- 32//2. اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السُّنَةُ وَالْحَاكِمُ الْعَبَّاسِيُّ خَلِيفَةٌ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ، وَفِي أَوَّلِ جُمَادَى الْآخِرَةِ خَرَجَ السُّلْطَانُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِالْعَسَاكِرِ الْمَنْصُورَةِ، فَنَزَلَ عَلَى مَدِينَةِ يَافَا بَغْتَةً، فَأَخَذَهَا عَنْوَةً، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا قَلْعَتَهَا صُلْحًا، فَأَجْلَاهُمْ مِنْهَا إِلَى عَكَّا، وَخَرَّبَ الْقَلْعَةَ وَالْمَدِينَةَ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ الْفِرِنْجُ اعْتَنَوْا بِعِمَارَتِهَا وَتَحْصِينِهَا، فَجَعَلَهَا بَلْقَعًا لِئَلَّا يَكُونَ لَهُمْ إِلَيْهَا عَوْدَةٌ، وَسَارَ مِنْهَا فِي رَجَبٍ قَاصِدًا حِصْنَ الشَّقِيفِ، وَفِي بَعْضِ الطَّرِيقِ أَخَذَ مِنْ بَعْضِ بَرِيدِيَّةِ الْفِرِنْجِ كِتَابًا مِنْ أَهْلِ عَكَّا إِلَى أَهْلِ الشَّقِيفِ يُعْلِمُونَهُمْ بِقُدُومِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَيَأْمُرُونَهُمْ بِتَحْصِينِ الْبَلَدِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى إِصْلَاحِ أَمَاكِنٍ يُخْشَى عَلَى الْبَلَدِ مِنْهَا. فَفَهِمَ السُّلْطَانُ كَيْفَ يَأْخُذُ الْبَلَدَ، وَعَرَفَ مِنْ أَيْنَ تُؤْكَلُ الْكَتِفُ، وَاسْتَدْعَى مِنْ فَوْرِهِ رَجُلًا مِنَ الْفِرِنْجِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ بَدَلَهُ كِتَابًا عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ إِلَى أَهْلِ الشَّقِيفِ، يُحَذِّرُ الْمَلِكَ مِنَ الْوَزِيرِ، وَالْوَزِيرَ مِنَ الْمَلِكِ، وَيَرْمِي الْخُلْفَ بَيْنَ الدَّوْلَةِ. فَوَصَلَ إِلَيْهِمْ، فَأَوْقَعَ اللَّهُ الْخُلْفَ بَيْنَهُمْ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَجَاءَ السُّلْطَانُ فَحَاصَرَهُمْ وَرَمَاهُمْ بِالْمَنْجَنِيقِ، فَسَلَّمُوهُ الْحِصْنَ فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَأَجْلَاهُمْ إِلَى صُورَ، وَبَعَثَ بِالْأَثْقَالِ إِلَى دِمَشْقَ ثُمَّ رَكِبَ جَرِيدَةً فِيمَنْ نَشِطَ مِنَ
الْجَيْشِ، فَشَنَّ الْغَارَةَ عَلَى طَرَابُلُسِ
وَأَعْمَالِهَا، فَنَهَبَ وَقَتَلَ وَأَرْعَبَ، وَكَرَّ رَاجِعًا مُؤَيَّدًا
مَنْصُورًا، فَنَزَلَ عَلَى حِصْنِ الْأَكْرَادِ تَحْتَهُ فِي الْمَرْجِ، فَحَمَلَ
إِلَيْهِ أَهْلُهُ مِنَ الْفِرِنْجِ الْإِقَامَاتِ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا
وَقَالَ: أَنْتُمْ قَتَلْتُمْ جُنْدِيًّا مِنْ جَيْشِي، وَأُرِيدُ دِيَتَهُ
مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ. ثُمَّ سَارَ، فَنَزَلَ عَلَى حِمْصَ، ثُمَّ مِنْهَا
إِلَى حَمَاةَ، ثُمَّ إِلَى أَفَامِيَةَ، ثُمَّ سَارَ مَنْزِلَةً أُخْرَى، ثُمَّ
سَارَ لَيْلًا، وَتَقَدَّمَ الْعَسْكَرُ فَلَبِسُوا الْعُدَّةَ، وَسَاقَ حَتَّى
أَحَاطَ بِمَدِينَةِ أَنْطَاكِيَةَ.
فَتْحُ أَنْطَاكِيَةَ عَلَى يَدِ السُّلْطَانِ
الْمَلِكِ الظَّاهِرِ
وَهِيَ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ كَثِيرَةُ الْخَيْرِ، يُقَالُ: إِنَّ دَوْرَ سُورِهَا
اثْنَا عَشَرَ مِيلًا، وَعَدَدُ بُرُوجِهَا مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ
بُرْجًا، وَعَدَدُ شُرُفَاتِهَا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ شُرْفَةٍ، كَانَ
نُزُولُهُ عَلَيْهَا فِي مُسْتَهَلِّ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ
أَهْلُهَا يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْأَمَانَ، وَشَرَطُوا شُرُوطًا عَلَيْهِمْ لَهُ،
فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهُمْ وَرَدَّهُمْ خَائِبِينَ، وَصَمَّمَ عَلَى حِصَارِهَا،
فَفَتَحَهَا يَوْمَ السَّبْتِ رَابِعَ شَهْرِ رَمَضَانَ بِحَوْلِ اللَّهِ
وَقُوَّتِهِ وَتَأْيِيدِهِ وَنَصْرِهِ، وَغَنِمَ مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا
وَأَطْلَقَ لِلْأُمَرَاءِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَوَجَدَ مِنْ أُسَارَى
الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحَلَبِيِّينَ فِيهَا خَلْقًا كَثِيرًا، كُلُّ هَذَا فِي مِقْدَارِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. وَقَدْ كَانَ الْأَفْرِيسُ صَاحِبُهَا وَصَاحِبُ طَرَابُلُسَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ أَذِيَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، حِينَ مَلَكَ التَّتَارُ حَلَبَ وَفَرَّ النَّاسُ مِنْهَا، فَانْتَقَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُ بِمَنْ أَقَامَهُ لِلْإِسْلَامِ نَاصِرًا وَلِلصَّلِيبِ دَامِغًا وَكَاسِرًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَجَاءَتِ الْبِشَارَةُ بِذَلِكَ مَعَ الْبَرِيدِيَّةِ، فَجَاوَبَتْهَا الْبَشَائِرُ مِنَ الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَأَرْسَلَ أَهْلُ بَغْرَاسَ حِينَ سَمِعُوا بِقَصْدِ السُّلْطَانِ إِلَيْهِمْ يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ مَنْ يَتَسَلَّمَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أُسْتَاذَ دَارِهِ الْأَمِيرَ آقْسُنْقُرَ الْفَارِقَانِيَّ فِي ثَالِثَ عَشَرَ رَمَضَانَ فَتَسَلَّمَهَا، وَتَسَلَّمُوا حُصُونًا كَبِيرَةً وَقِلَاعًا كَثِيرَةً، وَعَادَ السُّلْطَانُ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ وَهَيْبَةٍ هَائِلَةٍ، وَقَدْ زُيِّنَتْ لَهُ الْبَلَدُ، وَدُقَّتْ لَهُ الْبَشَائِرُ فَرَحًا بِنُصْرَةِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْكَفَرَةِ الطَّغَامِ، لَكِنَّهُ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى أَخْذِ أَرَاضٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرَى وَالْبَسَاتِينِ الَّتِي بِأَيْدِي مُلَّاكِهَا بِزَعْمِ أَنَّهُ قَدْ كَانَتِ التَّتَارُ اسْتَحْوَذُوا عَلَيْهَا ثُمَّ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُمْ، وَقَدْ أَفْتَاهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِذَلِكَ، تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا أَخَذُوا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مَلَكُوهَا، فَإِذَا اسْتُرْجِعَتْ لَمْ تُرَدَّ إِلَى أَصْحَابِهَا ; لِحَدِيثِ الْعَضْبَاءِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَرْجَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ أَخَذَهَا الْمُشْرِكُونَ، اسْتَدَلُّوا بِهَذَا وَأَمْثَالِهِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِذَا أَخَذَ الْكُفَّارُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ وَأَسْلَمُوا وَهِيَ فِي أَيْدِيهِمْ
اسْتَقَرَّتْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ. وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ
رِبَاعٍ وَقَدْ كَانَ اسْتَحْوَذَ عَلَى أَمْلَاكِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ
هَاجَرُوا، وَأَسْلَمَ عَقِيلٌ وَهِيَ فِي يَدِهِ، فَلَمْ تُنْتَزَعْ مِنْ يَدِهِ،
وَأَمَّا إِذَا انْتُزِعَتْ مِنْ أَيْدِيهِمْ قَبْلُ، فَإِنَّهَا تُرَدُّ إِلَى
أَرْبَابِهَا لِحَدِيثِ الْعَضْبَاءِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الظَّاهِرَ عَقَدَ مَجْلِسًا اجْتَمَعَ فِيهِ الْقُضَاةُ
وَالْفُقَهَاءُ مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ، وَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ، وَصَمَّمَ
السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الْفَتَاوَى،
وَخَافَ النَّاسُ مِنْ غَائِلَةِ ذَلِكَ، فَتَوَسَّطَ الصَّاحِبُ فَخْرُ الدِّينِ
بْنُ الْوَزِيرِ بَهَاءِ الدِّينِ بْنِ الْحِنَّا، وَكَانَ قَدْ دَرَّسَ
بِالشَّافِعِيِّ بَعْدَ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ، فَقَالَ: يَا خُونْدُ، أَهْلُ
الْبَلَدِ يُصَالِحُونَكَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ
تُقَسَّطُ; كُلَّ سَنَةٍ مِائَتَا أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَأَبَى إِلَّا أَنْ تَكُونَ
مُعَجَّلَةً بَعْدَ أَيَّامٍ، وَخَرَجَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَقَدْ أَجَابَ إِلَى تَقْسِيطِهَا، وَجَاءَتِ الْبِشَارَةُ بِذَلِكَ وَقُرِئَتْ
عَلَى الْمِنْبَرِ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَرَسَمَ أَنْ يُعَجِّلُوا مِنْ
ذَلِكَ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَنْ تُعَادَ إِلَيْهِمُ الْغَلَّاتُ
الَّتِي كَانُوا قَدِ احْتَاطُوا عَلَيْهَا فِي زَمَنِ الْقَسْمِ وَالثِّمَارِ،
وَكَانَتْ هَذِهِ الْفَعْلَةُ مِمَّا شَعَّثَتْ خَوَاطِرَ النَّاسِ عَلَى
السُّلْطَانِ.
وَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَبْغَا عَلَى التَّتَارِ أَمَرَ بِاسْتِمْرَارِ
وَزِيرِهِ نَصِيرِ الدِّينِ الطُّوسِيِّ، وَاسْتَنَابَ عَلَى بِلَادِ الرُّومِ
الْبَرْوَانَاهْ، وَارْتَفَعَ قَدْرُهُ عِنْدَهُ جِدًّا، وَاسْتَقَلَّ بِتَدْبِيرِ
تِلْكَ الْبِلَادِ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ فِيهَا.
وَفِيهَا كَتَبَ صَاحِبُ الْيَمَنِ إِلَى الظَّاهِرِ
بِالْخُضُوعِ وَالِانْتِمَاءِ إِلَى جَانِبِهِ، وَأَنَّهُ يَخْطُبُ لَهُ بِبِلَادِ
الْيَمَنِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ هَدَايَا وَتُحَفًا كَثِيرَةً، فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ السُّلْطَانُ هَدَايَا وَخِلَعَا وَسَنْجَقًا وَتَقْلِيدًا.
وَفِيهَا رَافَعَ ضِيَاءُ الدِّينِ بْنُ الْفَقَّاعِيِّ لِلصَّاحِبِ بَهَاءِ
الدِّينِ بْنِ الْحِنَّا عِنْدَ الظَّاهِرِ، وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ ابْنُ
الْحِنَّا، فَسَلَّمَهُ الظَّاهِرُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَضْرِبُهُ
بِالْمَقَارِعِ وَيَسْتَخْلِصُ أَمْوَالَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ
ضَرَبَهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ مِقْرَعَةٍ وَسَبْعَمِائَةٍ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا عَمِلَ الْبَرْوَانَاهْ عَلَى قَتْلِ الْمَلِكِ عَلَاءِ الدِّينِ صَاحِبِ
قُونِيَةَ، وَأَقَامَ وَلَدَهُ غِيَاثَ الدِّينِ مَكَانَهُ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ
سِنِينَ، وَتَمَكَّنَ الْبَرْوَانَاهْ فِي الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَأَطَاعَهُ
جَيْشُ الرُّومِ.
وَفِيهَا قَتَلَ الصَّاحِبُ عَلَاءُ الدِّينِ صَاحِبُ الدِّيوَانِ بِبَغْدَادَ
ابْنَ الْخُشْكَرِيِّ النُّعْمَانِيَّ الشَّاعِرَ; وَذَلِكَ أَنَّهُ اشْتَهَرَ
عَنْهُ أَشْيَاءُ عَظِيمَةٌ، مِنْهَا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ فَضْلَ شِعْرِهِ عَلَى
الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَاتَّفَقَ أَنَّ الصَّاحِبَ انْحَدَرَ إِلَى وَاسِطٍ
فَلَمَّا كَانَ بِالنُّعْمَانِيَّةِ حَضَرَ ابْنُ الْخُشْكَرِيِّ عِنْدَهُ،
وَأَنْشَدَهُ قَصِيدَةً قَدْ قَالَهَا فِيهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُنْشِدُهَا بَيْنَ
يَدَيْهِ إِذْ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَاسْتَنْصَتَهُ الصَّاحِبُ، فَقَالَ ابْنُ
الْخُشْكَرِيِّ: يَا مَوْلَانَا، اسْمَعْ شَيْئًا جَدِيدًا، وَأَعْرِضْ عَنْ
شَيْءٍ لَهُ سُنُونَ. فَثَبَتَ عِنْدَ الصَّاحِبِ مَا كَانَ يُقَالُ عِنْدَهُ
عَنْهُ، ثُمَّ بَاسَطَهُ وَأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِمَّا
قَالَ حَتَّى اسْتَعْلَمَ مَا عِنْدَهُ، فَإِذَا هُوَ زِنْدِيقٌ، فَلَمَّا رَكِبَ
قَالَ لِإِنْسَانٍ مَعَهُ: اسْتَفْرِدْهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ وَاقْتُلْهُ.
فَسَايَرَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا انْقَطَعَ عَنِ النَّاسِ قَالَ
لِجَمَاعَةٍ مَعَهُ: أَنْزِلُوهُ عَنْ فَرَسِهِ. كَالْمُدَاعِبِ لَهُ،
فَأَنْزَلُوهُ وَهُوَ يَشْتُمُهُمْ وَيَلْعَنُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: انْزِعُوا عَنْهُ
ثِيَابَهُ. فَسَلَبُوهَا
وَهُوَ يُخَاصِمُهُمْ وَيَقُولُ: إِنَّكُمْ أَجْلَافٌ،
وَإِنَّ هَذَا لَعِبٌ بَارِدٌ. ثُمَّ قَالَ: اضْرِبُوا عُنُقَهُ. فَتَقَدَّمَ
إِلَيْهِ أَحَدُهُمْ، فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ، فَأَبَانَ رَأْسَهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
الشَّيْخُ عَفِيفُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ الْبَقَّالِ
شَيْخُ رِبَاطِ الْمَرْزُبَانِيَّةِ، كَانَ صَالِحًا وَرِعًا زَاهِدًا، حَكَى عَنْ
نَفْسِهِ قَالَ: كُنْتُ بِمِصْرَ فَبَلَغَنِي مَا وَقَعَ مِنَ الْقَتْلِ
الذَّرِيعِ بِبَغْدَادَ فِي فِتْنَةِ التَّتَارِ، فَأَنْكَرْتُ فِي قَلْبِي
وَقُلْتُ: يَا رَبِّ، كَيْفَ هَذَا وَفِيهِمُ الْأَطْفَالُ وَمَنْ لَا ذَنْبَ
لَهُ؟ فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ رَجُلًا وَفِي يَدِهِ كِتَابٌ، فَأَخَذْتُهُ
فَقَرَأْتُهُ، فَإِذَا فِيهِ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ، فِيهَا الْإِنْكَارُ عَلَيَّ:
دَعِ الِاعْتِرَاضَ فَمَا الْأَمْرُ لَكْ وَلَا الْحُكْمُ فِي حَرَكَاتِ الْفَلَكْ
وَلَا تَسْأَلِ اللَّهَ عَنْ فِعْلِهِ
فَمَنْ خَاضَ لُجَّةَ بَحْرٍ هَلَكْ إِلَيْهِ تَصِيرُ أُمُورُ الْعِبَادِ
دَعِ الِاعْتِرَاضَ فَمَا أَجْهَلَكْ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَافِظُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ قَاضِي الْيَمَنِ، عَنْ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَدُفِنَ
بِالشَّرَفِ الْأَعْلَى، وَكَانَ قَدْ تَفَرَّدَ بِرِوَايَاتٍ جَيِّدَةٍ،
وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ.
وَفِيهَا وُلِدَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ،
أَخُو الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَالْخَطِيبُ
الْقَزْوِينِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا جَدَّدَ السُّلْطَانُ الظَّاهِرُ الْبَيْعَةَ لِوَلَدِهِ مِنْ
بَعْدِهِ الْمَلِكِ السَّعِيدِ مُحَمَّدِ بَرَكَةَ خَانَ، وَأَحْضَرَ الْأُمَرَاءَ
كُلَّهُمْ وَالْقُضَاةَ وَالْأَعْيَانَ، وَأَرْكَبَهُ وَمَشَى بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَكَتَبَ لَهُ ابْنُ لُقْمَانَ تَقْلِيدًا هَائِلًا بِالْمُلْكِ مِنْ بَعْدِ
أَبِيهِ، وَأَنْ يَحْكُمَ عَنْهُ أَيْضًا فِي حَالِ حَيَاتِهِ، ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ
فِي عَسَاكِرِهِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ قَاصِدًا الشَّامَ فَلَمَّا دَخَلَ
دِمَشْقَ جَاءَتْهُ رُسُلٌ مِنْ أَبْغَا مَلِكِ التَّتَارِ، مَعَهُمْ مُكَاتَبَاتٌ
وَمُشَافَهَاتٌ، فَمِنْ جُمْلَةِ الْمُشَافَهَاتِ: أَنْتَ مَمْلُوكٌ أُبِعْتَ
بِسِيوَاسَ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ لَكَ أَنْ تُخَالِفَ مُلُوكَ الْأَرْضِ؟! وَاعْلَمْ
أَنَّكَ لَوْ صَعِدْتَ إِلَى السَّمَاءِ أَوْ هَبَطْتَ إِلَى الْأَرْضِ مَا
تَخَلَّصْتَ مِنِّي فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ عَلَى مُصَالَحَةِ السُّلْطَانِ أَبْغَا.
فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا عَدَّهُ شَيْئًا، بَلْ أَجَابَ عَنْهُ
أَتَمَّ جَوَابٍ، وَقَالَ لِرُسُلِهِ: أَعْلِمُوهُ أَنِّي مِنْ وَرَائِهِ
بِالْمُطَالَبَةِ، وَلَا أَزَالُ حَتَّى أَنْتَزِعَ مِنْهُ جَمِيعَ الْبِلَادِ
الَّتِي اسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا مِنْ بِلَادِ الْخَلِيفَةِ، وَسَائِرِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ رَسَمَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ بِإِرَاقَةِ
الْخُمُورِ وَتَبْطِيلِ الْمُفْسِدَاتِ وَالْخَوَاطِئِ بِالْبِلَادِ كُلِّهَا،
فَنُهِبَتِ الْخَوَاطِئُ وَسُلِبْنَ جَمِيعَ مَا كَانَ مَعَهُنَّ وَحُبِسْنَ
حَتَّى يَتَزَوَّجْنَ، وَكُتِبَ إِلَى جَمِيعِ الْبِلَادِ بِذَلِكَ، وَأُسْقِطَتِ
الْمُكُوسُ الَّتِي كَانَتْ مُرَتَّبَةً عَلَى ذَلِكَ،
وَعَوَّضَ مَنْ كَانَ مُحَالًا عَلَى ذَلِكَ بِغَيْرِهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
ثُمَّ عَادَ السُّلْطَانُ بِعَسَاكِرِهِ إِلَى مِصْرَ، فَلَمَّا كَانَ فِي
أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ عِنْدَ خَرِبَةِ اللُّصُوصِ تَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ،
فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّ وَلَدَهَا دَخَلَ مَدِينَةَ صُورَ وَأَنَّ صَاحِبَهَا
الْفِرِنْجِيَّ غَدَرَ بِهِ وَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ مَالَهُ، فَرَكِبَ السُّلْطَانُ
وَشَنَّ الْغَارَةَ عَلَى صُورَ فَأَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا وَقَتَلَ
خَلْقًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَلِكُهَا: مَا سَبَبُ هَذَا؟ فَذَكَرَ لَهُ
غَدْرَهُ وَمَكْرَهُ بِالتُّجَّارِ، ثُمَّ قَالَ السُّلْطَانُ لِمُقَدَّمِ
الْجُيُوشِ: أَوْهِمِ النَّاسَ أَنِّي مَرِيضٌ وَأَنِّي بِالْمَحَفَّةِ،
وَأَحْضِرِ الْأَطِبَّاءَ، وَاسْتَوْصِفْ لِي مِنْهُمْ مَا يَصْلُحُ لِمَرِيضٍ
بِهِ كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا وَصَفُوا لَكَ فَأَحْضِرِ الْأَشْرِبَةَ إِلَى
الْمَحَفَّةِ، وَأَنْتُمْ سَائِرُونَ. ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ عَلَى الْبَرِيدِ،
وَسَاقَ مُسْرِعًا حَتَّى دَخَلَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ فَكَشَفَ أَحْوَالَ
وَلَدِهِ، وَكَيْفَ الْأَمْرُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَهُ، ثُمَّ عَادَ
مُسْرِعًا إِلَى الْجَيْشِ، فَجَلَسَ فِي الْمَحَفَّةِ وَأَظْهَرُوا عَافِيَتَهُ
وَتَبَاشَرُوا بِذَلِكَ. وَهَذِهِ جُرْأَةٌ عَظِيمَةٌ، وَإِقْدَامٌ هَائِلٌ.
وَفِيهَا حَجَّ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ، وَفِي صُحْبَتِهِ الْأَمِيرُ
بَدْرُ الدِّينِ الْخَزَنْدَارُ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ صَدْرُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ
الْحَنَفِيُّ، وَفَخْرُ الدِّينِ بْنُ لُقْمَانَ وَتَاجُ الدِّينِ بْنُ
الْأَثِيرِ، وَنَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ مَمْلُوكٍ، وَأَجْنَادٍ مِنَ
الْحَلْقَةِ الْمَنْصُورَةِ فَسَارَ عَلَى طَرِيقِ الْكَرَكِ وَنَظَرَ فِي
أَحْوَالِهَا، ثُمَّ مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فَأَحْسَنَ إِلَى
أَهْلِهَا، وَنَظَرَ فِي أَحْوَالِهَا، ثُمَّ مِنْهَا إِلَى مَكَّةَ، فَتَصَدَّقَ
عَلَى الْمُجَاوِرِينَ، ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَةَ، وَطَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ،
وَفُتِحَتْ لَهُ الْكَعْبَةُ فَغَسَلَهَا بِمَاءِ الْوَرْدِ، وَطَيَّبَهَا
بِيَدِهِ، ثُمَّ
وَقَفَ بِبَابِ الْكَعْبَةِ، فَتَنَاوَلَ أَيْدِي النَّاسِ
لِيَدْخُلُوا الْكَعْبَةَ، وَهُوَ بَيْنَهُمْ كَأَحَدِهِمْ، ثُمَّ رَجَعَ فَرَمَى
الْجَمَرَاتِ ثُمَّ تَعَجَّلَ النَّفْرَ، فَعَادَ عَلَى الْمَدِينَةِ
النَّبَوِيَّةِ، فَزَارَ الْقَبْرَ الشَّرِيفَ مَرَّةً ثَانِيَةً، عَلَى سَاكِنِهِ
أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ
الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَصَحَابَتِهِ الْكِرَامِ أَجْمَعِينَ إِلَى يَوْمِ
الدِّينِ. ثُمَّ سَارَ إِلَى الْكَرَكِ فَدَخَلَهَا فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ
مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرْسَلَ الْبَشِيرَ إِلَى دِمَشْقَ بِقُدُومِهِ سَالِمًا،
فَخَرَجَ الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ النَّجِيبِيُّ نَائِبُهَا
لِيَتَلَقَّى الْبَشِيرَ فِي ثَانِي الْمُحَرَّمِ، فَإِذَا هُوَ السُّلْطَانُ
نَفْسُهُ يَسِيرُ فِي الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ، وَقَدْ سَبَقَ الْجَمِيعَ،
فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَةِ سَيْرِهِ وَصَبْرِهِ وَجَلَدِهِ، ثُمَّ سَاقَ
مِنْ فَوْرِهِ حَتَّى دَخَلَ حَلَبَ فِي سَادِسِ الْمُحَرَّمِ لِيَتَفَقَّدَ
أَحْوَالَهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى حَمَاةَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ سَارَ
إِلَى مِصْرَ، فَدَخَلَهَا يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ثَالِثَ صَفَرٍ مِنَ السَّنَةِ
الْمُقْبِلَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ أَغْرَقَتْ مِائَتَيْ
مَرْكَبٍ فِي النِّيلِ، وَهَلَكَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ وَوَقَعَ هُنَاكَ مَطَرٌ
شَدِيدٌ جِدًّا، وَأَصَابَ الشَّامَ مِنْ ذَلِكَ صَقْعَةٌ أَهْلَكَتِ الثِّمَارَ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا أَوْقَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْخُلْفَ بَيْنَ التَّتَارِ مِنْ أَصْحَابِ
أَبْغَا وَأَصْحَابِ ابْنِ مَنْكُوتَمُرَ ابْنِ عَمِّهِ، وَتَفَرَّقُوا
وَاشْتَغَلُوا بِبَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا خَرَجَ أَهْلُ حَرَّانَ مِنْهَا، وَقَدِمُوا الشَّامَ وَكَانَ فِيهِمْ
شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ صُحْبَةَ
أَبِيهِ، وَعُمْرُهُ سِتُّ سِنِينَ، وَأَخُوهُ زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
وَشَرَفُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ، وَهُمَا أَصْغَرُ مِنْهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ أَيْدَمُرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحِلِّيُّ
الصَّالِحِيُّ
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ وَأَحْظَاهُمْ عِنْدَ الْمُلُوكِ، ثُمَّ عِنْدَ
الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، كَانَ يَسْتَنِيبُهُ إِذَا غَابَ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ
السِّنَةُ أَخَذَهُ مَعَهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ وَدُفِنَ
بِتُرْبَتِهِ بِالْقُرْبِ مِنَ الْيَغْمُورِيَّةِ، وَخَلَّفَ أَمْوَالًا
جَزِيلَةً، وَأَوْصَى إِلَى السُّلْطَانِ فِي أَوْلَادِهِ، وَحَضَرَ السُّلْطَانُ
عَزَاءَهُ بِجَامِعِ دِمَشْقَ.
شَرَفُ الدِّينِ أَبُو الطَّاهِرِ
مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَافِظِ أَبِي الْخَطَّابِ عُمَرَ بْنِ دِحْيَةَ الْمِصْرِيُّ،
وُلِدَ سَنَةَ عَشْرٍ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ أَبَاهُ وَجَمَاعَةً، وَتَوَلَّى
مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ الْكَامِلِيَّةِ مُدَّةً، وَحَدَّثَ، وَكَانَ
فَاضِلًا.
الْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ وَثَّابِ بْنِ
رَافِعٍ الْبَجِيلِيُّ الْحَنَفِيُّ
دَرَّسَ وَأَفْتَى عَنِ ابْنِ عَطَاءٍ بِدِمَشْقَ، وَمَاتَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ
الْحَمَّامِ عَلَى مَسَاطِبِ الْحَمَّامِ فَجْأَةً، وَدُفِنَ بقَاسِيُونَ.
الطَّبِيبُ الْمَاهِرُ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ بْنِ
حَيْدَرَةَ الرَّحَبِيُّ
شَيْخُ الْأَطِبَّاءِ بِدِمَشْقَ، وَمُدَرِّسُ الدَّخْوَارِيَّةِ عَنْ وَصِيَّةِ
وَاقِفِهَا بِذَلِكَ، وَلَهُ التَّقْدِمَةُ فِي هَذِهِ الصِّنَاعَةِ عَلَى
أَقْرَانِهِ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
يُسَاقُ بَنُو الدُّنْيَا إِلَى الْحَتْفِ عَنْوَةً وَلَا
يَشْعُرُ الْبَاقِي بِحَالَةِ مَنْ يَمْضِي كَأَنَّهُمُ الْأَنْعَامُ فِي جَهْلِ
بَعْضِهَا
بِمَا تَمَّ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ عَلَى بَعْضِ
الشَّيْخُ نَصِيرُ الدِّينِ الْمُبَارَكُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أَبُو
الْبَرَكَاتِ بْنُ الطَّبَّاخِ الشَّافِعِيُّ
الْعَلَّامَةُ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، دَرَّسَ وَأَفْتَى وَصَنَّفَ
وَانْتُفِعَ بِهِ، وَعُمِّرَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي حَادِي
عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
الْكُوفِيُّ الْمَغْرِبِيُّ النَّحْوِيُّ
الْمُلَقَّبُ بِسِيبَوَيْهِ، وَكَانَ فَاضِلًا بَارِعًا فِي صِنَاعَةِ النَّحْوِ،
تُوُفِّيَ بِمَارَسْتَانِ الْقَاهِرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ سَبْعٍ
وَسِتِّينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَمِنْ شِعْرِهِ:
عَذَّبْتَ قَلْبِي بِهَجْرٍ مِنْكَ مُتَّصِلٍ يَا مَنْ هَوَاهُ ضَمِيرٌ غَيْرُ
مُنْفَصِلِ
مَا زَادَنِي غَيْرَ تَأْكِيدٍ صَدُّكَ لِي فَمَا عَدُولُكَ مِنْ عَطْفٍ إِلَى
بَدَلِ
وَفِيهَا وُلِدَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ كَمَالُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ
الْأَنْصَارِيُّ بْنُ الزَّمَلْكَانِيِّ، شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
فِي ثَانِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ مِنَ الْحِجَازِ عَلَى الْهُجُنِ،
فَلَمْ يَرُعِ النَّاسَ إِلَّا وَهُوَ فِي الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ يَسِيرُ،
فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ تَلَقِّيهِ بِالْهَدَايَا
وَالتُّحَفِ، وَهَذِهِ كَانَتْ عَادَتُهُ، وَقَدْ عَجِبَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَةِ
مَسِيرِهِ وَعُلُوِّ هِمَّتِهِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى حَلَبَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى
مِصْرَ، فَدَخَلَهَا فِي ثَالِثِ الشَّهْرِ مَعَ الرَّكْبِ الْمِصْرِيِّ،
وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ أُمُّ الْمَلِكِ السَّعِيدِ فِي الْحِجَازِ هَذِهِ
السَّنَةَ، ثُمَّ خَرَجَ فِي ثَالِثَ عَشَرَ صَفَرٍ هُوَ وَوَلَدُهُ
وَالْأُمَرَاءُ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَتَصَيَّدَ هُنَالِكَ، وَأَطْلَقَ
لِلْأُمَرَاءِ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ وَالْخُلَعَ، وَرَجَعَ مُؤَيَّدًا
مَنْصُورًا.
وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا قُتِلَ صَاحِبُ مَرَّاكُشَ أَبُو الْعَلَاءِ إِدْرِيسُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْمُلَقَّبُ بِالْوَاثِقِ،
قَتَلَهُ بَنُو مَرِينٍ فِي حَرْبٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِالْقُرْبِ
مِنْ مَرَّاكُشَ.
وَفِي ثَالِثَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا وَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى
دِمَشْقَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ جَيْشِهِ، وَقَدْ لَقُوا فِي الطَّرِيقِ مَشَقَّةً
كَثِيرَةً مِنَ الْبَرْدِ وَالْوَحْلِ، فَخَيَّمَ عَلَى
الزَّنْبَقِيَّةِ، وَبَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ أُخْتِ زَيْتُونٍ
خَرَجَ مِنْ عَكَّا يَقْصِدُ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ، فَرَكِبَ إِلَيْهِ سَرِيعًا،
فَوَجَدَهُ قَرِيبًا مِنْ عَكَّا فَدَخَلَهَا خَوْفًا مِنْهُ.
وَفِي رَجَبٍ تَسَلَّمَ نُوَّابُ السُّلْطَانِ مِصْيَافَ مِنَ
الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، وَهَرَبَ مِنْهَا أَمِيرُهُمُ الصَّارِمُ مُبَارَكُ بْنُ
الرَّضِيِّ، فَتَحَيَّلَ عَلَيْهِ صَاحِبُ حَمَاةَ حَتَّى أَسَرَهُ، وَأَرْسَلَهُ
إِلَى السُّلْطَانِ، فَحَبَسَهُ فِي بَعْضِ الْأَبْرِجَةِ بِالْقَاهِرَةِ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ السُّلْطَانُ الدَّرَابِزِينَاتِ إِلَى الْحُجْرَةِ
النَّبَوِيَّةِ، وَأَمَرَ أَنْ تُقَامَ حَوْلَ الْقَبْرِ صِيَانَةً لَهُ، وَعَمِلَ
لَهَا أَبْوَابًا تُفْتَحُ وَتُغْلَقُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَرَكَّبَ
ذَلِكَ عَلَيْهَا.
وَفِيهَا اسْتَفَاضَتِ الْأَخْبَارُ بِقَصْدِ الْفِرِنْجِ بِلَادَ الشَّامِ،
فَجَهَّزَ السُّلْطَانُ الْعَسَاكِرَ لِقِتَالِهِمْ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُهْتَمٌّ
بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ خَوْفًا عَلَيْهَا، وَقَدْ حَصَّنَهَا وَعَمِلَ جَسُورَةً
إِلَيْهَا إِنْ دَهَمَهَا الْعَدُوُّ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ مِنْهَا.
وَفِيهَا انْقَرَضَتْ دَوْلَةُ بَنِي عَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ بِلَادِ
الْمَغْرِبِ، وَكَانَ آخِرُهُمْ إِدْرِيسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ يُوسُفَ صَاحِبُ مَرَّاكُشَ قَتَلَهُ بَنُو مَرِينٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الصَّاحِبُ زَيْنُ الدِّينِ يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّفِيعِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
مَالِكٍ الْمِصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الزُّبَيْرِيِّ
كَانَ فَاضِلًا رَئِيسًا، وَزَرَ لِلْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ قُطُزٍ ثُمَّ
لِلظَّاهِرِ بَيْبَرْسَ فِي أَوَّلِ دَوْلَتِهِ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى بَهَاءَ
الدِّينِ بْنَ الْحِنَّا، فَلَزِمَ مَنْزِلَهُ حَتَّى أَدْرَكَتْهُ مَنِيَّتُهُ
فِي الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ
نَظْمٌ جَيِّدٌ.
الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنُ خَلِيفَةَ
الْخَزْرَجِيُّ الطَّبِيبُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي أُصَيْبِعَةَ
لَهُ " تَارِيخُ الْأَطِبَّاءِ " فِي عَشْرِ مُجَلَّدَاتٍ لِطَافٍ
وَهُوَ وَقْفٌ بِمَشْهَدِ ابْنِ عُرْوَةَ بِالْأُمَوِيِّ، تُوُفِّيَ بِصَرْخَدَ،
وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ.
الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الدَّائِمِ بْنِ نِعْمَةَ بْنِ
أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ بُكَيْرٍ، أَبُو
الْعَبَّاسِ الْمَقْدِسِيُّ النَّابُلُسِيُّ
تَفَرَّدَ بِالرِّوَايَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ
وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَقَدْ سَمِعَ وَرَحَلَ إِلَى بُلْدَانٍ شَتَّى،
وَكَانَ فَاضِلًا يَكْتُبُ سَرِيعًا، حَكَى الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ أَنَّهُ
كَتَبَ " مُخْتَصَرَ الْخِرَقِيِّ " فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَخَطُّهُ
حَسَنٌ قَوِيٌّ حُلْوٌ، وَقَدْ كَتَبَ " تَارِيخَ ابْنِ عَسَاكِرَ "
مَرَّتَيْنِ، وَاخْتَصَرَهُ لِنَفْسِهِ أَيْضًا، وَأُضِرَّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ
أَرْبَعَ سِنِينَ،
وَلَهُ شِعْرٌ أَوْرَدَ مِنْهُ قُطْبُ الدِّينِ فِي "
تَذْيِيلِهِ "، تُوُفِّيَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَبِهِ دُفِنَ فِي بُكْرَةِ
الثُّلَاثَاءِ عَاشِرِ رَجَبٍ، وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ
أَبُو الْفَضْلِ يَحْيَى بْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ مُحْيِي الدِّينِ أَبِي
الْمَعَالِي مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ ابْنُ الزَّكِيِّ
تَوَلَّى قَضَاءَ دِمَشْقَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَكَذَلِكَ آبَاؤُهُ مِنْ قَبْلِهِ،
كُلٌّ قَدْ وَلِيَهَا، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ حَنْبَلٍ وَابْنِ طَبَرْزَدَ
وَالْكِنْدِيِّ وَابْنِ الْحَرَسْتَانِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَحَدَّثَ وَدَرَّسَ فِي
مَدَارِسَ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ وَلِيَ قَضَاءَ الشَّامِ فِي الدَّوْلَةِ
الْهَلَاوُونِيَّةِ، فَلَمْ يُحْمَدْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو شَامَةَ، تُوُفِّيَ
بِمِصْرَ فِي الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ، وَدُفِنَ بِالْمُقَطَّمِ، وَقَدْ
جَاوَزَ السَّبْعِينَ. وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَحَكَى الشَّيْخُ قُطْبُ
الدِّينِ فِي ذَيْلِهِ - بَعْدَمَا نَسَبَهُ كَمَا ذَكَرْنَا - عَنْ وَلَدِهِ
الْقَاضِي بَهَاءِ الدِّينِ أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى تَفْضِيلِ عَلِيٍّ عَلَى
عُثْمَانَ مُوَافَقَةً لِشَيْخِهِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ
وَلِمَنَامٍ رَآهُ بِجَامِعِ دِمَشْقَ مُعْرِضًا عَنْهُ
بِسَبَبِ مَا كَانَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَيْهِ فِي أَيَّامِ صِفِّينَ،
فَأَصْبَحَ فَنَظَمَ فِي ذَلِكَ قَصِيدَةً يَذْكُرُ فِيهَا مَيْلَهُ إِلَى
عَلِيٍّ، وَإِنْ كَانَ هُوَ أُمَوِيًّا:
أَدِينُ بِمَا دَانَ الْوَصِيُّ وَلَا أَرَى سِوَاهُ وَإِنْ كَانَتْ أُمَيَّةُ
مَحْتِدِي وَلَوْ شَهِدَتْ صِفِّينَ خَيْلِي لَأَعْذَرَتْ
وَسَاءَ بَنِي حَرْبٍ هُنَالِكَ مَشْهَدِي لَكُنْتُ أَسُنُّ الْبِيضَ عَنْهُمْ
مَوَاضِيَا
وَأَرْوِي أَرْمَاحِي وَلَمَّا تَقَصَّدِ وَأَجْلِبُهَا خَيْلًا وَرَجْلًا
عَلَيْهِمُ
وَأَمْنَعُهُمْ نَيْلَ الْخِلَافَةِ بِالْيَدِ
وَمِنْ شِعْرِهِ:
قَالُوا مَا فِي جِلَّقٍ نُزْهَةٌ تُسْلِيكَ عَمَّنْ أَنْتَ بِهِ مُغْرَى
يَا عَاذِلِي دُونَكَ فِي لَحْظِهِ سَهْمًا وَقَدْ عَارَضَهُ سَطْرَا
الصَّاحِبُ فَخْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّاحِبِ بَهَاءِ الدِّينِ عَلِيِّ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ الْحِنَّا الْمِصْرِيُّ
كَانَ وَزِيرَ الصُّحْبَةِ، وَقَدْ كَانَ فَاضِلًا، بَنَى رِبَاطًا بِالْقَرَافَةِ
الْكُبْرَى، وَدَرَّسَ بِمَدْرَسَةِ وَالِدِهِ بِمِصْرَ، وَبِالشَّافِعِيِّ بَعْدَ
ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ،
تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ وَدُفِنَ بِسَفْحِ الْمُقَطَّمِ،
وَفَوَّضَ السُّلْطَانُ وِزَارَةَ الصُّحْبَةِ إِلَى وَلَدِهِ تَاجِ الدِّينِ.
الشَّيْخُ أَبُو نَصْرِ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْخَرَّازِ الصُّوفِيُّ
الْبَغْدَادِيُّ الشَّاعِرُ
لَهُ دِيوَانٌ حَسَنٌ، وَكَانَ جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ، حَسَنَ الْمُذَاكَرَةِ،
دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَقُمْ لَهُ، وَأَنْشَدَهُ قَوْلَهُ:
نَهَضَ الْقَلْبُ حِينَ أَقْبَلْتَ إِجْلَالًا لِمَا فِيهِ مِنْ صَحِيحِ
الْوِدَادِ
وَنُهُوضُ الْقُلُوبِ بِالْوُدِّ أَوْلَى مِنْ نُهُوضِ الْأَجْسَادِ لِلْأَجْسَادِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
فِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ مِنْهَا رَكِبَ السُّلْطَانُ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى عَسْقَلَانَ، فَهَدَمَ مَا
بَقِيَ مِنْ سُورِهَا مِمَّا كَانَ أُهْمِلَ فِي الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ،
وَوَجَدَ فِيمَا هَدَمَ كُوزَيْنِ، فِيهِمَا أَلْفَا دِينَارٍ فَفَرَّقَهُمَا
عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَجَاءَتْهُ الْبِشَارَةُ وَهُوَ هُنَالِكَ بِأَنَّ
مَنْكُوتَمُرَ كَسَرَ جَيْشَ أَبْغَا، فَفَرِحَ بِذَلِكَ ثُمَّ عَادَ إِلَى
الْقَاهِرَةِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَلَغَ السُّلْطَانَ أَنَّ أَهْلَ عَكَّا ضَرَبُوا
رِقَابَ مَنْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ صَبْرًا بِظَاهِرِ
عَكَّا فَأَمَرَ بِمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ أَسْرَى أَهْلِ عَكَّا فَضُرِبَتْ
رِقَابُهُمْ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ مِائَةِ أَسِيرٍ.
وَفِيهَا كَمَلَ جَامِعُ الْمَنْشِيَّةِ، وَأُقِيمَتْ فِيهِ الْجُمُعَةُ فِي
الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ.
وَفِيهَا جَرَتْ حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا بَيْنَ أَهْلِ تُونِسَ وَالْفِرِنْجِ،
ثُمَّ تَصَالَحُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْهُدْنَةِ وَوَضْعِ الْحَرْبِ، بَعْدَمَا
قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَامِنِ رَجَبٍ دَخَلَ الظَّاهِرُ إِلَى دِمَشْقَ وَفِي
صُحْبَتِهِ وَلَدُهُ
الْمَلِكُ السَّعِيدُ وَابْنُ الْحِنَّا الْوَزِيرُ وَجُمْهُورُ الْجَيْشِ، ثُمَّ خَرَجُوا مُتَفَرِّقِينَ وَتَوَاعَدُوا أَنْ يَلْتَقُوا بِالسَّاحِلِ; لِيَشُنُّوا الْغَارَةَ عَلَى جَبَلَةَ وَاللَّاذِقِيَّةِ وَمَرْقَبَ وَعِرْقَةَ وَمَا هُنَالِكَ مِنَ الْبِلَادِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا فَتَحُوا صَافِيتَا وَالْمِجْدَلَ، ثُمَّ سَارُوا فَنَزَلُوا عَلَى حِصْنِ الْأَكْرَادِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ تَاسِعَ عَشَرَ رَجَبٍ، وَلَهُ ثَلَاثُ أَسْوَارٍ، فَنَصَبُوا عَلَيْهَا الْمَنْجَنِيقَاتِ، فَفَتَحَهَا قَهْرًا يَوْمَ نِصْفِ شَعْبَانَ، فَدَخَلَ الْجَيْشُ، وَكَانَ الَّذِي يُحَاصِرُهُ وَلَدُ السُّلْطَانِ الْمَلِكُ السَّعِيدُ، فَأَطْلَقَ السُّلْطَانُ أَهْلَهُ، وَمَنَّ عَلَيْهِمْ وَأَجْلَاهُمْ إِلَى طَرَابُلُسَ، وَتَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ بَعْدَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ مِنَ الْفَتْحِ فَأَجْلَى أَهْلَهَا أَيْضًا، وَجَعَلَ كَنِيسَةَ الْبَلَدِ جَامِعًا، وَأَقَامَ فِيهِ الْجُمُعَةَ، وَوَلَّى فِيهَا نَائِبًا وَقَاضِيًا، وَأَمَرَ بِعِمَارَةِ الْبَلَدِ، وَبَعَثَ صَاحِبُ أَنْطَرْطُوسَ بِمَفَاتِيحِ بَلَدِهِ يَطْلُبُ مِنْهُ الصُّلْحَ عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ مُغَلِّ بِلَادِهِ لِلسُّلْطَانِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ بِهَا نَائِبًا، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ صَاحِبُ الْمَرْقَبِ، فَصَالَحَهُ أَيْضًا عَلَى الْمُنَاصَفَةِ وَوَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، وَبَلَغَ السُّلْطَانَ وَهُوَ مُخَيِّمٌ عَلَى حِصْنِ الْأَكْرَادِ أَنَّ صَاحِبَ جَزِيرَةِ قُبْرُسَ قَدْ رَكِبَ بِجَيْشِهِ إِلَى عَكَّا لِيَنْصُرَ أَهْلَهَا خَوْفًا مِنَ السُّلْطَانِ، فَأَرَادَ
السُّلْطَانُ أَنْ يَغْتَنِمَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ، فَبَعَثَ
جَيْشًا كَثِيفًا فِي سَبْعَةَ عَشَرَ شِينِيًّا لِيَأْخُذُوا جَزِيرَةَ قُبْرُسَ
فِي غَيْبَةِ صَاحِبِهَا عَنْهَا، فَسَارَتِ الْمَرَاكِبُ مُسْرِعَةً، فَلَمَّا
قَارَبَتِ الْمَدِينَةَ جَاءَتْهَا رِيحٌ قَاصِفٌ، فَصَدَمَ بَعْضُهَا بَعْضًا،
فَانْكَسَرَ مِنْهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَرْكَبًا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى،
فَغَرِقَ خَلْقٌ، وَأَسَرَ الْفِرِنْجُ مِنَ الصُّنَّاعِ وَالرِّجَالِ قَرِيبًا
مِنْ أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةِ إِنْسَانٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ. ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ، فَنَصَبَ الْمَجَانِيقَ عَلَى حِصْنِ
عَكَّا، فَسَأَلَهُ أَهْلُهَا الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يُجْلِيَهُمْ فَأَجَابَهُمْ
إِلَى ذَلِكَ، وَدَخَلَ الْبَلَدَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ فَتَسَلَّمَهُ، وَكَانَ
الْحِصْنُ شَدِيدَ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ وَادٍ بَيْنَ
جَبَلَيْنِ، ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ نَحْوَ طَرَابُلُسَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ
صَاحِبُهَا يَقُولُ: مَا مُرَادُ السُّلْطَانِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ؟ فَقَالَ:
جِئْتُ لِأَرْعَى زُرُوعَكُمْ، وَأُخَرِّبَ بِلَادَكُمْ، ثُمَّ أَعُودَ إِلَى
حِصَارِكُمْ فِي الْعَامِ الْآتِي. فَأَرْسَلَ يَسْتَعْطِفُهُ وَيَطْلُبُ مِنْهُ
الْمُصَالَحَةَ وَوَضْعَ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ، فَأَجَابَهُ إِلَى
ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ يَسْتَعْطِفُونَهُ عَلَى
وَالِدِهِمْ وَكَانَ مَسْجُونًا بِالْقَاهِرَةِ، فَقَالَ: سَلِّمُوا إِلَيَّ
الْعُلَّيْقَةَ، وَانْزِلُوا فَخُذُوا إِقْطَاعَاتٍ بِالْقَاهِرَةِ، وَتَسَلَّمُوا
أَبَاكُمْ. فَلَمَّا نَزَلُوا أَمَرَ بِحَبْسِهِمْ بِالْقَاهِرَةِ، وَاسْتَنَابَ
بِحِصْنِ الْعُلَّيْقَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ جَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ
إِلَى دِمَشْقَ، فَأَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَغَرِقَ بِسَبَبِهِ نَاسٌ كَثِيرٌ،
لَا سِيَّمَا الْحُجَّاجُ مِنَ الرُّومِ الَّذِينَ كَانُوا نُزُولًا بَيْنَ
النَّهْرَيْنِ، أَخَذَهُمُ السَّيْلُ وَجِمَالَهُمْ وَأَحْمَالَهُمْ، فَهَلَكُوا
وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ الْبَلَدِ، وَدَخَلَ الْمَاءُ إِلَى الْبَلَدِ مِنْ
مَرَامِي السُّورِ، وَمِنْ بَابِ الْفَرَادِيسِ، فَغَرَّقَ خَانَ ابْنِ
الْمُقَدَّمِ وَأَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَانَ ذَلِكَ
فِي زَمَنِ الصَّيْفِ أَيَّامَ الْمِشْمِشِ.
وَدَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ خَامِسَ عَشَرَ
شَوَّالٍ، فَعَزَلَ الْقَاضِي ابْنَ خَلِّكَانَ، وَكَانَ لَهُ فِي الْقَضَاءِ
عَشْرُ سِنِينَ، وَوَلَّى الْقَاضِي عِزَّ الدِّينِ بْنَ الصَّائِغِ وَخَلَعَ
عَلَيْهِ، وَكَانَ تَقْلِيدُهُ قَدْ كُتِبَ بِظَاهِرِ طَرَابُلُسَ بِسِفَارَةِ
الْوَزِيرِ ابْنِ الْحِنَّا، فَسَارَ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلَى
مِصْرَ. وَفِي حَادِي عَشَرَ شَوَّالٍ دَخَلَ خَضِرٌ الْكُرْدِيُّ شَيْخُ
السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ وَأَصْحَابُهُ إِلَى كَنِيسَةِ الْيَهُودِ،
فَصَلَّوْا فِيهَا، وَأَزَالُوا مَا فِيهَا مِنْ شَعَائِرِ الْيَهُودِ، وَمَدُّوا
فِيهَا سِمَاطًا، وَعَمِلُوا سَمَاعًا وَبَقَوْا عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا، ثُمَّ
أُعِيدَتْ إِلَى الْيَهُودِ.
ثُمَّ خَرَجَ السُّلْطَانُ إِلَى السَّوَاحِلِ، فَافْتَتَحَ بَعْضَهَا، وَأَشْرَفَ
عَلَى عَكَّا وَتَأَمَّلَهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَكَانَ مِقْدَارُ مَا غَرِمَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَفِي الْغَزَوَاتِ قَرِيبًا
مِنْ ثَمَانِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَخْلَفَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، فَكَانَ
وُصُولُهُ إِلَى الْقَاهِرَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَالِثَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ.
وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ وُصُولِهِ أَمْسَكَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ
الْأُمَرَاءِ مِنْهُمُ، الْحَلَبِيُّ وَغَيْرُهُ، بَلَغَهُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا
مَسْكَهُ عَلَى الشَّقِيفِ.
وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَمَرَ بِإِرَاقَةِ
الْخُمُورِ مِنْ سَائِرِ بِلَادِهِ، وَتَهَدَّدَ مَنْ يَعْصِرُهَا أَوْ
يَعْتَصِرُهَا بِالْقَتْلِ، وَأَسْقَطَ ضَمَانَ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ
بِالْقَاهِرَةِ وَحْدَهَا، كُلُّ يَوْمٍ ضَمَانُهُ أَلْفُ دِينَارٍ، ثُمَّ سَارَتِ
الْبُرُدُ بِذَلِكَ إِلَى الْآفَاقِ.
وَفِيهَا قَبَضَ السُّلْطَانُ عَلَى الْعَزِيزِ بْنِ
الْمُغِيثِ صَاحِبِ الْكَرَكِ، وَعَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ كَانُوا
عَزَمُوا عَلَى سَلْطَنَتِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْمَلِكُ تَقِيُّ الدِّينِ عَبَّاسُ بْنُ الْمَلِكِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ
أَيُّوبَ بْنِ شَادِي
وَهُوَ آخِرُ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَوْلَادِ الْعَادِلِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ
مِنَ الْكِنْدِيِّ وَابْنِ الْحَرَسْتَانِيِّ، وَكَانَ مُحْتَرَمًا عِنْدَ
الْمُلُوكِ، لَا يُرْفَعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فِي الْمَجَالِسِ وَالْمَوَاكِبِ،
وَكَانَ لَيِّنَ الْأَخْلَاقِ، حَسَنَ الْعِشْرَةِ، لَا تَمَلُّ مُجَالَسَتَهُ. تُوُفِّيَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ بِدَرْبِ
الرَّيْحَانِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ.
قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
صَالِحِ بْنِ عِيسَى السُّبْكِيُّ الْمَالِكِيُّ
وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ
وَتَفَقَّهَ وَأَفْتَى بِالصَّالِحِيَّةِ، وَوَلِيَ حِسْبَةَ الْقَاهِرَةِ، ثُمَّ
وَلِيَ الْقَضَاءَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ، لَمَّا وَلَّوْا مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ
قَاضِيًا، وَقَدِ امْتَنَعَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، ثُمَّ أَجَابَ بَعْدَ
إِكْرَاهٍ، وَشَرَطَ أَنْ لَا يَأْخُذَ عَلَى الْقَضَاءِ جَامَكِيَّةَ، وَكَانَ
مَشْهُورًا بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ، رَوَى عَنْهُ الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ بْنُ
جَمَاعَةَ وَغَيْرُهُ. تُوُفِّيَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ.
الطَّوَاشِيُّ شُجَاعُ الدِّينِ مُرْشِدٌ الْمُظَفَّرِيُّ
الْحَمَوِيُّ
كَانَ شُجَاعًا بَطَلًا مِنَ الْأَبْطَالِ الشُّجْعَانِ، وَكَانَ لَهُ رَأْيٌ
سَدِيدٌ، وَكَانَ أُسْتَاذُهُ لَا يُخَالِفُهُ، وَكَذَلِكَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ،
تُوُفِّيَ بِحَمَاةَ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِالْقُرْبِ مِنْ مَدْرَسَتِهِ
بِحَمَاةَ.
ابْنُ سَبْعِينَ: عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَبْعِينَ، قُطْبُ الدِّينِ أَبُو
مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ الرُّقُوطِيُّ
نِسْبَةً إِلَى رُقُوطَةَ بَلْدَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ مُرْسِيَةَ، وُلِدَ سَنَةَ
أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ بِعِلْمِ الْأَوَائِلِ
وَالْفَلْسَفَةِ، فَتَوَلَّدَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الْإِلْحَادِ،
وَصَنَّفَ فِيهِ وَكَانَ يَعْرِفُ السِّيمِيَا، فَكَانَ يُلَبِّسُ بِذَلِكَ عَلَى
الْأَغْبِيَاءِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ حَالٌ
مِنْ أَحْوَالِ الْقَوْمِ وَلَهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ كِتَابُ " الْبُدِّ
"، وَكِتَابُ " الْهُوَ " وَقَدْ أَقَامَ بِمَكَّةَ، وَاسْتَحْوَذَ
عَلَى عَقْلِ صَاحِبِهَا أَبُو نُمَيٍّ، وَجَاوَرَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ
بِغَارِ حِرَاءَ يَرْتَجِي - فِيمَا يُنْقَلُ عَنْهُ - أَنْ يَأْتِيَهُ فِيهِ
وَحْيٌ كَمَا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِنَاءً عَلَى
مَا يَعْتَقِدُهُ مِنَ الْعَقِيدَةِ الْفَاسِدَةِ مِنْ أَنَّ النُّبُوَّةَ
مُكْتَسَبَةٌ، وَأَنَّهَا فَيْضٌ يَفِيضُ عَلَى الْعَقْلِ إِذَا صَفَا، فَمَا
حَصَلَ لَهُ إِلَّا الْخِزْيُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِنْ كَانَ مَاتَ
عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ إِذَا رَأَى الطَّائِفِينَ حَوْلَ الْبَيْتِ يَقُولُ
عَنْهُمْ: كَأَنَّهُمُ الْحَمِيرُ حَوْلَ
الْمَدَارِ، وَإِنَّهُمْ لَوْ طَافُوا بِهِ كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ طَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ. فَاللَّهُ يَحْكُمُ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ، وَقَدْ نُقِلَتْ عَنْهُ عَظَائِمُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، تُوُفِّيَ فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ بِمَكَّةَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
اسْتَهَلَّتْ وَخَلِيفَةُ الْوَقْتِ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبُو
الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ الْإِسْلَامِ الْمَلِكُ
الظَّاهِرُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ رَكِبَ السُّلْطَانُ
إِلَى الْبَحْرِ لِإِلْقَاءِ الشَّوَانِي الَّتِي عُمِلَتْ عِوَضًا عَمَّا غَرِقَ
بِجَزِيرَةِ قُبْرُسَ، فَرَكِبَ فِي شِينِيٍّ مِنْهَا، وَمَعَهُ الْأَمِيرُ بَدْرُ
الدِّينِ الْخَزَنْدَارُ، فَمَالَتْ بِهِمْ فَسَقَطَ الْخَزَنْدَارُ فِي
الْبَحْرِ، فَغَاصَ فِي الْمَاءِ، فَأَلْقَى إِنْسَانٌ نَفْسَهُ وَرَاءَهُ،
فَأَخَذَ بِشَعْرِهِ وَأَنْقَذَهُ مِنَ الْغَرَقِ، فَخَلَعَ السُّلْطَانُ عَلَى
ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ.
وَفِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ رَكِبَ السُّلْطَانُ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنَ
الْخَاصِّكِيَّةِ، وَالْأُمَرَاءِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ حَتَّى قَدِمَ
الْكَرَكَ، وَاسْتَصْحَبَ نَائِبَهَا مَعَهُ إِلَى دِمَشْقَ، فَدَخَلَهَا فِي ثَانِي
عَشَرَ صَفَرٍ، وَمَعَهُ الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ أَيْدَمُرُ نَائِبُ الْكَرَكِ،
فَوَلَّاهُ نِيَابَةَ دِمَشْقَ، وَعَزَلَ عَنْهَا جَمَالَ الدِّينِ آقُوشَ
النَّجِيبِيَّ فِي رَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى حَمَاةَ،
وَعَادَ بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَصَلَتِ الْجُفَالَةُ مِنْ حَلَبَ وَحَمَاةَ وَحِمْصَ
إِلَى دِمَشْقَ بِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ التَّتَارِ، وَجَفَلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ دِمَشْقَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ وَصَلَتِ الْعَسَاكِرُ الْمِصْرِيَّةُ إِلَى حَضْرَةِ السُّلْطَانِ
إِلَى دِمَشْقَ، فَسَارَ بِهِمْ مِنْهَا فِي سَابِعِ الشَّهْرِ فَاجْتَازَ
بِحَمَاةَ، وَاسْتَصْحَبَ مَلِكَهَا الْمَنْصُورَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى حَلَبَ،
فَخَيَّمَ بِالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ بِهَا، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ
عَسَاكِرَ الرُّومِ جَمَعُوا نَحْوًا مِنْ عَشْرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَبَعَثُوا
طَائِفَةً مِنْهُمْ، فَأَغَارُوا عَلَى عَيْنِ تَابٍ، وَوَصَلُوا إِلَى قَسْطُونَ،
وَوَقَعُوا عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ التُّرْكُمَانِ بَيْنَ حَارِمٍ وَأَنْطَاكِيَّةَ،
فَاسْتَأْصَلُوهُمْ، فَلَمَّا سَمِعَ التَّتَارُ بِوُصُولِ السُّلْطَانِ، رَجَعُوا
عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَكَانَ بَلَغَهُ أَنَّ الْفِرِنْجَ أَغَارُوا عَلَى بِلَادِ
قَاقُونَ، وَنَهَبُوا طَائِفَةً مِنَ التُّرْكُمَانِ، فَقَبَضَ عَلَى الْأُمَرَاءِ
الَّذِينَ هُنَاكَ; حَيْثُ لَمْ يَهْتَمُّوا بِحِفْظِ الْبِلَادِ، وَعَادَ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَفِي ثَالِثِ شَعْبَانَ أَمْسَكَ السُّلْطَانُ قَاضِي الْحَنَابِلَةِ بِمِصْرَ
شَمْسَ الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ الْعِمَادِ الْمَقْدِسِيَّ، وَأَخَذَ مَا عِنْدَهُ
مِنَ الْوَدَائِعِ، فَأَخَذَ زَكَاتَهَا، وَرَدَّ
بَعْضَهَا إِلَى أَرْبَابِهَا، وَاعْتَقَلَهُ إِلَى
شَعْبَانَ مِنْ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَكَانَ الَّذِي وَشَى بِهِ رَجُلٌ
مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ يُقَالُ لَهُ: شَبِيبٌ. ثُمَّ تَبَيَّنَ لِلسُّلْطَانِ
نَزَاهَةُ الْقَاضِي وَبَرَاءَتُهُ، فَأَعَادَهُ إِلَى مَنْصِبِهِ فِي سَنَةِ
ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَجَاءَ السُّلْطَانُ فِي شَعْبَانَ إِلَى أَرَاضِي
عَكَّا، فَأَغَارَ عَلَيْهَا، فَسَأَلَهُ صَاحِبُهَا الْمُهَادَنَةَ فَأَجَابَهُ
إِلَى ذَلِكَ، فَهَادَنَهُ عَشْرَ سِنِينَ وَعَشْرَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرَةَ
أَيَّامٍ وَعَشْرَةَ سَاعَاتٍ، وَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ، فَقُرِئَ بِدَارِ
السَّعَادَةِ كِتَابُ الصُّلْحِ، وَاسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ عَادَ
السُّلْطَانُ إِلَى بِلَادِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، فَأَخَذَ عَامَّتَهَا. قَالَ
قُطْبُ الدِّينِ: وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ وُلِدَتْ زَرَافَةٌ بِقَلْعَةِ
الْجَبَلِ، وَأُرْضِعَتْ مِنْ بَقَرَةٍ. قَالَ: وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يُعْهَدْ
مِثْلُهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ سَلَّارُ بْنُ حَسَنِ بْنِ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ
الْإِرْبِلِيُّ الشَّافِعِيُّ
أَحَدُ مَشَايِخِ الْمَذْهَبِ، وَقَدِ اشْتَغَلَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ مُحْيِي
الدِّينِ النَّوَوِيُّ، وَقَدِ اخْتَصَرَ " الْبَحْرَ " لِلرُّويَانِيِّ
فِي مُجَلَّدَاتٍ عَدِيدَةٍ هِيَ عِنْدِي بِخَطِّ يَدِهِ، وَكَانَتِ الْفُتْيَا
تَدُورُ عَلَيْهِ بِدِمَشْقَ، تُوُفِّيَ فِي عَشْرِ السَّبْعِينَ وَدُفِنَ بِبَابِ
الصَّغِيرِ، وَكَانَ مُعِيدًا بِالْبَاذَرَائِيَّةِ مِنْ أَيَّامِ الْوَاقِفِ،
لَمْ يَطْلُبْ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَجِيهُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ بْنِ سُوَيْدٍ التِّكْرِيتِيُّ
التَّاجِرُ
الْكَبِيرُ ذُو الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ، وَكَانَ
مُعَظَّمًا عِنْدَ الدَّوْلَةِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ،
كَانَ يُجِلُّهُ وَيُكْرِمُهُ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْدَى إِلَيْهِ جَمِيلًا
فِي حَالِ إِمْرَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ السَّلْطَنَةَ، وَدُفِنَ بِرِبَاطِهِ
وَتُرْبَتِهِ بِالْقُرْبِ مِنَ الرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ بِقَاسِيُونَ، وَكَانَتْ
كُتُبُ الْخَلِيفَةِ تَرِدُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَكَانَتْ مُكَاتَبَاتُهُ
مَقْبُولَةً عِنْدَ جَمِيعِ الْمُلُوكِ، حَتَّى مُلُوكِ الْفِرِنْجِ فِي
السَّوَاحِلِ وَفِي أَيَّامِ التَّتَارِ فِي أَيَّامِ هُولَاوُونَ، وَكَانَ
كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ وَالْبِرِّ.
نَجْمُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ
اللُّبُودِيِّ
وَاقِفُ اللُّبُودِيَّةِ الَّتِي عِنْدَ حَمَّامِ الْفَلَكِ الْمُسِيرِيِّ عَلَى
الْأَطِبَّاءِ، وَلَدَيْهِ فَضِيلَةٌ بِمَعْرِفَةِ الطِّبِّ، وَقَدْ وَلِيَ نَظَرَ
الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ عِنْدَ اللُّبُودِيَّةِ.
الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْبَكَّاءُ
صَاحِبُ الزَّاوِيَةِ بِالْقُرْبِ مِنْ بَلَدِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
كَانَ مَشْهُورًا بِالصَّلَاحِ وَالْعِبَادَةِ وَالْإِطْعَامِ لِمَنِ اجْتَازَ
بِهِ مِنَ الْمَارَّةِ وَالزُّوَّارِ، وَكَانَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ قَلَاوُونُ
يُثْنِي عَلَيْهِ وَيَذْكُرُ أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِهِ وَهُوَ أَمِيرٌ، وَأَنَّهُ
كَاشَفَهُ فِي أَشْيَاءَ وَقَعَتْ جَمِيعُهَا، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ
سَيَمْلِكُ. نَقَلَ ذَلِكَ قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ، وَذَكَرَ أَنَّ سَبَبَ
بُكَائِهِ الْكَثِيرِ أَنَّهُ صَحِبَ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ
وَكَرَامَاتٌ، وَأَنَّهُ خَرَجَ مَعَهُ مِنْ بَغْدَادَ، فَانْتَهَوْا فِي سَاعَةٍ
وَاحِدَةٍ إِلَى بَلْدَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَغْدَادَ مَسِيرَةُ سَنَةٍ، وَأَنَّ
ذَلِكَ الرَّجُلَ قَالَ لَهُ: إِنِّي سَأَمُوتُ فِي الْوَقْتِ
الْفُلَانِيِّ، فَاشْهَدْنِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ حَضَرْتُ عِنْدَهُ وَهُوَ فِي السِّيَاقِ، وَقَدِ اسْتَدَارَ إِلَى جِهَةِ الشَّرْقِ، فَحَوَّلْتُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَاسْتَدَارَ إِلَى الشَّرْقِ فَحَوَّلْتُهُ أَيْضًا، فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: لَا تَتْعَبْ فَإِنِّي لَا أَمُوتُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ. وَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ الرُّهْبَانِ حَتَّى مَاتَ، فَحَمَلْنَاهُ فَجِئْنَا بِهِ إِلَى دَيْرٍ هُنَاكَ فَوَجَدْنَاهُمْ فِي حُزْنٍ عَظِيمٍ، فَقُلْنَا لَهُمْ: مَا شَأْنُكُمْ؟ فَقَالُوا: كَانَ عِنْدَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمَ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ. فَقُلْنَا لَهُمْ: خُذُوا هَذَا بَدَلَهُ وَسَلِّمُوا إِلَيْنَا صَاحِبَنَا. قَالَ: فَوَلَّيْنَاهُ فَغَسَّلْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ وَصَلَّيْنَا عَلَيْهِ وَدَفَنَّاهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَوَلُوا هُمْ ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَدَفَنُوهُ فِي مَقْبَرَةِ النَّصَارَى، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى حُسْنَ الْخَاتِمَةِ. مَاتَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
فِي خَامِسِ الْمُحَرَّمِ وَصَلَ الظَّاهِرُ دِمَشْقَ مِنْ بِلَادِ السَّوَاحِلِ
الَّتِي فَتَحَهَا وَقَدْ مَهَّدَهَا، وَرَكِبَ فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ إِلَى
الْقَاهِرَةِ، فَأَقَامَ بِهَا سَنَةً، ثُمَّ عَادَ فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي رَابِعِ
صَفَرٍ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا وَصَلَ صَاحِبُ النُّوبَةِ إِلَى عَيْذَابَ، فَنَهَبَ
تُجَّارَهَا، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا، مِنْهُمُ الْوَالِي وَالْقَاضِي،
فَسَارَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ أَيْدُغْدِي الْخَزَنْدَارُ،
فَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ بِلَادِهِ، وَنَهَبَ وَحَرَّقَ وَهَدَمَ وَدَوَّخَ
الْبِلَادَ، وَأَخَذَ بِالثَّأْرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ
مُظَفَّرِ الدِّينِ عُثْمَانَ بْنِ نَاصِرِ الدِّينِ مَنْكُورَسُ صَاحِبُ
صِهْيَوْنَ، وَدُفِنَ فِي تُرْبَةِ وَالِدِهِ فِي عَشْرِ السَّبْعِينَ، وَكَانَ
لَهُ فِي مُلْكِ صِهْيَوْنَ وَبَرْزَيَهْ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَتَسَلَّمَهَا
بَعْدَهُ وَلَدُهُ سَابِقُ الدِّينِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ الظَّاهِرِ
يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْحُضُورِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا
حَضَرَ أَقْطَعُهُ خُبْزًا، وَبَعَثَ إِلَى الْبَلَدَيْنِ
نُوَّابًا مِنْ جِهَتِهِ.
وَفِي خَامِسِ جُمَادَى الْأُولَى وَصَلَ السُّلْطَانُ بِعَسْكَرِهِ إِلَى
الْفُرَاتِ; لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ التَّتَارِ هُنَالِكَ،
فَخَاضَ إِلَيْهِمُ الْفُرَاتَ بِنَفْسِهِ وَجُنْدِهِ، وَقَتَلَ مِنْ أُولَئِكَ
مَقْتَلَةً كَبِيرَةً وَخَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ أَوَّلُ مَنِ اقْتَحَمَ
الْفُرَاتَ يَوْمَئِذٍ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قَلَاوُونُ وَبَدْرُ الدِّينِ
بَيْسَرِيُّ، وَتَبِعَهُمَا السُّلْطَانُ، ثُمَّ فَعَلَ بِالتَّتَارِ مَا فَعَلَ،
ثُمَّ سَاقَ إِلَى نَاحِيَةِ الْبِيرَةِ، وَقَدْ كَانَتْ مُحَاصَرَةً بِطَائِفَةٍ
مِنَ التَّتَارِ أُخْرَى، فَلَمَّا سَمِعُوا بِقُدُومِهِ هَرَبُوا وَتَرَكُوا
أَمْوَالَهُمْ وَأَثْقَالَهُمْ، وَدَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى الْبِيرَةِ فِي
أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَفَرَّقَ فِي أَهْلِهَا أَمْوَالًا كَثِيرَةً، ثُمَّ عَادَ
إِلَى دِمَشْقَ فِي ثَالِثِ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَمَعَهُ الْأَسْرَى. وَخَرَجَ
مِنْهَا فِي سَابِعِهِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَخَرَجَ وَلَدُهُ
الْمَلِكُ السَّعِيدُ لِتَلَقِّيهِ، وَدَخَلَا إِلَى الْقَاهِرَةِ وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا. وَمِمَّا قَالَهُ الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودٌ الْكَاتِبُ -
وَأَوْلَادُهُ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو الشِّهَابِ مَحْمُودٍ - فِي خَوْضِ
السُّلْطَانِ الْفُرَاتَ بِالْجَيْشِ:
سِرْ حَيْثُ شِئْتَ لَكَ الْمُهَيْمِنُ جَارُ وَاحْكُمْ فَطَوْعُ مُرَادِكَ
الْأَقْدَارُ لَمْ يَبْقَ لِلدِّينِ الَّذِي أَظْهَرْتَهُ
يَا رُكْنَهُ عِنْدَ الْأَعَادِي ثَارُ لَمَّا تَرَاقَصَتِ الرُّءُوسُ تَحَرَّكَتْ
مِنْ مُطْرِبَاتِ قِسِيِّكَ الْأَوْتَارُ خُضْتَ الْفُرَاتَ بِسَابِحٍ أَفْضَى
بِهِ
مَوْجُ الصِّبَا مِنْ فِعْلِهِ الْآثَارُ
حَمَلَتْكَ أَمْوَاجُ الْفُرَاتِ وَمَنْ رَأَى
بَحْرًا سِوَاكَ تُقِلُّهُ الْأَنْهَارُ وَتَقَطَّعَتْ فَرَقًا وَلَمْ يَكُ
طَوْدَهَا
إِذْ ذَاكَ إِلَّا جَيْشُكَ الْجَرَّارُ
وَقَالَ بَعْضُ مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ:
وَلَمَّا تَرَاءَيْنَا الْفُرَاتَ بِخَيْلِنَا سَكَرْنَاهُ مِنَّا بِالْقَنَا
وَالصَّوَارِمِ
فَأَوْقَفَتِ التَّيَّارَ عَنْ جَرَيَانِهِ إِلَى حِيِنِ عُدْنَا بِالْغِنَى
وَالْغَنَائِمِ
وَقَالَ آخَرٌ وَلَا بَأْسَ بِهِ:
الْمَلِكُ الظَّاهِرُ سُلْطَانُنَا نَفْدِيهِ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَهْلِ
اقْتَحَمَ الْمَاءَ لِيُطْفِي بِهِ حَرَارَةَ الْقَلْبِ مِنَ الْمُغْلِ
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ثَالِثِ رَجَبٍ خَلَعَ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَرَاءِ
مِنْ حَاشِيَتِهِ وَمُقَدَّمِي الْحَلْقَةِ وَأَرْبَابِ الدَّوْلَةِ، وَأَعْطَى
كُلَّ إِنْسَانٍ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْخَيْلِ وَالذَّهَبِ وَالْحَوَائِصِ،
وَكَانَ مَبْلَغُ مَا أَنْفَقَ بِذَلِكَ نَحْوَ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِي شَعْبَانَ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى مَنْكُوتَمُرَ هَدَايَا عَظِيمَةً.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِي عَشَرَ شَوَّالٍ اسْتَدْعَى السُّلْطَانُ
شَيْخَهُ الشَّيْخَ خَضِرًا الْكُرْدِيَّ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ إِلَى
الْقَلْعَةِ، وَحُوقِقَ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ رُمِيَ بِهَا، وَعَلَى
مُنْكَرَاتٍ كَثِيرَةٍ ارْتَكَبَهَا، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ عِنْدَ ذَلِكَ
بِاعْتِقَالِهِ وَحَبْسِهِ ثُمَّ بِاغْتِيَالِهِ، وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ سَلَّمَتِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ مَا
كَانَ بَقِيَ بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْحُصُونِ، وَهِيَ الْكَهْفُ وَالْقَدَمُوسُ
وَالْمَيْنَقَةُ، وَعُوِّضُوا عَنْ ذَلِكَ بِإِقْطَاعَاتٍ، وَلَمْ يَبْقَ
بِالشَّامِ شَيْءٌ لَهُمْ مِنَ الْقِلَاعِ، وَاسْتَنَابَ السُّلْطَانُ فِيهَا.
وَفِيهَا أَمَرَ السُّلْطَانُ بِعِمَارَةِ جُسُورَةٍ فِي السَّوَاحِلِ، وَغَرِمَ
عَلَيْهَا مَالًا كَثِيرًا، وَحَصَلَ لِلنَّاسِ بِذَلِكَ رِفْقٌ كَبِيرٌ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ أَبُو الْفَضْلِ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ
بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ الْحُبُوبِيِّ
الثَّعْلَبِيُّ الدِّمَشْقِيُّ
كَانَ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِ دِمَشْقَ وَلِيَ نَظَرَ الْأَيْتَامِ وَالْحِسْبَةَ،
ثُمَّ وِكَالَةَ بَيْتِ الْمَالِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَخَرَّجَ لَهُ ابْنُ
بَلَبَانَ مَشْيَخَةً قَرَأَهَا عَلَيْهِ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ
بِالْجَامِعِ، فَسَمِعَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْفُضَلَاءِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
الْخَطِيبُ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ
عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ
بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ الْحَرَّانِيُّ، الْخَطِيبُ بِهَا، وَبَيْتُهُ
مَعْرُوفٌ بِالْعِلْمِ وَالْخَطَابَةِ وَالرِّيَاسَةِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ
الصُّوفِيَّةِ، وَقَدْ قَارَبَ السِّتِّينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى،
وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ جَدِّهِ فَخْرِ الدِّينِ
صَاحِبِ دِيوَانِ الْخُطَبِ الْمَشْهُورَةِ، تُوُفِّيَ بِخَانْقَاهِ الْقَصْرِ
ظَاهِرِ دِمَشْقَ.
الشَّيْخُ خَضِرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمِهْرَانِيُّ الْعَدَوِيُّ
شَيْخُ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ بَيْبَرْسَ كَانَ حَظِيًّا عِنْدَهُ مُكْرَمًا
لَدَيْهِ، لَهُ عِنْدَهُ الْمَكَانَةُ الرَّفِيعَةُ، كَانَ السُّلْطَانُ يَنْزِلُ
بِنَفْسِهِ إِلَى زَاوِيَتِهِ الَّتِي بَنَاهَا لَهُ فِي الْحُسَيْنِيَّةِ فِي
كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَبَنَى لَهُ عِنْدَهَا جَامِعًا
يَخْطُبُ فِيهِ لِلْجُمُعَةِ، وَكَانَ يُعْطِيهِ مَالًا كَثِيرًا وَيُطْلِقُ لَهُ
مَا أَرَادَ، وَوَقَفَ عَلَى زَاوِيَتِهِ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، وَكَانَ
مُعَظَّمًا عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ بِسَبَبِ حُبِّ السُّلْطَانِ
وَتَعْظِيمِهِ لَهُ، وَكَانَ يُمَازِحُهُ إِذَا جَلَسَ عِنْدَهُ، وَكَانَ فِيهِ
خَيْرٌ وَدِينٌ وَصَلَاحٌ، وَقَدْ كَاشَفَ السُّلْطَانَ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ،
وَقَدْ دَخَلَ مَرَّةً كَنِيسَةَ الْقُمَامَةِ بِالْمَقْدِسِ، فَذَبَحَ
قِسِّيسَهَا بِيَدِهِ، وَوَهَبَ مَا فِيهَا لِأَصْحَابِهِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ
بِالْكَنِيسَةِ الَّتِي بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَهِيَ مَنْ أَعْظَمِ
كَنَائِسِهِمْ، نَهَبَهَا وَحَوَّلَهَا مَسْجِدًا وَمَدْرَسَةً أَنْفَقَ عَلَيْهَا
أَمْوَالًا كَثِيرَةً مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَسَمَّاهَا الْمَدْرَسَةَ
الْخَضْرَاءَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِكَنِيسَةِ الْيَهُودِ بِدِمَشْقَ، دَخَلَهَا
وَنَهَبَ مَا فِيهَا مِنَ الْآلَاتِ وَالْأَمْتِعَةِ وَمَدَّ فِيهَا سِمَاطًا،
وَاتَّخَذَهَا مَسْجِدًا مُدَّةً، ثُمَّ سَعَوْا إِلَيْهِ فِي رَدِّهَا إِلَيْهِمْ
وَإِبْقَائِهَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ اتَّفَقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَنَّهُ وَقَعَتْ
مِنْهُ أَشْيَاءُ أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ، وَحُوقِقَ عَلَيْهَا عِنْدَ السُّلْطَانِ
الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، فَظَهَرَ لَهُ مِنْهُ مَا أَوْجَبَ سِجْنَهُ، ثُمَّ أَمَرَ
بِإِعْدَامِهِ وَهَلَاكِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ
بِزَاوِيَتِهِ، سَامَحَهُ اللَّهُ، وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ يُحِبُّهُ مَحَبَّةً
عَظِيمَةً حَتَّى إِنَّهُ سَمَّى بَعْضَ أَوْلَادِهِ خَضِرًا مُوَافَقَةً
لِاسْمِهِ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْقُبَّةُ الَّتِي عَلَى الْجَبَلِ غَرْبِيَّ
الرَّبْوَةِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: قُبَّةُ الشَّيْخِ خَضِرٍ.
مُصَنِّفُ " التَّعْجِيزِ "
الْعَلَّامَةُ تَاجُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، أَبُو الْقَاسِمِ
الْمَوْصِلِيُّ، مِنْ بَيْتِ الْفِقْهِ وَالرِّيَاسَةِ وَالتَّدْرِيسِ، وُلِدَ
سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ وَاشْتَغَلَ وَحَصَّلَ
وَصَنَّفَ، وَاخْتَصَرَ " الْوَجِيزَ " فِي كِتَابِهِ "
التَّعْجِيزِ "، وَاخْتَصَرَ " الْمَحْصُولَ "، وَلَهُ طَرِيقَةٌ
فِي الْخِلَافِ أَخَذَهَا عَنْ رُكْنِ الدِّينِ الطَّاوُسِيِّ، وَكَانَ جَدُّهُ
عِمَادُ الدِّينِ بْنُ يُونُسَ شَيْخَ الْمَذْهَبِ فِي وَقْتِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا قَدِمَ الظَّاهِرُ إِلَى دِمَشْقَ، وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّ
أَبْغَا وَصَلَ إِلَى بَغْدَادَ، فَتَصَيَّدَ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَأَرْسَلَ
إِلَى الْعَسَاكِرِ الْمِصْرِيَّةِ أَنْ يَتَأَهَّبُوا لِلْحُضُورِ، وَاسْتَعَدَّ
السُّلْطَانُ لِذَلِكَ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ أَحْضَرَ مَلِكَ الْكُرْجِ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ
بِدِمَشْقَ، وَكَانَ قَدْ جَاءَ مُتَنَكِّرًا لِزِيَارَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
فَظَهَرَ عَلَيْهِ، فَحُمِلَ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ، فَسَجَنَهُ بِالْقَلْعَةِ.
وَفِيهَا كَمَلَ بِنَاءُ جَامِعِ دَيْرِ الطِّينِ ظَاهِرَ الْقَاهِرَةِ وَصُلِّيَ
فِيهِ الْجُمُعَةُ.
وَفِيهَا سَارَ السُّلْطَانُ إِلَى الْقَاهِرَةِ، فَدَخَلَهَا فِي سَابِعِ رَجَبٍ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ دَخَلَ الْمَلِكُ السَّعِيدُ بْنُ الظَّاهِرِ إِلَى
دِمَشْقَ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ، فَأَقَامَ بِهَا شَهْرًا ثُمَّ عَادَ.
وَفِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ خَتَنَ السُّلْطَانُ وَلَدَهُ خَضِرًا الَّذِي
سَمَّاهُ بِاسْمِ شَيْخِهِ، وَخُتِنَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَوْلَادِ
الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ وَقْتًا هَائِلًا.
وَفِيهَا فَوَّضَ مَلِكُ التَّتَارِ إِلَى عَلَاءِ الدِّينِ صَاحِبِ الدِّيوَانِ
بِبَغْدَادَ النَّظَرَ فِي أَمْرِ تُسْتَرَ وَأَعْمَالِهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا
لِيَتَصَفَّحَ أَحْوَالَهَا، فَوَجَدَ بِهَا شَابًّا مِنْ أَوْلَادِ التُّجَّارِ
يُقَالُ لَهُ: لِي. قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَشَيْئًا مِنَ الْفِقْهِ وَ "
الْإِشَارَاتِ " لِابْنِ سِينَا، وَنَظَرَ فِي
النُّجُومِ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ،
وَصَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ جَهَلَةِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَقَدْ
أَسْقَطَ لَهُمْ مِنَ الْفَرَائِضِ صَلَاةَ الْعَصْرِ وَعِشَاءَ الْآخِرَةِ،
فَاسْتَحْضَرَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَرَآهُ ذَكِيًّا، إِنَّمَا يَفْعَلُ
ذَلِكَ عَنْ قَصْدٍ، فَأَمَرَ بِهِ، فَقُتِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، جَزَاهُ اللَّهُ
خَيْرًا، وَأَمَرَ الْعَوَامَّ فَنَهَبُوا أَتْبَاعَهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُؤَيِّدُ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي الصَّدْرُ الرَّئِيسُ أَسْعَدُ بْنُ أَبِي
غَالِبٍ الْمُظَفَّرِ الْوَزِيرِ مُؤَيِّدِ الدِّينِ أَسْعَدَ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ
أَسْعَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ
جَاوَزَ التِّسْعِينَ، وَكَانَ رَئِيسًا كَبِيرًا وَاسِعَ النِّعْمَةِ، لَا
يُبَاشِرُ شَيْئًا مِنَ الْوَظَائِفِ، وَقَدْ أَلْزَمُوهُ بَعْدَ ابْنِ سُوَيْدٍ
بِمُبَاشَرَةِ مَصَالِحِ السُّلْطَانِ، فَبَاشَرَهَا بِلَا جَامَكِيَّةٍ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبُسْتَانِهِ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ ثَالِثَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ. وَالِدُ الصَّدْرِ عِزِّ الدِّينِ
حَمْزَةَ رَئِيسُ الْبَلَدَيْنِ دِمَشْقَ وَالْقَاهِرَةِ، وَجَدُّهُمْ مُؤَيِّدُ
الدِّينِ أَسْعَدُ بْنُ حَمْزَةَ الْكَبِيرُ، كَانَ وَزِيرًا لِلْمَلِكِ
الْأَفْضَلِ عَلِيِّ بْنِ النَّاصِرِ فَاتِحِ الْقُدْسِ كَانَ رَئِيسًا فَاضِلًا،
لَهُ كِتَابُ " الْوَصِيَّةِ فِي الْأَخْلَاقِ الْمَرْضِيَّةِ "
وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ جَيِّدَةٌ فِي النَّظْمِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
يَا رَبِّ جُدْ لِي إِذَا مَا ضَمَّنِي جَدَثِي بِرَحْمَةٍ مِنْكَ تُنْجِينِي مِنَ
النَّارِ أَحْسِنْ جِوَارِي إِذَا أَمْسَيْتُ جَارَكَ فِي
لَحْدِي فَإِنَّكَ قَدْ أَوْصَيْتَ بِالْجَارِ
وَأَمَّا وَالِدُهُ حَمْزَةُ بْنُ أَسْعَدَ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ فَهُوَ الْعَمِيدُ، وَكَانَ يَكْتُبُ جَيِّدًا،
وَصَنَّفَ تَارِيخًا فِيمَا بَعْدَ سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ إِلَى
سَنَةِ وَفَاتِهِ فِي خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ فَارِسُ الدِّينِ أَقَطَايُ الْمُسْتَعْرِبُ
أَتَابِكُ الْعَسَاكِرِ الْمِصْرِيَّةِ، كَانَ أَوَّلًا مَمْلُوكًا لِابْنِ
يُمْنٍ، ثُمَّ صَارَ مَمْلُوكًا لِلصَّالِحِ أَيُّوبَ فَأَمَّرَهُ، ثُمَّ عَظُمَ
شَأْنُهُ فِي دَوْلَةِ الْمُظَفَّرِ، وَصَارَ أَتَابِكَ الْعَسَاكِرِ، فَلَمَّا
قُتِلَ امْتَدَّتْ أَطْمَاعُ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ إِلَى الْمَمْلَكَةِ،
فَبَايَعَ أَقَطَايُ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ، فَتَبِعَهُ الْجَيْشُ عَلَى ذَلِكَ،
وَكَانَ الظَّاهِرُ يَعْرِفُهَا لَهُ وَلَا يَنْسَاهَا، ثُمَّ قَبْلَ وَفَاتِهِ
بِقَلِيلٍ انْهَضَمَ عِنْدَ الظَّاهِرِ، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
بِالْقَاهِرَةِ.
الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ غَانِمِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
عَسَاكِرَ بْنِ الْحُسَيْنِ الْمَقْدِسِيُّ
لَهُ زَاوِيَةٌ بِنَابُلُسَ، وَلَهُ أَشْعَارٌ رَائِقَةٌ، وَكَلَامٌ قَوِيٌّ فِي
عِلْمِ التَّصَوُّفِ، وَقَدْ طَوَّلَ الْيُونِينِيُّ تَرْجَمَتَهُ، وَأَوْرَدَ
مِنْ أَشْعَارِهِ شَيْئًا كَثِيرًا.
قَاضِي الْقُضَاةِ كَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ عُمَرُ بْنُ بُنْدَارِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ التَّفْلِيسِيُّ الشَّافِعِيُّ
وُلِدَ بِتَفْلِيسَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَ فَاضِلًا أُصُولِيًّا
مُنَاظِرًا، وَلِيَ نِيَابَةَ الْحُكْمِ مُدَّةً ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِالْقَضَاءِ
فِي دَوْلَةِ هَلَاوُونَ، وَكَانَ عَفِيفًا نَزِهًا، لَمْ يَزْدَدْ مَنْصِبًا
وَلَا تَدْرِيسًا مَعَ كَثْرَةِ عِيَالِهِ وَقِلَّةِ مَالِهِ، وَلَمَّا انْقَضَتْ
أَيَّامُهُمْ
تَغَضَّبَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ، ثُمَّ أُلْزِمَ
بِالْمَسِيرِ إِلَى الْقَاهِرَةِ فَأَقَامَ بِهَا يُفِيدُ النَّاسَ، إِلَى أَنْ
تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ
الصُّغْرَى.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ شَاكِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّنُوخِيُّ
وَتَنُوخُ مِنْ قُضَاعَةَ، كَانَ صَدْرًا كَبِيرًا، وَكَتَبَ الْإِنْشَاءَ
لِلنَّاصِرِ دَاوُدَ بْنِ الْمُعَظَّمِ، وَتَوَلَّى نَظَرَ الْمَارَسْتَانِ
النُّورِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ
غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
خَابَ رَجَاءُ امْرِئٍ لَهُ أَمَلٌ بِغَيْرِ رَبِّ السَّمَاءِ قَدْ وَصَلَهْ
أَيَبْتَغِي غَيْرَهُ أَخُو ثِقَةٍ وَهْوَ بِبَطْنِ الْأَحْشَاءِ قَدْ كَفَلَهْ
وَلَهُ أَيْضًا:
خَرِسَ اللِّسَانُ وَكَلَّ عَنْ أَوْصَافِكُمْ مَاذَا يَقُولُ وَأَنْتُمُ مَا
أَنْتُمُ
الْأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ مَقَالَةِ قَائِلٍ قَدْ تَاهَ عَقْلًا أَنْ يُعَبِّرَ
عَنْكُمُ
الْعَجْزُ وَالتَّقْصِيرُ وَصْفِي دَائِمًا وَالْبِرُّ وَالْإِحْسَانُ يُعْرَفُ
مِنْكُمُ
الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطَّائِيُّ الْجَيَّانِيُّ
النَّحْوِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ الْمُفِيدَةِ; مِنْهَا "
الْكَافِيَةُ الشَّافِيَةُ " وَ " شَرْحُهَا "، وَ "
التَّسْهِيلُ " وَ " شَرْحُهُ "، وَ " الْأَلْفِيَّةُ "
الَّتِي شَرَحَهَا وَلَدُهُ بَدْرُ الدِّينِ شَرْحًا مُفِيدًا. وُلِدَ بِجَيَّانَ
سَنَةَ سِتِّمِائَةٍ، وَأَقَامَ بِحَلَبَ مُدَّةً، ثُمَّ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ
كَثِيرَ الِاجْتِمَاعِ بِابْنِ خَلِّكَانَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ،
وَرَوَى عَنْهُ الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ، وَأَجَازَ لِشَيْخِنَا
عَلَمِ الدِّينِ الْبِرْزَالِيِّ، تُوُفِّيَ ابْنُ مَالِكٍ بِدِمَشْقَ لَيْلَةَ
الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي عَشَرَ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ الْقَاضِي عِزِّ
الدِّينِ بْنِ الصَّائِغِ بِقَاسِيُونَ.
النَّصِيرُ الطُّوسِيُّ
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطُّوسِيُّ
كَانَ يُقَالُ لَهُ: الْمَوْلَى نَصِيرُ الدِّينِ. وَيُقَالُ: الْخَوَاجَا نَصِيرُ
الدِّينِ. اشْتَغَلَ فِي شَبِيبَتِهِ، وَحَصَّلَ عِلْمَ الْأَوَائِلِ جَيِّدًا،
وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَشَرَحَ " الْإِشَارَاتِ
" لِابْنِ سِينَا، وَوَزَرَ لِأَصْحَابِ قِلَاعِ الْأَلَمُوتِ مِنَ
الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، ثُمَّ وَزَرَ لِهُولَاكُو، وَكَانَ مَعَهُ فِي وَاقِعَةِ
بَغْدَادَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَشَارَ عَلَى هُولَاكُو بِأَنْ
يَقْتُلَ الْخَلِيفَةَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَا يَصْدُرُ
مِنْ فَاضِلٍ وَلَا عَاقِلٍ. وَقَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْبَغَادِدَةِ، فَأَثْنَى
عَلَيْهِ وَقَالَ: كَانَ عَاقِلًا فَاضِلًا، كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ. وَدُفِنَ فِي
مَشْهَدِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، فِي سِرْدَابٍ كَانَ قَدْ أُعِدَّ لِلْخَلِيفَةِ
النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ قَدْ بَنَى الرَّصَدَ
بِمَرَاغَةَ، وَرَتَّبَ فِيهِ الْحُكَمَاءَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ
وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْأَطِبَّاءِ
وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْفُضَلَاءِ، وَبَنَى لَهُ فِيهِ قُبَّةً عَظِيمَةً،
وَجَعَلَ فِيهِ كُتُبًا كَثِيرَةً جِدًّا، تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي ثَانِي عَشَرَ
ذِي الْحِجَّةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً،
وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَأَصْلُ اشْتِغَالِهِ عَلَى الْمُعِينِ سَالِمِ
بْنِ بَدْرَانَ بْنِ عَلِيٍّ الْمِصْرِيِّ الْمُعْتَزِلِيِّ الْمُتَشَيِّعِ،
فَنَزَعَ فِيهِ عُرُوقٌ كَثِيرَةٌ مِنْهُ، حَتَّى فَسَدَ اعْتِقَادُهُ.
الشَّيْخُ مُسَلَّمٌ الْبَرْقِيُّ الْبَدَوِيُّ
صَاحِبُ الرِّبَاطِ بِالْقَرَافَةِ الصُّغْرَى، كَانَ صَالِحًا مُتَعَبِّدًا
يُقْصَدُ لِلزِّيَارَةِ وَالتَّبَرُّكِ بِدُعَائِهِ، وَلَهُ الْيَوْمَ أَصْحَابٌ
مَعْرُوفُونَ عَلَى طَرِيقِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا اطَّلَعَ السُّلْطَانُ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَمِيرًا مِنَ
الْمِصْرِيِّينَ، مِنْهُمْ قَجْقَارُ الْحَمَوِيُّ، وَقَدْ كَانُوا كَاتَبُوا
التَّتَرَ يَدْعُونَهُمْ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُمْ مَعَهُمْ
عَلَى السُّلْطَانِ، فَأُخِذُوا فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ، وَجَاءَتْ كُتُبُهُمْ مَعَ
الْبَرِيدِيَّةِ فَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِمْ.
وَفِيهَا أَقْبَلَ السُّلْطَانُ بِالْعَسَاكِرِ، فَدَخَلَ بِلَادَ سِيسَ مِنْ
نَاحِيَةِ الدَّرْبَنْدَاتِ، فَمَلَكَهَا وَمَلَكَ إِيَاسَ وَالْمِصِّيصَةَ
وَأَذَنَةَ، وَكَانَ دُخُولُهُ إِلَى سِيسَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الْحَادِيَ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَتَلُوا خَلْقًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا
اللَّهُ، وَغَنِمُوا شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَبْقَارِ وَالْأَغْنَامِ
وَالْأَثْقَالِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ، فَأُبِيعَ بِأَرْخَصِ ثَمَنٍ، ثُمَّ
عَادَ فَدَخَلَ دِمَشْقَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ،
فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى انْقَضَتِ السَّنَةُ.
وَفِيهَا ثَارَ عَلَى أَهْلِ الْمَوْصِلِ رَمْلٌ حَتَّى عَمَّ الْأُفُقَ،
وَخَرَجُوا مِنْ دُورِهِمْ يَبْتَهِلُونَ إِلَى اللَّهِ حَتَّى كَشَفَ ذَلِكَ
عَنْهُمْ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
ابْنُ عَطَاءٍ الْحَنَفِيُّ
قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الشَّيْخِ
شَرَفِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَاءِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَطَاءِ بْنِ جُبَيْرِ
بْنِ جَابِرِ بْنِ وُهَيْبٍ الْأَذْرُعِيُّ الْحَنَفِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ
وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ عَنِ الشَّافِعِيِّ مُدَّةً، ثُمَّ اسْتَقَلَّ
بِقَضَاءِ الْحَنَفِيَّةِ أَوَّلَ مَا وَلِيَتِ الْقُضَاةُ مِنَ الْمَذَاهِبِ
الْأَرْبَعَةِ، وَلَمَّا وَقَعَتِ الْحَوْطَةُ عَلَى أَمْلَاكِ النَّاسِ أَرَادَ
السُّلْطَانُ مِنْهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا بِمُقْتَضَى مَذْهَبِهِ، فَغَضِبَ مِنْ
ذَلِكَ وَقَالَ: هَذِهِ أَمْلَاكٌ بِأَيْدِي أَرْبَابِهَا، وَمَا يَحِلُّ
لِمُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهَا. ثُمَّ نَهَضَ مِنَ الْمَجْلِسِ فَذَهَبَ،
فَغَضِبَ السُّلْطَانُ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، ثُمَّ سَكَنَ غَضَبُهُ،
فَكَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَمْدَحُهُ وَيَقُولُ: لَا تُثْبِتُوا
كِتَابًا إِلَّا عِنْدَهُ. كَانَ ابْنُ عَطَاءٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَخْيَارِ،
كَثِيرَ التَّوَاضُعِ قَلِيلَ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا، رَوَى عَنْهُ ابْنُ
جَمَاعَةَ وَأَجَازَ لِلْبِرْزَالِيِّ. تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَاسِعَ
جُمَادَى الْأُولَى، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمُعَظَّمِيَّةِ بِسَفْحِ
قَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
بِيمُنْدُ بْنُ بِيمُنْدَ بْنِ بِيمُنْدَ
إِرِّيسُ طَرَابُلُسَ الْفِرِنْجِيُّ، كَانَ جَدُّهُ نَائِبًا لِبِنْتِ صَنْجَلَ
الَّذِي تَمَلَّكَ طَرَابُلُسَ مِنَ ابْنِ عَمَّارٍ فِي حُدُودِ الْخَمْسِمِائَةِ،
وَكَانَتْ
يَتِيمَةً تَسْكُنُ بَعْضَ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، فَتَغَلَّبَ هَذَا عَلَى الْبَلَدِ لِبُعْدِهَا عَنْهُ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِهَا وَلَدُهُ، ثُمَّ حَفِيدُهُ هَذَا، وَكَانَ شَكِلًا مَلِيحًا. قَالَ قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ: رَأَيْتُهُ بِبَعْلَبَكَّ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ حِينَ جَاءَ مُسَلِّمًا عَلَى كَتْبُغَا نُوِينَ وَرَامَ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ بَعْلَبَكَّ; فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ دُفِنَ فِي كَنِيسَةِ طَرَابُلُسَ وَلَمَّا فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ نَبَشَ النَّاسُ قَبْرَهُ، وَأَخْرَجُوهُ مِنْهُ، وَأَلْقَوْا عِظَامَهُ عَلَى الْمَزَابِلِ لِلْكِلَابِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ ثَامِنَ جُمَادَى الْآخِرَةِ نَزَلَ التَّتَارُ
عَلَى الْبِيرَةِ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ; خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ
الْمَغُولِ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الرُّومِ، وَالْمُقَدَّمُ عَلَى
الْجَمِيعِ الْبَرْوَانَاهْ، بِأَمْرِ أَبْغَا مَلِكِ التَّتَرِ، وَمَعَهُمْ
جَيْشُ الْمَوْصِلِ وَجَيْشُ مَارِدِينَ وَالْأَكْرَادُ، وَنَصَبُوا عَلَيْهَا
ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ مَنْجَنِيقًا، فَخَرَجَ أَهْلُ الْبِيرَةِ فِي اللَّيْلِ،
فَكَبَسُوا عَسْكَرَ التَّتَارِ وَأَحْرَقُوا الْمَنْجَنِيقَاتِ وَنَهَبُوا
شَيْئًا كَثِيرًا، وَرَجَعُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ سَالِمِينَ، فَأَقَامَ عَلَيْهَا
الْجَيْشُ مُدَّةً إِلَى تَاسِعَ عَشَرَ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ رَجَعُوا
عَنْهَا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
الْقِتَالَ، وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا.
وَلَمَّا بَلَغَ السُّلْطَانَ نُزُولُ التَّتَرِ عَلَى الْبِيرَةِ أَنْفَقَ فِي
الْجَيْشِ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ رَكِبَ سَرِيعًا وَفِي صُحْبَتِهِ
وَلَدُهُ السَّعِيدُ، فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ بَلَغَهُ رَحِيلُ
التَّتَرِ عَنْهَا، فَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ رَكِبَ فِي رَجَبٍ إِلَى
الْقَاهِرَةِ، فَدَخَلَهَا فِي ثَامِنَ عَشَرَ، فَوَجَدَ بِهَا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ
رَسُولًا مِنْ جِهَةِ مُلُوكِ الْأَرْضِ يَنْتَظِرُونَهُ، فَتَلَقَّوْهُ
وَحَدَّثُوهُ وَقَبَّلُوا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَدَخَلَ الْقَلْعَةَ فِي
أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ.
وَلَمَّا عَادَ الْبَرْوَانَاهْ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ حَلَّفَ الْأُمَرَاءَ
الْكِبَارَ; مِنْهُمْ: شَرَفُ الدِّينِ
مَسْعُودٌ وَضِيَاءُ الدِّينِ مَحْمُودٌ ابْنَا الْخَطِيرِ،
وَأَمِينُ الدِّينِ مِيكَائِيلُ، وَحُسَامُ الدِّينِ بَيْجَارُ، وَوَلَدُهُ
بَهَاءُ الدِّينِ، عَلَى أَنْ يَكُونُوا مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ
الظَّاهِرِ، وَيُنَابِذُوا أَبْغَا، فَحَلَفُوا لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَى
الظَّاهِرِ بِذَلِكَ، وَأَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ جَيْشًا، وَيَحْمِلَ لَهُ مَا
كَانَ يَحْمِلُهُ إِلَى التَّتَارِ، وَيَكُونَ غِيَاثُ الدِّينِ كَيْخُسْرُو عَلَى
مَا هُوَ عَلَيْهِ، يَجْلِسُ عَلَى تَخْتِ مَمْلَكَةِ الرُّومِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَسْقَى أَهْلُ بَغْدَادَ ثَلَاثَةَ أَيَّامِ وِلَاءً
فَلَمْ يُسْقَوْا.
وَفِيهَا فِي رَمَضَانَ مِنْهَا وُجِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ
عَلَى فَاحِشَةِ الزِّنَا، فَأَمَرَ عَلَاءُ الدِّينِ صَاحِبُ الدِّيوَانِ
بِرَجْمِهِمَا فَرُجِمَا، وَلَمْ يُرْجَمْ بِبَغْدَادَ قَبْلَهُمَا قَطُّ أَحَدٌ
مُنْذُ بُنِيَتْ، وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا.
وَفِيهَا اسْتَسْقَى أَهْلُ دِمَشْقَ أَيْضًا مَرَّتَيْنِ; فِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ
وَأَوَائِلِ شَعْبَانَ - وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ كَانُونَ الثَّانِي -
فَلَمْ يُسْقَوْا أَيْضًا.
وَفِيهَا أَرْسَلَ السُّلْطَانُ جَيْشًا إِلَى دُنْقُلَةَ، فَكَسَرَ جَيْشَ
السُّودَانِ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا، وَأَسَرُوا شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ
السُّودَانِ، بِحَيْثُ أُبِيعَ الرَّقِيقُ الرَّأْسُ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ،
وَهَرَبَ مَلِكُهُمْ دَاوُدُ إِلَى صَاحِبِ النُّوبَةِ فَأَرْسَلَهُ إِلَى
الْمَلِكِ الظَّاهِرِ مُحْتَاطًا عَلَيْهِ، وَقَرَّرَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ عَلَى
أَهْلِ دُنْقُلَةَ جِزْيَةً تُحْمَلُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ. كُلُّ ذَلِكَ
كَانَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا عُقِدَ عَقْدُ الْمَلِكِ السَّعِيدِ بْنِ الظَّاهِرِ، عَلَى بِنْتِ
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
قَلَاوُونَ الْأَلْفِيِّ، فِي الْإِيوَانِ بِحَضْرَةِ
السُّلْطَانِ وَالدَّوْلَةِ عَلَى صَدَاقٍ خَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ، يُعَجَّلُ
مِنْهَا أَلْفَا دِينَارٍ، وَكَانَ الَّذِي كَتَبَهُ وَقَرَأَهُ مُحْيِي الدِّينِ
بْنُ عَبْدِ الظَّاهِرِ، فَأُعْطِيَ مِائَةَ دِينَارٍ وَخُلِعَ عَلَيْهِ. ثُمَّ
رَكِبَ السُّلْطَانُ مُسْرِعًا، فَوَصَلَ إِلَى حِصْنِ الْكَرَكِ، فَجَمَعَ
الْقَيْمُرِيَّةَ الَّذِينَ بِهِ فَإِذَا هُمْ سِتُّمِائَةِ نَفَرٍ، فَأَمَرَ
بِشَنْقِهِمْ، فَشُفِعَ فِيهِمْ عِنْدَهُ، فَأَطْلَقَهُمْ وَأَجْلَاهُمْ مِنْهُ
إِلَى مِصْرَ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قَتْلَ مِنْ
فِيهِ، وَيُقِيمُوا مَلِكًا عَلَيْهِمْ، وَسَلَّمَ الْحِصْنِ إِلَى الطَّوَاشِيِّ
شَمْسِ الدِّينِ رِضْوَانَ السُّهَيْلِيِّ، ثُمَّ عَادَ فِي بَقِيَّةِ الشَّهْرِ
إِلَى دِمَشْقَ، فَدَخَلَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَامِنَ عَشَرَ الشَّهْرِ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ بِأَخْلَاطَ، وَاتَّصَلَتْ بِبِلَادِ بَكْرٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَدِيبُ الْعَلَّامَةُ تَاجُ الدِّينِ أَبُو الثَّنَاءِ
مَحْمُودُ بْنُ عَابِدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
التَّمِيمِيُّ الصَّرْخَدِيُّ الْحَنَفِيُّ
كَانَ مَشْهُورًا بِالْفِقْهِ وَالْأَدَبِ، وَالْعِفَّةِ وَالصَّلَاحِ،
وَنَزَاهَةِ النَّفْسِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَوَى، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ
الصُّوفِيَّةِ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا، وَلَهُ سِتٌّ وَتِسْعُونَ سَنَةً،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ عِمَادُ الدِّينِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الْقَادِرِ بْنِ
ابْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ خَلِيلِ بْنِ مَقْلَدٍ
الْأَنْصَارِيُّ الدِّمَشْقِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الصَّائِغِ، كَانَ مُدَرِّسًا بِالْعَذْرَاوِيَّةِ
وَشَاهِدًا بِالْخِزَانَةِ بِالْقَلْعَةِ، يَعْرِفُ الْحِسَابَ جَيِّدًا، وَلَهُ
سَمَاعٌ وَرِوَايَةٌ، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ.
ابْنُ السَّاعِي الْمُؤَرِّخُ: تَاجُ الدِّينِ بْنُ الْمُحْتَسِبِ الْمَعْرُوفُ
بِابْنِ السَّاعِي الْبَغْدَادِيُّ
وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاعْتَنَى
بِالتَّارِيخِ وَجَمَعَ وَصَنَّفَ وَلَمْ يَكُنْ بِالْحَافِظِ وَلَا الضَّابِطِ
الْمُتْقِنِ. وَقَدْ أَوْصَى إِلَيْهِ ابْنُ النَّجَّارِ حِينَ تُوُفِّيَ، وَلَهُ
تَارِيخٌ كَبِيرٌ عِنْدِي أَكْثَرُهُ، وَمُصَنَّفَاتٌ أُخَرُ مُفِيدَةٌ، وَآخِرُ
مَا صَنَّفَ كِتَابٌ فِي الزُّهَّادِ، كَتَبَ فِي حَاشِيَتِهِ زَكِيُّ الدِّينِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبٍ الْكَاتِبُ:
مَا زَالَ تَاجُ الدِّينِ طُولَ الْمَدَى مِنْ عُمْرِهِ يُعْنِقُ فِي السَّيْرِ
فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَتَدْوِينِهِ
وَفِعْلُهُ نَفْعُ بِلَا ضَيْرِ عَلَا عَلِيٌّ بِتَصَانِيفِهِ
وَهَذِهِ خَاتِمَةُ الْخَيْرِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
فِي ثَالِثَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى دِمَشْقَ
وَسَبَقَ الْعَسَاكِرَ إِلَى بِلَادِ حَلَبَ، فَلَمَّا تَوَافَتْ إِلَيْهِ
أَرْسَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْأَمِيرَ بَدْرَ الدِّينِ الْأَتَابِكِيَّ بِأَلْفِ
فَارِسٍ إِلَى الْبُلُسْتَيْنِ، فَصَادَفَ بِهَا جَمَاعَةً مِنْ عَسْكَرِ
الرُّومِ، فَرَكِبُوا إِلَيْهِ وَحَمَلُوا إِلَيْهِ الْإِقَامَاتِ، وَطَلَبَ
جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ، فَأَذِنَ لَهُمْ،
فَدَخَلَ طَائِفَةٌ; مِنْهُمْ بَيْجَارُ وَابْنُ الْخَطِيرِ، فَرَسَمَ لَهُمْ أَنْ
يَدْخُلُوا الْقَاهِرَةَ، فَتَلَقَّاهُمُ الْمَلِكُ السَّعِيدُ، ثُمَّ عَادَ السُّلْطَانُ
مِنْ حَلَبَ إِلَى الْقَاهِرَةِ فَدَخَلَهَا فِي ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ.
وَفِي خَامِسِ جُمَادَى الْأُولَى عَمِلَ السُّلْطَانُ عُرْسَ وَلَدِهِ الْمَلِكِ
السَّعِيدِ عَلَى بِنْتِ قَلَاوُونَ، وَاحْتَفَلَ السُّلْطَانُ بِهِ احْتِفَالًا
عَظِيمًا، وَرَكِبَ الْجَيْشُ فِي الْمَيْدَانِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ يَلْعَبُونَ
وَيَتَطَارَدُونَ، وَيَحْمِلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ خَلَعَ عَلَى
الْأُمَرَاءِ وَأَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ، وَكَانَ مَبْلَغُ
مَا خُلِعَ أَلْفًا وَثَلَاثِمِائَةِ خِلْعَةٍ بِمِصْرَ، وَجَاءَتْ مَرَاسِيمُهُ
إِلَى الشَّامِ بِالْخِلَعِ عَلَى أَهْلِهَا، وَمَدَّ السُّلْطَانُ سِمَاطًا
عَظِيمًا حَضَرَهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَالشَّارِدُ وَالْوَارِدُ، وَجَلَسَ
فِيهِ رُسُلُ التَّتَارِ وَرُسُلُ الْفِرِنْجِ، وَعَلَيْهِمْ كُلِّهِمُ الْخِلَعُ
الْهَائِلَةُ، وَكَانَ وَقْتًا مَشْهُودًا، وَحَمَلَ صَاحِبُ حَمَاةَ هَدَايَا
عَظِيمَةً، وَرَكِبَ إِلَى مِصْرَ لِلتَّهْنِئَةِ.
وَفِي حَادِي عَشَرَ شَوَّالٍ طِيفَ بِالْمَحْمَلِ وَبِكُسْوَةِ الْكَعْبَةِ
الْمُشَرَّفَةِ بِالْقَاهِرَةِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَقْعَةُ الْبُلُسْتَيْنِ وَفَتْحُ قَيْسَارِيَّةَ
رَكِبَ السُّلْطَانُ مِنْ مِصْرَ فِي الْعَسَاكِرِ، فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي سَابِعَ
عَشَرَ شَوَّالٍ، فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى دَخَلَ
حَلَبَ فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَقَامَ بِهَا يَوْمًا، وَرَسَمَ
لِنَائِبِ حَلَبَ أَنْ يُقِيمَ بِعَسْكَرِ حَلَبَ عَلَى الْفُرَاتِ لِحِفْظِ
الْمَعَابِرِ، وَسَارَ السُّلْطَانُ فَقَطَعَ الدَّرْبَنْدَ فِي نِصْفِ يَوْمٍ،
وَوَقَعَ سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ
الْمَغُولِ، فَهَزَمَهُمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ تَاسِعَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَصَعِدَ
الْعَسْكَرُ عَلَى الْجِبَالِ، فَأَشْرَفُوا عَلَى وَطْأَةِ الْبُلُسْتَيْنِ،
فَرَأَوُا التَّتَارَ قَدْ رَتَّبُوا عَسْكَرَهُمْ وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرَ أَلْفَ
مُقَاتِلٍ، وَعَزَلُوا عَنْهُمْ عَسْكَرَ الرُّومِ خَوْفًا مِنْ مُخَامَرَتِهِمْ،
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ حَمَلَتْ مَيْسَرَةُ التَّتَارِ، فَصَدَمَتْ
سَنَاجِقَ السُّلْطَانِ، وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بَيْنَهُمْ فَشَقُّوهَا،
وَسَاقَتْ إِلَى الْمَيْمَنَةِ، فَلَمَّا رَأَى السُّلْطَانُ ذَلِكَ أَرْدَفَ
الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ لَاحَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ،
فَرَأَى الْمَيْسَرَةَ قَدْ كَادَتْ أَنْ تَتَحَطَّمَ، فَأَمَرَ
جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ بِإِرْدَافِهَا، ثُمَّ حَمَلَ الْعَسْكَرُ جَمِيعُهُ حَمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى التَّتَارِ، فَتَرَجَّلُوا إِلَى الْأَرْضِ عَنْ آخِرِهِمْ، وَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَصَبَرَ الْمُسْلِمُونَ صَبْرًا عَظِيمًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَحَاطَتْ بِالتَّتَارِ الْعَسَاكِرُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا جَمَاعَةٌ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ ضِيَاءُ الدِّينِ ابْنُ الْخَطِيرِ، وَسَيْفُ الدِّينِ قَيْمَازٌ، وَسَيْفُ الدِّينِ قَفْجَقُ الْجَاشْنَكِيرُ، وَعِزُّ الدِّينِ أَيْبَكُ الشَّقِيفِيُّ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْمَغُولِ وَمِنْ أُمَرَاءِ الرُّومِ، وَهَرَبَ الْبَرْوَانَاهْ، فَنَجَا بِنَفْسِهِ، وَدَخَلَ قَيْسَارِيَّةَ فِي بُكْرَةِ الْأَحَدِ ثَانِي عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَأَعْلَمَ أُمَرَاءُ الرُّومِ مَلِكَهُمْ بِكَسْرَةِ التَّتَارِ عَلَى الْبُلُسْتَيْنِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِالْهَزِيمَةِ، فَانْهَزَمُوا مِنْهَا وَأَخْلَوْهَا، فَدَخَلَهَا الْمَلِكُ الظَّاهِرُ وَصَلَّى بِهَا الْجُمُعَةَ سَابِعَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَخُطِبَ لَهُ بِهَا، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا. وَسَارَتْ بِذَلِكَ الْبَشَائِرُ إِلَى الْبُلْدَانِ، فَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ بِنَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ هَذِهِ الْوَقْعَةِ أَبْغَا جَاءَ حَتَّى وَقَفَ بِنَفْسِهِ وَجَيْشِهِ، وَشَاهَدَ مَكَانَ الْمَعْرَكَةِ وَمَنْ فِيهَا مِنْ قَتْلَى الْمَغُولِ، فَغَاظَهُ ذَلِكَ وَأَعْظَمَهُ، وَحَنَقَ عَلَى الْبَرْوَانَاهْ إِذْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِجَلِيَّةِ الْحَالِ، وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّ أَمْرَ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ دُونَ هَذَا كُلِّهِ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَى أَهْلِ قَيْسَارِيَّةَ وَأَهْلِ تِلْكَ
النَّاحِيَةِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَيْ
أَلْفٍ، وَقِيلَ: قَتَلَ مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةِ أَلْفٍ مِنْ قَيْسَارِيَّةَ
وَأَرْزَنِ الرُّومِ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ الْقَاضِي جَلَالُ
الدِّينِ حَبِيبٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ عِيسَى بْنُ الشَّيْخِ عُبَيْدِ بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ
الدِّمَشْقِيُّ
وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنَ الشَّيْخِ رَسْلَانَ قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ:
وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّ مَوْلِدَهُ كَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ.
الطَّوَاشِيُّ يُمْنٌ الْحَبَشِيُّ
شَيْخُ الْخُدَّامِ بِالْحَرَمِ الشَّرِيفِ النَّبَوِيِّ، كَانَ دَيِّنًا عَاقِلًا
عَدْلًا، صَادِقَ اللَّهْجَةِ، مَاتَ فِي عَشْرِ السَّبْعِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْمُحَدِّثُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمَوْصِلِيُّ، ثُمَّ
الدِّمَشْقِيُّ الصُّوفِيُّ
سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَتَبَ الْكُتُبَ الْكِبَارَ بِخَطٍّ رَفِيعٍ جَيِّدٍ
وَاضِحٍ، جَاوَزَ السَّبْعِينَ، وَدُفِنَ بِبَابِ الْفَرَادِيسِ.
الشَّاعِرُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو الْمَكَارِمِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ
مَسْعُودِ بْنِ بَرَكَةَ بْنِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الشَّيْبَانِيُّ
التَّلَّعْفَرِيُّ
صَاحِبُ دِيوَانِ الشِّعْرِ، جَاوَزَ الثَّمَانِينَ،
تُوُفِّيَ بِحَمَاةَ، وَكَانَ الشُّعَرَاءُ مُقِرِّينَ لَهُ
مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِهِ وَتَقَدُّمِهِ فِي هَذَا الْفَنِّ. وَمِنْ شِعْرِهِ
قَوْلُهُ:
لِسَانِي طَرِيٌّ مِنْكَ يَا غَايَةَ الْمُنَى وَمِنْ وَلَهِي أَنِّي خَطِيبٌ
وَشَاعِرٌ فَهَذَا لِمَعْنَى حُسْنِ وَجْهِكَ نَاظِمُ
وَهَذَا لِدَمْعِي فِي تَجَنِّيكَ نَاثِرُ
الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ
الشَّهْرُزُورِيُّ الدِّمَشْقِيُّ
مُدَرِّسُ الْقَيْمُرِيَّةِ بِشَرْطِ وَاقِفِهَا لَهُ وَلِذُرِّيَّتِهِ مِنْ
بَعْدِهِ التَّدْرِيسَ مَنْ تَأَهَّلَ مِنْهُمْ، فَدَرَّسَ بِهَا إِلَى أَنْ
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ صَلَاحُ الدِّينِ،
ثُمَّ ابْنُ ابْنِهِ بَعْدَ ابْنِ جَمَاعَةَ، وَطَالَتْ مُدَّةُ حَفِيدِهِ. وَقَدْ
وَلِيَ شَمْسُ الدِّينِ عَلَى نِيَابَةِ ابْنِ خَلِّكَانَ فِي الْوِلَايَةِ
الْأُولَى، وَكَانَ فَقِيهًا جَيِّدًا نَقَّالًا لِلْمَذْهَبِ رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَقَدْ سَافَرَ مَعَ ابْنِ الْعَدِيمِ إِلَى بَغْدَادَ فَسَمِعَ بِهَا، وَدُفِنَ
بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ بِالْقُرْبِ مِنَ ابْنِ الصَّلَاحِ
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَالِمُ الزَّاهِدُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
سَعْدِ اللَّهِ بْنِ جَمَاعَةَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ جَمَاعَةَ بْنِ حَازِمِ بْنِ
صَخْرٍ الْكِنَانِيُّ الْحَمَوِيُّ
لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ
بِحَمَاةَ، وَتُوُفِّيَ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَدُفِنَ
بِمَامُلَّا، وَسَمِعَ مِنَ الْفَخْرِ بْنِ عَسَاكِرَ،
وَرَوَى عَنْهُ وَلَدُهُ قَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ جَنْدَلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَنِينِيُّ
كَانَتْ لَهُ عِبَادَةٌ وَزَهَادَةٌ وَأَعْمَالٌ صَالِحَةٌ، وَكَانَ النَّاسُ
يَتَرَدَّدُونَ إِلَى زِيَارَتِهِ، زَارَهُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ مَرَّاتٍ
وَكَذَلِكَ الْأُمَرَاءُ بِمَنِينَ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ لَا
يَفْهَمُهُ أَحَدُ مِنَ الْحَاضِرِينَ، بِأَلْفَاظٍ غَرِيبَةٍ، وَحَكَى عَنْهُ
الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: مَا تَقَرَّبَ أَحَدٌ إِلَى
اللَّهِ بِمِثْلِ الذُّلِّ لَهُ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ. وَسَمِعَهُ يَقُولُ:
الْمُوَلَّهُ مَنْفِيٌّ مِنْ طَرِيقِ اللَّهِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ وَاصِلٌ، وَلَوْ
عَلِمَ أَنَّهُ مَنْفِيٌّ رَجَعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ; لِأَنَّ طَرِيقَ الْقَوْمِ
مَنْ أَهْلِ السُّلُوكِ لَا يَثْبُتُ عَلَيْهَا إِلَّا ذَوُو الْعُقُولِ
الثَّابِتَةِ. وَكَانَ يَقُولُ: السَّمَاعُ وَظِيفَةُ أَهْلِ الْبَطَالَةِ. قَالَ
الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ: وَكَانَ الشَّيْخُ جُنْدُلٌ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ
وَعُلَمَاءِ التَّحْقِيقِ. قَالَ: وَأَخْبَرَنِي فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ
وَسِتِّمِائَةٍ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْعُمُرِ خَمْسًا وَتِسْعِينَ سَنَةً.
قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ; لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي
رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ فِي زَاوِيَتِهِ الْمَشْهُورَةِ
بِقَرْيَةِ مَنِينَ، وَوَرَدَ النَّاسُ إِلَى قَبْرِهِ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ مِنْ
دِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ بَدْرُ الدِّينِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ
الْفُوَيْرَهِ السُّلَمِيُّ الْحَنَفِيُّ
اشْتَغَلَ عَلَى الصَّدْرِ سُلَيْمَانَ وَابْنِ عَطَاءٍ، وَفِي النَّحْوِ عَلَى
ابْنِ مَالِكٍ، وَحَصَّلَ وَبَرَعَ وَنَظَمَ وَنَثَرَ، وَدَرَّسَ فِي
الشِّبْلِيَّةِ وَالْقَصَّاعِينَ، وَطُلِبَ لِنِيَابَةِ الْقَضَاءِ فَامْتَنَعَ،
وَكَتَبَ الْكِتَابَةَ الْمَنْسُوبَةَ. وَقَدْ رَآهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي
الْمَنَامِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَأَنْشَأَ
يَقُولُ:
مَا كَانَ لِي مِنْ شَافِعٍ عِنْدَهُ غَيْرُ اعْتِقَادِي أَنَّهُ وَاحِدُ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَدُفِنَ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مَنْصُورٍ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْحَرَّانِيُّ الْحَنْبَلِيُّ
تِلْمِيذُ الشَّيْخِ مَجْدِ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ حَكَمَ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ نِيَابَةً عَنِ الْقَاضِي تَاجِ
الدِّينِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ، ثُمَّ وَلِيَ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الشَّيْخِ
الْعِمَادِ الْقَضَاءَ مُسْتَقِلًّا، فَاسْتَنَابَ بِهِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ،
وَرَجَعَ إِلَى الشَّامِ يَشْتَغِلُ وَيُفْتِي إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وَقَدْ
نَيَّفَ عَلَى السِّتِّينِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمَلَكِ الظَّاهِرِ رُكْنِ الدِّينِ بَيْبَرْسَ، صَاحِبِ
الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ وَالْحَلَبِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَأَقَامَ وَلَدَهُ نَاصِرَ الدِّينِ أَبَا الْمَعَالِي مُحَمَّدَ بَرَكَةَ خَانَ
الْمُلَقَّبَ بِالْمَلَكِ السَّعِيدِ، مِنْ بَعْدِهِ، وَوَفَاةُ الشَّيْخِ مُحْيِي
الدِّينِ النَّوَوِيِّ إِمَامِ الشَّافِعِيَّةِ فِيهَا فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ
مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا.
وَدَخَلَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، وَقَدْ كَسَرَ
التَّتَارَ عَلَى الْبُلُسْتَيْنِ، وَرَجَعَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، فَدَخَلَ
دِمَشْقَ وَكَانَ يَوْمُ دُخُولِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا، فَنَزَلَ بِالْقَصْرِ
الْأَبْلَقِ الَّذِي بَنَاهُ غَرْبِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ الْمَيْدَانَيْنِ
الْأَخْضَرَيْنِ، وَتَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ إِلَيْهِ بِأَنَّ أَبْغَا جَاءَ
إِلَى الْمَعْرَكَةِ، وَنَظَرَ إِلَيْهَا، وَتَأَسَّفَ عَلَى مَنْ قُتِلَ مِنَ
الْمَغُولِ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ الْبَرْوَانَاهْ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ قَدْ عَزَمَ
عَلَى قَصْدِ الشَّامِ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِجَمْعِ الْأُمَرَاءِ، وَضَرَبَ
مَشُورَةً، فَاتَّفَقَ مَعَ الْأُمَرَاءِ عَلَى مُلَاقَاتِهِ حَيْثُ كَانَ،
وَتَقَدَّمَ بِضَرْبِ الدِّهْلِيزِ عَلَى الْقَصْرِ، ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ
بِأَنَّ أَبْغَا قَدْ رَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ، فَأَمَرَ بَرَدِّ الدِّهْلِيزِ،
وَأَقَامَ بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ يَجْتَمِعُ عِنْدَهُ الْأَعْيَانُ
وَالْأُمَرَاءُ وَالدَّوْلَةُ فِي أَسَرِّ حَالٍ، وَأَنْعَمِ بَالٍ. وَأَمَّا
أَبْغَا فَإِنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْبَرْوَانَاهْ - وَكَانَ نَائِبَهُ عَلَى
بِلَادِ الرُّومِ - وَكَانَ اسْمُهُ مُعِينَ الدِّينِ سُلَيْمَانَ بْنَ عَلِيِّ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَنٍ، وَإِنَّمَا قَتَلَهُ لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُ
بِمُمَالَأَتِهِ لِلْمَلِكِ الظَّاهِرِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَسَّنَ
لَهُ دُخُولَ
بِلَادِ الرُّومِ، وَكَانَ الْبَرْوَانَاهْ شُجَاعًا
حَازِمًا كَرِيمًا جَوَادًا، وَلَهُ مَيْلٌ إِلَى الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، وَكَانَ
قَدْ جَاوَزَ الْخَمْسِينَ لَمَّا قُتِلَ.
ثُمَّ لَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ خَامِسَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ تُوُفِّيَ
الْمَلِكُ الْقَاهِرُ بَهَاءُ الدِّينِ عَبْدُ الْمَلِكِ ابْنُ السُّلْطَانِ
الْمُعَظَّمِ عِيسَى بْنِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ أَرْبَعٍ
وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ رَجُلًا جَيِّدًا سَلِيمَ الصَّدْرِ، كَرِيمَ
الْأَخْلَاقِ، لَيِّنَ الْكَلِمَةِ، كَثِيرَ التَّوَاضُعِ، يُعَانِي مَلَابِسَ
الْعَرَبِ وَمَرَاكِبَهُمْ، وَكَانَ مُعَظَّمًا فِي الدَّوْلَةِ شُجَاعًا
مِقْدَامًا، وَقَدْ رَوَى عَنِ ابْنِ اللَّتِّيِّ، وَأَجَازَ لِلْبِرْزَالِيِّ.
قَالَ الْبِرْزَالِيُّ: وَيُقَالُ: إِنَّهُ سُمَّ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ
السُّلْطَانَ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ سَمَّهُ فِي كَأْسٍ ثُمَّ نَاوَلَهُ إِيَّاهُ،
فَشَرِبَهُ وَقَامَ السُّلْطَانُ إِلَى الْمُرْتَفَقِ، ثُمَّ عَادَ وَأَخَذَ
السَّاقِي الْكَأْسَ مِنْ يَدِ الْقَاهِرِ، فَمَلَأَهُ وَنَاوَلَهُ السُّلْطَانَ
الظَّاهِرَ وَالسَّاقِي لَا يَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِمَّا جَرَى، وَأَنْسَى اللَّهُ
السُّلْطَانَ ذَلِكَ الْكَأْسَ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ غَيْرُهُ لِأَمْرٍ يُرِيدُهُ
اللَّهُ وَيَقْضِيهِ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ فِي الْكَأْسِ بَقِيَّةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ
ذَلِكَ السُّمِّ، فَشَرِبَ الظَّاهِرُ مَا فِي الْكَأْسِ، وَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى
شَرِبَهُ، فَاشْتَكَى بَطْنَهُ مِنْ سَاعَتِهِ، وَوَجَدَ الْوَهَجَ وَالْحَرَّ
وَالْكَرْبَ الشَّدِيدَ مِنْ فَوْرِهِ، وَأَمَّا الْقَاهِرُ فَإِنَّهُ حُمِلَ
إِلَى مَنْزِلِهِ وَهُوَ مَغْلُوبٌ، فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَتَمَرَّضَ
الظَّاهِرُ مِنْ ذَلِكَ أَيَّامًا حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ
بَعْدَ الظُّهْرِ فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ بِالْقَصْرِ
الْأَبْلَقِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمًا عَظِيمًا عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَحَضَرَ
نَائِبُ السَّلْطَنَةِ عِزُّ الدِّينِ أَيْدَمُرُ وَكِبَارُ الْأُمَرَاءِ
وَالدَّوْلَةُ، فَصَلَّوْا عَلَيْهِ سِرًّا، وَجَعَلُوهُ فِي تَابُوتٍ،
وَرَفَعُوهُ إِلَى الْقَلْعَةِ مِنَ السُّورِ، وَجَعَلُوهُ فِي بَيْتٍ مِنْ
بُيُوتِ الْبَحْرِيَّةِ إِلَى أَنْ نُقِلَ إِلَى تُرْبَتِهِ الَّتِي بَنَاهَا
وَلَدُهُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهِيَ دَارُ الْعَقِيقِيِّ تُجَاهَ
الْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ، لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ خَامِسَ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَكُتِمَ مَوْتُهُ، فَلَمْ يَعْلَمْ جُمْهُورُ
النَّاسِ بِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ
مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَجَاءَتِ الْبَيْعَةُ لِوَلَدِهِ السَّعِيدِ مِنْ
مِصْرَ، حَزِنَ النَّاسُ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا، وَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ
تَرَحُّمًا كَثِيرًا، وَجُدِّدَتِ الْبَيْعَةُ أَيْضًا بِدِمَشْقَ، وَجَاءَ
تَقْلِيدُ النِّيَابَةِ بِالشَّامِ مُجَدَّدًا إِلَى عِزِّ الدِّينِ أَيْدَمُرَ
نَائِبِهَا.
وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ شَهْمًا شُجَاعًا، عَالِيَ الْهِمَّةِ، بَعِيدَ
الْغَوْرِ، مِقْدَامًا جَسُورًا، مُعْتَنِيًا بِأَمْرِ السَّلْطَنَةِ، يُشْفِقُ
عَلَى الْإِسْلَامِ، مُتَحَلِّيًا بِالْمُلْكِ، لَهُ قَصْدٌ صَالِحٌ فِي نُصْرَةِ
الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَإِقَامَةِ شِعَارِ الْمُلْكِ، وَاسْتَمَرَّتْ
أَيَّامُهُ مِنْ يَوْمِ الْأَحَدِ سَابِعَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَخَمْسِينَ إِلَى هَذَا الْحِينِ، فَفَتَحَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فُتُوحَاتٍ
كَثِيرَةً: قَيْسَارِيَّةَ وَأَرْسُوفَ وَيَافَا وَالشَّقِيفَ وَأَنْطَاكِيَةَ
وَبَغْرَاسَ وَطَبَرِيَّةَ وَالْقُصَيْرَ وَحِصْنَ الْأَكْرَادِ وَحِصْنَ عَكَّارٍ
وَالْقُرَيْنَ وَصَافِيتَا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ الَّتِي
كَانَتْ بِأَيْدِي الْفِرِنْجِ، وَلَمْ يَدَعْ مَعَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ شَيْئًا
مِنَ الْحُصُونِ، وَنَاصَفَ الْفِرِنْجَ عَلَى الْمَرْقَبِ وَبَانِيَاسَ وَبِلَادِ
أَنْطَرْطُوسَ، وَسَائِرِ مَا بَقِيَ
بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْبِلَادِ وَالْحُصُونِ، وَوَلَّى فِي نَصِيبِهِ مِمَّا نَاصَفَهُمْ عَلَيْهِ النُّوَّابَ وَالْعُمَّالَ، وَفَتَحَ قَيْسَارِيَّةَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، وَأَوْقَعَ بِالرُّومِ وَالْمَغُولِ عَلَى الْبُلُسْتَيْنِ بَأْسًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ مِنْ دُهُورٍ مُتَطَاوِلَةٍ، وَاسْتَعَادَ مِنْ صَاحِبِ سِيسَ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَجَاسَ خِلَالَ دِيَارِهِمْ وَحُصُونِهِمْ، وَاسْتَرَدَّ مِنْ أَيْدِي الْمُتَغَلِّبِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْلَبَكَّ وَبُصْرَى وَصَرْخَدَ وَحِمْصَ وَعَجْلُونَ وَالصَّلْتَ وَتَدْمُرَ وَالرَّحْبَةَ وَتَلَّ بَاشِرٍ وَغَيْرَهَا، وَالْكَرَكَ وَالشَّوْبَكَ، وَفَتَحَ بِلَادَ النُّوبَةِ بِكَمَالِهَا مِنْ بِلَادِ السُّودَانِ، وَانْتَزَعَ بِلَادًا مِنَ التَّتَارِ كَثِيرَةً مِنْهَا شِيزَرُ وَالْبِيرَةُ، وَاتَّسَعَتْ مَمْلَكَتُهُ مِنَ الْفُرَاتِ إِلَى أَقْصَى بِلَادِ النَّوْبَةِ، وَعَمَّرَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْحُصُونِ وَالْمَعَاقِلِ وَالْجُسُورِ عَلَى الْأَنْهَارِ الْكِبَارِ، وَبَنَى دَارَ الذَّهَبِ بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ وَبَنَى قُبَّةً عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ عَمُودًا مُلَوَّنَةً مُذَهَّبَةً، وَصَوَّرَ فِيهَا صُوَرَ خَاصَّكِيَّتِهِ وَأَشْكَالَهُمْ، وَحَفَرَ أَنْهَارًا كَثِيرَةً وَخُلْجَانَاتٍ بِبِلَادِ مِصْرَ، مِنْهَا نَهْرُ السَّرْدُوسِ، وَبَنَى جَوَامِعَ كَثِيرَةً وَمَسَاجِدَ عَدِيدَةً، وَجَدَّدَ بِنَاءَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ احْتَرَقَ، وَوَضَعَ الدَّرَابِزِينَاتِ حَوْلَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ، وَعَمِلَ فِيهِ مِنْبَرًا وَسَقَفَهُ بِالذَّهَبِ، وَجَدَّدَ الْمَارَسْتَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَجَدَّدَ قَبْرَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَزَادَ فِي زَاوِيَتِهِ وَمَا يُصْرَفُ إِلَى الْمُقِيمِينَ، وَبَنَى عَلَى الْمَكَانِ الْمَنْسُوبِ إِلَى قَبْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قُبَّةً قِبْلَيَّ أَرِيحَا، وَجَدَّدَ بِالْقُدْسِ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، مِنْ ذَلِكَ قُبَّةُ السِّلْسِلَةِ، وَرَمَّمَ سَقْفَ الصَّخْرَةِ، وَغَيْرَهَا وَبَنَى بِالْقُدْسِ خَانًا هَائِلًا بِمَامَلَا، وَنَقَلَ إِلَيْهِ بَابَ قَصْرِ الْخُلَفَاءِ الْفَاطِمِيِّينَ مِنْ مِصْرَ، وَعَمِلَ فِيهِ طَاحُونًا
وَفُرْنًا وَبُسْتَانًا، وَجَعَلَ لِلْوَارِدِينَ إِلَيْهِ
أَشْيَاءَ تُصْرَفُ إِلَيْهِمْ فِي نَفَقَةِ وَإِصْلَاحِ أَمْتِعَتِهِمْ، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى. وَبَنَى عَلَى قَبْرِ أَبِي عُبَيْدَةَ بِالْقُرْبِ مِنْ
عَمْتَا مَشْهَدًا، وَوَقَفَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ لِلْوَارِدِينَ إِلَيْهِ،
وَعَمَّرَ جِسْرَ دَامِيَةٍ، وَجَدَّدَ قَبْرَ جَعْفَرٍ الطَّيَّارِ بِنَاحِيَةِ
الْكَرَكِ، وَوَقَفَ عَلَى الزَّائِرِينَ لَهُ شَيْئًا كَثِيرًا، وَجَدَّدَ
قَلْعَةَ صَفَدَ وَجَامِعَهَا، وَجَدَّدَ جَامِعَ الرَّمْلَةِ، وَغَيْرَهَا فِي
كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي كَانَتِ الْفِرِنْجُ قَدْ أَخَذَتْهَا
وَخَرَّبَتْ جَوَامِعَهَا وَمَسَاجِدَهَا، وَبَنَى بِحَلَبَ دَارًا هَائِلَةً،
وَبِدِمَشْقَ الْقَصْرَ الْأَبْلَقَ وَالْمَدْرَسَةَ الظَّاهِرِيَّةَ وَغَيْرَهَا،
وَضَرَبَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ الْجَيِّدَةَ الْخَالِصَةَ عَلَى النُّصْحِ
وَالْمُعَامَلَةِ الْجَيِّدَةِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ.
وَلَهُ مِنَ الْآثَارِ الْحَسَنَةِ وَالْأَمَاكِنِ مَا لَمْ يُبْنَ فِي زَمَنِ
الْخُلَفَاءِ وَمُلُوكِ بَنِي أَيُّوبَ، مَعَ اشْتِغَالِهِ بِالْجِهَادِ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ، وَاسْتَخْدَمَ مِنَ الْجُيُوشِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَرَدَ
إِلَيْهِ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَغُولِ فَأَقْطَعَهُمْ وَأَمَّرَ
كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَكَانَ مُقْتَصِدًا فِي مَلْبَسِهِ وَمَطْعَمِهِ، وَكَذَلِكَ
جَيْشُهُ، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ الدَّوْلَةَ الْعَبَّاسِيَّةَ بَعْدَ
دُثُورِهَا، وَبَقِيَ النَّاسُ بِلَا خَلِيفَةٍ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ،
وَهُوَ الَّذِي أَقَامَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ قَاضِيًا مُسْتَقِلًّا قَاضِيَ
قُضَاةٍ.
وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُتَيَقِّظًا شَهْمًا شُجَاعًا، لَا يَفْتُرُ عَنِ
الْأَعْدَاءِ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، بَلْ هُوَ مُنَاجِزٌ لِأَعْدَاءِ
الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَلَمِّ شَعَثِهِ وَاجْتِمَاعِ شَمْلِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ أَقَامَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمُتَأَخِّرِ عَوْنًا
وَنَصْرًا لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَشَجًا فِي حُلُوقِ الْمَارِقِينَ مِنَ
الْفِرِنْجِ وَالتَّتَارِ وَالْمُشْرِكِينَ. وَأَبْطَلَ الْخُمُورَ، وَنَفَى
الْفُسَّاقَ مِنَ الْبِلَادِ، وَكَانَ لَا يَرَى شَيْئًا
مِنَ الْفَسَادِ وَالْمَفَاسِدِ إِلَّا سَعَى فِي إِزَالَتِهِ بِجُهْدِهِ
وَطَاقَتِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سِيرَتِهِ مَا أَرْشَدَ إِلَى حُسْنِ
طَوِيَّتِهِ وَسَرِيرَتِهِ، وَقَدْ جَمَعَ لَهُ كَاتِبُهُ ابْنُ عَبْدِ الظَّاهِرِ
سِيرَةً مُطَوَّلَةً، وَكَذَلِكَ ابْنُ شَدَّادٍ أَيْضًا.
وَقَدْ تَرَكَ مِنَ الْأَوْلَادِ عَشَرَةً; ثَلَاثَةَ ذُكُورٍ وَسَبْعَةَ إِنَاثٍ،
وَمَاتَ وَعُمْرُهُ مَا بَيْنَ الْخَمْسِينَ إِلَى السِّتِّينِ، وَلَهُ أَوْقَافٌ
وَصِلَاتٌ وَصَدَقَاتٌ، تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ الْحَسَنَاتِ، وَتَجَاوَزَ لَهُ
عَنِ السَّيِّئَاتِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَقَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ السَّعِيدُ بِمُبَايَعَةِ أَبِيهِ لَهُ
فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَكَانَ عُمُرُ السَّعِيدِ يَوْمَئِذٍ دُونَ الْعِشْرِينَ
سَنَةً، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ وَأَتَمِّ الرِّجَالِ.
وَفِي صَفَرٍ وَصَلَتِ الْهَدَايَا مِنَ الْفُنْشِ مَعَ رُسُلِهِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، فَوَجَدُوا السُّلْطَانَ قَدْ مَاتَ، وَقَدْ أُقِيمَ الْمَلِكُ
السَّعِيدُ وَلَدُهُ مَكَانَهُ، وَالدَّوْلَةُ لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَالْمَعْرِفَةُ
بَعْدَهُ مَا تَنَكَّرَتْ، وَلَكِنِ الْبِلَادُ قَدْ فَقَدَتْ أَسَدَهَا بَلْ
أَسَدَّهَا وَأَشَدَّهَا، بَلِ الَّذِي بَلَغَ أَشُدَّهَا، وَإِذَا انْفَتَحَتْ
ثَغْرَةٌ مِنْ سُورِ الْإِسْلَامِ سَدَّهَا، وَكُلَّمَا انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ مِنْ
عُرَى الْعَزَائِمِ شَدَّهَا، وَكُلَّمَا رَامَتْ فِرْقَةٌ مَارِقَةٌ مِنْ
طَوَائِفِ الطَّغَامِ أَنْ تَلِجَ إِلَى حَوْمَةِ الْإِسْلَامِ صَدَّهَا
وَرَدَّهَا، فَسَامَحَهُ اللَّهُ، وَبَلَّ بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ، وَجَعَلَ
الْجَنَّةَ مُتَقَلَّبَهُ وَمَثْوَاهُ.
وَكَانَتِ الْعَسَاكِرُ الشَّامِيَّةُ قَدْ سَارَتْ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَمَعَهُمْ مِحَفَّةٌ يُظْهِرُونَ أَنَّ السُّلْطَانَ فِيهَا
مَرِيضٌ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَى الْقَاهِرَةِ فَجَدَّدُوا الْبَيْعَةَ لِلسَّعِيدِ
بَعْدَمَا أَظْهَرُوا مَوْتَ الْمَلِكِ السَّدِيدِ الَّذِي هُوَ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ شَهِيدٌ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
صَفَرٍ خُطِبَ فِي جَمِيعِ الْجَوَامِعِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِلْمَلِكِ
السَّعِيدِ، وَصَلَّى عَلَى وَالِدِهِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، وَاسْتَهَلَّتْ
عَيْنَاهُ بِالدُّمُوعِ.
وَفِي مُنْتَصَفِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ رَكِبَ الْمَلِكُ السَّعِيدُ بِالْعَصَائِبِ
عَلَى عَادَةِ وَالِدِهِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ الْمِصْرِيُّ
وَالشَّامِيُّ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْجَبَلِ الْأَحْمَرِ، وَفَرِحَ النَّاسُ
بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا، وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةٍ، وَعَلَيْهِ
أُبَّهَةُ الْمَلِكِ وَرِيَاسَةُ السَّلْطَنَةِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ رَابِعِ جُمَادَى الْأُولَى فُتِحَتْ مَدْرَسَةُ
الْأَمِيرِ شَمْسِ الدِّينِ آقْسُنْقُرَ الْفَارِقَانِيِّ بِالْقَاهِرَةِ،
بَحَارَةِ الْوَزِيرِيَّةِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَمِلَ فِيهَا
مَشْيَخَةَ حَدِيثٍ وَقَارِئٍ. وَبَعْدَهُ بِيَوْمٍ عُقِدَ عَقْدُ ابْنِ
الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَمْسِكِ بِاللَّهِ ابْنِ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ عَلَى
ابْنَةِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَنْصِرِ بْنِ الظَّاهِرِ، وَحَضَرَ وَالِدُهُ
وَالسُّلْطَانُ وَوُجُوهُ النَّاسِ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ تَاسِعِ جُمَادَى الْأُولَى شُرِعَ فِي بِنَاءِ الدَّارِ
الَّتِي تُعْرَفُ بِدَارِ الْعَقِيقِيِّ تُجَاهَ الْعَادِلِيَّةِ، لِتُجْعَلَ
مَدْرَسَةً وَتُرْبَةً لِلْمَلِكِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ إِلَّا
دَارًا لِلْعَقِيقِيِّ، وَهِيَ الْمُجَاوِرَةُ لِحَمَّامِ الْعَقِيقِيِّ،
وَأُسِّسَ أَسَاسُ التُّرْبَةِ فِي خَامِسِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَأُسِّسَتِ
الْمَدْرَسَةُ أَيْضًا.
وَفِي رَمَضَانَ طَلْعَتْ سَحَابَةٌ عَظِيمَةٌ بِمَدِينَةِ صَفَدَ لَمَعَ مِنْهَا
بَرْقٌ شَدِيدٌ،
وَسَطَعَ مِنْهَا لِسَانُ نَارٍ، وَسُمِعَ مِنْهَا صَوْتٌ
شَدِيدٌ هَائِلٌ، وَوَقَعَ مِنْهَا عَلَى مَنَارَةِ صَفَدَ صَاعِقَةٌ شَقَّتْهَا
مِنْ أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلِهَا شَقًّا يَدْخُلُ الْكَفُّ فِيهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْبَرْوَانَاهْ
فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُحَرَّمِ.
وَالْمَلِكُ الظَّاهِرُ
فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَتِهِمَا.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ بَدْرُ الدِّينِ بِيلِيكَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْخَزِنْدَارُ
نَائِبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِلْمَلِكِ الظَّاهِرِ، كَانَ جَوَادًا
مُمَدَّحًا، لَهُ إِلْمَامٌ وَمَعْرِفَةٌ بِأَيَّامِ النَّاسِ وَالتَّوَارِيخِ،
وَقَدْ وَقَفَ دَرْسًا بِالْجَامِعِ الْأَزْهَرِ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ سُمَّ فَمَاتَ. فَلَمَّا مَاتَ انْتَقَضَ بَعْدَهُ حَبْلُ
الْمَلِكِ السَّعِيدِ، وَاضْطَرَبَتْ أُمُورُهُ.
قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ الْحَنْبَلِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ
الْعِمَادِ أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ سُرُورٍ الْمَقْدِسِيُّ
أَوَّلُ مَنْ وَلِيَ قَضَاءَ قُضَاةِ الْحَنَابِلَةِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
سَمِعَ الْحَدِيثَ حُضُورًا عَلَى ابْنِ طَبَرْزَدَ وَغَيْرِهِ، وَرَحَلَ
إِلَى بَغْدَادَ وَاشْتَغَلَ بِالْفِقْهِ، وَتَفَنَّنَ فِي
عُلُومٍ كَثِيرَةٍ، وَوَلِيَ مَشْيَخَةَ سَعِيدِ السُّعَدَاءِ، وَكَانَ شَيْخًا
مَهِيبًا حَسَنَ الشَّيْبَةِ، كَثِيرَ التَّوَاضُعِ وَالْبِرِّ وَالصَّدَقَةِ،
وَقَدِ اشْتَرَطَ فِي قَبُولِ الْوِلَايَةِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عَلَيْهَا
جَامَكِيَّةٌ، لِيَقُومَ فِي النَّاسِ بِالْحَقِّ فِي حُكْمِهِ، وَقَدْ عَزَلَهُ
الظَّاهِرُ عَنِ الْقَضَاءِ سَنَةَ سَبْعِينَ، وَاعْتَقَلَهُ بِسَبَبِ
الْوَدَائِعِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ بَعْدَ سَنَتَيْنِ،
فَلَزِمَ مَنْزِلَهُ، وَاسْتَقَرَّ بِتَدْرِيسِ الصَّالِحِيَّةِ إِلَى أَنْ
تُوُفِّيَ فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ عِنْدَ عَمِّهِ الْحَافِظِ عَبْدِ
الْغَنِيِّ بِسَفْحِ جَبَلِ الْمُقَطَّمِ، وَقَدْ أَجَازَ لِلْبِرْزَالِيِّ.
قَالَ الْحَافِظُ الْبِرْزَالِيُّ: وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ وَرَدَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ سِتَّةِ أُمَرَاءَ مَنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ; سُنْقُرُ الْبَغْدَادِيُّ، وَبَسْطَا الْبَلَدِيُّ التَّتَرِيُّ،
وَبَدْرُ الدِّينِ الْوَزِيرِيُّ، وَسُنْقُرُ الرُّومِيُّ، وَآقْسُنْقُرُ
الْفَارِقَانِيُّ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ خَضِرٌ الْكُرْدِيُّ شَيْخُ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ: خَضِرُ بْنُ أَبِي
بَكْرِ بْنِ مُوسَى الْكُرْدِيُّ الْمِهْرَانِيُّ الْعَدَوِيُّ
وَيُقَالُ: إِنَّ أَصْلَهُ مِنْ قَرْيَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مِنْ جَزِيرَةِ ابْنِ
عُمَرَ. كَانَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ أَحْوَالٌ وَمُكَاشَفَاتٌ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا
خَالَطَ النَّاسَ افْتَتَنَ بِبَعْضِ بَنَاتِ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ يَقُولُ عَنِ
الْمَلِكِ الظَّاهِرِ وَهُوَ أَمِيرٌ: إِنَّهُ سَيَلِي الْمُلْكَ. فَلِهَذَا كَانَ
الْمَلِكُ الظَّاهِرُ يَعْتَقِدُهُ وَيُبَالِغُ فِي إِكْرَامِهِ بَعْدَ أَنْ
وَلِيَ الْمَمْلَكَةَ، وَيُعَظِّمُهُ
تَعْظِيمًا زَائِدًا، وَيَنْزِلُ إِلَى عِنْدِهِ إِلَى
زَاوِيَتِهِ فِي الْأُسْبُوعِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَيَسْتَصْحِبُهُ مَعَهُ
فِي كَثِيرٍ مِنْ أَسْفَارِهِ، وَيُكْرِمُهُ وَيَحْتَرِمُهُ وَيَسْتَشِيرُهُ،
فَيُشِيرُ عَلَيْهِ بِرَأْيِهِ وَمُكَاشَفَاتٍ صَحِيحَةٍ مُطَابِقَةٍ; إِمَّا
رَحْمَانِيَّةٍ أَوْ شَيْطَانِيَّةٍ، أَوْ حَالٍ أَوِ اسْتِفَادَةٍ، لَكِنَّهُ
افْتَتَنَ لَمَّا خَالَطَ النَّاسَ بِبَعْضِ بَنَاتِ الْأُمَرَاءِ، وَكُنَّ لَا
يَحْتَجِبْنَ مِنْهُ، فَوَقَعَ فِي الْفِتْنَةِ. وَهَذَا فِي الْغَالِبِ وَاقِعٌ
فِي مُخَالَطَةِ النَّاسِ، فَلَا يَسْلَمُ الْمَخَالِطُ لَهُمْ مِنَ الْفِتْنَةِ،
وَلَا سِيَّمَا مُخَالَطَةُ النِّسَاءِ مَعَ تَرْكِ الِاحْتِجَابِ، فَلَا يَسْلَمُ
الْعَبْدُ الْبَتَّةَ مِنْهُنَّ. فَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ فِيهِ حُوقِقَ عِنْدَ
السُّلْطَانِ وَبَيْسَرِي وَقَلَاوُونَ وَالْفَارِسِ أَقْطَايَ الْأَتَابِكِ،
فَاعْتَرَفَ، فَهَمَّ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ
أَيَّامٌ قَلَائِلُ. فَأَمَرَ بِسَجْنِهِ، فَسُجِنَ سِنِينَ عَدِيدَةً مِنْ سَنَةِ
إِحْدَى وَسَبْعِينَ إِلَى سَنَةِ سِتٍّ وَسَبْعِينَ، وَقَدْ هَدَمَ بِالْقُدْسِ
كَنِيسَةً، وَذَبَحَ قِسِّيسَهَا، وَعَمِلَهَا زَاوِيَةً، وَقَدْ قَدَّمْنَا
تَرْجَمَتَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ مَسْجُونًا
حَتَّى مَاتَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَادِسِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
فَأُخْرِجَ مِنَ الْقَلْعَةِ، وَسُلِّمَ إِلَى قَرَابَتِهِ، فَدُفِنَ فِي تُرْبَةٍ
أَنْشَأَهَا فِي زَاوِيَتِهِ. مَاتَ وَهُوَ فِي عَشْرِ السِّتِّينَ، وَقَدْ كَانَ
يُكَاشِفُ السُّلْطَانَ فِي أَشْيَاءَ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ قُبَّةُ الشَّيْخِ
خَضِرٍ الَّتِي عَلَى الْجَبَلِ غَرْبِيَّ الرَّبْوَةِ، وَلَهُ زَاوِيَةٌ
بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ.
الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ، يَحْيَى بْنُ شَرَفِ بْنِ مِرَى بْنِ
حَسَنِ بْنِ
حُسَيْنِ بْنِ جُمُعَةَ بْنِ حِزَامٍ الْحِزَامِيِّ
الْعَالِمِ، مُحْيِي الدِّينِ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ
الشَّافِعِيُّ
الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْمَذْهَبِ، وَكَبِيرُ الْفُقَهَاءِ فِي زَمَانِهِ، وُلِدَ
بِنَوَى سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَنَوَى قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى
حَوْرَانَ، وَقَدْ قَدِمَ دِمَشْقَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَقَدْ حَفِظَ
الْقُرْآنَ فَشَرَعَ فِي قِرَاءَةِ " التَّنْبِيهِ " فَيُقَالُ: إِنَّهُ
قَرَأَهُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ، وَقَرَأَ رُبْعَ الْعِبَادَاتِ مِنَ
" الْمُهَذَّبِ " فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ، ثُمَّ لَزِمَ الْمَشَايِخَ
تَصْحِيحًا وَشَرْحًا، فَكَانَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ يَوْمٍ اثْنَيْ عَشَرَ دَرْسًا
عَلَى الْمَشَايِخِ، ثُمَّ اعْتَنَى بِالتَّصْنِيفِ فَجَمَعَ شَيْئًا كَثِيرًا،
مِنْهَا مَا أَكْمَلَهُ، وَمِنْهَا مَا لَمْ يُكْمِلْهُ، فَمِمَّا كَمَّلَ "
شَرْحُ مُسْلِمٍ " وَ " الرَّوْضَةُ " وَ " الْمِنْهَاجُ
" وَ " الرِّيَاضُ " وَ " الْأَذْكَارُ " وَ "
التِّبْيَانُ " وَ " تَحْرِيرُ التَّنْبِيهِ وَتَصْحِيحُهُ " وَ
" تَهْذِيبُ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ " وَ " طَبَقَاتُ
الْفُقَهَاءِ " وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَمِمَّا لَمْ يُتَمِّمْهُ - وَلَوْ كَمَلَ
لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِيرٌ فِي بَابِهِ - " شَرْحُ الْمُهَذَّبِ "
الَّذِي سَمَّاهُ " الْمَجْمُوعَ " وَصَلَ فِيهِ إِلَى كِتَابِ
الرِّبَا، فَأَبْدَعَ فِيهِ وَأَجَادَ وَأَفَادَ وَأَحْسَنَ الِانْتِقَادَ،
وَحَرَّرَ الْفِقْهَ فِيهِ فِي الْمَذْهَبِ وَغَيْرِهِ، وَحَرَّرَ فِيهِ
الْحَدِيثَ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَالْغَرِيبَ وَاللُّغَةَ وَأَشْيَاءَ مُهِمَّةً
لَا تُوجَدُ إِلَّا فِيهِ، وَقَدْ جَعَلَهُ نُخْبَةً عَلَى مَا عَنَّ لَهُ، وَلَا
أَعْرِفُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ أَحْسَنَ مِنْهُ، عَلَى أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى
أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ تُزَادُ فِيهِ وَتُضَافُ إِلَيْهِ.
وَقَدْ كَانَ مِنَ الزَّهَادَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالتَّحَرِّي
وَالِانْجِمَاعِ عَنِ النَّاسِ عَلَى جَانِبٍ كَبِيرٍ، لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ
أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ غَيْرُهُ، وَكَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ،
وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ إِدَامَيْنِ، وَكَانَ غَالِبُ
قُوتِهِ مِمَّا يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ أَبُوهُ مِنْ نَوَى، وَقَدْ بَاشَرَ تَدْرِيسَ
الْإِقْبَالِيَّةِ نِيَابَةً عَنِ ابْنِ خَلِّكَانَ وَكَذَلِكَ نَابَ فِي
الْفَلَكِيَّةِ وَالرُّكْنِيَّةِ، وَوَلِيَ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ
الْأَشْرَفِيَّةِ، وَكَانَ لَا يُضَيِّعُ شَيْئًا مِنْ أَوْقَاتِهِ، وَحَجَّ فِي
مُدَّةِ إِقَامَتِهِ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ
الْمُنْكَرِ لِلْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ، تُوُفِّيَ فِي لَيْلَةِ أَرْبَعٍ
وَعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِنَوَى، وَدُفِنَ هُنَاكَ،
رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَفَا عَنَّا وَعَنْهُ.
عَلِيُّ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَسْفَنْدِيَارَ نَجْمُ الدِّينِ
الْوَاعِظُ بِجَامِعِ دِمَشْقَ أَيَّامَ السُّبُوتِ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ،
وَكَانَ شَيْخَ الْخَانْقَاهِ الْمُجَاهِدِيَّةِ، وَبِهَا تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَكَانَ فَاضِلًا بَارِعًا، وَكَانَ جَدُّهُ يَكْتُبُ الْإِنْشَاءَ
لِلْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ، وَأَصْلُهُمْ مِنْ بُوشَنْجَ. وَمِنْ شِعْرِ نَجْمِ
الدِّينِ هَذَا قَوْلُهُ:
إِذَا زَارَ بِالْجُثْمَانِ غَيْرِي فَإِنَّنِي أَزُورُ مَعَ السَّاعَاتِ رَبْعَكَ
بِالْقَلْبِ وَمَا كُلُّ نَاءٍ عَنْ دِيَارٍ بِنَازِحٍ
وَلَا كُلُّ دَانٍ فِي الْحَقِيقَةِ ذُو قُرْبِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
كَانَ أَوَّلُهَا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ
بِأَمْرِ اللَّهِ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ شَامًا وَمِصْرًا
وَحَلَبًا الْمَلِكَ السَّعِيدَ.
وَفِي أَوَائِلِ الْمُحَرَّمِ اشْتَهَرَ بِدِمَشْقَ وِلَايَةُ الْقَاضِي ابْنُ
خَلِّكَانَ قَضَاءَ دِمَشْقَ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ فِي أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ،
بَعْدَ عَزْلٍ سَبْعَ سِنِينَ، فَامْتَنَعَ الْقَاضِي عِزُّ الدِّينِ ابْنُ
الصَّائِغِ مِنَ الْحُكْمِ فِي سَادِسِ الْمُحَرَّمِ، وَخَرَجَ النَّاسُ
لِتَلَقِّي ابْنِ خَلِّكَانَ، فَمِنْهُمْ مَنْ وَصَلَ إِلَى الرَّمْلَةِ، وَكَانَ
دُخُولُهُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ،
فَخَرَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ عِزُّ الدِّينِ أَيْدَمُرُ بِجَمِيعِ الْأُمَرَاءِ
وَالْمَوَاكِبِ لِتَلَقِّيِهِ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ وَمَدَحَهُ
الشُّعَرَاءُ، وَأَنْشَدَ الْفَقِيهُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْوَانَ:
لَمَّا تَوَلَّى قَضَاءَ الشَّامِ حَاكِمُهُ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْعَبَّاسِ
ذُو الْكَرَمِ مِنْ بَعْدِ سَبْعٍ شِدَادٍ قَالَ خَادِمُهُ
ذَا الْعَامُ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ بِالنِّعَمِ
وَقَالَ سَعْدُ اللَّهِ بْنُ مَرْوَانَ الْفَارِقِيُّ:
أَذَقْتَ الشَّامَ سَبْعَ سِنِينَ جَدْبًا غَدَاةَ هَجَرْتَهُ هَجْرًا جَمِيلًا
فَلَمَّا زُرْتَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مَدَدْتَ عَلَيْهِ
مِنْ كَفَّيْكَ نِيلَا
وَقَالَ آخَرُ:
رَأَيْتُ أَهْلَ الشَّامِ طُرًّا مَا فِيهِمُ قَطُّ غَيْرُ رَاضِ
نَالَهُمُ الْخَيْرُ بَعْدَ شَرٍّ فَالْوَقْتُ بَسْطٌ بِلَا انْقِبَاضِ
وَعُوِّضُوا فَرْحَةً بِحُزْنٍ قَدْ أَنْصَفَ الدَّهْرُ فِي التَّقَاضِي
وَسَّرَّهُمْ بَعْدَ طُولِ غَمٍّ بُدُورُ قَاضٍ وَعَزْلُ قَاضِي
وَكُلُّهُمْ شَاكِرٌ وَشَاكٍ بِحَالِ مُسْتَقْبَلٍ وَمَاضِي
قَالَ الْيُونِينِيُّ: وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثَ عَشَرَ صَفَرٍ ذَكَرَ
الدَّرْسَ بِالظَّاهِرِيَّةِ، وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ أَيْدَمُرُ
الظَّاهِرِيُّ، وَكَانَ دَرْسًا حَافِلًا حَضَرَهُ الْقُضَاةُ، وَكَانَ مُدَرِّسَ
الشَّافِعِيَّةِ الشَّيْخُ رَشِيدُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الْفَارِقِيُّ، وَمُدَرِّسَ الْحَنَفِيَّةِ الشَّيْخُ صَدَرُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ
الْحَنَفِيُّ، وَلَمْ يَكُنْ بِنَاءُ الْمَدْرَسَةِ كَمَلَ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى بَاشَرَ قَضَاءَ الْحَنَفِيَّةِ صَدْرُ الدِّينِ
سُلَيْمَانُ الْمَذْكُورُ عِوَضًا عَنْ مَجْدِ الدِّينِ بْنِ الْعَدِيمِ، بِحُكْمِ
وَفَاتِهِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ صَدْرُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ الْمَذْكُورُ فِي
رَمَضَانَ، وَتَوَلَّى بَعْدَهُ الْقَضَاءَ حُسَامُ الدِّينِ أَبُو الْفَضَائِلِ
الْحَسَنُ بْنُ أَنُوشِرْوَانَ الرَّازِيُّ الْحَنَفِيُّ، الَّذِي كَانَ قَاضِيًا
بِمَلَطْيَةَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَفِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ
فُتِحَتِ الْمَدْرَسَةُ النَّجِيبِيَّةُ، وَحَضَرَ تَدْرِيسَهَا ابْنُ خَلِّكَانَ
بِنَفْسِهِ، ثُمَّ نَزَلَ عَنْهَا لِوَلَدِهِ كَمَالِ الدِّينِ مُوسَى، وَفُتِحَتِ
الْخَانْقَاهُ النَّجِيبِيَّةُ، وَقَدْ كَانَتَا
وَأَوْقَافُهُمَا تَحْتَ الْحَوْطَةِ إِلَى الْآنِ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ خَامِسِ ذِي الْحِجَّةِ دَخَلَ السُّلْطَانُ
السَّعِيدُ إِلَى دِمَشْقَ وَقَدْ زُيِّنَتْ لَهُ، وَعُمِلَتْ لَهُ قِبَابٌ
ظَاهِرَةٌ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْبَلَدِ لِتَلَقِّيهِ وَفَرِحُوا بِهِ فَرَحًا
عَظِيمًا لِمَحَبَّتِهِمْ وَالِدَهُ، وَصَلَّى عِيدَ النَّحْرِ بِالْمَيْدَانِ،
وَعَمِلَ الْعِيدَ بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَاسْتَوْزَرَ بِدِمَشْقَ
الصَّاحِبَ فَتْحَ الدِّينِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْقَيْسَرَانِيِّ،
وَبِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِ بَهَاءِ الدِّينِ بْنِ الْحِنَّا
الصَّاحِبَ بُرْهَانَ الدِّينِ بْنَ الْخَضِرِ بْنِ الْحَسَنِ السِّنْجَارِيَّ،
وَفِي الْعَشْرِ الْآخِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ جَهَّزَ السُّلْطَانُ الْعَسَاكِرَ
إِلَى بِلَادِ سِيسَ صُحْبَةَ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ قَلَاوُونَ
الصَّالِحِيِّ، وَأَقَامَ السُّلْطَانُ بِدِمَشْقَ فِي طَائِفَةٍ يَسِيرَةٍ مِنَ
الْأُمَرَاءِ وَالْخَاصِّكِيَّةِ وَالْخَوَاصِّ، وَجَعَلَ يُكْثِرُ التَّرَدُّدَ
إِلَى الزَّنْبَقِيَّةِ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ جَلَسَ
السُّلْطَانُ بِدَارِ الْعَدْلِ دَاخِلَ بَابِ النَّصْرِ، وَأَسْقَطَ مَا كَانَ
حَدَّدَهُ وَالِدُهُ عَلَى بَسَاتِينِ أَهْلِ دِمَشْقَ فَتَضَاعَفَتْ لَهُ
مِنْهُمُ الْأَدْعِيَةُ، وَأَحَبُّوهُ لِذَلِكَ حُبًّا شَدِيدًا، فَإِنَّهُ كَانَ
قَدْ أَجْحَفَ بِكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الْأَمْلَاكِ، وَوَدَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ
لَوْ تَخَلَّصَ مِنْ مُلْكِهِ جُمْلَةً بِسَبَبِ مَا عَلَيْهِ.
وَفِيهَا طَلَبَ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ خَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، ضُرِبَتْ
أُجْرَةً عَلَى أَمْلَاكِهِمْ مُدَّةَ شَهْرَيْنِ، وَجُبِيَتْ مِنْهُمْ عَلَى
الْقَهْرِ وَالْعَسْفِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
آقُوشُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ جَمَالُ
الدِّينِ النَّجِيبِيُّ أَبُو سَعِيدٍ الصَّالِحِيُّ
أَعْتَقَهُ الْمَلِكُ الصَّالِحُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ بْنُ الْكَامِلِ،
وَجَعَلَهُ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، وَوَلَّاهُ أُسْتَاذَدَارِيَّتِهِ،
وَكَانَ يَثِقُ إِلَيْهِ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ
تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ وَسِتِّمِائَةٍ، وَوَلَّاهُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ أَيْضًا
أُسْتَاذَدَارِيَّتِهِ، ثُمَّ اسْتَنَابَهُ بِالشَّامِ تِسْعَ سِنِينَ، فَاتَّخَذَ
فِيهَا الْمَدْرَسَةَ النَّجِيبِيَّةَ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا أَوْقَافًا دَارَّةً
وَاسِعَةً، لَكِنْ لَمْ يُقَرِّرْ لِلْمُسْتَحِقِّينَ قَدْرًا يُنَاسِبُ مَا
وَقَفَهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ عَزَلَهُ السُّلْطَانُ وَاسْتَدْعَاهُ لِمِصْرَ،
فَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً بَطَّالًا، ثُمَّ مَرِضَ بِالْفَالِجِ أَرْبَعَ سِنِينَ،
وَقَدْ عَادَهُ فِي بَعْضِهَا الْمَلِكُ الظَّاهِرُ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى
كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ خَامِسَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ
بِالْقَاهِرَةِ بِدَارِهِ بِدَرْبِ مُلُوخِيَّا، وَدُفِنَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
قَبْلَ الصَّلَاةِ بِتُرْبَتِهِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بِالْقَرَافَةِ الصُّغْرَى،
وَقَدْ كَانَ بَنَى لِنَفْسِهِ تُرْبَةً بِالنَّجِيبِيَّةِ وَفَتَحَ لَهَا
شُبَّاكَيْنِ إِلَى الطَّرِيقِ، فَلَمْ يُقَدَّرْ دَفْنُهُ بِهَا. وَكَانَ كَثِيرَ
الصَّدَقَةِ، مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ، مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ، حَسَنَ
الِاعْتِقَادِ، شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ، مُتَغَالِيًا فِي السُّنَّةِ، وَمَحَبَّةِ
الصَّحَابَةِ، وَبُغْضِ الرَّوَافِضِ، وَمِنْ جُمْلَةِ أَوْقَافِهِ الْحِسَانِ
الْبُسْتَانُ وَالْأَرَاضِي الَّتِي أَوْقَفَهَا عَلَى الْجُسُورَةِ الَّتِي
قِبْلِيَّ جَامِعِ كَرِيمِ الدِّينِ الْيَوْمَ، وَعَلَى ذَلِكَ أَوْقَافٌ
كَثِيرَةٌ، وَجَعَلَ النَّظَرَ فِي أَوْقَافِهِ لِابْنِ خَلِّكَانَ.
أَيْدِكِينُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ
الشِّهَابِيُّ
وَاقِفُ الْخَانْقَاهِ الشِّهَابِيَّةِ دَاخِلَ بَابِ الْفَرَجِ، كَانَ مِنْ
كِبَارِ الْأُمَرَاءِ بِدِمَشْقَ، وَقَدْ وَلَّاهُ الظَّاهِرُ بِحَلَبَ مُدَّةً،
وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ وَشُجْعَانِهِمْ، وَلَهُ حُسْنُ ظَنٍّ بِالْفُقَرَاءِ
وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ الشَّيْخِ
عُثْمَانَ الرُّومِيِّ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، فِي خَامِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَهُوَ فِي عَشْرِ الْخَمْسِينَ، وَخَانَقَاتُهُ دَاخِلَ بَابِ
الْفَرَجِ، وَكَانَ لَهَا شُبَّاكٌ إِلَى الطَّرِيقِ. وَالشِّهَابِيُّ نِسْبَةٌ
إِلَى الطَّوَاشِيِّ شِهَابِ الدِّينِ رَشِيدٍ الْكَبِيرِ الصَّالِحِيِّ.
قَاضِي الْقُضَاةِ صَدْرُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي الْعِزِّ وُهَيْبٍ
أَبُو الرَّبِيعِ الْحَنَفِيُّ
شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، وَعَالِمُهُمْ شَرْقًا وَغَرْبًا، أَقَامَ
بِدِمَشْقَ مُدَّةً يُفْتِي وَيُدَرِّسُ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ يُدَرِّسُ بِالصَّالِحِيَّةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ،
فَدَرَّسَ بِالظَّاهِرِيَّةِ وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بَعْدَ مَجْدِ الدِّينِ بْنِ الْعَدِيمِ
ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ سَادِسَ
شَعْبَانَ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بَعْدَ الصَّلَاةِ بِدَارِهِ بِسَفْحِ
قَاسِيُونَ، وَلَهُ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَمِنْ لَطِيفِ شِعْرِهِ فِي
مَمْلُوكٍ تَزَوَّجَ جَارِيَةً لِلْمَلِكِ الْمُعَظَّمِ:
يَا صَاحِبَيَّ قِفَا لِي وَانْظُرَا عَجَبًا أَتَى بِهِ الدَّهْرُ فِينَا مِنْ
عَجَائِبِهِ الْبَدْرُ أَصْبَحَ فَوْقَ الشَّمْسِ مَنْزِلَةً
وَمَا الْعُلُوُّ عَلَيْهَا مِنْ مَرَاتِبِهِ أَضْحَى يُمَاثِلُهَا حُسْنًا
وَصَارَ لَهَا
كُفُوًا وَسَارَ إِلَيْهَا فِي مَوَاكِبِهِ فَأَشْكَلَ الْفَرْقُ لَوْلَا وَشْيُ
نَمْنَمَةٍ
بِصُدْغِهِ وَاخْضِرَارٌ فَوْقَ شَارِبِهِ
طَهَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ كَمَالُ الدِّينِ الْهَذْبَانِيُّ
الْإِرْبِلِيُّ
كَانَ أَدِيبًا
فَاضِلًا شَاعِرًا، لَهُ قُدْرَةٌ فِي تَصْنِيفِ دُوبَيْتٍ،
وَقَدْ أَقَامَ بِالْقَاهِرَةِ حَتَّى تُوُفِّيَ بِهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ مَرَّةً بِالْمَلِكِ الصَّالِحِ
أَيُّوبَ، فَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ فِي عِلْمِ النُّجُومِ، فَأَنْشَدَهُ عَلَى الْبَدِيهَةِ
هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ:
دَعِ النُّجُومَ لِطُرْقِيٍّ يَعِيشُ بِهَا وَبِالْعَزِيمَةِ فَانْهَضْ أَيُّهَا
الْمَلِكُ
إِنَّ النَّبِيَّ وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ نَهَوْا عَنِ النُّجُومِ وَقَدْ
أَبْصَرْتَ مَا مَلَكُوا
وَكَتَبَ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ اسْمُهُ شَمْسُ الدِّينِ يَسْتَزِيرُهُ بَعْدَ رَمَدٍ
أَصَابَهُ فَبَرَأَ مِنْهُ:
يَقُولُ لِيَ الْكَحَّالُ عَيْنُكَ قَدْ هُدَتْ فَلَا تَشْغَلَنْ قَلْبًا
عَلَيْهَا وَطِبْ نَفْسَا
وِلِي مُدَّةٌ يَا شَمْسُ لَمْ أَرَكُمْ بِهَا وَآيَةُ بُرْءِ الْعَيْنِ أَنْ
تُبْصِرَ الشَّمْسَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عُثْمَانَ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّيْخِ
نَجْمِ الدِّينِ الْبَاذَرَائِيُّ الْبَغْدَادِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ
دَرَّسَ بِمَدْرَسَةِ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ حَتَّى حِينَ وَفَاتِهِ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ سَادِسَ رَجَبٍ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَكَانَ رَئِيسًا
حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، جَاوَزَ خَمْسِينَ سَنَةً.
قَاضِي الْقُضَاةِ مَجْدُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَمَالِ الدِّينِ
عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ
بْنِ الْعَدِيمِ الْحَلَبِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ
الْحَنَفِيُّ
وَلِيَ قَضَاءَ الْحَنَفِيَّةِ بَعْدَ ابْنِ عَطَاءٍ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ رَئِيسًا
ابْنَ رَئِيسٍ، لَهُ إِحْسَانٌ وَكَرَمُ أَخْلَاقٍ، وَقَدْ وَلِيَ الْخَطَابَةَ
بِجَامِعِ الْقَاهِرَةِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ أَوَّلُ حَنَفِيٍّ وَلِيَهُ، تُوُفِّيَ
بِجَوْسَقِهِ بِدِمَشْقَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ
بِالتُّرْبَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا عِنْدَ زَاوِيَةِ الْحَرِيرِيِّ عَلَى
الشَّرَفِ الْقِبْلِيِّ غَرْبِيَّ الزَّيْتُونِ.
الْوَزِيرُ ابْنُ الْحِنَّا: عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الصَّاحِبُ بَهَاءُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْحِنَّا الْوَزِيرُ
الْمِصْرِيُّ
وَزِيرُ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ وَوَلَدِهِ السَّعِيدِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي
سَلْخِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَهُوَ جَدُّ جَدٍّ، وَكَانَ ذَا رَأْيٍ وَعَزْمٍ
وَتَدْبِيرٍ، ذَا تَمَكُّنٍ فِي الدَّوْلَةِ الظَّاهِرِيَّةِ لَا تَمْضِي
الْأُمُورُ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِ وَأَمْرِهِ، وَلَهُ مَكَارِمُ عَلَى الْأُمَرَاءِ
وَغَيْرِهِمْ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ، وَكَانَ ابْنُهُ تَاجُ الدِّينِ
وَزِيرَ الصُّحْبَةِ، وَقَدْ صُودِرَ فِي الدَّوْلَةِ السَّعِيدِيَّةِ.
الشَّيْخُ مُحَمَّدُ ابْنُ الظَّهِيرِ اللُّغَوِيُّ: مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي شَاكِرٍ مَجْدُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْإِرْبِلِيُّ الْحَنَفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الظَّهِيرِ
وُلِدَ بِإِرْبِلَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّمِائَةٍ، ثُمَّ أَقَامَ بِدِمَشْقَ
وَدَرَّسَ بِالْقَيْمَازِيَّةِ، وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى تُوُفِّيَ بِهَا لَيْلَةَ
الْجُمُعَةِ ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ،
وَكَانَ بَارِعًا فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ، وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي
النَّظْمِ، وَلَهُ دِيوَانٌ مَشْهُورٌ وَشِعْرٌ
رَائِقٌ، فَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
كُلُّ حَيٍّ إِلَى الْمَمَاتِ مَآبُهُ وَمَدَى عُمْرِهِ سَرِيعٌ ذَهَابُهْ
ثُمَّ مِنْ قَبْرِهِ سَيُحْشَرُ فَرْدًا وَاقِفًا وَحْدَهُ يُوَفَّى حِسَابَهْ
مَعَهُ سَائِقٌ لَهُ وَشَهِيدٌ وَعَلَى الْحِرْصِ وَيْحَهُ إِكْبَابُهْ
يُخْرِبُ الدَّارَ وَهْيَ دَارُ بَقَاءٍ ثُمَّ يَبْنِي مَا عَمَّا قَرِيبٍ
خَرَابُهْ
عَجَبًا وَهْوَ فِي التُّرَابِ غَرِيقٌ كَيْفَ يُلْهِيهِ طِيبُهُ وَعِلَابُهْ
كُلُّ يَوْمٍ يَزِيدُ نَقْصًا وَإِنْ عُمِّ رَ حَلَّتْ أَوْصَالَهُ أَوْصَابُهْ
وَالْوَرَى فِي مَرَاحِلِ الدَّهْرِ رَكْبٌ دَائِمُ السَّيْرِ لَا يُرْجَى
إِيَابُهْ
فَتَزَوَّدْ إِنَّ التُّقَى خَيْرُ زَادٍ وَنَصِيبُ اللَّبِيبِ مِنْهُ لُبَابُهْ
وَأَخُو الْعَقْلِ مَنْ يَقْضِي بِصِدْقٍ شَيْبَهُ فِي صَلَاحِهِ وَشَبَابَهْ
وَأَخُو الْجَهْلِ يَسْتَلِذُّ هَوَى النَّفْ سِ فَيَغْدُو شَهْدًا لَدَيْهِ
مُصَابُهْ
وَهِيَ طَوِيلَةٌ جِدًّا قَرِيبَةٌ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ بَيْتًا، وَقَدْ
أَوْرَدَ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ شِعْرِهِ الْحَسَنِ
الْفَائِقِ الرَّائِقِ.
ابْنُ إِسْرَائِيلَ الْحَرِيرِيُّ، مُحَمَّدُ بْنُ سَوَّارِ بْنِ إِسْرَائِيلَ
بْنِ الْخَضِرِ بْنِ إِسْرَائِيلَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْحُسَيْنِ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي الشَّيْبَانِيُّ الدِّمَشْقِيُّ
وُلِدَ فِي يَوْمِ ضُحَى يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
سَنَةَ ثَلَاثٍ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَصَحِبَ الشَّيْخَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي
الْحَسَنِ بْنِ مَنْصُورٍ الْبُسْرِيَّ الْحَرِيرِيَّ، فِي سَنَةِ ثَمَانَ
عَشْرَةَ، وَكَانَ قَدْ لَبِسَ الْخِرْقَةَ قَبْلَهُ مِنَ الشَّيْخِ شِهَابِ
الدِّينِ السُّهْرَوَرْدِيِّ، وَزَعَمَ أَنَّهُ أَجْلَسَهُ فِي ثَلَاثِ خَلَوَاتٍ،
وَكَانَ ابْنُ إِسْرَائِيلَ يَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَهُ قَدِمُوا الشَّامَ مَعَ
خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَاسْتَوْطَنُوا دِمَشْقَ، وَكَانَ أَدِيبًا فَاضِلًا
فِي صِنَاعَةِ الشِّعْرِ بَارِعًا فِي النَّظْمِ، وَلَكِنْ فِي كَلَامِهِ
وَنَظْمِهِ مَا يُشِيرُ بِهِ إِلَى نَوْعٍ مِنَ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ عَلَى
طَرِيقَةِ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ الْفَارِضِ وَشَيْخِهِ الْحَرِيرِيِّ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ وَحَقِيقَةِ أَمْرِهِ. تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ
لَيْلَةَ الْأَحَدِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، عَنْ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ الشَّيْخِ
رِسْلَانَ مَعَهُ دَاخِلَ الْقُبَّةِ، وَكَانَ الشَّيْخُ رِسْلَانُ شَيْخَ
الشَّيْخِ عَلِيٍّ الْمُغَرْبِلِ الَّذِي تَخَرَّجَ عَلَى يَدَيْهِ الشَّيْخُ
عَلِيٌّ الْحَرِيرِيُّ شَيْخُ ابْنِ إِسْرَائِيلَ، فَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
لَقَدْ عَادَنِي مِنْ لَاعِجِ الشَّوْقِ عَائِدُ فَهَلْ عَهْدُ ذَاتِ الْخَالِ
بِالسَّفْحِ عَائِدُ
وَهَلْ نَارُهَا بِالْأَجْرَعِ الْفَرْدِ تَعْتَلِي لِمُنْفَرِدٍ شَابَ الدُّجَى
وَهْوَ شَاهِدُ
نَدِيمَيَّ مِنْ سُعْدَى أَدِيرَا حَدِيثَهَا فَذِكْرَى هَوَاهَا وَالْمُدَامَةُ
وَاحِدُ
مُنَعَّمَةُ الْأَطْرَافِ رَقَّتْ مَحَاسِنًا كَمَا جَلَّ فِي حُبِّي لَهَا مَا
أُكَابِدُ
فَلِلْبَدْرِ مَا لَاثَتْ عَلَيْهِ خِمَارُهَا وَلِلشَّمْسِ مَا جَالَتْ عَلَيْهِ
الْقَلَائِدُ
وَلَهُ:
أَيُّهَا الْمُعْتَاضُ بِالنَّوْمِ السَّهَرْ ذَاهِلًا يَسْبَحُ فِي بَحْرِ
الْفِكَرْ
سَلِّمِ الْأَمْرَ إِلَى مَالِكِهِ وَاصْطَبِرْ فَالصَّبْرُ عُقْبَاهُ الظَّفَرْ
لَا تَكُونَنْ آيِسًا مِنْ فَرَجْ إِنَّمَا الْأَيَّامُ تَأْتِي بِالْغِيَرْ
كَدَرٌ يَحْدُثُ فِي وَقْتِ الصَّفَا وَصَفًا يَحْدُثُ فِي وَقْتِ الْكَدَرْ
وَإِذَا مَا سَاءَ دَهْرٌ مَرَّةً سَرَّ أَهْلِيهِ وَمَهْمَا سَاءَ سَرْ
فَارْضَ عَنْ رَبِّكَ فِي أَقْدَارِهِ إِنَّمَا أَنْتَ أَسِيرٌ لِلْقَدَرْ
وَلَهُ قَصِيدَةٌ فِي مَدْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
طَوِيلَةٌ حَسَنَةٌ سَمِعَهَا الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ الزَّمْلَكَانِيُّ
وَأَصْحَابُهُ عَلَى الشَّيْخِ أَحْمَدَ الْأَعْفَفِ عَنْهُ، وَأَوْرَدَ لَهُ
الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ أَشْعَارًا كَثِيرَةً، فَمِنْهَا
قَصِيدَتُهُ الدَّالِيَّةُ الْمُطَوَّلَةُ الَّتِي أَوَّلُهَا:
وَفَى لِيَ مَنْ أَهْوَاهُ جَهْرًا لِمَوْعِدِي وَأَرْغَمَ عُذَّالِي عَلَيْهِ
وَحُسَّدِي
وَزَارَ عَلَى شَحْطِ الْمَزَارِ مُطَوَّلًا عَلَى مُغْرَمٍ بِالْوَصْلِ لَمْ
يَتَعَوَّدِ
فَيَا حُسْنَ مَا أَبْدَى لِعَيْنِي جَمَالُهُ وَيَا بَرْدَ مَا أَهْدَى إِلَى
قَلْبِيَ الصَّدِي
وَيَا صِدْقَ أَحْلَامِي بِبُشْرَى وِصَالِهِ وَيَا نَيْلَ آمَالِي وَيَا نُجْحَ
مَقْصِدِي
تَجَلَّى وُجُودِي إِذْ تَجَلَّى لِبَاطِنِي بِجَدٍ سَعِيدٍ
أَوْ بِسَعْدٍ مُجَدَّدِ
لَقَدْ حُقَّ لِي عِشْقُ الْوُجُودِ وَأَهْلِهِ وَقَدْ عَلِقَتْ كَفَّايَ جَمْعًا
بِمُوجِدِي
ثُمَّ تَغَزَّلَ فَأَطَالَ إِلَى أَنْ قَالَ:
فَلَمَّا تَجَلَّى لِي عَلَى كُلِّ شَاهِدٍ وَسَامَرَنِي بِالرَّمْزِ فِي كُلِّ
مَشْهَدِ
تَجَنَّبْتُ تَقْيِيدَ الْجَمَالِ تَرَفُّعًا وَطَالَعْتُ أَسْرَارَ الْجَمَالِ
الْمُبَدَّدِ
وَصَارَ سَمَاعِي مُطْلَقًا مِنْهُ بَدْؤُهُ وَحَاشَى لِمِثْلِي مِنْ سَمَاعٍ
مُقَيَّدِ
فِفِي كُلِّ مَشْهُودٍ لِقَلْبِيَ شَاهِدٌ وَفِي كُلِّ مَسْمُوعٍ لَهُ لَحْنُ
مَعْبَدِ
أَرَاهُ بِأَوْصَافِ الْجَمَالِ جَمِيعِهَا بِغَيْرِ اعْتِقَادٍ لِلْحُلُولِ
الْمُبَعَّدِ
فَفِي كُلِّ هَيْفَاءِ الْمَعَاطِفِ غَادَةٍ وَفِي كُلِّ مَصْقُولِ السَّوَالِفِ
أَغْيَدِ
وَفِي كُلِّ بَدْرٍ لَاحَ فِي لَيْلِ شِعْرِهِ عَلَى كُلِّ غُصْنٍ مَائِسِ
الْعِطْفِ أَمْلَدِ
وَعِنْدَ اعْتِنَاقِي كُلَّ قَدٍّ مُهَفْهَفٍ وَرَشْفِي رِضَابًا كَالرَّحِيقِ
الْمُبَرَّدِ
وَفِي الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالطِّيبِ وَالْحُلَى عَلَى كُلِّ سَاجِي الطَّرْفِ
لَدْنِ الْمُقَلَّدِ
وَفِي حُلَلِ الْأَثْوَابِ رَاقَتْ لِنَاظِرِي بِزَبْرَجِهَا مِنْ مُذْهَبٍ
وَمُوَرَّدِ
وَفِي الرَّاحِ وَالرَّيْحَانِ وَالسَّمْعِ وَالْغِنَا وَفِي سَجْعِ تَرْجِيعِ
الْحَمَامِ الْمُغَرِّدِ
وَفِي الدَّوْحِ وَالْأَنْهَارِ وَالزَّهْرِ وَالنَّدَى وِفِي كُلِّ بُسْتَانٍ
وَقَصْرٍ مُشَيَّدِ
وَفِي الرَّوْضَةِ الْفَيْحَاءِ تَحْتَ سَمَائِهَا
يُضَاحِكُ نُورَ الشَّمْسِ نُوَّارُهَا النَّدِي
وَفِي صَفْوِ رَقْرَاقِ الْغَدِيرِ إِذَا حَكَى وَقَدْ جَعَلَتْهُ الرِّيحُ
صَفْحَةَ مَبْرَدِ
وَفِي اللَّهْوِ وَالْأَفْرَاحِ وَالْغَفْلَةِ الَّتِي تُمَكِّنُ أَهْلَ الْفَرْقِ
مِنْ كُلِّ مَقْصِدِ
وَعِنْدَ انْتِشَاءِ الشُّرْبِ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ بَهِيجٍ بِأَنْوَاعِ الثِّمَارِ
الْمُنَضَّدِ
وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمْعَةٍ وَعِيدٍ وَإِظْهَارِ الرِّيَاشِ
الْمُجَدَّدِ
وَفِي لَمَعَانِ الْمَشْرَفِيَّاتِ بِالْوَغَى وَفِي مَيْلِ أَعْطَافِ الْقَنَا
الْمُتَأَوِّدِ
وِفِي الْأَعْوَجِيَّاتِ الْعِتَاقِ إِذَا انْبَرَتْ تُسَابِقُ وَفْدَ الرِّيحِ
فِي كُلِّ مَطْرَدِ
وَفِي الشَّمْسِ تُجْلَى وَهْيَ فِي بُرْجِ نُورِهَا لَدَى الْأُفُقِ الشَّرْقِيِّ
مِرْآةَ عَسْجَدِ
وَفِي الْبَدْرِ بَدْرِ الْأُفْقِ لَيْلَةَ تِمِّهِ جَلَتْهُ سَمَاءٌ مِثْلُ
صَرْحٍ مُمَرَّدِ
وَفِي أَنْجُمٍ زَانَتْ دُجَاهَا كَأَنَّهَا نِثَارُ لَآلٍ فِي بِسَاطِ زَبَرْجَدِ
وَفِي الْغَيْثِ رَوَّى الْأَرْضَ بَعْدَ هُمُودِهَا قُبَالَ نَدَاهُ مُتْهِمٌ
بَعْدَ مُنْجِدِ
وَفِي الْبَرْقِ يَغْدُو مُوهِنًا فِي سَحَابِهِ كَبَاسِمِ ثَغْرٍ أَوْ حُسَامٍ
مُجَرَّدِ
وَفِي حُسْنِ تَنْمِيقِ الْخِطَابِ وَسُرْعَةِ الْجَ وَابِ وَفِي الْخَطِّ
الْأَنِيقِ الْمُجَوَّدِ
وَفِي رِقَّةِ الْأَشْعَارِ رَاقَتْ لِسَامِعٍ بَدَائِعُهَا مِنْ مُقْصَرٍ
وَمُقَصَّدِ
وَفِي عَوْدِ عِيدِ الْوَصْلِ مِنْ بَعْدِ جَفْوَةٍ وَفِي أَمْنِ أَحْشَاءِ
الطَّرِيدِ الْمُشَرَّدِ
وَفِي رَحْمَةِ الْمَعْشُوقِ شَكْوَى مُحِبِّهِ وَفِي رِقَّةِ الْأَلْفَاظِ عِنْدَ
التَّوَدُّدِ
وَفِي أَرْيَحِيَّاتِ الْكَرِيمِ إِلَى النَّدَى وَفِي عَاطِفَاتِ الْعَفْوِ مِنْ
كُلِّ سَيِّدِ
وَحَالَةِ بَسْطِ الْعَارِفِينَ وَأُنْسِهِمْ
وَتَحْرِيكِهِمْ عِنْدَ السَّمَاعِ الْمُقَيَّدِ
وَفِي لُطْفِ آيَاتِ الْكِتَابِ الَّتِي بِهَا تَنَسَّمُ رُوحُ الْوَعْدِ بَعْدَ
التَّوَعُّدِ
كَذَلِكَ أَوْصَافُ الْجَلَالِ مَظَاهِرٌ أُشَاهِدُهُ فِيهَا بِغَيْرِ تَرَدُّدِ
فَفِي صَوْلَةِ الْقَاضِي الْجَلِيلِ وَسَمْتِهِ وَفِي سَطْوَةِ الْمَلِكِ
الشَّدِيدِ التَّمَرُّدِ
وَفِي حِدَّةِ الْغَضْبَانِ حَالَةَ طَيْشِهِ وَفِي نَخْوَةِ الْقَرْمِ الْمَهِيبِ
الْمُسَوَّدِ
وَفِي صَوْلَةِ الصَّهْبَاءِ حَارَ مُدِيرُهَا وَفِي بُؤْسِ أَخْلَاقِ النَّدِيمِ
الْمُعَرْبِدِ
وَفِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ اللَّذَيْنِ تَقَسَّمَا الزَّمَانَ وَفِي إِيلَامِ
كُلِّ مُجَسِّدِ
وَفِي سِرِّ تَسْلِيطِ النُّفُوسِ بِشَرِّهَا عَلَيَّ وَتَحْسِينِ التَّعَدِّي
لِمُعْتَدِي
وَفِي عَسَرِ الْعَادَاتِ يَسْتَعْرِفُ الْقَضَا وَتَكْحُلُ عَيْنُ الشَّمْسِ
مِنْهُ بِإِثْمِدِ
وَعِنْدَ اصْطِدَامِ الْخَيْلِ فِي كُلِّ مَوْقِفٍ يُعَثَّرُ فِيهِ بِالْوَشِيجِ
الْمُنَضَّدِ
وَفِي شَدَّةِ اللَّيْثِ الصَّئُولِ وَبَأْسِهِ وَشِدَّةِ عَيْشٍ بِالسِّقَامِ
مُنَكَّدِ
وَفِي جَفْوَةِ الْمَحْبُوبِ بَعْدَ وِصَالِهِ وَفِي غَدْرِهِ مِنْ بَعْدِ عَهْدٍ
مُؤَكَّدِ
وَفِي رَوْعَةِ الْبَيْنِ الْمُسِيءِ وَمَوْقِفِ الْ وَدَاعِ لِحَرَّانِ الْجَوَانِحِ
مُكْمَدِ
وَفِي فُرْقَةِ الْأُلَّافِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمْ وَفِي كُلِّ تَشْتِيتٍ وَشَمْلٍ
مُبَدَّدِ
وَفِي كُلِّ دَارٍ أَقْفَرَتْ بَعْدَ أُنْسِهَا وَفِي طَلَلٍ بَالٍ دَرَاسٍ
مُعَهَّدِ
وَفِي هَوْلِ أَمْوَاجِ الْبِحَارِ وَوَحْشَةِ الْ قِفَارِ وَسَيْلٍ بِالْمَزَايِيبِ
مُزْبَدِ
وَعِنْدَ قِيَامِي بِالْفَرَائِضِ كُلِّهَا وَحَالَةِ
تَسْلِيمٍ لِسِرِّ التَّعَبُّدِ
وَعِنْدَ خُشُوعِي فِي الصَّلَاةِ لِعِزَّةِ الْ مُنَاجَى وَفِي الْإِطْرَاقِ
عِنْدَ التَّهَجُّدِ
وَحَالَةِ إِهْلَالِ الْحَجِيجِ بِحَجِّهِمِ وَإِعْمَالِهِمْ لِلْعِيسِ فِي كُلِّ
فَدْفَدِ
وَفِي عُسْرِ تَخْلِيصِ الْحَلَالِ وَفَتْرَةِ الْ مَلَالِ لِقَلْبِ النَّاسِكِ
الْمُتَعَبِّدِ
وَفِي ذِكْرِ آيَاتِ الْعَذَابِ وَظُلْمَةِ الْ حِجَابِ وَقَبْضِ النَّاسِكِ
الْمُتَزَهِّدِ
وَيَبْدُو بِأَوْصَافِ الْكَمَالِ فَلَا أَرَى بِرُؤْيَتِهِ شَيْئًا قَبِيحًا
وَلَا رَدِي
فَكُلُّ مُسِيءٍ لِي إِلَيَّ كَمُحْسِنٍ وَكُلُّ مُضِلٍّ لِي إِلَيَّ كَمُرْشِدِ
فَلَا فَرْقَ عِنْدِي بَيْنَ أُنْسٍ وَوَحْشَةٍ وَنُورٍ وَإِظْلَامٍ وَمُدْنٍ
وَمُبْعِدِ
وَسِيَّانَ إِفْطَارِي وَصَوْمِي وَفَتْرَتِي وَجُهْدِي وَنَوْمِي وَادِّعَاءُ
تَهَجُّدِي
أُرَى تَارَةً فِي حَانَةِ الْخَمْرِ خَالِعًا عِذَارِي وَطَوْرًا فِي حَنِيَّةِ
مَعْبَدِ
تَجَلَّى لِسِرِّي بِالْحَقِيقَةِ مَشْرَبٌ فَوَقْتِيَ مَمْزُوجٌ بِكَشْفٍ
مُسَرْمَدِ
تَعَمَّرِتِ الْأَوْطَانُ بِي وَتَحَقَّقَتْ مَظَاهِرُهَا عِنْدِي بِعَيْنِي
وَمَشْهَدِي
وَقَلْبِي عَلَى الْأَشْيَاءِ أَجَمَعَ قُلَّبٌ وَسِرِّيَ مَقْسُومٌ عَلَى كُلِّ
مَوْرِدِ
فَهَيْكَلُ أَوْثَانٍ وَدَيْرٌ لِرَاهِبٍ وَبَيْتٌ لِنِيرَانٍ وَقِبْلَةُ مَسْجِدِ
وَمَرْجٌ لِغَزْلَانٍ وَحَانَةُ قَهْوَةٍ وَرَوْضَةُ أَزْهَارٍ وَمَطْلَعُ
أَسْعَدِ
وَأَسْرَارُ عِرْفَانٍ وَمِفْتَاحُ حِكْمَةٍ وَأَنْفَاسُ
وِجْدَانٍ وَفَيْضِ تَبَلُّدِ
وَجَيْشٌ لِضِرْغَامٍ وَخِدْرٌ لِكَاعِبٍ وَظُلْمَةُ حَيْرَانٍ وَنُورٌ
لِمُهْتَدِي
تَقَابَلَتِ الْأَضْدَادُ عِنْدِي جَمِيعُهَا كَمِحْنَةِ مَجْهُودٍ وَمِنْحَةِ
مُجْتَدِي
وَأَحْكَمْتُ تَقْرِيرَ الْمَرَاتِبِ صُورَةً وَمَعْنًى وَمِنْ عَيْنِ
التَّفَرُّدِ مَوْرِدِي
فَمَا مَوْطِنٌ إِلَّا وَلِي فِيهِ مَوْقِفٌ عَلَى قَدَمٍ قَامَتْ بِحَقِّ
التَّفَرُّدِ
فَلَا غَرْوَ إِنْ فُتُّ الْأَنَامَ بِهَا وَقَدْ عَلِقَتْ بِحَبْلٍ مِنْ حِبَالِ
مُحَمَّدِ
عَلَيْهِ صَلَاةُ اللَّهِ تَشْفَعُ دَائِمًا بِرُوحِ تَحِيَّاتِ السَّلَامِ
الْمُرَدَّدِ
ابْنُ الْعُودِ الرَّافِضِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْعُودِ
نَجِيبُ الدِّينِ الْأَسَدِيُّ الْحِلِّيُّ
شَيْخُ الشِّيعَةِ وَإِمَامُهُمْ وَعَالِمُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، كَانَتْ لَهُ
فَضِيلَةٌ وَمُشَارَكَةٌ فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ حَسَنَ الْمُحَاضَرَةِ
وَالْمُعَاشَرَةِ لَطِيفَ النَّادِرَةِ، وَكَانَ كَثِيرَ التَّعَبُّدِ
بِاللَّيْلِ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ. وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ
وَتِسْعِينَ سَنَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ وَسَرَائِرِهِمْ
وَنِيَّاتِهِمْ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
كَانَ أَوَّلُهَا يَوْمَ الْأَحَدِ، وَالْخَلِيفَةُ وَالسُّلْطَانُ هُمَا
الْمَذْكُورَانِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَدِ اتَّفَقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
أُمُورٌ عَجِيبَةٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَ الْمَمَالِكِ
كُلِّهَا، اخْتَلَفَتِ التَّتَارُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ
مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَاخْتَلَفَتِ الْفِرِنْجُ فِي السَّوَاحِلِ، وَصَالَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَذَلِكَ الْفِرِنْجُ
الَّذِينَ فِي دَاخِلِ الْبُحُورِ وَجَزَائِرِهَا اخْتَلَفُوا وَاقْتَتَلُوا،
وَاقْتَتَلَتْ قَبَائِلُ الْأَعْرَابِ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ قِتَالًا شَدِيدًا،
وَكَذَلِكَ وَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَ الْعَشِيرِ مِنَ الْحَوَارِنَةِ، وَقَامَتِ
الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ عَلَى سَاقٍ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَ
الْأُمَرَاءِ الظَّاهِرِيَّةِ بِسَبَبِ أَنَّ السُّلْطَانَ الْمَلِكَ السَّعِيدَ
بْنَ الظَّاهِرِ لَمَّا بَعَثَ الْجَيْشَ إِلَى سِيسَ أَقَامَ بَعْدَهُ
بِدِمَشْقَ، وَأَخَذَ فِي اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالِانْبِسَاطِ مَعَ
الْخَاصِّكِيَّةِ، وَتَمَكَّنُوا مِنَ الْأُمُورِ، وَبَعُدَ عَنْهُ الْأُمَرَاءُ
الْكِبَارُ، فَعَصَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ وَنَابَذُوهُ وَفَارَقُوهُ، وَأَقَامُوا
بِطَرِيقِ الْعَسَاكِرِ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا إِلَى سِيسَ وَغَيْرِهِمْ،
فَرَجَعَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَيْهِمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا شَعَّثُوا قُلُوبَهُمْ
عَلَى الْمَلِكِ السَّعِيدِ، وَوَحَّشُوا خَوَاطِرَ الْجَيْشِ عَلَيْهِ،
وَقَالُوا: الْمِلْكُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَلْعَبَ وَلَا يَلْهُوَ،
وَإِنَّمَا هِمَّةُ الْمُلُوكِ فِي الْعَدْلِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ،
وَالذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِمْ كَمَا كَانَ أَبُوهُ. ثُمَّ رَاسَلَهُ الْجَيْشُ فِي
إِبْعَادِ
الْخَاصِّكِيَّةِ عَنْهُ وَدُنُوِّ ذَوِي الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى إِلَيْهِ كَمَا كَانَ أَبُوهُ يَفْعَلُ، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَذَلِكَ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ; لِقُوَّةِ شَوْكَةِالْخَاصِّكِيَّةِ وَكَثْرَتِهِمْ، فَرِكَبَ الْجَيْشُ وَسَارُوا قَاصِدِينَ مَرَجَ الصُّفَّرِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْعُبُورُ عَلَى دِمَشْقَ بَلْ أَخَذُوا مِنْ شَرْقِهَا، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ بِمَرَجِ الصُّفَّرِ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ أُمَّهُ إِلَيْهِمْ، فَتَلَقَّوْهَا وَقَبَّلُوا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَأَخَذَتْ تَتَأَلَفُهُمْ وَتُصْلِحُ الْأُمُورَ، فَأَجَابُوهَا وَاشْتَرَطُوا شُرُوطًا عَلَى وَلَدِهَا السُّلْطَانِ، فَلَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهِ لَمْ يَلْتَزِمْ بِهَا، وَلَمْ تُمَكِّنْهُ الْخَاصِّكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ، فَسَارَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَسَاقَ السُّلْطَانُ خَلْفَهُمْ لِيَتَلَافَى الْأُمُورَ قَبْلَ تَفَاقُمِهَا، فَلَمْ يَلْحَقْهُمْ وَسَبَقُوهُ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَقَدْ كَانَ أَرْسَلَ أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ وَثَقَلَهُ إِلَى الْكَرَكِ، فَحَصَّنَهُمْ فِيهَا، وَرَكِبَ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ الَّذِينَ بَقَوْا مَعَهُ وَالْخَاصِّكِيَّةِ قَاصِدًا الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهَا صَدُّوهُ عَنْهَا، وَقَاتَلُوهُ فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ نَفَرٌ يَسِيرٌ، فَأَخَذَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ، فَشَقَّ بِهِ الصُّفُوفَ، وَأَدْخَلَهُ قَلْعَةَ الْجَبَلِ لِيَسْكُنَ الْأَمْرُ، فَمَا زَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا نُفُورًا، فَحَاصَرُوا حِينَئِذٍ الْقَلْعَةَ، وَقَطَعُوا عَنْهَا الْمَاءَ وَجَرَتْ خُطُوبٌ طَوِيلَةٌ وَأَحْوَالٌ صَعْبَةٌ. ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ قَلَاوُونَ الْأَلْفِيِّ الصَّالِحِيِّ - وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ - عَلَى أَنْ يَتْرُكَ الْمَلِكُ السَّعِيدُ الْمُلْكَ، وَيَتَعَوَّضَ بِالْكَرَكِ وَالشُّوبَكِ، وَيَكُونَ فِي صُحْبَتِهِ أَخُوهُ نَجْمُ الدِّينِ خَضِرٌ، وَتَكُونَ الْمَمْلَكَةُ إِلَى أَخِيهِمَا الصَّغِيرِ بَدْرِ الدِّينِ سَلَامُشَ، وَيَكُونَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قَلَاوُونَ أَتَابِكَهُ.
ذِكْرُ خَلْعِ الْمَلِكِ السَّعِيدِ
وَتَوْلِيَةِ أَخِيهِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ سَلَامُشَ
لَمَّا اتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا نَزَلَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ
السَّعِيدُ مِنَ الْقَلْعَةِ إِلَى دَارِ الْعَدْلِ فِي سَابِعَ عَشَرَ الشَّهْرِ،
وَهُوَ رَبِيعٌ الْآخِرُ، وَحَضَرَ الْقُضَاةُ وَالدَّوْلَةُ مِنْ أُولِي الْحَلِّ
وَالْعَقْدِ، فَخَلَعَ السَّعِيدُ نَفْسَهُ مِنَ السَّلْطَنَةِ، وَأَشْهَدَهُمْ
عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ، وَبَايَعُوا أَخَاهُ بَدْرَ الدِّينِ سَلَامُشَ،
وَلُقِّبَ بِالْمَلِكِ الْعَادِلِ، وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ سَبْعُ سِنِينَ،
وَجَعَلُوا أَتَابِكَهُ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ قَلَاوُونَ الْأَلْفِيَّ
الصَّالِحِيَّ، وَخَطَبَ الْخُطَبَاءُ، وَرَسُمَتِ السِّكَّةُ بِاسْمِهِمَا،
وَجُعِلَ لِلسَّعِيدِ الْكَرَكَ، وَلِأَخِيهِ خَضِرٍ الشُّوبَكَ، وَكُتِبَتْ
بِذَلِكَ مَكَاتِيبُ، وَوَضَعَ الْقُضَاةُ وَالْمُفْتُونَ خُطُوطَهُمْ بِذَلِكَ،
وَجَاءَتِ الْبَرِيدِيَّةُ إِلَى الشَّامِ بِالتَّحْلِيفِ لَهُمْ عَلَى مَا حَلَفَ
عَلَيْهِ الْمِصْرِيُّونَ. وَمُسِكَ الْأَمِيرُ أَيْدَمُرُ نَائِبُ الشَّامِ
الظَّاهِرِيُّ، وَاعْتُقِلَ بِالْقَلْعَةِ عِنْدَ نَائِبِهَا، وَكَانَ نَائِبَهَا
إِذْ ذَاكَ عَلَمُ الدِّينِ سَنْجَرُ الدَّوَادَارِيُّ، وَأُحِيطَ عَلَى أَمْوَالِ
نَائِبِ الشَّامِ وَحَوَاصِلِهِ، وَجَاءَ عَلَى نِيَابَةِ الشَّامِ الْأَمِيرُ
شَمْسُ الدِّينِ سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَتَحَكُّمٍ
مَكِينٍ، فَنَزَلَ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَعَظَّمَهُ النَّاسُ وَعَامَلُوهُ
مُعَامَلَةَ الْمُلُوكِ، وَعَزَلَ السُّلْطَانُ قُضَاةَ مِصْرَ الثَّلَاثَةَ;
الشَّافِعِيَّ وَالْحَنَفِيَّ وَالْمَالِكِيَّ، وَوَلَّوُا الْقَضَاءَ صَدْرَ
الدِّينِ عُمَرَ بْنَ الْقَاضِيِ تَاجِ الدِّينِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ عِوَضًا
عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ رَزِينٍ، وَكَأَنَّهُمْ
إِنَّمَا عَزَلُوهُ لِأَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي خَلْعِ الْمَلِكِ السَّعِيدِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ بَيْعَةِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ
قَلَاوُونَ الصَّالِحِيِّ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ
اجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ مِنْ مِصْرَ، وَخَلَعُوا الْمَلِكَ
الْعَادِلَ سُلَامِشَ بْنَ الظَّاهِرِ، وَأَخْرَجُوهُ مِنَ الْبَيْنِ، وَإِنَّمَا
كَانُوا قَدْ بَايَعُوهُ صُورَةً لِيَسْكُنَ الشَّرُّ عِنْدَ خَلْعِ الْمَلِكِ
السَّعِيدِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى بَيْعَةِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ
الصَّالِحِيِّ، وَلَقَّبُوهُ بِالْمَلِكِ الْمَنْصُورِ، وَجَاءَتِ الْبَيْعَةُ
إِلَى دِمَشْقَ، فَوَافَقَ الْأُمَرَاءُ وَحَلَفُوا، وَذُكِرَ أَنَّ الْأَمِيرَ
شَمْسَ الدِّينِ سُنْقُرَ الْأَشْقَرَ لَمْ يَحْلِفْ مَعَ النَّاسِ وَلَمْ يَرْضَ
بِمَا وَقَعَ، وَكَأَنَّهُ دَاخَلَهُ حَسَدٌ مِنَ الْمَنْصُورِ; لِأَنَّهُ كَانَ
يَرَى أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْهُ عِنْدَ الظَّاهِرِ. وَخُطِبَ لِلْمَنْصُورِ عَلَى
الْمَنَابِرِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ، وَضُرِبَتِ السِّكَّةُ بِاسْمِهِ،
وَجَرَتِ الْأُمُورُ بِمُقْتَضَى رَأْيِهِ، فَعَزَلَ وَوَلَّى وَنُفِّذَتْ
مَرَاسِيمُهُ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ بِذَلِكَ، فَعَزَلَ عَنِ الْوِزَارَةِ
بُرْهَانَ الدِّينِ السِّنْجَارِيَّ، وَوَلَّى مَكَانَهُ فَخْرَ الدِّينِ بْنَ
لُقْمَانَ كَاتِبَ السِّرِّ وَصَاحِبَ دِيوَانِ الْإِنْشَاءِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ حَادِي عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
تُوُفِّيَ الْمَلِكُ السَّعِيدُ بْنُ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ بِالْكَرَكِ،
وَسَيَأْتِي ذِكْرُ تَرْجَمَتِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا حُمِلَ الْأَمِيرُ أَيْدَمُرُ الَّذِي كَانَ نَائِبَ الشَّامِ فِي
مِحَفَّةٍ - لِمَرَضٍ لَحِقَهُ - إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَدَخَلَهَا
فِي أَوَاخِرِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَاعْتُقِلَ بِقَلْعَةِ مِصْرَ.
ذِكْرُ سَلْطَنَةِ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ بِدِمَشْقَ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ
رَكِبَ الْأَمِيرُ شَمْسُ الدِّينِ
سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ مِنْ دَارِ السَّعَادَةِ بَعْدَ
صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْجُنْدِ
مُشَاةً، وَقَصَدَ بَابَ الْقَلْعَةِ الَّذِي يَلِي الْمَدِينَةَ، فَهَجَمَ
مِنْهُ، وَدَخَلَ الْقَلْعَةَ، وَاسْتَدْعَى الْأُمَرَاءَ، فَبَايَعُوهُ عَلَى
السَّلْطَنَةِ، وَلُقِّبَ بِالْمَلِكِ الْكَامِلِ، وَأَقَامَ بِالْقَلْعَةِ
وَنَادَتِ الْمُنَادِيَةُ بِدِمَشْقَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ يَوْمُ
السَّبْتِ اسْتَدْعَى بِالْقُضَاةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْأَعْيَانِ وَرُؤَسَاءِ
الْبَلَدِ إِلَى مَسْجِدِ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِالْقَلْعَةِ وَحَلَّفَهُمْ،
وَحَلَفَ لَهُ بَقِيَّةُ الْأُمَرَاءِ وَالْعَسْكَرِ، وَأَرْسَلَ الْعَسَاكِرَ
إِلَى غَزَّةَ لِحِفْظِ الْأَطْرَافِ وَأَخْذِ الْغَلَّاتِ، وَأَرْسَلَ الْمَلِكَ
الْمَنْصُورَ إِلَى الشُّوبَكِ فَتَسَلَّمَهَا نُوَّابُهُ، وَلَمْ يُمَانِعْهُمْ
نَجْمُ الدِّينِ خَضِرٌ.
وَفِيهَا جُدِّدَتْ خَمْسَةُ أَضْلَاعٍ فِي قُبَّةِ النَّسْرِ مِنَ النَّاحِيَةِ
الْغَرْبِيَّةِ.
وَفِيهَا عُزِلَ فَتْحُ الدِّينِ بْنُ الْقَيْسَرَانِيِّ مِنَ الْوِزَارَةِ
بِدِمَشْقَ، وَوَلِيَهَا تَقِيُّ الدِّينِ تَوْبَةُ التَّكْرِيتِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عِزُّ الدِّينِ بْنُ غَانِمٍ الْوَاعِظُ: عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
غَانِمِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَسَاكِرَ بْنِ حُسَيْنٍ عِزُّ
الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْمَقْدِسِيُّ
الْوَاعِظُ الْمُطَبِّقُ الْمُفْلِقُ الشَّاعِرُ الْفَصِيحُ، الَّذِي نَسَجَ عَلَى
مِنْوَالِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَأَمْثَالِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ قُطْبُ
الدِّينِ أَشْيَاءَ حَسَنَةً كَثِيرَةً مَلِيحَةً، وَكَانَ لَهُ قَبُولٌ عِنْدَ
النَّاسِ، تَكَلَّمَ مَرَّةً تُجَاهَ الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ، وَكَانَ فِي
الْحَضْرَةِ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ، وَالشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَابْنُ الْعُجَيْلِ مِنَ الْيَمَنِ وَغَيْرُهُمْ
مِنَ
الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ فَأَجَادَ وَأَفَادَ، وَخَطَبَ
فَأَبْلَغَ وَأَحْسَنَ. نَقَلَ هَذَا الْمَجْلِسَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ،
وَأَنَّهُ كَانَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ.
الْمَلِكُ السَّعِيدُ بْنُ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ بَرَكَةَ خَانَ: نَاصِرُ الدِّينِ
مُحَمَّدٌ بَرَكَةُ خَانَ أَبُو الْمَعَالِي ابْنُ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ
الظَّاهِرِ رُكْنِ الدِّينِ بَيْبَرْسَ الْبُنْدُقْدَارِيُّ
بَايَعَ لَهُ أَبُوهُ الْأُمَرَاءَ فِي حَيَاتِهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ
بُويِعَ لَهُ بِالْمُلْكِ، وَلَهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَشَتْ لَهُ
الْأُمُورُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى السَّعَادَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ غَلَبَتْ
عَلَيْهِ الْخَاصِّكِيَّةُ، فَجَعَلَ يَلْعَبُ مَعَهُمْ فِي الْمَيْدَانِ
الْأَخْضَرِ فِيمَا قِيلَ أَوَّلَ هُوِيٍّ، فَرُبَّمَا جَاءَتِ النَّوْبَةُ
عَلَيْهِ فَيَنْزِلُ لَهُمْ، فَأَنْكَرَتِ الْأُمَرَاءُ الْكِبَارُ ذَلِكَ،
وَأَنِفُوا أَنْ يَكُونَ مَلِكُهُمْ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ وَيَجْعَلُ
نَفْسَهُ كَأَحَدِهِمْ،، فَرَاسَلُوهُ فِي ذَلِكَ لِيَرْجِعَ عَمَّا هُوَ
عَلَيْهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ فَخَلَعُوهُ كَمَا ذَكَرْنَا وَوَلَّوُا السُّلْطَانَ
الْمَلِكَ الْمَنْصُورَ قَلَاوُونَ فِي أَوَاخِرَ رَجَبٍ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِالْكَرَكِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
الْحَادِي عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، يُقَالُ: إِنَّهُ سُمَّ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَقَدْ دُفِنَ أَوَّلًا عِنْدَ قَبْرِ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ
قُتِلُوا بِمُؤْتَةَ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى دِمَشْقَ، فَدُفِنَ فِي تُرْبَةِ أَبِيهِ
سَنَةَ ثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَتَمَلَّكَ الْكَرَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ نَجْمُ
الدِّينِ خَضِرٌ، وَلُقِّبَ بِالْمَلِكِ الْمَسْعُودِ، فَانْتَزَعَهَا
الْمَنْصُورُ مِنْ يَدِهِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
كَانَ أَوَّلَهَا يَوْمُ الْخَمِيسِ ثَالِثَ أَيَّارَ، وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ
بِأَمْرِ اللَّهِ أَحْمَدُ الْعَبَّاسِيُّ، وَمَلِكُ مِصْرَ الْمَلِكُ
الْمَنْصُورُ قَلَاوُونُ الصَّالِحِيُّ وَبَعْضِ بِلَادِ الشَّامِ أَيْضًا،
وَأَمَّا دِمَشْقُ وَأَعْمَالُهَا فَقَدْ مَلَكَهَا سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ،
وَصَاحِبُ الْكَرَكِ الْمَلِكُ الْمَسْعُودُ بْنُ الظَّاهِرِ، وَصَاحِبُ حَمَاةَ
الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ
تَقِيِّ الدِّينِ مَحْمُودٍ، وَالْعِرَاقُ وَبِلَادُ الْجَزِيرَةِ وَخُرَاسَانَ
وَالْمَوْصِلُ وَإِرْبِلُ وَأَذْرَبِيجَانُ وَبِلَادُ بَكْرٍ وَخِلَاطُ وَمَا
وَالَاهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ بِأَيْدِي التَّتَارِ، وَكَذَلِكَ
بِلَادُ الرُّومِ فِي أَيْدِيهِمْ أَيْضًا، وَلَكِنْ فِيهَا غِيَاثُ الدِّينِ بْنُ
رُكْنِ الدِّينِ، وَلَا حُكْمَ لَهُ سِوَى الِاسْمِ، وَصَاحِبُ الْيَمَنِ
الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ شَمْسُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ، وَصَاحِبُ الْحَرَمِ
الشَّرِيفِ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ أَبِي نُمَيٍّ الْحَسَنِيُّ، وَصَاحِبُ
الْمَدِينَةِ عِزُّ الدِّينِ جَمَّازُ بْنُ شِيحَةَ الْحُسَيْنِيُّ.
فَفِي مُسْتَهَلِّ السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ رَكِبَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ
الْكَامِلُ سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ مِنَ الْقَلْعَةِ إِلَى الْمَيْدَانِ، وَبَيْنَ
يَدَيْهِ الْأُمَرَاءُ وَمُقَدَّمُوا الْحَلْقَةِ يَحْمِلُونَ الْغَاشِيَةَ،
وَعَلَيْهِمُ الْخِلَعُ، وَالْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ رُكَّابٌ مَعَهُ، فَسِيرَ
فِي الْمَيْدَانِ سَاعَةً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى
الْقَلْعَةِ، وَجَاءَ إِلَى خِدْمَتِهِ الْأَمِيرُ شَرَفُ
الدِّينِ عِيسَى بْنُ مُهَنَّا مِلْكُ الْعَرَبِ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَجَلَسَ إِلَى جَانِبِهِ وَهُوَ عَلَى السِّمَاطِ، وَقَامَ لَهُ
الْمَلِكُ الْكَامِلُ، وَكَذَلِكَ جَاءَ إِلَى خِدْمَتِهِ مَلِكُ الْأَعْرَابِ
بِالْحِجَازِ، وَأَمَرَ الْكَامِلُ سُنْقُرُ أَنْ تُضَافَ الْبِلَادُ الْحَلَبِيَّةُ
إِلَى وِلَايَةِ الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ بْنِ خَلِّكَانَ، وَوَلَّاهُ تَدْرِيسَ
الْأَمِينِيَّةِ، وَانْتَزَعَهَا مِنِ ابْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ.
وَلَمَّا بَلَغَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَا كَانَ
مِنْ أَمْرِ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ بِالشَّامِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيفًا،
فَهَزَمُوا عَسْكَرَ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ الَّذِي كَانَ قَدْ أَرْسَلَهُ إِلَى
غَزَّةَ، وَسَاقُوهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى وَصَلَ جَيْشُ الْمِصْرِيِّينَ
إِلَى قَرِيبِ دِمَشْقَ، فَأَمَرَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ أَنْ يُضْرَبَ دِهْلِيزُهُ
بِالْجُسُورَةِ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي عَشَرَ صَفَرٍ،
وَنَهَضَ بِنَفْسِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ فَنَزَلَ هُنَالِكَ، وَاسْتَخْدَمَ خَلْقًا
كَثِيرًا وَأَنْفَقَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَانْضَافَ إِلَيْهِ عَرَبُ الْأَمِيرِ
شَرَفِ الدِّينِ عِيسَى بْنِ مُهَنَّا وَشِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ حَجِّي،
وَنَجْدَةُ حَلَبَ وَنَجْدَةُ حَمَاةَ وَرِجَالٌ كَثِيرَةٌ مِنْ جِبَالِ
بَعْلَبَكَّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ
أَقْبَلَ الْجَيْشُ الْمِصْرِيُّ صُحْبَةَ الْأَمِيرِ عَلَمِ الدِّينِ سَنَجَرَ
الْحَلَبِيِّ، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ وَتَقَابَلَ الْفَرِيقَانِ
تَقَاتَلُوا إِلَى الرَّابِعَةِ فِي النَّهَارِ، فَقُتِلَ نَفَرٌ كَثِيرٌ،
وَثَبَتَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ ثَبَاتًا جَيِّدًا، وَلَكِنْ
خَامَرَ عَلَيْهِ الْجَيْشُ، فَمِنْهُمْ مَنْ صَارَ إِلَى الْمِصْرِيِّ،
وَمِنْهُمْ مَنِ انْهَزَمَ فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ،
فَلَمْ يَسَعْهُ إِلَّا الِانْهِزَامُ عَلَى طَرِيقِ الْمَرْجِ فِي طَائِفَةٍ
يَسِيرَةٍ فِي صُحْبَةِ عِيسَى بْنِ مُهَنَّا، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى بَرِّيَّةِ
الرَّحْبَةِ، فَأَنْزَلَهُمْ فِي بُيُوتٍ مِنْ شَعْرٍ، وَأَقَامَ بِهِمْ
وَبِدَوَابِّهِمْ مُدَّةَ مُقَامِهِمْ عِنْدَهُ، ثُمَّ بَعَثَ الْأُمَرَاءُ
الَّذِينَ انْهَزَمُوا
عَنْهُ، فَأَخَذُوا لَهُمْ أَمَانًا مِنَ الْأَمِيرِ
سَنْجَرَ، وَقَدْ نَزَلَ فِي ظَاهِرِ دِمَشْقَ وَهِيَ مَغْلُوقَةٌ، فَرَاسَلَ
نَائِبَ الْقَلْعَةِ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى فَتَحَ بَابَ الْفَرَجِ مِنْ
آخِرِ النَّهَارِ، وَفُتِحَتِ الْقَلْعَةُ مِنْ دَاخِلِ الْبَلَدِ، فَتَسَلَّمَهَا
لِلْمَنْصُورِ، وَأُفْرِجَ عَنِ الْأَمِيرِ رُكْنِ الدِّينِ بَيْبَرْسَ
الْعَجَمِيِّ الْمَعْرُوفِ بِالْجَالِقِ، وَالْأَمِيرِ حُسَامِ الدِّينِ لَاجِينَ
الْمَنْصُورِيِّ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ كَانَ قَدِ
اعْتَقَلَهُمْ سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ، وَأَرْسَلَ سَنْجَرُ الْبَرِيدِيَّةَ إِلَى
الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ يُعْلِمُونَهُ بِصُورَةِ الْحَالِ، وَأَرْسَلَ سَنْجَرُ
ثَلَاثَةَ آلَافٍ فِي طَلَبِ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ جَاءَ ابْنُ خَلِّكَانَ لِيُسَلِّمَ عَلَى الْأَمِيرِ
سَنْجَرَ الْحَلَبِيِّ، فَاعْتَقَلَهُ فِي عُلْوِ الْخَانْقَاهِ النَّجِيبِيَّةِ،
وَعَزَلَهُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ، وَرَسَمَ لِلْقَاضِي
نَجْمِ الدِّينِ بْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ بِالْقَضَاءِ فَبَاشَرَهُ، ثُمَّ
جَاءَتِ الْبَرِيدِيَّةُ مَعَهُمْ كِتَابٌ مِنَ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ
بِالْعَتْبِ عَلَى طَوَائِفِ النَّاسِ، وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ،
فَتَضَاعَفَتْ لَهُ الْأَدْعِيَةُ، وَجَاءَ تَقْلِيدُ النِّيَابَةِ بِالشَّامِ
لِلْأَمِيرِ حُسَامِ الدِّينِ لَاجِينَ السِّلَحْدَارِ الْمَنْصُورِيِّ، فَدَخَلَ
مَعَهُ عَلَمُ الدِّينِ سَنْجَرُ الْحَلَبِيُّ فَرَتَّبَهُ بِدَارِ السَّعَادَةِ،
وَأَمَرَ سَنْجَرُ الْقَاضِيَ ابْنَ خَلِّكَانَ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنَ
الْمَدْرَسَةِ الْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ; لِيَسْكُنَهَا نَجْمُ الدِّينِ بْنُ
سَنِيِّ الدَّوْلَةِ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَاسْتَدْعَى جِمَالًا
لِيَنْقُلَ أَهْلَهُ وَثَقَلَهُ عَلَيْهَا إِلَى الصَّالِحِيَّةِ، فَجَاءَ
الْبَرِيدُ بِكِتَابٍ مِنَ السُّلْطَانِ، فِيهِ تَقْرِيرُ ابْنِ خَلِّكَانَ عَلَى
الْقَضَاءِ، وَالْعَفْوُ عَنْهُ وَشُكْرُهُ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ، وَذِكْرُ
خِدْمَتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمَعَهُ خِلْعَةٌ سِنِيَّةٌ لَهُ، فَلَبِسَهَا
وَصَلَّى بِهَا الْجُمُعَةَ، وَسَلَّمَ عَلَى الْأُمَرَاءِ، فَأَكْرَمُوهُ
وَعَظَّمُوهُ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِهِ وَبِمَا وَقَعَ مِنَ الصَّفْحِ عَنْهُ.
وَأَمَّا سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ فَإِنَّهُ لَمَّا خَرَجَتِ الْعَسَاكِرُ فِي طَلَبِهِ فَارِقَ الْأَمِيرَ عِيسَى بْنَ مُهَنَّا، وَسَارَ إِلَى السَّوَاحِلِ، فَاسْتَحْوَذَ مِنْهَا عَلَى حُصُونٍ كَثِيرَةٍ; مِنْهَا صِهْيَوْنُ، وَقَدْ كَانَ بِهَا أَوْلَادُهُ وَحَوَاصِلُهُ، وَحِصْنُ بَلَاطُنُسَ وَبَرْزَيَةَ وَعَكَّارٍ وَجَبَلَةَ وَاللَّاذِقِيَّةِ وَالشُّغْرِ وَبَكَاسَ وَشَيْزَرَ، وَاسْتَنَابَ فِيهَا الْأَمِيرَ عِزَّ الدِّينِ أَزْدَمُرَ الْحَاجَّ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ الْمَنْصُورُ لِحِصَارِ شَيْزَرَ طَائِفَةً مِنَ الْجَيْشِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَتِ التَّتَارُ مِنْ كُلِّ فَجِّ لَمَّا سَمِعُوا بِتَفْرِيقِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَانْجَفَلَ النَّاسُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ إِلَى الشَّامِ، وَمِنَ الشَّامِ إِلَى مِصْرَ، فَوَصَلَتِ التَّتَارُ إِلَى حَلَبَ، فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا، وَنَهَبُوا شَيْئًا كَثِيرًا، وَظَنُّوا أَنَّ جَيْشَ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ يَكُونُ مَعَهُمْ عَلَى الْمَنْصُورِ، فَوَجَدُوا الْأَمْرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْصُورَ كَتَبَ إِلَى سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ: إِنَّ التَّتَارَ قَدْ أَقْبَلُوا إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ نَتَّفِقَ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَهْلِكَ الْمُسْلِمُونَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَإِذَا مَلَكُوا الْبِلَادَ لَمْ يَدَعُوا مِنَّا أَحَدًا. فَكَتَبَ إِلَيْهِ سُنْقُرُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَبَرَزَ مِنْ حِصْنِهِ، فَخَيَّمَ بِجَيْشِهِ لِيَكُونَ عَلَى أُهْبَةٍ مَتَى طُلِبَ أَجَابَ، وَنَزَلَتْ نُوَّابُهُ مِنْ حُصُونِهِمْ، وَبَقَوْا مُسْتَعِدِّينَ لِقِتَالِ التَّتَارِ، وَخَرَجَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ مِنْ مِصْرَ فِي أَوَاخِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَمَعَهُ الْعَسَاكِرُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
جُمَادَى الْآخِرَةِ قُرِئَ عَلَى مِنْبَرِ جَامِعِ دِمَشْقَ كِتَابٌ مِنَ
السُّلْطَانِ أَنَّهُ قَدْ عَهِدَ بِالْمُلْكِ إِلَى ابْنِهِ عَلِيٍّ، وَلُقِّبَ
بِالْمَلِكِ الصَّالِحِ، فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ جَاءَتِ
الْبَرِيدِيَّةُ، فَأَخْبَرُوا بِرُجُوعِ التَّتَارِ مِنْ حَلَبَ إِلَى
بِلَادِهِمْ، وَذَلِكَ لِمَا بَلَغَهُمْ مِنِ اتِّفَاقِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ،
فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَعَادَ الْمَنْصُورُ
إِلَى مِصْرَ، وَكَانَ قَدْ وَصَلَ إِلَى غَزَّةَ أَرَادَ بِذَلِكَ تَخْفِيفَ
الْوَطْأَةِ عَنِ الشَّامِ، فَوَصَلَ إِلَى مِصْرَ فِي نِصْفِ شَعْبَانَ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ أُعِيدَ بُرْهَانُ الدِّينِ السِّنْجَارِيُّ إِلَى
وِزَارَةِ مِصْرَ، وَرَجَعَ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ لُقْمَانَ إِلَى كِتَابَةِ
الْإِنْشَاءِ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ أُعِيدَ إِلَى الْقَضَاءِ ابْنُ رَزِينٍ، وَعُزِلَ
ابْنُ بِنْتِ الْأَعَزِّ، وَأُعِيدَ الْقَاضِي نَفِيسُ الدِّينِ بْنُ شُكْرٍ
الْمَالِكِيُّ، وَمُعِينُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ، وَتَوَلَّى قَضَاءَ
الْحَنَابِلَةِ عِزُّ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ جَاءَ تَقْلِيدُ ابْنِ خَلِّكَانَ بِإِضَافَةِ
الْمُعَامَلَةِ الْحَلَبِيَّةِ إِلَيْهِ يَسْتَنِيبُ فِيهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ
نُوَّابِهِ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْحِجَّةِ خَرَجَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ مِنْ بِلَادِ
مِصْرَ بِالْعَسَاكِرِ قَاصِدًا الشَّامَ، وَاسْتَنَابَ عَلَى مِصْرَ وَلَدَهُ
الْمَلِكَ الصَّالِحَ عَلِيَّ بْنَ الْمَنْصُورِ إِلَى حِينِ رُجُوعِهِ.
قَالَ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ: وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَقَعَ بِمِصْرَ بَرَدٌ
كِبَارٌ أَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْمُغَلَّاتِ، وَوَقَعَتْ صَاعِقَةٌ
بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَأُخْرَى فِي يَوْمِهَا تَحْتَ
الْجَبَلِ الْأَحْمَرِ عَلَى صَخْرَةٍ فَأَحْرَقَتْهَا،
فَأُخِذَ ذَلِكَ الْحَدِيدُ فَسُبِكَ، فَخَرَجَ مِنْهُ أَوَاقٍ بِالرِّطْلِ
الْمِصْرِيِّ.
وَجَاءَ السُّلْطَانُ فَنَزَلَ بِعَسَاكِرِهِ تُجَاهَ عَكَّا، فَخَافَتِ
الْفِرِنْجُ مِنْهُ خَوْفًا شَدِيدًا، وَرَاسَلُوهُ فِي طَلَبِ تَجْدِيدِ
الْهُدْنَةِ فَإِنَّهُ كَانَ قَدِ انْتَهَى أَمَدُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، فَأَقَامَ
بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ إِلَى أَوَّلِ سَنَةِ ثَمَانِينَ، فَكَانَتْ فِيهَا
الْهُدْنَةُ، وَجَاءَ الْأَمِيرُ عِيسَى بْنُ مُهَنَّا مِنْ بِلَادِ الْعِرَاقِ
إِلَى خِدْمَةِ الْمَنْصُورِ وَهُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، فَتَلَقَّاهُ
السُّلْطَانُ بِجَيْشِهِ وَأَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ، وَعَامَلَهُ بِالصَّفْحِ
وَالْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ الشَّمْسِيُّ
أَحَدُ أُمَرَاءِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الَّذِي بَاشَرَ قَتْلَ كَتْبُغَانُوِينَ
أَحَدُ مُقَدَّمِي التَّتَارِ، وَهُوَ الْمُطَاعُ فِيهِمْ يَوْمَ عَيْنِ جَالُوتَ،
وَهُوَ الَّذِي مَسَكَ عِزَّ الدِّينِ أَيْدَمُرَ الظَّاهِرِيَّ فِي حَلَبَ مِنَ
السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِهَا.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ دَاوُدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ عُمَرَ الْحَبَّالُ
كَانَ حَنْبَلِيَّ الْمَذْهَبِ، لَهُ كَرَامَاتٌ وَأَحْوَالٌ صَالِحَةٌ
وَمُكَاشَفَاتٌ صَادِقَةٌ، وَأَصْلُ آبَائِهِ مِنْ حَرَّانَ، وَكَانَتْ
إِقَامَتُهُ بِبَعْلَبَكَّ وَتُوُفِّيَ فِيهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، عَنْ
سِتٍّ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ
بْنُ الشَّيْخِ الْفَقِيهِ الْيُونِينِيُّ.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ نُورُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ،
أَبُو الْحَسَنِ الطُّورِيُّ
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، وَلَهُ السَّعْيُ الْمَشْكُورُ فِي قِتَالِ
الْفِرِنْجِ، وَلَهُ عِنْدَهُمْ ذِكْرٌ عَظِيمٌ وَمَوْقِعٌ كَبِيرٌ، مَاتَ وَقَدْ
نَيَّفَ عَلَى تِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ وَقَعَ
يَوْمَ مَصَافِّ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ تَحْتَ سَنَابِكِ الْخَيْلِ، فَمَكَثَ
بَعْدَ ذَلِكَ مُتَمَرِّضًا إِلَى أَنْ مَاتَ بَعْدَ شَهْرَيْنِ، وَدُفِنَ
بِسَفْحِ قَاسِيُونَ.
الْجَزَّارُ الشَّاعِرُ، يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ بْنِ يَحْيَى بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْحُسَيْنِ الْمِصْرِيُّ
الشَّاعِرُ الْمَاجِنُ، الْمَعْرُوفُ بِالْجَزَّارِ، مَدَحَ الْمُلُوكَ
وَالْوُزَرَاءَ وَالْأُمَرَاءَ، وَكَانَ مَاجِنًا ظَرِيفًا حُلْوَ الْمُحَاضَرَةِ،
وُلِدَ فِي حُدُودِ سِتِّمِائَةٍ بَعْدَهَا بِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ، وَتُوُفِّيَ
يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ثَانِي عَشَرَ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَمِنْ شِعْرِهِ:
أَدْرِكُونِي فَبِي مِنَ الْبَرْدِ هَمٌّ لَيْسَ يُنْسَى وَفِي حَشَايَ الْتِهَابُ
أَلْبَسَتْنِي الْأَطْمَاعُ وَهْمًا فَهَا جِسْ
مِيَ عَارٍ وَلِي قِرًى وَثِيَابُ كُلَّمَا ازْرَقَّ لَوْنُ جِسْمِي مِنَ الْبَرْ
دِ تَخَيَّلْتُ أَنَّهُ سِنْجَابُ
وَقَالَ وَقَدْ تَزَوَّجَ أَبُوهُ بِعَجُوزَةٍ:
تَزَوَّجَ الشَّيْخُ أَبِي شَيْخَةً لَيْسَ لَهَا عَقْلٌ
وَلَا ذِهْنُ
كَأَنَّهَا فِي فَرْشِهَا رِمَّةٌ وَشَعْرُهَا مِنْ حَوْلِهَا قُطْنُ
وَقَائِلٌ قَالَ لِي كَمْ سِنُّهَا فَقُلْتُ مَا فِي فَمِهَا سِنُّ
لَوْ سَفَرَتْ غُرَّتُهَا فِي الدُّجَى مَا جَسَرَتْ تُبْصِرُهَا الْجِنُّ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمَلِكُ
الْمَنْصُورُ قَلَاوُونُ.
وَفِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ انْعَقَدَتِ الْهُدْنَةُ بَيْنَ أَهْلِ عَكَّا
وَالْمَرْقَبِ وَالسُّلْطَانِ وَكَانَ نَازِلًا عَلَى الرَّوْحَاءِ، وَقَدْ قَبَضَ
عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، وَهَرَبَ آخَرُونَ إِلَى
قَلْعَةِ صِهْيَوْنَ إِلَى خِدْمَةِ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ، وَدَخَلَ الْمَنْصُورُ
إِلَى دِمَشْقَ فِي التَّاسِعِ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَنَزَلَ الْقَلْعَةَ
وَقَدْ زُيِّنَتْ لَهُ الْبَلَدُ، وَفِي يَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ
الْمُحَرَّمِ أَعَادَ الْقَضَاءَ إِلَى عِزِّ الدِّينِ بْنِ الصَّائِغِ، وَعَزَلَ
ابْنَ خَلِّكَانَ
وَفِي أَوَّلِ صَفَرٍ بَاشَرَ قَضَاءَ الْحَنَابِلَةِ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ
الشَّيْخِ شَمْسِ بْنِ أَبِي عُمَرَ، وَقَدْ كَانَ الْمَنْصِبُ شَاغِرًا مُنْذُ
عَزَلَ وَالِدُهُ نَفْسَهُ عَنِ الْقَضَاءِ، وَتَوَلَّى قَضَاءَ حَلَبَ فِي هَذَا
الشَّهْرِ تَاجُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْكُرْدِيُّ.
وَجَلَسَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ بِدَارِ الْعَدْلِ فِي هَذَا الشَّهْرِ، فَحَكَمَ
وَأَنْصَفَ الْمَظْلُومَ مِنَ الظَّالِمِ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ صَاحِبُ حَمَاةَ،
فَتَلَقَّاهُ الْمَنْصُورُ بِنَفْسِهِ فِي مَوْكِبِهِ، وَنَزَلَ بِدَارِهِ بِبَابِ
الْفَرَادِيسِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَ
الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ وَبَيْنَ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ الْمَلِكِ
الْكَامِلِ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لِلسُّلْطَانِ شَيْزَرَ وَيُعَوِّضَهُ عَنْهَا
بِأَنْطَاكِيَةَ وَكَفْرَ طَابَ وَشُغْرٍ وَبَكَاسَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَعَلَى أَنْ
يُقِيمَ عَلَى مَا بِيَدِهِ سِتَّمِائَةِ فَارِسٍ، وَتَحَالَفَا عَلَى ذَلِكَ،
وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ صَالَحَ صَاحِبَ الْكَرَكِ الْمَلِكَ
خَضِرَ بْنَ الظَّاهِرِ عَلَى تَقْرِيرِ مَا بِيَدِهِ، وَنُودِيَ بِذَلِكَ فِي
الْبِلَادِ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ ضُمِنَ الْخَمْرُ وَالزِّنَى
بِدِمَشْقَ، وَجُعِلَ عَلَيْهِ دِيوَانٌ وَمُشِدٌّ، فَقَامَ فِي إِبْطَالِ ذَلِكَ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَالْعُبَّادِ، فَأُبْطِلَ بَعْدَ
عِشْرِينَ يَوْمًا، وَأُرِيقَتِ الْخُمُورُ وَأُقِيمَتِ الْحُدُودُ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي تَاسِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَصَلَتِ الْخَاتُونُ ابْنَةُ بَرَكَةَ
خَانَ زَوْجَةُ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، وَمَعَهَا وَلَدُهَا الْمَلِكُ السَّعِيدُ
قَدْ نَقَلَتْهُ مِنْ قَرْيَةِ الْمَسَاجِدِ بِالْقُرْبِ مِنَ الْكَرَكِ
لِتَدْفِنَهُ عِنْدَ أَبِيهِ بِالتُّرْبَةِ الظَّاهِرِيَّةِ، فَرُفِعَ بِحِبَالٍ
مِنَ السُّورِ، وَدُفِنَ عِنْدَ وَالِدِهِ الظَّاهِرِ، وَنَزَلَتْ أُمُّهُ بِدَارِ
صَاحِبِ حِمْصَ، وَهُيِّئَتْ لَهَا الْإِقَامَاتُ وَعُمِلَ عَزَاءُ وَلَدِهَا
يَوْمَ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ بِالتُّرْبَةِ
الْمَذْكُورَةِ، وَحَضَرَ السُّلْطَانُ الْمَنْصُورُ وَأَرْبَابُ الدَّوْلَةِ
وَالْقُرَّاءُ وَالْوُعَّاظُ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ عُزِلَ التَّقِيُّ تَوْبَةُ التَّكْرِيتِيُّ
مِنَ الْوِزَارَةِ بِدِمَشْقَ،
وَبَاشَرَهَا بَعْدَهُ تَاجُ الدِّينِ السَّنْهُورِيُّ.
وَكَتَبَ السُّلْطَانُ الْمَنْصُورُ إِلَى مِصْرَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ
يَسْتَدْعِي الْجُيُوشَ لِأَجْلِ اقْتِرَابِ مَجِيءِ التَّتَارِ; فَدَخَلَ
أَحْمَدُ بْنُ حَجِّي وَمَعَهُ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَجَاءَ صَاحِبُ
الْكَرَكِ الْمَلِكُ الْمَسْعُودُ نَجْدَةً لِلسُّلْطَانِ يَوْمَ السَّبْتِ
الثَّانِي عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَقِدِمَ النَّاسُ عَلَيْهِ،
وَوَفَدُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَجَاءَتْهُ التُّرْكُمَانُ
وَالْأَعْرَابُ وَغَيْرُهُمْ، وَكَثُرَتِ الْأَرَاجِيفُ بِدِمَشْقَ، وَكَثُرَتِ
الْعَسَاكِرُ بِهَا، وَانْجَفَلَ النَّاسُ مِنْ بِلَادِ حَلَبَ وَتِلْكَ
النَّوَاحِي، وَتَرَكُوا الْغَلَّاتِ وَالْأَمْوَالَ خَوْفًا مِنْ أَنْ
يَدْهَمَهُمُ الْعَدُوُّ مِنَ التَّتَارِ، وَوَصَلَتِ التَّتَرُ صُحْبَةَ
مَنْكُوتَمُرَ بْنِ هُولَاكُو إِلَى عَيْنِ تَابَ، وَسَارَتِ الْعَسَاكِرُ
الْمَنْصُورَةُ إِلَى نَوَاحِي حَلَبَ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَنَازَلَتِ التَّتَرَ
بِالرَّحْبَةِ فِي أَوَاخِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ طَائِفَةً مِنَ الْأَعْرَابِ،
وَكَانَ فِيهِمْ مَلِكُ التَّتَارِ أَبْغَا مُخْتَفِيًا يَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُ
أَصْحَابُهُ، وَكَيْفَ يُقَاتِلُونَ أَعْدَاءَهُ، ثُمَّ خَرَجَ الْمَلِكُ
الْمَنْصُورُ مِنْ دِمَشْقَ وَكَانَ خُرُوجُهُ مِنْهَا فِي أَوَاخِرِ جُمَادَى،
وَقَنَتَ الْخُطَبَاءُ وَالْأَئِمَّةُ بِالْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا
فِي الصَّلَوَاتِ، وَجَاءَ مَرْسُومُ السُّلْطَانِ بِاسْتِسْلَامِ أَهْلِ
الذِّمَّةِ مِنَ الدَّوَاوِينِ وَالْكَتَبَةِ، وَمَنْ لَا يُسْلِمُ يُصْلَبُ،
فَأَسْلَمُوا كُرْهًا، فَكَانُوا يَقُولُونَ: آمَنَّا وَحَكَمَ الْحَاكِمُ
بِإِسْلَامِنَا. بَعْدَ أَنْ عَرَضَ مَنِ امْتَنَعَ مِنْهُمْ عَلَى الصَّلْبِ
بِسُوقِ الْخَيْلِ، وَجُعِلَتِ الْحِبَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ، فَأَجَابُوا
وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَلَمَّا انْتَهَى السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ
إِلَى حِمْصَ كَتَبَ إِلَى الْمَلِكِ الْكَامِلِ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ يَطْلُبُهُ
إِلَيْهِ نَجْدَةً، فَجَاءَ إِلَى خِدْمَتِهِ، فَأَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ
وَاحْتَرَمَهُ وَرَتَّبَ لَهُ
الْإِقَامَاتِ، وَتَكَامَلَتِ الْجُيُوشُ كُلُّهَا فِي
صُحْبَةِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ عَازِمِينَ عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ لَا
مَحَالَةَ مُخْلِصِينَ فِي ذَلِكَ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ بَعْدَ خُرُوجِ الْمَلِكِ
فِي جَامِعِ دِمَشْقَ، وَوَضَعُوا الْمُصْحَفَ الْعُثْمَانِيَّ بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ، وَجَعَلُوا يَبْتَهِلُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي نُصْرَةِ
الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَخَرَجُوا كَذَلِكَ وَالْمُصْحَفُ
عَلَى رُءُوسِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى يَدْعُونَ وَيَبْتَهِلُونَ وَيَبْكُونَ،
وَأَقْبَلَتِ التَّتَارُ قَلِيلًا قَلِيلًا، فَلَمَّا وَصَلُوا حَمَاةَ أَحْرَقُوا
بُسْتَانَ الْمَلِكِ وَقَصْرَهُ وَمَا هُنَالِكَ مِنَ الْمَسَاكِنِ،
وَالسُّلْطَانُ الْمَنْصُورُ مُخَيِّمٌ بِحِمْصَ فِي عَسَاكِرَ مِنَ الْأَتْرَاكِ
وَالتُّرْكُمَانِ وَغَيْرِهِمْ فِي جَحْفَلٍ كَثِيرٍ جِدًّا، فَأَقْبَلَتِ
التَّتَارُ فِي مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَقْعَةُ حِمْصَ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ رَابِعَ عَشَرَ رَجَبٍ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، وَتَوَاجَهَ
الْخَصْمَانِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعَسْكَرُ التَّتَرِ فِي مِائَةِ أَلْفِ
فَارِسٍ، وَعَسْكَرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يَزِيدُ
قَلِيلًا، وَالْجَمِيعُ فِيمَا بَيْنَ مَشْهَدِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى
الرَّسْتَنِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ مِنْ أَعْصَارٍ
مُتَطَاوِلَةٍ، فَاسْتَظْهَرَ التَّتَرُ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَكَسَرُوا
الْمَيْسَرَةَ، وَاضْطَرَبَتِ الْمَيْمَنَةُ أَيْضًا، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَانْكَسَرَ جَنَاحُ الْقَلْبِ الْأَيْسَرُ، وَثَبَتَ السُّلْطَانُ ثَبَاتًا
عَظِيمًا جِدًّا فِي جَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ، وَقَدِ انْهَزَمَ كَثِيرٌ مِنْ عَسْكَرِ
الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّتَارُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى وَصَلُوا وَرَاءَهُمْ إِلَى
بُحَيْرَةِ
حِمْصَ وَوَصَلُوا إِلَى حِمْصَ وَهِيَ مُغَلَّقَةُ الْأَبْوَابِ، فَقَتَلُوا خَلْقًا مِنَ الْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَشْرَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى خُطَّةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْهَلَاكِ، ثُمَّ إِنَّ أَعْيَانَ الْأُمَرَاءِ مِنَ الشُّجْعَانِ وَالْفُرْسَانِ تَذَامَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ; مِثْلَ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ وَبَيْسَرِي وَطَيْبَرْسَ الْوَزِيرِيِّ وَبَدْرِ الدِّينِ أَمِيرِ سِلَاحٍ وَأَيْتَمُشَ السَّعْدِيِّ وَحُسَامِ الدِّينِ لَاجِينَ وَحُسَامِ الدِّينِ طُرُنْطَايَ وَالدَّوَادَارِيِّ وَأَمْثَالِهِمْ، لَمَّا رَأَوْا ثَبَاتَ السُّلْطَانِ رَدُّوا إِلَى السُّلْطَانِ، وَحَمَلُوا حَمَلَاتٍ مُتَعَدِّدَةً صَادِقَةً، وَلَمْ يَزَالُوا يُتَابِعُونَ الْحَمْلَةَ بَعْدَ الْحَمْلَةِ حَتَّى كَسَرَ اللَّهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ التَّتَرَ، وَجُرِحَ مَنْكُوتَمُرُ، وَجَاءَهُمُ الْأَمِيرُ عِيسَى بْنُ مُهَنَّا مِنْ نَاحِيَةِ الْعَرْضِ فَصَدَمَ التَّتَرَ، فَاضْطَرَبَتِ الْجُيُوشُ لِصَدْمَتِهِ، وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَقَتَلُوا مِنَ التَّتَارِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَرَجَعَتِ الطَّائِفَةُ مِنَ التَّتَرِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْمُنْهَزِمِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَوَجَدُوا أَصْحَابَهُمْ قَدْ كُسِرُوا، وَالْعَسَاكِرُ فِي آثَارِهِمْ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَالسُّلْطَانُ ثَابِتٌ فِي مَكَانِهِ تَحْتَ السَّنَاجِقِ، وَالْكُوسَاتُ تُضْرَبُ خَلْفَهُ، وَمَا مَعَهُ إِلَّا نَحْوُ أَلْفِ فَارِسٍ، فَطَمِعُوا فِيهِ فَقَاتَلُوهُ، فَثَبَتَ لَهُمْ ثَبَاتًا عَظِيمًا، فَانْهَزَمُوا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَلِحَقَهُمْ فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ تَمَامَ النَّصْرِ، وَكَانَ انْهِزَامُ التَّتَرِ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَافْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ; أَخَذَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ إِلَى نَاحِيَةِ سَلَمْيَةَ وَالْبَرِّيَّةِ، وَالْأُخْرَى إِلَى نَاحِيَةِ حَلَبَ وَالْفُرَاتِ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ فِي آثَارِهِمْ مَنْ يَتْبَعُهُمْ، وَجَاءَتِ الْبِطَاقَةُ بِالْبِشَارَةِ بِمَا وَقَعَ مِنَ النَّصْرِ إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَامِسَ عَشَرَ رَجَبٍ، فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ، وَأُوقِدَتِ الشُّمُوعُ، وَفَرِحَ النَّاسُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ يَوْمَ السَّبْتِ
أَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ; مِنْهُمْ
بِيلِيكُ النَّاصِرِيُّ وَالْجَالِقُ وَغَيْرُهُمْ، فَأَخْبَرُوا النَّاسَ بِمَا
شَاهَدُوهُ مِنَ الْهَزِيمَةِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَلَمْ يَكُونُوا شَاهَدُوا
بَعْدَ ذَلِكَ، فَبَقِيَ النَّاسُ فِي قَلَقٍ عَظِيمٍ، وَخَوْفٍ شَدِيدٍ،
وَتَهَيَّأَ نَاسٌ كَثِيرٌ لِلْهَرَبِ، فَبَيْنَمَا النَّاسُ فِي ذَلِكَ إِذْ
أَقْبَلَتِ الْبَرِيدِيَّةُ وَأَخْبَرُوا النَّاسَ بِصُورَةِ مَا وَقَعَ فِي
أَوَّلِ الْأَمْرِ وَآخِرِهِ، فَتَرَاجَعَ النَّاسُ وَفَرِحُوا فَرَحًا شَدِيدًا،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
ثُمَّ دَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ
مِنْ رَجَبٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْأُسَارَى بِأَيْدِيهِمُ الرِّمَاحُ عَلَيْهَا
شَعَفُ رُءُوسِ الْقَتْلَى، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَمَعَ السُّلْطَانِ
طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ; مِنْهُمْ عَلَمُ الدِّينِ
الدَّوَادَارِيُّ فَنَزَلَ السُّلْطَانُ بِالْقَلْعَةِ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا،
وَقَدْ كَثُرَتْ لَهُ الْمَحَبَّةُ وَالْأَدْعِيَةُ، وَكَانَ سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ
قَدْ وَدَّعَ السُّلْطَانَ مِنْ حِمْصَ، وَرَجَعَ إِلَى صِهْيَوْنَ، وَأَمَّا
التَّتَرُ فَإِنَّهُمُ انْهَزَمُوا فِي أَسْوَأِ حَالٍ وَأَتْعَسِهِ،
يُتَخَطَّفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَيُقْتَلُونَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ، حَتَّى
وَصَلُوا إِلَى الْفُرَاتِ، فَغَرِقَ أَكْثَرُهُمْ، وَنَزَلَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ
الْبِيرَةِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرُوا آخَرِينَ،
وَالْجُيُوشُ فِي آثَارِهِمْ يَطْرُدُونَهُمْ عَنِ الْبِلَادِ، حَتَّى أَرَاحَ
اللَّهُ مِنْهُمُ النَّاسَ.
وَقَدِ اسْتُشْهَدَ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ جَمَاعَةٌ مِنْ سَادَاتِ الْأُمَرَاءِ;
مِنْهُمُ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ الْحَاجُّ عِزُّ الدِّينِ أَزْدَمُرُ
الْجَمَدَارُ، وَهُوَ الَّذِي جَرَحَ مَلِكَ التَّتَارِ يَوْمَئِذٍ مَنْكُوتَمُرَ،
فَإِنَّهُ خَاطَرَ بِنَفْسِهِ، وَأَوْهَمَ أَنَّهُ مُقْفِرٌ
إِلَيْهِ، وَقَلَبَ رُمْحَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَيْهِ، فَطَعَنَهُ فَجَرَحَهُ،
فَقَتَلُوهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَشْهَدِ
خَالِدٍ.
وَخَرَجَ السُّلْطَانُ مِنْ دِمَشْقَ قَاصِدًا الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ يَوْمَ
الْأَحَدِ ثَانِي شَعْبَانَ، وَالنَّاسُ يَدْعُونَ لَهُ، وَخَرَجَ مَعَهُ عَلَمُ
الدِّينِ الدَّوَادَارِيُّ، ثُمَّ عَادَ مِنْ غَزَّةَ، وَقَدْ وَلَّاهُ الشَّدَّ
فِي الشَّامِ وَالنَّظَرَ فِي الْمَصَالِحِ، وَدَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى مِصْرَ
فِي ثَانِي عَشَرَ شَعْبَانَ.
وَفِي سَلْخِ شَعْبَانَ وَلَّى قَضَاءَ مِصْرَ وَالْقَاهِرَةِ لِلْقَاضِي وَجِيهِ
الدِّينِ الْبَهْنَسِيِّ الشَّافِعِيِّ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ سَابِعِ رَمَضَانَ فُتِحَتِ الْمَدْرَسَةُ
الْجَوْهَرِيَّةُ بِدِمَشْقَ فِي حَيَاةِ مُنْشِئِهَا وَوَاقِفِهَا الشَّيْخِ
نَجْمِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ أَبِي الْمَكَارِمِ التَّمِيمِيِّ
الْجَوْهَرِيِّ، وَدَرَّسَ بِهَا قَاضِي الْحَنَفِيَّةِ حُسَامُ الدِّينِ الرَّازِيُّ.
وَفِي بُكْرَةِ يَوْمِ السَّبْتِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ
وَقَعَتْ مِئْذَنَةُ مَدْرَسَةِ أَبِي عُمَرَ بِقَاسِيُونَ عَلَى الْمَسْجِدِ
الْعَتِيقِ، فَمَاتَ شَخْصٌ وَاحِدٌ، وَسَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بَقِيَّةَ
الْجَمَاعَةِ.
وَفِي عَاشِرِ رَمَضَانَ وَقَعَ بِدِمَشْقَ ثَلْجٌ عَظِيمٌ وَبَرَدٌ كَثِيرٌ مَعَ
هَوَاءٍ شَدِيدٍ، بِحَيْثُ إِنَّهُ ارْتَفَعَ عَنِ الْأَرْضِ نَحْوًا مِنْ
ذِرَاعٍ، وَفَسَدَتِ الْخَضْرَاوَاتُ، وَتَعَطَّلَ عَلَى النَّاسِ مَعَايِشُ
كَثِيرَةٌ.
وَفِي شَوَّالٍ وَصَلَ صَاحِبُ سِنْجَارَ إِلَى دِمَشْقَ
مُقْفِرًا مِنَ التَّتَارِ دَاخِلًا فِي طَاعَةِ السُّلْطَانِ بِأَهْلِهِ
وَمَالِهِ، فَتَلَقَّاهُ نَائِبُ الْبَلَدِ، وَأَكْرَمَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى
مِصْرَ مُعَزَّزًا مُكَرَّمًا.
وَفِي شَوَّالٍ عُقِدَ مَجْلِسٌ بِسَبَبِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنَ الْكُتَّابِ
الَّذِينَ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا كُرْهًا، وَقَدْ كَتَبَ لَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْمُفْتِينَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُكْرَهِينَ، فَلَهُمُ الرُّجُوعُ إِلَى
دِينِهِمْ، وَأُثْبِتَ الْإِكْرَاهُ بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي جَمَالِ الدِّينِ
بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ الْمَالِكِيِّ، فَعَادَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى دِينِهِمْ،
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ كَمَا كَانُوا، سَوَّدَ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ غَرِمُوا
مَالًا جَزِيلًا، جُمْلَةً مُسْتَكْثَرَةً عَلَى ذَلِكَ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبَضَ السُّلْطَانُ عَلَى أَيْتَمُشَ السَّعْدِيِّ
وَسَجَنَهُ بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ، وَقَبَضَ نَائِبُهُ بِدِمَشْقَ عَلَى سَيْفِ
الدِّينِ بَلَبَانَ الْهَارُونِيِّ وَسَجَنَهُ بِقَلْعَتِهَا.
وَفِي بُكْرَةِ الْخَمِيسِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ،
وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ آذَارَ اسْتَسْقَى النَّاسُ بِالْمُصَلَّى بِدِمَشْقَ،
فَسُقُوا بَعْدَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَخْرَجَ الْمَلِكُ
الْمَنْصُورُ جَمِيعَ آلِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ
وَالْخُدَّامِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى الْكَرَكِ لِيَكُونُوا فِي
كَنَفِ الْمَلِكِ الْمَسْعُودِ خَضِرِ بْنِ الظَّاهِرِ.
مِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبْغَا مَلِكُ التَّتَارِ بْنُ هُولَاكُوقَانَ بْنِ تُولِي بْنِ جِنْكِزْخَانَ
كَانَ عَالِيَ الْهِمَّةِ،
بَعِيدَ الْغَوْرِ لَهُ رَأْيٌ وَتَدْبِيرٌ، وَبَلَغَ مِنَ
الْعُمُرِ خَمْسِينَ سَنَةً، وَمُدَّةُ مِلْكِهِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً،
وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ وَالِدِهِ فِي التَّدْبِيرِ وَالْحَزْمِ مِثْلُهُ، وَلَمْ
تَكُنْ وَقْعَةُ حِمْصَ هَذِهِ بِرَأْيِهِ وَلَا عَنْ مَشُورَتِهِ، وَلَكِنْ
أَخُوهُ مَنْكُوتَمُرُ أَحَبَّ ذَلِكَ، فَلَمْ يُخَالِفْهُ.
وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ تَوَارِيخِ الْبَغَادِدَةِ أَنَّ قُدُومَ مَنْكُوتَمُرَ
إِلَى الشَّامِ إِنَّمَا كَانَ عَنْ مُكَاتَبَةِ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ إِلَيْهِ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ جَاءَ أَبْغَا هَذَا بِنَفْسِهِ فَنَزَلَ قَرِيبًا
مِنَ الْفُرَاتِ لِيَنْظُرَ مَاذَا يَكُونُ مِنَ الْأَمْرِ، فَلَمَّا جَرَى
عَلَيْهِمْ مَا جَرَى سَاءَهُ ذَلِكَ، وَمَاتَ غَمًّا وَحُزْنًا. تُوُفِّيَ بَيْنَ
الْعِيدَيْنِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَامَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ
السُّلْطَانُ أَحْمَدُ.
قَاضِي الْقُضَاةِ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ بْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ صَدْرِ
الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسِ الدِّينِ يَحْيَى بْنِ هِبَةِ
اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الشَّافِعِيُّ،
ابْنُ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ
وُلِدَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَبَرَعَ فِي
الْمَذْهَبِ، وَنَابَ عَنْ أَبِيهِ وَشُكِرَتْ سِيرَتُهُ، وَاسْتَقَلَّ
بِالْقَضَاءِ فِي الدَّوْلَةِ الْمُظَفَّرِيَّةِ، فَحُمِدَ أَيْضًا، وَكَانَ
الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ يَنَالُ مِنْهُ وَمِنْ أَبِيهِ. وَقَالَ
الْبِرْزَالِيُّ: كَانَ شَدِيدًا فِي الْأَحْكَامِ مُتَحَرِّيًا، وَقَدْ أُلْزِمَ
بِالْمُقَامِ بِمِصْرَ، فَدَرَّسَ بِجَامِعِ مِصْرَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ،
فَدَرَّسَ بِالْأَمِينِيَّةِ وَالرُّكْنِيَّةِ، وَبَاشَرَ قَضَاءَ حَلَبَ، وَعَادَ
إِلَى دِمَشْقَ، وَوَلَّاهُ سَنْجَرُ قَضَاءَ دِمَشْقَ، ثُمَّ عُزِلَ بِابْنِ
خَلِّكَانَ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ
ثَامِنَ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ مِنَ
الْغَدِ يَوْمَ تَاسُوعَاءَ بِتُرْبَةِ جَدِّهِ
بِقَاسِيُونَ.
وَفِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ تُوُفِّيَ:
قَاضِي الْقُضَاةِ صَدْرُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ الْقَاضِي تَاجِ الدِّينِ عَبْدِ
الْوَهَّابِ بْنِ خَلَفِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الْعَلَامِيُّ ابْنُ بِنْتِ
الْأَعَزِّ الْمِصْرِيُّ
كَانَ فَاضِلًا بَارِعًا عَارِفًا بِالْمَذْهَبِ، مُتَحَرِّيًا فِي الْأَحْكَامِ
كَأَبِيهِ،، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ.
الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الشَّاغُورِيُّ الْمُوَلَّهُ الْمَعْرُوفُ
بِالْجَيْعَانَةِ
كَانَ مَشْهُورًا بِدِمَشْقَ، وَيُذْكَرُ لَهُ أَحْوَالٌ وَمُكَاشَفَاتٌ عَلَى
أَلْسِنَةِ الْعَوَامِّ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ، وَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُحَافِظْ
عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَلَا يَصُومُ مَعَ النَّاسِ، وَمَعَ هَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ
الْعَوَامِّ وَغَيْرِهِمْ يَعْتَقِدُونَهُ! تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَحَدِ سَابِعَ
جُمَادَى الْأُولَى، وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ الْمُوَلَّهِينَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ
عِنْدَ الشَّيْخِ يُوسُفَ الْقَمِينِيِّ، وَقَدْ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ يُوسُفُ
قَبْلَهُ بِمُدَّةٍ، وَكَانَ الشَّيْخُ يُوسُفُ يَسْكُنُ قَمِينَ حَمَّامِ نُورِ
الدِّينِ الشَّهِيدِ بِالْبُزُورِيِّينَ، وَكَانَ يَجْلِسُ عَلَى النَّجَاسَاتِ
وَالْقَذَرِ، وَكَانَ يَلْبَسُ ثِيَابًا بَدَاوِيَةً تَجْحَفُ عَلَى النَّجَاسَاتِ
فِي الْأَزِقَّةِ، وَكَانَ لَهُ قَبُولٌ مِنَ النَّاسِ وَمَحَبَّةٌ وَطَاعَةٌ،
وَكَانَ الْعَوَّامُّ يُغَالُونَ فِي مَحَبَّتِهِ وَاعْتِقَادِهِ، وَكَانَ لَا
يُصَلِّي وَلَا يَتَّقِي نَجَاسَةً وَمَنْ جَاءَهُ زَائِرًا جَلَسَ عِنْدَهُ
بِالْقَمِينِ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَكَانَ الْعَوَامُّ يَذْكُرُونَ لَهُ مُكَاشَفَاتٍ
وَكَرَامَاتٍ وَكُلُّ ذَلِكَ خُرَافَاتٌ مِنْ خُرَافَاتِ الْعَوَّامِّ وَأَهْلِ الْهَذَيَانِ كَمَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَجَانِينِ وَالْمُوَلَّهِينَ. وَلَمَّا مَاتَ الشَّيْخُ يُوسُفُ الْقَمِينِيُّ خَرَجَ فِي جِنَازَتِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَوَامِّ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً بِهِمْ، وَحُمِلَ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ إِلَى سَفْحِ قَاسِيُونَ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ غَوْغَاءٌ وَغَوَشٌ كَثِيرٌ وَتَهْلِيلٌ وَأُمُورٌ لَا تَجُوزُ مِنْ فِعْلِ الْعَوَامِّ، حَتَّى جَاءُوا بِهِ إِلَى تُرْبَةِ الْمُوَلَّهِينَ بِقَاسِيُونَ فَدَفَنُوهُ بِهَا، وَقَدِ اعْتَنَى بَعْضُ الْعَوَامِّ بِقَبْرِهِ، فَعَمِلَ عَلَيْهِ حِجَارَةً مَنْقُوشَةً، وَعَمِلَ عَلَى قَبْرِهِ سَقْفًا مُقَرْنَصًا بِالدِّهَانِ وَأَنْوَاعِهِ، وَعَمِلَ عَلَيْهِ مَقْصُورَةً وَأَبْوَابًا، وَغَالَى فِيهِ مُغَالَاةً زَائِدَةً، وَمَكَثَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مُجَاوِرُونَ عِنْدَ قَبْرِهِ مُدَّةً فِي قِرَاءَةٍ وَتَهْلِيلٍ، وَيُطْبَخُ لَهُمُ الطَّبِيخُ فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ هُنَاكَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الشَّيْخَ إِبْرَاهِيمَ الْجَيْعَانَةَ لَمَّا مَاتَ الشَّيْخُ يُوسُفُ الْقَمِينِيُّ جَاءَ مِنَ الشَّاغُورِ إِلَى بَابِ الصَّغِيرِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَهُمْ فِي صُرَاخٍ وَضَجَّةٍ وَغَوَشٍ كَثِيرٍ، وَهُمْ يَقُولُونَ: أُذِنَ لَنَا فِي دُخُولِ الْبَلَدِ، أُذِنَ لَنَا فِي دُخُولِ الْبَلَدِ. يُكَرِّرُونَ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: لِي عِشْرُونَ سَنَةً مَا دَخَلْتُ دَاخِلَ سُورِ دِمَشْقَ; لِأَنِّي كُنْتُ كُلَّمَا أَتَيْتُ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا أَجِدُ هَذَا السَّبُعَ رَابِضًا بِالْبَابِ، فَلَا أَسْتَطِيعُ الدُّخُولَ خَوْفًا مِنْهُ، فَلَمَّا مَاتَ أُذِنَ لَنَا فِي الدُّخُولِ. وَهَذَا كُلُّهُ تَرْوِيجٌ عَلَى الطَّغَامِ وَالْعَوَامِّ مِنَ الْهَمَجِ الرَّعَاعِ، الَّذِينَ هُمْ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الشَّيْخَ يُوسُفَ كَانَ يُرْسِلُ إِلَى الْجَيْعَانَةِ مِمَّا يَأْتِيهِ مِنَ الْفُتُوحِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ، وَإِلَيْهِ الْمُنْقَلَبُ وَالْمَآبُ، وَعَلَيْهِ الْحِسَابُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ اسْتُشْهِدَ فِي وَقْعَةِ حِمْصَ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْهُمُ:
الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ أَزْدَمُرُ السِّلَحْدَارُ
عَنْ نَحْوٍ مَنْ سِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ، وَلَهُ
هِمَّةٌ عَالِيَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يَنَالَ بِهَا مَكَانًا عَالِيًا فِي
الْجَنَّةِ.
قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
الْحُسَيْنِ بْنِ رَزِينِ بْنِ مُوسَى الْعَامِرِيُّ الْحَمَوِيُّ الشَّافِعِيُّ
وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَانْتَفَعَ
بِالشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ الصَّلَاحِ، وَأَمَّ بِدَارِ الْحَدِيثِ
مُدَّةً، وَدَرَّسَ بِالشَّامِيَّةِ، وَوَلِي وِكَالَةَ بَيْتِ الْمَالِ
بِدِمَشْقَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مِصْرَ فَدَرَّسَ بِهَا بِعِدَّةِ مَدَارِسَ،
وَوَلِي الْحُكْمَ بِهَا، وَكَانَ مَشْكُورًا، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ
ثَالِثَ رَجَبٍ مِنْهَا، وَدُفِنَ بِالْمُقَطَّمِ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ
تُوُفِّيَ:
الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ مُظَفَّرُ الدِّينِ مُوسَى بْنُ الْمَلِكِ الزَّاهِرِ
مُحْيِي الدِّينِ دَاوُدَ بْنِ الْمَلِكِ الْمُجَاهِدِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرْكُوهِ
بْنِ النَّاصِرِ نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرْكُوهِ بْنِ
شَاذِيِّ بْنِ صَاحِبِ حِمْصَ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ بِقَاسِيُونَ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ تُوُفِّيَ:
الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ الْإِسْكَنْدَرِيُّ
الْحَاسِبُ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ لَهُ مَكْتَبٌ تَحْتَ مَنَارَةِ فَيْرُوزَ، وَقَدِ
انْتَفَعَ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ شَيْخَ
الْحِسَابِ فِي وَقْتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْإِمَامِ أَبِي
عَلِيٍّ الْحُسَيْنِ بْنِ عَتِيقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَشِيقٍ الرَّبَعِيُّ
الْمَالِكِيُّ الْمِصْرِيُّ
وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، وَكَانَتْ لَهُ جِنَازَةٌ حَافِلَةٌ، وَقَدْ كَانَ
فَقِيهًا مُفْتِيًا، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَبَلَغَ خَمْسًا وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
تُوُفِّيَ:
الصَّدْرُ الْكَبِيرُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو الْغَنَائِمِ الْمُسْلِمُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْلِمِ بْنِ مَكِّيِّ بْنِ خَلَفِ بْنِ عَلَّانَ الْقَيْسِيُّ
الدِّمَشْقِيُّ
مَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ، وَكَانَ مِنَ الرُّؤَسَاءِ الْكِبَارِ
وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ، وَقَدْ وَلِيَ نَظَرَ الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ وَغَيْرَ
ذَلِكَ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَكِتَابَةِ
الْحَدِيثِ، وَكَانَ يَكْتُبُ سَرِيعًا; يَكْتُبُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ
ثَلَاثَ كَرَارِيسَ، وَقَدْ أَسْمَعَ " مُسْنَدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ "
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَحَدَّثَ " بِصَحِيحِ مُسْلِمٍ " " وَجَامِعِ
التِّرْمِذِيِّ " وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَسَمِعَ مِنْهُ الْبِرْزَالِيُّ
وَالْمِزِّيُّ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ وَدُفِنَ مِنْ يَوْمِهِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ عَنْ
سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا.
الشَّيْخُ صَفِيُّ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ
مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ الْحَنَفِيُّ
شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ بِبُصْرَى، وَمُدَرِّسُ الْأَمِينِيَّةِ بِهَا مُدَّةَ
سِنِينَ كَثِيرَةٍ، كَانَ
بَارِعًا فَاضِلًا عَالِمًا عَابِدًا مُنْقَطِعًا عَنِ النَّاسِ، وَهُوَ وَالِدُ قَاضِي الْقُضَاةِ صَدْرِ الدِّينِ عَلَيٍّ، وَقَدْ عُمِّرَ دَهْرًا طَوِيلًا، فَإِنَّهُ وُلِدَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ لَيْلَةَ نِصْفِ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَالسُّلْطَانُ
الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ قَلَاوُونُ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ مَلِكُ التَّتَرِ أَحْمَدُ إِلَى الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ
يَطْلُبُ مِنْهُ الْمُصَالَحَةَ وَحَقْنَ الدِّمَاءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَجَاءَ
فِي الرَّسْلِيَّةِ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ أَحَدُ تَلَامِيذِ
النَّصِيرِ الطُّوسِيِّ، فَأَجَابَ الْمَنْصُورُ إِلَى ذَلِكَ، وَكُتِبَتِ
الْمُكَاتَبَاتُ إِلَى مَلِكِ التَّتَرِ بِذَلِكَ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ قَبَضَ السُّلْطَانُ عَلَى الْأَمِيرِ الْكَبِيرِ بَدْرِ
الدِّينِ بَيْسَرِي السَّعْدِيِّ، وَعَلَى الْأَمِيرِ عَلَاءِ الدِّينِ السَّعْدِيِّ
الشَّمْسِيِّ أَيْضًا.
وَفِيهَا دَرَّسَ الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ بِالْقَيْمُرِيَّةِ،
وَالشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الصَّفِيِّ الْحَرِيرِيُّ
بِالْفَرُّخْشَاهِيَّةِ، وَعَلَاءُ الدِّينِ بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ
بِالْأَمِينِيَّةِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ وَقَعَ حَرِيقٌ
بِاللَّبَّادِينَ عَظِيمٌ، وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ إِذْ ذَاكَ الْأَمِيرُ
حُسَامُ الدِّينِ لَاجِينُ السِّلَحْدَارُ وَجَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ
مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَتْ لَيْلَةً هَائِلَةً جِدًّا
وَقَى اللَّهُ تَعَالَى شَرَّهَا، وَاسْتَدْرَكَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرَهَا
الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ النَّحَّاسِ، نَاظِرُ الْجَامِعِ، فَأَصْلَحَ
الْأَمْرَ، وَسَدَّ وَأَعَادَ الْبِنَاءَ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الصَّالِحُ بَقِيَّةُ السَّلَفِ بُرْهَانُ الدِّينِ أَبُو إِسْحَاقَ
بْنُ الشَّيْخِ صِفِيِّ الدِّينِ أَبِي الْفِدَا إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ يَحْيَى بْنِ عَلَوِيِّ بْنِ الرَّضِيِّ الْحَنَفِيُّ
إِمَامُ الْعِزِّيَّةِ بِالْكُشْكِ. وَسَمِعَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمُ
الْكِنْدِيُّ وَابْنُ الْحَرَسْتَانِيِّ، وَلَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ سَمَاعُهُ
مِنْهُمَا إِلَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَقَدْ أَجَازَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ
الصَّيْدَلَانِيُّ وَعَفِيفَةُ الْفَارِقَانِيَّةِ وَابْنُ الْمُنَادِي، وَكَانَ
رَجُلًا صَالِحًا مُحِبًّا لِإِسْمَاعِ الْحَدِيثِ كَثِيرَ الْبِرِّ بِالطَّلَبَةِ
لَهُ، وَقَدْ قَرَأَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ جَمَالُ الدِّينِ الْمِزِّيُّ "
مُعْجَمَ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ "، وَسَمِعَهُ مِنْهُ بِقِرَاءَةِ
الْحَافِظِ الْبِرْزَالِيِّ وَجَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ. وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي
سَنَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَحَدِ سَابِعَ
صَفَرٍ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ الْحُجَّاجُ إِلَى دِمَشْقَ مِنَ
الْحِجَازِ، وَكَانَ هُوَ مَعَهُمْ، فَمَاتَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ بِدِمَشْقَ.
الْقَاضِي أَمِينُ الدِّينِ الْأَشْتَرِيُّ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ
شَمْسِ الدِّينِ أَبِي
بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الْجَبَّارِ بْنِ طَلْحَةَ الْحَلَبِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالْأَشْتَرِيِّ، الشَّافِعِيُّ الْمُحَدِّثُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ
وَحَصَّلَ، وَوَقَفَ أَجْزَاءً بِدَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ. تُوُفِّيَ
بِالْخَانْقَاهِ الْأَنْدَلُسِيَّةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ
مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عَنْ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ الشَّيْخُ مُحْيِي
الدِّينِ النَّوَوِيُّ يُثَنَّى عَلَيْهِ وَيُرْسِلُ إِلَيْهِ الصِّبْيَانَ
لِيَقْرَءُوا عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ; لِأَمَانَتِهِ عِنْدَهُ وَصِيَانَتِهِ
وَدِيَانَتِهِ.
الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ أَبُو الثَّنَاءِ مَحْمُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَرَاغِيُّ الشَّافِعِيُّ
مُدَرِّسُ الْفَلَكِيَّةِ، كَانَ فَاضِلًا بَارِعًا، عُرِضَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ
فَلَمْ يَقْبَلْ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
رَبِيعٍ الْآخِرِ عَنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ
وَأَسْمَعَهُ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ بِالْفَلَكِيَّةِ الْقَاضِي بَهَاءُ الدِّينِ
بْنُ الزَّكِيِّ.
الْقَاضِي الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْقُرَّاءِ زَيْنُ الدِّينِ أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ الزَّوَاوِيُّ
الْمَالِكِيُّ
قَاضِي قُضَاةِ الْمَالِكِيَّةِ بِدِمَشْقَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ بَاشَرَ
الْقَضَاءَ بِهَا، وَعَزَلَ نَفْسَهُ عَنْهُ تَوَرُّعًا وَزَهَادَةً، وَاسْتَمَرَّ
بِلَا وِلَايَةٍ ثَمَانِ سِنِينَ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ
ثَامِنَ رَجَبٍ مِنْهَا عَنْ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَقَدْ سَمِعَ
الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ عَلَى السَّخَاوِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ.
الشَّيْخُ صَلَاحُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ عَلِيِّ
بْنِ مَحْمُودِ بْنِ
عَلِيٍّ الشَّهْرُزُورِيُّ
مُدَرِّسُ الْقَيْمُرِيَّةِ وَابْنُ مُدَرِّسِهَا، تُوُفِّيَ فِي أَوَاخِرِ
رَجَبٍ، وَتُوُفِّيَ أَخُوهُ شَرَفُ الدِّينِ بَعْدَهُ بِشَهْرٍ، وَدَرَّسَ
بِالْقَيْمُرِيَّةِ بَعْدَ الصَّلَاحِ الْمَذْكُورِ الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ
بْنُ جَمَاعَةَ.
ابْنُ خَلِّكَانَ قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خَلِّكَانَ
الْإِرْبِلِيُّ الشَّافِعِيُّ
أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْفُضَلَاءِ، وَالسَّادَةِ الْعُلَمَاءِ، وَالصُّدُورِ
الرُّؤَسَاءِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جُدِّدَ فِي أَيَّامِهِ قَضَاءُ الْقُضَاةِ
مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ، فَاسْتَقَلُّوا بِالْأَحْكَامِ بَعْدَمَا كَانُوا
نُوَّابًا لَهُ، وَقَدْ كَانَ الْمَنْصِبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الصَّائِغِ
دُوَلًا; يُعْزَلُ هَذَا تَارَةً وَيُوَلَّى هَذَا، وَيُعْزَلُ هَذَا وَيُوَلَّى
هَذَا، وَقَدْ دَرَّسَ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي عِدَّةِ مَدَارِسَ لَمْ تُجْمَعْ
لِغَيْرِهِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ فِي آخِرِ وَقْتِهِ سِوَى الْأَمِينِيَّةِ،
وَبِيَدِ ابْنِهِ كَمَالِ الدِّينِ مُوسَى النَّجِيبِيَّةُ. تُوُفِّيَ ابْنُ
خَلِّكَانَ بِالْمَدْرَسَةِ النَّجِيبِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ بِإِيوَانِهَا يَوْمَ
السَّبْتِ آخِرَ النَّهَارِ، فِي السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَدُفِنَ
مِنَ الْغَدِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَقَدْ كَانَ
يَنْظِمُ نَظْمًا حَسَنًا رَائِقًا، وَقَدْ كَانَتْ مُحَاضَرَتُهُ فِي غَايَةِ
الْحُسْنِ، وَلَهُ التَّارِيخُ الْمُفِيدُ الَّذِي رَسَمَهُ " بِوَفَيَاتِ
الْأَعْيَانِ " مِنْ أَبْدَعِ الْمُصَنَّفَاتِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ
أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ إِلَى دِمَشْقَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
سَابِعَ رَجَبٍ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِيهَا وَلِيَ الْخَطَابَةَ بِدِمَشْقَ الشَّيْخُ عَبَدُ الْكَافِي بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْكَافِي، عِوَضًا عَنْ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ
الْحَرَسْتَانِيِّ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهَا كَمَا سَيَأْتِي، وَخَطَبَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَفِي
هَذَا الْيَوْمِ قَبْلَ الصَّلَاةِ احْتِيطَ عَلَى الْقَاضِي عِزِّ الدِّينِ بْنِ
الصَّائِغِ بِالْقَلْعَةِ، وَأَثْبَتَ ابْنُ الْحُصْرِيِّ نَائِبُ الْحَنَفِيِّ
مَحْضَرًا يَتَضَمَّنُ أَنَّ عِنْدَهُ وَدِيعَةً بِمِقْدَارِ ثَمَانِيَةِ آلَافِ
دِينَارٍ مِنْ جِهَةِ ابْنِ الْإِسْكَافِ، وَكَانَ الَّذِي أَثَارَ ذَلِكَ شَخْصٌ
قَدِمَ مِنْ حَلَبَ يُقَالُ لَهُ: تَاجُ الدِّينِ بْنُ السِّنْجَارِيِّ. وَوَلِيَ
الْقَضَاءَ بَعْدَهُ بَهَاءُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ
الزَّكِيِّ، وَحَكَمَ يَوْمَ الْأَحَدِ ثَالِثَ وَعِشْرِينَ رَجَبٍ، وَمَنَعَ
النَّاسَ مِنْ زِيَارَةِ ابْنِ الصَّائِغِ، وَسَعَى فِي إِثْبَاتِ مَحْضَرٍ آخَرَ
أَنَّ عِنْدَهُ وَدِيعَةً بِقِيمَةِ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ
لِلصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَسَدِ الدِّينِ، وَقَامَ فِي ذَلِكَ ابْنُ
الشَّاكِرِيِّ وَالْجَمَالُ بْنُ الْحَمَوِيِّ وَآخَرُونَ، وَتَكَلَّمُوا فِي
قَضِيَّةٍ ثَالِثَةٍ، ثُمَّ عُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ نَالَهُ فِيهِ شِدَّةٌ
شَدِيدَةٌ، وَتَعَصَّبُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ أُعِيدَ إِلَى اعْتِقَالِهِ، وَقَامَ
فِي صَفِّهِ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ حُسَامُ
الدِّينِ لَاجِينَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَكَلَّمُوا
فِيهِ السُّلْطَانَ، فَأَطْلَقَهُ وَخَرَجَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَجَاءَ النَّاسُ
إِلَى تَهْنِئَتِهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
شَعْبَانَ، وَانْتَقَلَ مِنَ الْعَادِلِيَّةِ إِلَى دَارِهِ بِدَرْبِ
النَّقَّاشَةِ، وَكَانَ عَامَّةُ جُلُوسِهِ فِي الْمَسْجِدِ تُجَاهَ دَارِهِ.
وَفِي رَجَبٍ بَاشَرَ حِسْبَةَ دِمَشْقَ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ صَصْرَى.
وَفِي شَعْبَانَ دَرَّسَ الْخَطِيبُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الْكَافِي
بِالْغَزَّالِيَّةِ عِوَضًا عَنِ الْخَطِيبِ ابْنِ الْحَرَسْتَانِيِّ، وَأُخِذَ
مِنْهُ الدَّوْلَعِيَّةُ لِكَمَالِ الدِّينِ بْنِ النَّجَّارِ، الَّذِي كَانَ
وَكِيلَ بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ أَخَذَ شَمْسُ الدِّينِ الْإِرْبِلِيُّ تَدْرِيسَ
الْغَزَّالِيَّةِ مِنِ ابْنِ عَبْدِ الْكَافِي الْمَذْكُورِ.
وَفِي آخِرِ شَعْبَانَ بَاشَرَ نِيَابَةَ الْحُكْمِ عَنِ ابْنِ الزَّكِيِّ شَرَفُ
الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ نِعْمَةَ الْمَقْدِسِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْفُضَلَاءِ
وَسَادَاتِ الْعُلَمَاءِ الْمُصَنِّفِينَ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَخُوهُ شَمْسُ
الدِّينِ مُحَمَّدٌ فِي شَوَّالٍ وَلِيَ مَكَانَهُ تَدْرِيسَ الشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ الْعَادِلِيَّةُ الصَّغِيرَةُ، فَدَرَّسَ
فِيهَا الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ صَصْرَى التَّغْلِبِيُّ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ، وَأُخِذَتْ مِنْ شَرَفِ الدِّينِ أَيْضًا الرَّوَاحِيَّةُ، فَدَرَّسَ
فِيهَا نَجْمُ الدِّينِ الْبَيَانِيُّ نَائِبُ الْحُكْمِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ
أَجْمَعِينَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الصَّدْرُ الْكَبِيرُ عِمَادُ الدِّينِ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاضِيِ
شَمْسِ الدِّينِ
أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ
الشِّيرَازِيِّ
صَاحِبُ الطَّرِيقَةِ الْمَنْسُوبَةِ فِي الْكِتَابَةِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ،
وَكَانَ مِنْ رُؤَسَاءِ دِمَشْقَ وَأَعْيَانِهَا، تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا.
شَيْخُ الْجَبَلِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ شَمْسُ
الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ
مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قُدَامَةَ الْحَنْبَلِيُّ
أَوَّلُ مَنْ وَلِيَ قَضَاءَ الْحَنَابِلَةِ بِدِمَشْقَ - ثُمَّ تَرَكَهُ
وَتَوَلَّاهُ ابْنُهُ نَجْمُ الدِّينِ - وَتَدْرِيسَ الْأَشْرَفِيَّةِ
بِالْجَبَلِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَاءِ
النَّاسِ وَأَكْثَرِهِمْ دِيَانَةً فِي عَصْرِهِ وَأَمَانَةً، مَعَ هَدْيٍ صَالِحٍ
وَسَمْتٍ حَسَنٍ وَخُشُوعٍ وَوَقَارٍ. تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ سَلْخَ
رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً،
وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ وَالِدِهِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
ابْنُ جَعْوَانَ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ جَعْوَانَ الْأَنْصَارِيُّ الدِّمَشْقِيُّ
الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْبَارِعُ فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ،
سَمِعْتُ شَيْخَنَا تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ وَشَيْخَنَا الْحَافِظَ
أَبَا الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ يَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ: إِنَّ هَذَا
الرَّجُلَ قَرَأَ " مُسْنَدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " - وَهُمَا
يَسْمَعَانِ - فَلَمْ نَضْبِطْ عَلَيْهِ لَحْنَةً مُتَّفَقًا عَلَيْهَا.
وَنَاهِيكَ بِهَذَيْنِ ثَنَاءً عَلَى هَذَا، وَهُمَا هُمَا.
الْخَطِيبُ مُحْيِي الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْخَطِيبِ
قَاضِي الْقُضَاةِ عِمَادِ الدِّينِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ
جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الْحَرَسْتَانِيِّ الشَّافِعِيُّ
خَطِيبُ دِمَشْقَ وَمُدَرِّسُ الْغَزَّالِيَّةِ، كَانَ فَاضِلًا بَارِعًا، أَفْتَى
وَدَرَّسَ وَوَلِيَ الْخَطَابَةَ وَالْغَزَّالِيَّةَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَحَضَرَ
جِنَازَتَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ، تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى
الْآخِرَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ.
وَفِي خَامِسِ رَجَبٍ تُوُفِّيَ:
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ مَلِكُ عَرَبِ آلِ مِرَى أَحْمَدُ بْنُ حَجِّي
بِمَدِينَةِ بُصْرَى، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِدِمَشْقَ صَلَاةُ الْغَائِبِ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ شِهَابُ الدِّينِ عَبْدُ الْحَلِيمِ بْنُ
الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ مَجْدِ الدِّينِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ تَيْمِيَّةَ الْحَرَّانَيُّ
وَالِدُ شَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ الْعَلَمِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ:
مُفْتِي الْفِرَقِ، الْفَارِقُ بَيْنَ الْفِرَقِ، كَانَتْ لَهُ فَضِيلَةُ
حَسَنَةٌ: وَلَدَيْهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ: وَكَانَ لَهُ كُرْسِيٌّ بِجَامِعِ دِمَشْقَ
يَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ، وَوَلِيَ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ
السُّكَّرِيَّةِ بِالْقَصَّاعِينَ، وَبِهَا كَانَ مَسْكَنُهُ، ثُمَّ دَرَّسَ
وَلَدُهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بِهَا بَعْدَهُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ،
كَمَا سَيَأْتِي، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا دَرَّسَ الشَّيْخُ
الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ الْحَرَّانِيُّ
بِدَارِ الْحَدِيثِ السُّكَّرِيَّةِ الَّتِي بِالْقَصَّاعِينَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ
قَاضِي الْقُضَاةِ بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ الشَّافِعِيُّ، وَالشَّيْخُ
تَاجُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالشَّيْخُ زَيْنُ
الدِّينِ ابْنُ الْمُرَحِّلِ، وَزَيْنُ الدِّينِ بْنُ الْمُنَجَّا الْحَنْبَلِيُّ،
وَكَانَ دَرْسًا هَائِلًا حَافِلًا، وَقَدْ كَتَبَهُ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ
الْفَزَارِيُّ بِخَطِّهِ لِكَثْرَةِ فَوَائِدِهِ، وَكَثْرَةِ مَا اسْتَحْسَنَهُ
الْحَاضِرُونَ، وَقَدْ أَطْنَبَ الْحَاضِرُونَ فِي شُكْرِهِ عَلَى حَدَاثَةِ
سِنِّهِ وَصِغَرِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ عِشْرِينَ سَنَةً
وَسَنَتَيْنِ. ثُمَّ جَلَسَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْمَذْكُورُ أَيْضًا
يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَاشِرَ صَفَرٍ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ بَعْدَ صَلَاةِ
الْجُمُعَةِ عَلَى مِنْبَرٍ قَدْ هُيِّئَ لَهُ لِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ،
فَابْتَدَأَ مِنْ أَوَّلِهِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَكَانَ يَجْتَمِعُ عِنْدَهُ
الْخَلْقُ الْكَثِيرُ وَالْجَمُّ الْغَفِيرُ، مِنْ كَثْرَةِ مَا كَانَ يُورِدُ
مِنَ الْعُلُومِ الْمُتَنَوِّعَةِ الْمُحَرَّرَةِ مَعَ الدِّيَانَةِ
وَالزَّهَادَةِ وَالْعِبَادَةِ، سَارَتْ بِذِكْرِهِ الرُّكْبَانُ فِي سَائِرِ
الْأَقَالِيمِ وَالْبُلْدَانِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةَ سِنِينَ
مُتَطَاوِلَةٍ.
وَفِيهَا قَدِمَ السُّلْطَانُ إِلَى دِمَشْقَ مِنْ مِصْرَ يَوْمَ السَّبْتِ ثَانِي
عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَجَاءَ صَاحِبُ حَمَاةَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ
إِلَى خِدْمَتِهِ، فَتَلَقَّاهُ السُّلْطَانُ فِي مَوْكِبِهِ وَأَكْرَمَهُ.
فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ
وَقَعَ مَطَرٌ عَظِيمٌ
بِدِمَشْقَ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، وَجَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ
جِدًّا حَتَّى كَسَرَ أَقْفَالَ بَابِ الْفَرَادِيسِ، وَارْتَفَعَ الْمَاءُ
ارْتِفَاعًا كَثِيرًا، بِحَيْثُ أَغْرَقَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَخَذَ جِمَالَ
الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ وَأَثْقَالَهُمْ، فَخَرَجَ السُّلْطَانُ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَتَوَلَّى شَدَّ الدَّوَاوِينِ
الْأَمِيرُ شَمْسُ الدِّينِ سُنْقُرُ عِوَضًا عَنِ الدَّوَادَارِيِّ عَلَمِ
الدِّينِ سَنْجَرَ.
وَفِيهَا اخْتَلَفَ التَّتَرُ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى مَلِكِهِمُ السُّلْطَانِ
أَحْمَدَ، فَعَزَلُوهُ عَنْهُمْ وَقَتَلُوهُ، وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمُ السُّلْطَانَ
أَرْغُونَ بْنَ أَبْغَا، وَنَادَوْا بِذَلِكَ فِي جَيْشِهِمْ، وَتَأَطَّدَتْ
أَحْوَالُهُمْ، وَمَشَتْ أُمُورُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَبَادَتْ دَوْلَةُ
السُّلْطَانِ أَحْمَدَ، وَقَامَتْ دَوْلَةُ أَرْغُونَ بْنِ أَبْغَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ طَالِبٌ الرِّفَاعِيُّ
بِقَصْرِ حَجَّاجٍ، وَلَهُ زَاوِيَةٌ مَشْهُورَةٌ بِهِ، وَكَانَ يَزُورُ بَعْضَ
الْمُرِيدِينَ فَمَاتَ.
الْقَاضِي الْإِمَامُ عِزُّ الدِّينِ أَبُو الْمَفَاخِرِ مُحَمَّدُ بْنُ شَرَفِ
الدِّينِ عَبْدِ الْقَادِرِ بْنِ عَفِيفِ الدِّينِ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ خَلِيلٍ
الْأَنْصَارِيُّ الدِّمَشْقِيُّ
وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِدِمَشْقَ مَرَّتَيْنِ، عُزِلَ بِهِ ابْنُ خَلِّكَانَ
ثُمَّ عُزِلَ بِابْنِ خَلِّكَانَ، ثُمَّ عُزِلَ ابْنُ خَلِّكَانَ بِهِ ثَانِيَةً،
ثُمَّ عُزِلَ وَسُجِنَ وَوُلِّيَ بَعْدَهُ بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ،
وَبَقِيَ مَعْزُولًا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ بِبُسْتَانِهِ فِي تَاسِعِ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَصُلَّيَ عَلَيْهِ بِسُوقِ الْخَيْلِ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ،
وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَ مَشْكُورَ
السِّيرَةِ، لَهُ عَقْلٌ وَتَدْبِيرٌ وَاعْتِقَادٌ كَثِيرٌ
فِي الصَّالِحِينَ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَخَرَّجَ لَهُ ابْنُ بَلَبَانَ
مَشْيَخَةً قَرَأَهَا ابْنُ جَعْوَانَ عَلَيْهِ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ
بِالْعَذْرَاوِيَّةِ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ مَكِّيِّ بْنِ
الْمُرَحِّلِ وَكَيْلُ بَيْتِ الْمَالِ، وَدَرَّسَ ابْنُهُ مُحْيِي الدِّينِ
أَحْمَدُ بِالْعِمَادِيَّةِ وَزَاوِيَةِ الْكَلَّاسَةِ مِنْ جَامِعِ دِمَشْقَ
ثُمَّ تُوُفِّيَ ابْنُهُ أَحْمَدُ هَذَا بَعْدَهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ
ثَامِنَ رَجَبٍ، فَدَرَّسَ بِالدِّمَاغِيَّةِ وَالْعِمَادِيَّةِ الشَّيْخُ زَيْنُ
الدِّينِ ابْنُ الْفَارِقِيِّ شَيْخُ دَارِ الْحَدِيثِ، نِيَابَةً عَنْ أَوْلَادِ
الْقَاضِي عِزِّ الدِّينِ بْنِ الصَّائِغِ بَدْرِ الدِّينِ وَعَلَاءِ الدِّينِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
الْمَلِكُ السَّعِيدُ فَتْحُ الدِّينِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَلِكِ الصَّالِحِ
أَبِي الْحَسَنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ
وَهُوَ وَالِدُ الْمَلِكِ الْكَامِلِ نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ، فِي لَيْلَةِ
الِاثْنَيْنِ ثَالِثَ رَمَضَانَ وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِتُرْبَةِ أَمِّ
الصَّالِحِ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ مُحْتَرَمًا كَبِيرًا رَئِيسًا،
رَوَى " الْمُوَطَّأَ " عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ مُكْرَمِ بْنِ
أَبِي الصَّقْرِ، وَسَمِعَ ابْنَ اللَّتِّيِّ وَغَيْرَهُ.
الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ نَصْرِ بْنِ مَنْصُورٍ الْبَيْسَانِيُّ
الشَّافِعِيُّ
تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا، وَكَانَ فَاضِلًا، وَلِيَ قَضَاءَ زُرْعَ، ثُمَّ
قَضَاءَ حَلَبَ، ثُمَّ نَابَ فِي دِمَشْقَ، وَدَرَّسَ بِالرَّوَاحِيَّةِ،
وَبَاشَرَهَا بَعْدَهُ شَمْسُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نُوحٍ
الْمَقْدِسِيُّ يَوْمَ عَاشِرِ شَوَّالٍ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ تُوُفِّيَ بِحَمَاةَ مَلِكُهَا
الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ عُمَرَ
بْنِ شَاهِنْشَاهِ بْنِ أَيُّوبَ
وُلِدَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَتَمَلَّكَ حَمَاةَ
سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ، فَمَكَثَ فِي الْمُلْكِ
أَزْيَدَ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ لَهُ بِرٌّ وَصَدَقَاتٌ، وَقَدْ
أَعْتَقَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ خَلْقًا مِنَ الْأَرِقَّاءِ، وَقَامَ فِي الْمُلْكِ
بَعْدَهُ وَلَدُهُ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ بِتَقْلِيدِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ
لَهُ بِذَلِكَ.
الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ الزَّوَاوِيُّ
قَاضِي قُضَاةِ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُدَرِّسُهُمْ بَعْدَ الْقَاضِي زَيْنِ
الدِّينِ الزَّوَاوِيِّ الَّذِي عَزَلَ نَفْسَهُ، وَقَدْ كَانَ يَنُوبُ عَنْهُ،
فَاسْتَقَلَّ بَعْدَهُ بِالْحُكْمِ، تُوُفِّيَ فِي الْخَامِسِ مِنْ ذِي
الْقَعْدَةِ وَهُوَ فِي طَرِيقِ الْحِجَازِ، وَكَانَ عَالِمًا فَاضِلًا، قَلِيلَ
التَّكْلِيفِ وَالتَّكَلُّفِ، وَقَدْ شَغَرَ الْمَنْصِبُ بَعْدَهُ ثَلَاثَ سِنِينَ،
وَدَرَّسَ بَعْدَهُ لِلْمَالِكِيَّةِ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ الشَّرِيشِيُّ،
وَبَعْدَهُ أَبُو إِسْحَاقَ اللَّوْرِيُّ، وَبَعْدَهُ بَدْرُ الدِّينِ أَبُو
بَكْرٍ التُّونُسِيُّ، ثُمَّ لَمَّا وَصَلَ الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ بْنُ
سُلَيْمَانَ حَاكِمًا دَرَّسَ بِالْمَدَارِسِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ قَدِمَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ إِلَى دِمَشْقَ
وَمَعَهُ الْجُيُوشُ، وَجَاءَ إِلَى خِدْمَتِهِ صَاحِبُ حَمَاةَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ
بْنُ الْمَنْصُورِ، فَتَلَقَّاهُ بِجَمِيعِ الْجُيُوشِ وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةَ
الْمُلُوكِ، ثُمَّ سَافَرَ السُّلْطَانُ بِالْعَسَاكِرِ الْمِصْرِيَّةِ
وَالشَّامِيَّةِ، فَنَزَلَ الْمَرْقَبَ، فَفَتْحَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي يَوْمِ
الْجُمُعَةِ ثَامِنَ عَشَرَ صَفَرٍ، وَجَاءَتِ الْبِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى
دِمَشْقَ، فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ
بِذَلِكَ; لِأَنَّ هَذَا الْحِصْنَ كَانَ مَضَرَّةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ
يَتَّفِقْ فَتْحُهُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُلُوكِ لَا لِصَلَاحِ الدِّينَ وَلَا
لِلظَّاهِرِ، وَفَتَحَ حَوْلَهُ بُلُنْيَاسَ وَمَرَقِيَّةَ، وَهِيَ بَلْدَةٌ
صَغِيرَةٌ إِلَى جَانِبِ الْبَحْرِ عِنْدَ حِصْنٍ مَنِيعٍ جِدًّا، لَا يَصِلُ
إِلَيْهِ سَهْمٌ وَلَا حَجَرُ مَنْجَنِيقٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ طَرَابُلُسَ،
فَهَدَمَهُ تَقَرُّبَا إِلَى السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ، وَاسْتَنْقَذَ
الْمَنْصُورُ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا
عِنْدَ الْفِرِنْجِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، ثُمَّ عَادَ الْمَنْصُورُ إِلَى
دِمَشْقَ، ثُمَّ سَافَرَ بِالْعَسَاكِرِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى الْقَاهِرَةِ.
وَفِي أَوَاخِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ وُلِدَ لِلْمَنْصُورِ وَلَدُهُ الْمَلِكُ
النَّاصِرُ مُحَمَّدُ بْنُ قَلَاوُونَ.
وَفِيهَا عُزِلَ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ النَّحَّاسِ عَنْ
نَظَرِ الْجَامِعِ، وَوَلِيَهُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ
الزَّكِيِّ، وَبَاشَرَ ابْنُ النَّحَّاسِ الْوِزَارَةَ عِوَضًا عَنِ التَّقِيِّ
تَوْبَةَ التَّكْرِيتِيِّ، وَطُلِبَ التَّقِيُّ تَوْبَةُ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَأُحِيطَ عَلَى أَمْوَالِهِ وَأَمْلَاكِهِ.
وَعُزِلَ سَيْفُ الدِّينِ طَوْغَانُ عَنْ وِلَايَةِ الْمَدِينَةِ، وَبَاشَرَهَا
عِزُّ الدِّينِ بْنُ أَبِي الْهَيْجَاءِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ شَدَّادٍ
تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ، وَكَانَ فَاضِلًا مَشْهُورًا، لَهُ كِتَابُ " سِيرَةِ
الْمَلِكِ الظَّاهِرِ "، وَكَانَ مُعْتَنِيًا بِالتَّارِيخِ.
الْبُنْدُقْدَارُ
أُسْتَاذُ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ بَيْبَرْسَ وَهُوَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ عَلَاءُ
الدِّينِ أَيْدِيكِينُ الْبُنْدُقْدَارُ الصَّالِحِيُّ، كَانَ مِنْ خِيَارِ
الْأُمَرَاءِ، سَامَحَهُ اللَّهُ، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا، وَقَدْ
كَانَ الصَّالِحُ نَجْمُ الدِّينِ صَادَرَ الْبُنْدُقْدَارَ هَذَا، وَأَخَذَ
مِنْهُ مَمْلُوكَهُ بَيْبَرْسَ، فَأَضَافَهُ إِلَيْهِ لِشَهَامَتِهِ وَنَهْضَتِهِ،
فَتَقَدَّمَ عِنْدَهُ عَلَى أُسْتَاذِهِ وَغَيْرِهِ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ الزَّاهِدُ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْإِخْمِيمِيُّ
كَانَتْ لَهُ جِنَازَةٌ هَائِلَةٌ، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
ابْنُ عَامِرٍ الْمُقْرِئُ
الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْمِيعَادُ الْكَبِيرُ، الشَّيْخُ الصَّالِحُ
الْمُقْرِئُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ
أَبِي بَكْرٍ الْغَسُولِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الشَّيْخِ
مُوَفَّقِ الدِّينِ بْنِ قُدَامَةَ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ يَعْمَلُ الْمِيعَادَ
لَيْلَةَ الْأَحَدِ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ ذَلِكَ دَعَا بِهِمْ ثُمَّ وَعَظَهُمْ.
تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ حَادِي عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ
بِالْقُرْبِ مِنْ تُرْبَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَرْمَنِيِّ.
الْقَاضِي عِمَادُ الدِّينِ دَاوُدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ كَامِلٍ الْقُرَشِيُّ
الْبَصْرَوِيُّ الْحَنَفِيُّ
مُدَرِّسُ الْعِزِّيَّةِ بِالْكُشْكِ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ عَنْ مَجْدِ الدِّينِ
بْنِ الْعَدِيمِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَتُوُفِّيَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ
شَعْبَانَ، وَهُوَ وَالِدُ الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ الْقَحْفَازِيِّ شَيْخِ
الْحَنَفِيَّةِ، وَخَطِيبِ جَامِعِ تَنْكِزَ.
الشَّيْخُ حَسَنٌ الرُّومِيُّ
شَيْخُ سَعِيدِ السُّعَدَاءِ بِالْقَاهِرَةِ، وَقَدْ وَلِيَهَا بَعْدَهُ شَمْسُ
الدِّينِ الْأَيْكِيُّ.
الرَّشِيدُ سَعِيدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الشَّيْخُ رَشِيدُ الدِّينِ
الْحَنَفِيُّ
مُدَرِّسُ
الشِّبْلِيَّةِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ مُفِيدَةٌ كَثِيرَةٌ،
وَنَظْمٌ حَسَنٌ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
قُلْ لِمَنَ يَحْذَرُ أَنْ تُدْرِكَهُ نَكَبَاتُ الدَّهْرِ لَا يُغْنِي الْحَذَرْ
أَذْهَبَ الْحُزْنَ اعْتِقَادِي أَنَّهُ
كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرْ
وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
إِلَهِي لَكَ الْحَمْدُ الَّذِي أَنْتَ أَهْلُهُ عَلَى نِعَمٍ مِنْهَا
الْهِدَايَةُ لِلْحَمْدِ
صَحِيحًا خَلَقْتَ الْجِسْمَ مِنِّي مُسَلَّمًا وَلُطْفُكَ بِي مَا زَالَ مُذْ
كُنْتُ فِي الْمَهْدِ
وَكُنْتُ يَتِيمًا قَدْ أَحَاطَ بِيَ الرَّدَى فَآوَيْتَ وَاسْتَنْقَذْتَ مِنْ
كُلِّ مَا يُرْدِي
وَهَبْتَ لِيَ الْعَقْلَ الَّذِي بِضِيَائِهِ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ يَهْتَدِي
طَالِبُ الرُّشْدِ
وَوَفَّقْتَ لِلْإِسْلَامِ قَلْبِي وَمَنْطِقِي فَيَا نِعْمَةً قَدْ جَلَّ
مَوْقِعُهَا عِنْدِي
وَلَوْ رُمْتُ جَهْدِي أَنْ أُجَازِيَ فَضِيلَةً فَضَلْتَ بِهَا لَمْ يَجْزِ
أَطْرَافَهَا جِدِّي
أَلَسْتَ الَّذِي أَرْجُو جَنَابَكَ عِنْدَمَا يُخَلِّفُنِي الْأَهْلُونَ وَحْدِيَ
فِي لَحْدِي
فَجُدْ لِي بِلُطْفٍ مِنْكَ يَهْدِي سَرِيرَتِي وَقَلْبِي وَيُدْنِينِي إِلَيْكَ
مِنَ الْبُعْدِ
تُوُفِّيَ يَوْمَ السَّبْتِ ثَالِثَ رَمَضَانَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ
الْعَصْرِ بِالْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ، وَدُفِنَ بِالسَّفْحِ.
أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ بَلَبَانَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ النَّاصِرِيُّ
الْمُحَدِّثُ الْمُفِيدُ الْمَاهِرُ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ مُسْتَهَلَّ
رَمَضَانَ.
الْأَمِيرُ مُجِيرُ الدِّينِ
مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ عَلِيٍّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ تَمِيمٍ
الْحَمَوِيُّ الشَّاعِرُ، صَاحِبُ الدِّيوَانِ فِي الشِّعْرِ، فَمِنْ شِعْرِهِ
قَوْلُهُ:
عَايَنْتُ وَرْدَ الرَّوْضِ يَلْطِمُ خَدَّهُ وَيَقُولُ قَوْلًا فِي الْبَنَفْسِجِ
يُحْنَقُ
لَا تَقْرَبُوهُ وَإِنْ تَضَوَّعَ نَشْرُهُ مَا بَيْنَكُمْ فَهُوَ الْعَدُوُّ الْأَزْرَقُ
الشَّيْخُ الْعَارِفُ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
الشَّيْخِ عُثْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ الرُّومِيُّ
وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَمِنْ عِنْدِهِمْ خَرَجَ الشَّيْخُ
جَمَالُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ السَّاوَجِيُّ، وَحَلَقَ وَدَخَلَ فِي ذِي
الْجَوَالِيقِيَّةِ، وَصَارَ شَيْخَهُمْ وَمُقَدَّمَهُمْ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ،
وَالسُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ قَلَاوُونُ وَنَائِبُهُ بِالشَّامِ
الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ لَاجِينُ السِّلَحْدَارِيُّ الْمَنْصُورِيُّ،
وَالْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ الصَّوَابِيُّ مُحَاصِرٌ مَدِينَةَ الْكَرَكِ فِي
أَوَاخِرِ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ مِصْرَ عَسْكَرٌ
صُحْبَةَ الْأَمِيرِ حُسَامِ الدِّينِ طُرُنْطَايَ فَاجْتَمَعُوا عَلَى حِصَارِ
الْكَرَكِ حَتَّى أَنْزَلُوا مِنْهَا صَاحِبَهَا الْمَلِكَ الْمَسْعُودَ خَضِرَ
بْنَ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ فِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ، وَجَاءَتِ الْبِشَارَةُ
بِذَلِكَ إِلَى دِمَشْقَ فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَعَادَ
طُرُنْطَايُ بِالْمَلِكِ خَضِرٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، كَمَا فَعَلَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ أَبُوهُ بِالْمَلِكِ
الْمُغِيثِ عُمَرَ بْنِ الْعَادِلِ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ. وَاسْتَنَابَ فِي
الْكَرَكِ نَائِبًا عَنْ أَمْرِ الْمَنْصُورِ، وَرَتَّبَ أُمُورَهَا، وَأَجْلَوْا
مِنْهَا خَلْقًا مِنَ الْكَرَكِيِّينَ، وَاسْتَخْدَمُوا بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ.
وَلَمَّا اقْتَرَبَ دُخُولُ آلِ الظَّاهِرِ إِلَى الْقَاهِرَةِ تَلَقَّاهُمُ
الْمَنْصُورُ فَأَكْرَمَ لُقْيَاهُمْ، وَأَحْسَنَ إِلَى الْأَخَوَيْنِ نَجْمِ
الدِّينِ خَضِرٍ وَبَدْرِ الدِّينِ سَلَامُشَ، وَجَعَلَهُمَا يَرْكَبَانِ مَعَ
ابْنَيْهِ عَلِيٍّ وَالْأَشْرَفِ خَلِيلٍ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمَا عُيُونًا
يَرْصُدُونَ مَا يَفْعَلَانِ، وَأُنْزِلَا الدُّورَ بِالْقَلْعَةِ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِمْ
مِنَ الرَّوَاتِبِ وَالنَّفَقَاتِ مَا يَكْفِيهِمْ وَزِيَادَةٌ كَثِيرَةٌ.
وَكَتَبَ الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ بَكْتُوتُ الْعَلَائِيُّ، وَهُوَ مُجَرَّدٌ
بِحِمْصَ إِلَى نَائِبِ دِمَشْقَ لَاجِينَ، أَنَّهُ قَدِ انْعَقَدَتْ زَوْبَعَةٌ
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَابِعِ صَفَرٍ بِأَرْضِ حِمْصَ،
ثُمَّ ارْتَفَعَتْ فِي السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الْعَمُودِ
وَالْحَيَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَجَعَلَتْ تَخْتَطِفُ الْحِجَارَةَ الْكِبَارَ،
فَتَصْعَدُ بِهَا فِي الْجَوِّ كَأَنَّهَا سِهَامُ النُّشَّابِ، وَحَمَلَتْ
شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْجِمَالِ بِأَحْمَالِهَا، وَالْأَثَاثِ وَالْخِيَامِ
وَالدَّوَابِّ، فَفَقَدَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الرِّحَالِ
وَالْأَمْتِعَةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ وَقَعَ مَطَرٌ عَظِيمٌ بِدِمَشْقَ وَجَاءَ سَيْلٌ كَثِيرٌ
وَلَا سِيَّمَا بِالصَّالِحِيَّةِ.
وَفِيهَا أُعِيدَ عَلَمُ الدِّينِ الدَّوَادَارِيُّ إِلَى شَدِّ الدَّوَاوِينِ
بِدِمَشْقَ، وَالصَّاحِبُ تَقِيُّ الدِّينِ تَوْبَةُ إِلَى الْوِزَارَةِ
بِدِمَشْقَ.
وَفِيهَا تَوَلَّى قَضَاءَ الْمَالِكِيَّةِ بِمِصْرَ زَيْنُ الدِّينِ بْنُ أَبِي
مَخْلُوفٍ النُّوَيْرِيُّ عِوَضًا عَنِ الْقَاضِي تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ شَاسٍ
الَّذِي تُوُفِّيَ بِهَا.
وَفِيهَا دَرَّسَ بِالْغَزَّالِيَّةِ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ،
انْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ شَمْسِ الدِّينِ إِمَامِ الْكَلَّاسَةِ الَّذِي كَانَ
يَنُوبُ عَنْ شَمْسِ الدِّينِ الْأَيْكِيِّ، وَالْأَيْكِيُّ شَيْخُ سَعِيدِ
السُّعَدَاءِ، بَاشَرَهَا شَهْرًا، ثُمَّ جَاءَ مَرْسُومٌ بِإِعَادَتِهَا إِلَى
الْأَيْكِيِّ، وَقَدِ اسْتَنَابَ عَنْهُ جَمَالَ الدِّينِ الْبَاجُرْبَقِيُّ
فَبَاشَرَهَا الْبَاجُرْبَقِيُّ فِي ثَالِثِ رَجَبٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ شَيْبَانَ بْنِ تَغْلِبَ الشَّيْبَانِيُّ
أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ الْمُسْنِدِينَ
الْمُعَمَّرِينَ بِدِمَشْقَ، تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ عَنْ
ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْبَارِعُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُحْمَانَ
الْبَكْرِيُّ الشَّرِيشِيُّ الْمَالِكِيُّ
وُلِدَ بِشَرِيشَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ، وَرَحَلَ إِلَى الْعِرَاقِ،
فَسَمِعَ بِهَا الْحَدِيثَ مِنَ الْمَشَايِخِ; الْقَطِيعِيِّ وَابْنِ زَوْرَبَةَ
وَابْنِ اللَّتِّيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَاشْتَغَلَ وَحَصَّلَ وَسَادَ أَهْلَ
زَمَانِهِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مِصْرَ، فَدَرَّسَ بِالْفَاضِلِيَّةِ، ثُمَّ أَقَامَ
بِالْقُدْسِ شَيْخَ الْحَرَمِ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى دِمَشْقَ، فَوَلِيَ مَشْيَخَةَ
الْحَدِيثِ بِتُرْبَةِ أَمِّ الصَّالِحِ، وَمَشْيَخَةَ الرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ
بِالسَّفْحِ، وَمَشْيَخَةَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَلَمْ
يَقْبَلْ. تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ
بِالرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ بِقَاسِيُونَ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ تُجَاهَ
النَّاصِرِيَّةِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً جِدًّا.
قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْفَضْلِ يُوسُفُ بْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ مُحْيِي
الدِّينِ أَبِي الْفَضْلِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ يَحْيَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ الْوَلِيدِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْقُرَشِيُّ
الدِّمَشْقِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الزَّكِيِّ الشَّافِعِيُّ
كَانَ فَاضِلًا مُبَرَّزًا، وَهُوَ آخِرُ مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ مِنْ بَنِي
الزَّكِيِّ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وُلِدَ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ، وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ حَادِي عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ،
وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ، وَتَوَلَّى بَعْدَهُ ابْنُ الْخُوَيِّيِّ شِهَابُ
الدِّينِ.
الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمِصْرِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ الشَّافِعِيُّ
الْكَاتِبُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمِهْتَارِ
كَانَ فَاضِلًا فِي الْحَدِيثِ وَالْأَدَبِ، يَكْتُبُ كِتَابَةً حَسَنَةً جِدًّا،
وَتَوَلَّى مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ النُّورِيَّةِ، وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ،
وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ وَبِكِتَابَتِهِ، تُوُفِّيَ عَاشِرَ ذِي الْحِجَّةِ،
وَدُفِنَ بِبَابِ الْفَرَادِيسِ.
الشَّاعِرُ الْأَدِيبُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْخِيَمِيِّ
كَانَتْ لَهُ مُشَارَكَةٌ فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ، وَيَدٌ طُولَى فِي النَّظْمِ
الرَّائِقِ الْفَائِقِ، جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، وَقَدْ تَنَازَعَ هُوَ وَنَجْمُ
الدِّينِ بْنُ إِسْرَائِيلَ فِي قَصِيدَةٍ بَائِيَّةٍ، فَتَحَاكَمَا إِلَى ابْنِ
الْفَارِضِ، فَأَمَرَهُمَا بِنَظْمِ أَبْيَاتٍ عَلَى وَزْنِهَا، فَنَظَمَ كُلٌّ
مِنْهُمَا فَأَحَسَنَ، وَلَكِنْ لِابْنِ الْخِيَمِيِّ يَدٌ طُولَى عَلَيْهِ،
وَكَذَلِكَ فَعَلَ ابْنُ خَلِّكَانَ، وَامْتَدَحَهُ عَلَى وَزْنِهَا بِأَبِيَّاتٍ
حِسَانٍ، وَقَدْ أَطَالَ تَرْجَمَتَهُ الْجَزَرِيُّ فِي كِتَابِهِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ:
الْحَاجِّ شَرَفِ بْنِ مِرَى
وَالِدِ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الْحَقِّ أَبُو يُوسُفَ
الْمَرِينِيُّ
سُلْطَانُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، خَرَجَ عَلَى الْوَاثِقِ بِاللَّهِ أَبِي
دَبُّوسٍ، فَسَلَبَهُ الْمُلْكَ بِظَاهِرِ مُرَّاكِشَ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى
بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ وَالْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَاسْتَمَرَّتْ أَيَّامُهُ إِلَى مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَزَالَتْ عَلَى يَدَيْهِ دَوْلَةُ الْمُوَحِّدِينَ بِهَا.
الْبَيْضَاوِيُّ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ
هُوَ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ نَاصِرُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ الشِّيرَازِيُّ
قَاضِيهَا وَعَالِمُهَا وَعَالِمُ أَذْرَبِيجَانَ وَتِلْكَ النَّوَاحِي، مَاتَ
بِتَبْرِيزَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَمِنْ مُصَنَّفَاتِهِ
" الْمِنْهَاجُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ "، وَهُوَ مَشْهُورٌ، وَقَدْ
شَرَحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَلَهُ " شَرْحُ التَّنْبِيهِ " فِي أَرْبَعِ
مُجَلَّدَاتٍ، وَلَهُ " الْغَايَةُ الْقُصْوَى فِي دِرَايَةِ الْفَتْوَى
"، وَ " شَرْحُ الْمُنْتَخَبِ "، وَ " الْكَافِيَةُ فِي
الْمَنْطِقِ "، وَلَهُ " الطَّوَالِعُ "، وَ " شَرْحُ
الْمَحْصُولِ " أَيْضًا، وَلَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّصَانِيفِ
الْمُفِيدَةِ، وَقَدْ أَوْصَى إِلَى الْقُطْبِ الشِّيرَازِيِّ أَنْ يُدْفَنَ
بِجَانِبِهِ بِتَبْرِيزَ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
فِي أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ رَكِبَتِ الْعَسَاكِرُ صُحْبَةَ نَائِبِ الشَّامِ
حُسَامِ الدِّينِ لَاجِينَ إِلَى مُحَاصَرَةِ صِهْيَوْنَ وَحِصْنِ بَرْزَيَهْ،
فَمَانَعَهُمُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ، فَلَمْ يَزَالُوا
بِهِ حَتَّى اسْتَنْزَلُوهُ، وَسَلَّمَهُمُ الْبِلَادَ، وَسَارَ إِلَى خِدْمَةِ
السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ، فَتَلَقَّاهُ بِالْإِكْرَامِ
وَالِاحْتِرَامِ، وَأَعْطَاهُ تَقْدُمَةً أَلْفَ فَارِسٍ، وَلَمْ يَزَلْ
مُعَظَّمًا فِي الدَّوْلَةِ الْمَنْصُورِيَّةِ إِلَى آخِرِهَا، وَانْقَضَتْ تِلْكَ
الْأَحْوَالُ.
وَفِي النِّصْفِ مِنَ الْمُحَرَّمِ حَكَمَ الْقَاضِي جَلَالُ الدِّينِ
الْحَنَفِيُّ نِيَابَةً عَنْ أَبِيهِ حُسَامِ الدِّينِ الرَّازِيِّ.
وَفِي الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قَدِمَ الْقَاضِي شِهَابُ
الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الْخَلِيلِ الْخُوَيِّيُّ
مِنَ الْقَاهِرَةِ عَلَى قَضَاءِ قُضَاةِ دِمَشْقَ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ مُسْتَهَلَّ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَاسْتَمَرَّ بِنِيَابَةِ شَرَفِ
الدِّينِ الْمَقْدِسِيِّ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ ثَالِثِ شَوَّالٍ دَرَّسَ بِالرَّوَاحِيَّةِ الشَّيْخُ
صَفِيُّ الدِّينِ الْهِنْدِيُّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالشَّيْخُ تَاجُ
الدِّينِ الْفَزَارِيُّ وَعَلَمُ الدِّينِ الدَّوَادَارِيُّ، وَتَوَلَّى قَضَاءَ
قُضَاةِ الْقَاهِرَةِ تَقِيُّ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ بِنْتِ
الْأَعَزِّ، عِوَضًا عَنْ بُرْهَانِ
الدِّينِ الْخَضِرِ بْنِ الْحَسَنِ السِّنْجَارِيِّ، وَقَدْ
كَانَ وَلِيَهَا شَهْرًا بَعْدَ ابْنِ الْخُوَيِّيِّ، فَاجْتَمَعَ حِينَئِذٍ
لِابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ بَيْنَ الْقَضَاءِ كُلِّهِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَذَلِكَ فِي أَوَائِلِ صَفَرٍ مِنْهَا.
وَفِيهَا اسْتُدْعِيَ سَيْفُ الدِّينِ السَّامَرِّيُّ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِيُشْتَرَى مِنْهُ رِيعُ حَرْزَمَا الَّذِي اشْتَرَاهُ
مِنْ بِنْتِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ مُوسَى، فَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّهُ وَقَفَهُ،
وَكَانَ الْمُتَكَلِّمَ فِي ذَلِكَ عَلَمُ الدِّينِ الشُّجَاعِيُّ، وَكَانَ قَدِ
اسْتَنَابَهُ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَجَعَلَ يَتَقَرَّبُ
إِلَيْهِ بِتَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ، فَفَتَقَ لَهُمْ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَقْدِسِيُّ أَنَّ السَّامَرِّيَّ اشْتَرَى هَذَا مِنْ
بِنْتِ الْأَشْرَفِ وَهِيَ غَيْرُ رَشِيدَةٍ، وَأَثْبَتَ سَفَهَهَا عَلَىٌّ زَيْنُ
الدِّينِ بْنُ مَخْلُوفٍ، وَأَبْطَلَ الْبَيْعَ مِنْ أَصْلِهِ، وَاسْتَرْجَعَ
عَلَى السَّامَرِّيِّ بِمَغَلِّ مُدَّةِ عِشْرِينَ سَنَةً مِائَتَيْ أَلْفِ
دِرْهَمٍ، وَأَخَذُوا مِنْهُ حِصَّةً مِنَ الزَّنْبَقِيَّةِ قِيمَتُهَا سَبْعُونَ
أَلْفًا، وَعَشَرَةُ آلَافٍ مُكَمِّلَةً، وَتَرَكُوهُ فَقِيرًا عَلَى بَرْدِ
الدِّيَارِ، ثُمَّ أَثْبَتُوا رُشْدَهَا، وَاشْتَرَوْا مِنْهَا تِلْكَ الْحِصَصَ
بِمَا أَرَادُوهُ، ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَسْتَدْعُوا بِالدَّمَاشِقَةِ وَاحِدًا
بَعْدَ وَاحِدٍ وَيُصَادِرُونَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَهُمْ أَنَّ مَنْ
ظَلَمَ بِالشَّامِ لَا يُفْلِحُ، وَمَنْ ظَلَمَ بِمِصْرَ أَفْلَحَ وَطَالَتْ
مُدَّتُهُ، فَكَانُوا يَطْلُبُونَهُمْ إِلَى مِصْرَ أَرْضِ الْفَرَاعِنَةِ
وَالظُّلْمِ، فَيَفْعَلُونَ مَعَهُمْ مَا أَرَادُوا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ قُطْبُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي
الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْمَيْمُونُ الْقَيْسِيُّ
التَّوْزَرِيُّ الْمِصْرِيُّ ثُمَّ الْمَكِّيُّ، الشَّافِعِيُّ الْمَعْرُوفُ
بِالْقَسْطَلَانِيِّ
شَيْخُ دَارِ الْحَدِيثِ الْكَامِلِيَّةِ بِالْقَاهِرَةِ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعَ
عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَرَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ فَسَمِعَ الْكَثِيرَ،
وَحَصَّلَ عُلُومًا، وَكَانَ يُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَقَامَ
بِمَكَّةَ مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ صَارَ إِلَى مِصْرَ، فَوَلِيَ مَشْيَخَةَ
الْحَدِيثِ، وَكَانَ حَسَنَ الْأَخْلَاقِ مُحَبَّبًا إِلَى النَّاسِ، تُوُفِّيَ
فِي آخِرِ الْمُحَرَّمِ وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ الْكُبْرَى، وَلَهُ شِعْرٌ
حَسَنٌ، أَوْرَدَ مِنْهُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ قِطْعَةً صَالِحَةً.
عِمَادُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّاسٍ الدُّنَيْسَرِيُّ
الطَّبِيبُ الْمَاهِرُ، وَالْحَاذِقُ الشَّاعِرُ، خَدَمَ الْأَكَابِرَ وَالْوُزَرَاءَ،
وَعُمِّرَ ثَمَانِينَ سَنَةً، تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِبِدِمَشْقَ.
قَاضِي الْقُضَاةِ بُرْهَانُ الدِّينِ الْخَضِرُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ
السِّنْجَارِيُّ
تَوَلَّى الْحُكْمَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَوَلِيَ
الْوِزَارَةَ أَيْضًا، وَكَانَ رَئِيسًا وَقُورًا مَهِيبًا، وَقَدْ بَاشَرَ
الْقَضَاءَ بَعْدَهُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ بِنْتِ الْأَعَزِّ.
شَرَفُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ بْنُ بُنَيْمَانَ
الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، لَهُ دِيوَانٌ، مَاتَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ عِزُّ الدِّينِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الْمُنْعِمِ
بْنِ الصَّيْقَلِ الْحَرَّانَيُّ
وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، ثُمَّ
اسْتَوْطَنَ مِصْرَ حَتَّى تُوُفِّيَ بِهَا فِي رَابِعَ عَشَرَ رَجَبٍ وَقَدْ
جَاوَزَ التِّسْعِينَ، وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ الْحَافِظُ عَلَمُ الدِّينِ
الْبِرْزَالِيُّ لَمَّا رَحَلَ إِلَى مِصْرَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ،
وَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ شَهِدَ جِنَازَةً فِي بَغْدَادَ فَتَبِعَهُمْ نَبَّاشٌ،
فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَ إِلَى ذَلِكَ الْقَبْرِ فَفَتَحَ عَنِ الْمَيِّتِ،
وَكَانَ الْمَيِّتُ شَابًّا قَدْ أَصَابَتْهُ سَكْتَةٌ، فَلَمَّا فَتَحَ الْقَبْرَ
نَهَضَ ذَلِكَ الشَّابُّ الْمَيِّتُ جَالِسًا، فَسَقَطَ النَّبَّاشُ مَيِّتًا فِي
الْقَبْرِ، وَخَرَجَ الشَّابُّ مِنْ قَبْرِهِ إِلَى أَهْلِهِ.
وَحَكَى لَهُ قَالَ: كُنْتُ مَرَّةً بِقَلْيُوبَ وَبَيْنَ يَدَيَّ صُبْرَةُ
قَمْحٍ، فَجَاءَ زُنْبُورٌ فَأَخَذَ وَاحِدَةً ثُمَّ ذَهَبَ بِهَا، ثُمَّ جَاءَ
فَأَخَذَ أُخْرَى ثُمَّ ذَهَبَ بِهَا، ثُمَّ جَاءَ فَأَخَذَ وَاحِدَةً أُخْرَى
أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. قَالَ: فَاتَّبَعْتُهُ، فَإِذَا هُوَ يَضَعُ الْحَبَّةَ فِي
فَمِ عُصْفُورٍ أَعْمَى بَيْنَ تِلْكَ الْأَشْجَارِ الَّتِي هُنَاكَ.
قَالَ: وَحَكَى لِي الشَّيْخُ عَبْدُ الْكَافِي أَنَّهُ شَهِدَ مَرَّةً جِنَازَةً،
فَإِذَا عَبَدٌ أَسْوَدُ مَعَنَا، فَلَمَّا صَلَّى النَّاسُ عَلَيْهَا لَمْ
يُصَلِّ، فَلَمَّا حَضَرْنَا الدَّفْنَ نَظَرَ إِلَيَّ وَقَالَ: أَنَا
عَمَلُهُ. ثُمَّ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي قَبْرِ ذَلِكَ
الْمَيْتِ. قَالَ: فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا.
الْحَافِظُ أَبُو الْيُمْنِ أَمِينُ الدِّينِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ
الْوَهَّابِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَسَاكِرَ
الدِّمَشْقِيُّ
تَرَكَ الرِّيَاسَةَ وَالْأَمْلَاكَ، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ ثَلَاثِينَ سَنَةً،
مُقْبِلًا عَلَى الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ قَبُولٌ مِنَ
النَّاسِ شَامِيِّهِمْ وَمِصْرِيِّهِمْ وَغَيْرِهِمْ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ
النَّبَوِيَّةِ فِي ثَانِي رَجَبٍ مِنْهَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ الشُّجَاعِيُّ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ بِنِيَّةِ الْمُصَادَرَةِ
لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ قَدِمَ الشَّيْخُ نَاصِرُ الدِّينِ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ الْمَقْدِسِيُّ مِنَ الْقَاهِرَةِ عَلَى وِكَالَةِ بَيْتِ الْمَالِ
وَنَظَرِ الْأَوْقَافِ وَنَظَرِ الْخَاصِّ، وَمَعَهُ تَقَالِيدُ وَخِلَعٌ،
فَتَرَدَّدَ النَّاسُ إِلَى بَابِهِ، وَتَكَلَّمَ فِي الْأُمُورِ، وَآذَى كَثِيرًا
مِنَ النَّاسِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ بِسِفَارَةِ الْأَمِيرِ عَلَمِ الدِّينِ
الشُّجَاعِيِّ الْمُتَكَلِّمِ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، تَوَسَّلَ إِلَيْهِ
بِالشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ الْأَيْكِيِّ وَبِابْنِ الْوَجِيهِ الْكَاتِبِ،
وَكَانَا عِنْدَهُ لَهُمَا صُورَةٌ، وَقَدْ طَلَبَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ
الدَّمَاشِقَةِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
فَطُولِبُوا بِأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ، فَدَافَعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهَذَا مِمَّا
يُخَفِّفُ عُقُوبَتَهُ مِنْ ظُلْمِهِمْ، وَإِلَّا فَلَوْ صَبَرُوا لَعُوجِلَ
الظَّالِمُ بِالْعُقُوبَةِ، وَلَزَالَ عَنْهُمْ مَا يَكْرَهُونَ سَرِيعًا.
وَلَمَّا قَدِمَ ابْنُ الْمَقْدِسِيِّ إِلَى دِمَشْقَ كَانَ يَحْكُمُ بِتُرْبَةِ
أَمِّ الصَّالِحِ وَالنَّاسُ يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ وَيَخَافُونَ شَرَّهُ،
وَقَدِ اسْتَجَدَّ بَاشُورَةً بِبَابِ الْفَرَادِيسِ وَمَسَاطِبِ بَابِ
السَّاعَاتِ لِلشُّهُودِ، وَجَدَّدَ بَابَ الْجَابِيَةِ الشَّمَالِيَّ وَرَفَعَهُ
وَكَانَ مُتَوَاطِئًا، وَأَصْلَحَ الْجِسْرَ الَّذِي تَحْتَهُ،
وَكَذَلِكَ أَصْلَحَ جِسْرَ بَابِ الْفَرَادِيسِ تَحْتَ
السُّوَيْقَةِ الَّتِي جَدَّدَهَا عَلَيْهِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ. وَهَذَا مِنْ
أَحْسَنِ مَا عَمِلَهُ ابْنُ الْمَقْدِسِيِّ، وَقَدْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ كَثِيرَ
الْأَذِيَّةِ لِلنَّاسِ ظَلُومًا غَشُومًا، وَيَفْتَحُ عَلَى النَّاسِ أَبْوَابًا
مِنَ الظُّلْمِ لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا.
وَفِي عَاشِرِ جُمَادَى الْأُولَى قَدِمَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَيْضًا
قَاضِي الْقُضَاةِ حُسَامُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ وَالصَّاحِبُ تَقِيُّ الدِّينِ تَوْبَةُ
التَّكْرِيتِيُّ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ
سُلَيْمَانَ الزَّوَاوِيُّ الْمَالِكِيُّ عَلَى قَضَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بَعْدَ
شُغُورِهِ عَنْ حَاكِمٍ بِدِمَشْقَ ثَلَاثَ سِنِينَ وَنِصْفٍ، فَأَقَامَ شِعَارَ
الْمَنْصِبِ، وَدَرَّسَ وَنَشَرَ الْمَذْهَبَ، وَكَانَ لَهُ سُؤْدُدٌ وَرِيَاسَةٌ.
وَفِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ رَابِعَ شَعْبَانَ تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ
عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ بِالدُّوسَنْطَارِيَّةِ،
فَوَجْدَ عَلَيْهِ أَبُوهُ وَجْدًا شَدِيدًا، وَقَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيْهِ
بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، وَخَطَبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ مِنْ مُدَّةِ
سِنِينَ، فَدَفَنَهُ فِي تُرْبَتِهِ، وَجَعَلَ وِلَايَةَ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ
إِلَى ابْنِهِ الْأَشْرَفِ خَلِيلٍ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْآفَاقِ، وَلَمَّا
جَاءَتِ الْبَرِيدِيَّةُ فِي شَوَّالٍ بِوِلَايَةِ الْأَشْرَفِ خَلِيلٍ مِنْ
بَعْدِ أَبِيهِ، خُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ مِنْ بَعْدِ ذِكْرِ أَبِيهِ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ سَبْعَةَ
أَيَّامٍ، وَلَبِسَ الْجَيْشُ الْخِلَعَ وَرَكِبُوا، وَأَظْهَرَ النَّاسُ سُرُورًا
لِشَهَامَتِهِ.
وَفِي رَمَضَانَ بَاشَرَ حِسْبَةَ دِمَشْقَ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ السَّلْعُوسِ
عِوَضًا عَنْ شَرَفِ الدِّينِ بْنِ الشِّيرَجِيِّ.
وَفِيهِ تَوَجَّهَ الشَّيْخُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ
جَمَاعَةَ إِلَى خَطَابَةِ الْقُدْسِ بَعْدَ مَوْتِ خَطِيبِهِ قُطْبِ الدِّينِ،
فَبَاشَرَ بَعْدَهُ تَدْرِيسَ الْقَيْمُرِيَّةِ عَلَاءُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ
الْقَاضِي تَاجِ الدِّينِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ أَخُو قَاضِي مِصْرَ، ثُمَّ
بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ أَخَذَ ابْنُ جَمَاعَةَ قَضَاءَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
عِوَضًا عَنِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ.
وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُبِسَ نَصْرَانِيٌّ وَعِنْدَهُ مُسْلِمَةٌ، وَهُمَا
يَشْرَبَانِ الْخَمْرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَأَمَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ
حُسَامُ الدِّينِ لَاجِينُ بِتَحْرِيقِ النَّصْرَانِيِّ، فَبَذَلَ فِي نَفْسِهِ
أَمْوَالًا جَزِيلَةً، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، وَأُحْرِقَ بِسُوقِ الْخَيْلِ،
وَعَمِلَ الشِّهَابُ مَحْمُودٌ فِي ذَلِكَ أَبْيَاتًا فِي قَصِيدَةٍ مَلِيحَةٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْخَطِيبُ الْإِمَامُ قُطْبُ الدِّينِ أَبُو الزَّكَاءِ عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ
يَحْيَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ
الْقُرَشِيُّ الزُّهْرِيُّ
خَطِيبُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ مِنَ الصُّلَحَاءِ
الْكِبَارِ، مَجْمُوعًا عَنِ النَّاسِ، حَسَنَ الْهَيْئَةِ مَهِيبًا، عَزِيزَ
النَّفْسِ يُفْتِي النَّاسَ، وَيَذْكُرُ التَّفْسِيرَ مِنْ حِفْظِهِ فِي
الْمِحْرَابِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ وَكَانَ مِنَ
الْأَخْيَارِ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ لَيْلَةَ
الثُّلَاثَاءِ سَابِعِ رَمَضَانَ عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مِعْضَادِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ
مَاجِدٍ الْجَعْبَرِيُّ،
تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو إِسْحَاقَ
أَصْلُهُ مِنْ قَلْعَةِ جَعْبَرَ، ثُمَّ أَقَامَ بِالْقَاهِرَةِ، فَكَانَ يَعِظُ
النَّاسَ، وَكَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ بِكَلَامِهِ كَثِيرًا، تُوُفِّيَ
بِالْقَاهِرَةِ يَوْمَ السَّبْتِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ،
وَدُفِنَ فِي تُرْبَتِهِ بِالْحُسَيْنِيَّةِ، وَلَهُ نَظْمٌ حَسَنٌ، وَكَانَ مِنَ
الصُّلَحَاءِ الْمَشْهُورِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ يَاسِينُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِئُ الْحَجَّامُ
شَيْخُ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَاوِيِّ، وَقَدْ حَجَّ عِشْرِينَ
حَجَّةً، وَكَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ.
الْخُونْدَهُ غَازِيَةُ خَاتُونَ بِنْتُ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ
زَوْجَةُ الْمَلِكِ السَّعِيدِ
الْحَكِيمُ الرَّئِيسُ عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْحَزْمِ بْنِ
نَفِيسٍ
شَرَحَ " الْقَانُونَ " لِابْنِ سِينَا، وَصَنَّفَ " الْمُوجَزَ
" وَغَيْرَهُ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَكَانَ يَكْتُبُ مِنْ حِفْظِهِ، وَكَانَ
اشْتِغَالُهُ عَلَى ابْنِ الدَّخْوَارِيِّ، وَتُوُفِّيَ بِمِصْرَ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ.
الشَّيْخُ بَدْرُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ جَمَالِ
الدِّينِ بْنِ مَالِكٍ النَّحْوِيُّ
شَارِحُ " الْأَلْفِيَّةِ " الَّتِي عَمِلَهَا أَبُوهُ، وَهُوَ مِنْ
أَحْسَنِ الشُّرُوحِ وَأَكْثَرِهَا فَوَائِدَ، وَكَانَ لَطِيفًا ظَرِيفًا
فَاضِلًا، تُوُفِّيَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ الثَّامِنِ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ
مِنَ الْغَدِ بِبَابِ الصَّغِيرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ فَتْحُ مَدِينَةِ طَرَابُلُسَ، وَذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ
قَلَاوُونَ قَدِمَ بِالْجُيُوشِ الْمَنْصُورَةِ الْمِصْرِيَّةِ فِي صُحْبَتِهِ
إِلَى دِمَشْقَ فَدَخَلَهَا فِي الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ، ثُمَّ صَارَ
بِهِمْ وَبِجَيْشِ دِمَشْقَ وَصُحْبَتُهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُطَّوِّعَةِ;
مِنْهُمُ الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ الْحَنْبَلِيُّ قَاضِي الْحَنَابِلَةِ،
وَخَلْقٌ مِنَ الْمَقَادِسَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَنَازَلَ طَرَابُلُسَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ مُسْتَهَلَّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَحَاصَرَهَا بِالْمَجَانِيقِ
حِصَارًا شَدِيدًا، وَضَيَّقُوا عَلَى أَهْلِهَا تَضْيِيقًا عَظِيمًا، وَنَصَبَ
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ مَنْجَنِيقًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ
رَابِعِ رَبِيعٍ الْآخِرِ فُتِحَتْ طَرَابُلُسُ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ
النَّهَارِ عَنْوَةً، وَشَمَلَ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ جَمِيعَ مَنْ فِيهَا،
وَغَرِقَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْمِينَاءِ وَنُهِبَتِ الْأَمْوَالُ، وَسُبِيَتِ
النِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ، وَأُخِذَتِ الذَّخَائِرُ وَالْحَوَاصِلُ، وَقَدْ كَانَ
لَهَا فِي أَيْدِي الْفِرِنْجِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَخَمْسِمِائَةٍ إِلَى هَذَا
التَّارِيخِ، كَانَ الْمَلِكُ صَنْجِيلُ الْفِرِنْجِ حَاصَرَهَا سَبْعَ سِنِينَ
حَتَّى ظَفِرَ بِهَا كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فِي أَيْدِي
الْمُسْلِمِينَ مِنْ زَمَانِ مُعَاوِيَةَ، فَقَدْ فَتَحَهَا
سُفْيَانُ بْنُ مُجِيبٍ لِمُعَاوِيَةَ، فَأَسْكَنَهَا مُعَاوِيَةُ الْيَهُودَ،
ثُمَّ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ جَدَّدَ عِمَارَتَهَا، وَحَصَّنَهَا
وَأَسْكَنَهَا الْمُسْلِمِينَ، وَصَارَتْ آمِنَةً عَامِرَةً مُطَمْئِنَةً، وَبِهَا
ثِمَارُ الشَّامِ وَمِصْرَ، فَإِنَّ بِهَا الْجَوْزَ وَالْمَوْزَ وَالثَّلْجَ
وَالْقَصَبَ، وَالْمِيَاهُ جَارِيَةٌ فِيهَا تَصْعَدُ إِلَى أَمْكِنَةٍ عَالِيَةٍ،
وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مُدُنٍ مُتَقَارِبَةٍ، ثُمَّ صَارَتْ
بَلَدًا وَاحِدًا، ثُمَّ حُوِّلَتْ مِنْ مَوْضِعِهَا كَمَا سَيَأْتِي الْآنَ.
وَلَمَّا وَصَلَتِ الْبِشَارَةُ إِلَى دِمَشْقَ دَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَزُيِّنَتِ
الْبِلَادُ، وَفَرِحَ النَّاسُ فَرَحًا شَدِيدًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
ثُمَّ أَمَرَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ قَلَاوُونُ أَنْ تُهْدَمَ
الْبَلَدُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعَمَائِرِ وَالدُّورِ وَالْأَسْوَارِ الْحَصِينَةِ
الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُبْنَى عَلَى مَيْلٍ مِنْهَا بَلْدَةٌ
غَيْرُهَا أَمْكَنَ مِنْهَا وَأَحْسَنَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَهِيَ هَذِهِ
الْبَلْدَةُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: طَرَابُلُسُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ
تَعَالَى دَارَ أَمَانٍ وَإِيمَانٍ.
وَلَمَّا فَرَغَ السُّلْطَانُ مِنْ فَتْحِ طَرَابُلُسَ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ
مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مَسْرُورًا مَحْبُورًا، فَدَخَلَهَا يَوْمَ النِّصْفِ مِنْ
جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّهُ فَوَّضَ الْأُمُورَ وَالْكَلَامَ فِي
الْأَمْوَالِ إِلَى عَلَمِ الدِّينِ الشُّجَاعِيِّ، فَصَادَرَ جَمَاعَةً وَجَمَعَ
أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَحَصَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَذَى الْخَلْقِ، وَبِئْسَ هَذَا
الصَّنِيعُ; لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْجِيلٌ لِدَمَارِ الظَّالِمِ وَهَلَاكِهِ، فَلَمْ
يُغْنِ عَنِ الْمَنْصُورِ مَا جَمَعَ لَهُ الشُّجَاعِيُّ مِنَ الْأَمْوَالِ
شَيْئًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَعِشْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا الْيَسِيرَ حَتَّى أَخَذَهُ
اللَّهُ، كَمَا سَيَأْتِي. ثُمَّ سَافَرَ السُّلْطَانُ فِي ثَانِي شَعْبَانَ
بِجَيْشِهِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَدَخَلَهَا فِي أَوَاخِرِ
شَعْبَانَ.
وَفِيهَا فُتِحَتْ قِلَاعٌ كَثِيرَةٌ بِنَاحِيَةِ حَلَبَ;
كَرْكَرُ وَتِلْكَ النَّوَاحِي، وَكُسِرَتْ طَائِفَةٌ مِنَ التَّتَرِ هُنَاكَ،
وَقُتِلَ مَلِكُهُمْ خَرْبَنْدَا نَائِبُ التَّتَرِ عَلَى مَلَطْيَةَ.
وَفِيهَا تَوَلَّى الْحِسْبَةَ بِدِمَشْقَ جَمَالُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ
التَّقِيِّ تَوْبَةُ التَّكْرِيتِيُّ، ثُمَّ أَخَذَهَا بَعْدَ شُهُورٍ تَاجُ
الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ.
وَفِيهَا وُضِعَ مِنْبَرٌ عِنْدَ مِحْرَابِ الصَّحَابَةِ بِسَبَبِ عِمَارَةٍ
كَانَتْ فِي الْمَقْصُورَةِ، فَصَلَّى بُرْهَانُ الدِّينِ الْإِسْكَنْدَرِيُّ
نَائِبُ الْخَطِيبِ بِالنَّاسِ هُنَاكَ مُدَّةَ شَهْرٍ الْجَمَاعَاتِ
وَالْجُمُعَاتِ، ابْتَدَءُوا ذَلِكَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّانِي
وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخَةُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ الرُّعَيْنِيِّ
زَوْجَةُ النَّجْمِ بْنِ إِسْرَائِيلَ، كَانَتْ مِنْ بَيْتِ الْفَقْرِ، لَهَا
سَلْطَنَةٌ وَإِقْدَامٌ وَتَرْجَمَةٌ وَكَلَامٌ فِي طَرِيقَةِ الْحَرِيرِيَّةِ
وَغَيْرِهِمْ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَدُفِنَتْ عِنْدَ الشَّيْخِ
رَسْلَانَ
الْعَلَمُ بْنُ الصَّاحِبِ الْمَاجِنِ، هُوَ الشَّيْخُ الْفَاضِلُ عَلَمُ الدِّينِ
أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُكْرٍ
كَانَ مِنْ بَيْتِ عِلْمٍ وَرِيَاسَةٍ، وَقَدْ دَرَّسَ فِي بَعْضِ الْمَدَارِسِ،
وَكَانَتْ لَهُ وَجَاهَةٌ وَرِيَاسَةٌ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَأَقْبَلَ
عَلَى الْحَرْفَشَةِ وَصُحْبَةِ الْحَرَافِيشِ وَالتَّشَبُّهِ بِهِمْ فِي
اللِّبَاسِ وَالطَّرِيقَةِ، وَأَكْلِ الْحَشِيشِ
وَاسْتَعْمَلَ مَا كَانَ مِنْ إِلْفِهِمْ فِي الْخَلَاعَةِ
وَالْمُجُونِ وَالزَّوَائِدِ الرَّائِقَةِ الْفَائِقَةِ الَّتِي لَا يُلْحَقُ فِي
كَثِيرٍ مِنْهَا، وَقَدْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ فُضَلَاءُ يَنْهَوْنَهُ عَنْ
ذَلِكَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى
تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ.
وَلَمَّا وَلِيَ الْقُضَاةُ الْأَرْبَعَةُ كَانَ ابْنُ خَالَتِهِ تَاجُ الدِّينِ
ابْنُ بِنْتِ الْأَعَزِّ مُسْتَقِلًّا فِي الْقَضَاءِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ
ابْنُ الصَّاحِبِ الْمَذْكُورُ: مَا مِتُّ حَتَّى رَأَيْتُكَ صَاحِبَ رَبْعٍ.
فَقَالَ لَهُ: تَسْكُتُ وَإِلَّا خَلَّيْتُهُمْ يَسْقُونَكَ السُّمَّ. فَقَالَ
لَهُ: فِي قِلَّةِ دِينِكَ تَفْعَلُ، وَفِي قِلَّةِ عُقُولِهِمْ يَسْمَعُوا
مِنْكَ.
وَقَالَ يَمْدَحُ الْحَشِيشَةَ الْخَسِيسَةَ:
فِي خُمَارِ الْحَشِيشِ مَعْنَى مَرَامِي يَا أُهَيْلَ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ
حَرَّمُوهَا مِنْ غَيْرِ عَقْلٍ وَنَقْلٍ
وَحَرَامٌ تَحْرِيمُ غَيْرِ الْحَرَامِ
وَلَهُ أَيْضًا:
يا نَفْسُ مِيلِي إِلَى التَّصَابِي فَاللَّهْوُ مِنْهُ الْفَتَى يَعِيشُ
وَلَا تَمَلِّي مِنْ سُكْرِ يَوْمٍ إِنْ أَعْوَزَ الْخَمْرُ فَالْحَشِيشُ
وَلَهُ أَيْضًا:
جَمَعْتُ بَيْنَ الْحَشِيشِ وَالْخَمْرِ فَرُحْتُ لَا أَهْتَدِي مِنَ السُّكْرِ
يَا مَنْ يُرِينِي لُبَابَ مَدْرَسَتِي يَرْبَحُ وَاللَّهُ غَايَةُ الْأَجْرِ
وَقَالَ يَهْجُو الصَّاحِبَ بَهَاءَ الدِّينِ بْنَ
الْحِنَّا:
اقْعُدْ بِهَا وَتَهَنَّا لَا بُدَّ أَنْ تَتَعَنَّى
تَكْتُبْ عَلَى ابْنِ مُحَمَّدْ مِنْ أَيْنَ لَكَ يَا بْنَ حِنَّا
فَاسْتَدْعَاهُ فَضَرَبَهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ إِلَى الْمَارَسْتَانِ، فَمَكَثَ
فِيهِ سَنَةً، ثُمَّ أُطْلِقَ.
شَمْسُ الدِّينِ الْأَصْبَهَانِيُّ شَارِحُ " الْمَحْصُولِ " مُحَمَّدُ
بْنُ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ السَّلْمَانِيُّ الْعَلَّامَةُ
قَدِمَ دِمَشْقَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَنَاظَرَ الْفُقَهَاءَ،
وَاشْتُهِرَتْ فَضَائِلُهُ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَشَرَحَ " الْمَحْصُولَ
" لِلرَّازِيِّ، وَصَنَّفَ الْقَوَاعِدَ فِي أَرْبَعَةِ فُنُونٍ ; أُصُولِ
الْفِقْهِ، وَأُصُولِ الدِّينِ، وَالْمَنْطِقِ، وَالْخِلَافِ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ
جَيِّدَةٌ بِالْمَنْطِقِ وَالنَّحْوِ وَالْأَدَبِ، وَقَدْ رَحَلَ إِلَى مِصْرَ،
فَدَرَّسَ بِمَشْهَدِ الْحُسَيْنِ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَرَحَلَ
إِلَيْهِ الطَّلَبَةُ، تُوُفِّيَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ فِي الْقَاهِرَةِ
عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
الشَّمْسُ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَفِيفِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ التِّلْمِسَانِيُّ
الشَّاعِرُ الْمُطَبِّقُ، كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، فَتَأَلَّمَ
لَهُ وَوَجَدَ عَلَيْهِ وَجْدًا شَدِيدًا، وَرَثَاهُ بِأَشْعَارٍ كَثِيرَةٍ،
تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ
رَجَبٍ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ
بِالصُّوفِيَّةِ. فَمِنْ رَائِقِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
وَإِنَّ ثَنَايَاهُ نُجُومٌ لِبدْرِهِ وَهُنَّ لِعِقْدِ الْحُسْنِ فِيهِ فَرَائِدُ
وَكَمْ يَتَجَافَى خَصْرُهُ وَهْوَ نَاحِلٌ وَكَمْ يَتَحَلَّى ثَغْرُهُ وَهُو
بَارِدُ
وَلَهُ يَذُمُّ الْحَشِيشَةَ:
مَا لِلْحَشِيشَةِ فَضْلٌ عِنْدَ آكِلِهَا لَكِنَّهَ غَيْرُ مَصْرُوفٍ إِلَى
رَشَدِهْ
صَفْرَاءُ فِي وَجْهِهِ خَضْرَاءُ فِي فَمِهِ حَمْرَاءُ فِي عَيْنَهِ سَوْدَاءُ
فِي كَبِدِهِ
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا:
بَدَا وَجْهُهُ مِنْ فَوْقِ ذَابِلِ قَدِّهِ وَقَدْ لَاحَ مِنْ سُودِ الذَّوَائِبِ
فِي جُنْحِ
فَقُلْتُ عَجِيبٌ كَيْفَ لَمْ يَذْهَبِ الدُّجَى وَقَدْ طَلَعَتْ شَمْسُ
النَّهَارِ عَلَى رُمْحِ
وَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ أَبْيَاتٍ:
مَا أَنْتَ عِنْدِي وَالْقَضِي بُ اللَّدْنُ فِي حَدٍّ سَوَا
هَذَاكَ حَرَّكَهُ الْهَوَا ءُ وَأَنْتَ حَرَّكْتَ الْهَوَى
الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ الْمَلِكِ الصَّالِحِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَادِلِ
تُوُفِّيَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ثَامِنَ عَشَرَ شَعْبَانَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ مِنْ يَوْمِهِ بِتُرْبَةِ جَدِّهِ، وَكَانَ نَاظِرَهَا،
وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ يُحِبُّ أَهْلَهُ، وَكَانَ فِيهِ
لُطْفٌ وَتَوَاضُعٌ.
الشَّيْخُ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ يُوسُفَ الْبَعْلَبَكِّيُّ الْحَنْبَلِيُّ
شَيْخُ دَارِ الْحَدِيثِ النُّورِيَّةِ وَمَشْهَدِ ابْنِ عُرْوَةَ، وَشَيْخُ
الصَّدْرِيَّةِ، كَانَ يُفْتِي وَيُفِيدُ النَّاسَ مَعَ دِيَانَةٍ وَصَلَاحٍ
وَزَهَادَةٍ وَعِبَادَةٍ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ،
وَتُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ وَكَانَ الْخَلِيفَةُ
الْحَاكِمَ الْعَبَّاسِيَّ، وَنَائِبُ مِصْرَ حُسَامَ الدِّينِ طُرُنْطَايَ،
وَنَائِبُ الشَّامِ حُسَامَ الدِّينِ لَاجِينَ، وَقُضَاةُ الشَّامِ شِهَابَ
الدِّينِ بْنَ الْخَوِّييِّ الشَّافِعِيَّ، وَحُسَامَ الدِّينِ الْحَنَفِيَّ،
وَنَجْمَ الدِّينِ بْنَ شَيْخِ الْجَبَلِ الْحَنْبَلِيَّ، وَجَمَالَ الدِّينِ
الزَّوَاوِيَّ الْمَالِكِيَّ.
وَجَاءَ الْبَرِيدُ بِطَلَبِ شَمْسِ الدِّينِ سُنْقُرَ الْأَعْسَرِ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَأَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ وَقَوَّاهُ، وَشَدَّ
يَدَهُ، وَأَمَرَهُ بِاسْتِخْلَاصِ الْأَمْوَالِ، وَزَادَهُ شَدَّ الْجُيُوشِ،
وَالْكَلَامَ عَلَى الْحُصُونِ إِلَى الْبِيرَةِ وَكَخْتَا وَغَيْرِ ذَلِكَ،
فَقَوِيَتْ نَفْسُهُ وَزَادَ تَجَبُّرُهُ، وَلَكِنْ كَانَ يَرْجِعُ إِلَى مُرُوءَةٍ
وَسَتْرٍ، وَيَنْفَعُ مَنْ يَنْتَمِي إِلَيْهِ، وَذَلِكَ مَوَدَّةٌ فِي الدُّنْيَا
فِي أَيَّامٍ قَلَائِلَ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ جَاءَ الْبَرِيدُ بِالْكَشْفِ عَلَى نَاصِرِ الدِّينِ
بْنِ الْمَقْدِسِيِّ وَكَيْلِ بَيْتِ الْمَالِ وَنَاظِرِ الْخَاصِّ وَالْأَوْقَافِ،
فَظَهَرَتْ عَلَيْهِ مَخَازٍ مِنْ أَكَلِ الْأَوْقَافِ وَغَيْرِهَا، فَرُسِمَ
عَلَيْهِ بِالْعَذْرَاوِيَّةِ، وَطُولِبَ بِتِلْكَ الْأَمْوَالِ، وَضُيِّقَ
عَلَيْهِ،
وَعَمِلَ فِيهِ سَيْفُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ
السَّامَرِّيُّ قَصِيدَةً يَتَشَفَّى فِيهَا لِمَا كَانَ أَسَدَى إِلَيْهِ مِنَ
الظُّلْمِ وَالْإِيذَاءِ، مَعَ أَنَّهُ رَاحَ إِلَيْهِ، وَتَغَمَّمَ لَهُ
وَتَمَازَحَا هُنَالِكَ، ثُمَّ جَاءَ الْبَرِيدُ بِطَلَبِهِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، فَخَافَ النُّوَّابُ مِنْ ذَهَابِهِ إِلَيْهَا وَفُضُولِهِ وَشَرِّهِ،
فَأَصْبَحَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَالِثَ شَعْبَانَ وَهُوَ مَشْنُوقٌ
بِالْمَدْرَسَةِ الْعَذْرَاوِيَّةِ، فَطُلِبَتِ الْقُضَاةُ وَالشُّهُودُ،
فَشَاهَدُوهُ كَذَلِكَ، ثُمَّ جُهِّزَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ،
وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ عِنْدَ أَبِيهِ، وَكَانَ مُدَرِّسًا
بالرَّوَاحِيَّةِ وَتُرْبَةِ أُمِّ الصَّالِحِ مَعَ الْوِكَالَتَيْنِ وَالنَّظَرِ.
وَجَاءَ الْبَرِيدُ بِعَمَلِ مَجَانِيقَ لِحِصَارِ عَكَّا، فَرَكِبَ الْأَعْسَرُ
إِلَى أَرَاضِي بَعْلَبَكَّ لِمَا هُنَالِكَ مِنَ الْأَخْشَابِ الْعَظِيمَةِ
الَّتِي لَا يُوجَدُ مِثْلُهَا بِدِمَشْقَ، وَهِيَ تَصْلُحُ لِذَلِكَ، فَكَثُرَتِ
الْجِنَايَاتُ وَالْجِبَايَاتُ وَالسُّخْرُ، وَكَلَّفُوا النَّاسَ تَكْلِيفًا
كَثِيرًا، وَأَخَذُوا أَخْشَابَ النَّاسِ، وَحُمِلَتْ إِلَى دِمَشْقَ بِكُلْفَةٍ
عَظِيمَةٍ وَشِدَّةٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفَاةُ الْمَلَكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ
بَيْنَمَا النَّاسُ فِي هَذَا الْهَمِّ وَالْمُصَادَرَاتِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ إِذْ
وَرَدَتْ بَرِيدِيَّةٌ، فَأُخْبِرُوا بِوَفَاةِ الْمَلَكِ الْمَنْصُورِ يَوْمَ
السَّبْتِ سَادِسِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، بِالْمُخَيَّمِ ظَاهِرَ
الْقَاهِرَةِ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى قَلْعَةِ الْجَبَلِ لَيْلًا، وَجَلَسَ بَعْدَهُ
وَلَدُهُ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ خَلِيلٌ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ لَهُ، وَحَلَفَ
لَهُ جَمِيعُ الْأُمَرَاءِ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَرَكِبَ فِي
أُبَّهَةِ الْمَلِكِ، وَالْعَسْكَرُ كُلُّهُمْ فِي خِدْمَتِهِ مُشَاةً مِنْ
قَلْعَةِ الْجَبَلِ إِلَى الْمَيْدَانِ الْأَسْوَدِ الَّذِي هُوَ سُوقُ الْخَيْلِ،
وَعَلَى الْأُمَرَاءِ وَالْمُقْدِمِينَ الْخِلَعُ وَعَلَى الْقُضَاةِ
وَالْأَعْيَانِ، وَلَمَّا جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ حَلَفَ
لَهُ الْأُمَرَاءُ بِالشَّامِ، وَقَبَضَ عَلَى حُسَامِ
الدِّينِ طُرُنْطَايِ نَائِبِ أَبِيهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً
جِدًّا، فَأَنْفَقَ مِنْهَا عَلَى الْعَسْكَرِ.
وَفِيهَا وَلِيَ خَطَابَةَ دِمَشْقَ زَيْنُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ مَكِّيِّ بْنِ
الْمُرَحِّلِ عِوَضًا عَنْ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ الْكَافِي، وَكَانَ
ذَلِكَ بِمُسَاعَدَةِ الْأَعْسَرِ، وَتَوَلَّى نَظَرَ الْجَامِعِ الرَّئِيسُ
وَجِيهُ الدِّينِ بْنُ الْمُنَجَّا الْحَنْبَلِيُّ، عِوَضًا عَنْ نَاصِرِ الدِّينِ
بْنِ الْمَقْدِسِيِّ، وَثَمَّرَ وَقَفَهُ وَعَمَّرَهُ، وَزَادَ مِائَةً
وَخَمْسِينَ أَلْفًا.
وَفِيهَا احْتَرَقَتْ دَارُ صَاحِبِ حَمَاةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ فِيهَا
نَارٌ فِي غَيْبَتِهِ، فَلَمْ يَتَجَاسَرْ أَحَدٌ يَدْخُلُهَا، فَعَمِلَتِ
النَّارُ فِيهَا يَوْمَيْنِ، فَاحْتَرَقَتْ وَاحْتَرَقَ كُلُّ مَا فِيهَا.
وَفِي شَوَّالٍ دَرَّسَ بِتُرْبَةِ أُمِّ الصَّالِحِ بَعْدَ ابْنِ الْمَقْدِسِيِّ
الْقَاضِي إِمَامُ الدِّينِ الْقُونَوِيُّ.
وَفِيهَا بَاشَرَ الشَّرَفُ حَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ
قَضَاءَ الْحَنَابِلَةِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ عَمِّهِ نَجْمِ الدِّينِ بْنِ شَيْخِ
الْجَبَلِ، عَنْ مَرْسُومِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَبْلَ وَفَاتِهِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الشَّامِ الْأَمِيرُ بَدْرُ
الدِّينِ بَكْتُوتُ الزُّوبَاسِيُّ، وَحَجَّ قَاضِي الْقُضَاةِ شِهَابُ الدِّينِ
بْنُ الْخُوَيِّيِّ، وَشَمْسُ الدِّينِ بْنُ السَّلْعُوسِ، وَمُقَدَّمُ الرَّكْبِ
الْأَمِيرُ عُتْبَةُ، فَتَوَهَّمَ مِنْهُ أَبُو نُمَيٍّ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا
عَدَاوَةٌ، فَأَغْلَقَ أَبْوَابَ مَكَّةَ، وَمَنَعَ النَّاسَ مِنْ دُخُولِهَا،
فَأُحْرِقَ الْبَابُ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ، وَنُهِبَتْ بَعْضُ الْأَمَاكِنِ،
وَجَرَتْ خُطُوبٌ فَظِيعَةٌ، ثُمَّ أَرْسَلُوا الْقَاضِيَ ابْنَ
الْخُوَيِّيِّ لِيُصْلِحَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَمَّا
اسْتَقَرَّ عِنْدَ أَبِي نُمَيٍّ رَحِيلُ الرُّكُوبِ وَبَقِيَ هُوَ فِي الْحَرَمِ
وَحْدَهُ، أَرْسَلَ مَعَهُ أَبُو نُمَيٍّ مَنْ أَلْحَقَهُ بِهِمْ سَالِمًا
مُعَظَّمًا. وَجَاءَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ الْمَنْصُورِ إِلَى النَّاسِ وَهُمْ
بِعَرَفَاتٍ، وَهَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ، وَجَاءَ كِتَابٌ يَسْتَحِثُّ الْوَزِيرَ
ابْنَ السَّلْعُوسِ فِي الْمَسِيرِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَبَيْنَ
الْأَسْطُرِ بِخَطِّ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ: يَا شُقَيْرُ، يَا وَجْهَ الْخَيْرِ،
احْضُرْ لِتَتَسَلَّمَ الْوِزَارَةَ. فَسَاقَ إِلَى الْقَاهِرَةِ، فَوَصَلَهَا
يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ عَاشِرَ الْمُحَرَّمِ، فَتَسَلَّمَ الْوِزَارَةَ كَمَا قَالَ
السُّلْطَانُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ قَلَاوُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّرْكِيُّ
الصَّالِحِيُّ الْأَلْفِيُّ
اشْتَرَاهُ الْمَلِكُ الصَّالِحُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ بْنُ الْمَلِكِ
الْكَامِلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ بِأَلْفِ
دِينَارٍ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ عِنْدَهُ وَبَعْدَهُ، وَلَمَّا
تَزَوَّجَ الْمَلِكُ السَّعِيدُ بْنُ الظَّاهِرِ بِابْنَتِهِ غَازِيَةَ خَاتُونَ،
عَظُمَ شَأْنُهُ جِدًّا عِنْدَ الظَّاهِرِ، وَمَا زَالَ يَرْتَفِعُ فِي
الدَّوْلَةِ حَتَّى صَارَ أَتَابِكَ سَلَامُشَ بْنِ الظَّاهِرِ، ثُمَّ رَفَعَهُ
مِنَ الْبَيْنِ وَاسْتَقَلَّ بِالْمُلْكِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ،
وَكَسَرَ التَّتَارَ عَلَى حِمْصَ فِي سَنَةِ ثَمَانِينَ، فَأَحَبَّهُ النَّاسُ،
وَفَتَحَ الْمَرْقَبَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ، وَفَتَحَ طَرَابُلُسَ
سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ، وَعَزَمَ عَلَى فَتْحِ عَكَّا وَبَرَزَ لَهَا،
فَعَالَجَتْهُ الْمَنِيَّةُ فِي السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ،
وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِمَدْرَسَتِهِ الْهَائِلَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بَيْنَ
الْقَصْرَيْنِ الَّتِي لَيْسَ بِدِيَارِ مِصْرَ وَلَا
بِالشَّامِ مِثْلُهَا، وَفِيهَا دَارُ حَدِيثٍ وَمَارَسْتَانُ، وَعَلَيْهَا
أَوْقَافٌ دَارَّةٌ كَثِيرَةٌ عَظِيمَةٌ، مَاتَ عَنْ قَرِيبٍ مِنْ سِتِّينَ
سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ حَسَنَ
الصُّورَةِ مَهِيبًا، عَلَيْهِ أُبَّهَةُ السَّلْطَنَةِ وَمَهَابَةُ الْمُلْكِ،
تَامَّ الْقَامَةِ، حَسَنَ اللِّحْيَةِ، عَالِيَ الْهِمَّةِ، شُجَاعًا وَقُورًا،
سَامَحَهُ اللَّهُ.
الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ طُرُنْطَايُ
نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْمَنْصُورِيَّةِ بِمِصْرَ، أَخْذَهُ الْأَشْرَفُ
فَسَجَنَهُ بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ ثُمَّ قَتَلَهُ، وَبَقِيَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ
لَا يُدْرَى بِهِ، ثُمَّ لُفَّ فِي حَصِيرٍ وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ، وَحَنَّ
عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ، فَكُفِّنَ كَآحَادِ الْفُقَرَاءِ بَعْدَ النَّعِيمِ
الْكَثِيرِ، وَالدُّنْيَا الْمُتَّسِعَةِ، وَالْكَلِمَةِ النَّافِذَةِ، وَقَدْ
أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنْ حَوَاصِلِهِ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَسَبْعِينَ
قِنْطَارًا بِالْمِصْرِيِّ فِضَّةً، وَمِنَ الْجَوَاهِرِ شَيْئًا كَثِيرًا، سِوَى
الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْجِمَالِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْبُسُطِ الْجِيَادِ،
وَالْأَسْلِحَةِ الْمُثَمَّنَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحَوَاصِلِ
وَالْأَمْلَاكِ بِمِصْرَ وَالشَّامِ، وَتَركَ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا أَعْمَى،
وَقَدْ دَخَلَ هَذَا الْأَعْمَى عَلَى الْأَشْرَفِ، فَوَضَعَ الْمِنْدِيلَ عَلَى
وَجْهِهِ وَقَالَ: شَيْءٌ لِلَّهِ. وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ لَهُمْ أَيَّامًا لَا
يَجِدُونَ شَيْئًا يَأْكُلُونَهُ، فَرَقَّ لَهُ وَأَطْلَقَ لَهُمُ الْأَمْلَاكَ
يَأْكُلُونَ مِنْ رِيعِهَا، فَسُبْحَانَ اللَّهِ الْمُتَصَرِّفِ فِي خَلْقِهِ
بِمَا يَشَاءُ، يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ رَشِيدُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ مَسْعُودٍ الْفَارِقِيُّ الشَّافِعِيُّ
مُدَرِّسُ الظَّاهِرِيَّةِ، تُوُفِّيَ بِهَا وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ، وُجِدَ
مَخْنُوقًا فِي
الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ، وَقَدْ سَمِعَ
الْحَدِيثَ، وَكَانَ مُنْفَرِدًا فِي فُنُونٍ مِنَ الْعُلُومِ كَثِيرَةٍ ; مِنْهَا
النَّحْوُ وَالْأَدَبُ وَحَلُّ الْمُتَرْجَمِ وَالْكِتَابَةُ وَالْإِنْشَاءُ
وَعِلْمُ الْفَلَكِ وَالنُّجُومِ وَضَرْبُ الرَّمْلِ وَالْحِسَابُ وَغَيْرُ
ذَلِكَ، وَلَهُ نَظْمٌ حَسَنٌ.
الْخَطِيبُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْكَافِي بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْكَافِي الرَّبَعِيُّ
تُوُفِّيَ بِدَارِ الْخَطَابَةِ، وَحَضَرَ النَّاسُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ يَوْمَ
السَّبْتِ سَلْخَ جُمَادَى الْأُولَى، وَحُمِلَ إِلَى السَّفْحِ، فَدُفِنَ إِلَى
جَانِبِ الشَّيْخِ يُوسُفَ الْفُقَاعِيِّ.
فَخْرُ الدِّينِ أَبُو الطَّاهِرِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِزِّ الْقُضَاةِ أَبِي
الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي الْيُمْنِ
الشَّيْخُ الزَّاهِدُ الْمُتَقَلِّلُ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، تُوُفِّيَ فِي
الْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ، وَدُفِنَ
بِتُرْبَةِ بَنِي الزَّكِيِّ بِقَاسِيُونَ، مَحَبَّةً فِي مُحْيِي الدِّينِ بْنِ
عَرَبِيٍّ ; فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ مِنْ كَلَامِهِ كُلَّ يَوْمٍ وَرَقَتَيْنِ،
وَمِنَ الْحَدِيثِ وَرَقَتَيْنِ، وَكَانَ مَعَ هَذَا يُحْسِنُ الظَّنَّ بِهِ،
وَكَانَ يُصَلِّي مَعَ الْأَئِمَّةِ كُلِّهِمْ بِالْجَامِعِ، وَقَدْ أَخْبَرَ
عَنْهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ رَأَى بِخَطِّهِ:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَيْنُهُ
وَقَدْ صَحَّحَ عَلَى " عَيْنُهُ "، وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ الْمَرْوِيُّ
عَمَّنْ أَنْشَدَ هَذَا الشِّعْرَ أَوَّلًا:
تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
وَلَهُ شِعْرٌ فَمِنْهُ:
وَالنَّهْرُ قَدْ جُنَّ بِالْغُصُونِ هَوًى فَرَاحَ فِي قَلْبِهِ يُمَثِّلُهَا
فَغَارَ مِنْهُ النَّسِيمُ عَاشِقُهَا فَجَاءَ عَنْ وَصْلِهِ يُمَيِّلُهَا
وَلَهُ أَيْضًا:
لَمَّا تَحَقَّقَ بِالْإِمْكَانِ فَوْقَكُمُ وَقَدْ بَدَا حُكْمُهُ فِي عَالَمِ
الصُّوَرِ
تَمَيَّزَ الْجَمْعُ عَنْهُ وَهُوَ مُتَّحِدٌ
فَلَاحَ فَوْقَكُمُ فِي عَالَمِ الصُّوَرِ
وَلَهُ:
لِي سَادَةٌ لَا أَرَى سِوَاهُمُ هُمْ عَيْنُ مَعْنَايَ عَيْنُ جَوْفِي
لَقَدْ أَحَاطُوا بِكُلِّ جُزْءٍ مِنِّي وَعَزَّوا عَنْ دَرْكِ طَرْفِي
هُمْ نَظَرُوا فِي عُمُومِ فَقْرِي وَطُولِ ذُلِّي وَفَرْطِ ضَعْفِي
فَعَامَلُونِي بِبَحْتِ جُودٍ وَصَرْفِ بِرٍّ وَمَحْضِ لُطْفِ
فَلَا تَلُمْ إِنْ جَرَرْتُ ذَيْلِي فَخْرًا بِهِمْ أَوْ ثَنَيْتُ عِطْفِي
وَلَهُ:
مَوَاهِبُ ذِي الْجَلَالِ لَدَيَّ تَتْرَى فَقَدْ أَخْرَسْنَنِي وَنَطَقْنَ
شُكْرَا
فَنُعْمَى إِثْرَ نُعْمَى إِثْرَ نُعْمَى وَبُشْرَى بَعْدَ
بُشْرَى بَعْدَ بُشْرَى
لَهَا بَدْءٌ وَلَيْسَ لَهَا انْتِهَاءٌ يَعُمُّ مَزِيدُهَا دُنْيَا وَأُخْرَى
الْحَاجُّ طَيْبَرْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَلَاءُ الدِّينِ الْوَزِيرِيُّ
صِهْرُ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ ذَوِي الْحَلِّ
وَالْعَقْدِ، وَكَانَ دَيِّنًا كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ، لَهُ خَانٌ بِدِمَشْقَ
أَوْقَفَهُ، وَلَهُ فِي فِكَاكِ الْأَسْرَى وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَوْصَى عِنْدَ
مَوْتِهِ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ تُصْرَفُ عَلَى الْجُنْدِ بِالشَّامِ وَمِصْرَ،
فَحَصَلَ لِكُلِّ جُنْدِيٍّ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ،
وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِسَفْحِ الْمُقَطَّمِ.
قَاضِي الْقُضَاةِ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الشَّيْخِ
شَمْسِ الدِّينِ بْنِ أَبِي عُمَرَ الْمَقْدِسِيُّ
تُوُفِّيَ ثَانِي عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ
كَثِيرٌ وَنَائِبُ السَّلْطَنَةِ، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ، وَلَهُ أَرْبَعُونَ
سَنَةً سَوَاءً، وَكَانَ فَاضِلًا بَارِعًا خَطِيبًا مُدَرِّسًا، دَرَّسَ
بِأَكْثَرِ الْمَدَارِسِ، وَهُوَ شَيْخُ الْحَنَابِلَةِ وَابْنُ شَيْخِهِمْ،
وَتَوَلَّى بَعْدَهُ الْقَضَاءَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ حَسَنُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي عُمَرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِيهَا فُتِحَتْ عَكَّا وَبَقِيَّةُ السَّوَاحِلِ الَّتِي كَانَتْ بِأَيْدِي
الْفِرِنْجِ مِنْ مُدَدٍ مُتَطَاوِلَةٍ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِيهَا حَجَرٌ
وَاحِدٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبُو
الْعَبَّاسِ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ
خَلِيلُ بْنُ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، وَنَائِبُهُ بِمِصْرَ وَأَعْمَالِهَا
بَدْرُ الدِّينِ بَيْدَرَا، وَوَزِيرُهُ ابْنُ السَّلْعُوسِ الصَّاحِبُ شَمْسُ
الدِّينِ، وَنَائِبُهُ بِالشَّامِ حُسَامُ الدِّينِ لَاجِينُ السِّلَحْدَارُ
الْمَنْصُورِيُّ، وَقُضَاةُ الشَّامِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا،
وَصَاحِبُ الْيَمَنِ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ شَمْسُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ
الْمَنْصُورِ نُورِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَسُولٍ، وَصَاحِبُ مَكَّةَ
نَجْمُ الدِّينِ أَبُو نُمَيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
قَتَادَةَ الْحَسَنِيُّ، وَصَاحِبُ الْمَدِينَةِ عِزُّ الدِّينِ جَمَّازُ بْنُ
شِيحَةَ الْحُسَيْنِيُّ، وَصَاحِبُ الرُّومِ غِيَاثُ الدِّينِ كَيْخُسرُو بْنُ
رُكْنِ الدِّينِ قِلِيجَ أَرْسِلَانَ السَّلْجُوقِيُّ، وَصَاحِبُ حَمَاةَ
الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ تَقِيُّ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ
نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ تَقِيِّ الدِّينِ
مُحَمَّدٍ، وَسُلْطَانُ بِلَادِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَتِلْكَ
النَّوَاحِي أَرْغُوَنَ بْنُ أَبْغَا بْنِ هُولَاكُوَ بْنِ
تُولَى بْنِ جِنْكِزْخَانَ.
وَكَانَ أَوَّلَ هَذِهِ السَّنَةِ يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَفِيهِ تُصُدِّقَ عَنِ
الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ بِأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ، وَأُنْزِلَ السُّلْطَانُ إِلَى تُرْبَتِهِ فِي لَيْلَةِ
الْجُمُعَةِ، فَدُفِنَ بِهَا تَحْتَ الْقُبَّةِ، وَنَزَلَ فِي قَبْرِهِ بَدْرُ
الدِّينِ بَيْدَرَا وَعَلَمُ الدِّينِ الشُّجَاعِيُّ، وَفُرِّقَتْ صَدَقَاتٌ
كَثِيرَةٌ حِينَئِذٍ، وَلَمَّا قَدِمَ الصَّاحِبُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ
السَّلْعُوسِ مِنَ الْحِجَازِ خُلِعَ عَلَيْهِ لِلْوِزَارَةِ، وَكَتَبَ تَقْلِيدَهُ
بِهَا الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الظَّاهِرِ كَاتِبُ الْإِنْشَا
بِيَدِهِ، وَرَكِبَ الْوَزِيرُ فِي أُبَّهَةِ الْوِزَارَةِ إِلَى دَارِهِ
وَحَكَمَ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ قُبِضَ عَلَى شَمْسِ الدِّينِ سُنْقُرَ
الْأَشْقَرِ وَسَيْفِ الدِّينِ جُرْمَكَ النَّاصِرِيُّ، وَأُفْرِجَ عَنِ
الْأَمِيرِ زَيْنِ الدِّينِ كَتُبْغَا، وَكَانَ قَدْ قُبِضَ عَلَيْهِ مَعَ
طُرُنْطَايَ، وَرُدَّ عَلَيْهِ إِقْطَاعُهُ، وَأُعِيدَ التَّقِيُّ تَوْبَةُ إِلَى
وِزَارَةِ دِمَشْقَ مَرَّةً أُخْرَى.
وَفِيهَا أَثْبَتَ ابْنُ الْخُوَيِّيِّ مَحْضَرًا يَتَضَمَّنُ أَنْ يَكُونَ
تَدْرِيسُ النَّاصِرِيَّةِ لِلْقَاضِي الشَّافِعِيِّ، وَانْتَزَعَهَا مِنْ زَيْنِ
الدِّينِ الْفَارِقِيِّ.
ذِكْرُ فَتْحِ عَكَّا وَبَقِيَّةِ السَّوَاحِلِ
وَفِيهَا جَاءَ الْبَرِيدُ إِلَى دِمَشْقَ فِي مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
لِتَجْهِيزِ آلَاتِ الْحِصَارِ
لَعَكَّا، وَنُودِيَ فِي دِمَشْقَ: الْغُزَاةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى عَكَّا. وَقَدْ كَانَ أَهْلُ عَكَّا فِي هَذَا الْحِينِ عَدَوْا عَلَى مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأُبْرِزَتِ الْمَجَانِيقُ إِلَى نَاحِيَةِ الْجَسُورَةِ، وَخَرَجَتِ الْعَامَّةُ وَالْمُطَّوِّعَةُ يَجُرُّونَ فِي الْعَجَلِ، حَتَّى الْفُقَهَاءُ وَالْمُدَرِّسُونَ وَالصُّلَحَاءُ، وَتَوَلَّى سِيَاقَتَهَا الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ الدَّوَادَارِيُّ، وَخَرَجَتِ الْعَسَاكِرُ بَيْنَ يَدَيْ نَائِبِ الشَّامِ، وَخَرَجَ هُوَ فِي آخِرِهِمْ، وَلَحِقَهُ صَاحِبُ حَمَاةَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ، وَخَرَجَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ، وَاتَّصَلَ بِهِمْ عَسْكَرُ طَرَابُلُسَ، وَرَكِبَ الْأَشْرَفُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِعَسَاكِرِهِ قَاصِدًا عَكَّا، فَتَوَافَتِ الْجُيُوشُ هُنَالِكَ، فَنَازَلَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ رَابِعِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَنُصِبَتْ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ يُمْكِنُ نَصْبُهَا عَلَيْهَا، وَاجْتَهَدُوا غَايَةَ الِاجْتِهَادِ فِي مُحَارَبَتِهَا وَالتَّضْيِيقِ عَلَى أَهْلِهَا، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ بِالْجَامِعِ لِقِرَاءَةِ " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، فَقَرَأَهُ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ، وَحَضَرَ الْقُضَاةُ وَالْفُضَلَاءُ وَالْأَعْيَانُ، وَفِي أَثْنَاءِ مُحَاصَرَةِ عَكَّا وَقْعَ تَخْبِيطٌ مِنْ نَائِبِ الشَّامِ حُسَامِ الدِّينِ لَاجِينَ، فَتَوَهَّمَ أَنَّ السُّلْطَانَ يُرِيدُ مَسَكَهُ، وَكَانَ قَدْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ الْأَمِيرُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: أَبُو خُرْصٍ. فَرَكِبَ هَارِبًا فَرَدَّهُ عَلَمُ الدِّينِ الدَّوَادَارِيُّ بِالْمَسَابَهِ، وَجَاءَ بِهِ إِلَى السُّلْطَانِ، فَطَيَّبَ قَلْبَهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَبَعَثَهُ إِلَى قَلْعَةِ صَفَدَ، وَاحْتَاطَ عَلَى حَوَاصِلِهِ، وَرَسَمَ عَلَى أُسْتَدَارِهِ بَدْرِ الدِّينِ بَكَدَاشَ، وَجَرَى مَا لَا يَلِيقُ وُقُوعُهُ هُنَالِكَ، إِذِ الْوَقْتُ وَقْتُ عُسْرٍ وَضِيقٍ وَحِصَارٍ، وَصَمَّمَ السُّلْطَانُ عَلَى الْحِصَارِ، فَرَتَّبَ الْكُوسَاتِ ثَلَاثَمِائَةِ حِمْلٍ، ثُمَّ زَحَفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَابِعَ عَشَرَ
جُمَادَى الْأُولَى، وَدُقَّتِ الْكُوسَاتُ جُمْلَةً
وَاحِدَةً عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَطَلَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْأَسْوَارِ
مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَنُصِبَتِ السَّنَاجِقُ الْإِسْلَامِيَّةُ فَوْقَ
أَسْوَارِ الْبَلَدِ، فَوَلَّتِ الْفِرِنْجُ عِنْدَ ذَلِكَ الْأَدْبَارَ، وَرَكِبُوا
هَارِبِينَ فِي مَرَاكِبِ التُّجَّارِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ عَدَدٌ لَا يَعْلَمُهُمْ
إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَغَنِمُوا مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالرَّقِيقِ
وَالْبَضَائِعِ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، وَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِهَدْمِهَا
وَتَخْرِيبِهَا، بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَسَّرَ اللَّهُ
فَتَحَهَا نَهَارَ جُمُعَةٍ، كَمَا أَخَذَتْهَا الْفِرِنْجُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَسَلَّمَتْ صُورُ وَصِيدَا قِيَادَهُمَا إِلَى
الْأَشْرَفِ، فَاسْتَوْثَقَ السَّاحِلُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَتَنَظَّفَ مِنَ
الْكَافِرِينَ، وَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَجَاءَتِ الْبِطَاقَةُ إِلَى دِمَشْقَ بِذَلِكَ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ،
وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ فِي جَمِيعِ الْحُصُونِ، وَزُيَّنَتِ الْبِلَادُ
لِيَتَنَزَّهَ فِيهَا النَّاظِرُونَ وَالْمُتَفَرِّجُونَ، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ
إِلَى صُورَ أَمِيرًا، فَهَدَمَ أَسْوَارَهَا، وَعَفَا آثَارَهَا، وَقَدْ كَانَ
لَهَا فِي أَيْدِي الْفِرِنْجِ مِنْ سَنَةِ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
وَأَمَّا عَكَّا فَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ
أَخَذَهَا مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ، ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ جَاءُوا فَأَحَاطُوا
بِهَا بِجُيُوشٍ كَثِيرَةٍ، ثُمَّ جَاءَ صَلَاحُ الدِّينِ لِيُمَانِعَهُمْ عَنْهَا
مُدَّةَ سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا، ثُمَّ فِي آخِرِ ذَلِكَ اسْتَمْلَكُوهَا،
وَقَتَلُوا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ السُّلْطَانَ الْمَلِكَ الْأَشْرَفَ خَلِيلَ بْنَ الْمَنْصُورِ
قَلَاوُونَ سَارَ مِنْ عَكَّا قَاصِدًا دِمَشْقَ فِي أُبَّهَةِ الْمُلْكِ
وَحُرْمَةٍ وَافِرَةٍ، وَفِي صُحْبَتِهِ وَزِيرِهِ ابْنُ السَّلْعُوسِ
وَالْجُيُوشُ الْمَنْصُورَةُ، وَفِي هَذَا الْيَوْمِ اسْتَنَابَ بِالشَّامِ
الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ سَنْجَرُ الشُّجَاعِيُّ، وَسَكَنَ بِدَارِ
السَّعَادَةِ، وَزِيدَ فِي إِقْطَاعِهِ حَرَسْتَا، وَلَمْ تُقْطَعْ لِغَيْرِهِ،
وَإِنَّمَا كَانَتْ
لِمَصَالِحِ حَوَاصِلِ الْقَلْعَةِ، وَجُعِلَ لَهُ فِي
كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثُمِائَةٍ عَلَى دَارِ الطُّعْمِ، وَفُوِّضَ إِلَيْهِ أَنْ
يُطْلِقَ مِنَ الْخِزَانَةِ مَا يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ مُشَاوِرَةٍ وَلَا مُرَاجَعَةٍ،
وَأَرْسَلَهُ السُّلْطَانُ إِلَى صَيْدَا; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ بَقِيَ بِهَا
بُرْجٌ عَاصٍ، فَفَتَحَهُ وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِسَبَبِهِ، ثُمَّ عَادَ
سَرِيعًا إِلَى السُّلْطَانِ فَوَدَّعَهُ، وَسَارَ السُّلْطَانُ نَحْوَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ فِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ، وَبَعَثَهُ إِلَى بَيْرُوتَ لِيَفْتَحَهَا،
فَسَارَ إِلَيْهَا فَفَتَحَهَا فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ، وَسُلِّمَتْ عَثْلِيتُ
وَأَنْطَرْطُوسُ وَجُبَيْلٌ. وَلَمْ يَبْقَ بِالسَّوَاحِلِ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
- مَعْقِلٌ لِلْفِرِنْجِ إِلَّا بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَأَرَاحَ اللَّهُ
مِنْهُمُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، وَدَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى الْقَاهِرَةِ فِي
تَاسِعِ شَعْبَانَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ جِدًّا، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا،
وَأَفْرَجَ عَنْ بَدْرِ الدِّينِ بَيْسَرِي بَعْدَ سِجْنٍ تِسْعَ سِنِينَ، وَرَدَّ
عَلَيْهِ إِقْطَاعَهُ، وَرَجَعَ عَلَمُ الدِّينِ سَنْجَرُ الشُّجَاعِيُّ نَائِبُ
دِمَشْقَ إِلَى دِمَشْقَ فِي سَابِعِ وَعِشْرِينَ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ
نَظَّفَ السَّوَاحِلَ مِنَ الْفِرِنْجِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ
بِهَا حَجَرٌ.
وَفِي رَابِعِ رَمَضَانَ أُفْرِجَ عَنْ حُسَامِ الدِّينِ لَاجِينَ مِنْ قَلْعَةِ
صَفَدَ، وَمَعَهُ جَمَاعَةُ أُمَرَاءَ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ إِقْطَاعَاتِهِمْ
إِلَيْهِمْ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَكْرَمَهُمْ.
وَفِي أَوَائِلِ رَمَضَانَ طُلِبَ الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ مِنَ
الْقُدْسِ الشَّرِيفِ - وَهُوَ حَاكِمٌ بِهِ وَخَطِيبٌ فِيهِ - عَلَى الْبَرِيدِ
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَدَخَلَهَا فِي رَابِعَ عَشْرَةَ، وَأَفْطَرَ
لَيْلَتَئِذٍ عِنْدَ الْوَزِيرِ ابْنِ السَّلْعُوسِ، وَأَكْرَمَهُ جِدًّا وَاحْتَرَمَهُ،
وَكَانَتْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَصَرَّحَ الْوَزِيرُ
بِعَزْلِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ وَتَوْلِيَةِ ابْنِ جَمَاعَةَ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ قَضَاءَ الْقُضَاةِ، وَجَاءَ الْقُضَاةُ إِلَى
تَهْنِئَتِهِ، وَأَصْبَحَ الشُّهُودُ فِي خِدْمَتِهِ، وَمَعَ الْقَضَاءِ خَطَابَةُ
الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ، وَتَدْرِيسُ الصَّالِحِيَّةِ، وَرَكِبَ فِي الْخِلْعَةِ
وَالطَّرْحَةِ، وَرَسَمَ لِبَقِيَّةِ الْقُضَاةِ أَنْ يَسْتَمِرُّوا بِلُبْسِ
الطَّرَحَاتِ، وَذَهَبَ فَخَطَبَ بِالْجَامِعِ الْأَزْهَرِ، وَانْتَقَلَ إِلَى
الْمَدْرَسَةِ الصَّالِحِيَّةِ، وَدَرَّسَ بِهَا فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى،
وَكَانَ دَرْسًا حَافِلًا، وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ رَسَمَ السُّلْطَانُ
لِلْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَنْ يَخْطُبَ هُوَ بِنَفْسِهِ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ،
وَأَنْ يَذْكُرَ فِي خُطْبَتِهِ أَنَّهُ قَدْ وَلَّى السَّلْطَنَةَ لِلْأَشْرَفِ
خَلِيلِ بْنِ الْمَنْصُورِ، فَلَبِسَ خِلْعَةً سَوْدَاءَ، وَخَطَبَ النَّاسَ
بِالْخُطْبَةِ الَّتِي كَانَ خَطَبَ بِهَا فِي الدَّوْلَةِ الظَّاهِرِيَّةِ،
وَكَانَتْ مِنْ إِنْشَاءِ الشَّيْخِ شَرَفِ الدِّينِ الْمَقْدِسِيِّ فِي سَنَةِ
سِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَيَكُونُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ أَزْيَدُ مِنْ
ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَذَلِكَ بِجَامِعِ قَلْعَةِ الْجَبَلِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّابْنُ
جَمَاعَةَ يَخْطُبُ بِالْقَلْعَةِ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَكَانَ يَسْتَنِيبُ فِي
الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ.
وَأَمَّا ابْنُ بِنْتِ الْأَعَزِّ فَنَالَهُ مِنَ الْوَزِيرِ إِخْرَاقٌ
وَمُصَادَرَةٌ وَإِهَانَةٌ بَالِغَةٌ، وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُ مِنْ مَنَاصِبِهِ
شَيْئًا، وَكَانَ بِيَدِهِ سَبْعَةَ عَشَرَ مَنْصِبًا; مِنْهَا الْقَضَاءُ، وَالْخَطَابَةُ،
وَنَظَرُ الْأَحْبَاسِ، وَمَشْيَخَةُ الشُّيُوخِ، وَنَظَرُ الْخِزَانَةِ،
وَتَدَارِيسُ كِبَارٌ، وَصَادَرَهَ بِنَحْوٍ مَنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، غَيْرَ
مَرَاكِبِهِ وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ اسْتِكَانَةٌ لَهُ
وَلَا خُضُوعٌ، ثُمَّ عَادَ فَرْضِيَ عَنْهُ، وَوَلَّاهُ تَدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ.
وَعُمِلَتْ خَتْمَةٌ عِنْدَ قَبْرِ الْمَنْصُورِ فِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ
رَابِعِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَحَضَرَهَا الْقُضَاةُ وَالْأُمَرَاءُ، وَنَزَلَ
السُّلْطَانُ وَمَعَهُ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِمْ وَقْتَ السَّحَرِ، وَخَطَبَ
الْخَلِيفَةُ بَعْدَ الْخَتْمَةِ خُطْبَةً بَلِيغَةً، حَرَّضَ النَّاسَ فِيهَا
عَلَى غَزْوِ بِلَادِ الْعِرَاقِ، وَاسْتِنْقَاذِهَا مِنْ أَيْدِي التَّتَرِ،
وَقَدْ كَانَ الْخَلِيفَةُ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْتَجِبًا، فَرَآهُ
النَّاسُ جَهْرَةً، وَرَكِبَ فِي الْأَسْوَاقِ بَعْدَ
ذَلِكَ.
وَعَمِلَ أَهْلُ دِمَشْقَ خَتْمَةً عَظِيمَةً بِالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ إِلَى
جَانِبِ الْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، فَقُرِئَتْ خَتَمَاتٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ خَطَبَ
النَّاسَ بَعْدَهَا الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ الْفَارُوثِيُّ، ثُمَّ ابْنُ
الْبُزُورِيِّ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مَنْ لَهُ عَادَةٌ بِالْكَلَامِ، وَجَاءَتِ
الْبَرِيدِيَّةُ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الْعِرَاقِ، وَنُودِيَ فِي النَّاسِ
بِذَلِكَ، وَعُمِلَتْ سَلَاسِلُ عِظَامٌ بِسَبَبِ الْجَسُورَةِ عَلَى دِجْلَةَ
بَغْدَادَ، وَحُصِّلَتِ الْأُجُورُ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعِ
الْمَقْصُودُ، وَحَصَلَ لِبَعْضِ النَّاسِ أَذَىً بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا نَادَى نَائِبُ الشَّامِ الشُّجَاعِيُّ أَنْ لَا تَلْبَسَ امْرَأَةٌ
عِمَامَةً كَبِيرَةً، وَخَرَّبَ الْأَبْنِيَةَ الَّتِي عَلَى نَهْرِي بَانِيَاسَ
وَالْجَدَاوِلَ كُلَّهَا وَالْمَسَالِحَ وَالسِّقَايَاتِ الَّتِي عَلَى
الْأَنْهَارِ كُلِّهَا، وَأَخْرَبَ جِسْرَ الزَّلَابِيَّةِ وَمَا عَلَيْهِ مِنَ
الدَّكَاكِينِ، وَنَادَى أَنْ لَا يَمْشِيَ أَحَدٌ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ،
ثُمَّ أَطْلَقَ لَهُمْ هَذِهِ فَقَطْ، وَأَخْرَبَ الْحَمَّامَ الَّذِي كَانَ
بَنَاهُ الْمَلِكُ السَّعِيدُ ظَاهِرَ بَابِ النَّصْرِ، وَلَمْ يَكُنْ بِدِمَشْقَ
أَحْسَنُ مِنْهُ، وَوَسَّعَ الْمَيْدَانَ الْأَخْضَرَ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّمَالِ
مِقْدَارَ سُدُسِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّهْرِ إِلَّا
مِقْدَارًا يَسِيرًا، وَعَمِلَ هُوَ بِنَفْسِهِ وَالْأُمَرَاءُ فِي حِيطَانِهِ.
وَفِيهَا حُبِسَ الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ الْأَفْرَمُ الْمَنْصُورِيُّ
وَأَمِيرٌ آخَرُ مَعَهُ فِي الْقَلْعَةِ.
وَفِيهَا حُمِلَ الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ الدَّوَادَارِيُّ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ مُقَيَّدًا.
وَقَدْ نَظَمَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودٌ قَصِيدَةً فِي فَتْحِ عَكَّا:
الْحَمْدُ لِلَّهِ زَالَتْ دَوْلَةُ الصُّلْبِ وَعَزَّ
بِالتُّرْكِ دِينُ الْمُصْطَفَى الْعَرَبِيِّ هذا الذي كَانَتِ الْآمَالُ لَوْ
طَلَبَتْ
رُؤْيَاهُ فِي النَّوْمِ لَاسْتَحْيَتْ مِنَ الطَّلَبِ مَا بَعْدَ عَكَّا وَقَدْ
هُدَّتْ قَوَاعِدُهَا
فِي الْبَحْرِ لِلشِّرْكِ عِنْدَ الْبَرِّ مِنْ أَرَبِ لَمْ يَبْقَ مِنْ بَعْدِهَا
لِلْكُفْرِ إِذْ خَرِبَتْ
فِي الْبَحْرِ وَالْبَرِّ مَا يُنْجِي سِوَى الْهَرَبِ أُمُّ الْحُرُوبِ فَكَمْ
قَدْ أَنْشَأَتْ فِتَنًا
شَابَ الْوَلِيدُ بِهَا هَوْلًا وَلَمْ تَشُبِ يَا يَوْمَ عَكَّا لَقَدْ
أَنْسَيْتَ مَا سَبَقَتْ
بِهِ الْفُتُوحُ وَمَا قَدْ خُطَّ فِي الْكُتُبِ لَمْ يَبْلُغِ النُّطْقُ حَدَّ
الشُّكْرِ فِيكَ فَمَا
عَسَى يَقُومُ بِهِ ذُو الشِّعْرِ وَالْأَدَبِ أَغْضَبْتَ عُبَّادَ عِيسَى إِذْ
أَبَدْتَهُمُ
لِلَّهِ أَيُّ رِضًى فِي ذَلِكِ الْغَضَبِ وَأَشْرَفَ الْمُصْطَفَى الْهَادِي
الْبَشِيرُ عَلَى
ما أَسْلَفَ الْأَشْرَفُ السُّلْطَانُ مِنْ قُرَبِ فَقَرَّ عَيْنًا لِهَذَا
الْفَتْحِ وَابْتَهَجَتْ
بِبُشْرِهِ الْكَعْبَةُ الْغَرَّاءُ فِي الْحُجُبِ وَسَارَ فِي الْأَرْضِ سَيْرًا
قَدْ سَمِعْتُ بِهِ
فَالْبَرُّ فِي طَرَبٍ وَالْبَحْرُ فِي حَرَبِ
وَهِيَ طَوِيلَةٌ جِدًّا، وَلَهُ وَلِغَيْرِهِ فِي فَتْحِ عَكَّا أَشْعَارٌ
كَثِيرَةٌ.
وَلَمَّا رَجَعَ الْبَرِيدُ أَخْبَرَ بِأَنَّ السُّلْطَانَ لَمَّا عَادَ إِلَى
مِصْرَ خَلْعَ عَلَى وَزِيرِهِ ابْنِ السَّلْعُوسِ جَمِيعَ مَلَابِسِهِ الَّتِي
كَانَتْ عَلَيْهِ، وَمَرْكُوبَهُ الَّذِي كَانَ تَحْتَهُ، فَرَكِبَهُ وَرَسَمَ
لَهُ بِثَمَانِيَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ خِزَانَةِدِمَشْقَ، لِيَشْتَرِيَ
لَهُ بِهَا قَرْيَةَ قَرَحْتَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ انْتَهَتْ عِمَارَةُ قَلْعَةِ حَلَبَ بَعْدَ الْخَرَابِ
الَّذِي أَصَابَهَا مِنْ هُولَاكُو وَأَصْحَابِهِ عَامَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ.
وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا شُرِعَ فِي عِمَارَةِ قَلْعَةِ
دِمَشْقَ وَبِنَاءِ الدُّورِ السُّلْطَانِيَّةِ وَالطَّارِمَةِ وَالْقُبَّةِ
الزَّرْقَاءِ، حَسَبَ مَا رَسَمَ بِهِ السُّلْطَانُ الْأَشْرَفُ خَلِيلُ بْنُ
قَلَاوُونَ لِنَائِبِهِ عَلَمِ الدِّينِ سَنْجَرَ الشُّجَاعِيِّ.
وَفِيهَا فِي رَمَضَانَ أُعِيدَ إِلَى نِيَابَةِ الْقَلْعَةِ الْأَمِيرُ
أَرْجُوَاشُ، وَأُعْطِيَ إِقْطَاعَاتٍ سَنِيَّةً.
وَفِيهَا أُرْسِلَ الشَّيْخُ الرَّجِيحِيُّ مِنْ ذُرِّيَّةِ الشَّيْخِ يُونُسَ
مُضَيَّقًا عَلَيْهِ مَحْصُورًا إِلَى الْقَاهِرَةِ.
وَفِيهَا دَرَّسَ عِزُّ الدِّينِ الْفَارُوثِيُّ بِالْمَدْرَسَةِ النَّجِيبِيَّةِ
عِوَضًا عَنْ كَمَالِ الدِّينِ بْنِ خَلِّكَانَ، وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ دَرَّسَ
نَجْمُ الدِّينِ مَكِّيٌّ بِالرَّوَاحِيَّةِ عِوَضًا عَنْ نَاصِرِ الدِّينِ بْنِ
الْمَقْدِسِيِّ، وَفِيهِ دَرَّسَ كَمَالُ الدِّينِ الطَّبِيبُ بِالْمَدْرَسَةِ
الدَّخْوَارِيَّةِ الطِّبِّيَّةِ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ دَرَّسَ الشَّيْخُ جَلَالُ الدِّينِ الْخَبَّازِيُّ
بِالْخَاتُونِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَجَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْبَاجُرْبَقِيِّ
بِالْقِلَيْجَةِ، وَبُرْهَانُ الدِّينِ الْإِسْكَنْدَرِيُّ بِالْقُوصِيَّةِ
الَّتِي بِالْجَامِعِ، وَالشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ الدِّمَشْقِيُّ
بِالشَّرِيفِيَّةِ عِنْدَ حَارَةِ الْغُرَبَاءِ.
وَفِيهَا أُعِيدَتِ النَّاصِرِيَّةُ إِلَى الْفَارِقِيِّ، وَفِيهِ دَرَّسَ
بِالْأَمِينِيَّةِ الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ بْنُ صَصْرَى بَعْدَ ابْنِ
الزَّمَلْكَانِيِّ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ الْعَادِلِيَّةُ الصَّغِيرَةُ لِكَمَالِ
الدِّينِ بْنِ الزَّمَلْكَانِيِّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَرْغُوَنُ بْنُ أَبْغَا مَلِكُ التَّتَرِ
كَانَ شَهْمًا شُجَاعًا سَفَّاكًا لِلدِّمَاءِ، قَتَلَ عَمَّهُ السُّلْطَانَ
أَحْمَدَ بْنَ هُولَاكُو، فَعَظُمَ فِي أَعْيُنِ الْمَغُولِ، فَلَمَّا كَانَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ مِنْ شَرَابٍ شَرِبَهُ فِيهِ سُمٌّ، فَاتَّهَمَتِ
الْمَغُولُ الْيَهُودَ بِهِ - وَكَانَ وَزِيرُهُ سَعْدُ الدَّوْلَةِ بْنُ
الصَّيْفِيِّ يَهُودِيًّا - فَقَتَلُوا مِنَ الْيَهُودِ خَلْقًا كَثِيرًا،
وَنَهَبُوا مِنْهُمْ أَمْوَالًا عَظِيمَةً جِدًّا فِي جَمِيعِ مَدَائِنِ
الْعِرَاقِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يُقِيمُونَهُ بَعْدَهُ، فَمَالَتْ طَائِفَةٌ
إِلَى كَيْخَتُو، فَأَجْلَسُوهُ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ، فَبَقِيَ مُدَّةً،
قِيلَ: سَنَةً. وَقِيلَ: أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ قَتَلُوهُ وَمَلَّكُوا
بَعْدَهُ بَيْدَرَا، وَجَاءَ الْخَبَرُ بِوَفَاةِ أَرْغُوَنَ إِلَى الْمَلِكِ
الْأَشْرَفِ وَهُوَ مُحَاصِرٌ عَكَّا، فَفَرِحَ بِذَلِكَ كَثِيرًا، وَكَانَتْ
مُدَّةُ مُلْكِ أَرْغُوَنَ ثَمَانِ سِنِينَ، وَقَدْ وَصَفَهُ بَعْضُ مُؤَرِّخِي
الْعِرَاقِ بِالْعَدْلِ وَالسِّيَاسَةِ الْجَيِّدَةِ.
الْمُسْنِدُ الْمُعَمَّرُ الرُّحَلَةُ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ الْبُخَارِيِّ
وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ
الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبُخَارِيِّ، وُلِدَ فِي
سَلْخِ سَنَةِ خَمْسٍ أَوْ مُسْتَهَلِّ سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ،
وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ مَعَ أَهْلِهِ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا عَابِدًا
زَاهِدًا وَرِعًا نَاسِكًا، تَفَرَّدَ
بِرِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ لِطُولِ عُمْرِهِ، وَخَرَجَتْ لَهُ
مَشْيَخَاتٌ وَسَمِعَ مِنْهُ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ وَالْجَمُّ الْغَفِيرُ، وَكَانَ
مَنْصُوبًا لِذَلِكَ حَتَّى كَبُرَ وَأَسَنَّ وَضَعُفَ عَنِ الْحَرَكَةِ، وَلَهُ
شِعْرٌ حَسَنٌ مِنْهُ قَوْلُهُ:
تَكَرَّرَتِ السِّنُونُ عَلَيَّ حَتَّى بَلِيتُ وَصِرْتُ مِنْ سَقَطِ الْمَتَاعِ
وَقَلَّ النَّفْعُ عِنْدِي غَيْرَ أَنِّي
أَعلِّلُ بِالرِّوَايَةِ وَالسَّمَاعِ فَإِنْ يَكُ خَالِصًا فَلَهُ جَزَاءٌ
وَإِنْ يَكُ مَالِقًا فَإِلَى ضَيَاعِ
وَلَهُ أَيْضًا:
إِلَيْكَ اعْتِذَارِي مِنْ صَلَاتِي قَاعِدًا وَعَجْزِي عَنْ سَعْيِي إِلَى
الْجُمُعَاتِ
وَتَرْكِي صَلَاةَ الْفَرْضِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ تَجَمَّعَ فِيهِ النَّاسُ
لِلصَّلَوَاتِ
فَيَا رَبُّ لَا تَمْقُتْ صَلَاتِي وَنَجِّنِي مِنَ النَّارِ وَاصْفَحْ لِي عَنِ
الْهَفَوَاتِ
تُوُفِّيَ ضُحَى نَهَارِ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ،
وَدُفِنَ عِنْدَ وَالِدِهِ الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ
الْوَاحِدِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ سِبَاعِ بْنِ ضِيَاءٍ تَاجُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْفَزَارِيُّ
الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْعَلَمُ شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، حَازَ
قَصَبَ السَّبْقِ دُونَ أَقْرَانِهِ، وَهُوَ وَالِدُ شَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ
بُرْهَانِ الدِّينِ. كَانَ مَوْلِدُ