَابِيٌّ مُهَاجِرٌ، هَاجَرَ بَعْدَ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ يُقْرِئُ النَّاسَ الْقُرْآنَ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَدِينَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَيُقَالُ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَرَّةً. وَشَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ مَعَ سَعْدٍ زَمَنَ عُمَرَ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ قُتِلَ بِهَا شَهِيدًا. وَيُقَالُ: إِنَّهُ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتُوفِي بِهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ ضَمْضَمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ الشَّيْبَانِيُّ، نَائِبُ خَالِدٍ عَلَى الْعِرَاقِ، وَهُوَ الَّذِي صَارَتْ إِلَيْهِ الْإِمْرَةُ بَعْدَ أَبِي عُبَيْدٍ يَوْمَ الْجِسْرِ، فَدَارَى بِالْمُسْلِمِينَ حَتَّى خَلَّصَهُمْ مِنَ الْفُرْسِ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ أَحَدَ الْفُرْسَانِ الْأَبْطَالِ، وَهُوَ الَّذِي رَكِبَ إِلَى الصِّدِّيقِ فَحَرَّضَهُ عَلَى غَزْوِ الْعِرَاقِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ تَزَوَّجَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ بِامْرَأَتِهِ سَلْمَى بِنْتِ حَفْصٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَرْضَاهُمَا وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِهِ " الْغَابَةِ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ ".
أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ، أَحَدُ الْقُرَّاءِ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ حَفِظُوا الْقُرْآنَ مَنِ الْأَنْصَارِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُمْ: مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ. قَالَ أَنَسٌ:

أَحَدُ عُمُومَتِي. قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَاسْمُ أَبِي زَيْدٍ هَذَا قَيْسُ بْنُ السَّكَنِ بْنِ قَيْسِ بْنِ زَعُورَاءَ بْنِ حَرَامِ بْنِ جُنْدُبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، شَهِدَ بَدْرًا. قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ جِسْرِ أَبِي عُبَيْدٍ. وَهِيَ عِنْدَهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: أَبُو زَيْدٍ الَّذِي جَمَعَ الْقُرْآنَ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ. وَرَدُّوا هَذَا بِرِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: افْتَخَرَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ. فَقَالَتِ الْأَوْسُ: مِنَّا غَسِيلُ الْمَلَائِكَةِ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ، وَمِنَّا الَّذِي حَمَتْهُ الدَّبْرُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ، وَمِنَّا الَّذِي اهْتَزَّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَمِنَّا الَّذِي جُعِلَتْ شَهَادَتُهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ. فَقَالَتِ الْخَزْرَجُ: مِنَّا أَرْبَعَةٌ جَمَعُوا الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أُبَيٌّ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمُعَاذٌ، وَأَبُو زَيْدٍ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
أَبُو عُبَيْدِ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو الثَّقَفِيُّ، وَالِدُ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ أَمِيرِ الْعِرَاقِ، وَوَالِدُ صَفِيَّةَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَسْلَمَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الصَّحَابَةِ.
قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لَهُ رِوَايَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

أَبُو قُحَافَةَ وَالِدُ الصِّدِّيقِ، وَاسْمُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ عُثْمَانَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَخْرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ، أَسْلَمَ أَبُو قُحَافَةَ عَامَ الْفَتْحِ، فَجَاءَ بِهِ الصِّدِّيقُ يَقُودُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَلَّا أَقْرَرْتُمُ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى كُنَّا نَحْنُ نَأْتِيهِ. تَكْرِمَةً لِأَبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: بَلْ هُوَ أَحَقُّ بِالسَّعْيِ إِلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرَأْسُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا، وَدَعَا لَهُ، وَقَالَ: غَيِّرُوا هَذَا الشَّيْبَ بِشَيْءٍ، وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى الصِّدِّيقِ، أَخْبَرَهُ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ وَهُوَ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: وَأَقَرَّتْ بِذَلِكَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو مَخْزُومٍ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. ثُمَّ أُصِيبَ بِابْنِهِ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو قُحَافَةَ فِي مُحَرَّمٍ، وَقِيلَ: فِي رَجَبٍ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ بِمَكَّةَ. عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَمِمَّنْ ذَكَرَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ مِنَ الْمُسْتَشْهَدِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُرَتَّبِينَ عَلَى الْحُرُوفِ:
أَوْسُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكٍ. قُتِلَ يَوْمَ الْجِسْرِ. بَشِيرُ بْنُ عَنْبَسِ بْنِ يَزِيدَ الظُّفَرِيُّ أُحُدِيٌّ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، وَيُعْرَفُ بِفَارِسِ الْحَوَّاءِ ; اسْمِ فَرَسِهِ. ثَابِتُ بْنُ عَتِيكٍ، مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ، صَحَابِيٌّ، قُتِلَ يَوْمَ الْجِسْرِ. ثَعْلَبَةُ بْنُ عَمْرِو

بْنِ مِحْصَنٍ النَّجَّارِيُّ بَدْرِيٌّ، قَتِلَ يَوْمَئِذٍ. الْحَارِثُ بْنُ عَتِيكِ بْنِ النُّعْمَانِ النَّجَّارِيُّ، شَهِدَ أُحُدًا، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ. الْحَارِثُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ عَبْدَةَ، صَحَابِيٌّ أَنْصَارِيٌّ، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ. الْحَارِثُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ مَالِكٍ، أَنْصَارِيُّ أُحُدِيُّ، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ. خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، قِيلَ: إِنَّهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ مَرْجِ الصُّفَّرِ، وَكَانَ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فِي قَوْلٍ. خُزَيْمَةُ بْنُ أَوْسٍ الْأَشْهَلِيُّ، قُتِلَ يَوْمَ الْجِسْرِ. رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَرَّخَ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ابْنُ قَانِعٍ. زَيْدُ بْنُ سُرَاقَةَ، يَوْمَ الْجِسْرِ. سَعْدُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ الْأَشْهَلِيُّ. سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فِي قَوْلٍ. سَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ، يَوْمَ الْجِسْرِ. سَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ، يَوْمَ مَرْجِ الصُّفَّرِ وَقَدْ كَانَ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فِي قَوْلٍ. سَلِيطُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ، يَوْمَ الْجِسْرِ. ضَمْرَةُ بْنُ غَزِيَّةَ، يَوْمَ الْجِسْرِ. عَبَّادٌ وَعَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بَنُو مِرْبَعِ بْنِ قَيْظِيِّ، قُتِلُوا يَوْمَئِذٍ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَعْصَعَةَ بْنِ وَهْبٍ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ، شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " الْغَابَةِ ": وَقُتِلَ يَوْمَ الْجِسْرِ. عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، تَقَدَّمَ. عُقْبَةُ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ، حَضَرَا الْجِسْرَ مَعَ أَبِيهِمَا قِيظِيِّ بْنِ قَيْسٍ، وَقُتِلَا يَوْمَئِذٍ. الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي قَوْلٍ، وَقِيلَ: بَعْدَهَا. وَسَيَأْتِي. عُمَرُ بْنُ أَبِي الْيَسَرِ، قُتِلَ يَوْمَ الْجِسْرِ. قَيْسُ بْنُ السَّكَنِ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، تَقَدَّمَ. الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيُّ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،

رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. نَافِعُ بْنُ غَيْلَانَ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ. نَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ، قِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَالْمَشْهُورُ قَبْلَهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَاقَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قُتِلَ يَوْمَ... يَزِيدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ الْأَنْصَارِيُّ الظُّفَرِيُّ، شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، قُتِلَ يَوْمَ الْجِسْرِ. وَقَدْ أَصَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ جِرَاحَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ أَبُوهُ شَاعِرًا مَشْهُورًا. أَبُو عُبَيْدِ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، أَمِيرُ يَوْمِ الْجِسْرِ، وَبِهِ عُرِفَ ; لِقَتْلِهِ عِنْدَهُ، تَخَبَّطَهُ الْفِيلُ حَتَّى قَتَلَهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَعْدَمَا قَطَعَ بِسَيْفِهِ خُرْطُومَهُ كَمَا تَقَدَّمَ. أَبُو قُحَافَةَ التَّيْمِيُّ وَالِدُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ أُمَيَّةَ الْأُمَوِيَّةُ، وَالِدَةُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَتْ مِنْ سَيِّدَاتِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، ذَاتَ رَأْيٍ وَدَهَاءٍ وَرِيَاسَةٍ فِي قَوْمِهَا، وَقَدْ شَهِدَتْ يَوْمَ أُحُدٍ مَعَ زَوْجِهَا، وَكَانَ لَهَا تَحْرِيضٌ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ، وَلَمَّا قُتِلَ حَمْزَةُ مَثَّلَتْ بِهِ، وَأَخَذَتْ مِنْ كَبِدِهِ فَلَاكَتْهَا، فَلَمْ تَسْتَطِعْ إِسَاغَتَهَا ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ قَتَلَ أَبَاهَا وَأَخَاهَا يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ أَسَلَمَتْ - وَحَسُنَ إِسْلَامُهَا - عَامَ الْفَتْحِ بَعْدَ زَوْجِهَا بِلَيْلَةٍ، وَلَمَّا أَرَادَتِ الذَّهَابَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتُبَايِعَهُ اسْتَأْذَنَتْ أَبَا سُفْيَانَ، فَقَالَ لَهَا: قَدْ كُنْتِ بِالْأَمْسِ مُكَذِّبَةً بِهَذَا الْأَمْرِ. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ اللَّهَ عُبِدَ حَقَّ عِبَادَتِهِ بِهَذَا الْمَسْجِدِ قَبْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَاللَّهِ لَقَدْ بَاتُوا لَيْلَهُمْ كُلُّهُمْ يُصَلُّونَ فِيهِ. فَقَالَ لَهَا: إِنَّكِ قَدْ فَعَلْتِ مَا فَعَلْتِ فَلَا تَذْهَبِي وَحْدَكِ. فَذَهَبَتْ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - وَيُقَالُ:

إِلَى أَخِيهَا أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ - فَذَهَبَ مَعَهَا، فَدَخَلَتْ وَهِيَ مُتَنَقِّبَةً، فَلَمَّا بَايَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ قَالَ: " عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقْنَ وَلَا تَزْنِينَ " فَقَالَتْ: أَوَتَزْنِي الْحُرَّةُ ؟ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ قَالَتْ: قَدْ رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارًا فَقَتَلْتَهُمْ كِبَارًا. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فَبَادَرَتْ وَقَالَتْ: فِي مَعْرُوفٍ. فَقَالَ: فِي مَعْرُوفٍ. وَهَذَا مِنْ فَصَاحَتِهَا وَحَزْمِهَا، وَقَدْ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَاءِكَ، فَقَدْ وَاللَّهِ أَصْبَحَ الْيَوْمَ وَمَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَاءِكَ. فَقَالَ: وَكَذَلِكَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ. وَشَكَتْ مِنْ شُحِّ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ مَا يَكْفِيهَا وَيَكْفِي بَنِيهَا بِالْمَعْرُوفِ. وَقِصَّتُهَا مَعَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ شَهِدَتِ الْيَرْمُوكَ مَعَ زَوْجِهَا، وَمَاتَتْ يَوْمَ مَاتَ أَبُو قُحَافَةَ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهَا مَصَّرَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ الْكُوفَةَ، دَلَّهُمْ عَلَيْهَا ابْنُ بُقَيْلَةَ، قَالَ لِسَعْدٍ: أَدُلُّكَ عَلَى أَرْضٍ ارْتَفَعَتْ عَنِ الْبَقِّ، وَانْحَدَرَتْ عَنِ الْفَلَاةِ ؟ فَدَلَّهُمْ عَلَى مَوْضِعِ الْكُوفَةِ الْيَوْمَ. قَالَ: وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ مَرْجِ الرُّومِ ; وَذَلِكَ لَمَّا انْصَرَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَخَالِدٌ مِنْ وَقْعَةِ فِحْلٍ قَاصِدِينَ إِلَى حِمْصَ، حَسَبَ مَا أَمَرَ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، فَسَارَا حَتَّى نَزَلَا عَلَى ذِي الْكَلَاعِ، فَبَعَثَ هِرَقْلُ بِطْرِيقًا يُقَالُ لَهُ: تُوذَرَا. فِي جَيْشٍ مَعَهُ. فَنَزَلَ بِمَرْجِ دِمَشْقَ وَغَرْبِيِّهَا، وَقَدْ هَجَمَ الشِّتَاءُ، فَبَدَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَرْجِ الرُّومِ، وَجَاءَ أَمِيرٌ آخَرُ مِنَ الرُّومِ يُقَالُ لَهُ: شَنَسُ. وَعَسْكَرٌ مَعَهُ كَثِيفٌ، فَنَازَلَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فَاشْتَغَلُوا بِهِ عَنْ تُوذَرَا، فَسَارَ تُوذَرَا نَحْوَ دِمَشْقَ لِيُنَازِلَهَا وَيَنْتَزِعَهَا مِنْ يَدِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَتْبَعُهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَبَرَزَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ دِمَشْقَ، فَاقْتَتَلُوا، وَجَاءَ خَالِدٌ وَهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ فَجَعَلَ يُقَتِّلُهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَيَزِيدُ يُقَصِّلُ فِيهِمْ مِنْ أَمَامِهِمْ، حَتَّى أَنَامُوهُمْ وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّارِدُ، وَقَتَلَ خَالِدٌ تُوذَرَا، وَأَخَذُوا مِنَ الرُّومِ أَمْوَالًا عَظِيمَةً فَاقْتَسَمَاهَا، وَرَجَعَ يَزِيدُ إِلَى دِمَشْقَ وَانْصَرَفَ خَالِدٌ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ، فَوَجَدَهُ قَدْ وَاقَعَ شَنَسَ بِمَرْجِ الرُّومِ، فَقَتَلَهُمْ فِيهِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً حَتَّى أَنْتَنَتِ الْأَرْضُ مِنْ زَهَمِهِمْ، وَقَتَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ شَنَسَ، وَرَكِبُوا أَكْتَافَهُمْ إِلَى حِمْصَ، فَنَزَلَ عَلَيْهَا يُحَاصِرُهَا.

وَقْعَةُ حِمْصَ الْأُولَى.
لَمَّا وَصَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي اتِّبَاعِهِ الرُّومَ الْمُنْهَزِمِينَ إِلَى حِمْصَ، نَزَلَ حَوْلَهَا يُحَاصِرُهَا، وَلَحِقَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَحَاصَرُوهَا حِصَارًا شَدِيدًا، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ الْبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَصَابَرَ أَهْلُ الْبَلَدِ ; رَجَاءَ أَنْ يَصْرِفَهُمْ عَنْهُمْ شِدَّةُ الْبَرْدِ، وَصَبَرَ الصَّحَابَةُ صَبْرًا عَظِيمًا، بِحَيْثُ إِنَّهُ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ مِنَ الرُّومِ مَنْ كَانَ يَرْجِعُ وَقَدْ سَقَطَتْ رِجْلُهُ وَهِيَ فِي الْخُفِّ، وَالصَّحَابَةُ لَيْسَ فِي أَرْجُلِهِمْ شَيْءٌ سِوَى النِّعَالِ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يُصَبْ مِنْهُمْ قَدَمٌ وَلَا أُصْبُعٌ أَيْضًا، وَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى انْسَلَخَ فَصْلُ الشِّتَاءِ فَاشْتَدَّ الْحِصَارُ، وَأَشَارَ بَعْضُ كِبَارِ أَهْلِ حِمْصَ عَلَيْهِمْ بِالْمُصَالَحَةِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ وَقَالُوا: أَنُصَالِحُ وَالْمَلِكُ مِنَّا قَرِيبٌ ؟ فَيُقَالُ: إِنَّ الصَّحَابَةَ كَبَّرُوا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ تَكْبِيرَةً ارْتَجَّتْ مِنْهَا الْمَدِينَةُ حَتَّى تَفَطَّرَتْ مِنْهَا بَعْضُ الْجُدْرَانِ، ثُمَّ تَكْبِيرَةً أُخْرَى فَسَقَطَتْ بَعْضُ الدُّورِ، فَجَاءَتْ عَامَّتُهُمْ إِلَى خَاصَّتِهِمْ فَقَالُوا: أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى مَا نَزَلْ بِنَا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ ؟ أَلَا تُصَالِحُونَ الْقَوْمَ عَنَّا ؟ قَالَ: فَصَالَحُوهُمْ عَلَى مَا صَالَحُوا عَلَيْهِ أَهْلَ دِمَشْقَ ; عَلَى نِصْفِ الْمَنَازِلِ، وَضَرْبِ الْخَرَاجِ عَلَى الْأَرَاضِي، وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ عَلَى الرِّقَابِ بِحَسَبِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَبَعَثَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِالْأَخْمَاسِ وَالْبِشَارَةِ إِلَى عُمَرَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. وَأَنْزَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِحِمْصَ جَيْشًا كَثِيفًا يَكُونُ بِهَا، مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْهُمْ بِلَالٌ وَالْمِقْدَادُ، وَكَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى عُمَرَ يُخْبِرُهُ بِأَنَّ هِرَقْلَ قَدْ قَطَعَ الْمَاءَ إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَأَنَّهُ يَظْهَرُ تَارَةً وَيَخْفَى أُخْرَى. فَبَعَثَ إِلَيْهِ عُمَرُ يَأْمُرُهُ بِالْمُقَامِ بِبَلَدِهِ.

وَقْعَةُ قِنَّسْرِينَ.
لَمَّا فَتَحَ أَبُو عُبَيْدَةَ حِمْصَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى قِنَّسْرِينَ، فَلَمَّا جَاءَهَا ثَارَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا وَمَنْ عِنْدَهُمْ مِنَ نَصَارَى الْعَرَبِ، فَقَاتَلَهُمْ خَالِدٌ فِيهَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، فَأَمَّا مَنْ هُنَاكَ مِنَ الرُّومِ فَأَبَادَهُمْ، وَقَتَلَ أَمِيرَهُمْ مِينَاسَ، وَأَمَّا الْأَعْرَابُ فَإِنَّهُمُ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا الْقِتَالَ لَمْ يَكُنْ عَنْ رَأْيِنَا، فَقَبِلَ مِنْهُمْ خَالِدٌ وَكَفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ خَلَصَ إِلَى الْبَلَدِ فَتَحَصَّنُوا فِيهِ، فَقَالَ لَهُمْ خَالِدٌ: إِنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ فِي السَّحَابِ لَحَمَلَنَا اللَّهُ إِلَيْكُمْ أَوْ لَأَنْزَلَكُمْ إِلَيْنَا. وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى فَتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ مَا صَنَعَهُ خَالِدٌ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ كَانَ أَعْلَمَ بِالرِّجَالِ مِنِّي، وَاللَّهِ إِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ رِيبَةٍ، وَلَكِنْ خَشِيتُ أَنْ يُوكَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَقَهْقَرَ هِرَقْلُ بِجُنُودِهِ، وَارْتَحَلَ عَنْ بِلَادِ الشَّامِ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ. قَالَ: وَقَالَ سَيْفٌ: كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ قَالُوا: وَكَانَ هِرَقْلُ كُلَّمَا حَجَّ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَخَرَجَ مِنْهَا يَقُولُ: عَلَيْكِ السَّلَامُ يَا سُورِيَّةُ تَسْلِيمَ مُوَدِّعٍ لَمْ يَقْضِ مِنْكِ وَطَرَهُ وَهُوَ عَائِدٌ. فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ مِنَ الشَّامِ وَبَلَغَ الرُّهَاءَ، طَلَبَ مِنْ أَهْلِهَا أَنْ يَصْحَبُوهُ إِلَى الرُّومِ، فَقَالُوا: إِنَّ بَقَاءَنَا هَا هُنَا أَنْفَعُ لَكَ مِنْ رَحِيلِنَا مَعَكَ. فَتَرَكَهُمْ، فَلَمَّا وَصَلَ

إِلَى شَمْشَاطَ وَعَلَا عَلَى شَرَفٍ هُنَالِكَ، الْتَفَتَ إِلَى نَحْوِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ: عَلَيْكِ السَّلَامُ يَا سُورِيَّةُ سَلَامًا لَا اجْتِمَاعَ بَعْدَهُ، إِلَّا أَنْ أُسَلِّمَ عَلَيْكِ تَسْلِيمَ الْمُفَارِقِ، وَلَا يَعُودُ إِلَيْكِ رُومِيٌّ أَبَدًا إِلَّا خَائِفًا حَتَّى يُولَدَ الْمَوْلُودُ الْمَشْئُومُ، وَيَا لَيْتَهُ لَمْ يُولَدْ، مَا أَحْلَى فِعْلَهُ، وَأَمَرَّ عَاقِبَتَهُ عَلَى الرُّومِ ! ثُمَّ سَارَ هِرَقْلُ حَتَّى نَزَلَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَاسْتَقَرَّ بِهَا مُلْكُهُ، وَقَدْ سَأَلَ رَجُلًا مِمَّنِ اتَّبَعَهُ كَانَ قَدْ أُسِرَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ. فَقَالَ: أُخْبِرُكَ كَأَنَّكَ تَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ; هُمْ فُرْسَانٌ بِالنَّهَارِ، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ، لَا يَأْكُلُونَ فِي ذِمَّتِهِمْ إِلَّا بِثَمَنٍ، وَلَا يَدْخُلُونَ إِلَّا بِسَلَامٍ، يَقِفُونَ عَلَى مَنْ حَارَبُوهُ حَتَّى يَأْتُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ صَدَقْتَنِي لَيَمْلِكُنَّ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ.
قُلْتُ: وَقَدْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ فِي زَمَانِ بَنِي أُمَيَّةَ، فَلَمْ يَمْلِكُوهَا وَلَكِنْ سَيَمْلِكُهَا الْمُسْلِمُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي كِتَابِ الْمَلَاحِمِ، وَذَلِكَ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ بِقَلِيلٍ عَلَى مَا صِحَّتِ بِهِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الرُّومِ أَنْ يَمْلِكُوا بِلَادَ الشَّامِ بِرُمَّتِهَا إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، كَمَا ثَبَتَ بِهِ الْحَدِيثُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ وَقَعَ مَا

أَخْبَرَ بِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، كَمَا رَأَيْتَ، وَسَيَكُونُ مَا أَخْبَرَ بِهِ جَزْمًا، لَا يَعُودُ مُلْكُ الْقَيَاصِرَةِ إِلَى الشَّامِ أَبَدًا ; لِأَنَّ قَيْصَرَ عَلَمُ جِنْسٍ عِنْدَ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَنْ مَلَكَ الشَّامَ مَعَ بِلَادِ الرُّومِ. فَهَذَا لَا يَعُودُ لَهُمْ أَبَدًا.

وَقْعَةُ قَيْسَارِيَّةَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ عُمَرُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى قَيْسَارِيَّةَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ وَلَّيْتُكَ قَيْسَارِيَّةَ، فَسِرْ إِلَيْهَا وَاسْتَنْصِرِ اللَّهَ عَلَيْهِمْ، وَأَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، اللَّهُ رَبُّنَا وَثِقَتُنَا، وَرَجَاؤُنَا وَمَوْلَانَا، فَنِعَمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ. فَسَارَ إِلَيْهَا فَحَاصَرَهَا، وَزَاحَفَهُ أَهْلُهَا مَرَّاتٍ عَدِيدَةً، وَكَانَ آخِرَهَا وَقْعَةً أَنْ قَاتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا، وَصَمَّمَ عَلَيْهِمْ مُعَاوِيَةُ، وَاجْتَهَدَ فِي الْقِتَالِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَمَا انْفَصَلَ الْحَالُ حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ ثَمَانِينَ أَلْفًا، وَكَمَّلَ الْمِائَةَ الْأَلْفِ مِنَ الَّذِينَ انْهَزَمُوا عَنِ الْمَعْرَكَةِ، وَبَعَثَ بِالْفَتْحِ وَالْأَخْمَاسِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِالْمَسِيرِ إِلَى إِيلِيَاءَ، وَمُنَاجَزَةِ صَاحِبِهَا، فَاجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ عِنْدَ الرَّمْلَةِ بِطَائِفَةٍ مِنَ الرُّومِ، فَكَانَتْ:

وَقْعَةُ أَجْنَادِينَ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ سَارَ بِجَيْشِهِ وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ جُنَادَةُ بْنُ تَمِيمٍ الْمَالِكِيُّ ; مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ، وَمَعَهُ شُرَحْبِيلُ ابْنُ حَسَنَةَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْأُرْدُنِّ أَبَا الْأَعْوَرِ السَّلَمِيَّ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الرَّمْلَةِ وَجَدَ عِنْدَهَا جَمْعًا مِنَ الرُّومِ عَلَيْهِمُ الْأَرْطَبُونُ، وَكَانَ أَدْهَى الرُّومِ وَأَبْعَدَهَا غَوْرًا، وَأَنْكَاهَا فِعْلًا، وَقَدْ كَانَ وَضَعَ بِالرَّمْلَةِ جُنْدًا عَظِيمًا وَبِإِيلِيَاءَ جُنْدًا عَظِيمًا، فَكَتَبَ عَمْرٌو إِلَى عُمَرَ بِالْخَبَرِ، فَلَمَّا جَاءَهُ كِتَابُ عَمْرٍو قَالَ: قَدْ رَمَيْنَا أَرْطَبُونَ الرُّومِ بِأَرْطَبُونِ الْعَرَبِ، فَانْظُرُوا عَمَّا تَنْفَرِجُ. وَبَعَثَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلْقَمَةَ بْنَ حَكِيمٍ الْفَرَّاسِيَّ، وَمَسْرُوقَ بْنَ فُلَانٍ الْعَكِّيَّ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ إِيلِيَاءَ، وَأَبَا أَيُّوبٍ الْمَالِكِيَّ إِلَى الرَّمْلَةِ وَعَلَيْهَا التَّذَارِقُ، فَكَانُوا بِإِزَائِهِمْ ; لِيَشْغَلُوهُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَجَيْشِهِ، وَجَعَلَ عَمْرٌو كُلَّمَا قَدِمَ عَلَيْهِ أَمْدَادٌ مِنْ جِهَةِ عُمَرَ يَبْعَثُ مِنْهُمْ طَائِفَةً إِلَى هَؤُلَاءِ وَطَائِفَةً إِلَى هَؤُلَاءِ، وَأَقَامَ عَمْرٌو عَلَى أَجْنَادِينَ لَا يَقْدِرُ مِنَ الْأَرْطَبُونِ عَلَى سَقْطَةٍ وَلَا تَشْفِيهِ الرُّسُلُ، فَوَلِيَهُ بِنَفْسِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ رَسُولٌ، فَأَبْلَغَهُ مَا يُرِيدُ وَسَمِعَ كَلَامَهُ وَتَأَمَّلَ حُصُونَهُ حَتَّى عَرَفَ مَا أَرَادَ، وَقَالَ الْأَرْطَبُونُ فِي نَفْسِهِ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَعَمْرٌو، أَوْ إِنَّهُ الَّذِي يَأْخُذُ عَمْرٌو بِرَأْيِهِ، وَمَا كُنْتُ لِأُصِيبَ الْقَوْمَ بِأَمْرٍ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ قَتْلِهِ. فَدَعَا حَرَسِيًّا فَسَارَّهُ فَأَمَرَهُ بِقَتْلِهِ. فَقَالَ: اذْهَبْ فَقُمْ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا مَرَّ بِكَ فَاقْتُلْهُ. فَفَطِنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَقَالَ لِلْأَرْطَبُونِ: أَيُّهَا

الْأَمِيرُ، إِنِّي قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكَ وَسَمِعْتَ كَلَامِي، وَإِنِّي وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ بَعَثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ; لِنَكُونَ مَعَ هَذَا الْوَالِي؛ لِنَشْهَدَ أُمُورَهُ، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ آتِيَكَ بِهِمْ ; لِيَسْمَعُوا كَلَامَكَ، وَيَرَوْا مَا رَأَيْتُ. فَقَالَ الْأَرْطَبُونُ: نَعَمْ، فَاذْهَبْ فَائْتِنِي بِهِمْ. وَدَعَا رَجُلًا فَسَارَّهُ فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى فُلَانٍ فَرُدَّهُ. وَقَامَ عَمْرٌو فَذَهَبَ إِلَى جَيْشِهِ، ثُمَّ تَحَقَّقَ الْأَرْطَبُونُ أَنَّهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. فَقَالَ: خَدَعَنِي الرَّجُلُ، هَذَا وَاللَّهِ أَدْهَى الْعَرَبِ. وَبَلَغَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ: غَلَبَهُ عَمْرٌو، لِلَّهِ دَرُّ عَمْرٍو. ثُمَّ نَاهَضَهُ عَمْرٌو، فَاقْتَتَلُوا بِأَجْنَادِينَ قِتَالًا عَظِيمًا كَقِتَالِ الْيَرْمُوكِ حَتَّى كَثُرَتِ الْقَتْلَى بَيْنَهُمْ، ثُمَّ اجْتَمَعَتْ بَقِيَّةُ الْجُيُوشِ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَذَلِكَ حِينَ أَعْيَاهُمْ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَتَحَصَّنَ مِنْهُمْ بِالْبَلَدِ، وَكَثُرَ جَيْشُهُ، فَكَتَبَ أَرْطَبُونُ إِلَى عَمْرٍو بِأَنَّكَ صَدِيقِي وَنَظِيرِي، أَنْتَ فِي قَوْمِكَ مِثْلِي فِي قَوْمِي، وَاللَّهِ لَا تَفْتَحُ مِنْ فِلَسْطِينَ شَيْئًا بَعْدَ أَجْنَادِينَ، فَارْجِعْ وَلَا تُغَرَّ ; فَتَلْقَى مِثْلَ مَا لَقِيَ الَّذِي قَبْلَكَ مِنَ الْهَزِيمَةِ. فَدَعَا عَمْرٌو رَجُلًا يَتَكَلَّمُ بِالرُّومِيَّةِ فَبَعَثَهُ إِلَى أَرْطَبُونَ وَقَالَ: اسْمَعْ مَا يَقُولُ لَكَ، ثُمَّ ارْجِعْ فَأَخْبِرْنِي. وَكَتَبَ إِلَيْهِ مَعَهُ: جَاءَنِي كِتَابُكَ وَأَنْتَ نَظِيرِي وَمِثْلِي فِي قَوْمِكَ، لَوْ أَخْطَأَتْكَ خَصْلَةٌ تَجَاهَلْتَ فَضِيلَتِي، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنِّي صَاحِبُ فَتْحِ هَذِهِ الْبِلَادِ، وَاقْرَأْ كِتَابِي هَذَا بِمَحْضَرٍ مِنْ أَصْحَابِكَ وَوُزَرَائِكَ. فَلَمَّا وَصَلَهُ الْكِتَابُ جَمَعَ وُزَرَاءَهُ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ، فَقَالُوا لِلْأَرْطَبُونِ: مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَاحِبِ فَتْحِ هَذِهِ الْبِلَادِ ؟ فَقَالَ: صَاحِبُهَا رَجُلٌ اسْمُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ. فَرَجَعَ الرَّسُولُ إِلَى عَمْرٍو فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ، فَكَتَبَ

عَمْرٌو إِلَى عُمَرَ يَسْتَمِدُّهُ وَيَقُولُ لَهُ: إِنِّي أُعَالِجُ حَرْبًا كَئُودًا صَدُومًا، وَبِلَادًا ادُّخِرَتْ لَكَ، فَرَأْيَكَ. فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى عُمَرَ عِلْمَ أَنَّ عَمْرًا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إِلَّا لِأَمْرٍ عَلِمَهُ، فَعَزَمَ عُمَرُ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى الشَّامِ لِفَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَمَا سَنَذْكُرُ تَفْصِيلَهُ.
قَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ شُيُوخِهِ: وَقَدْ دَخَلَ عُمَرُ الشَّامَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ; الْأُولَى كَانَ رَاكِبًا فَرَسًا حِينَ فَتَحَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَالثَّانِيَةَ عَلَى بَعِيرٍ، وَالثَّالِثَةَ وَصَلَ إِلَى سَرْعٍ، ثُمَّ رَجَعَ لِأَجْلِ مَا وَقَعَ بِالشَّامِ مِنَ الْوَبَاءِ، وَالرَّابِعَةَ دَخَلَهَا عَلَى حِمَارٍ. هَكَذَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ.

فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى يَدَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ رِوَايَةِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، وَمُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ، هُوَ وَغَيْرُهُ، أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ دِمَشْقَ، كَتَبَ إِلَى أَهْلِ إِيلِيَاءَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ يَبْذُلُونَ الْجِزْيَةَ أَوْ يُؤْذَنُونَ بِحَرْبٍ. فَأَبَوْا أَنْ يُجِيبُوا إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ. فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ فِي جُنُودِهِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى دِمَشْقَ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ، ثُمَّ حَاصَرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ حَتَّى أَجَابُوا إِلَى الصُّلْحِ بِشَرْطِ أَنْ يَقْدَمَ إِلَيْهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ بِذَلِكَ فَاسْتَشَارَ عُمَرُ النَّاسَ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِأَنْ لَا يَرْكَبَ إِلَيْهِمْ ; لِيَكُونَ أَحْقَرَ

لَهُمْ وَأَرْغَمَ لِأُنُوفِهِمْ، وَأَشَارَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ ; لِيَكُونَ أَخَفَّ وَطْأَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي حِصَارِهِمْ بَيْنَهُمْ، فَهَوِيَ مَا قَالَ عَلِيٌّ وَلَمْ يَهْوَ مَا قَالَ عُثْمَانُ. وَسَارَ بِالْجُيُوشِ نَحْوَهُمْ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَسَارَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الشَّامِ تَلَقَّاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَرُءُوسُ الْأُمَرَاءِ كَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَتَرَجَّلَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَتَرَجَّلَ عُمَرُ، فَأَشَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِيُقَبِّلَ يَدَ عُمَرَ، فَهَمَّ عُمَرُ بِتَقْبِيلِ رِجْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَكَفَّ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَكَفَّ عُمَرُ. ثُمَّ سَارَ حَتَّى صَالَحَ نَصَارَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ إِجْلَاءَ الرُّومِ إِلَى ثَلَاثٍ، ثُمَّ دَخَلَهَا إِذْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي دَخَلَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَبَّى حِينَ دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَصَلَّى فِيهِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ بِمِحْرَابِ دَاوُدَ، وَصَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ فِيهِ صَلَاةَ الْغَدَاةِ مِنَ الْغَدِ، فَقَرَأَ فِي الْأَوْلَى بِسُورَةِ " ص " وَسَجَدَ فِيهَا وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةِ " بَنِي إِسْرَائِيلَ " ثُمَّ جَاءَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَاسْتَدَلَّ عَلَى مَكَانِهَا مِنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ كَعْبٌ أَنْ يَجْعَلَ الْمَسْجِدَ مِنْ وَرَائِهِ، فَقَالَ: ضَاهَيْتَ الْيَهُودِيَّةَ. ثُمَّ جَعَلَ الْمَسْجِدَ فِي قِبْلِيِّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ الْعُمَرِيُّ الْيَوْمَ، ثُمَّ نَقَلَ التُّرَابَ عَنِ الصَّخْرَةِ فِي طَرَفِ رِدَائِهِ وَقَبَائِهِ، وَنَقَلَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ. وَسَخَّرَ أَهْلَ الْأُرْدُنِّ فِي نَقْلِ بَقِيَّتِهَا، وَقَدْ كَانَتِ الرُّومُ جَعَلُوا الصَّخْرَةَ مَزْبَلَةً ; لِأَنَّهَا قِبْلَةَ الْيَهُودِ، حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ تُرْسِلُ خِرْقَةَ حَيْضَتِهَا مِنْ دَاخِلِ الْحَوْزِ لِتُلْقَى فِي الصَّخْرَةِ، وَذَلِكَ مُكَافَأَةً لِمَا كَانَتِ الْيَهُودُ عَامَلَتْ بِهِ الْقُمَامَةَ، وَهِيَ الْمَكَانُ الَّذِي كَانَتِ الْيَهُودُ صَلَبُوا فِيهِ الْمَصْلُوبَ، فَجَعَلُوا يُلْقُونَ عَلَى قَبْرِهِ الْقُمَامَةَ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ الْقُمَامَةَ، وَانْسَحَبَ الِاسْمُ عَلَى الْكَنِيسَةِ الَّتِي بَنَاهَا

النَّصَارَى هُنَالِكَ. وَقَدْ كَانَ هِرَقْلُ حِينَ جَاءَهُ الْكِتَابُ النَّبَوِيُّ وَهُوَ بِإِيلِيَاءَ، وَعَظَ النَّصَارَى فِيمَا كَانُوا قَدْ بَالَغُوا فِي إِلْقَاءِ الْكُنَاسَةِ عَلَى الصَّخْرَةِ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى مِحْرَابِ دَاوُدَ، قَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ لَخَلِيقٌ أَنْ تُقْتَلُوا عَلَى هَذِهِ الْكُنَاسَةِ مِمَّا امْتَهَنْتُمْ هَذَا الْمَسْجِدَ، كَمَا قُتِلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا. ثُمَّ أُمِرُوا بِإِزَالَتِهَا، فَشَرَعُوا فِي ذَلِكَ، فَمَا أَزَالُوا ثُلُثَهَا حَتَّى فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ فَأَزَالَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. وَقَدِ اسْتَقْصَى هَذَا كُلَّهُ بِأَسَانِيدِهِ وَمُتُونِهِ الْحَافِظُ بَهَاءُ الدِّينِ ابْنُ الْحَافِظِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ " الْمُسْتَقْصَى فِي فَضَائِلِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ".
وَذَكَرَ سَيْفٌ فِي سِيَاقِهِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رَكِبَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى فَرَسٍ ; لِيُسْرِعَ السَّيْرَ بَعْدَمَا اسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَسَارَ حَتَّى قَدِمَ الْجَابِيَةَ، فَنَزَلَ بِهَا وَخَطَبَ بِالْجَابِيَةِ خُطْبَةً طَوِيلَةً بَلِيغَةً، مِنْهَا: أَيُّهَا النَّاسُ، أَصْلِحُوا سَرَائِرَكُمْ تَصْلُحْ عَلَانِيَتُكُمْ، وَاعْمَلُوا لِآخِرَتِكُمْ تُكْفَوْا أَمْرَ دُنْيَاكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ رَجُلًا لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ أَبٌ حَيٌّ وَلَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ هَوَادَةٌ، فَمَنْ أَرَادَ لَحْبَ وَجْهِ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ ; فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مَعَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، وَلَا يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ بِامْرَأَةٍ ; فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا، وَمَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَهِيَ خُطْبَةٌ طَوِيلَةٌ اخْتَصَرْنَاهَا. ثُمَّ صَالَحَ عُمَرُ أَهْلَ الْجَابِيَةِ وَرَحَلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

وَقَدْ كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَنْ يُوَافُوهُ فِي الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ إِلَى الْجَابِيَةِ، فَتَوَافَوْا أَجْمَعُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى الْجَابِيَةِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تَلَقَّاهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ، ثُمَّ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي خُيُولِ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ يَلَامِقُ الدِّيبَاجِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ عُمَرُ لِيَحْصِبَهُمْ، فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ عَلَيْهِمُ السِّلَاحَ، وَأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي حُرُوبِهِمْ، فَسَكَتَ عَنْهُمْ وَاجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ كُلُّهُمْ بَعْدَمَا اسْتَخْلَفُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ سِوَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَشُرَحْبِيلَ فَإِنَّهُمَا مُوَافِقَانِ الْأَرْطَبُونَ بِأَجْنَادِينَ، فَبَيْنَمَا عُمَرُ فِي الْجَابِيَةِ إِذَا بِكُرْدُوسٍ مِنَ الرُّومِ بِأَيْدِيهِمْ سُيُوفٌ مُسَلَّلَةٌ، فَسَارَ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ بِالسِّلَاحِ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ يَسْتَأْمِنُونَ. فَسَارُوا نَحْوَهُمْ، فَإِذَا هُمْ جُنْدٌ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ وَالصُّلْحَ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ سَمِعُوا بِقُدُومِهِ، فَأَجَابَهُمْ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَى مَا سَأَلُوا، وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابَ أَمَانٍ وَمُصَالَحَةٍ، وَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ شُرُوطًا ذَكَرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَشَهِدَ فِي الْكِتَابِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَهُوَ كَاتِبُ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ.
ثُمَّ كَتَبَ لِأَهْلِ لُدٍّ وَمَنْ هُنَالِكَ مِنَ النَّاسِ كِتَابًا آخَرَ، وَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، وَدَخَلُوا فِيمَا صَالَحَ عَلَيْهِ أَهْلَ إِيلِيَاءَ. وَفَرَّ الْأَرْطَبُونُ إِلَى بِلَادِ مِصْرَ، فَكَانَ بِهَا حَتَّى فَتَحَهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، ثُمَّ فَرَّ إِلَى الْبَحْرِ، فَكَانَ يَلِي بَعْضَ السَّرَايَا الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَظَفِرَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ، فَقَطَعَ يَدَ الْقَيْسِيِّ، وَقَتَلَهُ الْقَيْسِيُّ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ:
فَإِنْ يَكُنْ أَرْطَبُونُ الرُّومِ أَفْسَدَهَا فَإِنَّ فِيهَا بِحَمْدِ اللَّهِ مُنْتَفَعَا

وَإِنْ يَكُنْ أَرْطَبُونُ الرُّومِ قَطَّعَهَا
فَقَدْ تَرَكْتُ بِهَا أَوْصَالَهُ قِطَعَا.
وَلَمَّا صَالَحَ أَهْلَ الرَّمْلَةِ وَتِلْكَ الْبِلَادَ، أَقْبَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَشُرَحْبِيلُ ابْنُ حَسَنَةَ حَتَّى قَدِمَا الْجَابِيَةَ، فَوَجَدَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَاكِبًا، فَلَمَّا اقْتَرَبَا مِنْهُ أَكَبَّا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَبَّلَاهَا وَاعْتَنَقَهُمَا عُمَرُ مَعًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَالَ سَيْفٌ: ثُمَّ سَارَ عُمَرُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنَ الْجَابِيَةِ، وَقَدْ تَوَجَّى فَرَسُهُ، فَأَتَوْهُ بِبِرْذَوْنٍ، فَرَكِبَهُ فَجَعَلَ يُهَمْلِجُ بِهِ، فَنَزَلَ عَنْهُ وَضَرَبَ وَجْهَهُ، وَقَالَ: لَا عَلَّمَ اللَّهُ مَنْ عَلَّمَكَ، هَذَا مِنَ الْخُيَلَاءِ. ثُمَّ لَمْ يَرْكَبْ بِرْذَوْنًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، فَفُتِحَتْ إِيلِيَاءُ وَأَرْضُهَا عَلَى يَدَيْهِ مَا خَلَا أَجْنَادِينَ فَعَلَى يَدَيْ عَمْرٍو، وَقَيْسَارِيَّةَ فَعَلَى يَدَيْ مُعَاوِيَةَ. هَذَا سِيَاقُ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السِّيَرِ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ فَتْحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حِصْنِ بْنِ عَلَّاقٍ قَالَ: قَالَ يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدَةَ: فُتِحَتْ بَيْتُ الْمَقْدِسِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ، وَفِيهَا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْجَابِيَةَ..
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ دُحَيْمٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: ثُمَّ عَادَ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ، فَرَجَعَ مِنْ سَرْعٍ، ثُمَّ قَدِمَ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ

الْأُمَرَاءُ، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ مَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ فَقَسَمَهَا وَجَنَّدَ الْأَجْنَادَ وَمَصَّرَ الْأَمْصَارَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثُمَّ كَانَ فَتْحُ الْجَابِيَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ. وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: ثُمَّ كَانَ عَمَوَاسُ وَالْجَابِيَةُ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ ثُمَّ كَانَتْ سَرْعٌ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ، ثُمَّ كَانَ عَامُ الرَّمَادَةِ فِي سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ. قَالَ: وَكَانَ فِيهَا طَاعُونُ عَمَوَاسَ. يَعْنِي فَتْحَ الْبَلْدَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِعَمَوَاسَ، فَأَمَّا الطَّاعُونُ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهَا، فَكَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ. كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ الشَّامَ فَرَأَى غُوطَةَ دِمَشْقَ، وَنَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَالْقُصُورِ وَالْبَسَاتِينِ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [ الدُّخَانِ: 25 - 28 ]. ثُمَّ أَنْشَدَ قَوْلَ النَّابِغَةِ:.
هُمَا فَتَيَا دَهْرٍ يَكُرُّ عَلَيْهِمَا نَهَارٌ وَلَيْلٌ يَلْحَقَانِ التَّوَالِيَا
إِذَا مَا هُمَا مَرَّا بِحَيٍّ بِغِبْطَةٍ أَنَاخَا بِهِمْ حَتَّى يُلَاقُوا الدَّوَاهِيَا
وَهَذَا يَقْتَضِي بَادِيَ الرَّأْيِ أَنَّهُ دَخَلَ دِمَشْقَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ دَخَلَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ قَدَمَاتِهِ الثَّلَاثِ إِلَى الشَّامِ ; أَمَّا الْأُولَى، وَهِيَ هَذِهِ، فَإِنَّهُ

سَارَ مِنَ الْجَابِيَةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، كَمَا ذَكَرَ سَيْفٌ وَغَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَمَّا رِوَايَةُ أَهْلِ الشَّامِ أَنَّ عُمَرَ دَخَلَ الشَّامَ مَرَّتَيْنِ، وَرَجَعَ الثَّالِثَةَ مِنْ سَرْعٍ، فَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، وَإِنَّمَا قَدِمَ مَرَّةً وَاحِدَةً عَامَ الْجَابِيَةِ حِينَ صَالَحَ أَهْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ، وَرَجَعَ مِنْ سَرْعٍ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَهُمْ يَقُولُونَ: دَخَلَ فِي الثَّالِثَةِ دِمَشْقَ وَحِمْصَ، وَأَنْكَرَ الْوَاقِدِيُّ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَلَا يُعْرَفُ أَنَّهُ دَخَلَ دِمَشْقَ إِلَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي " سِيرَتِهِ ".
وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ عُمَرَ حِينَ دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ كَعْبَ الْأَحْبَارِ، عَنْ مَكَانِ الصَّخْرَةِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَذْرِعْ مِنَ الْحَائِطِ الَّذِي يَلِي وَادِي جَهَنَّمَ، كَذَا وَكَذَا ذِرَاعًا فَهِيَ ثَمَّ. فَذَرَعُوا فَوَجَدُوهَا وَقَدِ اتَّخَذَهَا النَّصَارَى مَزْبَلَةً كَمَا فَعَلَتِ الْيَهُودُ بِمَكَانِ الْقُمَامَةِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ الْمَصْلُوبُ الَّذِي شُبِّهَ بِعِيسَى، فَاعْتَقَدَتِ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ أَنَّهُ الْمَسِيحُ، وَقَدْ كَذَبُوا فِي اعْتِقَادِهِمْ هَذَا كَمَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى خَطَإِهِمْ فِي ذَلِكَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّصَارَى لَمَّا حَكَمُوا عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ الْبِعْثَةِ بِنَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، طَهَّرُوا مَكَانَ الْقُمَامَةِ، وَاتَّخَذُوهُ كَنِيسَةً هَائِلَةً بَنَتْهَا أَمُّ الْمَلِكِ

قُسْطَنْطِينَ بَانِي الْمَدِينَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ، وَاسْمُ أُمِّهِ هَيْلَانَةُ الْحَرَّانِيَّةُ الْفُنْدُقَانِيَّةُ، وَأَمَرَتِ ابْنَهَا فَبَنَى لِلنَّصَارَى بَيْتَ لَحْمٍ عَلَى مَوْضِعِ الْمِيلَادِ، وَبَنَتْ هِيَ عَلَى مَوْضِعِ الْقَبْرِ، فِيمَا يَزْعُمُونَ. وَالْغَرَضُ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مَكَانَ قِبْلَةِ الْيَهُودِ مَزْبَلَةً أَيْضًا، فِي مُقَابَلَةِ مَا صَنَعُوا فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ، فَلَمَّا فَتَحَ عُمَرُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَتَحَقَّقَ مَوْضِعَ الصَّخْرَةِ، أَمَرَ بِإِزَالَةِ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْكُنَاسَةِ حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ كَنَسَهَا بِرِدَائِهِ ثُمَّ اسْتَشَارَ كَعْبًا أَيْنَ يَضَعُ الْمَسْجِدَ ؟ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ وَرَاءِ الصَّخْرَةِ، فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ، وَقَالَ: يَا ابْنَ أُمِّ كَعْبٍ، ضَارَعْتَ الْيَهُودِيَّةَ، وَأَمَرَ بِبِنَائِهِ فِي مُقَدَّمِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ آدَمَ وَأَبِي مَرْيَمَ وَأَبِي شُعَيْبٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ بِالْجَابِيَةِ، فَذَكَرَ فَتَحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: قَالَ ابْنُ سَلَمَةَ: فَحَدَّثَنِي أَبُو سِنَانٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ آدَمَ، سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ لِكَعْبٍ: أَيْنَ تُرَى أَنْ أَصَلِّيَ ؟ قَالَ: إِنْ أَخَذْتَ عَنِّي صَلَّيْتَ خَلْفَ الصَّخْرَةِ، فَكَانَتِ الْقُدْسُ كُلُّهَا بَيْنَ يَدَيْكَ. فَقَالَ عُمَرُ: ضَاهَيْتَ الْيَهُودِيَّةَ، لَا وَلَكِنْ أُصَلِّي حَيْثُ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَتَقَدَّمَ إِلَى الْقِبْلَةِ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَبَسَطَ رِدَاءَهُ وَكَنَسَ الْكُنَاسَةَ فِي رِدَائِهِ وَكَنَسَ النَّاسُ. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ اخْتَارَهُ الْحَافِظُ ضِيَاءُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْمُسْتَخْرَجِ ". وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى رِجَالِهِ فِي كِتَابِنَا الَّذِي أَفْرَدْنَاهُ فِي مُسْنَدِ عُمَرَ، مَا

رَوَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ مُبَوَّبًا عَلَى أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ رَوَى سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ شُيُوخِهِ، عَنْ سَالِمٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ عُمَرُ الشَّامَ تَلَقَّاهُ رَجُلٌ مِنْ يَهُودِ دِمَشْقَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا فَارُوقُ، أَنْتَ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ، لَا هَا اللَّهِ لَا تَرْجِعْ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ إِيلِيَاءَ.
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ الدِّينَوَرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَدِمَ دِمَشْقَ فِي تُجَّارٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا خَرَجُوا تَخَلَّفَ عُمَرُ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ فِي الْبَلَدِ إِذَا هُوَ بِبِطْرِيقٍ يَأْخُذُ بِعُنُقِهِ، فَذَهَبَ يُنَازِعُهُ فَلَمْ يَقْدِرْ، فَأَدْخَلَهُ دَارًا فِيهَا تُرَابٌ وَفَأْسٌ وَمِجْرَفَةٌ وَزِنْبِيلٌ، وَقَالَ لَهُ: حَوِّلْ هَذَا مِنْ هَا هُنَا إِلَى هَا هُنَا. وَغَلَّقَ عَلَيْهِ الْبَابَ وَانْصَرَفَ، فَلَمْ يَجِئْ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ. قَالَ: وَجَلَسْتُ مُفَكِّرًا، وَلَمْ أَفْعَلْ مِمَّا قَالَ لِي شَيْئًا. فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: مَا لَكَ لَمْ تَفْعَلْ ؟ وَلَكَمَنِي فِي رَأْسِي بِيَدِهِ، قَالَ: فَأَخَذْتُ الْفَأْسَ فَضَرَبْتُهُ بِهَا فَقَتَلْتُهُ، وَخَرَجْتُ عَلَى وَجْهِي فَجِئْتُ دَيْرًا لِرَاهِبٍ، فَجَلَسْتُ عِنْدَهُ مِنَ الْعَشِيِّ، فَأَشْرَفَ عَلَيَّ، فَنَزَلَ وَأَدْخَلَنِي الدَّيْرَ فَأَطْعَمَنِي وَسَقَانِي، وَأَتْحَفَنِي، وَجَعَلَ يُحَقِّقُ النَّظَرَ فِيَّ، وَسَأَلَنِي عَنْ أَمْرِي، فَقُلْتُ: إِنِّي أَضْلَلْتُ عَنْ أَصْحَابِي. فَقَالَ: إِنَّكَ

لَتَنْظُرُ بِعَيْنِ خَائِفٍ. وَجَعَلَ يَتَوَسَّمُنِي، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ عَلِمَ أَهْلُ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ أَنِّي أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِهِمْ، وَإِنِّي لَأُرَاكَ الَّذِي تُخْرِجُنَا مِنْ بِلَادِنَا هَذِهِ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمَانٍ عَلَى دَيْرِي هَذَا ؟ فَقُلْتُ: يَا هَذَا، لَقَدْ ذَهَبْتَ غَيْرَ مَذْهَبٍ. فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى كَتَبْتُ لَهُ صَحِيفَةً بِمَا طَلَبَ مِنِّي، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الِانْصِرَافِ أَعْطَانِي أَتَانًا، فَقَالَ لِيَ: ارْكَبْهَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَى أَصْحَابِكَ فَابْعَثْ إِلَيَّ بِهَا وَحْدَهَا فَإِنَّهَا لَا تَمُرُّ بِدَيْرٍ إِلَّا أَكْرَمُوهَا. فَفَعَلْتُ مَا أَمَرَنِي بِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ لِفَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَتَاهُ ذَلِكَ الرَّاهِبُ وَهُوَ بِالْجَابِيَةِ بِتِلْكَ الصَّحِيفَةِ، فَأَمْضَاهَا لَهُ عُمَرُ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ ضِيَافَةَ مَنْ يَمُرُّ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُرْشِدَهُمْ إِلَى الطَّرِيقِ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ سَاقَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى فِي تَرْجَمَةِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ الْقُرَشِيِّ الْبَلْقَاوِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا عَجِيبًا، هَذَا بَعْضُهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الشُّرُوطَ الْعُمَرِيَّةَ عَلَى نَصَارَى الشَّامِ مُطَوَّلًا فِي كِتَابِنَا " الْأَحْكَامِ " وَأَفْرَدْنَا لَهُ مُصَنَّفًا عَلَى حِدَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا خُطْبَتَهُ فِي الْجَابِيَةِ بِأَلْفَاظِهَا وَأَسَانِيدِهَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَفْرَدْنَاهُ لِمُسْنَدِ عُمَرَ، وَذَكَرْنَا تَوَاضُعَهُ فِي دُخُولِهِ الشَّامَ فِي السِّيرَةِ الَّتِي أَفْرَدْنَاهَا لَهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي الرَّبِيعُ بْنُ ثَعْلَبٍ، نَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْمُؤَدِّبُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ هُرْمُزَ الْمَكِّيِّ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الشَّامِيِّ قَالَ:

قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْجَابِيَةَ عَلَى طَرِيقِ إِيلِيَاءَ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ تَلُوحُ صَلْعَتُهُ لِلشَّمْسِ، لَيْسَ عَلَيْهِ قَلَنْسُوَةٌ وَلَا عِمَامَةٌ، تَصْطَفِقُ رِجْلَاهُ بَيْنَ شُعْبَتِي الرَّحْلِ بِلَا رِكَابٍ، وِطَاؤُهُ كِسَاءٌ أَنْبِجَانِيٌّ ذُو صُوفٍ، هُوَ وِطَاؤُهُ إِذَا رَكِبَ، وَفِرَاشُهُ إِذَا نَزَلَ، حَقِيبَتُهُ نَمِرَةٌ أَوْ شَمْلَةٌ مَحْشُوَّةٌ لِيفًا، هِيَ حَقِيبَتُهُ إِذَا رَكِبَ، وَوِسَادَتُهُ إِذَا نَزَلَ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ مِنْ كَرَابِيسَ قَدْ دَسِمَ وَتَخَرَّقَ جَيْبُهُ. فَقَالَ: ادْعُوا لِي رَأْسَ الْقَوْمِ. فَدَعَوْا لَهُ الْجَلَوْمَسَ، فَقَالَ: اغْسِلُوا قَمِيصِي وَخَيِّطُوهُ، وَأَعِيرُونِي قَمِيصًا أَوْ ثَوْبًا، فَأُتِيَ بِقَمِيصِ كَتَّانٍ فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: كَتَّانٌ. قَالَ: وَمَا الْكَتَّانُ ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَنَزَعَ قَمِيصَهُ فَغُسِلَ وَرُقِّعَ، وَأُتِيَ بِهِ، فَنَزْعَ قَمِيصَهُمْ وَلَبِسَ قَمِيصَهُ. فَقَالَ لَهُ الْجَلَوْمَسُ: أَنْتَ مِلْكُ الْعَرَبِ، وَهَذِهِ بِلَادٌ لَا تَصْلُحُ بِهَا الْإِبِلُ. فَأُتِيَ بِبِرْذَوْنٍ فَطُرِحَ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ بِلَا سَرْجٍ وَلَا رَحْلٍ، فَرَكِبَهُ فَقَالَ: احْبِسُوا احْبِسُوا، مَا كُنْتُ أَظُنُّ النَّاسَ يَرْكَبُونَ الشَّيْطَانَ قَبْلَ هَذَا، هَاتُوا جَمَلِي. فَأُتِيَ بِجَمَلِهِ فَرَكِبَهُ.

وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ: حَدَّثَنَا سَعْدَانُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ الطَّائِيِّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ الشَّامَ عَرَضَتْ لَهُ مَخَاضَةٌ، فَنَزَلَ عَنْ بَعِيرِهِ وَنَزَعَ مُوقَيْهِ، فَأَمْسَكَهُمَا بِيَدِهِ وَخَاضَ الْمَاءَ وَمَعَهُ بَعِيرُهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَدْ صَنَعْتَ الْيَوْمَ صَنِيعًا عَظِيمًا عِنْدَ أَهْلِ الْأَرْضِ ; صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَصَكَّ فِي صَدْرِهِ، وَقَالَ: أَوْهِ، لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ ! إِنَّكُمْ كُنْتُمْ أَذَلَّ النَّاسِ وَأَحْقَرَ النَّاسِ وَأَقَلَّ النَّاسِ، فَأَعَزَّكُمُ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، فَمَهْمَا تَطْلُبُوا الْعِزَّ بِغَيْرِهِ يُذِلَّكُمُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ - كَانَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَفَارِسَ وَقَعَاتٌ فِي قَوْلِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَعَاتٍ كَثِيرَةً كَانَتْ بَيْنَهُمْ، وَذَلِكَ حِينَ بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَأَنْ يُخَلِّفَ النِّسَاءَ وَالْعِيَالَ بِالْعَقِيقِ فِي خَيْلٍ كَثِيرَةٍ كَثِيفَةٍ، فَلَمَّا تَفَرَّغَ سَعْدٌ مِنْ أَمْرِ الْقَادِسِيَّةِ بَعَثَ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ زُهْرَةَ بْنَ حَوِيَّةَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالْأُمَرَاءِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، ثُمَّ سَارَ فِي الْجُيُوشِ، وَقَدْ جَعَلَ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى خِلَافَتِهِ مَكَانَ خَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ، وَجَعَلَ خَالِدًا هَذَا عَلَى السَّاقَةِ، فَسَارُوا فِي خُيُولٍ عَظِيمَةٍ، وَسِلَاحٍ كَثِيرٍ، وَذَلِكَ

لِأَيَّامٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَنَزَلُوا الْكُوفَةَ، وَارْتَحَلَ زُهْرَةُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ نَحْوَ الْمَدَائِنِ، فَلَقِيَهُ بِهَا بُصْبُهْرَى فِي جَيْشٍ مِنْ فَارِسَ، فَهَزَمَهُمْ زُهْرَةُ، وَذَهَبَتِ الْفُرْسُ فِي هَزِيمَتِهِمْ إِلَى بَابِلَ، وَبِهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ مِمَّنِ انْهَزَمَ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ، قَدْ جَعَلُوا عَلَيْهِمُ الْفَيْرُزَانَ، فَبَعَثَ زُهْرَةُ إِلَى سَعْدٍ، فَأَعْلَمَهُ بِاجْتِمَاعِ الْمُنْهَزِمِينَ بِبَابِلَ، فَسَارَ سَعْدٌ بِالْجُيُوشِ إِلَى بَابِلَ، فَتَقَابَلَ هُوَ وَالْفَيْرُزَانُ عِنْدَ بَابِلَ فَهَزَمَهُمْ كَأَسْرَعِ مِنْ لَفَّةِ الرِّدَاءِ، وَانْهَزَمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ فِرْقَتَيْنِ، فَفِرْقَةٌ ذَهَبَتْ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَأُخْرَى سَارَتْ إِلَى نَهَاوَنْدَ، وَأَقَامَ سَعْدٌ بِبَابِلَ أَيَّامًا، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا نَحْوَ الْمَدَائِنِ فَلَقُوا جَمْعًا آخَرَ مِنَ الْفُرْسِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَبَارَزُوا أَمِيرَ الْفُرْسِ، وَهُوَ شَهْرِيَارُ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ لَهُ: نَايِلٌ الْأَعْرَجِيُّ أَبُو نُبَاتَةَ مِنْ شُجْعَانِ بَنِي تَمِيمٍ فَتَجَاوَلَا سَاعَةً بِالرِّمَاحِ، ثُمَّ أَلْقَيَاهَا فَانْتَضَيَا سَيْفَيْهِمَا وَتَصَاوَلَا بِهِمَا، ثُمَّ تَعَانَقَا وَسَقَطَا عَنْ فَرَسَيْهِمَا إِلَى الْأَرْضِ، فَوَقَعَ شَهْرِيَارُ عَلَى صَدْرِ أَبِي نُبَاتَةَ، وَأَخْرَجَ خِنْجَرًا لِيَذْبَحَهُ بِهَا، فَوَقَعَتْ أُصْبُعُهُ فِي فَمِ أَبِي نُبَاتَةَ فَقَضَمَهَا حَتَّى شَغَلَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَخَذَ الْخِنْجَرَ فَذَبَحَ شَهْرِيَارَ بِهَا وَأَخَذَ فَرَسَهُ وَسِوَارَيْهِ وَسَلَبَهُ، وَانْكَشَفَ أَصْحَابُهُ فَهُزِمُوا، فَأَقْسَمَ سَعْدٌ عَلَى نَايِلٍ لَيَلْبَسُ سِوَارَيْ شَهْرِيَارَ وَسِلَاحَهُ، وَلَيَرْكَبَنَّ فَرَسَهُ إِذَا كَانَ حَرْبٌ، فَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، قَالُوا: وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تَسَوَّرَ بِالْعِرَاقِ. وَذَلِكَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ كُوثَى. وَزَارَ الْمَكَانَ الَّذِي حُبِسَ فِيهِ الْخَلِيلُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَرَأَ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ: 140 ].

وَقْعَةُ بَهُرَسِيرَ.
قَالُوا: ثُمَّ قَدَّمَ سَعْدٌ زُهْرَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ كُوثَى إِلَى بَهُرَسِيرَ، فَمَضَى إِلَى

الْمُقَدِّمَةِ، وَقَدْ تَلَقَّاهُ شِيرْزَاذُ إِلَى سَابَاطَ بِالصُّلْحِ وَالْجِزْيَةِ، فَبَعَثَهُ إِلَى سَعْدٍ فَأَمْضَاهُ، وَوَصَلَ سَعْدٌ بِالْجُنُودِ إِلَى مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: مُظْلِمُ سَابَاطَ، فَوَجَدُوا هُنَالِكَ كَتَائِبَ كَثِيرَةً لِكِسْرَى يُسَمُّونَهَا بُورَانَ، وَهُمْ يُقْسِمُونَ كُلَّ يَوْمٍ: لَا يَزُولُ مُلْكُ فَارِسَ مَا عِشْنَا. وَمَعَهُمْ أَسَدٌ كَبِيرٌ لِكِسْرَى يُقَالُ لَهُ: الْمُقَرَّطُ. قَدْ أَرْصَدُوهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ ابْنُ أَخِي سَعْدٍ، وَهُوَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ، فَقَتَلَ الْأَسَدَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، وَسُمِّيَ يَوْمَئِذٍ سَيْفُهُ الْمَتِينَ، وَقَبَّلَ سَعْدٌ يَوْمَئِذٍ رَأَسَ هَاشِمٍ، وَقَبَّلَ هَاشِمٌ قَدَمَ سَعْدٍ، وَحَمَلَ هَاشِمٌ عَلَى الْفُرْسِ، فَأَزَالَهُمْ عَنْ أَمَاكِنِهِمْ وَهَزَمَهُمْ وَهُوَ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [ إِبْرَاهِيمَ: 44 ]. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ارْتَحَلَ الْمُسْلِمُونَ وَنَزَلُوا بَهُرَسِيرَ، فَجَعَلُوا كُلَّمَا وَقَفُوا كَبَّرُوا، وَكَذَلِكَ حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ مَعَ سَعْدٍ، فَأَقَامُوا بِهَا شَهْرَيْنِ، وَدَخَلُوا فِي الثَّالِثِ وَفَرَغَتِ السَّنَةُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عُمَرُ، وَكَانَ عَامِلَهُ فِيهَا عَلَى مَكَّةَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ، وَعَلَى الشَّامِ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَعَلَى الْكُوفَةِ وَالْعِرَاقِ سَعْدٌ، وَعَلَى الطَّائِفِ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، وَعَلَى الْبَحْرَيْنِ وَالْيَمَامَةِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَعَلَى عُمَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ.
قُلْتُ: وَكَانَتْ وَقْعَةُ الْيَرْمُوكِ فِي سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا، عِنْدَ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَابْنِ لَهِيعَةَ وَأَبِي مَعْشَرٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَيَزِيدَ بْنِ عُبَيْدَةَ وَخَلِيفَةَ بْنِ خَيَّاطٍ وَابْنِ الْكَلْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَائِذٍ وَابْنِ عَسَاكِرَ وَشَيْخِنَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ

الذَّهَبِيِّ الْحَافِظِ. وَأَمَّا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، فَذَكَرُوا وَقْعَةَ الْيَرْمُوكِ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا هُنَالِكَ تَبَعًا لِابْنِ جَرِيرٍ. وَهَكَذَا وَقْعَةُ الْقَادِسِيَّةِ عِنْدَ بَعْضِ الْحُفَّاظِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَتَبِعَهُمْ فِي ذَلِكَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ ذَكَرَ شَيْخُنَا الذَّهَبِيُّ مَنْ تُوُفِّيَ هَذِهِ السَّنَةَ مُرَتَّبِينَ عَلَى الْحُرُوفِ.
سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الْمُؤَرِّخِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
سَعْدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ، قُتِلَ بِالْقَادِسِيَّةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَبُو زَيْدٍ الْقَارِيُّ. أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْكَرَ آخَرُونَ ذَلِكَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ وَالِدُ عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ الزَّاهِدِ أَمِيرِ حِمْصَ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَفَاتَهُ بِالْقَادِسِيَّةِ وَقَالَ: كَانَتْ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
سُهَيْلُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، أَبُو يَزِيدَ الْعَامِرِيُّ، أَحَدُ خُطَبَاءِ قُرَيْشٍ وَأَشْرَافِهِمْ، أَسْلَمَ

يَوْمَ الْفَتْحِ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ سَمْحًا جَوَّادًا فَصِيحًا، كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْبُكَاءِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ قَامَ وَصَامَ حَتَّى شَحَبَ لَوْنُهُ. وَلَهُ سَعْيٌ مَشْكُورٌ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ بِمَكَّةَ خُطْبَةً عَظِيمَةً تُثَبِّتُ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ خُطْبَتُهُ بِمَكَّةَ قَرِيبًا مِنْ خُطْبَةِ الصِّدِّيقِ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ خَرَجَ فِي جَمَاعَةٍ إِلَى الشَّامِ مُجَاهِدًا، فَحَضَرَ الْيَرْمُوكَ وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى بَعْضِ الْكَرَادِيسِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَئِذٍ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: تُوفِّيَ بِطَاعُونِ عَمَوَاسَ.
عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أُهَيْبٍ الزُّهْرِيُّ، أَخُو سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَدِمَ بِكِتَابِ عُمَرَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بِوِلَايَتِهِ عَلَى الشَّامِ وَعَزْلِ خَالِدٍ عَنْهَا، اسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ، صَحَابِيٌّ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ مَعَ عَمِّهِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ. رَوَى عَنْهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ مُنْقَطِعًا ; لِأَنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَوَّامِ، أَخُو الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، حَضَرَ بَدْرًا مُشْرِكًا ثُمَّ أَسْلَمَ وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ فِي قَوْلٍ.
عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، تُوُفِّيَ فِيهَا فِي قَوْلٍ.
عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، اسْتُشْهِدَ بِالْيَرْمُوكِ فِي قَوْلٍ.

عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، اسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَيُقَالُ: بَلْ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
عَمْرُو بْنُ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، تَقَدَّمَ.
عَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، تَقَدَّمَ.
فِرَاسُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، يُقَالُ: اسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ.
قَيْسُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ، مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ، قُتِلَ بِالْيَرْمُوكِ.
قَيْسُ بْنُ أَبِي صَعْصَعَةَ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيُّ الْمَازِنِيُّ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا، وَكَانَ أَحَدَ أُمَرَاءِ الْكَرَادِيسِ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ، وَلَهُ حَدِيثٌ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِي كَمْ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟ قَالَ: " فِي خَمْسَ عَشْرَةَ. الْحَدِيثَ. قَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ: فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِمَّنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
نُضَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ الْقُرَشِيُّ الْعَبْدَرِيُّ، أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَاءِ قُرَيْشٍ، وَأَعْطَاهُ رَسُولُ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، فَتَوَقَّفَ فِي أَخْذِهَا وَقَالَ: لَا أَرْتَشِي عَلَى الْإِسْلَامِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا طَلَبْتُهَا وَلَا سَأَلْتُهَا، وَهِيَ عَطِيَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَخَذَهَا وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ.
نَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ أَسَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ مِمَّنْ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَفَدَاهُ الْعَبَّاسُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ هَاجَرَ أَيَّامَ الْخَنْدَقِ، وَشَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَالْفَتْحَ، وَأَعَانَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ بِثَلَاثَةِ آلَافِ رُمْحٍ، وَثَبَتَ يَوْمَئِذٍ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: سَنَةَ عِشْرِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. تُوفِي بِالْمَدِينَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ، وَمَشَى فِي جِنَازَتِهِ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَخَلَّفَ عِدَّةَ أَوْلَادٍ فُضَلَاءَ وَأَكَابِرَ.
هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ، أَخُو عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ،، تَقَدَّمَ، وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: قُتِلَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ مُنَازِلٌ مَدِينَةَ بَهُرَسِيرَ، وَهِيَ إِحْدَى مَدِينَتَيْ كِسْرَى مِمَّا يَلِي دِجْلَةَ مِنَ الْغَرْبِ، وَكَانَ قُدُومُ سَعْدٍ إِلَيْهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَاسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُوَ نَازِلٌ عِنْدَهَا، وَقَدْ بَعَثَ السَّرَايَا وَالْخُيُولَ فِي كُلِّ وَجْهٍ، فَلَمْ يَجِدُوا وَاحِدًا مِنَ الْجُنْدِ، بَلْ جَمَعُوا مِنَ الْفَلَّاحِينَ مِائَةَ الْفٍ، فَحُبِسُوا حَتَّى كَتَبَ إِلَى عُمَرَ مَا يَفْعَلُ بِهِمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنَّ مَنْ كَانَ مِنَ الْفَلَّاحِينَ لَمْ يُعِنْ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ مُقِيمٌ بِبَلَدِهِ، فَهُوَ أَمَانُهُ، وَمَنْ هَرَبَ فَأَدْرَكْتُمُوهُ فَشَأْنُكُمْ بِهِ. فَأَطْلَقَهُمْ سَعْدٌ بَعْدَ مَا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَبَوْا إِلَّا الْجِزْيَةَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ غَرْبِيِّ دِجْلَةَ إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ أَحَدٌ مِنَ الْفَلَّاحِينَ إِلَّا تَحْتَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ.
وَامْتَنَعَتْ بَهُرَسِيرَ مِنْ سَعْدٍ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ سَعْدٌ سَلْمَانَ

الْفَارِسِيَّ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، أَوِ الْجِزْيَةِ أَوِ الْمُقَاتَلَةِ، فَأَبَوْا إِلَّا الْمُقَاتَلَةَ وَالْعِصْيَانَ، وَنَصَبُوا الْمَجَانِيقَ وَالدَّبَّابَاتِ، وَأَمَرَ سَعْدٌ بِعَمَلِ الْمَجَانِيقِ، فَعُمِلَتْ عِشْرُونَ مَنْجَنِيقًا، وَنُصِبَتْ عَلَى بَهُرَسِيرَ، وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ وَكَانَ أَهْلُ بَهُرَسِيرَ يَخْرُجُونَ فَيُقَاتِلُونَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَيَحْلِفُونَ أَنْ لَا يَفِرُّوا أَبَدًا، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ، وَهَزَمَهُمْ زُهْرَةُ بْنُ حَوِيَّةَ بَعْدَ مَا أَصَابَهُ سَهْمٌ، وَقَتَلَ بَعْدَ مُصَابِهِ بِهِ كَثِيرًا مِنَ الْفُرْسِ، وَفَرُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَجَئُوا إِلَى بَلَدِهِمْ، فَكَانُوا يُحَاصَرُونَ فِيهِ أَشَدَّ الْحِصَارِ، وَقَدِ انْحَصَرَ أَهْلُ الْبَلَدِ حَتَّى أَكَلُوا الْكِلَابَ وَالسَّنَانِيرَ. وَقَدْ أَشْرَفَ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَقُولُ لَكُمُ الْمَلِكُ: هَلْ لَكَمَ إِلَى الْمُصَالَحَةِ عَلَى أَنَّ لَنَا مَا يَلِينَا مَنْ دِجْلَةَ إِلَى جَبَلِنَا وَلَكُمْ مَا يَلِيكُمْ مِنْ دِجْلَةَ إِلَى جَبَلِكُمْ، أَمَا شَبِعْتُمْ ! لَا أَشْبَعَ اللَّهُ بُطُونَكُمْ. قَالَ: فَبَدَرَ النَّاسَ رَجُلٌ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو مُفَزِّرٍ الْأَسْوَدُ بْنُ قُطْبَةَ، فَأَنْطَقَهُ اللَّهُ بِكَلَامٍ لَمْ يَدْرِ مَا قَالَ لَهُمْ، قَالَ: فَرَجَعَ الرَّجُلُ وَرَأَيْنَاهُمْ يَقْطَعُونَ مِنْ بَهُرَسِيرَ إِلَى الْمَدَائِنِ. فَقَالَ النَّاسُ لِأَبِي مُفَزِّرٍ: مَا قُلْتَ لَهُمْ ؟ فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ مَا أَدْرِي مَا قُلْتُ لَهُمْ، إِلَّا أَنَّ عَلَيَّ سَكِينَةً، وَأَنَا

أَرْجُو أَنْ أَكُونَ قَدْ أُنْطِقْتُ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ. وَجَعَلَ النَّاسُ يَنْتَابُونَهُ، يَسْأَلُونَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ فِي مَنْ سَأَلَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَجَاءَهُ سَعْدٌ إِلَى مَنْزِلِهِ فَقَالَ: يَا أَبَا مُفَرِّزٍ مَا قُلْتَ ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّهُمْ هُرَّابٌ. فَحَلَفَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا قَالَ.
فَنَادَى سَعْدٌ فِي النَّاسِ وَنَهَدَ بِهِمْ إِلَى الْبَلَدِ، وَالْمَجَانِيقُ تَضْرِبُ فِي الْبَلَدِ، فَنَادَى رَجُلٌ مِنَ الْبَلَدِ بِالْأَمَانِ فَآمَنَّاهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا بِالْبَلَدِ أَحَدٌ. فَتَسَوَّرَ النَّاسُ السُّورَ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا أَحَدًا إِلَّا قَدْ هَرَبُوا إِلَى الْمَدَائِنِ. وَذَلِكَ فِي شَهْرِ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. فَسَأَلْنَا ذَلِكَ الرَّجُلَ وَأُنَاسًا مَنَ الْأُسَارَى فِيهَا لِأَيِّ شَيْءٍ هَرَبُوا ؟ قَالُوا: بَعَثَ الْمَلِكُ إِلَيْكُمْ يَعْرِضُ عَلَيْكُمُ الصُّلْحَ، فَأَجَابَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ صُلْحٌ أَبَدًا، حَتَّى نَأْكُلَ عَسَلَ أَفَرَنْدِينَ بِأُتْرُجِّ كُوثَى. فَقَالَ الْمَلِكُ: يَا وَيْلَاهُ، إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَتَكَلَّمُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، تَرُدُّ عَلَيْنَا وَتُجِيبُنَا عَنِ الْعَرَبِ. ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ بِالرَّحِيلِ مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْمَدَائِنِ فَجَازُوا فِي السُّفُنِ مِنْهَا إِلَيْهَا، وَبَيْنَهُمَا دِجْلَةُ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْهَا جِدًّا.

وَلَمَّا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ بَهُرَسِيرَ فِي اللَّيْلِ، لَاحَ لَهُمُ الْقَصْرُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْمَدَائِنِ وَهُوَ قَصْرُ الْمَلِكِ الَّذِي ذَكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ سَيَفْتَحُهُ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِهِ، وَذَلِكَ قُرَيْبَ الصَّبَاحِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ رَآهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَبْيَضُ كِسْرَى، هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَنَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَتَابَعُوا التَّكْبِيرَ إِلَى الصُّبْحِ.

ذِكْرُ فَتْحِ الْمَدَائِنِ الَّتِي هِيَ مُسْتَقَرُّ مُلْكِ كِسْرَى
لَمَّا فَتَحَ سَعْدٌ بَهُرَسِيرَ وَاسْتَقَرَّ بِهَا، وَذَلِكَ فِي صَفَرٍ، لَمْ يَجِدْ فِيهَا أَحَدًا وَلَا شَيْئًا مِمَّا يُغْنَمُ، بَلْ قَدْ تَحَوَّلُوا بِكَمَالِهِمْ إِلَى الْمَدَائِنِ وَرَكِبُوا السُّفُنَ، وَضَمُّوا السُّفُنَ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَجِدْ سَعْدٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، شَيْئًا مِنَ السُّفُنِ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ شَيْءٍ مِنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً، وَاسْوَدَّ مَاؤُهَا، وَرَمَتْ بِالزَّبَدِ مِنْ كَثْرَةِ الْمَاءِ بِهَا، وَأُخْبِرَ سَعْدٌ، بِأَنَّ كِسْرَى يَزْدَجِرْدَ عَازِمٌ

عَلَى أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى حُلْوَانَ وَأَنَّكَ إِنْ لَمْ تُدْرِكْهُ قَبْلَ ثَلَاثٍ، فَاتَ عَلَيْكَ وَتَفَارَطَ الْأَمْرُ، فَخَطَبَ سَعْدٌ الْمُسْلِمِينَ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ عَدُوَّكُمْ قَدِ اعْتَصَمَ مِنْكُمْ بِهَذَا الْبَحْرِ ; فَلَا تَخْلُصُونَ إِلَيْهِ مَعَهُ، وَهُمْ يَخْلُصُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا شَاءُوا فَيُنَاوِشُونَكُمْ فِي سُفُنِهِمْ، وَلَيْسَ وَرَاءَكُمْ شَيْءٌ تَخَافُونَ أَنْ تُؤْتَوْا مِنْهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ تُبَادِرُوا جِهَادَ الْعَدُوِّ بِنِيَّاتِكُمْ قَبْلَ أَنْ تَحْصُرَكُمُ الدُّنْيَا، أَلَا إِنِّي قَدْ عَزَمْتُ عَلَى قَطْعِ هَذَا الْبَحْرِ إِلَيْهِمْ. فَقَالُوا جَمِيعًا: عَزَمَ اللَّهُ لَنَا وَلَكَ عَلَى الرُّشْدِ، فَافْعَلْ. فَعِنْدَ ذَلِكَ نَدَبَ سَعْدٌ النَّاسَ إِلَى الْعُبُورِ، وَيَقُولُ: مَنْ يَبْدَأُ فَيَحْمِي لَنَا الْفِرَاضَ - يَعْنِي ثُغْرَةَ الْمَخَاضَةِ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى - لِيَجُوزَ النَّاسُ إِلَيْهِمْ آمِنِينَ. فَانْتَدَبَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو وَذَوُو الْبَأْسِ مِنَ النَّاسِ، قَرِيبٌ مِنْ سِتِّمِائَةٍ، فَأَمَّرَ سَعْدٌ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو، فَوَقَفُوا عَلَى حَافَّةِ دِجْلَةَ، فَقَالَ عَاصِمٌ: مَنْ يُنْتَدَبُ مَعِي لِنَكُونَ قَبْلَ النَّاسِ دُخُولًا فِي هَذَا الْبَحْرِ، فَنَحْمِيَ الْفِرَاضَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ ؟ فَانْتَدَبَ لَهُ سِتُّونَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْمَذْكُورِينَ ; وَالْأَعَاجِمُ وُقُوفٌ صُفُوفًا مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ ؟ فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ أَحْجَمَ النَّاسُ عَنِ الْخَوْضِ فِي دِجْلَةَ، فَقَالَ: أَتَخَافُونَ مِنْ هَذِهِ

النُّطْفَةِ ؟ ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [ آلِ عِمْرَانَ 145 ]. ثُمَّ أَقْحَمَ فَرَسَهُ فِيهَا وَاقْتَحَمَ النَّاسُ، وَقَدِ افْتَرَقَ السِّتُّونَ فِرْقَتَيْنِ: أَصْحَابُ الْخَيْلِ الذُّكُورِ، وَأَصْحَابُ الْخَيْلِ الْإِنَاثِ، فَلَمَّا رَآهُمُ الْفُرْسُ يَطْفُونَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ قَالُوا: دِيوَانَا دِيوَانَا. يَقُولُونَ: مَجَانِينُ مَجَانِينُ. ثُمَّ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا تُقَاتِلُونَ إِنْسًا بَلْ تُقَاتِلُونَ جِنًّا. ثُمَّ أَرْسَلُوا فُرْسَانًا مِنْهُمْ فِي الْمَاءِ يَلْتَقُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ لِيَمْنَعُوهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَاءِ، فَأَمَرَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو أَصْحَابَهُ أَنْ يَشْرَعُوا لَهُمُ الرِّمَاحَ وَيَتَوَخَّوُا الْأَعْيُنَ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِالْفُرْسِ فَقَلَعُوا عُيُونَ خُيُولِهِمْ، فَرَجَعُوا أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَمْلِكُونَ كَفَّ خُيُولِهِمْ حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الْمَاءِ، وَاتَّبَعَهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ فَسَاقُوا وَرَاءَهُمْ حَتَّى طَرَدُوهُمْ عَنِ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَوَقَفُوا عَلَى حَافَّةِ الدِّجْلَةِ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَنَزَلَ بَقِيَّةُ أَصْحَابِ عَاصِمٍ مِنِ السِّتِّمِائَةِ فِي دِجْلَةَ، فَخَاضُوهَا، حَتَّى وَصَلُوا إِلَى أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَقَاتَلُوا مَعَ أَصْحَابِهِمْ حَتَّى نَفَوُا الْفُرْسَ عَنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ. وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْكَتِيبَةَ الْأُولَى كَتِيبَةَ الْأَهْوَالِ، وَأَمِيرُهَا عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْكَتِيبَةَ الثَّانِيَةَ الْكَتِيبَةَ الْخَرْسَاءَ، وَأَمِيرُهَا الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو. وَهَذَا كُلُّهُ وَسَعْدٌ

وَالْمُسْلِمُونَ يَنْظُرُونَ إِلَى مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ الْفُرْسَانُ بِالْفُرْسِ، وَسَعْدٌ وَاقِفٌ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ. ثُمَّ نَزَلَ سَعْدٌ بِبَقِيَّةِ الْجَيْشِ، وَذَلِكَ حِينَ نَظَرُوا إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ وَقَدْ تَحَصَّنَ بِمَنْ حَصَلَ فِيهِ مِنَ الْفُرْسَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَمَرَ سَعْدٌ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ دُخُولِ الْمَاءِ أَنْ يَقُولُوا: نَسْتَعِينُ بِاللَّهِ، وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. ثُمَّ اقْتَحَمَ بِفَرَسِهِ دِجْلَةَ، وَاقْتَحَمَ النَّاسُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ فَسَارُوا فِيهَا كَأَنَّمَا يَسِيرُونَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، حَتَّى مَلَأُوا مَا بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ، فَلَا يُرَى وَجْهُ الْمَاءِ مِنَ الْفُرْسَانِ وَالرَّجَّالَةِ، وَجَعَلَ النَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ كَمَا يَتَحَدَّثُونَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ; وَذَلِكَ لِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ وَالْأَمْنِ، وَالْوُثُوقِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَوَعْدِهِ وَنَصْرِهِ، وَتَأْيِيدِهِ، وَلِأَنَّ أَمِيرَهُمْ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ، وَدَعَا لَهُ، فَقَالَ:اللَّهُمَّ أَجِبْ دَعْوَتَهُ وَسَدِّدْ رَمْيَتَهُ
وَالْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ سَعْدًا دَعَا لِجَيْشِهِ هَذَا فِي هَذَا الْيَوْمِ بِالسَّلَامَةِ وَالنَّصْرِ، وَقَدْ رَمَى بِهِمْ فِي هَذَا الْيَمِّ، فَسَدَّدَهُمُ اللَّهُ وَسَلَّمَهُمْ، فَلَمْ يُفْقَدْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ وَاحِدٌ، غَيْرَ أَنَّ رَجُلًا وَاحِدًا يُقَالُ لَهُ: غَرْقَدَةُ الْبَارِقِيُّ، ذَلَّ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ، فَأَخَذَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو بِلِجَامِهَا، وَأَخْذَ بِيَدِ الرَّجُلِ حَتَّى عَدَلَهُ عَلَى فَرَسِهِ، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ، فَقَالَ: عَجَزَ النِّسَاءُ أَنْ يَلِدْنَ مِثْلَ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو. وَلَمْ يُعْدَمْ

لِلْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ مِنْ أَمْتِعَتِهِمْ غَيْرَ قَدَحٍ مِنْ خَشَبٍ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ عَامِرٍ. كَانَتْ عَلَاقَتُهُ رَثَّةً، فَأَخَذَهُ الْمَوْجُ، فَدَعَا صَاحِبُهُ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِنْ بَيْنِهِمْ يَذْهَبُ مَتَاعِي. فَرَدَّهُ الْمَوْجُ إِلَى الْجَانِبِ الَّذِي يَقْصِدُونَهُ، فَأَخَذَهُ النَّاسُ ثُمَّ رَدُّوهُ عَلَى صَاحِبِهِ بِعَيْنِهِ. وَكَانَ الْفَرَسُ إِذَا أَعْيَا وَهُوَ فِي الْمَاءِ، يُقَيِّضُ اللَّهُ لَهُ مِثْلَ النَّشْزِ الْمُرْتَفِعِ، فَيَقِفُ عَلَيْهِ فَيَسْتَرِيحُ، وَحَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْخَيْلِ لَيَسِيرُ وَمَا يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى حِزَامِهَا، وَكَانَ يَوْمًا عَظِيمًا، وَأَمْرًا هَائِلًا، وَخَطْبًا جَلِيلًا، وَخَارِقًا بَاهِرًا، وَمُعْجِزَةً لِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَلَقَهَا اللَّهُ لِأَصْحَابِهِ، لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، وَلَا فِي بُقْعَةٍ مِنَ الْبِقَاعِ سِوَى قَضِيَّةِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ الْمُتَقَدِّمَةِ، بَلْ هَذَا أَجَلُّ وَأَعْظَمُ ; فَإِنَّ هَذَا الْجَيْشَ كَانَ أَضْعَافَ ذَلِكَ. قَالُوا: وَكَانَ الَّذِي يُسَايِرُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْمَاءِ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ فَجَعَلَ سَعْدٌ يَقُولُ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَاللَّهِ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ وَلِيَّهُ، وَلَيُظْهِرَنَّ اللَّهُ دِينَهُ، وَلَيَهْزِمَنَ اللَّهُ عَدُوَّهُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْجَيْشِ بَغْيٌ أَوْ ذُنُوبٌ تَغْلِبُ الْحَسَنَاتِ. فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ الْإِسْلَامَ جَدِيدٌ، ذُلِّلَتْ لَهُمْ وَاللَّهِ الْبُحُورُ، كَمَا ذُلِّلَ لَهُمُ الْبَرُّ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ لَيَخْرُجُنَّ مِنْهُ أَفْوَاجًا كَمَا دَخَلُوا أَفْوَاجًا. فَخَرَجُوا مِنْهُ كَمَا قَالَ سَلْمَانُ، لَمْ يَغْرَقْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَمْ يَفْقِدُوا شَيْئًا.
وَلَمَّا اسْتَقَلَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، خَرَجَتِ الْخُيُولُ تَنْفُضُ أَعْرَافَهَا صَاهِلَةً، فَسَاقُوا وَرَاءَ الْأَعَاجِمِ حَتَّى دَخَلُوا الْمَدَائِنَ فَلَمْ يَجِدُوا بِهَا أَحَدًا، بَلْ قَدْ أَخَذَ كِسْرَى أَهْلَهُ وَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْحَوَاصِلِ، وَتَرَكُوا مَا

عَجَزُوا عَنْهُ مِنَ الْأَنْعَا مِ، وَالثِّيَابِ، وَالْمَتَاعِ، وَالْآنِيَةِ، وَالْأَلْطَافِ، وَالْأَدْهَانِ، مَا لَا يُدْرَى قِيمَتُهُ. وَكَانَ فِي خِزَانَةِ كِسْرَى ثَلَاثَةُ آلَافِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَخَذُوا مِنْ ذَلِكَ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَتَرَكُوا مَا عَجَزُوا عَنْهُ، وَهُوَ مِقْدَارُ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ مَا يُقَارِبُهُ.
فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ الْمَدَائِنَ كَتِيبَةُ الْأَهْوَالِ، ثُمَّ الْكَتِيبَةُ الْخَرْسَاءُ، فَأَخَذُوا فِي سِكَكِهَا لَا يَلْقَوْنَ أَحَدًا وَلَا يَخْشَوْنَهُ، غَيْرَ الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ، فَفِيهِ مُقَاتِلَةٌ، وَهُوَ مُحَصَّنٌ. فَلَمَّا جَاءَ سَعْدٌ بِالْجَيْشِ، دَعَا أَهْلَ الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، عَلَى لِسَانِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ نَزَلُوا مِنْهُ، وَسَكَنَهُ سَعْدٌ وَاتَّخَذَ الْإِيوَانَ مُصَلَّى، وَحِينَ دَخَلَهُ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [ الدُّخَانِ 25 - 28 ]. ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى صَدْرِهِ فَصَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ صَلَاةَ الْفَتْحِ، وَذَكَرَ سَيْفٌ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّهُ صَلَّاهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهُ جَمَعَ بِالْإِيوَانِ، فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ بِالْعِرَاقِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ سَعْدًا نَوَى الْإِقَامَةَ بِهَا، وَبَعَثَ إِلَى الْعِيَالَاتِ فَأَنْزَلَهُمُ دُورَ الْمَدَائِنِ وَاسْتَوْطَنُوهَا، حَتَّى فَتَحُوا جَلُولَاءَ وَتَكْرِيتَ وَالْمَوْصِلَ، ثُمَّ تَحَوَّلُوا إِلَى الْكُوفَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ.

ثُمَّ أَرْسَلَ السَّرَايَا فِي إِثْرِ كِسْرَى يَزْدَجِرْدَ، فَلَحِقَ بِهِمْ طَائِفَةٌ فَقَتَلُوهُمْ وَشَرَّدُوهُمْ، وَاسْتَلَبُوا مِنْهُمْ أَمْوَالًا عَظِيمَةً، أَكْثَرُهَا مِنْ مَلَابِسِ كِسْرَى وَتَاجِهِ وَحُلِيِّهِ. وَشَرَعَ سَعْدٌ فِي تَحْصِيلٍ مَا هُنَالِكَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ وَالتُّحَفِ، مِمَّا لَا يُقَوَّمُ وَلَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ ; كَثْرَةً وَعَظَمَةً.
وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ تَمَاثِيلُ مِنْ جِصٍّ، فَنَظَرَ سَعْدٌ إِلَى أَحَدِهَا وَإِذَا هُوَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إِلَى مَكَانٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: إِنَّ هَذَا لَمْ يُوضَعْ هَكَذَا سُدًى. فَأَخَذُوا مَا يُسَامِتُ أُصْبُعَهُ، فَوَجَدُوا قُبَالَتَهَا كَنْزًا عَظِيمًا مِنْ كُنُوزِ الْأَكَاسِرَةِ الْأَوَائِلِ، فَأَخْرَجُوا مِنْهُ أَمْوَالًا عَظِيمَةً جَزِيلَةً، وَحَوَاصِلَ بَاهِرَةً، وَتُحَفًا فَاخِرَةً. وَاسْتَحْوَذَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَا هُنَالِكَ أَجْمَعَ، مِمَّا لَمْ يَرَ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا أَعْجَبَ مِنْهُ. وَكَانَ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ تَاجُ كِسْرَى وَهُوَ مُكَلَّلٌ بِالْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ الَّتِي تُحَيِّرُ الْأَبْصَارَ، وَمِنْطَقَتُهُ كَذَلِكَ، وَسَيْفُهُ وَسِوَارَاهُ وَقَبَاؤُهُ، وَبِسَاطُ إِيوَانِهِ، وَكَانَ مُرَبَّعًا، سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي مِثْلِهَا، مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَالْبِسَاطُ مِثْلُهُ سَوَاءٌ، وَهُوَ مَنْسُوجٌ بِالذَّهَبِ وَاللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ الثَّمِينَةِ، وَفِيهِ مُصَوَّرُ جَمِيعِ مَمَالِكِ كِسْرَى ; بِلَادُهُ بِأَنْهَارِهَا وَقِلَاعِهَا وَأَقَالِيمِهَا وَكُوَرِهَا، وَصِفَةُ الزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ الَّتِي فِي بِلَادِهِ. فَكَانَ إِذَا جَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ مَمْلَكَتِهِ، وَدَخَلَ تَحْتَ تَاجِهِ، وَتَاجُهُ مُعَلَّقٌ بِسَلَاسِلِ

الذَّهَبِ ; لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُقِلَّهُ عَلَى رَأْسِهِ لِثِقَلِهِ، بَلْ كَانَ يَجِيءُ فَيَجْلِسُ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُدْخِلُ رَأْسَهُ تَحْتَ التَّاجِ، وَالسَّلَاسِلُ الذَّهَبُ تَحْمِلُهُ عَنْهُ، وَهُوَ يَسْتُرُهُ حَالَ لُبْسِهِ، فَإِذَا رُفِعَ الْحِجَابُ عَنْهُ، خَرَّتْ لَهُ الْأُمَرَاءُ سُجُودًا، وَعَلَيْهِ الْمِنْطَقَةُ وَالسِّوَارَانِ وَالسَّيْفُ وَالْقَبَاءُ الْمُرَصَّعُ بِالْجَوَاهِرِ، فَيَنْظُرُ فِي الْبُلْدَانِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَيَسْأَلُ عَنْهَا، وَمَنْ فِيهَا مِنَ النُّوَّابِ، وَهَلْ حَدَثَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَحْدَاثِ ؟ فَيُخْبِرُهُ بِذَلِكَ وُلَاةُ الْأُمُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْأُخْرَى، وَهَكَذَا حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ أَحْوَالِ بِلَادِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، لَا يُهْمِلُ أَمْرَ الْمَمْلَكَةِ، وَقَدْ وَضَعُوا هَذَا الْبِسَاطَ بَيْنَ يَدَيْهِ، تَذْكَارًا لَهُ بِشَأْنِ الْمَمَالِكِ، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ جَيِّدٌ مِنْهُمْ فِي أَمْرِ السِّيَاسَةِ. فَلَمَّا جَاءَ قَدَرُ اللَّهِ، زَالَتْ تِلْكَ الْأَيْدِي عَنْ تِلْكَ الْمَمَالِكِ وَالْأَرَاضِي، وَتَسَلَّمَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيْدِيهِمْ قَسْرًا، وَكَسَرُوا شَوْكَتَهُمْ عَنْهَا، وَأَخَذُوهَا بِأَمْرِ اللَّهِ صَافِيَةً ضَافِيَةً، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ جَعَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى الْأَقْبَاضِ عَمْرَو بْنَ عَمْرِو بْنِ مُقَرِّنٍ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا حَصَّلَ مَا كَانَ فِي الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ، وَمَنَازِلِ كِسْرَى، وَسَائِرِ دُورِ الْمَدَائِنِ وَمَا كَانَ بِالْإِيوَانِ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَمَا يَفِدُ مِنَ السَّرَايَا الَّذِينَ فِي صُحْبَةِ زُهْرَةَ بْنِ حَوِيَّةَ، وَكَانَ فِيمَا رَدَّ زُهْرَةُ بَغْلٌ كَانَ قَدْ أَدْرَكَهُ وَغَصَبَهُ مِنَ الْفُرْسِ،

وَكَانَتْ تَحُوطُهُ بِالسُّيُوفِ، فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْهُمْ، وَقَالَ: إِنَّ لِهَذَا لَشَأْنًا. فَرَدَّهُ إِلَى الْأَقْبَاضِ، وَإِذَا عَلَيْهِ سَفَطَانِ فِيهِمَا ثِيَابُ كِسْرَى وَحُلِيُّهُ، وَلُبْسُهُ الَّذِي كَانَ يَلْبَسُهُ عَلَى السَّرِيرِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَبَغْلٌ آخَرُ عَلَيْهِ تَاجُهُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي سَفَطَيْنِ أَيْضًا، رُدَّا مِنَ الطَّرِيقِ مِمَّا اسْتَلَبَهُ أَصْحَابُ السَّرَايَا.
وَكَانَ فِيمَا رَدَّتِ السَّرَايَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ وَفِيهَا أَكْثَرُ أَثَاثِ كِسْرَى، وَأَمْتِعَتُهُ وَالْأَشْيَاءُ النَّفِيسَةُ الَّتِي اسْتَصْحَبُوهَا مَعَهُمْ، فَلَحِقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَاسْتَلَبُوهَا مِنْهُمْ. وَلَمْ تَقْدِرِ الْفُرْسُ عَلَى حَمْلِ الْبِسَاطِ لِثِقَلِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَا حَمْلِ الْأَمْوَالِ لِكَثْرَتِهَا ; فَإِنَّهُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجِيئُونَ بَعْضَ تِلْكَ الدُّورِ فَيَجِدُونَ الْبَيْتَ مَلَآنًا إِلَى أَعْلَاهُ مِنْ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَيَجِدُونَ مِنَ الْكَافُورِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَيَحْسَبُونَهُ مِلْحًا، وَرُبَّمَا اسْتَعْمَلَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْعَجِينِ فَوَجَدُوهُ مُرًّا، حَتَّى تَبَيَّنُوا أَمْرَهُ.
فَتَحَصَّلَ الْفَيْءُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَشَرَعَ سَعْدٌ فَخَمَّسَهُ، وَأَمَرَ سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيَّ فَقَسَمَ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَحَصَلَ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْفُرْسَانِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، وَكَانُوا كُلُّهُمْ فُرْسَانًا، وَمَعَ بَعْضِهِمْ جَنَائِبُ. وَاسْتَوْهَبَ سَعْدٌ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْبِسَاطِ وَلُبْسَ كِسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; لِيَبْعَثَهُ إِلَى عُمَرَ وَالْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ لِيَنْظُرُوا إِلَيْهِ، وَيَتَعَجَّبُوا مِنْهُ، فَطَيَّبُوا لَهُ ذَلِكَ وَأَذِنُوا فِيهِ، فَبَعَثَهُ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ مَعَ الْخُمْسِ مَعَ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ، وَكَانَ

الَّذِي بَشَّرَ بِالْفَتْحِ قَبْلَهُ حُلَيْسُ بْنُ فُلَانٍ الْأَسَدِيُّ، فَرُوِّينَا أَنَّ عُمَرَ لَمَّا نَظَرَ إِلَى ذَلِكَ قَالَ: إِنَّ قَوْمًا أَدَّوْا هَذَا لَأُمَنَاءُ. فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إِنَّكَ عَفَفْتَ فَعَفَّتْ رَعِيَّتُكَ، وَلَوْ رَتَعْتَ لَرَتَعَتْ. ثُمَّ قَسَّمَ عُمَرُ ذَلِكَ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَأَصَابَ عَلِيًّا قِطْعَةٌ مِنَ الْبِسَاطِ فَبَاعَهَا بِعِشْرِينَ أَلْفًا.
وَقَدْ ذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَلْبَسَ ثِيَابَ كِسْرَى لِخَشَبَةٍ، وَنَصَبَهَا أَمَامَهُ، لِيُرِيَ النَّاسَ مَا فِي هَذِهِ الزِّينَةِ مِنَ الْعَجَبِ، وَمَا عَلَيْهَا مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ.
وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ عُمَرَ أَلْبَسَ ثِيَابَ كِسْرَى لِسُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، أَمِيرِ بَنِي مُدْلِجٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ ": أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الْأَصْبَهَانِيُّ ثَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ، قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِي بِخَطِّ يَدِي عَنْ أَبِي دَاوُدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، ثَنَا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أُتِيَ بِفَرْوَةِ كِسْرَى فَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَفِي الْقَوْمِ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، قَالَ: فَأَلْقَى إِلَيْهِ سِوَارَيْ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ فَجَعَلَهُمَا فِي يَدَيْهِ، فَبَلَغَا مَنْكِبَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُمَا فِي يَدَيْ سُرَاقَةَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، سِوَارَيْ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ فِي يَدَيْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، أَعْرَابِيٍّ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. هَكَذَا سَاقَهُ الْبَيْهَقِيُّ. ثُمَّ حَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ:

وَإِنَّمَا أَلْبَسَهُمَا سُرَاقَةَ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِسُرَاقَةَ وَنَظَرَ إِلَى ذِرَاعَيْهِ:كَأَنِّي بِكَ وَقَدْ لَبِسْتَ سِوَارَيْ كِسْرَى قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ قَالَ عُمَرُ لِسُرَاقَةَ حِينَ أَلْبَسَهُ سِوَارَيْ كِسْرَى: قُلِ اللَّهُ أَكْبَرُ. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ: قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَلَبَهُمَا كِسْرَى بْنَ هُرْمُزَ وَأَلْبَسَهُمَا سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ أَعْرَابِيًّا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ أَخْبَرَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ، ثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: بَعَثَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، أَيَّامَ الْقَادِسِيَّةِ إِلَى عُمَرَ بِقَبَاءِ كِسْرَى وَسَيْفِهِ وَمِنْطَقَتِهِ وَسِوَارَيْهِ وَسَرَاوِيلِهِ وَقَمِيصِهِ وَتَاجِهِ وَخُفَّيْهِ، قَالَ: فَنَظَرَ عُمَرُ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ، فَكَانَ أَجْسَمَهُمْ وَأَبَدْنَهُمْ قَامَةً سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَقَالَ: يَا سُرَاقُ قُمْ فَالْبَسْ. قَالَ سُرَاقَةُ: فَطَمِعْتُ فِيهِ فَقُمْتُ فَلَبِسْتُ. فَقَالَ: أُدَبِرْ. فَأَدْبَرْتُ، ثُمَّ قَالَ: أَقْبِلْ. فَأَقْبَلْتُ، ثُمَّ قَالَ: بَخٍ بَخٍ، أُعَيْرَابِيٌّ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ عَلَيْهِ قَبَاءُ كِسْرَى وَسَرَاوِيلُهُ وَسَيْفُهُ وَمِنْطَقَتُهُ وَتَاجُهُ وَخُفَّاهُ، رُبَّ يَوْمٍ يَا سُرَاقُ بْنَ مَالِكٍ، لَوْ كَانَ عَلَيْكَ فِيهِ هَذَا مِنْ مَتَاعِ كِسْرَى وَآلِ كِسْرَى، كَانَ شَرَفًا لَكَ وَلِقَوْمِكَ، انْزِعْ. فَنَزَعْتُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ مَنَعْتَ هَذَا رَسُولَكَ وَنَبِيَّكَ، وَكَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنِّي، وَأَكْرَمَ عَلَيْكَ مِنِّي، وَمَنَعْتَهُ أَبَا بَكْرٍ، وَكَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنِّي،

وَأَكْرَمَ عَلَيْكَ مِنِّي، وَأَعْطَيْتَنِيهِ، فَأَعُوذُ بِكَ أَنْ تَكُونَ أَعْطَيْتَنِيهِ لِتَمْكُرَ بِي. ثُمَّ بَكَى حَتَّى رَحِمَهُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ. ثُمَّ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمَا بِعْتَهُ ثُمَّ قَسَّمْتَهُ قَبْلَ أَنْ تُمْسِيَ.
وَذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ التَّمِيمِيُّ أَنَّ عُمَرَ حِينَ مَلَكَ تِلْكَ الْمَلَابِسَ وَالْجَوَاهِرَ، جِيءَ بِسَيْفِ كِسْرَى وَمَعَهُ عِدَّةُ سُيُوفٍ ; مِنْهَا سَيْفُ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ نَائِبِ كِسْرَى عَلَى الْحِيرَةِ وَأَنَّ عُمَرَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ سَيْفَ كِسْرَى فِيمَا يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ قَوْمًا أَدَّوْا هَذَا لَذَوُوا أَمَانَةٍ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ كِسْرَى لَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ تَشَاغَلَ بِمَا أَوُتِيَ عَنْ آخِرَتِهِ، فَجَمَعَ لِزَوْجِ امْرَأَتِهِ أَوْ زَوْجِ ابْنَتِهِ، وَلَمْ يُقَدِّمْ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ قَدَّمَ لِنَفْسِهِ وَوَضَعَ الْفُضُولَ مَوَاضِعَهَا لَحَصَلَ لَهُ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ أَبُو بُجَيْدٍ نَافِعُ بْنُ الْأَسْوَدِ، فِي ذَلِكَ:
وَأَمَلْنَا عَلَى الْمَدَائِنِ خَيْلًا بَحْرُهَا مِثْلُ بَرِّهِنَّ أَرِيضَا فَانْتَثَلْنَا خَزَائِنَ الْمَرْءِ كِسْرَى
يَوْمَ وَلَّوْا وَحَاصَ مِنَّا جَرِيضَا

وَقْعَةُ جَلُولَاءَ
لَمَّا سَارَ كِسْرَى وَهُوَ يَزْدَجِرْدُ بْنُ شَهْرِيَارَ مِنَ الْمَدَائِنِ هَارِبًا إِلَى حُلْوَانَ شَرَعَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فِي جَمْعِ رِجَالٍ وَأَعْوَانٍ وَجُنُودٍ، مِنَ الْبُلْدَانِ الَّتِي هُنَاكَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَجَمٌّ غَفِيرٌ مِنَ الْفُرْسِ، وَأَمَّرَ عَلَى الْجَمِيعِ مِهْرَانَ، وَسَارَ كِسْرَى إِلَى حُلْوَانَ، وَأَقَامَ الْجَمْعُ الَّذِي جَمَعَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَلُولَاءَ، وَاحْتَفَرُوا خَنْدَقًا عَظِيمًا حَوْلَهَا، وَأَقَامُوا بِهَا فِي الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ وَآلَاتِ الْحِصَارِ، فَكَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ، أَنْ يُقِيمَ هُوَ بِالْمَدَائِنِ، وَيَبْعَثَ ابْنَ أَخِيهِ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ أَمِيرًا عَلَى الْجَيْشِ الَّذِي يَبْعَثُهُ إِلَى كِسْرَى، وَيَكُونَ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَلَى الْمَيْمَنَةِ سِعْرُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ أَخُوهُ عُمَرُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَلَى السَّاقَةِ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ الْجُهَنِيُّ. فَفَعَلَ سَعْدٌ ذَلِكَ، وَبَعَثَ مَعَ ابْنِ أَخِيهِ جَيْشًا كَثِيفًا يُقَارِبُ اثْنَيْ عَشَرَ الْفًا، مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَوُجُوهِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَرُءُوسِ الْعَرَبِ. وَذَلِكَ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ أَمْرِ الْمَدَائِنِ فَسَارُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْمَجُوسِ وَهُمْ بِجَلُولَاءَ قَدْ خَنْدَقُوا عَلَيْهِمْ، فَحَاصَرَهُمْ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ، وَكَانُوا يَخْرُجُونَ مِنْ بَلَدِهِمْ لِلْقِتَالِ فِي كُلِّ

وَقْتٍ، فَيُقَاتِلُونَ قِتَالًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ. وَجَعَلَ كِسْرَى يَبْعَثُ إِلَيْهِمُ الْأَمْدَادَ، وَكَذَلِكَ سَعْدٌ يَبْعَثُ الْمَدَدَ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ، مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. وَحَمِيَ الْقِتَالُ، وَاشْتَدَّ النِّزَالُ، وَاضْطَرَمَتْ نَارُ الْحَرْبِ، وَقَامَ فِي النَّاسِ هَاشِمٌ فَخَطَبَهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَحَرَّضَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ. وَقَدْ تَعَاقَدَتِ الْفُرْسُ وَتَعَاهَدَتْ، وَحَلَفُوا بِالنَّارِ أَنْ لَا يَفِرُّوا أَبَدًا حَتَّى يُفْنُوا الْعَرَبَ. فَلَمَّا كَانَ الْمَوْقِفُ الْأَخِيرُ، وَهُوَ يَوْمُ الْفَيْصَلِ وَالْفُرْقَانِ، تَوَاقَفُوا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ، حَتَّى فَنِيَ النُّشَّابُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَتَقَصَّفَتِ الرِّمَاحُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ، وَصَارُوا إِلَى السُّيُوفِ وَالطَّبَرْزِينَاتِ، وَحَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ فَصَلَّى الْمُسْلِمُونَ إِيمَاءً، وَذَهَبَتْ فِرْقَةُ الْمَجُوسِ وَجَاءَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى، فَقَامَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو فِي الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: أَهَالَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ ؟ قَالُوا: نَعَمْ إِنَّا كَالُّونَ وَهُمْ مُرِيحُونَ. فَقَالَ: بَلْ إِنَّا حَامِلُونَ عَلَيْهِمْ، وَمُجِدُّونَ فِي طَلَبِهِمْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا، فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ حَتَّى نُخَالِطَهُمْ. فَحَمَلَ وَحَمَلَ النَّاسُ، فَأَمَّا الْقَعْقَاعُ فَإِنَّهُ صَمَّمَ الْحَمَلَةَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُرْسَانِ وَالْأَبْطَالِ وَالشُّجْعَانِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَابِ الْخَنْدَقِ، وَأَقْبَلَ اللَّيْلُ بِظَلَامِهِ، وَجَالَتْ بَقِيَّةُ الْأَبْطَالِ بِمَنْ مَعَهُمْ فِي النَّاسِ، وَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ فِي التَّحَاجُزِ مِنْ أَجْلِ إِقْبَالِ اللَّيْلِ، وَفِي الْأَبْطَالِ يَوْمَئِذٍ طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ، وَقَيْسُ بْنُ مَكْشُوحٍ، وَحُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ، وَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَا صَنَعَهُ الْقَعْقَاعُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَلَمْ

يَشْعُرُوا بِذَلِكَ، لَوْلَا مُنَادِيهِ يُنَادِي: أَيْنَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ ! هَذَا أَمِيرُكُمْ عَلَى بَابِ خَنْدَقِهِمْ. فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْمَجُوسُ فَرُّوا، وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ نَحْوَ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِذَا هُوَ عَلَى بَابِ الْخَنْدَقِ قَدْ مَلَكَهُ عَلَيْهِمْ، وَهَرَبَتِ الْفُرْسُ كُلَّ مَهْرَبٍ، وَأَخَذَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَعَدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ مِائَةُ أَلْفٍ، حَتَّى جَلَّلُوا وَجْهَ الْأَرْضِ بِالْقَتْلَى، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ جَلُولَاءَ. وَغَنِمُوا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَرِيبًا مِمَّا غَنِمُوا مِنَ الْمَدَائِنِ قَبْلَهَا
وَبَعَثَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو فِي إِثْرِ مَنِ انْهَزَمَ مِنْهُمْ وَرَاءَ كِسْرَى، فَسَاقَ خَلْفَهُمْ حَتَّى أَدْرَكَ مِهْرَانَ مُنْهَزِمًا، فَقَتَلَهُ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَفْلَتَهُمُ الْفَيْرُزَانُ فَاسْتَمَرَّ مُنْهَزِمًا، وَأَسَرَ سَبَايَا كَثِيرَةً بَعَثَ بِهَا إِلَى هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ، وَغَنِمُوا دَوَابَّ كَثِيرَةً جِدًّا. ثُمَّ بَعَثَ هَاشِمٌ بِالْغَنَائِمِ وَالْأَمْوَالِ إِلَى عَمِّهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَنَفَلَ سَعْدٌ ذَوِي النَّجْدَةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِقَسْمِ ذَلِكَ عَلَى الْغَانِمِينَ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ الْمَالُ الْمُتَحَصَّلُ مِنْ وَقْعَةِ جَلُولَاءَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَكَانَ خُمُسُهُ سِتَّةَ آلَافِ أَلْفٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ الَّذِي أَصَابَ كُلُّ فَارِسٍ يَوْمَ جَلُولَاءَ نَظِيرَ مَا حَصَلَ لَهُ يَوْمَ الْمَدَائِنِ. يَعْنِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا لِكُلِّ فَارِسٍ. وَقِيلَ: أَصَابَ كُلُّ فَارِسٍ تِسْعَةَ آلَافٍ وَتِسْعَ دَوَابٍّ.

وَكَانَ الَّذِي وَلِيَ قَسْمَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَحْصِيلَهُ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ثُمَّ بَعَثَ سَعْدٌ بِالْأَخْمَاسِ مِنَ الْمَالِ وَالرَّقِيقِ وَالدَّوَابِّ مَعَ زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَقُضَاعِيِّ بْنِ عَمْرٍو، وَأَبِي مُفَزِّرٍ الْأَسْوَدِ. فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ سَأَلَ عُمَرُ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْوَقْعَةِ، فَذَكَرَهَا لَهُ، وَكَانَ زِيَادٌ فَصِيحًا، فَأَعْجَبَ إِيرَادُهُ لَهَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْطُبَ النَّاسَ بِمَا أَخْبَرْتَنِي بِهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَهِيبَ عِنْدِي مِنْكَ، فَكَيْفَ لَا أَقْوَى عَلَى هَذَا مَعَ غَيْرِكَ ؟ فَقَامَ فِي النَّاسِ فَقَصَّ عَلَيْهِمْ خَبَرَ الْوَقْعَةِ، وَكَمْ قَتَلُوا، وَكَمْ غَنِمُوا، بِعِبَارَةٍ عَظِيمَةٍ بَلِيغَةٍ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْخَطِيبُ الْمِصْقَعُ. يَعْنِي الْفَصِيحَ. فَقَالَ زِيَادٌ: إِنَّ جُنْدَنَا أَطْلَقُوا بِالْفِعَالِ لِسَانَنَا. ثُمَّ حَلَفَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ لَا يُجِنَّ هَذَا الْمَالَ الَّذِي جَاءُوا بِهِ سَقْفٌ حَتَّى يَقْسِمَهُ، فَبَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْقَمَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَحْرُسَانِهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ عُمَرُ فِي النَّاسِ، بَعْدَ مَا صَلَّى الْغَدَاةَ وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَأَمَرَ فَكَشَفَ عَنْهُ جَلَابِيبَهُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى يَاقُوتِهِ وَزَبَرْجَدِهِ وَذَهَبِهِ الْأَصْفَرِ وَفِضَّتِهِ الْبَيْضَاءِ بَكَى عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لِمَوْطِنُ شُكْرٍ. فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا ذَاكَ يُبْكِينِي، وَتَاللَّهَ مَا أَعْطَى اللَّهُ هَذَا قَوْمًا إِلَّا تَحَاسَدُوا وَتَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا إِلَّا أُلْقِيَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ. ثُمَّ قَسَمَهُ كَمَا قَسَمَ أَمْوَالَ الْقَادِسِيَّةِ.

وَرَوَى سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ شُيُوخِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: وَكَانَ فَتْحُ جَلُولَاءَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَتْحِ الْمَدَائِنِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ. وَقَدْ تَكَلَّمَ ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا فِيمَا رَوَاهُ عَنْ سَيْفٍ، عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِأَرْضِ السَّوَادِ وَخَرَاجِهَا، وَمَوْضِعُ تَحْرِيرِ ذَلِكَ كِتَابُ " الْأَحْكَامِ ".
وَقَدْ قَالَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ فِي يَوْمِ جَلُولَاءَ:
يَوْمُ جَلُولَاءَ وَيَوْمُ رُسْتُمْ وَيَوْمُ زَحْفِ الْكُوفَةِ الْمُقَدَّمْ وَيَوْمُ عَرْضِ النَّهْرِ الْمُحَرَّمْ
وَأَيَّامٌ خَلَتْ مِنْ شَهْرٍ صُرَّمْ شَيَّبْنَ أَصْدُغِي فَهُنَّ هُرَّمْ
مِثْلُ ثُغَامِ الْبَلَدِ الْمُحَرَّمْ
وَقَالَ أَبُو بُجَيْدٍ فِي ذَلِكَ:

وَيَوْمُ جَلُولَاءَ الْوَقِيعَةِ أَصْبَحَتْ كَتَائِبُنَا تَرْدِي بِأُسْدٍ عَوَابِسِ
فَضَضْتُ جُمُوعَ الْفُرْسِ ثُمَّ أَنَمْتُهُمْ فَتَبًّا لِأَجْسَادِ الْمَجُوسِ النَّجَائِسِ
وَأَفْلَتَهُنَّ الْفَيْرُزَانُ بِجَرْعَةٍ وَمِهْرَانُ أَرْدَتْ يَوْمَ حَزِّ الْقَوَانِسِ
أَقَامُوا بِدَارٍ لِلْمَنِيَّةِ مَوْعِدُ وَلِلتُّرْبِ تَحْثُوهَا خَجُوجُ الرَّوَامِسِ

ذِكْرُ فَتْحِ حُلْوَانَ
وَلَمَّا انْقَضَتِ الْوَقْعَةُ، أَقَامَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ بِجَلُولَاءَ عَنْ أَمْرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - فِي كِتَابِهِ إِلَى سَعْدٍ - وَتَقَدَّمَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى حُلْوَانَ عَنْ أَمْرِ عُمَرَ أَيْضًا ; لِيَكُونَ رِدْءًا لِلْمُسْلِمِينَ هُنَالِكَ، وَمُرَابِطًا لِكِسْرَى حَيْثُ هَرَبَ. فَسَارَ كَمَا قَدَّمْنَا وَأَدْرَكَ أَمِيرَ الْوَقْعَةِ، وَهُوَ مِهْرَانُ الرَّازِيُّ، فَقَتَلَهُ وَهَرَبَ مِنْهُ الْفَيْرُزَانُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى كِسْرَى وَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ جَلُولَاءَ وَمَا جَرَى عَلَى الْفُرْسِ بَعْدَهُ، وَكَيْفَ قُتِلَ مِنْهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ، وَأُدْرِكَ مِهْرَانُ فَقُتِلَ، هَرَبَ عِنْدَ ذَلِكَ كِسْرَى مِنْ حُلْوَانَ إِلَى الرَّيِّ وَاسْتَنَابَ عَلَى حُلْوَانَ أَمِيرًا يُقَالُ لَهُ:

خُسْرَوْ شُنُومُ. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَبَرَزَ إِلَيْهِ خُسْرَوْ شُنُومُ إِلَى مَكَانٍ خَارِجٍ مِنْ حُلْوَانَ فَاقْتَتَلُوا هُنَاكَ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ فَتَحَ اللَّهُ وَنَصَرَ الْمُسْلِمِينَ وَانْهَزَمَ خُسْرَوْ شُنُومُ، وَسَاقَ الْقَعْقَاعُ إِلَى حُلْوَانَ فَتَسَلَّمَهَا، وَدَخَلَهَا الْمُسْلِمُونَ فَغَنِمُوا وَسَبَوْا، وَأَقَامُوا بِهَا، وَضَرَبُوا الْجِزْيَةَ عَلَى مَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْكُوَرِ وَالْأَقَالِيمِ، بَعْدَمَا دُعُوا إِلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَأَبَوْا إِلَّا الْجِزْيَةَ. فَلَمْ يَزَلِ الْقَعْقَاعُ بِهَا حَتَّى تَحَوَّلَ سَعْدٌ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى الْكُوفَةِ فَسَارَ إِلَيْهِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

فَتْحُ تَكْرِيتَ وَالْمَوْصِلِ
لَمَّا افْتَتَحَ سَعْدٌ الْمَدَائِنَ بَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ الْمَوْصِلِ قَدِ اجْتَمَعُوا بِتَكْرِيتَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْكَفَرَةِ، يُقَالُ لَهُ: الْأَنْطَاقُ. فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِأَمْرِ جَلُولَاءَ وَاجْتِمَاعِ الْفُرْسِ بِهَا، وَبِأَمْرِ أَهْلِ الْمَوْصِلِ فَتَقَدَّمَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كِتَابِ عُمَرَ فِي أَهْلِ جَلُولَاءَ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا. وَكَتَبَ عُمَرُ فِي قَضِيَّةِ أَهْلِ الْمَوْصِلِ الَّذِينَ قَدِ اجْتَمَعُوا بِتَكْرِيتَ عَلَى الْأَنْطَاقِ أَنْ يُعَيِّنَ جَيْشًا لِحَرْبِهِمْ، وَيُؤَمِّرَ عَلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُعْتَمِّ، وَأَنْ يَجْعَلَ عَلَى

مُقَدِّمَتِهِ رِبْعِيَّ بْنَ الْأَفْكَلِ الْعَنَزِيَّ، وَعَلَى الْمَيْمَنَةِ الْحَارِثَ بْنَ حَسَّانَ الذُّهْلِيَّ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ فُرَاتَ بْنَ حَيَّانَ الْعِجْلِيَّ، وَعَلَى السَّاقَةِ هَانِئَ بْنَ قَيْسٍ، وَعَلَى الْخَيْلِ عَرْفَجَةَ بْنَ هَرْثَمَةَ. فَفَصَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِّ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَدَائِنِ فَسَارَ فِي أَرْبَعٍ حَتَّى نَزَلَ بِتَكْرِيتَ عَلَى الْأَنْطَاقِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّومِ، وَمِنَ الشَّهَارِجَةِ، وَمِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، مِنْ إِيَادٍ وَتَغْلِبَ وَالنَّمِرِ، وَقَدْ خَنْدَقُوا بِتَكْرِيتَ، فَحَاصَرَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَزَاحَفُوهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً، مَا مِنْ مَرَّةٍ إِلَّا وَيَنْتَصِرُ عَلَيْهِمْ، وَيَفُلُّ جُمُوعَهُمْ، فَضَعُفَ جَأْشُهُمْ، وَعَزَمَتِ الرُّومُ عَلَى الذَّهَابِ فِي السُّفُنِ بِأَمْوَالِهِمْ، وَرَاسَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِّ مَنْ هُنَالِكَ مِنَ الْأَعْرَابِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الدُّخُولِ مَعَهُ فِي النُّصْرَةِ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، فَجَاءَتِ الْقُصَّادُ إِلَيْهِ عَنْهُمْ بِالْإِجَابَةِ إِلَى ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِيمَا قُلْتُمْ، فَاشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَقِرُّوا بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَرَجَعَتِ الْقُصَّادُ إِلَيْهِ بِأَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِذَا كَبَّرْنَا وَحَمَلْنَا عَلَى الْبَلَدِ اللَّيْلَةَ، فَأَمْسِكُوا عَلَيْنَا أَبْوَابَ السُّفُنِ، وَامْنَعُوهُمْ أَنْ يَرْكَبُوا فِيهَا، وَاقْتُلُوا مِنْهُمْ مَنْ قَدَرْتُمْ عَلَى قَتْلِهِ. ثُمَّ شَدَّ عَبْدُ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ، وَكَبَّرُوا تَكْبِيرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَحَمَلُوا عَلَى الْبَلَدِ، فَكَبَّرَتِ الْأَعْرَابُ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى، فَحَارَ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَأَخَذُوا فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْأَبْوَابِ الَّتِي تَلِي

دِجْلَةَ، فَتَلَقَّتْهُمْ إِيَادٌ وَالنَّمِرُ وَتَغْلِبُ، فَقَتَلُوهُمْ قَتْلًا ذَرِيعًا، وَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِّ بِأَصْحَابِهِ مِنَ الْأَبْوَابِ الْأُخَرِ، فَقَتَلَ جَمِيعَ أَهْلِ الْبَلَدِ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، وَلَمْ يَسْلَمْ إِلَّا مَنْ أَسْلَمِ مِنَ الْأَعْرَابِ مِنْ إِيَادٍ وَتَغْلِبَ وَالنَّمِرِ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ عَهِدَ فِي كِتَابِهِ أَنْ إِذَا نُصِرُوا عَلَى أَهْلِ تَكْرِيتَ أَنْ يَبْعَثُوا رِبْعِيَّ بْنَ الْأَفْكَلِ إِلَى الْحِصْنَيْنِ، وَهِيَ الْمَوْصِلُ سَرِيعًا فَسَارَ إِلَيْهَا - كَمَا أَمَرَ عُمَرُ - وَمَعَهُ سَرِيَّةٌ كَثِيرَةٌ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَبْطَالِ، فَسَارَ إِلَيْهَا حَتَّى فَجَأَهَا قَبْلَ وُصُولِ الْأَخْبَارِ إِلَيْهَا، فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ وَاقَفَهَا حَتَّى أَجَابُوا إِلَى الْمُصَالَحَةِ، فَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّمَّةُ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.
ثُمَّ اقْتُسِمَتِ الْأَمْوَالُ الَّتِي تَحَصَّلَتْ مِنْ تَكْرِيتَ فَبَلَغَ سَهْمُ الْفَارِسِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَسَهْمُ الرَّاجِلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَبَعَثُوا بِالْأَخْمَاسِ مَعَ فُرَاتِ بْنِ حَيَّانَ، وَبِالْفَتْحِ مَعَ الْحَارِثِ بْنِ حَسَّانَ وَوَلِيَ إِمْرَةَ حَرْبِ الْمَوْصِلِ رِبْعِيُّ بْنُ الْأَفْكَلِ، وَوَلِيَ الْخَرَاجَ بِهَا عَرْفَجَةُ بْنُ هَرْثَمَةَ.

فَتْحُ مَاسَبَذَانَ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ
لَمَّا رَجَعَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ مِنْ جَلُولَاءَ إِلَى الْمَدَائِنِ بَلَغَ سَعْدًا أَنَّ آذِينَ بْنَ

الْهُرْمُزَانِ قَدْ حَمَلَ طَائِفَةً مِنَ الْفُرْسِ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنِ ابْعَثْ جَيْشًا، وَأَمِّرْ عَلَيْهِمْ ضِرَارَ بْنَ الْخَطَّابِ فَخَرَجَ ضِرَارٌ فِي جَيْشٍ مَنَ الْمَدَائِنِ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ ابْنُ الْهُذَيْلِ الْأَسَدِيُّ، فَتَقَدَّمَ ابْنُ الْهُذَيْلِ بَيْنَ يَدَيِ الْجَيْشِ، فَالْتَقَى مَعَ آذِينَ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ وُصُولِ ضِرَارٍ إِلَيْهِ، فَكَسَرَ ابْنُ الْهُذَيْلِ طَائِفَةَ الْفُرْسِ، وَأُسِرَ آذينُ بْنُ الْهُرْمُزَانِ، وَفَرَّ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَأَمَرَ ابْنُ الْهُذَيْلِ فَضُرِبَ عُنُقُ آذِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَاقَ وَرَاءَ الْمُنْهَزِمِينَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَاسَبَذَانَ - وَهِيَ مَدِينَةٌ كَبِيرَةٌ - فَأَخَذَهَا عَنْوَةً، وَهَرَبَ أَهْلُهَا فِي رُءُوسِ الشِّعَابِ وَالْجِبَالِ، فَدَعَاهُمْ فَاسْتَجَابُوا لَهُ، وَضَرَبَ عَلَى مَنْ لَمْ يُسْلِمِ الْجِزْيَةَ، وَأَقَامَ نَائِبًا عَلَيْهَا حَتَّى تَحَوَّلَ سَعْدٌ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى الْكُوفَةِ كَمَا سَيَأْتِي.

فَتْحُ قِرْقِيسِيَاءَ وَهِيتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ: لَمَّا رَجَعَ هَاشِمٌ مِنْ جَلُولَاءَ إِلَى الْمَدَائِنِ وَكَانَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ قَدْ أَمَدُّوا أَهْلَ حِمْصَ عَلَى قِتَالِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَخَالِدٍ - لَمَّا كَانَ هِرَقْلُ بِقِنَّسْرِينَ - وَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ فِي مَدِينَةِ هِيتَ كَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا، وَأَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ عُمَرَ بْنَ مَالِكِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، فَسَارَ فِي مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى هِيتَ فَوَجَدَهُمْ قَدْ خَنْدَقُوا عَلَيْهِمْ، فَحَاصَرَهُمْ حِينًا فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِمْ، فَسَارَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ،

وَاسْتَخْلَفَ عَلَى مُحَاصَرَةِ هِيتَ الْحَارِثَ بْنَ يَزِيدَ، فَرَاغَ عُمَرُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى قِرْقِيسِيَاءَ، فَأَخَذَهَا عَنْوَةً، وَأَنَابُوا إِلَى بَذْلِ الْجِزْيَةِ، وَكَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ عَلَى هِيتَ إِنْ لَمْ يُصَالِحُوا، أَنْ يَحْفِرَ مِنْ وَرَاءِ خَنْدَقِهِمْ خَنْدَقًا، وَيَجْعَلَ لَهُ أَبْوَابًا مِنْ نَاحِيَتِهِ. فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ أَنَابُوا إِلَى الْمُصَالَحَةِ.
قَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْيَرْمُوكِ إِلَى قِنَّسْرِينَ فَصَالَحَ أَهْلَ حَلَبَ وَمَنْبِجَ، وَأَنْطَاكِيَةَ، عَلَى الْجِزْيَةِ، وَفَتَحَ سَائِرَ بِلَادِ قِنَّسْرِينَ عَنْوَةً. قَالَ: وَفِيهَا افْتُتِحَتْ سَرُوجُ وَالرُّهَا عَلَى يَدَيْ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ: وَفِيهَا فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ سَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَحَاصَرَ إِيلِيَاءَ فَسَأَلُوا الصُّلْحَ عَلَى أَنْ يَقْدَمَ عُمَرُ فَيُصَالِحَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَكَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى عُمَرَ، فَقَدِمَ حَتَّى صَالَحَهُمْ، وَأَقَامَ أَيَّامًا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ. قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَمَى عُمَرُ الرَّبَذَةَ لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهَا غَرَّبَ عُمَرُ أَبَا مِحْجَنٍ الثَّقَفِيَّ إِلَى بَاضِعٍ، وَفِيهَا تَزَوَّجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ صَفِيَّةَ

بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ. قُلْتُ: الَّذِي قُتِلَ يَوْمَ الْجِسْرِ، وَكَانَ أَمِيرَ السَّرِيَّةِ، وَهِيَ أُخْتُ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، أَمِيرِ الْعِرَاقِ فِيمَا بَعْدُ، وَكَانَتِ امْرَأَةً صَالِحَةً، وَكَانَ أَخُوهَا فَاجِرًا، وَكَافِرًا أَيْضًا. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا حَجَّ عُمَرُ بِالنَّاسِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ. قَالَ: وَكَانَ نَائِبَهُ عَلَى مَكَّةَ عَتَّابٌ، وَعَلَى الشَّامِ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَعَلَى الْعِرَاقِ سَعْدٌ، وَعَلَى الطَّائِفِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَعَلَى الْيَمَنِ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، وَعَلَى الْيَمَامَةِ وَالْبَحْرَيْنِ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، وَعَلَى عُمَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَعَلَى الْمَوْصِلِ رِبْعِيُّ بْنُ الْأَفْكَلِ، وَعَلَى الْجَزِيرَةِ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيُّ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ - كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ التَّأْرِيخَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَهُ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَهُ فِي " سِيرَةِ عُمَرَ "، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُفِعَ إِلَى عُمَرَ صَكٌّ مَكْتُوبٌ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ بِدَيْنٍ يَحِلُّ عَلَيْهِ فِي شَعْبَانَ، فَقَالَ: أَيُّ شَعْبَانَ ؟ أَمِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَمِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَمِ الَّتِي بَعْدَهَا ؟ ثُمَّ جَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ: ضَعُوا لِلنَّاسِ شَيْئًا يَعْرِفُونَ بِهِ حُلُولَ دُيُونِهِمْ. فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُؤَرِّخُوا كَمَا تُؤَرِّخُ الْفُرْسُ بِمُلُوكِهِمْ، كُلَّمَا هَلَكَ مَلِكٌ أَرَّخُوا مِنْ تَارِيخِ وِلَايَةِ الَّذِي بَعْدَهُ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَرِّخُوا

بِتَارِيخِ الرُّومِ مِنْ زَمَانِ إِسْكَنْدَرَ. فَكَرِهُوا ذَلِكَ، وَلِطُولِهِ أَيْضًا. وَقَالَ قَائِلُونَ: أَرِّخُوا مِنْ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مِنْ مَبْعَثِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَشَارَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَآخَرُونَ أَنْ يُؤَرَّخَ مِنْ هِجْرَتِهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ ; لِظُهُورِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّهُ أَظْهَرُ مِنَ الْمَوْلِدِ وَالْمَبْعَثِ. فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ، فَأَمَرَ عُمَرُ أَنْ يُؤَرَّخَ مِنْ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَرَّخُوا مِنْ أَوَّلِ تِلْكَ السَّنَةِ مِنْ مُحَرَّمِهَا. وَعِنْدَ مَالِكٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَوَّلَ السَّنَةِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لِقُدُومِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْمَدِينَةَ فِيهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ السَّنَةِ مِنَ الْمُحَرَّمِ ; لِأَنَّهُ أَضْبَطُ، لِئَلَّا تَخْتَلِفَ الشُّهُورُ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَ أَوَّلُ السَّنَةِ الْهِلَالِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ - تُوُفِّيَتْ مَارِيَةُ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا، فِيمَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَصَلَّى عَلَيْهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَكَانَ يَجْمَعُ النَّاسَ لِشُهُودِ جِنَازَتِهَا، وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا. وَهِيَ مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ، أَهْدَاهَا صَاحِبُ إِسْكَنْدَرِيَّةَ - وَهُوَ جُرَيْجُ بْنُ مِينَا - فِي جُمْلَةِ تُحَفٍ وَهَدَايَا لِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَكَانَ مَعَهَا أُخْتُهَا سِيرِينُ الَّتِي وَهَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَسَّانَ. وَيُقَالُ: أَهْدَى الْمُقَوْقِسُ مَعَهُمَا جَارِيَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ. فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا كَانَتَا خَادِمَتَيْنِ لِمَارِيَةَ وَسِيرِينَ. وَأَهْدَى

مَعَهُنَّ غُلَامًا خَصِيًّا اسْمُهُ مَأْبُورٌ، وَأَهْدَى مَعَ ذَلِكَ بَغْلَةً شَهْبَاءَ اسْمُهَا الدُّلْدُلُ، وَأَهْدَى حُلَّةَ حَرِيرٍ مِنْ عَمَلِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. وَكَانَ قُدُومُ هَذِهِ الْهَدِيَّةِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ. فَحَمَلَتْ مَارِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِإِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَعَاشَ عِشْرِينَ شَهْرًا، وَمَاتَ قَبْلَ أَبِيهِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِسَنَةٍ سَوَاءٍ، وَقَدْ حَزِنَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَكَى عَلَيْهِ وَقَالَ:تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ. وَكَانَتْ مَارِيَةُ هَذِهِ مِنَ الصَّالِحَاتِ الْخَيِّرَاتِ الْحِسَانِ، وَقَدْ حَظِيَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُعْجِبَ بِهَا، وَكَانَتْ جَمِيلَةً مُلَّاحَةً، أَيْ حُلْوَةً وَهِيَ تُشَابِهُ هَاجَرَ سُرِّيَّةَ الْخَلِيلِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ دِيَارِ مِصْرَ وَتَسَرَّاهَا نَبِيٌّ كَرِيمٌ، وَخَلِيلٌ جَلِيلٌ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا انْتَقَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى الْكُوفَةِ ; وَذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ اسْتَوْخَمُوا الْمَدَائِنَ، وَتَغَيَّرَتْ أَلْوَانُهُمْ، وَضَعُفَتْ أَبْدَانُهُمْ ; لِكَثْرَةِ ذُبَابِهَا وَغُبَارِهَا، فَكَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ عُمَرُ: إِنَّ الْعَرَبَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا حَيْثُ يُوَافِقُ إِبِلَهَا. فَبَعَثَ سَعْدٌ حُذَيْفَةَ وَسَلْمَانَ يَرْتَادَانِ لِلْمُسْلِمِينَ مَنْزِلًا مُنَاسِبًا يَصْلُحُ لِإِقَامَتِهِمْ، فَمَرَّا عَلَى أَرْضِ الْكُوفَةِ وَهِيَ حَصْبَاءُ فِي رَمْلَةٍ حَمْرَاءَ، فَأَعْجَبَتْهُمَا، وَوَجَدَا هُنَالِكَ ثَلَاثَ دَيْرَاتٍ: دَيْرُ حُرَقَةَ بِنْتِ النُّعْمَانِ، وَدَيْرُ أُمِّ عَمْرٍو، وَدَيْرُ سِلْسِلَةَ. وَبَيْنَ ذَلِكَ خِصَاصٌ خِلَالَ هَذِهِ الْكُوفَةِ. فَنَزَلًا فَصَلَّيَا هُنَالِكَ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاءِ وَمَا أَظَلَّتْ، وَرَبَّ الْأَرْضِ وَمَا أَقَلَّتْ، وَالرِّيحِ وَمَا ذَرَتْ، وَالنُّجُومِ وَمَا هَوَتْ، وَالْبِحَارِ وَمَا جَرَتْ، وَالشَّيَاطِينِ وَمَا أَضَلَّتْ، وَالْخِصَاصِ وَمَا أَجَنَّتْ، بَارِكْ لَنَا فِي هَذِهِ الْكُوفَةِ وَاجْعَلْهَا مَنْزِلَ ثَبَاتٍ. ثُمَّ كَتَبَا إِلَى سَعْدٍ بِالْخَبَرِ، فَأَمَرَ سَعْدٌ بِاخْتِطَاطِ الْكُوفَةِ وَسَارَ إِلَيْهَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ فِي مُحَرَّمِهَا، فَكَانَ أَوَّلَ بِنَاءٍ وُضِعَ فِيهَا الْمَسْجِدُ. وَأَمَرَ سَعْدٌ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ الرَّمْيِ، فَرَمَى مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى الْأَرْبَعِ جِهَاتٍ، فَحَيْثُ سَقَطَ سَهْمُهُ بَنَى النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وَعَمَّرَ قَصْرًا تِلْقَاءَ مِحْرَابِ الْمَسْجِدِ لِلْإِمَارَةِ وَبَيْتَ

الْمَالِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا بَنَوُا الْمَنَازِلُ بِالْقَصَبِ فَاحْتَرَقَتْ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ، فَبَنَوْهَا بِاللَّبِنِ عَنْ أَمْرِ عُمَرَ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يُسْرِفُوا وَلَا يُجَاوِزُوا الْحَدَّ. وَبَعَثَ سَعْدٌ إِلَى الْأُمَرَاءِ وَالْقَبَائِلِ فَقَدِمُوا عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَهُمُ الْكُوفَةَ وَأَمَرَ سَعْدٌ أَبَا هَيَّاجٍ الْمُوَكَّلَ بِإِنْزَالِ النَّاسِ فِيهَا بِأَنْ يُعَمِّرُوا وَيَدَعُوا لِلطَّرِيقِ الْمُنْهَجِ وُسْعَ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَلِمَا دُونَ ذَلِكَ ثَلَاثِينَ أَوْ عِشْرِينَ ذِرَاعًا، وَلِلْأَزِقَّةِ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ. وَبُنِيَ لِسَعْدٍ قَصْرٌ قَرِيبٌ مِنَ السُّوقِ، فَكَانَتْ غَوْغَاءُ النَّاسِ تَمْنَعُ سَعْدًا مِنَ الْحَدِيثِ، فَكَانَ يُغْلِقُ بَابَهُ، وَيَقُولُ: سَكِّنِ الصُّوَيْتَ. فَلَمَّا بَلَغَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ مُسَلَّمَةَ، فَأَمَرَهُ إِذَا انْتَهَى إِلَى الْكُوفَةِ أَنْ يَقْدَحَ زِنَادَهُ وَيَجْمَعَ حَطَبًا وَيَحْرِقَ بَابَ الْقَصْرِ، ثُمَّ يَرْجِعَ مِنْ فَوْرِهِ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْكُوفَةِ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ عُمَرُ، وَأَمَرَ سَعْدًا أَنْ لَا يُغْلِقَ بَابَهُ عَنِ النَّاسِ، وَلَا يَجْعَلَ عَلَى بَابِهِ أَحَدًا يَمْنَعُ النَّاسَ عَنْهُ، فَامْتَثَلَ ذَلِكَ سَعْدٌ، وَعَرَضَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مُسَلَّمَةَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهِ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَاسْتَمَرَّ سَعْدٌ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْكُوفَةِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَنِصْفًا، حَتَّى عَزَلَهُ عَنْهَا عُمَرُ، مِنْ غَيْرِ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ.

قِصَّةُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَحَصْرِ الرُّومِ لَهُ بِحِمْصَ وَقُدُومِ عُمَرَ إِلَى الشَّامِ أَيْضًا لِيَنْصُرَهُ
وَذَلِكَ أَنَّ جَمْعًا مِنَ الرُّومِ عَزَمُوا عَلَى حِصَارِ أَبِي عُبَيْدَةَ بِحِمْصَ، وَاسْتَجَاشُوا بِأَهْلِ الْجَزِيرَةِ وَخَلْقٍ مِمَّنْ هُنَالِكَ، وَقَصَدُوا أَبَا عُبَيْدَةَ، فَبَعَثَ أَبُو

عُبَيْدَةَ إِلَى خَالِدٍ ; فَقَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ قِنَّسْرِينَ وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِذَلِكَ، وَاسْتَشَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنْ يُنَاجِزَ الرُّومَ، أَوْ يَتَحَصَّنَ بِالْبَلَدِ حَتَّى يَجِيءَ أَمْرُ عُمَرَ ؟ فَكُلُّهُمْ أَشَارَ بِالتَّحَصُّنِ إِلَّا خَالِدًا فَإِنَّهُ أَشَارَ بِمُنَاجَزَتِهِمْ، فَعَصَاهُ وَأَطَاعَهُمْ. وَتَحَصَّنَ بِحِمْصَ وَأَحَاطَ بِهِ الرُّومُ، وَكُلُّ بَلَدٍ مِنْ بُلْدَانِ الشَّامِ مَشْغُولٌ أَهْلُهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِمْ، وَلَوْ تَرَكُوا مَا هُمْ فِيهِ وَأَقْبَلُوا إِلَى حِمْصَ لَانَخْرَمَ النِّظَامُ فِي الشَّامِ كُلِّهِ. وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ أَنْ يَنْدُبَ النَّاسَ مَعَ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو، وَيُسَيِّرَهُمْ إِلَى حِمْصَ مِنْ يَوْمِ يَقْدَمُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ نَجْدَةً لِأَبِي عُبَيْدَةَ فَإِنَّهُ مَحْصُورٌ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا إِلَى أَهْلِ الْجَزِيرَةِ الَّذِينَ مَالَئُوا الرُّومَ عَلَى حِصَارِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَيَكُونَ أَمِيرَ الْجَيْشِ إِلَى الْجَزِيرَةِ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ فَخَرَجَ الْجَيْشَانِ مَعًا مِنَ الْكُوفَةِ ; الْقَعْقَاعُ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ نَحْوَ حِمْصَ لِنَجْدَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَخَرَجَ عُمَرُ بِنَفْسِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ لِيَنْصُرَ أَبَا عُبَيْدَةَ، فَبَلَغَ الْجَابِيَةَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا بَلَغَ سَرْغَ. قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَهُوَ أَشْبَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَ الْجَزِيرَةِ الَّذِينَ مَعَ الرُّومِ عَلَى حِمْصَ أَنَّ الْجَيْشَ قَدْ طَرَقَ بِلَادَهُمْ، انْشَمَرُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَفَارَقُوا الرُّومَ، وَسَمِعَتِ الرُّومُ بِقُدُومِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ لِنُصْرَةِ نَائِبِهِ عَلَيْهِمْ، فَضَعُفَ جَانِبُهُمْ جِدًّا. وَأَشَارَ خَالِدٌ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بِأَنْ يَبْرُزَ إِلَيْهِمْ لِيُقَاتِلَهُمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَنَصَرَهُ، وَهُزِمَتِ الرُّومُ هَزِيمَةً فَظِيعَةً، وَذَلِكَ قَبْلَ وُرُودِ عُمَرَ عَلَيْهِمْ، وَقَبْلَ وُصُولِ الْأَمْدَادِ إِلَيْهِمْ بِثَلَاثِ لَيَالٍ. فَكَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى عُمَرَ وَهُوَ بِالْجَابِيَةِ يُخْبِرُهُ بِالْفَتْحِ، وَأَنَّ الْمَدَدَ وَصَلَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَسَأَلَهُ هَلْ يُدْخِلُهُمْ فِي الْقَسْمِ مَعَهُمْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ؟ فَجَاءَ الْجَوَابُ بِأَنْ يُدْخِلَهُمْ مَعَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ إِنَّمَا ضَعُفَ وَإِنَّمَا انْشَمَرَ عَنْهُ الْمَدَدُ مِنْ خَوْفِهِمْ مِنْهُمْ، فَأَشْرَكَهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْغَنِيمَةِ. وَقَالَ عُمَرُ:

جَزَى اللَّهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ خَيْرًا، يَحْمُونَ حَوْزَتَهُمْ وَيَمُدُّونَ أَهْلَ الْأَمْصَارِ.

فَتْحُ الْجَزِيرَةِ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَتِ الْجَزِيرَةُ، فِيمَا قَالَهُ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ. فَوَافَقَ سَيْفَ بْنَ عُمَرَ فِي كَوْنِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ. سَارَ إِلَيْهَا عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ، وَفِي صُحْبَتِهِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَهُوَ غُلَامٌ صَغِيرُ السِّنِّ لَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، فَنَزَلَ الرُّهَا فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى الْجِزْيَةِ، وَصَالَحَتْ حَرَّانُ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ بَعَثَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ إِلَى نَصِيبِينَ وَعُمَرَ بْنَ سَعْدٍ إِلَى رَأْسِ الْعَيْنِ وَسَارَ بِنَفْسِهِ إِلَى دَارَا، فَافْتُتِحَتْ هَذِهِ الْبُلْدَانُ، وَبَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ إِلَى إِرْمِينِيَةَ، فَكَانَ عِنْدَهَا شَيْءٌ مِنْ قِتَالٍ، قُتِلَ فِيهِ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ شَهِيدًا. ثُمَّ صَالَحَهُمْ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ عَلَى الْجِزْيَةِ، عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ دِينَارٌ.
وَقَالَ سَيْفٌ فِي رِوَايَتِهِ: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ، فَسَلَكَ عَلَى دَجْلَةَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَوْصِلِ فَعَبَرَ إِلَى بَلَدٍ حَتَّى انْتَهَى إِلَى نَصِيبِينَ، فَلَقُوهُ

بِالصُّلْحِ وَصَنَعُوا كَمَا صَنَعَ أَهْلُ الرَّقَّةِ. وَبَعَثَ إِلَى عُمَرَ بِرُءُوسِ النَّصَارَى مِنْ عَرَبِ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: أَدُّوا الْجِزْيَةَ. فَقَالُوا: أَبْلِغْنَا مَأْمَنَنَا، فَوَاللَّهِ لَئِنْ وَضَعْتَ عَلَيْنَا الْجِزْيَةَ لَنَدْخُلَنَّ أَرْضَ الرُّومِ، وَاللَّهِ لَتَفْضَحُنَا مِنْ بَيْنِ الْعَرَبِ. فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ فَضَحْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَخَالَفْتُمْ أُمَّتَكُمْ، وَوَاللَّهِ لَتُؤَدُّنَّ الْجِزْيَةَ وَأَنْتُمْ صَغَرَةٌ قَمَأَةٌ، وَلَئِنْ هَرَبْتُمْ إِلَى الرُّومِ لَأَكْتُبَنَّ فِيكُمْ، ثُمَّ لَأَسْبِيَنَّكُمْ. قَالُوا: فَخُذْ مِنَّا شَيْئًا وَلَا تُسَمِّيهِ جِزْيَةً. فَقَالَ: أَمَّا نَحْنُ فَنُسَمِّيهِ جِزْيَةً، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَمُّوْهُ مَا شِئْتُمْ. فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَلَمْ يُضْعِفُ عَلَيْهِمْ سَعْدٌ الصَّدَقَةَ ؟ قَالَ: بَلَى. وَأَصْغَى إِلَيْهِ وَرَضِيَ بِهِ مِنْهُمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَى الشَّامِ فَوَصَلَ إِلَى سَرْغَ، فِي قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ. وَقَالَ سَيْفٌ: وَصَلَ إِلَى الْجَابِيَةِ. قُلْتُ: وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ وَصَلَ سَرْغَ. وَقَدْ تَلَقَّاهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ: أَبُو عُبَيْدَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، إِلَى سَرْغَ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَاسْتَشَارَ عُمَرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، فَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ: أَنْتَ قَدْ جِئْتَ لِأَمْرٍ فَلَا تَرْجِعْ عَنْهُ. وَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ: لَا نَرَى أَنْ تَقْدَمَ بِوُجُوهِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ. فَيُقَالُ: إِنَّ عُمَرَ أَمَرَ النَّاسِ بِالرُّجُوعِ مِنَ الْغَدِ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفِرَارًا مَنْ قَدَرِ اللَّهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ، نَفِرُّ مَنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ،

أَرَأَيْتَ لَوْ هَبَطْتَ وَادِيًا ذَا عُدْوَتَيْنِ ; إِحْدَاهُمَا مُخْصِبَةٌ وَالْأُخْرَى مُجْدِبَةٌ، فَإِنْ رَعَيْتَ الْخِصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ أَنْتَ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ - وَهُوَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ": وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ شَأْنِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ فِيهَا لَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ - يَعْنِي لِكَوْنِهِ وَافَقَ رَأْيَهُ - وَرَجَعَ بِالنَّاسِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الطَّاعُونَ رِجْزٌ وَبَقِيَّةُ عَذَابٍ عُذِّبَ بِهِ قَوْمٌ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ أَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَارًا مِنْهُ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَيَحْيَى بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ بِهِ.

قَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ: كَانَ الْوَبَاءُ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَصَفَرٍ ثُمَّ ارْتَفَعَ. وَكَأَنَّ سَيْفًا يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا الْوَبَاءَ هُوَ طَاعُونُ عَمَوَاسَ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ خَلْقٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَوُجُوهِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ، بَلْ طَاعُونُ عَمَوَاسَ مِنَ السَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ بَعْدَ هَذِهِ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى أَنْ يَطُوفَ الْبُلْدَانَ، وَيَزُورَ الْأُمَرَاءَ، وَيَنْظُرَ فِيمَا اعْتَمَدُوهُ وَمَا آثَرُوا مِنَ الْخَيْرِ، فَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ ; فَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ: ابْدَأْ بِالْعِرَاقِ. وَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ: بِالشَّامِ. فَعَزَمَ عُمَرُ عَلَى قُدُومِ الشَّامِ لِأَجْلِ قَسْمِ مَوَارِيثِ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ فَإِنَّهُ أَشْكَلَ قَسْمُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالشَّامِ، فَعَزَمَ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عُمَرَ عَزَمَ عَلَى قُدُومِ الشَّامِ بَعْدَ طَاعُونِ عَمَوَاسَ وَقَدْ كَانَ الطَّاعُونُ فِي سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ كَمَا سَيَأْتِي، فَهُوَ قُدُومٌ آخَرُ غَيْرُ قُدُومِ سَرْغَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ سَيْفٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَأَبِي حَارِثَةَ، وَالرَّبِيعِ بْنِ النُّعْمَانِ، قَالُوا: قَالَ عُمَرُ: ضَاعَتْ مَوَارِيثُ النَّاسِ بِالشَّامِ، أَبْدَأُ بِهَا فَأُقَسِّمُ الْمَوَارِيثَ، وَأُقِيمُ لَهُمْ مَا فِي نَفْسِي، ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَتَقَلَّبُ فِي الْبِلَادِ وَأَنْبِذُ إِلَيْهِمْ أَمْرِي. قَالُوا: فَأَتَى عُمَرُ الشَّامَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ; مَرَّتَيْنِ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ، وَمَرَّتَيْنِ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَلَمْ يَدْخُلْهَا فِي الْأُولَى مِنَ الْأُخْرَيَيْنِ. وَهَذَا يَقْتَضِي مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ سَيْفٍ، أَنَّهُ يَقُولُ بِكَوْنِ طَاعُونِ عَمَوَاسَ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ. وَقَدْ خَالَفَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَأَبُو

مَعْشَرٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ.
وَفِيهِ تُوُفِّيَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذٌ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأَعْيَانِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ طَاعُونَ عَمَوَاسَ
الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذٌ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَشْرَافِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ. أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْمُخَارِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ الْبَجَلِيِّ قَالَ: أَتَيْنَا أَبَا مُوسَى وَهُوَ فِي دَارِهِ بِالْكُوفَةِ لِنَتَحَدَّثَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا جَلَسْنَا قَالَ: لَا تَحِفُّوا، فَقَدْ أُصِيبَ فِي الدَّارِ إِنْسَانٌ بِهَذَا السَّقَمِ، وَلَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَزَّهُوا عَنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، فَتَخْرُجُوا فِي فَسِيحِ بِلَادِكُمْ وَنُزَهِهَا حَتَّى يَرْتَفِعَ هَذَا الْبَلَاءُ، فَإِنِّي سَأُخْبِرُكُمْ بِمَا يُكْرَهُ مِمَّا يُتَّقَى، مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَظُنَّ مَنْ خَرَجَ أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ مَاتَ، وَيَظُنُّ مَنْ أَقَامَ فَأَصَابَهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَمْ يُصِبْهُ، فَإِذَا لَمْ يَظُنَّ ذَلِكَ هَذَا الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ، فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ وَأَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهُ، إِنِّي كُنْتُ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ بِالشَّامِ عَامَ طَاعُونِ عَمَوَاسَ فَلَمَّا اشْتَعَلَ الْوَجَعُ وَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، كَتَبَ

إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ لِيَسْتَخْرِجَهُ مِنْهُ. أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَتْ لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ أُرِيدُ أَنْ أَشَافِهَكَ بِهَا، فَعَزَمْتُ عَلَيْكَ إِذَا نَظَرْتَ فِي كِتَابِي هَذَا أَنْ لَا تَضَعَهُ مِنْ يَدِكَ حَتَّى تُقْبِلَ إِلَيَّ. قَالَ: فَعَرَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْرِجَهُ مِنَ الْوَبَاءِ. فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ! ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ حَاجَتَكَ إِلَيَّ، وَإِنِّي فِي جُنْدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا أَجِدُ بِنَفْسَيْ رَغْبَةً عَنْهُمْ، فَلَسْتُ أُرِيدُ فِرَاقَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيَّ وَفِيهِمْ أَمْرَهُ وَقَضَاءَهُ، فَخَلِّنِي مِنْ عَزِيمَتِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَدَعْنِي فِي جُنْدِي. فَلَمَّا قَرَأَ عُمَرُ الْكِتَابَ بَكَى، فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَاتَ أَبُو عُبَيْدَةَ ؟ قَالَ: لَا، وَكَأَنْ قَدْ. قَالَ: ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ أَنْزَلْتَ النَّاسَ أَرْضًا غَمِقَةً، فَارْفَعْهُمْ إِلَى أَرْضٍ مُرْتَفِعَةٍ نَزِهَةٍ. قَالَ أَبُو مُوسَى: فَلَمَّا أَتَاهُ كِتَابُهُ دَعَانِي فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى، إِنَّ كِتَابَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ جَاءَنِي بِمَا تَرَى، فَاخْرُجْ فَارْتَدْ لِلنَّاسِ مَنْزِلًا حَتَّى أَتْبَعَكَ بِهِمْ، فَرَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي لِأَرْتَحِلَ، فَوَجَدْتُ صَاحِبَتِي قَدْ أُصِيبَتْ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ فِي أَهْلِي حَدَثٌ. فَقَالَ لَعَلَّ صَاحِبَتَكَ قَدْ أُصِيبَتْ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَأَمَرَ بِبَعِيرِهِ فَرُحِّلَ لَهُ، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي غَرْزِهِ طُعِنَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أُصِبْتُ. ثُمَّ سَارَ بِالنَّاسِ حَتَّى نَزَلَ الْجَابِيَةَ، وَرُفِعَ عَنِ النَّاسِ الْوَبَاءُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ

رَابَةَ - رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ، وَكَانَ قَدْ خَلَفَ عَلَى أُمِّهِ بَعْدَ أَبِيهِ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ طَاعُونَ عَمَوَاسَ - قَالَ: لَمَّا اشْتَغَلَ الْوَجَعُ، قَامَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةٌ بِكُمْ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَقْسِمَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ حَظَّهُ. فَطُعِنَ فَمَاتَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى النَّاسِ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، فَقَامَ خَطِيبًا بَعْدَهُ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةٌ بِكُمْ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ مُعَاذًا يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَقْسِمَ لِآلِ مُعَاذٍ حَقَّهُمْ. فَطُعِنَ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَمَاتَ، ثُمَّ قَامَ فَدَعَا لِنَفْسِهِ، فَطُعِنَ فِي رَاحَتِهِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا ثُمَّ يَقْلِبُ ظَهْرَ كَفِّهِ ثُمَّ يَقُولُ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِمَا فِيكِ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا. فَلَمَّا مَاتَ اسْتُخْلِفَ عَلَى النَّاسِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ إِذَا وَقَعَ فَإِنَّمَا يَشْتَعِلُ اشْتِعَالَ النَّارِ، فَتَحَصَّنُوا مِنْهُ فِي الْجِبَالِ. فَقَالَ أَبُو وَائِلَةَ الْهُذَلِيُّ: كَذَبْتَ، وَاللَّهِ لَقَدْ صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتَ شَرٌّ مِنْ حِمَارِي هَذَا. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرُدُّ عَلَيْكَ مَا تَقُولُ، وَايْمُ اللَّهِ لَا نُقِيمُ عَلَيْهِ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ وَخَرَجَ النَّاسُ فَتَفَرَّقُوا وَدَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْ رَأَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَوَاللَّهِ مَا كَرِهَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَلَمَّا انْتَهَى إِلَى عُمَرَ مُصَابُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، أَمَّرَ مُعَاوِيَةَ عَلَى جُنْدِ دِمَشْقَ وَخَرَاجِهَا، وَأَمَّرَ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ عَلَى

جُنْدِ الْأُرْدُنِّ وَخَرَاجِهَا.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ شُيُوخِهِ قَالُوا: لَمَّا كَانَ طَاعُونُ عَمَوَاسَ وَوَقَعَ مَرَّتَيْنِ لَمْ يُرَ مِثْلُهُمَا، وَطَالَ مُكْثُهُ، وَفَنِيَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى طَمِعَ الْعَدُوُّ، وَتَخَوَّفَتْ قُلُوبُ الْمُسْلِمِينَ لِذَلِكَ.
قُلْتُ: وَلِهَذَا قَدِمَ عُمَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الشَّامِ فَقَسَّمَ مَوَارِيثَ الَّذِينَ مَاتُوا لَمَّا أَشْكَلَ أَمْرُهَا عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَطَابَتْ قُلُوبُ النَّاسِ بِقُدُومِهِ، وَانْقَمَعَتِ الْأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِمَجِيئِهِ إِلَى الشَّامِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ: سَيْفٌ وَأَصَابَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ تِلْكَ السَّنَةِ طَاعُونٌ أَيْضًا، فَمَاتَ بَشَرٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. قَالُوا: وَخَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِهِ إِلَى الشَّامِ فَلَمْ يَرْجِعُ مِنْهُمْ إِلَّا أَرْبَعَةٌ، فَقَالَ الْمُهَاجِرُ بْنُ خَالِدٍ فِي ذَلِكَ:
مَنْ يَسْكُنِ الشَّامَ يُعَرَّسْ بِهِ وَالشَّامُ إِنْ لَمْ يُفْنِنَا كَارِبُ
أَفْنَى بَنِي رَيْطَةَ فُرْسَانُهُمْ عِشْرُونَ لَمْ يُقْصَصْ لَهُمْ شَارِبُ
وَمِنْ بَنِي أَعْمَامِهِمْ مِثْلَهُمْ لِمِثْلِ هَذَا يَعْجَبُ الْعَاجِبُ
طَعْنًا وَطَاعُونًا مَنَايَاهُمُ ذَلِكَ مَا خَطَّ لَنَا الْكَاتِبُ
وَقَالَ سَيْفٌ - بَعْدَ ذِكْرِهِ قُدُومَ عُمَرَ بَعْدَ طَاعُونِ عَمَوَاسَ فِي آخِرِ سَنَةِ سَبْعَ

عَشْرَةَ - قَالَ: فَلَمَّا أَرَادَ الْقُفُولَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، خَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا إِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَقَضَيْتُ الَّذِي عَلَيَّ فِي الَّذِي وَلَّانِي اللَّهُ مِنْ أَمْرِكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَبَسَطْنَا بَيْنَكُمْ فَيْأَكُمْ وَمَنَازِلَكُمْ وَمَغَازِيكُمْ، وَأَبْلَغْنَاكُمْ مَا لَدَيْنَا، فَجَنَّدْنَا لَكُمُ الْجُنُودَ، وَهَيَّأْنَا لَكُمُ الْفُرُوجَ، وَبَوَّأْنَا لَكُمْ، وَوَسَّعْنَا عَلَيْكُمْ مَا بَلَغَ فَيْئُكُمْ وَمَا قَاتَلْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ شَامِكُمْ، وَسَمَّيْنَا لَكُمْ أَطَعِمَاتِكُمْ، وَأَمَرْنَا لَكُمْ بِأُعْطِيَّاتِكُمْ وَأَرْزَاقِكُمْ وَمَغَانِمِكُمْ، فَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا يَنْبَغِي الْعَمَلُ بِهِ فَلْيُعْلِمْنَا نَعْمَلْ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. قَالَ: وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَقَالَ النَّاسُ: لَوْ أَمَرْتَ بِلَالًا فَأَذَّنَ ! فَأَمَرَهُ فَأَذَّنَ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ كَانَ أَدْرَكَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِلَالٌ يُؤَذِّنُ إِلَّا بَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، وَعُمَرُ أَشَدُّهُمْ بُكَاءً، وَبَكَى مَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ لِبُكَائِهِمْ وَلِذِكْرِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، مِنْ طَرِيقِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي الْمُجَالِدِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَعَثَ يُنْكِرُ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فِي دُخُولِهِ إِلَى الْحَمَّامِ، وَتَدُلِّكِهِ بَعْدَ النُّورَةِ بِعُصْفُرٍ مَعْجُونٍ بِخَمْرٍ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ظَاهِرَ الْخَمْرِ وَبَاطِنَهُ، كَمَا حَرَّمَ ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ، وَقَدْ حَرَّمَ مَسَّ الْخَمْرِ فَلَا تُمِسُّوهَا أَجْسَادَكُمْ فَإِنَّهَا نَجَسٌ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ فَلَا تَعُودُوا. فَكَتَبَ إِلَيْهِ خَالِدٌ: إِنَّا قَتَلْنَاهَا فَعَادَتْ غَسُولًا غَيْرَ خَمْرٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنِّي أَظُنُّ أَنَّ آلَ الْمُغِيرَةِ قَدِ ابْتُلُوا بِالْجَفَاءِ، فَلَا أَمَاتَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ. فَانْتَهَى لِذَلِكَ.

كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ فِيهَا عُزِلَ خَالِدٌ عَنْ قِنَّسْرِينَ أَيْضًا
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَدْرَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ، أَيْ سَلَكَا دَرْبَ الرُّومِ وَأَغَارَا عَلَيْهِمْ، فَغَنِمُوا أَمْوَالًا عَظِيمَةً وَسَبَيَا كَثِيرًا. ثُمَّ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَأَبِي حَارِثَةَ وَالرَّبِيعِ وَأَبِي الْمُجَالِدِ، قَالُوا: لَمَّا رَجَعَ خَالِدٌ وَمَعَهُ أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ مِنَ الصَّائِفَةِ، انْتَجَعَهُ النَّاسُ يَبْتَغُونَ رِفْدَهُ وَنَائِلَهُ، فَكَانَ مِمَّنْ دَخَلَ عَلَيْهِ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، فَأَجَازَهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ يَأْمُرُهُ أَنْ يُقِيمَ خَالِدًا، وَيَكْشِفَ عِمَامَتَهُ، وَيَنْزِعَ عَنْهُ قَلَنْسُوَتَهُ، وَيُقَيِّدَهُ بِعِمَامَتِهِ، وَيَسْأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْعَشْرَةِ آلَافٍ، إِنْ كَانَ أَجَازَهَا الْأَشْعَثَ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ سَرَفٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ الصَّائِفَةِ فَهِيَ خِيَانَةٌ، ثُمَّ اعْزِلْهُ عَنْ عَمَلِهِ. فَطَلَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ خَالِدًا، وَصَعِدَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْمِنْبَرَ، وَأُقِيمَ خَالِدٌ بَيْنَ يَدَيِ الْمِنْبَرِ، وَقَامَ إِلَيْهِ بِلَالٌ فَفَعَلَ بِهِ مَا أَمَرَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ هُوَ وَالْبَرِيدِيُّ الَّذِي قَدِمَ بِالْكِتَابِ. هَذَا وَأَبُو عُبَيْدَةَ سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ، ثُمَّ نَزَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَاعْتَذَرَ إِلَى خَالِدٍ مِمَّا كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ ; فَعَذَرَهُ خَالِدٌ، وَعَرَفَ أَنَّهُ لَا قَصْدَ لَهُ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ سَارَ خَالِدٌ إِلَى قِنَّسْرِينَ فَخَطَبَ أَهْلَ الْبَلَدِ وَوَدَّعَهُمْ، وَسَارَ بِأَهْلِهِ إِلَى حِمْصَ فَخَطَبَهُمْ أَيْضًا وَوَدَّعَهُمْ وَسَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمَّا دَخَلَ خَالِدٌ عَلَى عُمَرَ أَنْشَدَ عُمَرُ قَوْلَ الشَّاعِرِ

صَنَعْتَ فَلَمْ يَصْنَعْ كَصُنْعِكَ صَانِعُ وَمَا يَصْنَعُ الْأَقْوَامُ فَاللَّهُ صَانِعُ
ثُمَّ سَأَلَهُ: مَنْ أَيْنَ هَذَا الْيَسَارُ الَّذِي تُجِيزُ مِنْهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ ؟ فَقَالَ: مِنَ الْأَنْفَالِ وَالسُّهْمَانِ. قَالَ: فَمَا زَادَ عَلَى السِّتِّينَ أَلْفًا فَلَكَ. ثُمَّ قَوَّمَ أَمْوَالَهُ وَعُرُوضَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ عِشْرِينَ أَلْفًا، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ عَلَيَّ لَكَرِيمٌ، وَإِنَّكَ إِلَيَّ لَحَبِيبٌ، وَلَنْ تَعْمَلَ لِي بَعْدَ الْيَوْمِ عَلَى شَيْءٍ.
وَقَالَ سَيْفٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ سَهْلٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى الْأَمْصَارِ: إِنِّي لَمْ أَعْزِلْ خَالِدًا عَنْ سُخْطَةٍ وَلَا خِيَانَةٍ، وَلَكِنَّ النَّاسَ فُتِنُوا بِهِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الصَّانِعُ. ثُمَّ رَوَاهُ سَيْفٌ عَنْ مُبَشِّرٍ، عَنْ سَالِمٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ خَالِدٌ عَلَى عُمَرَ. فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اعْتَمَرَ عُمَرُ فِي رَجَبٍ مِنْهَا، وَعَمَّرَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَمَرَ بِتَجْدِيدِ أَنْصَابِ الْحَرَمِ، أَمَرَ بِذَلِكَ لِمَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَأَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ، وَحُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَسَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَدِمْنَا مَعَ عُمَرَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةٍ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، فَمَرَّ بِالطَّرِيقِ فَكَلَّمَهُ

أَهْلُ الْمِيَاهِ أَنْ يَبْنُوا مَنَازِلَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ - وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ بِنَاءٌ - فَأَذِنَ لَهُمْ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ أَحَقُّ بِالظِّلِّ وَالْمَاءِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا تَزَوَّجَ عُمَرُ بِأُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلَ بِهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " سِيرَةِ عُمَرَ " وَ " مُسْنَدِهِ " صِفَةَ تَزْوِيجِهِ بِهَا، وَأَنَّهُ أَمْهَرَهَا أَرْبَعِينَ الْفًا، وَقَالَ: إِنَّمَا تَزَوَّجْتُهَا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي
قَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى عُمَرُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ الْبَصْرَةَ وَأَمَرَهُ أَنْ يُشْخِصَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَشَهِدَ عَلَيْهِ - فِيمَا حَدَّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنِ الزَّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ - أَبُو بَكْرَةَ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ الْبَجَلِيُّ، وَنَافِعُ بْنُ كَلَدَةَ، وَزِيَادٌ. ثُمَّ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ وَسَيْفٌ هَذِهِ الْقِصَّةَ، وَمُلَخَّصُهَا أَنَّ امْرَأَةً كَانَ يُقَالُ لَهَا: أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ الْأَفْقَمِ، مِنْ نِسَاءِ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَيُقَالُ: مِنْ نِسَاءِ بَنِي هِلَالٍ. وَكَانَ زَوْجُهَا مِنْ ثَقِيفٍ قَدْ تُوُفِّيَ عَنْهَا، وَكَانَتْ تَغْشَى نِسَاءَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَشْرَافِ، وَكَانَتْ تَدْخُلُ عَلَى بَيْتِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَهُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ وَكَانَتْ دَارُ الْمُغِيرَةِ تُجَاهَ دَارِ أَبِي بَكْرَةَ وَكَانَ بَيْنَهُمَا الطَّرِيقُ، وَفِي

دَارِ أَبِي بَكْرَةَ كُوَّةٌ تُشْرِفُ عَلَى كُوَّةٍ فِي دَارِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ لَا يَزَالُ بَيْنَ الْمُغِيرَةِ وَبَيْنَ أَبِي بَكْرَةَ شَنَآنٌ، فَبَيْنَمَا أَبُو بَكْرَةَ فِي دَارِهِ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي الْعُلِّيَّةِ، إِذْ فَتَحَتِ الرِّيحُ بَابَ الْكُوَّةِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرَةَ لِيُغْلِقَهَا، فَإِذَا كُوَّةُ الْمُغِيرَةِ مَفْتُوحَةٌ، وَإِذَا هُوَ عَلَى صَدْرِ امْرَأَةٍ وَبَيْنَ رِجْلَيْهَا، وَهُوَ يُجَامِعُهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ لِأَصْحَابِهِ: تَعَالَوْا فَانْظُرُوا إِلَى أَمِيرِكُمْ يَزْنِي بِأُمِّ جَمِيلٍ. فَقَامُوا فَنَظَرُوا إِلَيْهِ وَهُوَ يُجَامِعُ تِلْكَ الْمَرْأَةَ، فَقَالُوا لِأَبِي بَكْرَةَ: وَمَنْ أَيْنَ قُلْتَ إِنَّهَا أُمُّ جَمِيلٍ ؟ وَكَانَ رَأْسَاهُمَا مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَقَالَ: انْتَظِرُوا. فَلَمَّا فَرَغَا قَامَتِ الْمَرْأَةُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: هَذِهِ أُمُّ جَمِيلٍ. فَعَرَفُوهَا فِيمَا يَظُنُّونَ، فَلَمَّا خَرَجَ الْمُغِيرَةُ - وَقَدِ اغْتَسَلَ - لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ مَنَعَهُ أَبُو بَكْرَةَ أَنْ يَتَقَدَّمَ. وَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَوَلَّى عُمَرُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ أَمِيرًا عَلَى الْبَصْرَةِ وَعَزَلَ الْمُغِيرَةَ، فَسَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَنَزَلَ بِالْمِرْبَدِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: وَاللَّهِ مَا جَاءَ أَبُو مُوسَى تَاجِرًا وَلَا زَائِرًا وَلَا جَاءَ إِلَّا أَمِيرًا. ثُمَّ قَدِمَ أَبُو مُوسَى عَلَى النَّاسِ، وَنَاوَلَ الْمُغِيرَةَ كِتَابًا مِنْ عُمَرَ، هُوَ أَوْجَزُ كِتَابٍ، فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي نَبَأٌ عَظِيمٌ، فَبَعَثْتُ أَبَا مُوسَى أَمِيرًا، فَسَلِّمْ مَا فِي يَدَيْكَ، وَالْعَجَلَ. وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ إِنِّي قَدْ وَلَّيْتُ عَلَيْكُمْ أَبَا مُوسَى لِيَأْخُذَ مِنْ قَوِيِّكُمْ لِضَعِيفِكُمْ، وَلِيُقَاتِلَ بِكُمْ عَدُوَّكُمْ، وَلِيَدْفَعَ عَنْ دِينِكُمْ، وَلِيَجْبِيَ لَكُمْ فَيْئَكُمْ، ثُمَّ يَقْسِمَهُ فِيكُمْ. وَأَهْدَى الْمُغِيرَةُ لِأَبِي مُوسَى جَارِيَةً مِنْ مُوَلَّدَاتِ الطَّائِفِ تُسَمَّى عَقِيلَةَ، وَقَالَ: إِنِّي رَضِيتُهَا لَكَ. وَكَانَتْ فَارِهَةً. وَارْتَحَلَ الْمُغِيرَةُ

وَالَّذِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ إِلَى عُمَرَ، وَهُمْ أَبُو بَكْرَةَ، وَنَافِعُ بْنُ كَلَدَةَ، وَزِيَادُ بْنُ أَبِيهِ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ الْبَجَلِيُّ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ جَمَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: سَلْ هَؤُلَاءِ الْأَعْبُدَ كَيْفَ رَأَوْنِي ; مُسْتَقْبِلَهُمْ أَوْ مُسْتَدْبِرَهُمْ ؟ وَكَيْفَ رَأَوُا الْمَرْأَةَ أَوْ عَرَفُوهَا ؟ فَإِنْ كَانُوا مُسْتَقْبِلِيَّ، فَكَيْفَ لَمْ يَسْتَتِرُوا ! أَوْ مُسْتَدْبِرِيَّ، فَكَيْفَ اسْتَحَلُّوا النَّظَرَ فِي مَنْزِلِي عَلَى امْرَأَتِي ! وَاللَّهِ مَا أَتَيْتُ إِلَّا امْرَأَتِي. وَكَانَتْ شَبَهَهَا. فَبَدَأَ عُمَرُ بِأَبِي بَكْرَةَ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَآهُ بَيْنَ رِجْلَيْ أُمِّ جَمِيلٍ، وَهُوَ يُدْخِلُهُ وَيُخْرِجُهُ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ. قَالَ: كَيْفَ رَأَيْتَهُمَا ؟ قَالَ: مُسْتَدْبِرَهُمَا. قَالَ: فَكَيْفَ اسْتَثْبَتَّ رَأْسَهَا ؟ قَالَ: تَحَامَلْتُ. ثُمَّ دَعَا شِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ فَشَهِدَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقَالَ: اسْتَقْبَلْتَهُمَا أَمِ اسْتَدْبَرْتَهُمَا ؟ قَالَ: اسْتَقْبَلْتُهُمَا. وَشَهِدَ نَافِعٌ بِمِثْلِ شَهَادَةِ أَبِي بَكْرَةَ، وَلَمْ يَشْهَدْ زِيَادٌ بِمِثْلِ شَهَادَتِهِمْ، قَالَ: رَأَيْتُهُ جَالِسًا بَيْنَ رِجْلَيِ امْرَأَةٍ، فَرَأَيْتُ قَدَمَيْنِ مَخْضُوبَتَيْنِ يَخْفِقَانِ، وَاسْتَيْنِ مَكْشُوفَتَيْنِ، وَسَمِعْتُ حَفَزَانًا شَدِيدًا. قَالَ: هَلْ رَأَيْتَ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ الْمَرْأَةَ ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أُشَبِّهُهَا. قَالَ: فَتَنَحَّ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَبَّرَ عِنْدَ ذَلِكَ ثُمَّ أَمَرَ بِالثَّلَاثَةِ فَجُلِدُوا الْحَدَّ، وَهُوَ يَقْرَأُ قَوْلَهُ تَعَالَى:

فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [ النُّورِ: 13 ]. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: اشْفِنِي مِنَ الْأَعْبُدِ. قَالَ: اسْكُتْ أَسْكَتَ اللَّهُ نَأْمَتَكَ، وَاللَّهِ لَوْ تَمَّتِ الشَّهَادَةُ لَرَجَمْتُكَ بِأَحْجَارِكَ.

فَتْحُ الْأَهْوَازِ وَمَنَاذِرَ وَنَهْرِ تِيرَى
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ. ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ سَيْفٍ عَنْ شُيُوخِهِ أَنَّ الْهُرْمُزَانَ كَانَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى هَذِهِ الْأَقَالِيمِ. وَكَانَ مِمَّنْ فَرَّ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ مِنَ الْفُرْسِ، فَجَهَّزَ أَبُو مُوسَى مِنَ الْبَصْرَةِ وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ مِنَ الْكُوفَةِ جَيْشَيْنِ لِقِتَالِهِ، فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا مِنْهُ مَا بَيْنَ دِجْلَةَ إِلَى دُجَيْلٍ وَغَنِمُوا مِنْ جَيْشِهِ مَا أَرَادُوا، وَقَتَلُوا مَنْ أَرَادُوا، ثُمَّ صَانَعَهُمْ وَطَلَبَ مُصَالَحَتَهُمْ عَنْ بَقِيَّةِ بِلَادِهِ، فَشَاوَرَا فِي ذَلِكَ عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ فَصَالَحَهُ، وَبَعَثَ بِالْأَخْمَاسِ وَالْبِشَارَةِ إِلَى عُمَرَ، وَبَعَثَ وَفْدًا فِيهِمُ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، فَأُعْجِبَ عُمَرُ بِهِ، وَحَظِيَ عِنْدَهُ، وَكَتَبَ إِلَى عُتْبَةَ يُوصِيهِ بِهِ، وَيَأْمُرُهُ بِمُشَاوَرَتِهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِرَأْيِهِ. ثُمَّ نَقَضَ الْهُرْمُزَانُ الْعَهْدَ وَالصُّلْحَ، وَاسْتَعَانَ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْأَكْرَادِ، وَغَرَّتْهُ نَفْسُهُ، وَحَسَّنَ لَهُ الشَّيْطَانُ عَمَلَهُ فِي ذَلِكَ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَنُصِرُوا عَلَيْهِ، وَقَتَلُوا مِنْ جَيْشِهِ جَمًّا غَفِيرًا، وَخَلْقًا كَثِيرًا، وَاسْتَلَبُوا مِنْهُ مَا بِيَدِهِ

مِنَ الْأَقَالِيمِ وَالْبُلْدَانِ إِلَى تُسْتَرَ فَتَحَصَّنَ بِهَا، وَبَعَثُوا إِلَى عُمَرَ بِذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ الْأُسُودُ بْنُ سَرِيعٍ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ صَحَابِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
لَعَمْرُكَ مَا أَضَاعَ بَنُو أَبِينَا وَلَكِنْ حَافَظُوا فِي مَنْ يُطِيعُ أَطَاعُوا رَبَّهُمْ وَعَصَاهُ قَوْمٌ أَضَاعُوا
أَمْرَهُ فِي مَنْ يُضِيعُ مَجُوسٌ لَا يُنَهْنِهُهَا كِتَابٌ فَلَاقَوْا
كَبَّةً فِيهَا قُبُوعُ وَوَلَّى الْهُرْمُزَانُ عَلَى جَوَادٍ
سَرِيعِ الشَّدِّ يَثْفِنُهُ الْجَمِيعُ وَخَلَّى سُرَّةَ الْأَهْوَازِ كَرْهًا
غَدَاةَ الْجِسْرِ إِذْ نَجَمَ الرَّبِيعُ
وَقَالَ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ السَّعْدِيُّ، وَكَانَ صَحَابِيًّا أَيْضًا:
غَلَبْنَا الْهُرْمُزَانَ عَلَى بِلَادٍ لَهَا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ ذَخَائِرْ
سَوَاءٌ بَرُّهُمْ وَالْبَحْرُ فِيهَا إِذَا صَارَتْ نَوَاحِيهَا بَوَاكِرْ
لَهَا بَحْرٌ يَعُجُّ بِجَانِبَيْهِ جَعَافِرُ لَا يَزَالُ لَهَا زَوَاخِرْ

فَتْحُ تُسْتَرَ، الْمَرَّةُ الْأُولَى صُلْحًا
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ كَانَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي قَوْلِ سَيْفٍ وَرِوَايَتِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنْ فَتْحِهَا. ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو، قَالُوا: لَمَّا افْتَتَحَ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ سُوقَ الْأَهْوَازِ وَفَرَّ الْهُرْمُزَانُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَبَعَثَ فِي إِثْرِهِ جَزْءَ بْنَ مُعَاوِيَةَ - وَذَلِكَ عَنْ كِتَابِ عُمَرَ بِذَلِكَ - فَمَا زَالَ جَزْءٌ يَتْبَعُهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى رَامَهُرْمُزَ فَتَحَصَّنَ الْهُرْمُزَانُ فِي بِلَادِهَا، وَأَعْجَزَ جَزْءًا تَطَلُّبُهُ، وَاسْتَحْوَذَ جَزْءٌ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ وَالْأَرَاضِي، فَضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِهَا، وَعَمَّرَ عَامِرَهَا، وَشَقَّ الْأَنْهَارَ إِلَى خَرَابِهَا وَمَوَاتِهَا، فَصَارَتْ فِي غَايَةِ الْعِمَارَةِ وَالْجَوْدَةِ. وَلَمَّا رَأَى الْهُرْمُزَانُ ضِيقَ بِلَادِهِ عَلَيْهِ بِمُجَاوَرَةِ الْمُسْلِمِينَ، طَلَبَ مِنْ جَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْمُصَالَحَةَ، فَكَتَبَ إِلَى حُرْقُوصٍ، فَكَتَبَ حُرْقُوصٌ إِلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، وَكَتَبَ عُتْبَةُ إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ. فَجَاءَ الْكِتَابُ الْعُمَرِيُّ بِالْمُصَالَحَةِ عَلَى رَامَهُرْمُزَ وَتُسْتَرَ وَجُنْدَيْسَابُورَ، وَمَدَائِنَ أُخَرَ مَعَ ذَلِكَ. فَوَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا أَمَرَ بِهِ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

ذِكْرُ غَزْوِ بِلَادِ فَارِسَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَحْرَيْنِ وَذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَيْفٍ
وَذَلِكَ أَنَّ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ كَانَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ فِي أَيَّامِ الصِّدِّيقِ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ عَزَلَهُ عَنْهَا وَوَلَّاهَا لِقُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ، ثُمَّ أَعَادَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إِلَيْهَا، وَكَانَ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ يُبَارِي سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، فَلَمَّا افْتَتَحَ سَعْدٌ الْقَادِسِيَّةَ وَأَزَاحَ كِسْرَى عَنْ دَارِهِ، وَأَخَذَ حُدُودَ مَا يَلِي السَّوَادَ وَاسْتَعْلَى، وَجَاءَ بِأَعْظَمَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْعَلَاءُ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَحْرَيْنِ فَأَحَبَّ الْعَلَاءُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا فِي فَارِسَ نَظِيرَ مَا فَعَلَهُ سَعْدٌ فِيهِمْ، فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى حَرْبِهِمْ؛ فَاسْتَجَابَ لَهُ أَهْلُ بِلَادِهِ، فَجَزَّأَهُمْ أَجْزَاءً، فَعَلَى فِرْقَةٍ الْجَارُودُ بْنُ الْمُعَلَّى، وَعَلَى الْأُخْرَى السَّوَّارُ بْنُ هَمَّامٍ، وَعَلَى الْأُخْرَى خُلَيْدُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى، وَخُلَيْدٌ هُوَ أَمِيرُ الْجَمَاعَةِ. فَحَمَلَهُمْ فِي الْبَحْرِ إِلَى فَارِسَ وَذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِ عُمَرَ لَهُ فِي ذَلِكَ - وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَبَا بَكْرٍ أَغْزَيَا فِيهِ الْمُسْلِمِينَ - فَعَبَرَتْ

تِلْكَ الْجُنُودُ مِنَ الْبَحْرَيْنِ إِلَى فَارِسَ فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِ إِصْطَخْرَ، فَحَالَتْ فَارِسُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سُفُنِهِمْ، فَقَامَ فِي النَّاسِ خُلَيْدُ بْنُ الْمُنْذِرِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ بِصَنِيعِهِمْ هَذَا مُحَارَبَتَكُمْ، وَأَنْتُمْ إِنَّمَا جِئْتُمْ لِمُحَارَبَتِهِمْ، فَاسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَقَاتِلُوهُمْ، فَإِنَّمَا الْأَرْضُ وَالسُّفُنُ لِمَنْ غَلَبَ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [ الْبَقَرَةِ: 45 ]. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ فَصَلُّوا الظُّهْرَ ثُمَّ نَاهَدُوهُمْ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فِي مَكَانٍ مِنَ الْأَرْضِ يُدْعَى طَاوُسَ، ثُمَّ أَمَرَ خُلَيْدٌ الْمُسْلِمِينَ فَتَرَجَّلُوا، وَقَاتَلُوا فَصَبَرُوا، ثُمَّ ظَفِرُوا، فَقَتَلُوا فَارِسَ مَقْتَلَةً لَمْ يُقْتَلُوا قَبْلَهَا مِثْلَهَا، ثُمَّ خَرَجُوا يُرِيدُونَ الْبَصْرَةَ فَغَرِقَتْ بِهِمْ سُفُنُهُمْ، وَلَمْ يَجِدُوا إِلَى الرُّجُوعِ فِي الْبَحْرِ سَبِيلًا، وَوَجَدُوا شَهْرَكَ فِي أَهْلِ إِصْطَخْرَ قَدْ أَخَذُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالطُّرُقِ، فَعَسْكَرُوا وَامْتَنَعُوا مِنَ الْعَدُوِّ. وَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ صُنْعُ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، اشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَعَزَلَهُ وَتَوَعَّدَهُ، وَأَمَرَهُ بِأَثْقَلِ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِ، وَأَبْغَضِ الْوُجُوهِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: الْحَقْ بِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي مَنْ قِبَلَكَ، فَخَرَجَ الْعَلَاءُ إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مُضَافًا إِلَيْهِ، وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ: إِنَّ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ خَرَجَ بِجَيْشٍ فَأَقْطَعَهُمْ أَهْلُ فَارِسَ، وَعَصَانِي، وَأَظُنُّهُ لَمْ يُرِدِ اللَّهَ بِذَلِكَ، فَخَشِيتُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُنْصَرُوا، أَنْ يُغْلَبُوا وَيُنْشَبُوا، فَانْدُبْ إِلَيْهِمُ النَّاسَ، وَاضْمُمْهُمْ إِلَيْكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُجْتَاحُوا. فَنَدَبَ عُتْبَةُ الْمُسْلِمِينَ

وَأَخْبَرَهُمْ بِكِتَابِ عُمَرَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَانْتَدَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْأَبْطَالِ، مِنْهُمْ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَرْفَجَةُ بْنُ هَرْثَمَةُ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَالْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، وَغَيْرُهُمْ، فِي اثْنَيْ عَشَرَ الْفًا، وَعَلَى الْجَمِيعِ أَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ. فَخَرَجُوا عَلَى الْبِغَالِ يَجْنُبُونَ الْخَيْلَ سِرَاعًا، فَسَارُوا عَلَى السَّاحِلِ لَا يَلْقَوْنَ أَحَدًا، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى مَوْضِعِ الْوَقْعَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَلَاءِ وَبَيْنَ أَهْلِ فَارِسَ بِالْمَكَانِ الْمُسَمَّى بِطَاوُسَ، وَإِذَا خُلَيْدُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَحْصُورُونَ، قَدْ أَحَاطَ بِهِمُ الْعَدُوُّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَقَدْ تَدَاعَتْ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَدْ تَكَامَلَتْ أَمْدَادُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقِتَالُ، فَقَدِمَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ فِي أَحْوَجِ مَا هُمْ فِيهِ إِلَيْهِمْ، فَالْتَقَوْا مَعَ الْمُشْرِكِينَ رَأْسًا، فَكَسَرَ أَبُو سَبْرَةَ الْمُشْرِكِينَ كَسْرَةً عَظِيمَةً، وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَأَخَذَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً بَاهِرَةً، وَاسْتَنْقَذَ خُلَيْدًا وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَأَعَزَّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَدَمَغَ الشِّرْكَ وَذَلَّهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ إِلَى الْبَصْرَةِ.
وَلَمَّا اسْتَكْمَلَ عُتْبَةُ فَتْحَ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، اسْتَأْذَنَ عُمَرَ فِي الْحَجِّ فَأَذِنَ لَهُ، فَسَارَ

إِلَى الْحَجِّ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْبَصْرَةِ أَبَا سَبْرَةَ بْنَ أَبِي رُهْمٍ، وَاجْتَمَعَ بِعُمَرَ فِي الْمَوْسِمِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُقِيلَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَقْسَمَ عَلَيْهِ عُمَرُ لَيَرْجِعَنَّ إِلَى عَمَلِهِ. فَدَعَا عُتْبَةُ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ فَمَاتَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، وَهُوَ مُنْصَرِفٌ مِنَ الْحَجِّ، فَتَأَسَّفَ عَلَيْهِ عُمَرُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا، وَوَلَّى بَعْدَهُ بِالْبَصْرَةِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، فَوَلِيَهَا بَقِيَّةَ تِلْكَ السَّنَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا، لَمْ يَقَعْ فِي زَمَانِهِ حَدَثٌ، وَكَانَ مَرْزُوقَ السَّلَامَةِ فِي عَمَلِهِ. ثُمَّ وَقَعَ الْكَلَامُ فِي تِلْكَ الْمَرْأَةِ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ، فَكَانَ أَمْرُهُ مَا قَدَّمْنَا. ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهَا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ وَالِيًا عَلَيْهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

ذِكْرُ فَتْحِ تُسْتَرَ ثَانِيَةً عَنْوَةً وَالسُّوسِ وَرَامَهُرْمُزَ وَأَسْرِ الْهُرْمُزَانِ وَبَعْثِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ كَانَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رِوَايَةِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ التَّمِيمِيِّ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ يَزْدَجِرْدَ كَانَ يُحَرِّضُ أَهْلَ فَارِسَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَيُؤَنِّبُهُمْ بِمَلْكِ الْعَرَبِ بِلَادَهُمْ وَقَصْدِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي حُصُونِهِمْ، فَكَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْأَهْوَازِ وَأَهْلِ فَارِسَ ; فَتَحَرَّكُوا وَتَعَاهَدُوا وَتَعَاقَدُوا عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَقْصِدُوا الْبَصْرَةَ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى عُمَرَ؛ فَكَتَبَ إِلَى سَعْدٍ وَهُوَ بِالْكُوفَةِ: أَنِ ابْعَثْ جُنْدًا كَثِيفًا إِلَى

الْأَهْوَازِ مَعَ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ، وَعَجِّلْ، وَلْيَكُونُوا بِإِزَاءِ الْهُرْمُزَانِ وَسَمَّى رِجَالًا مِنَ الشُّجْعَانِ الْأَعْيَانِ الْأُمَرَاءِ، يَكُونُونَ فِي هَذَا الْجَيْشِ؛ مِنْهُمْ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحِمْيَرِيُّ، وَسُوَيْدُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذِي السَّهْمَيْنِ. وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ: أَنِ ابْعَثْ إِلَى الْأَهْوَازِ جُنْدًا كَثِيفًا، وَأَمِّرْ عَلَيْهِمْ سُهَيْلَ بْنَ عَدِيٍّ، وَلْيَكُنْ مَعَهُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَجْزَأَةُ بْنُ ثَوْرٍ، وَكَعْبُ بْنُ سُورٍ، وَعَرْفَجَةُ بْنُ هَرْثَمَةَ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَلْيَكُنْ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ جَمِيعًا أَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ، وَعَلَى كُلِّ مَنْ أَتَاهُ مِنَ الْمَدَدِ.
قَالُوا: فَسَارَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ بِجَيْشِ الْكُوفَةِ فَسَبَقَ الْبَصْرِيِّينَ، فَانْتَهَى إِلَى رَامَهُرْمُزَ وَبِهَا الْهُرْمُزَانُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْهُرْمُزَانُ فِي جُنْدِهِ، وَنَقَضَ الْعَهْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَبَادَرَهُ طَمَعًا أَنْ يَقْتَطِعَهُ قَبْلَ مَجِيءِ أَصْحَابِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ رَجَاءَ أَنْ يَنْصُرَ أَهْلَ فَارِسَ فَالْتَقَى مَعَهُ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ بِأَرْبُكَ، فَاقْتَتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا، فَهُزِمَ الْهُرْمُزَانُ وَفَرَّ إِلَى تَسْتُرَ وَتَرَكَ رَامَهُرْمُزَ فَتَسَلَّمَهَا النُّعْمَانُ عَنْوَةً وَأَخَذَ مَا فِيهَا

مِنَ الْحَوَاصِلِ وَالذَّخَائِرِ وَالسِّلَاحِ وَالْعُدَدِ.
وَلَمَّا وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِمَا صَنَعَ الْكُوفِيُّونَ بِالْهُرْمُزَانِ، وَأَنَّهُ قَدْ فَرَّ فَلَجَأَ إِلَى تَسْتُرَ سَارُوا إِلَيْهَا، وَلَحِقَهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ حَتَّى أَحَاطُوا بِهَا فَحَاصَرُوهَا جَمِيعًا، وَعَلَى الْجَمِيعِ أَبُو سَبْرَةَ، فَوَجَدُوا الْهُرْمُزَانَ قَدْ حَشَدَ بِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَجَمًّا غَفِيرًا. وَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ وَسَأَلُوهُ أَنْ يُمِدَّهُمْ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِمْ؛ فَسَارَ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ أَمِيرَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَاسْتَمَرَّ أَبُو سَبْرَةَ عَلَى الْإِمْرَةِ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، فَحَاصَرَهُمْ أَشْهُرًا، وَكَثُرَ الْقَتْلُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَقَتَلَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ أَخُو أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَوْمَئِذٍ مِائَةً مُبَارَزَةً سِوَى مَنْ قَتَلَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ كَعْبُ بْنُ سُورٍ، وَمَجْزَأَةُ بْنُ ثَوْرٍ، وَأَبُو تَمِيمَةَ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ قَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِائَةً مُبَارَزَةً، كَحَبِيبِ بْنِ قُرَّةَ، وَرِبْعِيِّ بْنِ عَامِرٍ، وَعَامِرِ بْنِ عَبْدِ الْأَسْوَدِ، وَقَدْ تَزَاحَفُوا أَيَّامًا مُتَعَدِّدَةً، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ زَحْفٍ، قَالَ الْمُسْلِمُونَ لِلْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ - وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ -: يَا بَرَاءُ، أَقْسِمْ عَلَى رَبِّكَ لَيَهْزِمَنَّهُمْ لَنَا. فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ لَنَا، وَاسْتَشْهِدْنِي. قَالَ: فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ خَنَادِقَهُمْ وَاقْتَحَمُوهَا عَلَيْهِمْ، وَلَجَأَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى الْبَلَدِ فَتَحَصَّنُوا بِهِ، وَقَدْ ضَاقَتْ

بِهِمُ الْبَلَدُ، وَطَلَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ الْأَمَانَ مِنْ أَبِي مُوسَى فَأَمَّنَهُ، فَبَعَثَ يَدُلُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَكَانٍ يَدْخُلُونَ مِنْهُ إِلَى الْبَلَدِ، وَهُوَ مِنْ مَدْخَلِ الْمَاءِ إِلَيْهَا، فَنَدَبَ الْأُمَرَاءُ النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ، فَانْتَدَبَ لِذَلِكَ رِجَالٌ مِنَ الشُّجْعَانِ وَالْأَبْطَالِ، وَجَاءُوا فَدَخَلُوا مَعَ الْمَاءِ - كَالْبَطِّ - إِلَى الْبَلَدِ، وَذَلِكَ فِي اللَّيْلِ، فَيُقَالُ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيُّ، وَجَاءُوا إِلَى الْبَوَّابِينَ فَأَنَامُوهُمْ وَفَتَحُوا الْأَبْوَابَ، وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ فَدَخَلُوا الْبَلَدَ، وَذَلِكَ فِي وَقْتِ الْفَجْرِ إِلَى أَنْ تَعَالَى النَّهَارُ، وَلَمْ يُصَلُّوا الصُّبْحَ يَوْمَئِذٍ إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، كَمَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: شَهِدْتُ فَتْحَ تُسْتَرَ وَذَلِكَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ، فَاشْتَغَلَ النَّاسُ بِالْفَتْحِ، فَمَا صَلَّوُا الصُّبْحَ إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِتِلْكَ الصَّلَاةِ حُمْرَ النَّعَمِ. احْتَجَّ بِذَلِكَ الْبُخَارِيُّ لِمَكْحُولٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ فِي ذَهَابِهِمَا إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ لِعُذْرِ الْقِتَالِ. وَجَنَحَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ، وَاسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ الْخَنْدَقِ فِي قَوْلِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا وَبِقَوْلِهِ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ: لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي

قُرَيْظَةَ فَأَخَّرَهَا فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى بَعْدِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْهُرْمُزَانَ لَمَّا فُتِحَ الْبَلَدُ لَجَأَ إِلَى الْقَلْعَةِ فَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَبْطَالِ مِمَّنْ ذَكَرْنَا وَغَيْرُهُمْ، فَلَمَّا حَصَرُوهُ فِي مَكَانٍ مِنَ الْقَلْعَةِ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا تَلَفُهُ أَوْ تَلَفُهُمْ، قَالَ لَهُمْ بَعْدَ مَا قَتَلَ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ وَمَجْزَأَةَ بْنَ ثَوْرٍ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إِنَّ مَعِيَ جَعْبَةً فِيهَا مِائَةُ سَهْمٍ، وَإِنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ إِلَيَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا رَمَيْتُهُ بِسَهْمٍ فَقَتَلْتُهُ، وَلَا يَسْقُطُ لِي سَهْمٌ إِلَّا فِي رَجُلٍ مِنْكُمْ، فَمَاذَا يَنْفَعُكُمْ إِنْ أَسَرْتُمُونِي بَعْدَمَا قَتَلْتُ مِنْكُمْ مِائَةَ رَجُلٍ ؟ قَالُوا: فَمَاذَا تُرِيدُ ؟ قَالَ: تُؤَمِّنُونِي حَتَّى أُسَلِّمَكُمْ يَدِي فَتَذْهَبُوا بِي إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَيَحْكُمَ فِيَّ بِمَا يَشَاءُ. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَلْقَى قَوْسَهُ وَنُشَّابَهُ وَأَسَرُوهُ، فَشُدُّوهُ وِثَاقًا وَأَرْصَدُوهُ لِيَبْعَثُوهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ، ثُمَّ تَسَلَّمُوا مَا فِي الْبَلَدِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ، فَاقْتَسَمُوا أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ، فَنَالَ كُلُّ فَارِسٍ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَكُلُّ رَاجِلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ.

فَتْحُ السُّوسِ
ثُمَّ رَكِبَ أَبُو سَبْرَةَ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ وَمَعَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَالنُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَاسْتَصْحَبُوا مَعَهُمُ الْهُرْمُزَانَ، وَسَارُوا فِي طَلَبِ الْمُنْهَزِمِينَ مِنَ الْفُرْسِ

حَتَّى نَزَلُوا عَلَى السُّوسِ فَأَحَاطُوا بِهَا. وَكَتَبَ أَبُو سَبْرَةَ إِلَى عُمَرَ فَجَاءَ الْكِتَابُ بِأَنْ يَرْجِعَ أَبُو مُوسَى إِلَى الْبَصْرَةِ وَأَمَّرَ عُمَرُ زِرَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كُلَيْبٍ الْفُقَيْمِيَّ - وَهُوَ صَحَابِيٌّ - أَنْ يَسِيرَ إِلَى جُنْدَيْسَابُورَ، فَسَارَ، ثُمَّ بَعَثَ أَبُو سَبْرَةَ بِالْخُمْسِ وَبِالْهُرْمُزَانِ مَعَ وَفْدٍ فِيهِمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَالْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنَ الْمَدِينَةِ هَيَّئُوا الْهُرْمُزَانَ بِلُبْسِهِ الَّذِي كَانَ يَلْبَسُهُ مِنَ الدِّيبَاجِ وَالذَّهَبِ الْمُكَلَّلِ بِالْيَاقُوتِ وَاللَّآلِئِ، ثُمَّ دَخَلُوا الْمَدِينَةَ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَتَيَمَّمُوا بِهِ مَنْزِلَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَسَأَلُوا عَنْهُ فَقَالُوا: إِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْمَسْجِدِ بِسَبَبِ وَفْدٍ مِنَ الْكُوفَةِ. فَجَاءُوا الْمَسْجِدَ فَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا فَرَجَعُوا، فَإِذَا غِلْمَانٌ يَلْعَبُونَ فَسَأَلُوهُمْ عَنْهُ، فَقَالُوا: إِنَّهُ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ مُتَوَسِّدًا بُرْنُسًا لَهُ. فَرَجَعُوا إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْنُسًا لَهُ كَانَ قَدْ لَبِسَهُ لِلْوَفْدِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا عَنْهُ تَوَسَّدَ الْبُرْنُسَ وَنَامَ وَلَيْسَ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرُهُ، وَالدِّرَّةُ مُعَلَّقَةٌ فِي يَدِهِ. فَقَالَ الْهُرْمُزَانُ أَيْنَ عُمَرُ ؟ فَقَالُوا: هُوَ ذَا. وَجَعَلَ النَّاسُ يَخْفِضُونَ أَصْوَاتَهُمْ لِئَلَّا يُنَبِّهُوهُ، وَجَعَلَ الْهُرْمُزَانُ يَقُولُ: وَأَيْنَ حُجَّابُهُ، أَيْنَ حَرَسُهُ ؟ فَقَالُوا: لَيْسَ لَهُ حُجَّابٌ وَلَا حَرَسٌ، وَلَا كَاتِبٌ وَلَا دِيوَانٌ. فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا. فَقَالُوا: بَلْ يَعْمَلُ عَمَلَ الْأَنْبِيَاءِ. وَكَبَّرَ النَّاسُ، فَاسْتَيْقَظَ عُمَرُ بِالْجَلَبَةِ فَاسْتَوَى جَالِسًا، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْهُرْمُزَانِ، فَقَالَ: الْهُرْمُزَانُ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَتَأَمَّلَهُ وَتَأَمَّلَ مَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ، وَأَسْتَعِينُ بِاللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذَلَّ بِالْإِسْلَامِ هَذَا وَأَشْيَاعَهُ، يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ تَمَسَّكُوا بِهَذَا الدِّينِ، وَاهْتَدَوْا بِهَدْيِ نَبِيِّكُمْ، وَلَا تُبْطِرَنَّكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا غَرَّارَةٌ. فَقَالَ لَهُ الْوَفْدُ:

هَذَا مَلِكُ الْأَهْوَازِ فَكَلِّمْهُ. فَقَالَ: لَا؛ حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَيْهِ مِنْ حِلْيَتِهِ شَيْءٌ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَأَلْبَسُوهُ ثَوْبًا صَفِيقًا، فَقَالَ عُمَرُ: هَيَّ يَا هُرْمُزَانُ ! كَيْفَ رَأَيْتَ وَبَالَ الْغَدْرِ وَعَاقِبَةَ أَمْرِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ: يَا عُمَرُ، إِنَّا وَإِيَّاكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ اللَّهُ قَدْ خَلَّى بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فَغَلَبْنَاكُمْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا وَلَا مَعَكُمْ، فَلَمَّا كَانَ مَعَكُمْ غَلَبْتُمُونَا. فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّمَا غَلَبْتُمُونَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِاجْتِمَاعِكُمْ وَتَفَرُّقِنَا. ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: مَا عُذْرُكَ وَمَا حُجَّتُكَ فِي انْتِقَاضِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ؟ فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ تَقْتُلَنِي قَبْلَ أَنْ أُخْبِرَكَ. قَالَ: لَا تَخَفْ ذَلِكَ. وَاسْتَسْقَى الْهُرْمُزَانُ مَاءً، فَأُتِيَ بِهِ فِي قَدَحٍ غَلِيظٍ، فَقَالَ: لَوْ مُتُّ عَطَشًا لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَشْرَبَ فِي هَذَا. فَأُتِيَ بِهِ فِي قَدَحٍ آخَرَ يَرْضَاهُ، فَلَمَّا أَخَذَهُ جَعَلَتْ يَدُهُ تَرْعَدُ، وَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ أُقْتَلَ وَأَنَا أَشْرَبُ. فَقَالَ عُمَرُ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ حَتَّى تَشْرَبَهُ. فَأَكْفَأَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَعِيدُوهُ عَلَيْهِ، وَلَا تَجْمَعُوا عَلَيْهِ الْقَتْلَ وَالْعَطَشَ. فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي الْمَاءِ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَأْنِسَ بِهِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنِّي قَاتِلُكَ. فَقَالَ: إِنَّكَ أَمَّنْتَنِي. قَالَ: كَذَبْتَ. فَقَالَ أَنَسٌ: صَدَقَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ عُمَرُ: وَيْحَكَ يَا أَنَسُ، أَنَا أُؤَمِّنُ قَاتِلَ مَجْزَأَةَ وَالْبَرَاءِ لَتَأْتِيَنِّي بِمَخْرَجٍ أَوْ لَأُعَاقِبَنَّكَ. قَالَ: قُلْتَ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ حَتَّى تُخْبِرَنِي. وَقُلْتَ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ حَتَّى تَشْرَبَهُ. وَقَالَ لَهُ مَنْ حَوْلَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. فَأَقْبَلَ عَلَى الْهُرْمُزَانِ،

فَقَالَ: خَدَعْتَنِي، وَاللَّهِ لَا أَنْخَدِعُ إِلَّا أَنْ تُسْلِمَ، فَأَسْلَمَ، فَفَرَضَ لَهُ فِي أَلْفَيْنِ وَأَنْزَلَهُ الْمَدِينَةَ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ التَّرْجُمَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَبَيْنَ الْهُرْمُزَانِ كَانَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: قُلْ لَهُ: مِنْ أَيِّ أَرْضٍ أَنْتَ ؟ فَقَالَ: مِهْرِجَانِيٌّ. قَالَ: تَكَلَّمْ بِحُجَّتِكَ. فَقَالَ: أَكَلَامُ حَيٍّ أَمْ مَيِّتٍ ؟ قَالَ: بَلْ كَلَامُ حَيٍّ. فَقَالَ: قَدْ أَمَّنْتَنِي. فَقَالَ: خَدَعْتَنِي وَلَا أَقْبَلُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ تُسْلِمَ. فَأَسْلَمَ فَفَرَضَ لَهُ أَلْفَيْنِ وَأَنْزَلَهُ الْمَدِينَةَ. ثُمَّ جَاءَ زَيْدٌ فَتَرْجَمَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا.
قُلْتُ: وَقَدْ حَسُنَ إِسْلَامُ الْهُرْمُزَانِ، وَكَانَ لَا يُفَارِقُ عُمَرَ حَتَّى قُتِلَ عُمَرُ، فَاتَّهَمَهُ بَعْضُ النَّاسِ بِمُمَالَأَةِ أَبِي لُؤْلُؤَةَ هُوَ وَجُفَيْنَةُ، فَقَتَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْهُرْمُزَانَ وَجُفَيْنَةَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ الْهُرْمُزَانَ لَمَّا عَلَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بِالسَّيْفِ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَمَّا جُفَيْنَةُ فَصَلَّبَ عَلَى وَجْهِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَحْجُرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَوَسَّعُوا فِي بِلَادِ الْعَجَمِ؛ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَجَمِ، حَتَّى أَشَارَ عَلَيْهِ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي تَوَسُّعَهُمْ فِي الْفُتُوحَاتِ، فَإِنَّ الْمَلِكَ يَزْدَجِرْدَ لَا يَزَالُ يَسْتَحِثُّهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ لَمْ يُسْتَأْصَلْ سَاقُ الْعَجَمِ وَإِلَّا طَمِعُوا فِي الْإِسْلَامِ

وَأَهْلِهِ، فَاسْتَحْسَنَ عُمَرُ ذَلِكَ مِنْهُ وَصَوَّبَهُ، وَأَذِنَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي التَّوَسُّعِ فِي بِلَادِ الْعَجَمِ، فَفَتَحُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَأَكْثَرُ ذَلِكَ وَقَعَ فِي سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِيهَا.
ثُمَّ نَعُودُ إِلَى فَتْحِ السُّوسِ وَجُنْدَيْسَابُورَ وَفَتْحِ نَهَاوَنْدَ فِي قَوْلِ سَيْفٍ، كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَبَا سَبْرَةَ سَارَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ عِلْيَةِ الْأُمَرَاءِ مِنْ تُسْتَرَ إِلَى السُّوسِ فَنَازَلَهَا حِينًا، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ أَهْلِهَا فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، لَا تَتْعَبُوا فِي حِصَارِ هَذَا الْبَلَدِ فَإِنَّا نَأْثُرُ فِيمَا نَرْوِيهِ عَنْ قُدَمَائِنَا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ أَنَّهُ لَا يَفْتَحُهُ إِلَّا الدَّجَّالُ أَوْ قَوْمٌ مَعَهُمُ الدَّجَّالُ. وَاتَّفَقَ أَنَّهُ كَانَ فِي جَيْشِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ صَافُ بْنُ صَيَّادٍ، فَأَرْسَلَهُ أَبُو مُوسَى فِي مَنْ يُحَاصِرُ، فَجَاءَ إِلَى الْبَابِ فَدَقَّهُ بِرِجْلِهِ، فَتَقَطَّعَتِ السَّلَاسِلُ، وَتَكَسَّرَتِ الْأَغْلَاقُ، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الْبَلَدَ فَقَتَلُوا مَنْ وَجَدُوا حَتَّى نَادَوْا بِالْأَمَانِ وَدَعَوْا إِلَى الصُّلْحِ، فَأَجَابُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَكَانَ عَلَى السُّوسِ شَهْرِيَارُ أَخُو الْهُرْمُزَانِ، فَاسْتَحْوَذَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى السُّوسِ، وَهُوَ بَلَدٌ قَدِيمُ الْعِمَارَةِ فِي الْأَرْضِ، يُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ بَلَدٍ وُضِعَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُمْ وَجَدُوا قَبْرَ دَانْيَالَ بِالسُّوسِ، وَأَنَّ أَبَا مُوسَى لَمَّا أَقَامَ

بِهَا بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي سَبْرَةَ إِلَى جُنْدَيْسَابُورَ، كَتَبَ إِلَى عُمَرَ فِي أَمْرِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَدْفِنَهُ وَأَنْ يُغَيِّبَ عَنِ النَّاسِ مَوْضِعَ قَبْرِهِ، فَفَعَلَ. وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي " سِيرَةِ عُمَرَ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ فَتْحَ السُّوسِ وَرَامَهُرْمُزَ وَتَسْيِيرَ الْهُرْمُزَانِ مِنْ تُسْتَرَ إِلَى عُمَرَ، فِي سَنَةِ عِشْرِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ الْكِتَابُ الْعُمَرِيُّ قَدْ وَرَدَ بِأَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ يَذْهَبُ إِلَى أَهْلِ نَهَاوَنْدَ فَسَارَ إِلَيْهَا فَمَرَّ بِمَاةَ - بَلْدَةٍ كَبِيرَةٍ قَبْلَهَا - فَافْتَتَحَهَا ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى نَهَاوَنْدَ فَفَتَحَهَا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
قُلْتُ: الْمَشْهُورُ أَنَّ فَتْحَ نَهَاوَنْدَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، كَمَا سَيَأْتِي فِيهَا بَيَانُ ذَلِكَ، وَهِيَ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفَتْحٌ كَبِيرٌ، وَخَبَرٌ غَرِيبٌ، وَنَبَأٌ عَجِيبٌ. وَفَتَحَ زِرُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفُقَيْمِيُّ مَدِينَةَ جُنْدَيْسَابُورَ، فَاسْتَوْسَقَتْ تِلْكَ الْبِلَادُ لِلْمُسْلِمِينَ. هَذَا وَقَدْ تَحَوَّلَ يَزْدَجِرْدُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، حَتَّى انْتَهَى أَمْرُهُ إِلَى الْإِقَامَةِ بِأَصْبَهَانَ، وَقَدْ كَانَ صَرَفَ طَائِفَةً مِنْ أَشْرَافِ أَصْحَابِهِ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْعُظَمَاءِ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: سِيَاهُ. فَكَانُوا يَفِرُّونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، حَتَّى فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ تُسْتَرَ وَإِصْطَخْرَ، فَقَالَ سِيَاهُ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ هَؤُلَاءِ بَعْدَ الشَّقَاءِ وَالذِّلَّةِ مَلَكُوا أَمَاكِنَ الْمُلُوكِ الْأَقْدَمِينَ، وَلَا يَلْقَوْنَ جُنْدًا إِلَّا كَسَرُوهُ، وَاللَّهِ مَا هَذَا عَنْ بَاطِلٍ. وَدَخَلَ فِي قَلْبِهِ الْإِسْلَامُ وَعَظَمَتُهُ، فَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ تَبَعٌ لَكَ. وَبَعَثَ عَمَّارُ بْنُ

يَاسِرٍ فِي غُبُونِ ذَلِكَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَأَرْسَلُوا إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ بِإِسْلَامِهِمْ، وَكَتَبَ فِيهِمْ إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَفْرِضَ لَهُمْ فِي أَلْفَيْنِ أَلْفَيْنِ، وَفَرَضَ لِسِتَّةٍ مِنْهُمْ فِي أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ. وَكَانَ لَهُمْ نِكَايَةٌ عَظِيمَةٌ فِي قِتَالِ قَوْمِهِمْ، حَتَّى بَلَغَ مِنْ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ حَاصَرُوا حِصْنًا فَامْتَنَعَ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ أَحَدُهُمْ فَرَمَى بِنَفْسِهِ فِي اللَّيْلِ عَلَى بَابِ الْحِصْنِ وَضَمَّخَ ثِيَابَهُ بِدَمٍ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ حَسِبُوا أَنَّهُ مِنْهُمْ، فَفَتَحُوا لَهُ بَابَ الْحِصْنِ لِيُؤْوُوهُ، فَثَارَ إِلَى الْبَوَّابِ فَقَتَلَهُ، وَجَاءَ بَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ فَفَتَحُوا ذَلِكَ الْحِصْنَ، وَقَتَلُوا مَنْ فِيهِ مِنَ الْمَجُوسِ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَقَدَ الْأَلْوِيَةِ وَالرَّايَاتِ الْكَثِيرَةَ فِي بِلَادِ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ لِغَزْوِ الْفُرْسِ وَالتَّوَسُّعِ فِي بِلَادِهِمْ، كَمَا أَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، فَحَصَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ فُتُوحَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي السَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ بَعْدَهَا، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثُمَّ ذَكَرَ نُوَّابَهُ عَلَى الْبِلَادِ، وَهُمْ مَنْ ذَكَرَ فِي السَّنَةِ قَبْلَهَا غَيْرَ الْمُغِيرَةِ، فَإِنَّ عَلَى الْبَصْرَةِ بَدَلَهُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ
قُلْتُ: وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَقْوَامٌ، قِيلَ: إِنَّهُمْ تُوُفُّوا قَبْلَهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمْ. وَقِيلَ: فِيمَا بَعْدَهَا. وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُمْ فِي أَمَاكِنِهِمْ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ
الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ طَاعُونَ عَمَوَاسَ كَانَ بِهَا، وَقَدْ تَبِعْنَا قَوْلَ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، وَ ابْنِ جَرِيرٍ فِي إِيرَادِهِ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبِلَهَا، لَكِنَّا نَذْكُرُ وَفَاةَ مَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَأَبُو مَعْشَرٍ: كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ طَاعُونُ عَمَوَاسَ وَعَامُ الرَّمَادَةِ، فَتَفَانَى فِيهَا النَّاسُ.
قُلْتُ: كَانَ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ جَدْبٌ عَمَّ أَرْضَ الْحِجَازِ، وَجَاعَ النَّاسُ جُوعًا شَدِيدًا، وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي " سِيرَةِ عُمَرَ ". وَسُمِّيَتْ عَامَ الرَّمَادَةِ لِأَنَّ الْأَرْضَ اسْوَدَّتْ مِنْ قِلَّةِ الْمَطَرِ، حَتَّى عَادَ لَوْنُهَا شَبِيهًا بِالرَّمَادِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا كَانَتْ تَسْفِي الرِّيحُ تُرَابًا كَالرَّمَادِ. وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ سُمِّيَتْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَجْدَبَ النَّاسُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِأَرْضِ الْحِجَازِ، وَجَفَلَتِ الْأَحْيَاءُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ زَادٌ، فَلَجَئُوا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنْفَقَ فِيهِمْ مِنْ حَوَاصِلِ بَيْتِ الْمَالِ مِمَّا فِيهِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَمْوَالِ حَتَّى أَنْفَدَهُ، وَأَلْزَمَ نَفْسَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ سَمْنًا وَلَا

سَمِينًا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِالنَّاسِ، فَكَانَ فِي زَمَنِ الْخِصْبِ يُبَسُّ لَهُ الْخُبْزُ بِاللَّبَنِ وَالسَّمْنِ، ثُمَّ كَانَ عَامَ الرَّمَادَةِ يُبَسُّ لَهُ بِالزَّيْتِ وَالْخَلِّ، وَكَانَ يَسْتَمْرِئُ الزَّيْتَ، وَكَانَ لَا يَشْبَعُ مَعَ ذَلِكَ، فَاسْوَدَّ لَوْنُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَتَغَيَّرَ جِسْمُهُ حَتَّى كَادَ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الضَّعْفِ. وَاسْتَمَرَّ هَذَا الْحَالُ فِي النَّاسِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ تَحَوَّلَ الْحَالُ إِلَى الْخِصْبِ وَالدَّعَةِ، وَانْشَمَرَ النَّاسُ عَنِ الْمَدِينَةِ إِلَى أَمَاكِنِهِمْ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ قَالَ لِعُمَرَ حِينَ تَرَحَّلَ الْأَحْيَاءُ عَنِ الْمَدِينَةِ: لَقَدِ انْجَلَتْ عَنْكَ وَإِنَّكَ لَابْنُ حُرَّةٍ. أَيْ: وَاسَيْتَ النَّاسَ وَأَنْصَفْتَهُمْ وَأَحْسَنْتَ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ عُمَرَ عَسَّ الْمَدِينَةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَضْحَكُ، وَلَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ فِي مَنَازِلِهِمْ عَلَى الْعَادَةِ، وَلَمْ يَجِدْ سَائِلًا يَسْأَلُ، فَسَأَلَ عَنْ سَبَبٍ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ السُّؤَّالَ سَأَلُوا فَلَمْ يُعْطَوْا فَقَطَعُوا السُّؤَالَ، وَالنَّاسُ فِي هَمٍّ وَضِيقٍ، فَهُمْ لَا يَتَحَدَّثُونَ وَلَا يَضْحَكُونَ. فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى بِالْبَصْرَةِ: أَنْ يَا غَوْثَاهُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ. وَكَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِمِصْرَ: أَنْ يَا غَوْثَاهُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَافِلَةٍ عَظِيمَةٍ تَحْمِلُ الْبُرَّ وَسَائِرَ الْأَطْعِمَاتِ، وَوَصَلَتْ مِيرَةُ عَمْرٍو فِي الْبَحْرِ إِلَى جُدَّةَ وَمِنْ جُدَّةَ إِلَى مَكَّةَ. وَهَذَا الْأَثَرُ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ، لَكِنَّ ذِكْرَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ مُشْكِلٌ؛ فَإِنَّ مِصْرَ لَمْ تَكُنْ فُتِحَتْ فِي سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامُ الرَّمَادَةِ بَعْدَ سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، أَوْ يَكُونَ ذِكْرُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ وَهْمًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَذَكَرَ سَيْفٌ عَنْ شُيُوخِهِ، أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَمَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ رَاحِلَةٍ تَحْمِلُ طَعَامًا، فَأَمَرَهُ عُمَرُ بِتَفْرِقَتِهَا فِي الْأَحْيَاءِ حَوْلَ الْمَدِينَةِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ أَمَرَ لَهُ عُمَرُ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ عُمَرُ حَتَّى قَبِلَهَا.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ طَرِيقِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي الْمُجَالِدِ، وَالرَّبِيعِ، وَأَبِي عُثْمَانَ وَأَبِي حَارِثَةَ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُبْرُمَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالُوا: كَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنَّ نَفَرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَصَابُوا الشَّرَابَ - مِنْهُمْ ضِرَارٌ وَأَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ - فَسَأَلْنَاهُمْ فَقَالُوا: خُيِّرْنَا فَاخْتَرْنَا؛ قَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [ الْمَائِدَةِ: 91 ]. وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْنَا. فَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ فَأَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِمْ، وَأَنَّ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ أَيِ: انْتَهُوا. وَأَجْمَعُوا عَلَى جَلْدِهِمْ ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ، وَأَنَّ مَنْ تَأَوَّلَ هَذَا التَّأْوِيلَ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ يُقْتَلُ. فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ؛ أَنِ ادْعُهُمْ فَسَلْهُمْ عَنِ الْخَمْرِ؛ فَإِنْ قَالُوا: هِيَ حَلَالٌ. فَاقْتُلْهُمْ، وَإِنْ قَالُوا: هِيَ حَرَامٌ. فَاجْلِدْهُمْ. فَاعْتَرَفَ الْقَوْمُ بِتَحْرِيمِهَا، فَجُلِدُوا الْحَدَّ وَنَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ اللَّجَاجَةِ فِيمَا تَأَوَّلُوهُ، حَتَّى وُسْوِسَ أَبُو جَنْدَلٍ فِي نَفْسِهِ، فَكَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى عُمَرَ فِي

ذَلِكَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى أَبِي جَنْدَلٍ وَيُذَكِّرَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ: مِنْ عُمَرَ إِلَى أَبِي جَنْدَلٍ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [ النِّسَاءِ: 48 ]. فَتُبْ وَارْفَعْ رَأْسَكَ وَابْرُزْ وَلَا تَقْنَطْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [ الزُّمَرِ: 53 ]. وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى النَّاسِ أَنْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَمَنْ غَيَّرَ فَغَيِّرُوا عَلَيْهِ، وَلَا تُعَيِّرُوا أَحَدًا فَيَفْشُوَ فِيكُمُ الْبَلَاءُ. وَقَدْ قَالَ أَبُو الزَّهْرَاءِ الْقُشَيْرِيُّ فِي ذَلِكَ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الدَّهْرَ يَعْثُرُ بِالْفَتَى وَلَيْسَ عَلَى صَرْفِ الْمَنُونِ بِقَادِرِ صَبَرْتُ وَلَمْ أَجْزَعْ وَقَدْ مَاتَ إِخْوَتِي
وَلَسْتُ عَنِ الصَّهْبَاءِ يَوْمًا بِصَابِرِ رَمَاهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِحَتْفِهَا
فَخُلَّانُهَا يَبْكُونَ حَوْلَ الْمَعَاصِرِ
قَالَ سَيْفُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ عَامُ الرَّمَادَةِ فِي آخِرِ سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَأَوَّلِ سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، أَصَابَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا جُوعٌ فَهَلَكَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى جَعَلَتِ الْوَحْشُ تَأْوِي إِلَى الْإِنْسِ. فَكَانَ النَّاسُ كَذَلِكَ وَعُمَرُ كَالْمَحْصُورِ عَنْ

أَهْلِ الْأَمْصَارِ، حَتَّى أَقْبَلَ بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِيُّ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكَ، يَقُولُ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،: " لَقَدْ عَهِدْتُكَ كَيِّسًا، وَمَا زِلْتَ عَلَى ذَلِكَ، فَمَا شَأْنُكَ ؟ ". قَالَ: مَتَى رَأَيْتَ هَذَا ؟ قَالَ: الْبَارِحَةَ. فَخَرَجَ فَنَادَى فِي النَّاسِ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً. فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ هَلْ تَعْلَمُونَ مِنِّي أَمْرًا غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ لَا. فَقَالَ: إِنَّ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ يَزْعُمُ ذَيْتَ وَذَيْتَ. فَقَالُوا: صَدَقَ بِلَالٌ، فَاسْتَغِثْ بِاللَّهِ ثُمَّ بِالْمُسْلِمِينَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ - وَكَانَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ مَحْصُورًا - فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، بَلَغَ الْبَلَاءُ مُدَّتَهُ فَانْكَشَفَ، مَا أُذِنَ لِقَوْمٍ فِي الطَّلَبِ إِلَّا وَقَدْ رُفِعَ عَنْهُمُ الْبَلَاءُ. وَكَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَمْصَارِ أَنْ أَعِينُوا أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَ جَهْدُهُمْ. وَأَخْرَجَ النَّاسَ إِلَى الِاسْتِسْقَاءِ، فَخَرَجَ وَخَرَجَ مَعَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَاشِيًا، فَخَطَبَ وَأَوْجَزَ وَصَلَّى، ثُمَّ جَثَى لِرُكْبَتَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَارْضَ عَنَّا. ثُمَّ انْصَرَفَ فَمَا بَلَغُوا الْمَنَازِلَ رَاجِعِينَ حَتَّى خَاضُوا الْغُدْرَانَ.
ثُمَّ رَوَى سَيْفٌ، عَنْ مُبَشِّرِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ صَخْرٍ، عَنْ

عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ عَامَ الرَّمَادَةِ سَأَلَهُ أَهْلُهُ أَنْ يَذْبَحَ لَهُمْ شَاةً، فَقَالَ: لَيْسَ فِيهِنَّ شَيْءٌ. فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ فَذَبَحَ شَاةً، فَإِذَا عِظَامُهَا حُمْرٌ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدَاهُ. فَلَمَّا أَمْسَى أُرِيَ فِي الْمَنَامِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ لَهُ: " أَبْشِرْ بِالْحَيَا، ائْتِ عُمَرَ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ: إِنَّ عَهْدِي بِكَ وَفِيَّ الْعَهْدِ، شَدِيدَ الْعَقْدِ، فَالْكَيْسَ الْكَيْسَ يَا عُمَرُ ". فَجَاءَ حَتَّى أَتَى بَابَ عُمَرَ فَقَالَ لِغُلَامِهِ: اسْتَأْذِنْ لِرَسُولِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،. فَأَتَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ فَفَزِعَ، ثُمَّ صَعِدَ عُمَرُ الْمِنْبَرَ فَقَالَ لِلنَّاسِ: أَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي هَدَاكُمْ لِلْإِسْلَامِ، هَلْ رَأَيْتُمْ مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ ؟ فَقَالُوا: اللَّهُمَّ لَا، وَعَمَّ ذَاكَ ؟ فَأَخْبَرَهُمْ بِقَوْلِ الْمُزَنِيِّ - وَهُوَ بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ - فَفَطِنُوا وَلَمْ يَفْطَنْ. فَقَالُوا: إِنَّمَا اسْتَبْطَأَكَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ فَاسْتَسْقِ بِنَا. فَنَادَى فِي النَّاسِ، فَخَطَبَ فَأَوْجَزَ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَأَوْجَزَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ عَجَزَتْ عَنَّا أَنْصَارُنَا، وَعَجَزَ عَنَّا حَوْلُنَا وَقُوَّتُنَا، وَعَجَزَتْ عَنَّا أَنْفُسُنَا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ، اللَّهُمَّ فَاسْقِنَا وَأَحْيِ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةَ وَأَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ: أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ

، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَسْقِ اللَّهَ لِأُمَّتِكَ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا. فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ: " ائْتِ عُمَرَ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُ أَنَّكُمْ مُسْقَوْنَ، وَقُلْ لَهُ عَلَيْكَ الْكَيْسَ الْكَيْسَ ". فَأَتَى الرَّجُلُ فَأَخْبَرَ عُمَرَ فَقَالَ: يَا رَبِّ مَا آلُو إِلَّا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَشِّيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، ثَنَا أَبِي، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، خَرَجَ يَسْتَسْقِي وَخَرَجَ بِالْعَبَّاسِ مَعَهُ يَسْتَسْقِي، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا قَحَطْنَا عَلَى عَهْدِ نَبِيِّنَا تَوَسَّلْنَا إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، بِهِ، وَلَفْظُهُ: عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ عُمَرَ كَانَ إِذَا قَحَطُوا يَسْتَسْقِي بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا. قَالَ: فَيُسْقَوْنَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي " كِتَابِ الْمَطَرِ "، وَفِي كِتَابِ " مُجَابِي الدَّعْوَةِ ": حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الشَّيْبَانِيُّ، ثَنَا عَطَاءُ بْنُ

مُسْلِمٍ عَنِ الْعُمَرِيِّ، عَنْ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ يَسْتَسْقِي بِهِمْ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَغْفِرُكُ وَنَسْتَسْقِيكَ. فَمَا بَرِحَ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى مُطِرُوا، فَقَدِمَ أَعْرَابٌ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَيْنَا نَحْنُ بِوَادِينَا فِي سَاعَةِ كَذَا إِذْ أَظَلَّتْنَا غَمَامَةٌ فَسَمِعْنَا مِنْهَا صَوْتًا: أَتَاكَ الْغَوْثُ أَبَا حَفْصٍ، أَتَاكَ الْغَوْثُ أَبَا حَفْصٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ يَسْتَسْقِي بِالنَّاسِ فَمَا زَادَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ حَتَّى رَجَعَ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا نَرَاكَ اسْتَسْقَيْتَ. فَقَالَ: لَقَدْ طَلَبْتُ الْمَطَرَ بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ الَّتِي يُسْتَنْزَلُ بِهَا الْمَطَرُ، ثُمَّ قَرَأَ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ثُمَّ قَرَأَ: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [ هُودٍ: 3 ].
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَغَيْرُهُ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا حَوَّلَ عُمَرُ الْمَقَامَ، وَكَانَ مُلْصَقًا بِجِدَارِ الْكَعْبَةِ، فَأَخَّرَهُ إِلَى حَيْثُ هُوَ الْآنَ؛ لِئَلَّا يُشَوِّشَ الْمُصَلُّونَ عِنْدَهُ عَلَى الطَّائِفِينَ. قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرْتُ أَسَانِيدَ ذَلِكَ فِي " سِيرَةِ عُمَرَ ". وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. قَالَ: وَفِيهَا اسْتَقْضَى عُمَرُ شُرَيْحًا عَلَى الْكُوفَةِ وَكَعْبَ بْنَ

سُورٍ عَلَى الْبَصْرَةِ. قَالَ: وَفِيهَا حَجَّ عُمَرُ بِالنَّاسِ، وَكَانَتْ نُوَّابُهُ فِيهَا الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ. قَالَ: وَفِيهَا فُتِحَتِ الرَّقَّةُ وَالرُّهَا وَحَرَّانُ عَلَى يَدَيْ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ: وَفُتِحَتْ رَأْسُ عَيْنِ الْوَرْدَةِ عَلَى يَدَيْ عُمَرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَالَ غَيْرُهُ خِلَافَ ذَلِكَ.
وَقَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ فِي تَارِيخِهِ: وَفِيهَا - يَعْنِي هَذِهِ السَّنَةَ - افْتَتَحَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ الرُّهَا وَسُمَيْسَاطَ عَنْوَةً، وَفِي أَوَائِلِهَا وَجَّهَ أَبُو عُبَيْدَةَ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ إِلَى الْجَزِيرَةِ فَوَافَقَ أَبَا مُوسَى، فَافْتَتَحَا حَرَّانَ وَنَصِيبِينَ وَطَائِفَةً مِنَ الْجَزِيرَةِ عَنْوَةً، وَقِيلَ: صُلْحًا. وَفِيهَا سَارَ عِيَاضٌ إِلَى الْمَوْصِلِ فَافْتَتَحَهَا وَمَا حَوْلَهَا عَنْوَةً. وَفِيهَا بَنَى سَعْدٌ جَامِعَ الْكُوفَةِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا كَانَ طَاعُونُ عَمَوَاسَ فَمَاتَ فِيهِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا. قُلْتُ: هَذَا الطَّاعُونُ مَنْسُوبٌ إِلَى بُلَيْدَةٍ صَغِيرَةٍ يُقَالُ لَهَا: عَمَوَاسُ. وَهِيَ بَيْنَ الْقُدْسِ وَالرَّمْلَةِ، لِأَنَّهَا كَانَ أَوَّلَ مَا نَجَمَ هَذَا الدَّاءُ بِهَا، ثُمَّ انْتَشَرَ فِي الشَّامِ مِنْهَا فَنُسِبَ إِلَيْهَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَ فِي عَامِ طَاعُونِ عَمَوَاسَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالشَّامِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: ثَلَاثُونَ أَلْفًا.

وَهَذَا ذِكْرُ طَائِفَةٍ مِنْ أَعْيَانِهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، أَخُو أَبِي جَهْلٍ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَكَانَ سَيِّدًا شَرِيفًا فِي الْإِسْلَامِ كَمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، اسْتُشْهِدَ بِالشَّامِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي قَوْلٍ، وَتَزَوَّجَ عُمَرُ بَعْدَهُ بِامْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ.
شُرَحْبِيلُ ابْنُ حَسَنَةَ، أَحَدُ أُمَرَاءِ الْأَرْبَاعِ، وَهُوَ أَمِيرُ فِلَسْطِينَ، وَهُوَ شُرَحْبِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُطَاعِ بْنِ قَطَنٍ الْكِنْدِيُّ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ. وَحَسَنَةُ أُمُّهُ، نُسِبَ إِلَيْهَا وَغَلَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَجَهَّزَهُ الصِّدِّيقُ إِلَى الشَّامِ فَكَانَ أَمِيرًا عَلَى رُبُعِ الْجَيْشِ، وَكَذَلِكَ فِي الدَّوْلَةِ الْعُمَرِيَّةِ، وَطُعِنَ هُوَ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ. لَهُ حَدِيثَانِ؛ رَوَى لَهُ ابْنُ مَاجَهْ أَحَدَهُمَا فِي الْوُضُوءِ، وَغَيْرُهُ.
عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ
ابْنُ هِلَالِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ ضَبَّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ الْقُرَشِيُّ، أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، الْفِهْرِيُّ، أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَحَدُ

الْخَمْسَةِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَهُمْ ; عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ. أَسْلَمُوا عَلَى يَدَيِ الصِّدِّيقِ. وَلَمَّا هَاجَرُوا آخَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَقِيلَ: بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ. وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،: إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ". وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَيْضًا أَنَّ الصِّدِّيقَ قَالَ يَوْمَ السَّقِيفَةِ: وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَبَايِعُوهُ. يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَأَبَا عُبَيْدَةَ. وَبَعَثَهُ الصِّدِّيقُ أَمِيرًا عَلَى رُبُعِ الْجَيْشِ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ لَمَّا انْتَدَبَ خَالِدًا مِنَ الْعِرَاقِ كَانَ أَمِيرًا عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِ، لِعِلْمِهِ بِالْحُرُوبِ. فَلَمَّا انْتَهَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى عُمَرَ عَزَلَ خَالِدًا وَوَلَّى أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَشِيرَ خَالِدًا، فَجَمَعَ لِلْأُمَّةِ بَيْنَ أَمَانَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَشَجَاعَةِ خَالِدٍ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ بِالشَّامِ.
قَالُوا: وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ طِوَالًا نَحِيفًا، أَجْنَأَ مَعْرُوقَ الْوَجْهِ، خَفِيفَ اللِّحْيَةِ، أَهْتَمَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَزَعَ الْحَلْقَتَيْنِ مِنْ وَجْنَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ أُحُدٍ خَافَ أَنْ يُؤْلِمَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،، فَتَحَامَلَ عَلَى ثَنَيَّتَيْهِ فَسَقَطَتَا، فَمَا رُئِيَ أَحْسَنُ هَتْمًا مِنْهُ.

تُوُفِّيَ بِالطَّاعُونِ عَامَ عَمَوَاسَ، كَمَا تَقَدَّمَ سِيَاقُهُ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ - وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَمَوَاسَ كَانَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ - بِقَرْيَةِ فِحْلَ. وَقِيلَ: بِالْجَابِيَةِ.
وَقَدِ اشْتُهِرَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ قَبْرٌ بِالْقُرْبِ مِنْ عَقَبَةِ عُمَيَّاءَ بِالْغُورِ يُنْسَبُ إِلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعُمُرُهُ يَوْمَ مَاتَ ثَمَانٍ وَخَمْسُونَ سَنَةً.
الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، كَانَ حَسَنًا وَسِيمًا جَمِيلًا، أَرْدَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَاءَهُ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهُوَ شَابٌّ حَسَنٌ. وَقَدْ شَهِدَ فَتْحَ الشَّامِ وَاسْتُشْهِدَ بِطَاعُونِ عَمَوَاسَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، وَالزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ، وَأَبِي حَاتِمٍ، وَابْنِ الْبَرْقِيِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: يَوْمَ مَرْجِ الصُّفَّرِ. وَقِيلَ: بِأَجْنَادِينَ. وَيُقَالُ: بِالْيَرْمُوكِ. وَيُقَالُ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ

مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ
ابْنِ عَمْرِو بْنِ أَوْسِ بْنِ عَائِذِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُدَيِّ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَدَنِيُّ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ كَبِيرُ الْقَدْرِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ طِوَالًا حَسَنَ الشَّعْرِ وَالثَّغْرِ بَرَّاقَ الثَّنَايَا، لَمْ يُولَدْ لَهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. شَهِدَ مَعَهُ الْيَرْمُوكَ. وَقَدْ شَهِدَ مُعَاذٌ الْعَقَبَةَ. وَلَمَّا هَاجَرَ النَّاسُ آخَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَحَكَى الْوَاقِدِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا. وَكَانَ أَحَدَ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْخَزْرَجِ، الَّذِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَبُو زَيْدٍ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ حَيْوَةَ بْنِ

شُرَيْحٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ مُعَاذٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ: يَا مُعَاذُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَلَا تَدَعَنَّ أَنْ تَقُولَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ وَفِي الْمُسْنَدِ وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ".
وَقَدْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْيَمَنِ، وَقَالَ لَهُ: " بِمَ تَحْكُمُ ؟ ". فَقَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. الْحَدِيثَ. وَكَذَلِكَ أَقَرَّهُ الصِّدِّيقُ عَلَى ذَلِكَ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ بِالْيَمَنِ. ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الشَّامِ فَكَانَ بِهَا حَتَّى مَاتَ بَعْدَ مَا اسْتَخْلَفَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ حِينَ طُعِنَ، ثُمَّ طُعِنَ بَعْدَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ مُعَاذًا يُبْعَثُ أَمَامَ الْعُلَمَاءِ بِرَبْوَةٍ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، مُرْسَلًا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنَّا نُشَبِّهُهُ بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ مُعَاذًا كَانَ

أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ شَرْقِيَّ غَوْرِ بَيْسَانَ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ. وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ. وَقِيلَ: سَبْعَ عَشْرَةَ، عَنْ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ، عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، أَبُو خَالِدٍ، صَخْرُ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، أَخُو مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ يَزِيدُ أَكْبَرَ وَأَفْضَلَ. وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: يَزِيدُ الْخَيْرِ. أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَحَضَرَ حُنَيْنًا، وَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ وَأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، وَاسْتَعْمَلَهُ الصِّدِّيقُ عَلَى رُبُعِ الْجَيْشِ إِلَى الشَّامِ وَهُوَ أَوَّلُ أَمِيرٍ وَصَلَ إِلَيْهَا، وَمَشَى الصِّدِّيقُ فِي رِكَابِهِ يُوصِيهِ، وَبَعَثَ مَعَهُ أَبَا عُبَيْدَةَ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَشُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ؛ فَهَؤُلَاءِ أُمَرَاءُ الْأَرْبَاعِ. وَلَمَّا افْتَتَحُوا دِمَشْقَ دَخَلَ هُوَ مِنْ بَابِ الْجَابِيَةِ الصَّغِيرِ عَنْوَةً كَخَالِدٍ فِي دُخُولِهِ مِنَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ عَنْوَةً، وَكَانَ الصِّدِّيقُ قَدْ وَعَدَهُ بِإِمْرَتِهَا، فَوَلِيَهَا عَنْ أَمْرِ عُمَرَ وَأَنْفَذَ لَهُ مَا وَعَدَهُ الصِّدِّيقُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ وَلِيَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
الْمَشْهُورُ أَنَّهُ مَاتَ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَزَعَمَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ بَعْدَمَا فَتَحَ قَيْسَارِيَّةَ. وَلَمَّا مَاتَ كَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَ أَخَاهُ مُعَاوِيَةَ

عَلَى دِمَشْقَ فَأَمْضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَهُ ذَلِكَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَلَيْسَ فِي الْكُتُبِ شَيْءٌ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي وَلَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلَا سُجُودَهُ، مَثَلُ الْجَائِعِ الَّذِي لَا يَأْكُلُ إِلَّا التَّمْرَةَ وَالتَّمْرَتَيْنِ، لَا يُغْنِيَانِ عَنْهُ شَيْئًا
أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَقِيلَ: اسْمُهُ الْعَاصُ. أَسْلَمُ قَدِيمًا، وَقَدْ جَاءَ يَوْمَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ مُسْلِمًا يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدِ اسْتُضْعِفَ فَرَدَّهُ أَبَوْهُ، وَأَبَى أَنْ يُصَالِحَ حَتَّى يُرَدَّ، ثُمَّ لَحِقَ أَبُو جَنْدَلٍ بِأَبِي بَصِيرٍ إِلَى سَيْفِ الْبَحْرِ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَشَهِدَ فَتْحَ الشَّامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَأَوَّلَ آيَةَ الْخَمْرِ ثُمَّ رَجَعَ. وَمَاتَ بِطَاعُونِ عَمَوَاسَ. رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ.
أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، هُوَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ تَقَدَّمَ.

أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ، قِيلَ: اسْمُهُ كَعْبُ بْنُ عَاصِمٍ. قَدِمَ مُهَاجِرًا سَنَةَ خَيْبَرَ مَعَ أَصْحَابِ السَّفِينَةِ، وَشَهِدَ مَا بَعْدَهَا. وَاسْتُشْهِدَ بِالطَّاعُونِ عَامَ عَمَوَاسَ هُوَ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٌ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ فَتْحُ الْمَدَائِنِ وَجَلُولَاءَ فِيهَا. وَالْمَشْهُورُ خِلَافُ مَا قَالَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ فَتْحُ الْجَزِيرَةِ وَالرُّهَا وَحَرَّانَ وَرَأْسِ الْعَيْنِ وَنَصِيبِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ.
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ، وَخَلِيفَةُ، وَابْنُ الْكَلْبِيِّ: كَانَ فَتْحُ قَيْسَارِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَأَمِيرُهَا مُعَاوِيَةُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ افْتَتَحَهَا قَبْلَ هَذَا بِسِنِينَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ فَتْحُ قَيْسَارِيَّةَ مِنْ فِلَسْطِينَ، وَهَرَبُ هِرَقْلَ وَفَتْحُ مِصْرَ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ. وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ: كَانَ فَتْحُ قَيْسَارِيَّةَ وَفَتْحُ مِصْرَ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فَأَمَّا فَتْحُ قَيْسَارِيَّةَ فَقَدْ تَقَدَّمَ، وَأَمَّا فَتْحُ مِصْرَ فَإِنِّي سَأَذْكُرُهُ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَتْ نَارٌ مِنْ حَرَّةِ لَيْلَى، فَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ

يَخْرُجُ بِالرِّجَالِ إِلَيْهَا، ثُمَّ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّدَقَةِ فَطَفِئَتْ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَيُقَالُ: كَانَ فِيهَا وَقْعَةُ أَرْمِينِيَّةَ، وَأَمِيرُهَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَقَدْ أُصِيبَ فِيهَا صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ بْنِ رَحْضَةَ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ، وَكَانَ أَحَدَ الْأُمَرَاءِ يَوْمَئِذٍ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُنَافِقُونَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ فَبَرَّأَ اللَّهُ سَاحَتَهُ، وَجَنَابَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ زَوْجَةِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِمَّا قَالُوا. وَقَدْ كَانَ إِلَى حِينِ قَالُوا لَمْ يَتَزَوَّجْ. وَلِهَذَا قَالَ: وَاللَّهُ مَا كَشَفْتُ كَنَفَ أُنْثَى قَطُّ. ثُمَّ تَزَوَّجَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ كَثِيرَ النَّوْمِ، رُبَّمَا غَلَبَ عَلَيْهِ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي وَقْتِهَا، كَمَا جَاءَ فِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ "، وَغَيْرِهِ. وَكَانَ شَاعِرًا ثُمَّ حَصَلَتْ لَهُ شَهَادَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قِيلَ: بِهَذَا الْبَلَدِ. وَقِيلَ:

بِالْجَزِيرَةِ. وَقِيلَ: بِسُمَيْسَاطَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا فِيمَا سَلَفَ.
وَفِيهَا فُتِحَتْ تَكْرِيتُ فِي قَوْلٍ، وَالصَّحِيحُ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا فِيمَا ذَكَرْنَا أَسَرَتِ الرُّومُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ.
وَفِيهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ قُتِلَ فِيهَا أَمِيرُ الْمَجُوسِ شَهْرَكُ، وَكَانَ أَمِيرَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عُمَرُ، وَنُوَّابُهُ عَلَى الْبِلَادِ وَقُضَاتُهُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ قَبْلَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، سَيِّدُ الْقُرَّاءِ، وَهُوَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، أَبُو الْمُنْذِرِ وَأَبُو الطُّفَيْلِ، الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ، سَيِّدُ الْقُرَّاءِ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَمَا بَعْدَهُمَا، وَكَانَ سَيِّدًا جَلِيلَ الْقَدْرِ. وَهُوَ أَحَدُ الْقُرَّاءِ الْأَرْبَعَةِ الْخَزْرَجِيِّينَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،، وَقَدْ قَالَ لِعُمَرَ يَوْمًا: إِنِّي تَلَقَّيْتُ الْقُرْآنَ مِمَّنْ تَلَقَّاهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَهُوَ رَطْبٌ. وَفِي

" الْمُسْنَدِ "، وَ " النَّسَائِيِّ "، وَ " ابْنِ مَاجَهْ "، مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:أَقْرَأُ أُمَّتِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ: " إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ". قَالَ: وَسَمَّانِي لَكَ ؟ قَالَ: " نَعَمْ " فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ عِنْدَ سُورَةِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [ الْبَيِّنَةِ: 1 ]. قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ تُوُفِّيَ أُبَيٌّ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ أَوْ عِشْرِينَ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ الْفَلَّاسُ، وَخَلِيفَةُ: تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِيهَا مَاتَ خَبَّابٌ مَوْلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَهُوَ صَحَابِيٌّ مِنَ السَّابِقِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ.
وَمَاتَ فِيهَا صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ فِي قَوْلٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

سَنَةُ عِشْرِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَفِيهَا كَانَ فَتْحُ مِصْرَ. وَكَذَا قَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّهَا فُتِحَتْ هِيَ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: فُتِحَتْ مِصْرُ سَنَةَ عِشْرِينَ، وَإِسْكَنْدَرِيَّةُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ. وَقَالَ سَيْفٌ: فُتِحَتْ مِصْرُ وَإِسْكَنْدَرِيَّةُ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا. وَرَجَّحَ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " الْكَامِلِ "؛ لِقِصَّةِ بَعْثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الْمِيرَةَ مِنْ مِصْرَ عَامَ الرَّمَادَةِ، وَهُوَ مَعْذُورٌ فِيمَا رَجَّحَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا كَانَ فَتْحُ تُسْتَرَ فِي قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ السِّيَرِ بَعْدَ مُحَاصَرَةِ سَنَتَيْنِ. وَقِيلَ سَنَةٍ وَنِصْفٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

صِفَةُ فَتْحِ مِصْرَ مَجْمُوعًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَسَيْفٍ وَغَيْرِهِمَا
قَالُوا: لَمَّا اسْتَكْمَلَ عُمَرُ وَالْمُسْلِمُونَ فَتْحَ الشَّامَ بَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى

مِصْرَ - وَزَعَمَ سَيْفٌ أَنَّهُ بَعَثَهُ بَعْدَ فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ - وَأَرْدَفَهُ بِالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَفِي صُحْبَتِهِ بُسْرُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَخَارِجَةُ بْنُ حُذَافَةَ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ، فَاجْتَمَعَا عَلَى بَابِ مِصْرَ، فَلَقِيَهُمْ أَبُو مَرْيَمَ جَاثَلِيقُ مِصْرَ، وَمَعَهُ الْأُسْقُفُ أَبُو مَرْيَامَ فِي أَهْلِ الثَّبَاتِ، بَعَثَهُ الْمُقَوْقِسُ صَاحِبُ إِسْكَنْدَرِيَّةَ لِمَنْعِ بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا تَصَافُّوا قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لَا تَعْجَلُوا حَتَّى نُعْذِرَ إِلَيْكُمْ، لِيَبْرُزْ إِلَيَّ أَبُو مَرْيَمَ وَأَبُو مَرْيَامَ رَاهِبَا هَذِهِ الْبِلَادِ. فَبَرَزَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَنْتُمَا رَاهِبَا هَذِهِ الْبِلَادِ فَاسْمَعَا: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْحَقِّ، وَأَمَرَهُ بِهِ، وَأَمَرَنَا بِهِ مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَدَّى إِلَيْنَا كُلَّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، ثُمَّ مَضَى وَتَرَكَنَا عَلَى الْوَاضِحَةِ، وَكَانَ مِمَّا أَمَرَنَا بِهِ الْإِعْذَارُ إِلَى النَّاسِ، فَنَحْنُ نَدْعُوكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَمَنْ أَجَابَنَا إِلَيْهِ فَمِثْلُنَا، وَمَنْ لَمْ يُجِبْنَا عَرَضْنَا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ وَبَذَلْنَا لَهُ الْمَنَعَةَ، وَقَدْ أَعْلَمَنَا أَنَّا مُفْتَتِحُوكُمْ، وَأَوْصَانَا بِكُمْ؛ حِفْظًا لِرَحِمِنَا مِنْكُمْ، وَأَنَّ لَكُمْ إِنْ أَجَبْتُمُونَا بِذَلِكَ ذِمَّةً إِلَى ذِمَّةٍ، وَمِمَّا عَهِدَ إِلَيْنَا أَمِيرُنَا: اسْتَوْصُوا بِالْقِبْطِيِّينَ خَيْرًا؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْصَانَا بِالْقِبْطِيِّينَ خَيْرًا؛ لِأَنَّ لَهُمْ رَحِمًا وَذِمَّةً. فَقَالُوا: قَرَابَةٌ بَعِيدَةٌ لَا يَصِلُ مِثْلَهَا إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ، مَعْرُوفَةٌ شَرِيفَةٌ، كَانَتِ ابْنَةَ مَلِكِنَا، وَكَانَتْ مَنْ أَهْلِ مَنْفَ وَالْمُلْكُ

فِيهِمْ، فَأُدِيلَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ عَيْنِ شَمْسٍ فَقَتَلُوهُمْ وَسَلَبُوهُمْ مُلْكَهُمْ وَاغْتَرَبُوا، فَلِذَلِكَ صَارَتْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلًا، أَمِّنَّا حَتَّى نَرْجِعَ إِلَيْكَ. فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّ مِثْلِي لَا يُخْدَعُ، وَلَكِنِّي أُؤَجِّلُكُمَا ثَلَاثًا لِتَنْظُرُوا وَلِتُنَاظِرَا قَوْمَكُمَا، وَإِلَّا نَاجَزْتُكُمْ. قَالَا: زِدْنَا. فَزَادَهُمْ يَوْمًا، فَقَالَا: زِدْنَا. فَزَادَهُمْ يَوْمًا، فَرَجَعَا إِلَى الْمُقَوْقِسِ فَأَبَى أَرْطَبُونُ أَنْ يُجِيبَهُمَا وَأَمَرَ بِمُنَاهَدَتِهِمْ، وَقَالَ لِأَهْلِ مِصْرَ: أَمَّا نَحْنُ فَسَنَجْتَهِدُ أَنْ نَدْفَعَ عَنْكُمْ وَلَا نَرْجِعَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ بَقِيَتْ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ. وَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُبَيِّتُوا الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ: مَا تُقَاتِلُونَ مِنْ قَوْمٍ قَتَلُوا كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَغَلَبُوهُمْ عَلَى بِلَادِهِمْ ؟ ! فَأَلَحَّ الْأَرْطَبُونُ فِي أَنْ يُبَيِّتُوا الْمُسْلِمِينَ، فَفَعَلُوا فَلَمْ يَظْفَرُوا بِشَيْءٍ بَلْ قُتِلَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الْأَرْطَبُونُ. وَحَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ عَيْنَ شَمْسٍ مِنْ مِصْرَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَارْتَقَى الزُّبَيْرُ عَلَيْهِمْ سُورَ الْبَلَدِ، فَلَمَّا أَحَسُّوا بِذَلِكَ خَرَجُوا إِلَى عَمْرٍو مِنَ الْبَابِ الْآخَرِ فَصَالَحُوهُ، وَاخْتَرَقَ الزُّبَيْرُ الْبَلَدَ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي عَلَيْهِ عَمْرٌو، فَأَمْضَوُا الصُّلْحَ.
وَكَتَبَ لَهُمْ عَمْرٌو كِتَابَ أَمَانٍ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا أَعْطَى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَهْلَ مِصْرَ مِنَ الْأَمَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ

وَصُلُبِهِمْ، وَبَرِّهِمْ وَبَحْرِهِمْ، لَا يُدْخَلُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُنْتَقَصُ، وَلَا يُسَاكِنُهُمُ النُّوبَةُ وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى هَذَا الصُّلْحِ، وَانْتَهَتْ زِيَادَةُ نَهْرِهِمْ، خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَعَلَيْهِمْ مَا جَنَى لُصُوتُهُمْ، فَإِنْ أَبَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُجِيبَ، رُفِعَ عَنْهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ بِقَدْرِهِمْ، وَذِمَّتُنَا مِمَّنْ أَبَى بَرِيئَةٌ، وَإِنْ نَقَصَ نَهْرُهُمْ مِنْ غَايَتِهِ إِذَا انْتَهَى، رُفِعَ عَنْهُمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَمَنْ دَخَلَ فِي صُلْحِهِمْ مِنَ الرُّومِ وَالنُّوبَةِ، فَلَهُ مِثْلُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا عَلَيْهِمْ، وَمَنْ أَبَى وَاخْتَارَ الذَّهَابَ، فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ أَوْ يَخْرُجَ مِنْ سُلْطَانِنَا، عَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا، فِي كُلِّ ثُلُثِ جِبَايَةُ ثُلُثِ مَا عَلَيْهِمْ، عَلَى مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ عَهْدُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ وَذِمَّةُ الْخَلِيفَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذِمَمُ الْمُؤْمِنِينَ. وَعَلَى النُّوبَةِ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا أَنْ يُعِينُوا بِكَذَا وَكَذَا رَأْسًا، وَكَذَا وَكَذَا فَرَسًا، عَلَى أَنْ لَا يَغْزُوا، وَلَا يَمْنَعُوا مِنْ تِجَارَةٍ صَادِرَةٍ وَلَا وَارِدَةٍ. شَهِدَ الزُّبَيْرُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ ابْنَاهُ، وَكَتَبَ وَرْدَانُ وَحَضَرَ.
فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ مِصْرَ كُلُّهُمْ، وَقَبِلُوا الصُّلْحَ، وَاجْتَمَعَتِ الْخُيُولُ بِمِصْرَ، وَعَمَّرُوا الْفُسْطَاطَ، وَظَهَرَ أَبُو مَرْيَمَ وَأَبُو مَرْيَامَ فَكَلَّمَا عَمْرًا فِي السَّبَايَا الَّتِي أُصِيبَتْ بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ، فَأَبَى عَمْرٌو أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِمَا، وَأَمَرَ بِطَرْدِهِمَا وَإِخْرَاجِهِمَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ أَنَّ كُلَّ

سَبْيٍ أُخِذَ فِي الْخَمْسَةِ أَيَّامٍ الَّتِي أَمَّنُوهُمْ فِيهَا أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِمْ، وَكُلَّ سَبْيٍ أُخِذَ مِمَّنْ لَمْ يُقَاتِلْ وَكَذَلِكَ مَنْ قَاتَلَ، فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ سَبَايَاهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُخَيِّرُوا مَنْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ السَّبْيِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَمَنِ اخْتَارَ الْإِسْلَامَ فَلَا يَرُدُّوهُ إِلَيْهِمْ، وَمَنِ اخْتَارَهُمْ رَدُّوهُ عَلَيْهِمْ وَأَخَذُوا مِنْهُ الْجِزْيَةَ، وَأَمَّا مَا تَفَرَّقَ مِنْ سَبْيِهِمْ فِي الْبِلَادِ وَوَصَلَ إِلَى الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِمْ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى مَا يَتَعَذَّرُ الْوَفَاءُ بِهِ. فَفَعَلَ عَمْرٌو مَا أَمَرَ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَمَعَ السَّبَايَا وَعَرَضُوهُمْ وَخَيَّرُوهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَارَ الْإِسْلَامَ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَادَ إِلَى دِينِهِ، وَانْعَقَدَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمْ.
ثُمَّ أَرْسَلَ عَمْرٌو جَيْشًا إِلَى إِسْكَنْدَرِيَّةَ - وَكَانَ الْمُقَوْقِسُ صَاحِبُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ قَبْلَ ذَلِكَ يُؤَدِّي خَرَاجَ بَلَدِهِ وَبَلَدِ مِصْرَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ - فَلَمَّا حَاصَرَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ جَمَعَ أَسَاقِفَتَهُ وَأَكَابِرَ دَوْلَتِهِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْعَرَبَ غَلَبُوا كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَأَزَالُوهُمْ عَنْ مُلْكِهِمْ، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ، وَالرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ نُؤَدِّيَ الْجِزْيَةَ

إِلَيْهِمْ. ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: إِنِّي كُنْتُ أُؤَدِّي الْخَرَاجَ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْكُمْ؛ فَارِسَ وَالرُّومِ. ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَبَعَثَ عَمْرٌو بِالْفَتْحِ وَالْأَخْمَاسِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ سَيْفٌ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ لَمَّا الْتَقَى مَعَ الْمُقَوْقِسِ جَعَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَفِرُّ مِنَ الزَّحْفِ، فَجَعَلَ عَمْرٌو يُذَمِّرُهُمْ وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الثَّبَاتِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ مِنْ حِجَارَةٍ وَلَا حَدِيدٍ. فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: اسْكُتْ فَإِنَّمَا أَنْتَ كَلْبٌ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: فَأَنْتَ إِذًا أَمِيرُ الْكِلَابِ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ عَمْرٌو وَنَادَى يَطْلُبُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَنْ هُنَاكَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: تَقَدَّمُوا فَبِكُمْ يَنْصُرُ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ. فَنَهَدُوا إِلَى الْقَوْمِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَظَفِرُوا أَتَمَّ الظَّفَرِ.
قَالَ سَيْفٌ: فَفُتِحَتْ مِصْرُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ، وَقَامَ فِيهَا مُلْكُ الْإِسْلَامِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فُتِحَتْ مِصْرُ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ، وَفُتِحَتْ إِسْكَنْدَرِيَّةُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، بَعْدَ مُحَاصَرَةِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ عَنْوَةً. وَقِيلَ: صُلْحًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْمُقَوْقِسَ سَأَلَ مِنْ عَمْرٍو أَنْ يُهَادِنَهُ أَوَّلًا، فَلَمْ يَقْبَلْ عَمْرٌو، وَقَالَ لَهُ: قَدْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْنَا بِمَلِكِكُمُ الْأَكْبَرِ هِرَقْلَ. فَقَالَ الْمُقَوْقِسُ لِأَصْحَابِهِ:

صَدَقَ، فَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْإِذْعَانِ. ثُمَّ صَالَحَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ عَمْرًا وَالزُّبَيْرَ سَارَا إِلَى عَيْنِ شَمْسٍ فَحَاصَرَاهَا، وَأَنَّ عَمْرًا بَعَثَ إِلَى الْفَرَمَا أَبَرْهَةَ بْنَ الصَّبَّاحِ، وَبَعَثَ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِأَهْلِ بَلَدِهِ: إِنْ نَزَلْتُمْ فَلَكُمُ الْأَمَانُ. فَتَرَبَّصُوا مَاذَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ عَيْنِ شَمْسٍ، فَلَمَّا صَالَحُوا، صَالَحَ الْبَاقُونَ. وَقَدْ قَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ لِأَهْلِ إِسْكَنْدَرِيَّةَ: مَا أَحْسَنَ بَلَدَكُمْ ! فَقَالُوا: إِنَّ إِسْكَنْدَرَ لَمَّا بَنَاهَا قَالَ: لَأَبْنِيَنَّ مَدِينَةً فَقِيرَةً إِلَى اللَّهِ غَنِيَّةً عَنِ النَّاسِ. فَبَقِيَتْ بَهْجَتُهَا. وَقَالَ أَبَرْهَةُ لِأَهْلِ الْفَرَمَا: مَا أَقْبَحَ مَدِينَتَكُمْ ! فَقَالُوا: إِنَّ الْفَرَمَا - وَهُوَ أَخُو الْإِسْكَنْدَرِ - لَمَّا بَنَاهَا قَالَ: لَأَبْنِيَنَّ مَدِينَةً غَنِيَّةً عَنِ اللَّهِ فَقِيرَةً إِلَى النَّاسِ. فَهِيَ لَا يَزَالُ سَاقِطًا بِنَاؤُهَا، فَشُوِّهَتْ بِذَلِكَ.
وَذَكَرَ سَيْفٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ لَمَّا وَلِيَ مِصْرَ بَعْدَ ذَلِكَ زَادَ فِي الْخَرَاجِ عَلَيْهِمْ رُءُوسًا مِنَ الرَّقِيقِ يُهْدُونَهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَيُعَوِّضُهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِطَعَامٍ مُسَمًّى وَكُسْوَةٍ. وَأَقَرَّ ذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَوُلَاةُ الْأُمُورِ بَعْدَهُ، حَتَّى كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَأَمْضَاهُ أَيْضًا؛ نَظَرًا لَهُمْ، وَإِبْقَاءً لِعَهْدِهِمْ.
قُلْتُ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ دِيَارُ مِصْرَ بِالْفُسْطَاطِ نِسْبَةً إِلَى فُسْطَاطِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ نَصَبَ خَيْمَتَهُ - وَهِيَ الْفُسْطَاطُ - مَوْضِعَ مِصْرَ الْيَوْمَ، وَبَنَى

النَّاسُ حَوْلَهُ، وَتُرِكَتْ مِصْرُ الْقَدِيمَةُ مِنْ زَمَانِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَإِلَى الْيَوْمِ، ثُمَّ رَفَعَ الْفُسْطَاطَ وَبَنَى مَوْضِعَهُ جَامِعًا وَهُوَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ الْيَوْمَ.
وَقَدْ غَزَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ فَتْحِ مِصْرَ النُّوبَةَ؛ فَنَالَهُمْ جِرَاحَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَأُصِيبَتْ أَعْيُنٌ كَثِيرَةٌ؛ لِجَوْدَةِ رَمْيِ النُّوبَةِ، فَسَمَّوْهُمْ جُنْدَ الْحِدَقِ. ثُمَّ فَتَحَهَا اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي بِلَادِ مِصْرَ، فَقِيلَ: فُتِحَتْ صُلْحًا إِلَّا الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ. وَهُوَ قَوْلُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ. وَقِيلَ: كُلُّهَا عَنْوَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: مَا قَعَدْتُ مَقْعَدِي هَذَا وَلِأَحَدٍ مِنَ الْقِبْطِ عِنْدِي عَهْدٌ؛ إِنْ شِئْتُ قَتَلْتُ، وَإِنْ شِئْتُ بِعْتُ، وَإِنْ شِئْتُ خَمَّسْتُ، إِلَّا لِأَهْلِ أَنْطَابُلُسَ، فَإِنَّ لَهُمْ عَهْدًا نَفِي بِهِ.

قِصَّةُ نِيلِ مِصْرَ
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ قَالَ: لَمَّا افْتُتِحَتْ مِصْرُ أَتَى أَهْلُهَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ - حِينَ دَخَلَ بُؤْنَةُ مِنْ أَشْهُرِ

الْعَجَمِ - فَقَالُوا: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، لِنِيلِنَا هَذَا سُنَّةٌ لَا يَجْرِي إِلَّا بِهَا. قَالَ: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالُوا: إِذَا كَانَتِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ، عَمَدْنَا إِلَى جَارِيَةٍ بِكْرٍ مِنْ أَبَوَيْهَا، فَأَرْضَيْنَا أَبَوَيْهَا، وَجَعَلْنَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ أَفْضَلَ مَا يَكُونُ، ثُمَّ أَلْقَيْنَاهَا فِي هَذَا النِّيلِ. فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: إِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَكُونُ فِي الْإِسْلَامِ، إِنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ. قَالَ: فَأَقَامُوا بُؤْنَةَ وَأَبِيبَ وَمِسْرَى وَالنِّيلُ لَا يَجْرِي قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، حَتَّى هَمُّوا بِالْجَلَاءِ، فَكَتَبَ عَمْرٌو إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّكَ قَدْ أَصَبْتَ بِالَّذِي فَعَلْتَ، وَإِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِبِطَاقَةٍ دَاخِلَ كِتَابِي، فَأَلْقِهَا فِي النِّيلِ. فَلَمَّا قَدِمَ كِتَابُهُ أَخَذَ عَمْرٌو الْبِطَاقَةَ فَإِذَا فِيهَا: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نِيلِ أَهْلِ مِصْرَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تَجْرِي مِنْ قِبَلِكَ فَلَا تَجْرِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ هُوَ الَّذِي يُجْرِيكَ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُجْرِيَكَ. قَالَ: فَأَلْقَى الْبِطَاقَةَ فِي النِّيلِ فَأَصْبَحُوا يَوْمَ السَّبْتِ، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ النِّيلَ سِتَّةَ عَشَرَ ذِرَاعًا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَطَعَ اللَّهُ

تِلْكَ السُّنَّةَ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَى الْيَوْمِ.
قَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ: وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - وَهِيَ عِنْدَهُ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ - جَعَلَ عُمَرُ الْمَسَالِحَ عَلَى أَرْجَاءِ مِصْرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هِرَقْلَ أَغَزَا الشَّامَ وَمِصْرَ فِي الْبَحْرِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا أَرْضَ الرُّومِ أَبُو بَحْرِيَّةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ - وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَهَا فِيمَا قِيلَ - فَسَلِمَ وَغَنِمَ، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ دَخَلَهَا مَيْسَرَةُ بْنُ مَسْرُوقٍ الْعَبْسِيُّ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا عَزَلَ عُمَرُ قَدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ عَنِ الْبَحْرَيْنِ وَحَدَّهُ فِي الشَّرَابِ، وَوَلَّى عَلَى الْبَحْرَيْنِ وَالْيَمَامَةِ أَبَا هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيَّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ: وَفِيهَا شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى قَالُوا: لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي. فَعَزَلَهُ عَنْهَا وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ، وَكَانَ نَائِبَ سَعْدٍ. وَقِيلَ: بَلْ وَلَّاهَا عَمْرَو بْنَ يَاسِرٍ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، سَمِعَهُ مِنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي. قَالَ: الْأَعَارِيبُ ! وَاللَّهِ مَا آلُو بِهِمْ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، أَرْكُدُ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ. فَسَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كَذَلِكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ.
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ، فَأَثْنَوْا خَيْرًا إِلَّا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: أَبُو سَعْدَةَ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ. قَامَ فَقَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا، فَإِنَّ سَعْدًا لَا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ، وَلَا يَخْرُجُ فِي السَّرِيَّةِ. فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ، فَأَطِلْ عُمُرَهُ، وَأَدِمْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ. فَأَصَابَتْهُ دَعْوَةُ سَعْدٍ، فَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا يَرْفَعُ حَاجِبَيْهِ عَنْ عَيْنَيْهِ، وَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ فَيَغْمِزُهُنَّ، فَيُقَالُ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ فَيَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْهُ دَعْوَةُ سَعْدٍ.

وَقَدْ قَالَ عُمَرُ فِي وَصِيَّتِهِ - وَذَكَرَهُ فِي السِّتَّةِ -: فَإِنْ أَصَابَتِ الْإِمْرَةُ سَعْدًا فَذَاكَ، وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ وَلِيَ، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ.
قَالَ: وَفِيهَا أَجْلَى عُمَرُ يَهُودَ خَيْبَرَ عَنْهَا إِلَى أَذْرِعَاتٍ وَغَيْرِهَا، وَفِيهَا أَجْلَى عُمَرُ يَهُودَ نَجْرَانَ مِنْهَا أَيْضًا إِلَى الْكُوفَةِ، وَقَسَّمَ خَيْبَرَ، وَوَادِي الْقُرَى، وَنَجْرَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ: وَفِيهَا دَوَّنَ عُمَرُ الدَّوَاوِينَ. وَزَعَمَ غَيْرُهُ أَنَّهُ دَوَّنَهَا قَبْلَ ذَلِكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: وَفِيهَا بَعَثَ عُمَرُ عَلْقَمَةَ بْنَ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيَّ إِلَى الْحَبَشَةِ فِي الْبَحْرِ فَأُصِيبُوا، فَآلَى عُمَرُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَبْعَثَ جَيْشًا فِي الْبَحْرِ بَعْدَهَا. وَقَدْ خَالَفَ الْوَاقِدِيَّ فِي هَذَا أَبُو مَعْشَرٍ، فَزَعَمَ أَنَّ غَزْوَةَ الْحَبَشَةِ إِنَّمَا كَانَتْ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ. يَعْنِي فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا تَزَوَّجَ عُمَرُ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ - الَّتِي مَاتَ عَنْهَا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ فِي الطَّاعُونِ - وَهِيَ أُخْتُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ
قَالَ: وَفِيهَا مَاتَ بِلَالٌ بِدِمَشْقَ، وَأُسِيدُ بْنُ الْحُضَيْرِ فِي شَعْبَانَ،

وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
قَالَ: وَفِيهَا مَاتَ هِرَقْلُ، وَقَامَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ قُسْطَنْطِينُ.
قَالَ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَرُ. وَنُوَّابُهُ وَقُضَاتُهُ، وَمَنْ تَقَدَّمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، سِوَى مِنْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَزَلَهُ وَوَلَّى غَيْرَهُ.

ذِكْرُ الْمُتَوَفَّيْنَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ بْنِ سِمَاكٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَشْهَلِيُّ، مِنَ الْأَوْسِ، أَبُو يَحْيَى، أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَكَانَ أَبُوهُ رَئِيسَ الْأَوْسِ يَوْمَ بُعَاثٍ، وَكَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسِتِّ سِنِينَ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: حُضَيْرُ الْكَتَائِبِ. يُقَالُ: إِنَّهُ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ وَلَمَّا هَاجَرَ النَّاسُ آخَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا.
وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو بَكْرٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ عُمَرُ، نِعْمَ الرَّجُلُ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ وَذَكَرَ جَمَاعَةً.

وَقَدِمَ الشَّامَ مَعَ عُمَرَ. وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ، وَعَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَذَكَرَ ابْنُ بُكَيْرٍ أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ عِشْرِينَ، وَأَنَّ عُمَرَ حَمَلَ بَيْنَ عَمُودَيْهِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَدَفَنَهُ بِالْبَقِيعِ. وَكَذَا أَرَّخَ وَفَاتَهُ سَنَةَ عِشْرِينَ الْوَاقِدِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَجَمَاعَةٌ.
أُنَيْسُ بْنُ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ، هُوَ وَأَبُوهُ وَجَدُّهُ صَحَابَةٌ، وَكَانَ أُنَيْسٌ هَذَا عَيْنًا لِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ الَّذِي قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُهُ، فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ: فَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ. فَقِيلَ: أَنَّهُ أُنَيْسُ بْنُ الضَّحَّاكِ الْأَسْلَمِيُّ. وَقَدْ مَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ إِلَى تَرْجِيحِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. لَهُ حَدِيثٌ فِي الْفِتْنَةِ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ: تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ عِشْرِينَ.
بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ الْحَبَشِيُّ الْمُؤَذِّنُ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَيُقَالُ لَهُ: بِلَالُ ابْنُ

حَمَامَةَ. وَهِيَ أُمُّهُ. أَسْلَمَ قَدِيمًا فَعُذِّبَ فِي اللَّهِ فَصَبَرَ، فَاشْتَرَاهُ الصِّدِّيقُ فَأَعْتَقَهُ. شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا. وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَلَمَّا شُرِعَ الْأَذَانُ بِالْمَدِينَةِ كَانَ هُوَ الَّذِي يُؤَذِّنُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، يَتَنَاوَبَانِ، تَارَةً هَذَا وَتَارَةً هَذَا. وَكَانَ بِلَالٌ نَدِيَّ الصَّوْتِ، حَسَنَهُ، فَصِيحًا، وَمَا يُرْوَى: " إِنَّ سِينَ بِلَالٍ عِنْدَ اللَّهِ شِينٌ ". فَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ. وَقَدْ أَذَّنَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَرَكَ الْأَذَانَ، وَيُقَالُ: أَذَّنَ لِلصِّدِّيقِ أَيَّامَ خِلَافَتِهِ. وَلَا يَصِحُّ. ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ مُجَاهِدًا، وَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ إِلَى الْجَابِيَةِ أَذَّنَ بَيْنَ يَدَيْهِ بَعْدَ الْخُطْبَةِ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، فَانْتَحَبَ النَّاسُ بِالْبُكَاءِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ زَارَ الْمَدِينَةَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ فَأَذَّنَ، فَبَكَى النَّاسُ بُكَاءً شَدِيدًا. وَيَحِقُّ لَهُمْ ذَلِكَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِبِلَالٍ: إِنِّي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشْفَ نَعْلَيْكَ أَمَامِي، فَأَخْبِرْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ، فَقَالَ: مَا تَوَضَّأْتُ إِلَّا وَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ " بِذَاكَ ". وَفِي رِوَايَةٍ:مَا أَحْدَثْتُ إِلَّا تَوَضَّأْتُ وَمَا تَوَضَّأْتُ، إِلَّا رَأَيْتُ أَنَّ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ.

قَالُوا: وَكَانَ بِلَالٌ آدَمَ شَدِيدَ الْأُدْمَةِ، طَوِيلًا، نَحِيفًا، أَجْنَأَ، كَثِيرَ الشَّعْرِ، خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ.
قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ: تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ سَنَةَ عِشْرِينَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ، وَلَهُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَاتَ بِدَارَيَّا، وَدُفِنَ بِبَابِ كَيْسَانَ. وَقِيلَ: دُفِنَ بِدَارَيَّا. وَقِيلَ إِنَّهُ مَاتَ بِحَلَبَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
سَعِيدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حِذْيَمٍ، مِنْ أَشْرَافِ بَنِي جُمَحَ، شَهِدَ خَيْبَرَ، وَكَانَ مِنَ الزُّهَّادِ الْعُبَّادِ، وَكَانَ أَمِيرًا لِعُمَرَ عَلَى حِمْصَ بَعْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ. بَلَغَ عُمَرَ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَتْهُ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَتَصَدَّقَ بِهَا جَمِيعًا، وَقَالَ

لِزَوْجَتِهِ: أَعْطَيْنَاهَا لِمَنْ يَتَّجِرُ لَنَا فِيهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ خَلِيفَةُ: فَتَحَ هُوَ وَمُعَاوِيَةُ قَيْسَارِيَّةَ، كُلٌّ مِنْهُمَا أَمِيرٌ عَلَى مَنْ مَعَهُ.
عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ أَبُو سَعْدٍ الْفِهْرِيُّ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَكَانَ سَمْحًا جَوَادًا، شُجَاعًا، وَهُوَ الَّذِي افْتَتَحَ الْجَزِيرَةَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَازَ دَرْبَ الرُّومَ غَازِيًا، وَاسْتَنَابَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بَعْدَهُ عَلَى الشَّامِ فَأَقَرَّهُ عُمَرُ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ عِشْرِينَ عَنْ سِتِّينَ سَنَةً.
أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِيلَ: اسْمُهُ الْمُغِيرَةُ. أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ جِدًّا، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى دِينِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَكَانَ شَاعِرًا مُطْبَقًا، يَهْجُو الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَهُوَ الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنِّي مُغَلْغَلَةً فَقَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ هَجَوْتَ مُحَمَّدًا وَأَجَبْتُ عَنْهُ
وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ
فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
وَلَمَّا جَاءَ هُوَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ لِيُسْلِمَا، لَمْ يَأْذَنْ لَهُمَا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى شَفَعَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لِأَخِيهَا فَأَذِنَ لَهُ، وَبَلَغَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ هَذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ يَأْذَنْ لِي لَآخُذَنَّ بِيَدِ بُنَيَّ هَذَا - لِوَلَدٍ مَعَهُ صَغِيرٍ - فَلَأَذْهَبَنَّ، فَلَا يُدْرَى أَيْنَ

أَذْهَبُ. فَرَقَّ حِينَئِذٍ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَذِنَ لَهُ، وَلَزِمَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَكَانَ آخِذًا بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ يَوْمَئِذٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَحَبَّهُ، وَشَهِدَ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَقَالَ: أَرْجُو أَنْ تَكُونَ خَلَفًا مِنْ حَمْزَةَ. وَقَدْ رَثَى رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ تُوُفِّيَ بِقَصِيدَةٍ ذَكَرْنَاهَا فِيمَا سَلَفَ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
أَرِقْتُ فَبَاتَ لَيْلِي لَا يَزُولُ وَلَيْلُ أَخِي الْمُصِيبَةِ فِيهِ طُولُ
وَأَسْعَدَنِي الْبُكَاءُ وَذَاكَ فِيمَا أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ قَلِيلُ
فَقَدْ عَظُمَتْ مُصِيبَتُنَا وَجَلَّتْ عَشِيَّةَ قِيلَ قَدْ قُبِضَ الرَّسُولُ
فَقَدْنَا الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ فِينَا يَرُوحُ بِهِ وَيَغْدُو جِبْرَئِيلُ
ذَكَرُوا أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ حَجَّ، فَلَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ قَطَعَ الْحَالِقُ ثُؤْلُولًا فِي رَأْسِهِ، فَتَمَرَّضَ مِنْهُ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ بَعْدَ مَرْجِعِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَخَاهُ نَوْفَلًا تُوُفِّيَ قَبْلَهُ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، هُوَ مَالِكُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَمِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زَعُورَاءَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ

مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ نَقِيبًا، وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَمَاتَ سَنَةَ عِشْرِينَ. وَقِيلَ: إِحْدَى وَعِشْرِينَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ شَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَهُوَ الْأَكْثَرُ. وَقَدْ ذَكَرَهُ شَيْخُنَا هُنَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشِ بْنِ رِيَابٍ الْأَسَدِيَّةُ
مِنْ أَسَدِ خُزَيْمَةَ. أَوَّلُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَفَاةً، أُمُّهَا أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ، فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، زَيْنَبَ، وَتُكَنَّى أُمَّ الْحَكَمِ، وَهِيَ الَّتِي زَوَّجَهُ اللَّهُ بِهَا، وَكَانَتْ تَفْتَخِرُ بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهْلُوكُنَّ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا الْآيَةَ [ الْأَحْزَابِ: 37 ]. وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ مَوْلَاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَلَمَّا طَلَّقَهَا تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعٍ. وَهُوَ الْأَشْهَرُ. وَقِيلَ: سَنَةِ خَمْسٍ. وَفِي دُخُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَا نَزَلَ الْحِجَابُ كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ. وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِي عَائِشَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ فِي الْجَمَالِ وَالْحُظْوَةِ، وَكَانَتْ دَيِّنَةً وَرِعَةً عَابِدَةً كَثِيرَةَ

الصَّدَقَةِ. وَذَاكَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقَوْلِهِ:أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا - أَيْ بِالصَّدَقَةِ - وَكَانَتِ امْرَأَةً صَنَاعًا تَعْمَلُ بِيَدَيْهَا وَتَتَصَدَّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً قَطُّ خَيْرًا فِي الدِّينِ، وَأَتْقَى لِلَّهِ، وَأَصْدَقَ حَدِيثًا، وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ، وَأَعْظَمَ أَمَانَةً وَصَدَقَةً، مِنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ.
وَلَمْ تَحُجَّ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَا هِيَ وَلَا سَوْدَةُ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَزْوَاجِهِ: هَذِهِ ثُمَّ ظُهُورُ الْحُصْرِ. وَأَمَّا بَقِيَّةُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُنَّ يَخْرُجْنَ إِلَى الْحَجِّ، وَقَالَتْ زَيْنَبُ وَسَوْدَةُ: وَاللَّهِ لَا تُحَرِّكُنَا بَعْدَهُ دَابَّةٌ.
قَالُوا: وَبَعَثَ عُمَرُ إِلَيْهَا فَرْضَهَا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا فَتَصَدَّقَتْ بِهِ فِي أَقَارِبِهَا، ثُمَّ قَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا يُدْرِكُنِي عَطَاءُ عُمَرَ بَعْدَ هَذَا. فَمَاتَتْ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهَا عُمَرُ، وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ صُنِعَ لَهَا النَّعْشُ، وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ.
صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَمَّةُ الرَّسُولِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ أُمُّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَهِيَ شَقِيقَةُ حَمْزَةَ وَالْمُقَوَّمِ وَحَجْلَ، أُمُّهُمْ هَالَةُ بِنْتُ وُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ. لَا خِلَافَ فِي إِسْلَامِهَا، وَقَدْ حَضَرَتْ يَوْمَ أُحُدٍ وَوَجَدَتْ عَلَى أَخِيهَا

حَمْزَةَ وَجْدًا كَثِيرًا، وَقَتَلَتْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ جَاءَ فَجَعَلَ يُطِيفُ بِالْحِصْنِ الَّتِي هِيَ فِيهِ، وَهُوَ فَارِعٌ؛ حِصْنِ حَسَّانَ، فَقَالَتْ لِحَسَّانَ: انْزِلْ فَاقْتُلْهُ. فَأَبَى، فَنَزَلَتْ إِلَيْهِ فَقَتَلَتْهُ، ثُمَّ قَالَتْ: انْزِلْ فَاسْلُبْهُ فَلَوْلَا أَنَّهُ رَجُلٌ لَاسْتَلَبْتُهُ. فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. وَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ قَتَلَتْ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْلَامِ مَنْ عَدَاهَا مِنْ عَمَّاتِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقِيلَ: أَسْلَمَتْ أَرَوَى وَعَاتِكَةُ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ وَشَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ الْحَافِظُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُنَّ غَيْرُهَا.
وَقَدْ تَزَوَّجَتْ أَوَّلًا بِالْحَارِثِ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا الْعَوَّامَ بْنَ خُوَيْلِدٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ الزُّبَيْرَ وَعَبْدَ الْكَعْبَةِ. وَقِيلَ: تَزَوَّجَهَا الْعَوَّامُ بِكْرًا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. تُوُفِّيَتْ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ عِشْرِينَ، عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَنْ تُوُفِّيَ غَيْرَ هَؤُلَاءِ:
عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ الْعَقَبَتَيْنِ وَالْمُشَاهِدَ كُلَّهَا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. [ التَّوْبَةِ: 108 ] وَلَهُ رِوَايَاتٌ. تُوُفِّيَ هَذِهِ السَّنَةَ بِالْمَدِينَةِ.

بِشْرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَنَشٍ، يُلَقَّبُ بِالْجَارُودِ، أَسْلَمَ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ، وَكَانَ شَرِيفًا مُطَاعًا فِي عَبْدِ الْقَيْسِ، وَهُوَ الَّذِي شَهِدَ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَعَزَلَهُ عُمَرُ عَنِ الْيَمَنِ وَحَدَّهُ. قُتِلَ الْجَارُودُ شَهِيدًا.
أَبُو خِرَاشٍ خُوَيْلِدُ بْنُ مُرَّةَ الْهُذَلِيُّ، كَانَ شَاعِرًا مُجِيدًا مُخَضْرَمًا، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ، وَكَانَ إِذَا جَرَى سَبَقَ الْخَيْلَ. نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ فَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ
فَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ نَهَاوَنْدَ وَفَتْحُهَا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَهِيَ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا لَهَا شَأْنٌ رَفِيعٌ وَنَبَأٌ عَجِيبٌ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمُّونَهَا فَتْحَ الْفُتُوحِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ: كَانَتْ وَقْعَةُ نَهَاوَنْدَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ. وَقَالَ سَيْفٌ: كَانَتْ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنَّمَا سَاقَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ قِصَّتَهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَبِعْنَاهُ فِي ذَلِكَ، وَجَمَعْنَا كَلَامَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ سِيَاقًا وَاحِدًا، حَتَّى دَخَلَ سِيَاقُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ. قَالَ سَيْفٌ وَغَيْرُهُ: وَكَانَ الَّذِي هَاجَ هَذِهِ الْوَقْعَةَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا افْتَتَحُوا الْأَهْوَازَ، وَمَنَعُوا جَيْشَ الْعَلَاءِ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى دَارِ الْمَلِكِ الْقَدِيمِ مِنْ إِصْطَخْرَ مَعَ مَا حَازُوا مِنْ دَارِ مَمْلَكَتِهِمْ حَدِيثًا، وَهِيَ الْمَدَائِنُ وَأَخَذُوا تِلْكَ الْمَدَائِنَ وَالْأَقَالِيمَ وَالْكُوَرَ وَالْبُلْدَانَ الْكَثِيرَةَ، فَحَمُوا عِنْدَ ذَلِكَ، وَاسْتَجَاشَهُمْ يَزْدَجِرْدُ الَّذِي تَقَهْقَرَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، حَتَّى صَارَ إِلَى أَصْبَهَانَ مُبْعَدًا طَرِيدًا، لَكِنَّهُ فِي أُسْرَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَكَتَبَ إِلَى نَاحِيَةِ نَهَاوَنْدَ وَمَا وَالَاهَا مِنَ الْجِبَالِ وَالْبُلْدَانِ، فَتَجَمَّعُوا وَتَرَاسَلُوا حَتَّى كَمُلَ لَهُمْ مِنَ الْجُنُودِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لَهُمْ قَبْلَ

ذَلِكَ. فَبَعَثَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَثَارَ أَهْلُ الْكُوفَةِ عَلَى سَعْدٍ فِي غُبُونِ هَذَا الْحَالِ. فَشَكَوْهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى قَالُوا: لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي. وَكَانَ الَّذِي نَهَضَ بِهَذِهِ الشَّكْوَى رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْجَرَّاحُ بْنُ سِنَانٍ الْأَسَدِيُّ. فِي نَفَرٍ مَعَهُ، فَلَمَّا ذَهَبُوا إِلَى عُمَرَ فَشَكَوْهُ إِلَيْهِ. قَالَ لَهُمْ عُمَرُ: مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى شَرِّكُمْ نُهُوضُكُمْ فِي هَذَا الْحَالِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُسْتَعِدٌّ لِقِتَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا لَكُمْ، وَمَعَ هَذَا لَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَنْظُرَ فِي أَمْرِكُمْ. ثُمَّ بَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ - وَكَانَ رَسُولَ الْعُمَّالِ - فَلَمَّا قَدِمَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْكُوفَةَ طَافَ عَلَى الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ وَالْمَسَاجِدِ بِالْكُوفَةِ، فَكُلٌّ يُثْنِي عَلَى سَعْدٍ خَيْرًا إِلَّا نَاحِيَةَ الْجَرَّاحِ بْنِ سِنَانَ، فَإِنَّهُمْ سَكَتُوا، فَلَمْ يَذُمُّوا وَلَمْ يَشْكُرُوا، حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو سَعْدَةَ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ. فَقَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا، فَإِنَّ سَعْدًا لَا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يَعْدِلُ فِي الرَّعِيَّةِ، وَلَا يَغْزُو فِي السَّرِيَّةِ. فَدَعَا عَلَيْهِ سَعْدٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ قَالَهَا كَذِبًا وَرِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَعْمِ بَصَرَهُ، وَأَكْثِرْ عِيَالَهُ، وَعَرِّضْهُ لِمُضِلَّاتِ الْفِتَنِ. فَعَمِيَ وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ عَشْرُ بَنَاتٍ، وَكَانَ يَسْمَعُ بِالْمَرْأَةِ فَلَا يَزَالُ حَتَّى يَأْتِيَهَا فَيَجُسَّهَا، فَإِذَا عُثِرَ عَلَيْهِ قَالَ: دَعْوَةُ سَعْدٍ الرَّجُلِ الْمُبَارَكِ. ثُمَّ دَعَا سَعْدٌ عَلَى الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابِهِ، فَكُلٌّ أَصَابَتْهُ قَارِعَةٌ فِي جَسَدِهِ، وَمُصِيبَةٌ فِي مَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَاسْتَنْفَرَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَهْلَ الْكُوفَةِ لِغَزْوِ أَهْلِ نَهَاوَنْدَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. ثُمَّ سَارَ سَعْدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَالْجَرَّاحُ وَأَصْحَابُهُ

حَتَّى جَاءُوا عُمَرَ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ: كَيْفَ يُصَلِّي ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يَطُولُ فِي الْأُولَيَيْنِ وَيُخَفِّفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَمَا آلُو مَا اقْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ. وَقَالَ سَعْدٌ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ: لَقَدْ أَسْلَمْتُ خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَلَقَدْ كُنَّا وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الْحُبْلَةِ حَتَّى تَقَرَّحَتْ أَشْدَاقُنَا، وَإِنِّي لَأَوَّلُ رَجُلٍ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَقَدْ جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ أُحُدٍ أَبَوَيْهِ وَمَا جَمَعَهُمَا لِأَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ يَقُولُونَ: لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي. وَفِي رِوَايَةٍ: تُعَزِّرُنِي عَلَى الْإِسْلَامِ، لَقَدْ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ عَمَلِي. ثُمَّ قَالَ عُمَرُ لِسَعْدٍ: مَنِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَى الْكُوفَةِ ؟ فَقَالَ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ. فَأَقَرَّهُ عُمَرُ عَلَى نِيَابَتِهِ الْكُوفَةَ - وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا مِنْ أَشْرَافِ الصَّحَابَةِ، حَلِيفًا لِبَنِي الْحُبْلَى مِنَ الْأَنْصَارِ - وَاسْتَمَرَّ سَعْدٌ مَعْزُولًا مِنْ غَيْرِ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ، وَتَهَدَّدَ أُولَئِكَ النَّفَرَ، وَكَادَ يُوقِعُ بِهِمْ بَأْسًا، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ أَنْ لَا يَشْكُوَ أَحَدٌ أَمِيرًا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ اجْتَمَعُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ بِأَرْضِ نَهَاوَنْدَ حَتَّى اجْتَمَعَ مِنْهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ وَخَمْسُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَعَلَيْهِمُ الْفَيْرُزَانُ، وَيُقَالُ: بُنْدَارٌ. وَيُقَالُ: ذُو الْحَاجِبِ. وَتَذَامَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا الَّذِي جَاءَ الْعَرَبَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِبِلَادِنَا، وَلَا أَبُو بَكْرٍ الَّذِي قَامَ بَعْدَهُ تَعَرَّضُ لَنَا فِي دَارِ مُلْكِنَا، وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ هَذَا لَمَّا طَالَ مُلْكُهُ انْتَهَكَ حُرْمَتَنَا وَأَخَذَ بِلَادَنَا، وَلَمْ يَكْفِهِ ذَلِكَ حَتَّى أَغْزَانَا فِي عُقْرِ دَارِنَا، وَأَخَذَ بَيْتَ الْمَمْلَكَةِ، وَلَيْسَ بِمُنْتَهٍ حَتَّى يُخْرِجَكُمْ مِنْ

بِلَادِكُمْ. فَتَعَاهَدُوا وَتَعَاقَدُوا عَلَى أَنْ يَقْصِدُوا الْبَصْرَةَ وَالْكُوفَةَ ثُمَّ يَشْغَلُوا عُمَرَ عَنْ بِلَادِهِ، وَتَوَاثَقُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَكَتَبُوا بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا. فَلَمَّا كَتَبَ سَعْدٌ بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ - وَكَانَ عَزَلَ سَعْدًا فِي غُبُونِ ذَلِكَ - شَافَهَ سَعْدٌ عُمَرَ بِمَا تَمَالَئُوا عَلَيْهِ وَقَصَدُوا إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ مِنْهُمْ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ أَلْفًا. وَجَاءَ كِتَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى عُمَرَ مَعَ قَرِيبِ بْنِ ظَفَرٍ الْعَبْدِيِّ، بِأَنَّهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا، وَهُمْ مُتَحَرِّقُونَ مُتَذَامِرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَأَنَّ الْمَصْلَحَةَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ نَقْصِدَهُمْ فَنُعَالِجَهُمْ عَمَّا هَمُّوا بِهِ وَعَزَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمَسِيرِ إِلَى بِلَادِنَا. فَقَالَ عُمَرُ لِحَامِلِ الْكِتَابِ: مَا اسْمُكَ ؟ قَالَ: قَرِيبٌ. قَالَ: ابْنُ مَنْ ؟ قَالَ: ابْنُ ظَفَرٍ. فَتَفَاءَلَ عُمَرُ بِذَلِكَ، وَقَالَ: ظَفَرٌ قَرِيبٌ. ثُمَّ أَمَرَ فَنُودِيَ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ لِذَلِكَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَتَفَاءَلَ عُمَرُ أَيْضًا بِسَعْدٍ، فَصَعِدَ عُمَرُ الْمِنْبَرَ حَتَّى اجْتَمَعَ النَّاسُ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا يَوْمٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَيَّامِ، أَلَا وَإِنِّي قَدْ هَمَمْتُ بِأَمْرٍ فَاسْمَعُوا وَأَجِيبُوا وَأَوْجِزُوا، وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَسِيرَ بِمَنْ قِبَلِي حَتَّى أَنْزِلَ مَنْزِلًا وَسَطًا بَيْنَ هَذَيْنَ الْمِصْرَيْنِ فَأَسْتَنْفِرَ النَّاسَ، ثُمَّ أَكُونَ لَهُمْ رِدْءًا حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. فَقَامَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ، فَتَكَلَّمَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِانْفِرَادِهِ فَأَحْسَنَ وَأَجَادَ، وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَسِيرَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَلَكِنْ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ

وَيَحْضُرُهُمْ بِرَأْيِهِ وَدُعَائِهِ. وَكَانَ مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنْ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ نَصْرُهُ وَلَا خِذْلَانُهُ بِكَثْرَةٍ وَلَا قِلَّةٍ، هُوَ دِينُهُ الَّذِي أَظْهَرَ، وَجُنْدُهُ الَّذِي أَعَزَّ، وَأَمَدَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ، حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ، فَنَحْنُ عَلَى مَوْعُودٍ مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهِ، وَنَاصِرٌ جُنْدَهُ، وَمَكَانُكَ مِنْهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَكَانُ النِّظَامِ مِنَ الْخَرَزِ يَجْمَعُهُ وَيُمْسِكُهُ، فَإِذَا انْحَلَّ تَفَرَّقَ مَا فِيهِ وَذَهَبَ، ثُمَّ لَمْ يَجْتَمِعْ بِحَذَافِيرِهِ أَبَدًا، وَالْعَرَبُ الْيَوْمَ وَإِنْ كَانُوا قَلِيلًا فَهُمْ كَثِيرٌ عَزِيزٌ بِالْإِسْلَامِ، فَأَقِمْ مَكَانَكَ وَاكْتُبْ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ فَهُمْ أَعْلَامُ الْعَرَبِ وَرُؤَسَاؤُهُمْ، فَلْيَذْهَبْ مِنْهُمُ الثُّلُثَانِ وَيُقِيمُ الثُّلُثُ، وَاكْتُبْ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَمُدُّونَهُمْ أَيْضًا. وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ أَشَارَ فِي كَلَامِهِ بِأَنْ يَمُدَّهُمْ فِي جُيُوشٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ وَالشَّامِ. وَوَافَقَ عُمَرُ عَلَى الذَّهَابِ بِنَفْسِهِ إِلَى مَا بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ. فَرَدَّ عَلِيٌّ عَلَى عُثْمَانَ فِي مُوَافَقَتِهِ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى مَا بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَرَدَّ رَأْيَ عُثْمَانَ فِيمَا أَشَارَ بِهِ مِنِ اسْتِمْدَادِ أَهْلِ الشَّامِ خَوْفًا عَلَى بِلَادِهِمْ - إِذَا قَلَّ جُيُوشُهَا - مِنَ الرُّومِ، وَمِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ خَوْفًا عَلَى بِلَادِهِمْ مِنَ الْحَبَشَةِ. فَأَعْجَبَ عُمَرَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَسُرَّ بِهِ - وَكَانَ عُمَرُ إِذَا اسْتَشَارَ أَحَدًا لَا يُبْرِمُ أَمْرًا حَتَّى يُشَاوِرَ الْعَبَّاسَ - فَلَمَّا أَعْجَبَهُ كَلَامُ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، عَرَضَهُ عَلَى الْعَبَّاسِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ خَفِّضْ عَلَيْكَ، فَإِنَّمَا اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ الْفُرْسُ لِنِقْمَةٍ. يَعْنِي: تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ عُمَرُ:

أَشِيرُوا عَلَيَّ بِمَنْ أُوَلِّيهِ أَمْرَ الْحَرْبِ، وَلْيَكُنْ عِرَاقِيًّا. فَقَالُوا: أَنْتَ أَبْصَرُ بِجُنْدِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَأُوَلِّيَنَّ رَجُلًا يَكُونُ أَوَّلَ الْأَسِنَّةِ إِذَا لَقِيَهَا غَدًا. قَالُوا: مَنْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ: النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ. فَقَالُوا: هُوَ لَهَا. وَكَانَ النُّعْمَانُ قَدْ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ وَهُوَ نَائِبٌ عَلَى كَسْكَرَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ عَنْهَا وَيُوَلِّيَهُ قِتَالَ أَهْلِ نَهَاوَنْدَ، فَلِهَذَا أَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَعَيَّنَهُ لَهُ. ثُمَّ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى حُذَيْفَةَ أَنْ يَسِيرَ مِنَ الْكُوفَةِ بِجُنُودٍ مِنْهَا، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى أَنْ يَسِيرَ بِجُنُودِ الْبَصْرَةِ، وَكَتَبَ إِلَى النُّعْمَانِ - وَكَانَ بِالْبَصْرَةِ - أَنْ يَسِيرَ بِمَنْ هُنَاكَ مِنَ الْجُنُودِ إِلَى نَهَاوَنْدَ، وَإِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ فَكُلُّ أَمِيرٍ عَلَى جَيْشِهِ، وَالْأَمِيرُ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ، فَإِذَا قُتِلَ فَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، فَإِذَا قُتِلَ فَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِذَا قُتِلَ فَقَيْسُ بْنُ مَكْشُوحٍ، فَإِنْ قُتِلَ قَيْسٌ فَفُلَانٌ ثُمَّ فُلَانٌ. حَتَّى عَدَّ سَبْعَةً، أَحَدُهُمُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ. وَقِيلَ: لَمْ يُسَمَّ فِيهِمْ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَصُورَةُ الْكِتَابِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَى النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ جُمُوعًا مِنَ الْأَعَاجِمِ كَثِيرَةً قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ بِمَدِينَةِ نَهَاوَنْدَ، فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَسِرْ بِأَمْرِ اللَّهِ وَبِعَوْنِ اللَّهِ وَبِنَصْرِ اللَّهِ، وَبِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُوطِئْهُمْ وَعْرًا فَتُؤْذِيَهُمْ، وَلَا تَمْنَعْهُمْ حَقَّهُمْ فَتُكَفِّرَهُمْ، وَلَا تُدْخِلْهُمْ غَيْضَةً، فَإِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مِائَةِ

أَلْفِ دِينَارٍ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ، فَسِرْ فِي وَجْهِكَ ذَلِكَ حَتَّى تَأْتِيَ مَاهَ، فَإِنِّي قَدْ كَتَبْتُ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ أَنْ يُوَافُوكَ بِهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَ إِلَيْكَ جُنُودُكَ فَسِرْ إِلَى الْفَيْرُزَانِ وَمَنْ يَجْتَمِعُ مَعَهُ مِنَ الْأَعَاجِمِ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَنْصِرُوا اللَّهَ، وَأَكْثِرُوا مِنْ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى نَائِبِ الْكُوفَةِ - عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - أَنْ يُعَيِّنَ جَيْشًا وَيَبْعَثَهُمْ إِلَى نَهَاوَنْدَ، وَلْيَكُنِ الْأَمِيرَ عَلَيْهِمْ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ، فَإِنْ قُتِلَ النُّعْمَانُ فَحُذَيْفَةُ، فَإِنْ قُتِلَ فَنُعَيْمُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَوَلِّ السَّائِبَ بْنَ الْأَقْرَعِ قَسْمَ الْغَنَائِمِ. فَسَارَ حُذَيْفَةُ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ نَحْوَ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ لِيُوَافُوهُ بِمَاهَ، وَسَارَ مَعَ حُذَيْفَةَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْعِرَاقِ، وَقَدْ أَرْصَدَ فِي كُلِّ كُورَةٍ مَا يَكْفِيهَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَجَعَلَ الْحَرَسَ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَاحْتَاطُوا احْتِيَاطًا عَظِيمًا، ثُمَّ انْتَهَوْا إِلَى النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ حَيْثُ اتَّعَدُوا، فَدَفَعَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ إِلَى النُّعْمَانِ كِتَابَ عُمَرَ، وَفِيهِ الْأَمْرُ لَهُ بِمَا يَعْتَمِدُهُ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ. فَكَمُلَ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ. فِيمَا رَوَاهُ سَيْفٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، فِيهِمْ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ وَرُءُوسِ الْعَرَبِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ؛ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَعَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ الزُّبَيْدِيُّ، وَطُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيُّ، وَقَيْسُ بْنُ

مَكْشُوحٍ الْمُرَادِيُّ. فَسَارَ النَّاسُ نَحْوَ نَهَاوَنْدَ، وَبَعَثَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ الْأَمِيرُ بَيْنَ يَدَيْهِ طَلِيعَةً ثَلَاثَةً؛ وَهُمْ: طُلَيْحَةُ، وَعَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ الزُّبَيْدِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ أَبِي سَلْمَى، وَيُقَالُ لَهُ: عَمْرُو بْنُ ثُبَيٍّ أَيْضًا، لِيَكْشِفُوا لَهُ خَبَرَ الْقَوْمِ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ. فَسَارَتِ الطَّلِيعَةُ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَرَجَعَ عَمْرُو بْنُ ثُبَيٍّ، فَقِيلَ لَهُ: مَا رَجَعَكَ ؟ فَقَالَ: كُنْتُ فِي أَرْضِ الْعَجَمِ، وَقَتَلَتْ أَرْضٌ جَاهِلَهَا، وَقَتَلَ أَرْضًا عَالِمُهَا. ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَهُ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ، وَقَالَ: لَمْ نَرَ أَحَدًا، وَخِفْتُ أَنْ يُؤْخَذَ عَلَيْنَا بِالطَّرِيقِ. وَنَفَذَ طُلَيْحَةُ وَلَمْ يَحْفِلْ بِرُجُوعِهِمَا، فَسَارَ بَعْدَ ذَلِكَ نَحْوًا مِنْ بِضْعَةَ عَشَرَ فَرْسَخًا حَتَّى انْتَهَى إِلَى نَهَاوَنْدَ وَدَخَلَ فِي الْعَجَمِ وَعَلِمَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ مَا أَحَبَّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النُّعْمَانِ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَهَاوَنْدَ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ.
فَسَارَ النُّعْمَانُ عَلَى تَعْبِئَتِهِ وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ نُعَيْمُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَعَلَى الْمُجَنَّبَتَيْنِ حُذَيْفَةُ وَسُوَيْدُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَعَلَى الْمُجَرَّدَةِ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَلَى السَّاقَةِ مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْفُرْسِ وَعَلَيْهِمُ الْفَيْرُزَانُ، وَمَعَهُ مِنَ الْجَيْشِ كُلُّ مَنْ غَابَ عَنِ الْقَادِسِيَّةِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُوَ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا. فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ كَبَّرَ النُّعْمَانُ وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، فَزُلْزِلَتِ الْأَعَاجِمُ وَرُعِبُوا مِنْ ذَلِكَ رُعْبًا شَدِيدًا، ثُمَّ أَمَرَ النُّعْمَانُ بِحَطِّ الْأَثْقَالِ وَهُوَ وَاقِفٌ، فَحَطَّ النَّاسُ أَثْقَالَهُمْ، وَتَرَكُوا رِحَالَهُمْ، وَضَرَبُوا خِيَامَهُمْ وَقُبَابَهُمْ، وَضُرِبَتْ خَيْمَةٌ

لِلنُّعْمَانِ عَظِيمَةٌ، وَكَانَ الَّذِينَ ضَرَبُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ أَشْرَافِ الْجَيْشِ؛ وَهُمْ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَعُتْبَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَبَشِيرُ بْنُ الْخَصَاصِيَةِ، وَحَنْظَلَةُ الْكَاتِبُ، وَابْنُ الْهَوْبَرِ، وَرِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ، وَعَامِرُ بْنُ مَطَرٍ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحِمْيَرِيُّ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحِمْيَرِيُّ، وَالْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَوَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، فَلَمْ يُرَ بِالْعِرَاقِ خَيْمَةٌ عَظِيمَةٌ أَعْظَمَ مِنْ بِنَاءِ هَذِهِ الْخَيْمَةِ. وَحِينَ حَطُّوا الْأَثْقَالَ أَمَرَ النُّعْمَانُ بِالْقِتَالِ، وَكَانَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءَ، فَاقْتَتَلُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالَّذِي بَعْدَهُ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ انْحَجَزُوا فِي حِصْنِهِمْ، وَحَاصَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَأَقَامُوا عَلَيْهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَالْأَعَاجِمُ يَخْرُجُونَ إِذَا أَرَادُوا وَيَرْجِعُونَ إِلَى حُصُونِهِمْ إِذَا أَرَادُوا. وَقَدْ بَعَثَ أَمِيرُ الْفُرْسِ يَطْلُبُ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيُكَلِّمَهُ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَذَكَرَ مِنْ عَظَمَةِ مَا رَآهُ عَلَيْهِ مِنْ لُبْسِهِ وَمَجْلِسِهِ، وَفِيمَا خَاطَبَهُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ فِي احْتِقَارِ الْعَرَبِ وَاسْتِهَانَتِهِ بِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا أَطْوَلَ النَّاسِ جُوعًا، وَأَقَلَّهُمْ دَارًا وَقَدْرًا، وَقَالَ: مَا يَمْنَعُ هَؤُلَاءِ الْأَسَاوِرَةِ حَوْلِي أَنْ يَنْتَظِمُوكُمْ بِالنُّشَّابِ إِلَّا تَنَجُّسًا مِنْ جِيَفِكُمْ، فَإِنْ تَذْهَبُوا نُخَلِّ عَنْكُمْ، وَإِنْ تَأْبَوْا نُزِرْكُمْ مُصَارِعَكُمْ. قَالَ: فَتَشَهَّدْتُ وَحَمِدْتُ اللَّهَ، وَقُلْتُ: لَقَدْ كُنَّا أَسْوَأَ حَالًا مِمَّا ذَكَرْتَ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ فَوَعَدَنَا النَّصْرَ فِي

الدُّنْيَا، وَالْجَنَّةَ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا زِلْنَا نَتَعَرَّفُ مِنْ رَبِّنَا النَّصْرَ مُنْذُ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ إِلَيْنَا، وَقَدْ جِئْنَاكُمْ فِي بِلَادِكُمْ، وَإِنَّا لَنْ نَرْجِعَ إِلَى ذَلِكَ الشَّقَاءِ أَبَدًا حَتَّى نَغْلِبَكُمْ عَلَى بِلَادِكُمْ وَمَا فِي أَيْدِيكُمْ، أَوْ نُقْتَلَ بِأَرْضِكُمْ. فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ، إِنَّ الْأَعْوَرَ لَقَدْ صَدَقَكُمْ مَا فِي نَفْسِهِ.
فَلَمَّا طَالَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ هَذَا الْحَالُ وَاسْتَمَرَّ، جَمَعَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ أَهْلَ الرَّأْيِ مِنَ الْجَيْشِ، وَاشْتَوَرُوا فِي ذَلِكَ، وَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِمْ حَتَّى يَتَوَاجَهُوا هُمْ وَالْمُشْرِكُونَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ. فَتَكَلَّمَ عَمْرُو بْنُ أَبِي سُلْمَى أَوَّلًا - وَهُوَ أَسُنُّ مَنْ كَانَ هُنَاكَ - فَقَالَ: إِنَّ بَقَاءَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ أَضَرُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الَّذِي يَطْلُبُهُ مِنْهُمْ وَأَبْقَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَرَدَّ الْجَمِيعُ عَلَيْهِ وَقَالُوا: إِنَّا لَعَلَى يَقِينٍ مِنْ إِظْهَارِ دِينِنَا، وَإِنْجَازِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَنَا. وَتَكَلَّمَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ فَقَالَ: نَاهِدْهُمْ وَكَاثِرْهُمْ وَلَا تَخَفْهُمْ. فَرَدُّوا جَمِيعًا عَلَيْهِ وَقَالُوا: إِنَّمَا يُنَاطِحُ بِنَا الْجُدْرَانَ، وَالْجُدْرَانُ أَعْوَانٌ لَهُمْ عَلَيْنَا. وَتَكَلَّمَ طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَمْ يُصِيبَا، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَبْعَثَ سَرِيَّةً فَتَحْدِقَ بِهِمْ وَيُنَاوِشُوهُمْ بِالْقِتَالِ وَيُحْمِشُوهُمْ، فَإِذَا بَرَزُوا إِلَيْهِمْ فَلْيَفِرُّوا إِلَيْنَا هِرَابًا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَإِذَا اسْتَطْرَدُوا وَرَاءَهُمْ وَانْتَهَوْا إِلَيْنَا، عَزَمْنَا أَيْضًا عَلَى الْفِرَارِ كُلُّنَا، فَإِنَّهُمْ حِينَئِذٍ لَا يَشُكُّونَ فِي الْهَزِيمَةِ فَيَخْرُجُونَ مِنْ حُصُونِهِمْ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، فَإِذَا تَكَامَلَ خُرُوجُهُمْ رَجَعْنَا إِلَيْهِمْ فَجَالَدْنَاهُمْ

حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَنَا. فَاسْتَجَادَ النَّاسُ هَذَا الرَّأْيَ.
وَأَمَّرَ النُّعْمَانُ عَلَى الْمُجَرَّدَةِ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْبَلَدِ فَيُحَاصِرُوهُمْ وَحْدَهُمْ وَيَهْرُبُوا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِذَا بَرَزُوا إِلَيْهِمْ. فَفَعَلَ الْقَعْقَاعُ ذَلِكَ، فَلَمَّا بَرَزُوا مِنْ حُصُونِهِمْ نَكَصَ الْقَعْقَاعُ بِمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ نَكَصَ، ثُمَّ نَكَصَ، فَاغْتَنَمَهَا الْأَعَاجِمُ، فَفَعَلُوا مَا ظَنَّ طُلَيْحَةُ، وَقَالُوا: هِيَ هِيَ. فَخَرَجُوا بِأَجْمَعِهِمْ وَلَمْ يَبْقَ بِالْبَلَدِ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ إِلَّا مَنْ يَحْفَظُ لَهُمُ الْأَبْوَابَ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْجَيْشِ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ عَلَى تَعْبِئَتِهِ، وَذَلِكَ فِي صَدْرِ نَهَارِ جُمُعَةٍ، فَعَزَمَ النَّاسُ عَلَى مُصَادَمَتِهِمْ، فَنَهَاهُمُ النُّعْمَانُ وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الْأَرْوَاحُ، وَيَنْزِلَ النَّصْرُ، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَفْعَلُ. وَأَلَحَّ النَّاسُ عَلَى النُّعْمَانِ فِي الْحَمْلَةِ، فَلَمْ يَفْعَلْ - وَكَانَ رَجُلًا ثَابِتًا - فَلَمَّا كَانَ الزَّوَالُ، صَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ رَكِبَ بِرْذَوْنًا لَهُ أَحَوَى قَرِيبًا مِنَ الْأَرْضِ، فَجَعَلَ يَقِفُ عَلَى كُلِّ رَايَةٍ وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الصَّبْرِ وَيَأْمُرُهُمْ بِالثَّبَاتِ، وَيُقَدِّمُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ الْأُولَى فَيَتَأَهَّبُ النَّاسُ لِلْحَمْلَةِ، وَيُكَبِّرُ الثَّانِيَةَ فَلَا يَبْقَى لِأَحَدٍ أُهْبَةٌ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ وَمَعَهَا الْحَمْلَةُ الصَّادِقَةُ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَوْقِفِهِ، وَتَعَبَّتِ الْفُرْسُ تَعْبِئَةً عَظِيمَةً، وَاصْطَفُّوا صُفُوفًا هَائِلَةً، فِي عَدَدٍ وَعُدَدٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، وَقَدْ تَغَلْغَلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، وَأَلْقَوْا حَسَكَ الْحَدِيدِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ حَتَّى لَا يُمْكِنَهُمُ الْهَرَبُ وَلَا الْفِرَارُ وَلَا التَّحَيُّزُ. ثُمَّ إِنَّ النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَبَّرَ الْأُولَى وَهَزَّ الرَّايَةَ فَتَأَهَّبَ النَّاسُ لِلْحَمْلَةِ، ثُمَّ كَبَّرَ الثَّانِيَةَ وَهَزَّ الرَّايَةَ فَتَأَهَّبُوا أَيْضًا، ثُمَّ كَبَّرَ الثَّالِثَةَ وَحَمَلَ وَحَمَلَ النَّاسُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَجَعَلَتْ رَايَةُ النُّعْمَانِ تَنْقَضُّ نَحْوَ الْفُرْسِ كَانْقِضَاضِ الْعُقَابِ عَلَى

الْفَرِيسَةِ حَتَّى تُصَافَحُوا بِالسُّيُوفِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ فِي مَوْقِفٍ مِنَ الْمَوَاقِفِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَا سَمِعَ السَّامِعُونَ بِوَقْعَةٍ مِثْلِهَا، قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَا بَيْنَ الزَّوَالِ إِلَى الظَّلَامِ مِنَ الْقَتْلَى مَا طَبَّقَ وَجْهَ الْأَرْضِ دَمًا، بِحَيْثُ إِنَّ الدَّوَابَّ كَانَتْ تَطْبَعُ فِيهِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ الْأَمِيرَ النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ زَلَقَ بِهِ حِصَانُهُ فِي ذَلِكَ الدَّمِ، فَوَقَعَ وَجَاءَهُ سَهْمٌ فِي خَاصِرَتِهِ فَقَتَلَهُ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ أَحَدٌ سِوَى أَخِيهِ سُوَيْدٍ، وَقِيلَ: نُعَيْمٍ. وَقِيلَ: غَطَّاهُ بِثَوْبِهِ، وَأَخْفَى مَوْتَهُ، وَدَفَعَ الرَّايَةَ إِلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ. فَأَقَامَ حُذَيْفَةُ أَخَاهُ نُعَيْمًا مَكَانَهُ، وَأَمَرَ بِكَتْمِ مَوْتِهِ حَتَّى يَنْفَصِلَ الْحَالُ، لِئَلَّا يَنْهَزِمَ النَّاسُ. فَلَمَّا أَظْلَمَ اللَّيْلُ انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ مُدْبِرِينَ وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ - وَكَانَ الْكُفَّارُ قَدْ قَرَنُوا مِنْهُمْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا بِالسَّلَاسِلِ وَحَفَرُوا حَوْلَهُمْ خَنْدَقًا، فَلَمَّا انْهَزَمُوا وَقَعُوا فِي الْخَنْدَقِ وَفِي تِلْكَ الْأَوْدِيَةِ نَحْوَ مِائَةِ أَلْفٍ - وَجَعَلُوا يَتَسَاقَطُونَ فِي أَوْدِيَةِ بِلَادِهِمْ، فَهَلَكَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ نَحْوَ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، سِوَى مَنْ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ. وَكَانَ الْفَيْرُزَانُ أَمِيرُهُمْ قَدْ صُرِعَ فِي الْمَعْرَكَةِ فَانْفَلَتَ وَانْهَزَمَ، وَاتَّبَعَهُ نُعَيْمُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَقَدَّمَ الْقَعْقَاعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَصَدَ الْفَيْرُزَانُ هَمَذَانَ، فَلَحِقَهُ الْقَعْقَاعُ وَأَدْرَكَهُ عِنْدَ ثَنِيَّةِ هَمَذَانَ، وَقَدْ أَقْبَلُ مِنْهَا بِغَالٌ كَثِيرٌ وَحُمُرٌ تَحْمِلُ عَسَلًا، فَلَمْ يَسْتَطِعِ الْفَيْرُزَانُ صُعُودَهَا مِنْهُمْ، وَذَلِكَ لِحِينِهِ فَتَرَجَّلَ وَتَوَقَّلَ فِي الْجَبَلِ فَأَتْبَعَهُ الْقَعْقَاعُ حَتَّى قَتَلَهُ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ: إِنَّ لِلَّهِ جُنُودًا مِنْ عَسَلٍ. ثُمَّ غَنِمُوا ذَلِكَ الْعَسَلَ وَمَا خَالَطَهُ مِنَ الْأَحْمَالِ. وَسُمِّيَتْ تِلْكَ الثَّنِيَّةُ ثَنِيَّةَ الْعَسَلِ.

ثُمَّ لَحِقَ الْقَعْقَاعُ بَقِيَّةَ الْمُنْهَزِمِينَ مِنْهُمْ إِلَى هَمَذَانَ، وَحَاصَرَهَا وَحَوَى مَا حَوْلَهَا، فَنَزَلَ إِلَيْهِ صَاحِبُهَا - وَهُوَ خُسْرَوْ شُنُومُ - فَصَالَحَهُ عَلَيْهَا. ثُمَّ رَجَعَ الْقَعْقَاعُ إِلَى حُذَيْفَةَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ دَخَلُوا بَعْدَ الْوَقْعَةِ نَهَاوَنْدَ عَنْوَةً، وَقَدْ جَمَعُوا الْأَسْلَابَ وَالْمَغَانِمَ إِلَى صَاحِبِ الْأَقْبَاضِ وَهُوَ السَّائِبُ بْنُ الْأَقْرَعِ. وَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُ مَاهَ بِخَبَرِ أَهْلِ هَمَذَانَ، بَعَثُوا إِلَى حُذَيْفَةَ وَأَخَذُوا لَهُمْ مِنْهُ الْأَمَانَ. وَجَاءَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْهِرْبَذُ - وَهُوَ صَاحِبُ نَارِهِمْ - فَسَأَلَ مِنْ حُذَيْفَةَ الْأَمَانَ وَيَدْفَعُ إِلَيْهِمْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ لِكِسْرَى ادَّخَرَهَا لِنَوَائِبِ الزَّمَانِ، فَأَمَّنَهُ حُذَيْفَةُ، وَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِسَفَطَيْنِ مَمْلُوءَتَيْنِ جَوْهَرًا ثَمِينًا لَا يُقَوَّمُ، غَيْرَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعْبَئُوا بِهِ، وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى بَعْثِهِ لِعُمَرَ خَاصَّةً، وَأَرْسَلُوهُ صُحْبَةَ الْأَخْمَاسِ وَالسَّبْيِ، صُحْبَةَ السَّائِبِ بْنِ الْأَقْرَعِ، وَأَرْسَلَ قَبْلَهُ بِالْفَتْحِ مَعَ طَرِيفِ بْنِ سَهْمٍ، ثُمَّ قَسَمَ حُذَيْفَةُ بَقِيَّةَ الْغَنِيمَةِ فِي الْغَانِمِينَ، وَرَضَخَ وَنَفَلَ لِذَوِي النَّجَدَاتِ، وَقَسَمَ لِمَنْ كَانَ قَدْ أَرْصَدَ مِنَ الْجُيُوشِ لِحِفْظِ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَمَنْ كَانَ رِدْءًا لَهُمْ، وَمَنْسُوبًا إِلَيْهِمْ.
وَأَمَّا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ كَانَ يَدْعُو اللَّهَ لَيْلًا وَنَهَارًا لَهُمْ، دُعَاءَ الْحَوَامِلِ الْمُقْرِبَاتِ، وَابْتِهَالَ ذَوِي الضَّرُورَاتِ، وَقَدِ اسْتَبْطَأَ الْخَبَرَ عَنْهُمْ، فَبَيْنَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ظَاهِرَ الْمَدِينَةِ إِذَا هُوَ بِرَاكِبٍ، فَسَأَلَهُ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلَ ؟ فَقَالَ: مِنْ نَهَاوَنْدَ. فَقَالَ: مَا فَعَلَ النَّاسُ ؟ قَالَ: فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَقُتِلَ الْأَمِيرُ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ غَنِيمَةً

عَظِيمَةً، أَصَابَ الْفَارِسُ سِتَّةَ آلَافٍ، وَالرَّاجِلُ أَلْفَانِ. ثُمَّ فَاتَهُ وَقَدِمَ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْمَدِينَةَ، فَأَخْبَرَهُ النَّاسُ وَشَاعَ الْخَبَرُ حَتَّى بَلَغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَطَلَبَهُ فَسَأَلَهُ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ، فَقَالَ: رَاكِبٌ. فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَجِئْنِي، وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ، وَهُوَ بَرِيدُهُمْ، وَاسْمُهُ عُثَيْمٌ.
ثُمَّ قَدِمَ طَرِيفٌ بِالْفَتْحِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ، وَلَيْسَ مَعَهُ سِوَى الْفَتْحِ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَمَّنْ قَتَلَ النُّعْمَانَ فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ عِلْمٌ، حَتَّى قَدِمَ الَّذِينَ مَعَهُمُ الْأَخْمَاسُ فَأَخْبَرُوا بِالْأَمْرِ عَلَى جَلِيَّتِهِ، فَإِذَا ذَلِكَ الْجِنِّيُّ قَدْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَرَجَعَ سَرِيعًا إِلَى قَوْمِهِ نَذِيرًا. وَلَمَّا أُخْبِرَ عُمَرَ بِمَقْتَلِ النُّعْمَانِ بَكَى وَسَأَلَ السَّائِبَ عَمَّنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ. لِأَعْيَانِ النَّاسِ وَأَشْرَافِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: وَآخَرُونَ مِنْ أَفْنَادِ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَجَعَلَ عُمَرُ يَبْكِي وَيَقُولُ: وَمَا ضَرَّهُمْ أَنْ لَا يَعْرِفَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ! لَكِنَّ اللَّهَ يَعْرِفُهُمْ وَقَدْ أَكْرَمَهُمْ بِالشَّهَادَةِ، وَمَا يَصْنَعُونَ بِمَعْرِفَةِ عُمَرَ. ثُمَّ أَمَرَ بِقِسْمَةِ الْخُمْسِ عَلَى عَادَتِهِ، وَحُمِلَتْ ذَانِكَ السَّفَطَانِ إِلَى مَنْزِلِ عُمَرَ، وَرَجَعَتِ الرُّسُلُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ عُمَرُ طَلَبَهُمْ فَلَمْ يَجِدْهُمْ، فَأَرْسَلَ فِي إِثْرِهِمُ الْبُرُدَ فَمَا لَحِقَهُمُ الْبَرِيدُ إِلَّا بِالْكُوفَةِ.
قَالَ السَّائِبُ بْنُ الْأَقْرَعِ: فَلَمَّا أَنَخْتُ بَعِيرِي بِالْكُوفَةِ، أَنَاخَ الْبَرِيدُ بَعِيرَهُ عَلَى عُرْقُوبِ بَعِيرِي، وَقَالَ: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقُلْتُ: لِمَاذَا ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَرَجَعْنَا عَلَى إِثْرِنَا حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ. قَالَ: مَالِي وَلَكَ يَا ابْنَ أُمِّ السَّائِبِ، بَلْ مَا لِابْنِ أُمِّ السَّائِبِ وَمَالِي. قَالَ: فَقُلْتُ: وَمَا ذَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ:

وَيْحَكَ، وَاللَّهِ إِنْ هُوَ إِلَّا أَنْ نِمْتُ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي خَرَجْتَ فِيهَا، فَبَاتَتْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ تَسْحَبُنِي إِلَى ذَيْنِكَ السَّفَطَيْنِ وَهُمَا يَشْتَعِلَانِ نَارًا، يَقُولُونَ: لَنَكْوِيَنَّكَ بِهِمَا. فَأَقُولُ: إِنِّي سَأَقْسِمُهُمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. فَاذْهَبْ بِهِمَا لَا أَبَا لَكَ فَبِعْهُمَا فَاقْسِمْهُمَا فِي أُعْطِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَرْزَاقِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا وُهِبُوا وَلَمْ تَدْرِ أَنْتَ مَعَهُمْ. قَالَ السَّائِبُ: فَأَخَذَتْهُمَا حَتَّى جِئْتُ بِهِمَا مَسْجِدَ الْكُوفَةِ وَغَشِيَتْنِي التُّجَّارُ، فَابْتَاعَهُمَا مِنِّي عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيُّ بِأَلْفَيْ أَلْفٍ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِمَا إِلَى أَرْضِ الْأَعَاجِمِ فَبَاعَهُمَا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ أَلْفٍ، فَمَا زَالَ أَكْثَرَ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَالًا بَعْدَ ذَلِكَ.
قَالَ سَيْفٌ: ثُمَّ قَسَمَ ثَمَنَهُمَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَنَالَ كُلُّ فَارِسٍ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ السَّفَطَيْنِ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَحَصَلَ لِلْفَارِسِ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ سِتَّةُ آلَافٍ، وَلِلرَّاجِلِ أَلْفَانِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا
قَالَ: وَافْتُتِحَتْ نَهَاوَنْدُ فِي أَوَّلِ سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ لِسَبْعِ سِنِينَ مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ. رَوَاهُ سَيْفٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ.
وَبِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا قُدِمَ بِسَبْيِ نَهَاوَنْدَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَعَلَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ - فَيْرُوزُ غُلَامُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - لَا يَلْقَى مِنْهُمْ صَغِيرًا إِلَّا مَسَحَ رَأَسَهُ وَبَكَى، وَقَالَ: أَكَلَ عُمَرُ كَبِدِي. وَكَانَ أَصْلُ أَبِي لُؤْلُؤَةَ مِنْ نَهَاوَنْدَ فَأَسَرَتْهُ الرُّومُ أَيَّامَ فَارِسَ،

وَأَسَرَتْهُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدُ، فَنُسِبَ إِلَى حَيْثُ سُبِيَ.
قَالُوا: وَلَمْ تَقُمْ لِلْأَعَاجِمِ بَعْدَ هَذِهِ الْوَقْعَةِ قَائِمَةٌ. وَأَلْحَقَ عُمَرُ الَّذِينَ أَبْلَوْا فِيهَا فِي أَلْفَيْنِ تَشْرِيفًا لَهُمْ وَإِظْهَارًا لِشَأْنِهِمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ افْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا بَعْدَ نَهَاوَنْدَ مَدِينَةَ جَيٍّ - وَهِيَ مَدِينَةُ أَصْبَهَانَ - بَعْدَ قِتَالٍ كَثِيرٍ وَأُمُورٍ طَوِيلَةٍ، فَصَالَحُوا الْمُسْلِمِينَ، وَكَتَبَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ كِتَابَ أَمَانٍ وَصُلْحٍ، وَفَرَّ مِنْهُمْ ثَلَاثُونَ نَفَرًا إِلَى كِرْمَانَ لَمْ يُصَالِحُوا الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي فَتَحَ أَصْبَهَانَ هُوَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ وَأَنَّهُ قُتِلَ بِهَا، وَوَقَعَ أَمِيرُ الْمَجُوسِ وَهُوَ ذُو الْحَاجِبَيْنِ عَنْ فَرَسِهِ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ وَمَاتَ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الَّذِي فَتَحَ أَصْبَهَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ، الَّذِي كَانَ نَائِبَ الْكُوفَةِ.
وَفِيهَا افْتَتَحَ أَبُو مُوسَى قُمَّ وَقَاشَانَ، وَافْتَتَحَ سُهَيْلُ بْنُ عَدِيٍّ مَدِينَةَ كِرْمَانَ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ سَارَ فِي جَيْشٍ مَعَهُ إِلَى أَنْطَابُلُسَ - قَالَ: وَهِيَ بَرْقَةُ - فَافْتَتَحَهَا صُلْحًا عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفِ دِينَارٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ.
قَالَ: وَفِيهَا بَعَثَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عُقْبَةَ بْنَ نَافِعٍ الْفِهْرِيَّ إِلَى زَوِيلَةَ فَفَتَحَهَا

بِصُلْحٍ، وَصَارَ مَا بَيْنَ بَرْقَةَ إِلَى زَوِيلَةَ سِلْمًا لِلْمُسْلِمِينَ.
قَالَ: وَفِيهَا وَلَّى عُمَرُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ عَلَى الْكُوفَةِ بَدَلَ زِيَادِ بْنِ حَنْظَلَةَ الَّذِي وَلَّاهُ بَعْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ، وَجَعَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَاشْتَكَى أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ عَمَّارٍ، فَاسْتَعْفَى عَمَّارٌ مِنْ عُمَرَ، فَعَزَلَهُ وَوَلَّى جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يُعْلِمَ أَحَدًا. وَبَعَثَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ امْرَأَتَهُ إِلَى امْرَأَةِ جُبَيْرٍ يَعْرِضُ عَلَيْهَا طَعَامًا لِلسَّفَرِ، فَقَالَتْ: اذْهَبِي فَائْتِينِي بِهِ. فَذَهَبَ الْمُغِيرَةُ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَنْ وَلَّيْتَ عَلَى الْكُوفَةِ. فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ ؟ وَبَعَثَ إِلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، فَعَزَلَهُ وَوَلَّى الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ ثَانِيَةً، فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَالَ: وَفِيهَا حَجَّ عُمَرُ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَكَانَ عُمَّالَهُ عَلَى الْبُلْدَانِ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبِلَهَا سِوَى الْكُوفَةِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحِمْصَ، وَأَوْصَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَالَ غَيْرُهُ: تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ. وَقِيلَ: بِالْمَدِينَةِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ فَوَلَّى عُمَرُ مَكَانَهُ أَبَا هُرَيْرَةَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْعَلَاءَ تُوُفِّيَ قَبْلَ هَذَا. كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِيمَا حَكَاهُ عَنِ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ أَمِيرَ دِمَشْقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَيْرُ بْنُ سَعِيدٍ، وَهُوَ أَيْضًا عَلَى حِمْصَ وَحَوْرَانَ وَقِنَّسْرِينَ وَالْجَزِيرَةِ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ عَلَى الْبَلْقَاءِ وَالْأُرْدُنِّ، وَفِلَسْطِينَ، وَالسَّوَاحِلِ وَأَنْطَاكِيَةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ
ابْنُ الْمُغِيرَةِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ الْقُرَشِيُّ، أَبُو سُلَيْمَانَ الْمَخْزُومِيُّ، سَيْفُ اللَّهِ، أَحَدُ الشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ، لَمْ يُقْهَرْ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ. وَأُمُّهُ عَصْمَاءُ بِنْتُ الْحَارِثِ، أُخْتُ لُبَابَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَأُخْتُ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَسْلَمَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَشَهِدَ مُؤْتَةَ وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ الْإِمَارَةُ يَوْمَئِذٍ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ، فَقَاتَلَ يَوْمَئِذٍ قِتَالًا شَدِيدًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، انْدَقَّتْ فِي

يَدِهِ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، وَلَمْ تَثْبُتْ فِي يَدِهِ إِلَّا صَفِيحَةٌ يَمَانِيَةٌ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ خَالِدًا سَقَطَتْ قَلَنْسُوَتُهُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ وَهُوَ فِي الْحَرْبِ، فَجَعَلَ يَسْتَحِثُّ فِي طَلَبِهَا، فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ فِيهَا شَيْئًا مِنْ شَعْرِ نَاصِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّهَا مَا كَانَتْ مَعِيَ فِي مَوْقِفٍ إِلَّا نُصِرْتُ بِهَا.
وَقَدْ رُوِّينَا فِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ " مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَنَّهُ لَمَّا أَمَّرَ خَالِدًا عَلَى حَرْبِ أَهْلِ الرِّدَّةِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: فَنِعْمَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَخُو الْعَشِيرَةِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الشَّامِ وَعَزَلَ خَالِدَ بْنَ

الْوَلِيدِ، فَقَالَ خَالِدٌ: بَعَثَ عَلَيْكُمْ أَمِينَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ( خَالِدٌ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، نِعْمَ فَتَى الْعَشِيرَةِ. وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ طُرُقٍ مُرْسَلَةٍ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَفِي الصَّحِيحِ: " وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، وَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ".
وَشَهِدَ الْفَتْحَ، وَشَهِدَ حُنَيْنًا، وَغَزَا بَنِي جَذِيمَةَ أَمِيرًا فِي حَيَاتِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَاخْتُلِفَ فِي شُهُودِهِ خَيْبَرَ. وَقَدْ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرًا عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ، وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ قُرَيْشٍ، كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي مَوْضِعِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْعُزَّى - وَكَانَتْ لِهَوَازِنَ - فَكَسَرَ أَنْفَهَا أَوَّلًا، ثُمَّ دَعْثَرَهَا وَجَعَلَ يَقُولُ:
يَا عُزَّ كُفْرَانَكِ لَا سُبْحَانَكِ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهَانَكِ
ثُمَّ حَرَّقَهَا.

وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الصِّدِّيقُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ، فَشَفَى وَاشْتَفَى. ثُمَّ وَجَّهَهُ إِلَى الْعِرَاقِ ثُمَّ إِلَى الشَّامِ، فَكَانَتْ لَهُ مِنَ الْمَقَامَاتِ مَا ذَكَرْنَاهَا مِمَّا تَقَرُّ بِهَا الْقُلُوبُ وَالْعُيُونُ، وَتَتَشَنَّفُ بِهَا الْأَسْمَاعُ. ثُمَّ عَزَلَهُ عُمَرُ عَنْهَا وَوَلَّى أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبْقَاهُ مُسْتَشَارًا فِي الْحَرْبِ، وَلَمْ يَزَلْ بِالشَّامِ حَتَّى مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ خَالِدًا الْوَفَاةُ بَكَى، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ حَضَرْتُ كَذَا وَكَذَا زَحْفًا، وَمَا فِي جَسَدِي شِبْرٌ إِلَّا وَفِيهِ ضَرْبَةٌ بِسَيْفٍ، أَوْ طَعْنَةٌ بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةٌ بِسَهْمٍ، وَهَا أَنَا أَمُوتُ عَلَى فِرَاشِي حَتْفَ أَنْفِي كَمَا يَمُوتُ الْبَعِيرُ، فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا شُرَيْحُ بْنُ يُونُسَ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: مَا لَيْلَةٌ تُهْدَى إِلَيَّ فِيهَا عَرُوسٌ، أَوْ أُبَشَّرُ فِيهَا بِغُلَامٍ، بِأَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ لَيْلَةٍ شَدِيدَةِ الْجَلِيدِ فِي سَرِيَّةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أُصَبِّحُ بِهِمُ الْعَدُوَّ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ: أُتِيَ خَالِدٌ بِرَجُلٍ مَعَهُ زِقُّ خَمْرٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ عَسَلًا. فَصَارَ عَسَلًا. وَلَهُ طُرُقٌ، وَفِي بَعْضِهَا: مَرَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ مَعَهُ زِقُّ خَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: مَا هَذَا ؟ قَالَ: خَلٌّ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ خَلًّا. فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ: جِئْتُكُمْ بِخَمْرٍ لَمْ تَشْرَبِ الْعَرَبُ مِثْلَهُ. ثُمَّ فَتَحَهُ فَإِذَا هُوَ خَلٌّ، فَقَالَ: أَصَابَتْهُ وَاللَّهِ دَعْوَةُ خَالِدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: الْتَقَى خَالِدٌ عَدُوًّا لَهُ، فَوَلَّى عَنْهُ الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ وَثَبَتَ هُوَ وَأَخِي الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ، وَكُنْتُ بَيْنَهُمَا وَاقِفًا، قَالَ: فَنَكَسَ خَالِدٌ رَأْسَهُ سَاعَةً إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ سَاعَةً - قَالَ: وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ إِذَا أَصَابَهُ مِثْلُ هَذَا - ثُمَّ قَالَ لِأَخِي الْبَرَاءِ: قُمْ. فَرَكِبَا، وَاخْتَطَبَ خَالِدٌ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا الْجَنَّةُ، وَمَا إِلَى الْمَدِينَةِ سَبِيلٌ. ثُمَّ حَمَلَ بِهِمْ فَهَزَمَ الْمُشْرِكِينَ.
وَقَدْ حَكَى مَالِكٌ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: اكْتُبْ إِلَى

خَالِدٍ أَنْ لَا يُعْطِيَ شَاةً وَلَا بَعِيرًا إِلَّا بِأَمْرِكَ. فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدٍ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ خَالِدٌ: إِمَّا أَنْ تَدَعَنِي وَعَمَلِي، وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِعَمَلِكَ. فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ بِعَزْلِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ يُجْزِي عَنِّي جَزَاةَ خَالِدٍ ؟ قَالَ عُمَرُ: أَنَا. قَالَ: فَأَنْتَ. فَتَجَهَّزَ عُمَرُ حَتَّى أُنِيخَتِ الظَّهْرُ فِي الدَّارِ، ثُمَّ جَاءَ الصَّحَابَةُ فَأَشَارُوا عَلَى الصِّدِّيقِ بِإِبْقَاءِ عُمَرَ بِالْمَدِينَةِ وَإِبْقَاءِ خَالِدٍ بِالشَّامِ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ كَتَبَ إِلَى خَالِدٍ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ خَالِدٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَعَزَلَهُ، وَقَالَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَرَانِيَ آمُرُ أَبَا بَكْرٍ بِشَيْءٍ لَا أُنْفِذُهُ أَنَا.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " التَّارِيخِ "، وَغَيْرِهِ، مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ نَاشِرَةَ بْنِ سُمَيٍّ الْيَزَنِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَعْتَذِرُ إِلَى النَّاسِ بِالْجَابِيَةِ مِنْ عَزْلِ خَالِدٍ، فَقَالَ: أَمَرْتُهُ أَنْ يَحْبِسَ هَذَا الْمَالَ عَلَى ضَعَفَةِ الْمُهَاجِرِينَ، فَأَعْطَاهُ ذَا الْبَأْسِ، وَذَا الشَّرَفِ وَاللِّسَانِ، وَأَمَّرْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ. فَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ حَفْصِ بْنِ

الْمُغِيرَةِ: مَا اعْتَذَرْتَ يَا عُمَرُ، لَقَدْ نَزَعْتَ عَامِلًا اسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَضَعْتَ لِوَاءً رَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَغْمَدْتَ سَيْفًا سَلَّهُ اللَّهُ، وَلَقَدْ قَطَعْتَ الرَّحِمَ، وَحَسَدْتَ ابْنَ الْعَمِّ. فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّكَ قَرِيبُ الْقَرَابَةِ، حَدِيثُ السِّنِّ، مُغْضَبٌ فِي ابْنِ عَمِّكَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ بَقَرْيَةٍ عَلَى مِيلٍ مِنْ حِمْصَ، وَأَوْصَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَالَ دُحَيْمٌ وَغَيْرُهُ: مَاتَ بِالْمَدِينَةِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.

وَقَدَّمْنَا فِيمَا سَلَفَ تَعْزِيرَ عُمَرَ لَهُ حِينَ أَعْطَى الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَأَخْذَهُ مِنْ مَالِهِ عِشْرِينَ أَلْفًا أَيْضًا. وَقَدَّمْنَا عَتْبَهُ عَلَيْهِ لِدُخُولِهِ الْحَمَّامَ وَتَدَلُّكِهُ بَعْدَ النُّورَةِ بِدَقِيقِ عُصْفُرٍ مَعْجُونٍ بِخَمْرٍ، وَاعْتِذَارَ خَالِدٍ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ صَارَ غَسُولًا.
وَرُوِّينَا عَنْ خَالِدٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَقَالَ: إِنِّي لَمْ أُطَلِّقْهَا عَنْ رِيبَةٍ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَمْرَضْ عِنْدِي وَلَمْ يُصِبْهَا شَيْءٌ فِي بَدَنِهَا وَلَا رَأْسِهَا، وَلَا فِي شَيْءٍ

مِنْ جَسَدِهَا.
وَرَوَى سَيْفٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ عُمَرَ قَالَ حِينَ عَزَلَ خَالِدًا عَنِ الشَّامِ، وَالْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ عَنِ الْعِرَاقِ. إِنَّمَا عَزَلْتُهُمَا لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ اللَّهَ نَصَرَ الدِّينَ لَا يَنْصُرُهُمَا، وَأَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا.
وَرَوَى سَيْفٌ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ قَالَ حِينَ عَزَلَ خَالِدًا عَنْ قِنَّسْرِينَ وَأَخَذَ مِنْهُ مَا أَخَذَ: إِنَّكَ عَلَيَّ لِكَرِيمٌ، وَإِنَّكَ عِنْدِي لِعَزِيزٌ، وَلَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ مِنِّي أَمْرٌ تَكْرَهُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَدْ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ عَنْ بِلَالٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: اصْطَرَعَ عُمَرُ وَخَالِدٌ وَهُمَا غُلَامَانِ - وَكَانَ خَالِدٌ ابْنَ خَالِ عُمَرَ - فَكَسَرَ خَالِدٌ سَاقَ عُمَرَ، فَعُولِجَتْ وَجُبِرَتْ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: دَخَلَ خَالِدٌ عَلَى عُمَرَ وَعَلَيْهِ قَمِيصُ حَرِيرٍ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا هَذَا يَا خَالِدُ ؟ فَقَالَ:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهل التأويل يتعرون أمام قانوني الحق والميزان

    بسم الله الرحمن الرحيم خلاصة قانون الحق = أن الله خلق السماوات والارض وما فيهم وما بينهم وما لأجلهم بقدر قام في وقت محدد وزمن مع...