: 25//1 البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ.
وَقَدْ وَعَظَ مَرَّةً هَارُونَ الرَّشِيدَ بِكَلَامٍ حَسَنٍ فَقَالَ: اعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ سَائِلُكَ عَنْ أُمَّةِ نَبِيِّهِ، فَأَعِدَّ لِذَلِكَ جَوَابًا،
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَوْ مَاتَتْ سَخْلَةٌ بِالْعِرَاقِ
ضَيَاعًا لَخَشِيتُ أَنْ يَسْأَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا. فَقَالَ:
إِنِّي لَسْتُ كَعُمَرَ، وَإِنَّ دَهْرِي لَيْسَ كَدَهْرِهِ. فَقَالَ: مَا هَذَا
بِمُغْنٍ عَنْكَ شَيْئًا. فَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَالَ:
أَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَمُرْ بِهَا فَلْتُقَسَّمْ عَلَيْهِمْ
وَأَنَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فَفِي صَفَرٍ مِنْهَا أَمَرَ الْأَمِينُ أَنْ لَا يَتَعَامَلُوا بِالدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي عَلَيْهَا اسْمُ الْمَأْمُونِ وَنَهَى أَنْ يُدْعَى لَهُ
عَلَى الْمَنَابِرِ، وَأَنْ يُقْتَصَرَ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُ، ثُمَّ مِنْ
بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ النَّاطِقِ بِالْحَقِّ.
وَفِيهَا تَسَمَّى الْمَأْمُونُ بِإِمَامِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا عَقَدَ الْأَمِينُ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ
مَاهَانَ الْإِمَارَةَ عَلَى الْجَبَلِ، وَهَمَذَانَ، وَأَصْبَهَانَ، وَقُمَّ
وَتِلْكَ الْبِلَادِ، وَأَمَرَهُ بِحَرْبِ الْمَأْمُونِ وَجَهَّزَ مَعَهُ جَيْشًا
كَثِيرًا، وَأَنْفَقَ فِيهِمْ نَفَقَاتٍ عَظِيمَةً، وَأَعْطَاهُ مِائَتَيْ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَلِوَلَدِهِ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَلْفَيْ سَيْفٍ مُحَلًّى،
وَسِتَّةَ آلَافِ ثَوْبٍ لِلْخِلَعِ.
وَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ مِنْ بَغْدَادَ فِي أَرْبَعِينَ
أَلْفَ فَارِسٍ وَمَعَهُ قَيْدٌ مِنْ فِضَّةٍ؛ لِيَأْتِيَ بِالْمَأْمُونِ فِيهِ.
وَخَرَجَ الْأَمِينُ مَعَهُ مُشَيِّعًا، فَسَارَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الرَّيِّ
فَتَلَقَّاهُ الْأَمِيرُ طَاهِرٌ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ
أُمُورٌ آلَ الْحَالُ فِيهَا إِلَى أَنِ اقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ عَلِيُّ بْنُ
عِيسَى، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ وَجُثَّتُهُ إِلَى
الْأَمِيرِ طَاهِرٍ، فَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى وَزِيرِ
الْمَأْمُونِ ذِي الرِّيَاسَتَيْنِ. وَكَانَ الَّذِي قَتَلَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى
رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: طَاهِرٌ الصَّغِيرُ فَسُمِّيَ ذَا الْيَمِينَيْنِ لِأَنَّهُ
أَخَذَ السَّيْفَ بِيَدَيْهِ الثِّنْتَيْنِ، فَذَبَحَ بِهِ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى
بْنِ مَاهَانَ فَفَرِحَ بِذَلِكَ الْمَأْمُونُ وَذَوُوهُ.
وَانْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى الْأَمِينِ وَهُوَ يَصِيدُ السَّمَكَ مِنْ دِجْلَةَ،
فَقَالَ: وَيْحَكَ، دَعْنِي مِنْ هَذَا؛ فَإِنَّ كَوْثَرًا قَدْ صَادَ
سَمَكَتَيْنِ، وَلَمْ أَصِدْ بَعْدُ شَيْئًا. وَأَرْجَفَ النَّاسُ بِبَغْدَادَ،
وَخَافُوا غَائِلَةَ هَذَا الْأَمْرِ، وَنَدِمَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ عَلَى مَا
كَانَ مِنْهُ مِنْ نَكْثِ الْعَهْدِ، وَخَلْعِ أَخِيهِ الْمَأْمُونِ وَمَا وَقَعَ
مِنَ الْأَمْرِ الْفَظِيعِ. وَكَانَ رُجُوعُ الْخَبَرِ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي
شَوَّالٍ مِنْهَا.
ثُمَّ جَهَّزَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جَبَلَةَ الْأَبْنَاوِيَّ فِي عِشْرِينَ
أَلْفًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ إِلَى هَمَذَانَ لِيُقَاتِلُوا طَاهِرَ بْنَ
الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْخُرَاسَانِيَّةِ، فَلَمَّا
اقْتَرَبُوا مِنْهُمْ تَوَاجَهُوا، فَتَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَكَثُرَتِ
الْقَتْلَى بَيْنَهُمْ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ جَبَلَةَ فَلَجَئُوا إِلَى هَمَذَانَ فَحَاصَرَهُمْ بِهَا
طَاهِرٌ حَتَّى اضْطَرَّهُمْ إِلَى أَنْ دَعَوْا إِلَى الصُّلْحِ، فَصَالَحَهُمْ
وَأَمَّنَهُمْ وَوَفَّى لَهُمْ، وَانْصَرَفَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبَلَةَ
وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ رَاجِعِينَ، ثُمَّ غَدَرُوا بِأَصْحَابِ
طَاهِرٍ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ وَهُمْ غَافِلُونَ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا،
وَصَبَرَ لَهُمْ أُولَئِكَ، ثُمَّ نَهَضُوا إِلَيْهِمْ فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ
فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا أَمِيرَهُمْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ
بْنَ جَبَلَةَ وَفَرَّ أَصْحَابُهُ خَائِبِينَ.
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى بَغْدَادَ وَاضْطَرَبَتِ الْأُمُورُ، وَكَثُرَتِ
الْأَرَاجِيفُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَطَرَدَ طَاهِرٌ عُمَّالَ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ عَنْ قَزْوِينَ وَتِلْكَ
النَّوَاحِي، وَقَوِيَ أَمْرُ الْمَأْمُونِ جِدًّا بِتِلْكَ الْبِلَادِ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ أَمْرُ السُّفْيَانِيِّ
بِالشَّامِ، وَاسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ
بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَعَزَلَ نَائِبَهَا، وَدَعَا إِلَى
نَفْسِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْأَمِينُ جَيْشًا، فَلَمْ يَقْدَمُوا عَلَيْهِ بَلْ
أَقَامُوا بِالرَّقَّةِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ نَائِبُ الْحِجَازِ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَعْيَانِ مِنْهُمْ:
إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْرَقُ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ رَوَى عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ.
بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الزُّبَيْرِ
وَكَانَ نَائِبَ الْمَدِينَةِ لِلرَّشِيدِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَشْهُرًا،
وَقَدْ أَطْلَقَ الرَّشِيدُ عَلَى يَدَيْهِ لِأَهْلِهَا
أَلْفَ أَلْفَ دِينَارٍ وَمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ،
وَكَانَ شَرِيفًا جَوَادًا مُعَظَّمًا مُمَدَّحًا.
وَأَبُو نُوَاسٍ الشَّاعِرُ
وَاسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئِ بْنِ عَبْدِ الْأَوَّلِ بْنِ صَبَاحِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ بْنِ وُهَيْبِ بْنِ ذَوَّةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ
سَلِيمِ بْنِ حَكَمِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
الْغَوْثِ بْنِ طَيِّئِ بْنِ أُدَدِ بْنِ شَبِيبِ بْنِ سَبِيعِ بْنِ الْحَارِثِ
بْنِ زَيْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَوْفِ بْنِ زَيْدِ بْنِ هَمَيْسَعِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ يَشْجُبَ بْنِ عَرِيبِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانِ بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ
بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالَخِ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ
سَامِ بْنِ نُوحٍ، كَذَا نَسَبَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَعْدٍ الْوَرَّاقُ
أَبُو عَلِيٍّ الْحَكَمِيُّ نِسْبَةً إِلَى وَلَاءِ الْجَرَّاحِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْحَكَمِيِّ.
وَيُقَالُ لَهُ: أَبُو نُوَاسٍ الْبَصْرِيُّ. كَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ
مِنْ جُنْدِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ صَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ،
وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا جُلْبَانُ. فَوَلَدَتْ لَهُ أَبَا نُوَاسٍ
هَذَا، وَابْنًا آخَرَ يُقَالُ لَهُ: أَبُو مُعَاذٍ. ثُمَّ صَارَ أَبُو نُوَاسٍ
إِلَى الْبَصْرَةِ فَتَأَدَّبَ بِهَا عَلَى أَبِي زَيْدٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ،
وَقَرَأَ كِتَابَ سِيبَوَيْهِ وَلَزِمَ خَلَفًا الْأَحْمَرَ، وَصَحِبَ
يُونُسَ بْنَ حَبِيبٍ الضَّبِّيَّ النَّحْوِيَّ. قَالَ
الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: وَقَدْ صَحِبَ أَبَا أُسَامَةَ وَالِبَةَ بْنَ
الْحُبَابِ الْكُوفِيَّ، فَتَأَدَّبَ بِهِ.
وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَزْهَرَ بْنِ سَعْدٍ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ،
وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَعَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، وَمُعْتَمِرِ بْنِ
سُلَيْمَانَ، وَيَحْيَى الْقَطَّانِ، وَعَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
كَثِيرٍ الصَّيْرَفِيُّ، حَكَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ،
وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَالْجَاحِظُ، وَغُنْدَرٌ. وَمِنْ مَشَاهِيرِ حَدِيثِهِ
مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ الصَّيْرَفِيُّ، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ
يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ ثَمَنُ
الْجَنَّةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: دَخَلْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ
فَقَالَ لَهُ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ: يَا أَبَا عَلِيٍّ، أَنْتَ
الْيَوْمَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَأَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ
أَيَّامِ الْآخِرَةِ، وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ هَنَاتٌ،
فَتُبْ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ عَمَلِكَ. فَقَالَ: إِيَّاىَ
تُخَوِّفُ بِاللَّهِ ؟ ! فَقَالَ: أَسْنِدُونِي. فَأَسْنَدُوهُ. فَقَالَ: حَدَّثَنِي
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنَّ لِكُلِّ
نَبِيٍّ شَفَاعَةً، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ
أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ قَالَ: أَفَتُرَانِي لَا أَكُونُ مِنْهُمْ ؟
وَقَالَ أَبُو نُوَاسٍ: مَا قُلْتُ الشِّعْرَ حَتَّى رَوَيْتُ لِسِتِّينَ
امْرَأَةً؛ مِنْهُنَّ خَنْسَاءُ، وَلَيْلَى، فَمَا ظَنُّكَ بِالرِّجَالِ ؟ وَقَالَ
يَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ: إِذَا رَوَيْتَ الشِّعْرَ عَنِ امْرِئِ الْقَيْسِ
وَالْأَعْشَى مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمِنَ الْإِسْلَامِيِّينَ لِجَرِيرٍ
وَالْفَرَزْدَقِ، وَمِنَ الْمُحْدَثِينَ عَنْ أَبِي نُوَاسٍ فَحَسْبُكَ. وَقَدْ
أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ؛ مِنْهُمُ الْأَصْمَعِيُّ، وَالْجَاحِظُ،
وَالنَّظَّامُ.
وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ: لَوْلَا أَنَّ أَبَا نُوَاسٍ أَفْسَدَ
شِعْرَهُ بِهَذِهِ الْأَقْذَارِ لَاحْتَجَجْنَا بِهِ فِي كُتُبِنَا. يَعْنِي
شِعْرَهُ فِي الْخَمْرِيَّاتِ، وَالْأَحْدَاثِ.
وَقَدِ اجْتَمَعَ طَائِفَةٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ عِنْدَ الْمَأْمُونِ فَقَالَ
لَهُمْ: أَيُّكُمُ الْقَائِلُ:
فَلَمَّا تَحَسَّاهَا وَقَفْنَا كَأَنَّنَا نَرَى قَمَرًا
فِي الْأَرْضِ يَبْلَعُ كَوْكَبًا
قَالُوا: أَبُو نُوَاسٍ قَالَ: فَأَيُّكُمُ الْقَائِلُ:
إِذَا نَزَلَتْ دُونَ اللَّهَاةِ مِنَ الْفَتَى دَعَا هَمُّهُ عَنْ صَدْرِهِ
بِرَحِيلِ
قَالُوا: أَبُو نُوَاسٍ قَالَ: فَأَيُّكُمُ الْقَائِلُ:
فَتَمَشَّتْ فِي مَفَاصِلِهِمْ كَتَمَشِّي الْبُرْءِ فِي السَّقَمِ
قَالُوا: أَبُو نُوَاسٍ قَالَ: فَهُوَ أَشْعَرُكُمْ
.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ لِابْنِ مُنَاذِرٍ: مَا أَشْعَرَ ظَرِيفُكُمْ
أَبَا نُوَاسٍ فِي قَوْلِهِ:
يَا قَمَرًا أَبْصَرْتُ فِي مَأْتَمٍ يَنْدُبُ شَجْوًا بَيْنَ أَتْرَابِ
أَبْرَزَهُ الْمَأْتَمُ لِي كَارِهًا بِرَغْمِ ذِي بَابٍ وَحُجَّابِ
يَبْكِي فَيُذْرِي الدُّرَّ مِنْ نَرْجِسٍ وَيَلْطِمُ الْوَرْدَ بِعُنَّابِ
لَا زَالَ مَوْتًا دَأْبُ أَحْبَابِهِ وَلَا تَزَلْ
رُؤْيَتُهُ دَابِي
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَشْعَرُ النَّاسِ أَبُو نُوَاسٍ فِي قَوْلِهِ:
تَغَطَّيْتُ مِنْ دَهْرِي بِظِلِّ جَنَاحِهِ فَعَيْنِي تَرَى دَهْرِي، وَلَيْسَ
يَرَانِي
فَلَوْ تَسْأَلُ الْأَيَّامُ مَا اسْمِي لَمَا دَرَتْ وَأَيْنَ مَكَانِي مَا
عَرَفْنَ مَكَانِي
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: قُلْتُ فِي الزُّهْدِ عِشْرِينَ أَلْفَ بَيْتٍ،
وَوَدِدْتُ أَنَّ لِي مَكَانَهَا الْأَبْيَاتَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي قَالَهَا
أَبُو نُوَاسٍ، وَهِيَ هَذِهِ وَكَانَتْ مَكْتُوبَةً عَلَى قَبْرِهِ:
يَا نُوَاسِيُّ تَوَقَّرْ وَتَعَزَّ وَتَصَبَّرْ
إِنْ يَكُنْ سَاءَكَ دَهْرٌ فَلَمَا سَرَّكَ أَكْثَرْ
يَا كَبِيرَ الذَّنْبِ عَفْوُ اللَّ هِ مِنْ ذَنْبِكَ أَكْبَرْ
وَمِنْ شَعْرِ أَبِي نُوَاسٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَمْدَحُ بَعْضَ
الْأُمَرَاءِ:
أَوْجَدَهُ اللَّهُ فَمَا مِثْلُهُ لِطَالِبِ ذَاكَ وَلَا نَاشِدِ
وَلَيْسَ لِلَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ
فِي وَاحِدِ
وَأَنْشَدُوا لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَوْلَ أَبِي نُوَاسٍ:
مَا هَوًى إِلَّا لَهُ سَبَبُ يَبْتَدِي مِنْهُ وَيَنْشَعِبُ
فَتَنَتْ قَلْبِي مُحَجَّبَةٌ وَجْهُهُا بِالْحُسْنِ مُنْتَقِبُ
خَلِيَتْ وَالْحُسْنُ تَأْخُذُهُ تَنْتَقِي مِنْهُ وَتَنْتَخِبُ
فَاكْتَسَتْ مِنْهُ طَرَائِفُهُ وَاسْتَزَادَتْ بَعْضَ مَا تَهَبُ
فَهِيَ لَوْ صَيَّرْتَ فِيهِ لَهَا عَوْدَةً لَمْ يُثْنِهَا أَرَبُ
صَارَ جِدًّا مَا مَزَحْتَ بِهِ رُبَّ جِدٍّ جَرَّهُ اللَّعِبُ
فَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَهَا.
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَوْلَا أَنَّ الْعَامَّةَ بَذَلَتْ
هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ لَكَتَبْتُهُمَا بِمَاءِ الذَّهَبِ وَهُمَا لِأَبِي
نُوَاسٍ:
وَلَوْ أَنِّي اسْتَزَدْتُكَ فَوْقَ مَا بِي مِنَ الْبَلْوَى لَأَعْوَزَكَ
الْمَزِيدُ
وَلَوْ عُرِضَتْ عَلَى الْمَوْتَى حَيَاتِي بِعَيْشٍ مِثْلَ عَيْشِي لَمْ
يُرِيدُوا
وَقَدْ سَمِعَ أَبُو نُوَاسٍ حَدِيثَ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي
صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ:الْقُلُوبُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا
ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ فَنَظَمَ ذَلِكَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ
يَقُولُ فِيهَا:
إِنَّ الْقُلُوبَ لَأَجْنَادٌ مُجَنَّدَةٌ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ بِالْأَهْوَاءِ
تَعْتَرِفُ
فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا فَهُوَ مُؤْتَلِفٌ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا فَهُوَ
مُخْتَلِفُ
وَدَخَلَ أَبُو نُوَاسٍ يَوْمًا مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى عَبْدِ
الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ الْوَاحِدِ: لِيَخْتَرْ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَشَرَةَ أَحَادِيثَ أُحَدِّثُهُ بِهَا. فَاخْتَارَ كُلُّ
وَاحِدٍ عَشَرَةً، إِلَّا أَبَا نُوَاسٍ، فَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ لَا تَخْتَارُ
كَمَا اخْتَارُوا ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
وَلَقَدْ كُنَّا رَوَيْنَا عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَهْ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّ بِ ثُمَّ سَعْدِ بْنِ عُبَادَهْ
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ وَالشَّعْ بِيُّ شَيْخٌ ذُو جَلَادَهْ
وَعَنِ الْأَخْيَارِ نَحْكِي هِ وَعَنْ أَهْلِ الْإِفَادَهْ
أَنَّ مَنْ مَاتَ مُحِبًّا فَلَهُ أَجْرُ شَهَادَهْ
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ: قُمْ يَا مَاجِنُ لَا حَدَّثْتُكَ وَلَا
حَدَّثْتُ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ أَجْلِكَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ مَالِكَ بْنَ
أَنَسٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي يَحْيَى، فَقَالَا: كَانَ يَنْبَغِي
أَنْ يُحَدِّثَهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَهُ.
قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي أَنْشَدَهُ أَبُو نُوَاسٍ فِي شِعْرِهِ قَدْ رَوَاهُ
ابْنُ عَدِيٍّ فِي " " كَامِلِهِ " " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
مَوْقُوفًا، وَمَرْفُوعًا مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ فَكَتَمَ فَمَاتَ مَاتَ شَهِيدًا
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ مَنِ ابْتُلِيَ بِالْعِشْقِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ
فَصَبَرَ وَعَفَّ عَنِ الْفَاحِشَةِ وَلَمْ يُفْشِ ذَلِكَ فَمَاتَ بِسَبَبِ
ذَلِكَ، حَصَلَ لَهُ أَجْرٌ كَبِيرٌ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ نَوْعُ
شَهَادَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ أَيْضًا أَنَّ شُعْبَةَ لَقِيَ أَبَا نُوَاسٍ فَقَالَ لَهُ:
حَدِّثْنَا مِنْ طُرَفِكَ، فَقَالَ مُرْتَجِلًا:
حَدَّثَنَا الْخَفَّافُ عَنْ وَائِلٍ وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ جَابِرِ
وَمِسْعَرٌ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ يَرْفَعُهُ الشَّيْخُ إِلَى عَامِرِ
قَالُوا جَمِيعًا أَيُّمَا طِفْلَةٍ عُلِّقَهَا ذُو خُلُقٍ طَاهِرِ
فَوَاصَلَتْهُ ثُمَّ دَامَتْ لَهُ عَلَى وِصَالِ الْحَافِظِ الذَّاكِرِ
كَانَتْ لَهُ الْجَنَّةُ مَفْتُوحَةً يَرْتَعُ فِي مَرْتَعِهَا الزَّاهِرِ
وَأَيُّ مَعْشُوقٍ جَفَا عَاشِقًا بَعْدَ وِصَالٍ دَائِمٍ نَاضِرِ
فَفِي عَذَابِ اللَّهِ بُعْدًا لَهُ نَعَمْ وَسُحْقٍ دَائِمٍ دَاحِرِ
فَقَالَ لَهُ شُعْبَةُ: إِنَّكَ لَجَمِيلُ الْأَخْلَاقِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو لَكَ.
وَأَنْشَدَ أَبُو نُوَاسٍ أَيْضًا:
يَا سَاحِرَ الْمُقْلَتَيْنِ وَالْجِيدِ وَقَاتِلِي مِنْكَ بِالْمَوَاعِيدِ
تُوعِدُنِي الْوَصْلَ ثُمْ تُخْلِفُنِي فَوَابَلَائِي مِنْ خُلْفِ مَوْعُودِي
حَدَّثَنِي الْأَزْرَقُ الْمُحَدِّثُ عَنْ شَمْرٍ وَعَوْفٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودِ
مَا يُخْلِفُ الْوَعْدَ غَيْرُ كَافِرَةٍ وَكَافِرٍ فِي الْجَحِيمِ مَصْفُودِ
فَبَلَغَ ذَلِكَ إِسْحَاقَ بْنَ يُوسُفَ الْأَزْرَقَ فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ
اللَّهِ عَلَيَّ، وَعَلَى التَّابِعِينِ، وَعَلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَنْ سُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا نُوَاسٍ فِي مَجْلِسِ أَبِي
يَبْكِي بُكَاءً شَدِيدًا فَقُلْتُ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يُعَذِّبَكَ
اللَّهُ بَعْدَ هَذَا الْبُكَاءِ أَبَدًا. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَمْ أَبْكِ فِي مَجْلِسِ مَنْصُورِ شَوْقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْحُورِ
وَلَا مِنَ الْقَبْرِ وَأَهْوَالِهِ وَلَا مِنَ النَّفْخَةِ فِي الصُّورِ
وَلَا مِنَ النَّارِ وَأَغْلَالِهَا وَلَا مِنَ الْخُذْلَانِ وَالْجُورِ
لَكِنْ بُكَائِي لِبُكَا شَادِنٍ تَقِيهِ نَفْسِي كُلَّ مَحْذُورِ
ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا بَكَيْتُ لِبُكَاءِ هَذَا الْأَمْرَدِ الَّذِي إِلَى
جَانِبِ أَبِيكَ، وَكَانَ صَبِيًّا حَسَنَ الصُّورَةِ، يَسْمَعُ الْوَعْظَ
فَيَبْكِي خَوْفًا مِنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ أَبُو نُوَاسٍ: دَعَانِي يَوْمًا بَعْضُ الْحَاكَةِ،
وَأَلَحَّ عَلِيَّ لِيُضِيفَنِي فِي مَنْزِلِهِ، وَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى
أَجَبْتُهُ، فَسَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَسِرْتُ مَعَهُ، فَإِذَا مَنْزِلٌ لَا
بَأْسَ بِهِ، وَقَدِ احْتَفَلَ الْحَائِكُ فَلَمْ يُقَصِّرْ، فَأَكَلْنَا
وَشَرِبْنَا، ثُمَّ قَالَ: يَا سَيِّدِي، أَشْتَهِي أَنْ تَقُولَ فِي جَارِيَتِي
شَيْئًا مِنَ الشِّعْرِ وَكَانَ مُغْرَمًا بِجَارِيَةٍ لَهُ. قَالَ أَبُو نُوَاسٍ فَقُلْتُ:
أَرِنِيهَا حَتَّى أَنْظِمَ عَلَى شَكْلِهَا، وَحُسْنِهَا. فَكَشَفَ عَنْهَا
الْحِجَابَ، فَإِذَا هِيَ مِنْ أَسْمَجِ خَلْقِ اللَّهِ وَأَوْحَشِهِمْ، سَوْدَاءُ
شَمْطَاءُ دِنْدَانِيَةٌ يَسِيلُ لُعَابُهَا عَلَى صَدْرِهَا، فَقُلْتُ
لِسَيِّدِهَا: مَا اسْمُهَا ؟ فَقَالَ: تَسْنِيمُ. فَأَنْشَأْتُ أَقُولُ:
أَسْهَرَ لَيْلِي حُبُّ تَسْنِيمِ جَارِيَةٍ فِي الْحُسْنِ كَالْبُومِ
كَأَنَّمَا نَكْهَتُهَا كَامِخٌ أَوْ حُزْمَةٌ مِنْ حُزَمِ الثُّومِ
ضَرَطْتُ مِنْ حُبِّي لَهَا ضَرْطَةً أَفْزَعْتُ مِنْهَا مَلِكَ الرُّومِ
قَالَ: فَقَامَ الْحَائِكُ يَرْقُصُ وَيُصَفِّقُ سَائِرَ يَوْمِهِ، وَيَفْرَحُ
وَيَقُولُ: شَبَّهَهَا وَاللَّهِ بِمَلِكِ الرُّومِ.
وَمِنْ شَعْرِ أَبِي نُوَاسٍ:
أَبْرَمَنِي النَّاسُ يَقُولُونَ تُبْ بِزَعْمِهِمْ كَثْرَةُ أَوْزَارِيَهْ
إِنْ كُنْتُ فِي النَّارِ وَفِي جَنَّةٍ مَاذَا عَلَيْكُمْ يَا بَنِي الزَّانِيَهْ
وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ ذَكَرُوا عَنْهُ أُمُورًا كَثِيرَةً، وَأَشْعَارًا
مُنْكَرَةً، وَمُجُونًا كَثِيرَةً،
وَلَهُ فِي الْخَمْرِيَّاتِ وَالْقَاذُورَاتِ
وَالتَّشَبُّبِ بِالْمُرْدَانِ وَالنِّسْوَانِ أَشْيَاءُ بَشِعَةٌ شَنِيعَةٌ،
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُفَسِّقُهُ وَيَرْمِيهِ بِالْفَاحِشَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَرْمِيهِ بِالزَّنْدَقَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّمَا كَانَ يُخَرِّبُ
عَلَى نَفْسِهِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِمَا فِي أَشْعَارِهِ، فَأَمَّا
الزَّنْدَقَةُ فَبَعِيدَةٌ عَنْهُ، وَلَكِنْ كَانَ فِيهِ مُجُونٌ وَخَلَاعَةٌ
كَثِيرَةٌ. وَقَدْ عَزَوْا إِلَيْهِ فِي صِغَرِهِ وَكِبَرِهِ أَشْيَاءَ، اللَّهُ
أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا. وَالْعَامَّةُ تَنْقُلُ عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لَا
حَقِيقَةَ لَهَا. وَفِي صَحْنِ جَامِعِ دِمَشْقَ قُبَّةٌ يَفُورُ الْمَاءُ مِنْ
وَسَطِهَا، يَقُولُ الدَّمَاشِقَةُ: قُبَّةُ أَبِي نُوَاسٍ. وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ
بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَزْيَدَ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، فَمَا أَدْرِي
لِمَاذَا تُسَمَّى بِهَذَا ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ: سَمِعْتُ أَبَا نُوَاسٍ يَقُولُ:
وَاللَّهِ مَا فَتَحْتُ سَرَاوِيلِي بِحَرَامٍ قَطُّ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ بْنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ لِأَبِي نُوَاسٍ: أَنْتَ
زِنْدِيقٌ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ وَأَنَا أَقُولُ:
أُصَلِّي الصَّلَاةَ الْخَمْسَ فِي حِينِ وَقْتِهَا وَأَشْهَدُ بِالتَّوْحِيدِ
للَّهِ خَاضِعَا
وَأُحْسِنُ غُسْلًا إِنْ رَكِبْتُ جَنَابَةً وَإِنْ جَاءَنِي الْمِسْكِينُ لَمْ
أَكُ مَانِعَا
وَإِنِّي وَإِنْ حَانَتْ مِنَ الْكَأْسِ دَعْوَةٌ إِلَى بَيْعَةِ السَّاقِي أُجِيبُ
مُسَارِعَا
وَأَشْرَبُهَا صِرْفًا عَلَى جَنْبِ مَاعِزٍ وَجَدْيٍ
كَثِيرِ الشَّحْمِ أَصْبَحَ رَاضِعَا
وَجُوذَابَ حُوَّارَى وَجُوزٍ وَسُكَّرٍ وَمَا زَالَ لِلْمَخْمُورِ ذَلِكَ
نَافِعَا
وَأَجْعَلُ تَخْلِيطَ الرَّوَافِضِ كُلِّهِمْ لِفَقْحَةِ بَخْتَيْشُوعَ فِي
النَّارِ طَابِعَا
فَقَالَ لَهُ الْأَمِينُ: وَيْحَكَ، وَمَا الَّذِي أَلْجَأَكَ إِلَى فَقْحَةِ
بَخْتَيْشُوعَ ؟ فَقَالَ: بِهَا تَمَّتِ الْقَافِيَةُ فَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ.
وَقَالَ الْجَاحِظُ: لَا أَعْرِفُ فِي كَلَامِ الشُّعَرَاءِ أَرْفَعَ وَلَا
أَحْسَنَ مِنْ قَوْلِ أَبِي نُوَاسٍ:
أَيَّةُ نارٍ قَدَحَ الْقَادِحُ وَأَيُّ جِدٍّ بَلَغَ الْمَازِحُ
لِلَّهِ دَرُّ الشَيبِ مِنْ واعِظٍ وَناصِحٍ لَو خُطِئَ الناصِحُ
يَأَبْى الْفَتَى إِلَّا اتِّبَاعَ الْهَوَى وَمَنْهَجُ الْحَقِّ لَهُ واضِحُ
فَاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلى نِسْوَةٍ مُهُورُهُنَّ الْعَمَلُ الصَّالِحُ
لَا يَجْتَلِي الْحَوْرَاءَ مِنَ خِدْرِهَا إِلَّا امْرُؤٌ
مِيْزَانُهُ رَاجِحُ
مَنِ اتَّقى اللَّهَ فَذَاكَ الَّذِي سِيقَ إِلَيهِ الْمَتْجَرُ الرَّابِحُ
فَاغْدُ فَمَا فِي الدِّينِ أُغْلُوطَةٌ وَرُحْ لِمَا أَنْتَ لَهُ رَائِحُ
وَقَدِ اسْتَنْشَدَهُ أَبُو هِفَّانَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي يَقُولُ فِي أَوَّلِهَا:
لَا تَنْسَ لَيْلَى وَلَا تَطْرَبْ إِلَى هِنْدٍ
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا سَجَدَ لَهُ أَبُو هِفَّانَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو نُوَاسٍ:
وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ مُدَّةً. قَالَ: فَغَمَّنِي ذَلِكَ، فَلَمَّا أَرَدْتُ
الِانْصِرَافَ قَالَ: مَتَى أَرَاكَ ؟ فَقُلْتُ: أَلَمْ تُقْسِمْ ؟ فَقَالَ:
الدَّهْرُ أَقْصَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ هَجْرٌ.
وَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
أَيَا رُبَّ وَجْهٍ فِي التُّرَابِ عَتِيقِ وَيا رُبَّ حُسْنٍ فِي التُّرَابِ
رَقِيقِ
وَيَا رُبَّ حَزْمٍ فِي التُّرَابِ وَنَجْدَةٍ وَيَا رُبَّ رَأيٍ فِي التُّرَابِ
وَثِيقِ
أَرَى كُلَّ حَيٍّ هَالِكاً وَابْنَ هَالِكٍ وَذَا حَسَبٍ فِي الْهَالِكِينَ
عَرِيقِ
فَقُلْ لِقَرِيبِ الدَّارِ إِنَّكَ ظَاعِنٌ إِلَى سَفَرٍ نَائِي الْمَحَلِّ
سَحِيقِ
إِذَا امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ لَهُ عَنْ
عَدُوٍّ فِي ثِيَابِ صَدِيقِ
وَقَوْلُهُ:
لَا تَشْرَهَنَّ فَإِنَّ الذُّلَّ فِي الشَّرَهِ وَالْعِزُّ فِي الْحِلْمِ لَا فِي
الطَّيْشِ وَالسَّفَهِ
وَقُلْ لِمُغْتَبِطٍ فِي التِّيْهِ مِنْ حُمَقٍ لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي
التِّيهِ لَمْ تَتُهِ
التِّيهُ مَفْسَدَةٌ لِلدِّينِ مَنْقَصَةٌ لِلْعَقْلِ مَهْلَكَةٌ لِلْعِرْضِ
فَانْتَبِهِ
وَجَلَسَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْقَاسِمِ فِي دُكَّانِ
وَرَّاقٍ، فَكَتَبَ عَلَى ظَهْرِ دَفْتَرٍ:
أَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الْإِلَ هُ أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
ثُمَّ جَاءَ أَبُو نُوَاسٍ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَحْسَنَ، قَاتَلَهُ
اللَّهُ، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهَا لِي بِجَمِيعِ شَيْءٍ قُلْتُهُ، لِمَنْ
هَذِهِ ؟ قِيلَ: لِأَبِي الْعَتَاهِيَةِ. فَأَخَذَ الدَّفْتَرَ، فَكَتَبَ إِلَى
جَانِبِهَا:
سُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الْخَلْ قَ مِنْ ضَعِيفٍ مَهِينِ يَسوقُهُ مِنْ قَرَارٍ
إِلى قَرارٍ مَكِينِ
يَحورُ شَيئًا فَشَيئًا فِي الْحُجُبِ دُونَ الْعُيُونِ
حَتَّى بَدَتْ حَرَكَاتٌ مَخْلُوقَةٌ مِنْ سُكُونِ
وَمِنْ شِعْرِ أَبِي نُوَاسٍ الْمُسْتَجَادِ قَوْلُهُ:
انْقَضَتْ شِرَّتِي فَعِفْتُ الْمَلَاهِي إِذْ رَمَى الشَّيْبُ مَفْرِقِي
بِالدَّوَاهِي
وَنَهَتْنِي النُّهَى فَمِلْتُ إِلَى الْعَدْ لِ وَأَشْفَقْتُ مِنْ مَقَالَةِ
نَاهِ
أَيُّهَا الْغَافِلُ الْمُقِيمُ عَلَى السَّهْ وِ وَلَا عُذْرَ فِي الْمُقَامِ
لِسَاهِ
لَا بِأَعْمَالِنَا نُطِيقُ خَلَاصًا يَوْمَ تَبْدُو السِّمَاتُ فَوْقَ الْجِبَاهِ
غَيْرَ أَنَّا عَلَى الْإِسَاءَةِ وَالتَّفْ رِيطِ نَرْجُو مِنْ حُسْنِ عَفْوِ
الْإِلَهِ
وَقَوْلُهُ:
نَمُوتُ وَنَبْلَى غَيْرَ أَنَّ ذُنُوبَنَا إِذَا نَحْنُ مِتْنَا لَا تَمُوتُ
وَلَا تَبْلَى
أَلَا رُبَّ ذِي عَيْنَيْنِ لَا تَنْفَعَانِهِ وَهَلْ تَنْفَعُ الْعَيْنَانِ مَنْ
قَلْبُهُ أَعْمَى
وَقَوْلُهُ:
لَوْ أَنَّ عَيْنًا وَهَّمَتْهَا نَفْسُهَا يَوْمَ الْحِسَابِ مُمَثَّلًا لَمْ
تَطْرَفِ
سُبْحَانَ ذِي الْمَلَكُوتِ أَيَّةَ لَيْلَةٍ مَخِضَتْ
صَبِيحَتُهَا بِيَوْمِ الْمَوْقِفِ
كَتَبَ الْفَنَاءَ عَلَى الْبَرِيَّةِ رَبُّهَا فَالنَّاسُ بَيْنَ مُقَدَّمٍ
وَمُخَلَّفِ
وَذَكَرُوا أَنَّ أَبَا نُوَاسٍ لَمَّا أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ قَالَ:
إِلَهَنَا مَا أَعْدَلَكْ مَلِيكَ كُلِّ مَنْ مَلَكْ
لَبَّيْكَ قَدْ لَبَّيْتُ لَكْ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ لَكَ
وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكْ مَا خَابَ عَبْدٌ سَأَلَكْ
لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ لَكْ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ
أَنْتَ لَهُ حَيْثُ سَلَكَ لَوْلَاكَ يَا رَبِّي هَلَكْ
لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ
وَاللَّيْلُ لَمَّا أَنْ حَلَكْ وَالسَّابِحَاتُ فِي الْفَلَكْ
عَلَى مَجَارِي الْمُنْسَلَكْ كُلُّ نَبِيٍّ وَمَلَكْ
وَكُلُّ مَنْ أَهَلَّ لَكْ سَبَّحَ أَوْ صَلَّى فَلَكْ
لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ لَكْ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكْ
يَا مُخْطِئًا مَا أَغْفَلَكْ عَجِّلْ وَبَادِرْ أَمَلَكْ
وَاخْتِمْ بِخَيْرٍ عَمَلَكْ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ لَكْ
وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكْ
وَقَالَ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ: ثِنَا مُحَمَّدُ بْنُ
الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ، سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ يَحْيَى ثَعْلَبًا يَقُولُ:
دَخَلْتُ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا تُهِمُّهُ نَفْسُهُ،
لَا يُحِبُّ أَنْ يُكْثَرَ عَلَيْهِ، كَأَنَّ النِّيرَانَ قَدْ سُعِّرَتْ بَيْنَ
يَدَيْهِ، فَمَا زِلْتُ أَتَرَفَّقُ بِهِ، وَتَوَسَّلْتُ إِلَيْهِ بِأَنِّي مِنْ
مَوَالِي شَيْبَانَ، حَتَّى قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ نَظَرْتَ ؟ فَقُلْتُ: فِي
عِلْمِ اللُّغَةِ وَالشِّعْرِ. قَالَ: مَرَرْتُ بِالْبَصْرَةِ وَجَمَاعَةٌ
يَكْتُبُونَ عَنْ رَجُلٍ الشِّعْرَ، وَقِيلَ لِي: هَذَا أَبُو نُوَاسٍ
فَتَخَلَّلْتُ النَّاسَ وَرَائِي، فَلَمَّا جَلَسْتُ أَمْلَى عَلَيْنَا:
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلَا تَقُلْ خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ
عَلَيَّ رَقِيبُ
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ يَغْفَلُ سَاعَةً وَلَا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ
يَغِيبُ
لَهَوْنَا لَعَمْرُ اللَّهِ حَتَّى تَتَابَعَتْ ذُنُوبٌ عَلَى آثَارِهِنَّ ذُنُوبُ
فَيَا لَيْتَ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ مَا مَضَى وَيَأْذَنُ
فِي تَوْبَاتِنَا فَنَتُوبُ
وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي نُوَاسٍ بَعْدَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
أَقُولُ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيَّ مَذَاهِبِي وَحَلَّ بِقَلْبِي لِلْهُمُومِ نُدُوبُ
لِطُولِ جِنَايَاتِي وَعِظَمِ خَطِيئَتِي هَلَكْتُ وَمَا لِي فِي الْمَتَابِ
نَصِيبُ
وَأَغْرَقُ فِي بَحْرِ الْمَخَافَةِ آيِسًا وَتَرْجِعُ نَفْسِي تَارَةً فَتَتُوبُ
وَيُذْكَرُ عَفْوٌ لِلْكَرِيمِ عَنِ الْوَرَى فَأَحْيَا وَأَرْجُو عَفْوَهُ
فَأُنِيبُ
فَأَخْضَعُ فِي قَوْلِي وَأَرْغَبُ سَائِلًا عَسَى كَاشِفُ الْبَلْوَى عَلَيَّ
يَتُوبُ
قَالَ ابْنُ طَرَارَا الْجَرِيرِيُّ، وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ: لِمَنْ
؟ قِيلَ: لِأَبِي نُوَاسٍ، وَهِيَ فِي زُهْدِيَّاتِهِ. وَقَدِ اسْتَشْهَدَ بِهَا
النُّحَاةُ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ قَدْ ذَكَرْنَاهَا.
وَقَالَ حَسَنُ ابْنُ الدَّايَةِ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي نُوَاسٍ وَهُوَ فِي مَرَضِ
الْمَوْتِ، فَقُلْتُ: عِظْنِي. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
تَكَثَّرْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ الْخَطَايَا فَإِنَّكَ
لَاقِي رَبًّا غَفُورَا
سَتُبْصِرُ إِذْ وَرَدْتَ عَلَيْهِ عَفْوَا وَتَلْقَى سَيِّدًا مَلِكًا قَدِيرَا
تَعَضُّ نَدَامَةً كَفَّيْكَ مِمَّا تَرَكْتَ مَخَافَةَ النَّارِ السُّرُورَا
فَقُلْتُ: وَيْلَكَ، فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ تَعِظُنِي بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ
؟ فَقَالَ: اسْكُتْ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ
قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:ادَّخَرْتُ شَفَاعَتِي
لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ بِهَذَا السَّنَدِلَا
يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ
وَقَالَ الرَّبِيعُ وَغَيْرُهُ، عَنِ الشَّافِعِيِّ: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي
نُوَاسٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ،
فَقُلْنَا: مَا أَعْدَدْتَ لِهَذَا الْيَوْمِ ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ
أَعْظَمَا
فَمَا زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ تَجُودُ وَتَعْفُو مِنَّةً وَتَكَرُّمَا
وَلَوْلَاكَ لَمْ يَصْمُدْ لِإِبْلِيسَ عَابِدٌ فَكَيْفَ وَقَدْ أَغْوَى صَفِيَّكَ
آدَمَا
رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ وَجَدُوا عِنْدَ رَأْسِهِ رُقْعَةً مَكْتُوبًا فِيهَا
بِخَطِّهِ:
يَا رَبِّ إِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً فَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ عَفْوَكَ
أَعْظَمُ
إِنْ كَانَ لَا يَرْجُوكَ إِلَّا مُحْسِنٌ فَمَنِ الَّذِي يَدْعُو وَيَرْجُو
الْمُجْرِمُ
أَدْعُوكَ رَبِّ كَمَا أَمَرْتَ تَضَرُّعًا فَإِذَا رَدَدْتَ يَدِي فَمَنْ ذَا
يَرْحَمُ
مَا لِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلَّا الرَّجَا وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثُمَّ أَنَّي
مُسْلِمُ
وَقَالَ يُوسُفُ ابْنُ الدَّايَةِ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي السِّيَاقِ،
فَقُلْتُ: كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ فَأَطْرَقَ مَلِيًّا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ،
فَقَالَ:
دَبَّ فِيَّ الْفَنَاءُ سُفْلًا وَعُلْوًا وَأُرَانِي أَمُوتُ عُضْوًا فَعُضْوَا
لَيْسَ تَأْتِي مِنْ سَاعَةٍ بِيَ إِلَّا نَقَصَتْنِي بِمُرِّهَا فِيَّ جَزْوَا
ذَهَبَتْ جِدَّتِي بِلَذَّةِ عَيْشِي وَتَذَكَّرْتُ طَاعَةَ اللَّهِ نِضْوَا
قَدْ أَسْأْنَا كُلَّ الْإِسَاءَةِ فَاللَّهُمَّ صَفْحًا
عَنَّا وَغَفْرًا وَعَفْوَا
ثُمَّ مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ، سَامَحَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا. فَأَوْصَى
أَنْ يُجْعَلَ فِي فَمِهِ إِذَا غَسَّلُوهُ، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ.
وَلَمَّا مَاتَ لَمْ يَجِدُوا لَهُ مِنَ الْمَالِ سِوَى ثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ
وَثِيَابِهِ وَأَثَاثِهِ. وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
بِبَغْدَادَ وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ الشُّونِيزِيَّةِ فِي تَلِّ الْيَهُودِ،
وَلَهُ خَمْسُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: سِتُّونَ سَنَةً. وَقِيلَ: تِسْعٌ وَخَمْسُونَ
سَنَةً. وَقَدْ رَآهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ: مَا
فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِأَبْيَاتٍ قُلْتُهَا فِي
النَّرْجِسِ:
تَأَمَّلْ فِي نَبَاتِ الْأَرْضِ وَانْظُرْ إِلَى آثَارِ مَا فَعَلَ الْمَلِيكُ
عُيُونٌ مِنْ لُجَيْنٍ فَاخِرَاتٌ بِأَحْدَاقٍ هِيَ الذَّهَبُ السَّبِيكُ
عَلَى قَصَبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: غَفَرَ لِي بِأَبْيَاتٍ قُلْتُهَا، وَهِيَ
تَحْتَ وِسَادَتِي، فَجَاءُوا فَوَجَدُوهَا فِي رُقْعَةٍ بِخَطِّهِ وَهِيَ هَذِهِ
الْأَبْيَاتُ:
يَا رَبِّ إِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً فَلَقْدْ
عَلِمْتُ بِأَنَّ عَفْوَكَ أَعْظَمُ
الْأَبْيَاتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عَسَاكِرَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ
فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ وَنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ
بِكَ ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي. قُلْتُ: بِمَاذَا ؟ وَقَدْ كُنْتَ مُخَلِّطًا عَلَى
نَفْسِكَ ؟ فَقَالَ: جَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ رَجُلٌ صَالِحٌ إِلَى الْمَقَابِرِ،
فَبَسَطَ رِدَاءَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، قَرَأَ فِيهِمَا أَلْفَيْ مَرَّةٍ قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثُمَّ أَهْدَى ثَوَابَ ذَلِكَ لِأَهْلِ تِلْكَ الْمَقَابِرِ،
فَدَخَلْتُ أَنَا فِي جُمْلَتِهِمْ فَغَفَرَ اللَّهُ لِي.
وَقَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ لَمَّا صَحِبَ أَبَا أُسَامَةَ وَالِبَةَ بْنَ
الْحُبَابِ قَدِمَ بِهِ بَغْدَادَ فَكَانَ أَوَّلَ شِعْرٍ قَالَهُ أَبُو نُوَاسٍ:
حَامِلُ الْهَوَى تَعِبُ يَسْتَخِفُّهُ الطَّرَبُ
إِنْ بَكَى يَحِقُّ لَهُ لَيْسَ مَا بِهِ لَعِبُ
تَضْحَكِينَ لَاهِيَةً وَالْمُحِبُّ يَنْتَحِبُ
تَعْجَبِينَ مِنْ سَقَمِي صِحَّتِي هِيَ الْعَجَبُ
وَقَالَ الْمَأْمُونُ: مَا أَحْسَنَ قَوْلَهُ:
وَمَا النَّاسُ إِلَّا هَالِكٌ وَابْنُ هَالِكٍ وَذُو نَسَبٍ فِي الْهَالِكِينَ
عَرِيقُ
إِذَا امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ لَهُ عَنْ عَدُوٍّ فِي ثِيَابِ
صَدِيقِ
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَمَا أَشَدَّ رَجَاءَهُ بِرَبِّهِ حَيْثُ يَقُولُ:
تَكَثَّرْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ الْخَطَايَا فَإِنَّكَ لَاقِي رَبًّا غَفُورَا
سَتُبْصِرُ إِذْ وَرَدْتَ عَلَيْهِ عَفْوًا وَتَلْقَى سَيِّدًا مَلِكًا قَدِيرًا
تَعَضُّ نَدَامَةً كَفَّيْكَ مِمَّا تَرَكْتَ مَخَافَةَ النَّارِ السُّرُورَا
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ
أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ الثِّقَاتِ الْمَشْهُورِينَ.
وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ الدِّمَشْقِيُّ
تِلْمِيذُ الْأَوْزَاعِيِّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ
وَمِائَةٍ
فِيهَا حَبَسَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ أَسَدَ بْنَ يَزِيدَ؛ لِأَجْلِ أَنَّهُ نَقَمَ
عَلَى الْأَمِينِ لَعِبَهُ وَتَهَاوُنَهُ فِي أَمْرِ الرَّعِيَّةِ، وَارْتِكَابَهُ
اللَّعِبَ وَالصَّيْدَ فِي هَذَا الْوَقْتِ.
وَوَجَّهَ الْأَمِينُ أَحْمَدَ بْنَ مَزْيَدَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُمَيْدِ
بْنِ قَحْطَبَةَ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِشْرُونَ
أَلْفًا إِلَى حُلْوَانَ لِقِتَالِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ أَمِيرِ الْحَرْبِ
مِنْ جِهَةِ الْمَأْمُونِ فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى قَرِيبٍ مِنْ حُلْوَانَ
خَنْدَقَ طَاهِرٌ عَلَى جَيْشِهِ خَنْدَقًا، وَجَعَلَ يَعْمَلُ الْحِيلَةَ فِي
إِيقَاعِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْأَمِيرَيْنِ، فَاخْتَلَفَا فَرَجَعَا وَلَمْ
يُقَاتِلَاهُ، وَدَخَلَ طَاهِرٌ إِلَى حُلْوَانَ وَجَاءَهُ كِتَابُ الْمَأْمُونِ
بِتَسْلِيمِ مَا تَحْتَ يَدِهِ إِلَى هَرْثَمَةَ بْنِ أَعْيَنَ، وَأَنْ
يَتَوَجَّهَ هُوَ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا رَفَعَ الْمَأْمُونُ مَنْزِلَةَ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ وَلَّاهُ
أَعْمَالًا كِبَارًا، وَسَمَّاهُ ذَا الرِّيَاسَتَيْنِ.
وَفِيهَا وَلَّى الْأَمِينُ نِيَابَةَ الشَّامِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحِ
بْنِ عَلِيٍّ وَقَدْ كَانَ أَخْرَجَهُ مِنْ سِجْنِ الرَّشِيدِ وَأَمَرَهُ أَنْ
يَبْعَثَ لَهُ رِجَالًا وَجُنُودًا لِقِتَالِ طَاهِرٍ وهَرْثَمَةَ، فَلَمَّا
وَصَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ إِلَى الرَّقَّةِ أَقَامَ بِهَا، وَكَتَبَ
إِلَى رُؤَسَاءِ الشَّامِ
يَتَأَلَّفُهُمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ، فَقَدِمَ
عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ وَقَعَتْ حُرُوبٌ كَانَ مَبْدَؤُهَا مِنْ
أَهْلِ حِمْصَ وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ وَطَالَ الْقِتَالُ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَاتَ
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ هُنَالِكَ، فَرَجَعَ الْجَيْشُ إِلَى بَغْدَادَ
صُحْبَةَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ، فَتَلَقَّاهُ
أَهْلُ بَغْدَادَ بِالْإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا جَاءَهُ رَسُولُ الْأَمِينِ
يَطْلُبُهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنَا بِمُسَامِرٍ وَلَا مُضْحِكٍ، وَلَا
وَلِيتُ لَهُ عَمَلًا وَلَا جَاءَ لَهُ عَلَى يَدَيَّ مَالٌ، فَلِأَيِّ شَيْءٍ
يُرِيدُنِي فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ ؟
ذِكْرُ سَبَبِ خَلْعِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ وَكَيْفَ
أَفْضَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى أَخِيهِ الْمَأْمُونِ
لَمَّا أَصْبَحَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ وَلَمْ
يَذْهَبْ إِلَى الْأَمِينِ لَمَّا طَلَبَهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَقْدَمِهِ
بِالْجَيْشِ مِنْ الرَّقَّةِ قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا وَأَلَّبَهُمْ عَلَى
الْأَمِينِ، وَذَكَرَ لَعِبَهُ وَمَا يَتَعَاطَاهُ مِنَ اللَّهْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
مِنَ الْمَعَاصِي، وَأَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْخِلَافَةُ لِمَنْ هَذَا حَالُهُ،
وَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُوقِعَ الْبَأْسَ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ حَثَّهُمْ عَلَى
الْقِيَامِ عَلَيْهِ وَالنُّهُوضِ إِلَيْهِ، وَنَدَبَهُمْ لِذَلِكَ، فَالْتَفَّ
عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَبَعَثَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ إِلَيْهِ
خَيْلًا، فَاقْتَتَلُوا مَلِيًّا مِنَ النَّهَارِ، فَأَمَرَ الْحُسَيْنُ
أَصْحَابَهُ أَنْ يَتَرَجَّلُوا إِلَى الْأَرْضِ وَأَنْ يُقَاتِلُوا بِالسُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ، فَانْهَزَمَ جَيْشُ الْأَمِينِ، وَخَلَعَ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَحَدِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَخَذَ الْبَيْعَةَ مِنَ الْغَدِ لِعَبْدِ اللَّهِ الْمَأْمُونِ وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ نَقَلَ الْأَمِينَ مِنْ قَصْرِهِ إِلَى قَصْرِ أَبِي جَعْفَرٍ وَسَطَ بَغْدَادَ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ وَقَيَّدَهُ وَاضْطَهَدَهُ، وَأَمَرَ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى أُمَّهُ زُبَيْدَةَ أَنْ تَنْتَقِلَ إِلَى هُنَالِكَ فَامْتَنَعَتْ فَقَنَّعَهَا بِالسَّوْطِ، وَقَهَرَهَا عَلَى الِانْتِقَالِ، فَانْتَقَلَتْ مَعَ أَوْلَادِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ طَلَبُوا مِنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ أُعْطِيَاتِهِمْ وَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، وَصَارَ أَهْلُ بَغْدَادَ فِرْقَتَيْنِ؛ فِرْقَةً مَعَ الْخَلِيفَةِ وَفِرْقَةً عَلَيْهِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فَغَلَبَ حِزْبُ الْخَلِيفَةِ أُولَئِكَ، وَأَسَرُوا الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ وَقَيَّدُوهُ، وَدَخَلُوا بِهِ عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَفَكُّوا عَنْهُ قُيُودَهُ، وَأَجْلَسُوهُ عَلَى السَّرِيرِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِلَاحٌ مِنَ الْعَامَّةِ أَنْ يُعْطَى سِلَاحًا مِنَ الْخَزَائِنِ، فَانْتَهَبَ النَّاسُ خَزَائِنَ السِّلَاحِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَأُتِيَ الْأَمِينُ بِالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، فَلَامَهُ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِأَنَّ عَفْوَ الْخَلِيفَةِ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَعَفَا عَنْهُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَاسْتَوْزَرَهُ، وَأَعْطَاهُ الْخَاتَمَ، وَوَلَّاهُ مَا وَرَاءَ بَابِهِ، وَوَلَّاهُ الْحَرْبَ وَسَيَّرَهُ إِلَى حُلْوَانَ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْجِسْرِ هَرَبَ فِي خَدَمِهِ وَحَاشِيَتِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْأَمِينُ مَنْ يَرُدُّهُ، فَرَكِبَتِ الْخُيُولُ وَرَاءَهُ فَأَدْرَكُوهُ، فَقَاتَلَهُمْ وَقَاتَلُوهُ،
فَقَتَلُوهُ لِمُنْتَصَفِ رَجَبٍ، وَجَاءُوا بِرَأْسِهِ
إِلَى الْأَمِينِ، وَجَدَّدَ النَّاسُ بَيْعَةَ الْأَمِينِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
وَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى هَرَبَ الْفَضْلُ بْنُ
الرَّبِيعِ الْحَاجِبُ، وَاسْتَحْوَذَ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ نَائِبُ
الْمَأْمُونِ عَلَى أَكْثَرِ الْبِلَادِ، وَاسْتَنَابَ بِهَا النُّوَّابَ، مِنْ
جِهَةِ الْمَأْمُونِ وَخَلَعَتْ أَكْثَرُ الْأَقَالِيمِ الْأَمِينَ، وَبَايَعُوا
الْمَأْمُونَ وَتَدَنَّى طَاهِرٌ إِلَى الْمَدَائِنِ فَأَخَذَهَا مَعَ وَاسِطٍ
وَأَعْمَالِهَا، وَاسْتَنَابَ مِنْ جِهَتِهِ عَلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ
وَالْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ الْأَمِينِ
مِنَ الْبِلَادِ إِلَّا الْقَلِيلُ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا عَقَدَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ أَرْبَعَمِائَةِ لِوَاءٍ،
مَعَ كُلِّ لِوَاءٍ أَمِيرٌ، وَبَعَثَهُمْ لِقِتَالِ هَرْثَمَةَ بْنِ أَعْيَنَ
فَالْتَقَوْا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَكَسَرَهُمْ هَرْثَمَةُ، وَأَسَرَ
مُقَدَّمَهُمْ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ نَهِيكٍ، وَبَعَثَ بِهِ
إِلَى الْمَأْمُونِ وَهَرَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ جُنْدِ طَاهِرٍ، نَحْوٌ مِنْ خَمْسَةِ
آلَافٍ، فَسَارُوا إِلَى الْأَمِينِ بِبَغْدَادَ فَأَعْطَاهُمْ أَمْوَالًا
كَثِيرَةً، وَأَكْرَمَهُمْ وَغَلَّفَ لِحَاهُمْ بِالْغَالِيَةِ، فَسُمُّوا جَيْشَ
الْغَالِيَةِ. ثُمَّ نَدَبَهُمُ الْأَمِينُ وَأَرْسَلَ مَعَهُمْ جَيْشًا كَثِيفًا
لِقِتَالِ طَاهِرٍ فَهَزَمَهُمْ، وَفَرَّقَ شَمْلَهُمْ، وَأَخَذَ مَا كَانَ
مَعَهُمْ. وَاقْتَرَبَ مِنْ بَغْدَادَ فَحَاصَرَهَا، وَبَعَثَ الْقُصَّادَ
وَالْجَوَاسِيسَ يُلْقُونَ الْفِتْنَةَ بَيْنَ الْجُنْدِ حَتَّى تَفَرَّقُوا
شِيَعًا، ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَ الْجَيْشِ، وَسَعَتِ الْأَصَاغِرُ عَلَى
الْأَكَابِرِ،
وَاخْتَلَفُوا عَلَى الْأَمِينِ فِي سَادِسِ ذِي
الْحِجَّةِ، فَقَالَ بَعْضُ الْبَغَادِدَةِ:
قُلْ لِأَمِينِ اللَّهِ فِي نَفْسِهِ مَا شَتَّتَ الْجُنْدَ سِوَى الْغَالِيهْ
وَطَاهِرٌ نَفْسِي تَقِي طَاهِرًا
بِرُسْلِهِ وَالْعُدَّةِ الْكَافِيهْ أَضْحَى زِمَامُ الْمُلْكِ فِي كَفِّهِ
مُقَاتِلًا لِلْفِئَةِ الْبَاغِيهْ يَا نَاكِثًا أَسْلَمَهُ نَكْثُهُ
عُيُوبُهُ فِي جَيْشِهِ فَاشِيهْ قَدْ جَاءَكَ اللَّيْثُ بِشَدَّاتِهِ
مُسْتَكْلِبًا فِي أُسُدٍ ضَارِيَهْ فَاهْرَبْ وَلَا مَهْرَبَ مِنْ مِثْلِهِ
إِلَّا إِلَى النَّارِ أَوِ الْهَاوِيَهْ
فَتَفَرَّقَ عَلَى الْأَمِينِ شَمْلُهُ، وَحَارَ فِي أَمْرِهِ، وَجَاءَ طَاهِرُ
بْنُ الْحُسَيْنِ بِجُيُوشِهِ، فَنَزَلَ عَلَى بَابِ الْأَنْبَارِ يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ،
وَاشْتَدَّ الْحَالُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، وَأَخَذَتِ الدُّعَّارُ
وَالشُّطَّارُ أَهْلَ الصَّلَاحِ، وَخُرِّبَتِ الدِّيَارُ، وَثَارَتِ الْفِتْنَةُ
بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى قَاتَلَ الْأَخُ أَخَاهُ، وَالِابْنُ أَبَاهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى
بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ، مِنْ قِبَلِ طَاهِرٍ،
وَدَعَا لِلْمَأْمُونِ بِالْخِلَافَةِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
النَّبَوِيَّةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَوْسِمٍ دُعِيَ فِيهِ لِلْمَأْمُونِ
بِالْخِلَافَةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ الْحِمْصِيُّ، إِمَامُ أَهْلِ حِمْصَ وَفَقِيهُهَا
وَمُحَدِّثُهَا.
وَحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ الْقَاضِي، عَاشَ فَوْقَ التِّسْعِينَ، وَلَمَّا احْتُضِرَ
بَكَى بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَبْكِ، وَاللَّهِ مَا حَلَلْتُ
سَرَاوِيلِي عَلَى حَرَامٍ قَطُّ، وَلَا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيَّ خَصْمَانِ
فَبَالَيْتُ عَلَى مَنْ وَقَعَ الْحُكْمُ مِنْهُمَا.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَرْزُوقٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، كَانَ وَزِيرًا
لِلرَّشِيدِ فَتَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَتَزَهَّدَ، وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ
أَنْ يُطْرَحَ قَبْلَ مَوْتِهِ عَلَى مَزْبَلَةٍ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْحَمَهُ.
أَبُو شِيصٍ الشَّاعِرُ مُحَمَّدُ بْنُ رَزِينِ بْنِ سُلَيْمَانَ، كَانَ إِنْشَادُ
الشِّعْرِ وَإِنْشَاؤُهُ،
وَنَظْمُهُ أَسْهَلَ عَلَيْهِ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ،
وَكَانَ هُوَ وَمُسْلِمُ بْنُ الْوَلِيدِ الْمُلَقَّبُ صَرِيعَ الْغَوَانِي
وَأَبُو نُوَاسٍ، وَدِعْبِلٌ يَجْتَمِعُونَ وَيَتَنَاشَدُونَ. وَقَدْ عَمِيَ أَبُو
الشِّيصِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ.
وَمِنْ جَيِّدِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
وَقَفَ الْهَوَى بِي حَيْثُ أَنْتِ فَلَيْسَ لِي مُتَأَخَّرٌ عَنْهُ وَلَا
مُتَقَدَّمُ أَجِدُ الْمَلَامَةَ فِي هَوَاكِ لَذِيذَةً
حُبًّا لِذِكْرِكِ فَلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ أَشْبَهْتِ أَعْدَائِي فَصِرْتُ
أُحِبُّهُمْ
إِذْ كَانَ حَظِّي مِنْكِ حَظِّي مِنْهُمُ وأَهَنْتِنِي فَأَهَنْتُ نَفْسِي
صَاغِرًا
مَا مَنْ يَهُونُ عَلَيْكِ مِمَّنْ يُكْرَمُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ
وَمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَقَدْ أَلَحَّ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ وَهَرْثَمَةُ
بْنُ أَعْيَنَ، وَمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْجُنُودِ فِي حِصَارِ بَغْدَادَ
وَالتَّضْيِيقِ عَلَى مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ وَهَرَبَ الْقَاسِمُ بْنُ الرَّشِيدِ،
وَعَمُّهُ مَنْصُورُ بْنُ الْمَهْدِيِّ إِلَى الْمَأْمُونِ فَأَكْرَمَهُمَا،
وَوَلَّى أَخَاهُ الْقَاسِمَ جُرْجَانَ وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ بِبَغْدَادَ وَنُصِبَتْ
عَلَيْهَا الْمَجَانِيقُ وَالْعَرَّادَاتُ وَضَاقَ الْأَمِينُ بِهِمْ ذَرْعًا،
وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ مَا يُنْفِقُ فِي الْجُنْدِ، فَاضْطَرَّ إِلَى ضَرْبِ
آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ، وَهَرَبَ كَثِيرٌ مِنْ
جُنْدِهِ إِلَى طَاهِرٍ، وَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ خَلْقٌ كَثِيرٌ،
وَأُخِذَتْ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ مِنَ التُّجَّارِ، وَبَعَثَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ
إِلَى قُصُورٍ كَثِيرَةٍ، وَدُورٍ شَهِيرَةٍ، وَأَمَاكِنَ وَمَحَالَّ كَثِيرَةٍ
فَحَرَّقَهَا لِمَا رَأَى فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فَعَلَ كُلَّ هَذَا
فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ، وَلِتَدُومَ الْخِلَافَةُ لَهُ فَلَمْ تَدُمْ، وَقُتِلَ،
وَخُرِّبَتْ دِيَارُهُ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا وَفَعَلَ طَاهِرٌ مِثْلَ مَا
فَعَلَ الْأَمِينُ، حَتَّى كَادَتْ بَغْدَادُ تَخْرَبُ بِكَمَالِهَا، فَقَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ:
مَنْ ذَا أَصَابَكِ يَا بَغْدَادُ بِالْعَيْنِ أَلَمْ تَكُونِي زَمَاناً قُرَّةَ
الْعَيْنِ أَلَمْ يَكُنْ فِيكِ قَوْمٌ كَانَ مَسْكَنُهُمْ
وَكَانَ قُرْبُهُمْ زَيْنًا مِنَ الزَّيْنِ
صَاحَ الْغُرَابُ بِهِمْ بِالْبَيْنِ
فَافْتَرَقُوا مَاذَا لَقِيتِ بِهِمْ مِنْ لَوْعَةِ الْبَيْنِ أَسْتَوْدِعُ
اللَّهَ قَوْماً مَا ذَكَرْتُهُمْ
إِلَّا تَحَدَّرَ مَاءُ الْعَيْنِ مِنْ عَيْنِي كَانُوا فَمَزَّقَهُمْ دَهْرٌ
وَصَدَّعَهُمْ
وَالدَّهْرُ يَصْدَعُ مَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ
وَقَدْ أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْإِمَامُ أَبُو
جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا صَالِحًا، وَأَوْرَدَ فِي ذَلِكَ
قَصِيدَةً طَوِيلَةً جِدًّا لِبَعْضِ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، فِيهَا بَسْطُ مَا
وَقَعَ، وَهِيَ هَوْلٌ مِنَ الْأَهْوَالِ اخْتَصَرْنَاهَا بِالْكُلِّيَّةِ.
وَاسْتَحْوَذَ طَاهِرٌ عَلَى مَا كَانَ فِي الضِّيَاعِ مِنَ الْغَلَّاتِ
وَالْحَوَاصِلِ لِلْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْأَمَانِ،
وَخَلْعِ الْأَمِينِ، وَالْبَيْعَةِ لِلْمَأْمُونِ، فَاسْتَجَابَ لَهُ جَمَاعَةٌ؛
مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ قَحْطَبَةَ، وَيَحْيَى بْنُ عَلِيِّ
بْنِ مَاهَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ الطُّوسِيُّ، وَكَاتَبَهُ
خَلْقٌ مِنَ الْهَاشِمِيِّينَ وَالْأُمَرَاءِ، وَصَارَتْ قُلُوبُهُمْ مَعَهُ.
وَاتَّفَقَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَنْ ظَفِرَ أَصْحَابُ الْأَمِينِ بِبَعْضِ
أَصْحَابِ طَاهِرٍ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ طَائِفَةً عِنْدَ قَصْرِ صَالِحٍ،
فَلَمَّا جَرَى ذَلِكَ بَطَرَ الْأَمِينُ، وَأَقْبَلَ عَلَى اللَّهْوِ وَالشُّرْبِ
وَاللَّعِبِ، وَوَكَّلَ الْأُمُورَ، وَتَدْبِيرَهَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ
نَهِيكٍ، ثُمَّ قَوِيَتْ شَوْكَةُ أَصْحَابِ طَاهِرٍ وَضَعُفَ جَانِبُ الْأَمِينِ
جِدًّا، وَانْحَازَ النَّاسُ إِلَى جَيْشِ طَاهِرٍ، وَكَانَ جَانِبُهُ آمِنًا
جِدًّا، لَا يَخَافُ أَحَدٌ فِيهِ مِنْ سَرِقَةٍ وَلَا نَهْبٍ، وَلَا
غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدِ احْتَازَ طَاهِرٌ أَكْثَرَ مَحَالِّ
بَغْدَادَ وَأَرْبَاضِهَا، وَمَنَعَ الْمَلَّاحِينَ أَنْ يَحْمِلُوا طَعَامًا
إِلَى مَنْ خَالَفَهُ، لِيُضَيِّقَ عَلَيْهِمْ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ عِنْدَهُمْ
جِدًّا، وَنَدِمَ مَنْ لَمْ يَكُنْ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمُنِعَتِ
التُّجَّارُ مِنَ الْقُدُومِ إِلَى بَغْدَادَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَضَائِعِ أَوِ
الدَّقِيقِ، وَصُرِفَتِ السُّفُنُ إِلَى الْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ جَرَتْ
بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ؛ فَمِنْ ذَلِكَ وَقْعَةُ دَرْبِ
الْحِجَارَةِ، كَانَتْ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ
مِنْ أَصْحَابِ طَاهِرٍ، كَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْعَيَّارِينَ وَالْحَرَافِشَةُ
مِنَ الْبَغَادِدَةِ يَأْتِي عُرْيَانًا، وَمَعَهُ بَارِيَّةٌ مُقَيَّرَةٌ،
وَتَحْتَ كَتِفِهِ مِخْلَاةٌ فِيهَا حِجَارَةٌ، فَإِذَا ضَرَبَهُ الْفَارِسُ مِنْ
بَعِيدٍ بِالسَّهْمِ اتَّقَاهُ بِبَارِيَّتِهِ فَلَا يُؤْذِيهِ، وَإِذَا اقْتَرَبَ
مِنْهُ رَمَاهُ بِحَجَرٍ فِي الْمِقْلَاعِ فَأَصَابَهُ، فَهَزَمُوهُمْ بِذَلِكَ.
وَوَقْعَةُ الشَّمَّاسِيَّةِ أُسِرَ فِيهَا هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ فَشَقَّ
ذَلِكَ عَلَى طَاهِرٍ، وَأَمَرَ بِعَقْدِ جِسْرٍ عَلَى دِجْلَةَ فَوْقَ
الشَّمَّاسِيَّةِ، وَعَبَرَ بِنَفْسِهِ، وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ
فَقَاتَلَهُمْ بِنَفْسِهِ أَشَدَّ الْقِتَالِ حَتَّى أَزَالَهُمْ عَنْ
مَوَاضِعِهِمْ، وَاسْتَرَدَّ مِنْهُمْ هَرْثَمَةَ، وَجَمَاعَةً مِمَّنْ كَانُوا
أَسَرُوهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ وَقَالَ
فِي ذَلِكَ:
مُنِيتُ بِأَشْجَعِ الثَّقَلَيْنِ قَلْبًا إِذَا مَا طَالَ
لَيْسَ كَمَا يَطُولُ
لَهُ مَعَ كُلِّ ذِي بَدَنٍ رَقِيبٌ يُشَاهِدُهُ وَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ
فَلَيْسَ بِمُغْفِلٍ أَمْرًا عِنَادًا إِذَا مَا الْأَمْرُ ضَيَّعَهُ الْغُفُولُ
وَضَعُفَ أَمْرُ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ ابْنِ زُبَيْدَةَ جِدًّا، وَلَمْ يَبْقَ
عِنْدَهُ مَالٌ يُنْفِقُهُ عَلَى جُنْدِهِ، وَلَا عَلَى نَفْسِهِ، وَتَفَرَّقَ
أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ عَنْهُ، وَبَقِيَ مُضْطَهَدًا ذَلِيلًا. وَانْقَضَتْ هَذِهِ
السَّنَةُ بِكَمَالِهَا وَالنَّاسُ فِي بَغْدَادَ فِي قَلَاقِلَ وَزَلَازِلَ
وَهَيْشَاتٍ وَقِتَالٍ وَحِصَارٍ وَحَرْقٍ وَغَرَقٍ وَسَرَقٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى الْهَاشِمِيُّ،
وَدَعَا لِلْمَأْمُونِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ السَّادَةِ الْأَعْيَانِ:
شُعَيْبُ بْنُ حَرْبٍ، أَحَدُ الزُّهَّادِ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، إِمَامُ أَهْلِ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ.
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُسْهِرٍ، قَاضِي جَبُّلٍ، أَخُو عَلِيِّ بْنِ
مُسْهِرٍ.
وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، أَبُو سَعِيدٍ، الْمُلَقَّبُ بِوَرْشٍ، أَحَدُ
الْقُرَّاءِ الْمَشْهُورِينَ الرُّوَاةُ عَنْ نَافِعِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ.
وَوَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ الرُّؤَاسِيُّ، أَحَدُ أَعْلَامِ الْمُحَدِّثِينَ،
مَاتَ عَنْ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ
وَمِائَةٍ
فِيهَا خَامَرَ خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ عَلَى مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ وَأَخَذَ
الْأَمَانَ مِنْ طَاهِرٍ. وَدَخَلَ هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ الْجَانِبَ
الشَّرْقِيَّ، وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ
وَثَبَ خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى عَلَى
جِسْرِ بَغْدَادَ فَقَطَعَاهُ وَنَصَبَا رَايَتَهُمَا عَلَيْهِ، وَدَعَوْا إِلَى
بَيْعَةِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَأْمُونِ وَخَلْعِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ وَدَخَلَ
طَاهِرٌ يَوْمَ الْخَمِيسِ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَبَاشَرَ الْقِتَالَ
بِنَفْسِهِ، وَنَادَى بِالْأَمَانِ لِمَنْ لَزِمَ مَنْزِلَهُ، وَجَرَتْ عِنْدَ
دَارِ الرَّقِيقِ وَالْكَرْخِ وَغَيْرِهِمَا وَقَعَاتٌ، وَأَحَاطَ بِمَدِينَةِ
أَبِي جَعْفَرٍ وَالْخُلْدِ وَقَصْرِ زُبَيْدَةَ، وَنَصَبَ الْمَجَانِيقَ حَوْلَ
السُّورِ، وَحِذَاءَ قَصْرِ زُبَيْدَةَ، وَرَمَاهُ بِالْمَنْجَنِيقِ، فَخَرَجَ
مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ بِأُمِّهِ وَوَلَدِهِ إِلَى مَدِينَةِ أَبِي جَعْفَرٍ،
وَتَفَرَّقَ عَنْهُ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ فِي الطُّرُقِ، لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى
أَحَدٍ. وَدَخَلَ الْأَمِينُ قَصْرَ أَبِي جَعْفَرٍ وَانْتَقَلَ مِنَ الْخُلْدِ
لِكَثْرَةِ مَا يَأْتِيهِ فِيهِ مِنْ رَمْيِ الْمَنْجَنِيقِ، وَأَمَرَ بِتَحْرِيقِ
مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْأَثَاثِ وَالْبُسُطِ وَالْأَمْتِعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ
فَحُصِرَ فِيهِ حَصْرًا شَدِيدًا. وَمَعَ هَذِهِ الشِّدَّةِ وَالضِّيقِ
وَإِشْرَافِهِ عَلَى الْهَلَاكِ، خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ
إِلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ، وَاسْتَدْعَى بِنَبِيذٍ وَجَارِيَةٍ فَغَنَّتْهُ، فَلَمْ
يَنْطَلِقْ لِسَانُهَا إِلَّا بِالْفُرَاقِيَّاتِ وَذِكْرِ الْمَوْتِ، وَهُوَ
يَقُولُ لَهَا: غَيِّرِي هَذَا.
فَتَذْكُرُ نَظِيرَهُ، حَتَّى غَنَّتْهُ آخِرَ مَا
غَنَّتْهُ أَنْ قَالَتْ:
أَمَا وَرَبِّ السُّكُونِ وَالْحَرَكِ إِنَّ الْمَنَايَا كَثِيرَةُ الشَّرَكِ مَا
اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا
دَارَتْ نُجُومُ السَّمَاءِ فِي الْفَلَكِ إِلَّا لِنَقْلِ السُّلْطَانِ مِنْ
مَلِكٍ
غَاوٍ يُحِبُّ الدُّنْيَا إِلَى مَلِكِ وَمُلْكُ ذِي الْعَرْشِ دَائِمٌ أَبَدًا
لَيْسَ بِفَانٍ وَلَا بِمُشْتَرَكِ
قَالَ: فَسَبَّهَا وَأَقَامَهَا مِنْ حَضْرَتِهِ، فَعَثَرَتْ فِي قَدَحٍ كَانَ
لَهُ مِنْ بَلُّورٍ فَكَسَرَتْهُ، فَتَطَيَّرَ بِذَلِكَ. وَلَمَّا ذَهَبَتِ
الْجَارِيَةُ سَمِعَ صَارِخًا يَقُولُ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ
[ يُوسُفَ: 41 ] فَقَالَ لِجَلِيسِهِ: وَيْحَكَ، أَلَا تَسْمَعُ ؟ فَتَسَمَّعَ
فَلَمْ يَسْمَعْ شَيْئًا، ثُمَّ عَادَ الصَّوْتُ بِذَلِكَ، فَمَا كَانَ إِلَّا
لَيْلَةٌ أَوْ لَيْلَتَانِ حَتَّى قُتِلَ فِي رَابِعِ صَفَرٍ يَوْمَ الْأَحَدِ،
وَقَدْ جَهِدَ فِي حَصْرِهِ ذَلِكَ، بِحَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ
طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ؛ فَجَاعَ لَيْلَةً فَمَا أُتِيَ بِرَغِيفٍ وَدَجَاجَةٍ
إِلَّا بَعْدَ كُلْفَةٍ كَبِيرَةٍ، ثُمَّ طَلَبَ مَاءً فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ،
فَبَاتَ عَطْشَانًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ قُتِلَ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبَ الْمَاءَ.
ذِكْرُ كَيْفِيَّةِ مَقْتَلِهِ
لَمَّا اشْتَدَّ بِهِ الْأَمْرُ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنَ
الْأُمَرَاءِ وَالْخَدَمِ وَالْجُنْدِ، فَشَاوَرَهُمْ فِي أَمْرِهِ، فَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: تَذْهَبُ بِمَنْ بَقِيَ مَعَكَ إِلَى الْجَزِيرَةِ أَوِ الشَّامِ
فَتَتَقَوَّى بِالْأَمْوَالِ، وَتَسْتَخْدِمَ الرِّجَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ تَخْرُجُ إِلَى طَاهِرٍ وَتَأْخُذُ مِنْهُ أَمَانًا، وَتُبَايِعُ لِأَخِيكَ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَإِنَّ أَخَاكَ سَيَأْمُرُ لَكَ بِمَا يَكْفِيكَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَغَايَةُ مُرَادِكَ الدَّعَةُ وَالرَّاحَةُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ لَكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هَرْثَمَةُ أَوْلَى بِأَنْ يَأْخُذَ لَكَ الْأَمَانَ؛ فَإِنَّهُ مَوْلَاكُمْ أَحَنَى عَلَيْكُمْ. فَمَالَ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْأَحَدِ الرَّابِعِ مِنْ صَفَرٍ بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ وَاعَدَ هَرْثَمَةَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ، ثُمَّ لَبِسَ ثِيَابَ الْخِلَافَةِ، وَطَيْلَسَانًا، وَاسْتَدْعَى بِوَلَدَيْهِ فَشَمَّهُمَا وَضَمَّهُمَا إِلَيْهِ، وَقَالَ: أَسْتُوْدِعُكُمَا اللَّهَ، وَمَسَحَ دُمُوعَهُ بِطَرَفِ كُمِّهِ، ثُمَّ رَكِبَ عَلَى فَرَسٍ سَوْدَاءَ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ شَمْعَةٌ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى هَرْثَمَةَ أَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ، وَرَكِبَا فِي حَرَّاقَةٍ فِي دِجْلَةَ، وَبَلَغَ ذَلِكَ طَاهِرًا، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: أَنَا الَّذِي فَعَلْتُ هَذَا كُلَّهُ وَيَذْهَبُ إِلَى غَيْرِي، وَيُنْسَبُ هَذَا كُلُّهُ إِلَى هَرْثَمَةَ ! فَلَحِقَهُمَا وَهُمَا فِي الْحَرَّاقَةِ، فَأَمَالَهَا أَصْحَابُهُ فَغَرِقَتْ فِي الْمَاءِ، فَغَرِقَ مَنْ فِيهَا، غَيْرَ أَنَّ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ سَبَحَ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ وَأَسَرَهُ بَعْضُ الْجُنْدِ، وَجَاءَ فَأَعْلَمَ طَاهِرًا بِذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ جُنْدًا مِنَ الْعَجَمِ، فَجَاءُوا إِلَى الْبَيْتِ الَّذِي قَدْ أَوَى إِلَيْهِ، وَعِنْدَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: ادْنُ مِنِّي فَإِنِّي أَجِدُ وَحْشَةً شَدِيدَةً. وَجَعَلَ يَلْتَفُّ فِي ثِيَابِهِ شَدِيدًا، وَقَلْبُهُ يَخْفِقُ خَفَقَانًا عَظِيمًا، كَادَ يَخْرُجُ مِنْ صَدْرِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ، قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ثُمَّ دَنَا مِنْهُ أَحَدُهُمْ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: وَيْحَكُمُ، أَنَا ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَا ابْنُ هَارُونَ، أَنَا أَخُو الْمَأْمُونِ اللَّهَ اللَّهَ فِي دَمِي ! فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ تَكَاثَرُوا عَلَيْهِ وَذَبَحُوهُ مِنْ قَفَاهُ، وَذَهَبُوا بِرَأْسِهِ إِلَى طَاهِرٍ وَتَرَكُوا جُثَّتَهُ، ثُمَّ جَاءُوا
مِنْ بَاكِرٍ إِلَيْهَا، فَلَفُّوهَا فِي جُلِّ فَرَسٍ،
وَذَهَبُوا بِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِأَرْبَعِ لَيَالٍ خَلَتْ
مِنْ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ
وَمِائَةٍ.
وَهَذَا شَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَةِ الْأَمِينِ
هُوَ مُحَمَّدٌ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْأَمِينُ بْنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ
مُحَمَّدٍ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَيُقَالُ:
أَبُو مُوسَى الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ الْبَغْدَادِيُّ، وَأُمُّهُ أُمُّ
جَعْفَرٍ زُبَيْدَةُ بِنْتُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ.
كَانَ مَوْلِدُهُ بِالرُّصَافَةِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ. وَأَتَتْهُ الْخِلَافَةُ
بِمَدِينَةِ السَّلَامِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ جُمَادَى
الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، وَقُتِلَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِخَمْسٍ
بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، يَعْنِي سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ،
قَتَلَهُ قُرَيْشٌ الدَّنْدَانِيُّ، وَحُمِلُ رَأْسُهُ إِلَى طَاهِرِ بْنِ
الْحُسَيْنِ فَنَصَبَهُ عَلَى رُمْحٍ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ قُلِ اللَّهُمَّ
مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ
تَشَاءُ الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ: 26 ]. وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ
وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ طَوِيلًا سَمِينًا أَبْيَضَ،
أَقْنَى الْأَنْفِ، صَغِيرَ الْعَيْنَيْنِ، عَظِيمَ الْكَرَادِيسِ، بَعِيدًا مَا
بَيْنَ
الْمَنْكِبَيْنِ، وَقَدْ رَمَاهُ بَعْضُهُمْ بِكَثْرَةِ
اللَّعِبِ وَالشُّرْبِ، وَقِلَّةِ الصَّلَاةِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ
طَرَفًا مِنْ سِيرَتِهِ فِي إِكْثَارِهِ مِنِ اقْتِنَاءِ السُّودَانِ
وَالْخِصْيَانِ، وَإِعْطَائِهِمُ الْأَمْوَالَ وَالْجَوَاهِرَ، وَأَمْرِهِ
بِإِحْضَارِ الْمَلَاهِي وَالْمُغَنِّينَ مِنْ سَائِرِ الْبُلْدَانِ، وَأَنَّهُ
أَمَرَ بِعَمَلِ خَمْسِ حَرَّاقَاتٍ عَلَى صُورَةِ الْفِيلِ، وَالْأَسَدِ،
وَالْعُقَابِ، وَالْحَيَّةِ، وَالْفَرَسِ، وَأَنْفَقَ عَلَى ذَلِكَ أَمْوَالًا
جَزِيلَةً جِدًّا، وَقَدِ امْتَدَحَهُ أَبُو نُوَاسٍ بِشِعْرٍ أَقْبَحَ فِي
مَعْنَاهُ مِنْ صَنِيعِ الْأَمِينِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِهِ:
سَخَّرَ اللَّهُ لِلْأَمِينِ مَطَايَا لَمْ تُسَخَّرْ لِصَاحِبِ الْمِحْرَابِ
فَإِذَا مَا رِكَابُهُ سِرْنَ بَرًّا سَارَ فِي الْمَاءِ رَاكِبًا لَيْثَ غَابِ
ثُمَّ وَصَفَ كُلًّا مِنْ تِلْكَ الْحَرَّاقَاتِ.
وَاعْتَنَى الْأَمِينُ بِبِنَايَاتٍ هَائِلَةٍ لِلنُّزْهَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَأَنْفَقَ فِي ذَلِكَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً جِدًّا، فَكَثُرَ النَّكِيرُ عَلَيْهِ
بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ جَلَسَ يَوْمًا فِي مَجْلِسٍ أَنْفَقَ عَلَيْهِ
مَالًا جَزِيلًا فِي الْخُلْدِ، وَقَدْ فُرِشَ لَهُ بِأَنْوَاعِ الْحَرِيرِ،
وَنُضِّدَ بِآنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَحْضَرَ نُدَمَاءَهُ، وَأَمَرَ
الْقَهْرَمَانَةَ أَنْ تُهَيِّئَ لَهُ مِائَةَ جَارِيَةٍ حَسْنَاءَ، وَأَمَرَهَا
أَنْ تَبْعَثَهُنَّ إِلَيْهِ عَشْرًا بَعْدَ عَشْرٍ يُغَنِّينَهُ، فَلَمَّا
جَاءَتِ الْعَشْرُ الْأُوَلُ انْدَفَعْنَ يُغَنِّينَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ:
هُمْ قَتَلُوهُ كَيْ يَكُونُوا مَكَانَهُ كَمَا غَدَرَتْ
يَوْمًا بِكِسْرَى مَرَازِبُهُ
فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَتَبَرَّمَ وَضَرَبَ رَأْسَهَا بِالْكَأْسِ، وَأَمَرَ
بِهَا أَنْ تُلْقَى إِلَى الْأَسَدِ، فَأَكَلَهَا، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِعَشْرٍ
فَانْدَفَعْنَ يُغَنِّينَ:
مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ
نَهَارِ
يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِرًا يَنْدُبْنَهُ يَلْطِمْنَ قَبْلَ تَبَلُّجِ
الْأَسْحَارِ
فَطَرَدَهُنَّ، وَاسْتَدْعَى بِعَشْرٍ غَيْرِهِنَّ، فَلَمَّا حَضَرْنَ انْدَفَعْنَ
يُغَنِّينَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ:
كُلَيْبٌ لَعَمْرِي كَانَ أَكْثَرَ نَاصِرًا وَأَيْسَرَ ذَنْبًا مِنْكَ ضُرِّجَ
بِالدَّمِ
فَطَرَدَهُنَّ وَقَامَ مِنْ فَوْرِهِ، وَأَمَرَ بِتَخْرِيبِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ
وَتَحْرِيقِ مَا فِيهِ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْأَدَبِ، فَصِيحًا، يَقُولُ الشِّعْرَ
وَيُحِبُّهُ وَيُعْطِي عَلَيْهِ الْجَوَائِزَ الْكَثِيرَةَ، وَكَانَ شَاعِرُهُ
أَبَا نُوَاسٍ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو نُوَاسٍ مَدَائِحَ حِسَانًا جِدًّا،
وَقَدْ وَجَدَهُ مَسْجُونًا فِي حَبْسِ الرَّشِيدِ مَعَ الزَّنَادِقَةِ،
فَأَحْضَرَهُ، وَأَطْلَقُهُ، وَأَطْلَقَ لَهُ مَالًا، وَجَعَلَهُ مِنْ
نُدَمَائِهِ، ثُمَّ حَبَسَهُ مَرَّةً أُخْرَى فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَطَالَ
حَبْسَهُ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ أَنْ لَا يَشْرَبَ
الْخَمْرَ، وَلَا يَأْتِي الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، فَامْتَثَلَ ذَلِكَ،
وَكَانَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَعْدَمَا اسْتَتَابَهُ الْأَمِينُ،
وَقَدْ تَأَدَّبَ عَلَى الْكِسَائِيِّ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِهِ حَدِيثًا أَوْرَدَهُ
عَنْهُ لَمَّا عُزِّيَ فِي غُلَامٍ لَهُ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي
أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمَنْصُورِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ:مَنْ مَاتَ مُحْرِمًا حُشِرَ مُلَبِّيًا
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ
وَالْفُرْقَةِ حَتَّى أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى خَلْعِهِ وَعَزْلِهِ، ثُمَّ إِلَى
التَّضْيِيقِ عَلَيْهِ وَقَتْلِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَسَامَحَهُ، وَأَنَّهُ
حُصِرَ فِي آخِرِ أَمْرِهِ حَتَّى احْتَاجَ إِلَى مُصَانَعَةِ هَرْثَمَةَ،
فَخَرَجَ إِلَيْهِ لِيَجْتَمِعَ بِهِ، فَأُلْقِيَ مِنَ الْحَرَّاقَةِ، فَسَبَحَ
إِلَى الشَّطِّ الْآخَرِ مِنْ دِجْلَةَ فَدَخَلَ دَارًا لِبَعْضِ الْعَامَّةِ،
وَهُوَ فِي غَايَةِ الْخَوْفِ وَالدَّهَشِ وَالْجُوعِ وَالْعُرْيِ وَالْقَلَقِ،
فَجَعَلَ الرَّجُلُ يُلَقِّنُهُ الصَّبْرَ وَالِاسْتِغْفَارَ فَاشْتَغَلَ بِذَلِكَ
سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَ الطَّلَبُ وَرَاءَهُ مِنْ جِهَةِ طَاهِرِ
بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَكَانَ الْبَابُ ضَيِّقًا
فَدَخَلُوا عَلَيْهِ يَتَدَافَعُونَ، وَقَامَ إِلَيْهِمْ فَجَعَلَ يُدَافِعُهُمْ
عَنْ نَفْسِهِ بِمِخَدَّةٍ فِي يَدِهِ، فَمَا وَصَلُوا إِلَيْهِ حَتَّى عَرْقَبُوهُ
وَضَرَبُوا رَأْسَهُ وَخَاصِرَتَهُ بِالسُّيُوفِ، ثُمَّ ذَبَحُوهُ، وَأَخَذُوا
رَأْسَهُ وَجُثَّتَهُ فَأَتَوْا بِهِمَا طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ فَفَرِحَ
بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَأَمَرَ بِنَصْبِ الرَّأْسِ فَوْقَ رُمْحٍ هُنَاكَ،
حَتَّى أَصْبَحَ النَّاسُ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَوْقَ الرُّمْحِ عِنْدَ بَابِ
الْأَنْبَارِ وَكَثُرَ عَدَدُ النَّاسِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَ
طَاهِرٌ بِرَأْسِ الْأَمِينِ مَعَ ابْنِ عَمِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ،
وَبَعَثَ مَعَهُ بِالْبُرْدَةِ وَالْقَضِيبِ وَالْمُصَلَّى وَكَانَ مِنْ خُوصٍ
مُبَطَّنٍ
فَسَلَّمَهُ إِلَى ذِي الرِّيَاسَتَيْنِ، فَدَخَلَ بِهِ
عَلَى الْمَأْمُونِ عَلَى تُرْسٍ، فَلَمَّا رَآهُ سَجَدَ وَأَمَرَ لِمَنْ جَاءَ
بِهِ بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَقَدْ قَالَ ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ حِينَ قَدِمَ
الرَّأْسُ، يُؤَلِّبُ عَلَى طَاهِرٍ: أَمَرْنَاهُ بِأَنْ يَأْتِيَ بِهِ أَسِيرًا،
فَأَرْسَلَ بِهِ عَقِيرًا. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: قَدْ مَضَى مَا مَضَى. وَكَتَبَ
طَاهِرٌ إِلَى الْمَأْمُونِ كِتَابًا ذَكَرَ فِيهِ صُورَةَ مَا وَقَعَ مِنَ
الْقِتَالِ حَتَّى آلَ الْحَالُ إِلَى مَا آلَ إِلَيْهِ.
وَلَمَّا قُتِلَ الْأَمِينُ هَدَأَتِ الْفِتَنُ، وَخَمَدَتِ الشُّرُورُ، وَأَمِنَ
النَّاسُ، وَطَابَتِ النُّفُوسُ، وَدَخَلَ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ إِلَى
بَغْدَادَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ وَخَطَبَهُمْ
خُطْبَةً بَلِيغَةً، ذَكَرَ فِيهَا آيَاتٍ كَثِيرَةً مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ
اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَأَمَرَهُمْ فِيهَا
بِالْجَمَاعَةِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ
فَأَقَامَ بِهِ، وَأَمَرَ بِتَحْوِيلِ زُبَيْدَةَ مِنْ قَصْرِ أَبِي جَعْفَرٍ
إِلَى قَصْرِ الْخُلْدِ، فَخَرَجَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَبَعَثَ بِمُوسَى وَعَبْدِ اللَّهِ
ابْنَيِ الْأَمِينِ إِلَى عَمِّهِمَا الْمَأْمُونِ بِخُرَاسَانَ، وَكَانَ ذَلِكَ
رَأْيًا سَدِيدًا.
وَقَدْ وَثَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْجُنْدِ بِطَاهِرٍ بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ مِنْ
مَقْتَلِ الْأَمِينِ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَرْزَاقَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ
إِذْ ذَاكَ مَالٌ، فَتَحَزَّبُوا وَاجْتَمَعُوا، وَنَهَبُوا بَعْضَ مَتَاعِهِ
وَنَادَوْا: يَا مُوسَى، يَا مَنْصُورُ. وَاعْتَقَدُوا أَنَّ مُوسَى بْنَ
الْأَمِينِ الْمُلَقَّبَ بِالنَّاطِقِ بِالْحَقِّ هُنَاكَ، وَإِذَا هُوَ قَدْ
سَيَّرَهُ طَاهِرٌ إِلَى عَمِّهِ الْمَأْمُونِ وَانْحَازَ طَاهِرٌ بِمَنْ مَعَهُ
مِنَ الْقُوَّادِ نَاحِيَةً، وَعَزَمَ عَلَى قِتَالِهِمْ وَمُنَاجَزَتِهِمْ بِمَنْ
مَعَهُ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْهِ، وَاعْتَذَرُوا، وَنَدِمُوا عَلَى مَا كَانُوا
فَعَلُوا، فَأَمَرَ لَهُمْ بِرِزْقِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؛ بِعِشْرِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ
اقْتَرَضَهَا مِنْ بَعْضِ النَّاسِ، فَطَابَتِ الْخَوَاطِرُ،
وَاتَّسَقَ الْحَالُ وَصَلَحَ أَمْرُ بَغْدَادَ.
وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ قَدْ أَسِفَ عَلَى قَتْلِ مُحَمَّدِ ابْنِ
زُبَيْدَةَ، وَرَثَاهُ بِأَبْيَاتٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَأْمُونَ فَبَعَثَ
إِلَيْهِ يُعَنِّفُهُ وَيَلُومُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ
مَرَاثِيَ كَثِيرَةً لِلنَّاسِ فِي الْأَمِينِ، وَذَكَرَ مِنْ أَشْعَارِ الَّذِينَ
هَجَوْهُ طَرَفًا، وَذَكَرَ مِنْ شِعْرِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ حِينَ قَتَلَهُ
قَوْلَهُ:
مَلَكْتَ النَّاسَ قَسْرًا وَاقْتِدَارًا وَقَتَلْتَ الْجَبَابِرَةَ الْكِبَارَا
وَوَجَّهْتَ الْخِلَافَةَ نَحْوَ مَرْوَ إِلَى الْمَأْمُونِ تَبْتَدِرُ
ابْتِدَارَا
خِلَافَةُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَأْمُونِ بْنِ هَارُونَ
الرَّشِيدِ
لَمَّا قُتِلَ أَخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ بِبَغْدَادَ فِي
رَابِعِ صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ: فِي آخِرِ
الْمُحَرَّمِ اسْتَوْسَقَتِ الْبَيْعَةُ شَرْقًا وَغَرْبًا لِلْمَأْمُونِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الرَّشِيدِ، فَوَلَّى الْحَسَنَ بْنَ سَهْلٍ نِيَابَةَ الْعِرَاقِ
وَفَارِسَ وَالْأَهْوَازِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ،
وَبَعَثَ نُوَّابَهُ إِلَى هَذِهِ الْأَقَالِيمِ، وَكَتَبَ إِلَى طَاهِرِ بْنِ
الْحُسَيْنِ وَهُوَ بِبَغْدَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى الرَّقَّةِ لِحَرْبِ نَصْرِ
بْنِ شَبَثٍ وَوَلَّاهُ نِيَابَةَ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ وَالْمَوْصِلِ
وَالْمَغْرِبِ. وَكَتَبَ إِلَى هَرْثَمَةَ بْنِ أَعْيَنَ بِنِيَابَةِ خُرَاسَانَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى
بْنِ مُوسَى
الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ. وَيَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ الْقَطَّانُ. فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ سَادَةُ الْعُلَمَاءِ فِي
زَمَانِهِمْ فِي الْحَدِيثِ وَأَسْمَاءِ الرِّجَالِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ
وَمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ بَغْدَادَ نَائِبًا عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ
الْمَأْمُونِ وَوَجَّهَ نُوَّابَهُ إِلَى بَقِيَّةِ أَعْمَالِهِ، وَتَوَجَّهَ
طَاهِرٌ إِلَى نِيَابَةِ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ،
وَسَارَ هَرْثَمَةُ إِلَى نِيَابَةِ خُرَاسَانَ.
وَكَانَ قَدْ خَرَجَ فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ
مِنْهَا الْحَسَنُ الْهِرْشُ يَدْعُو إِلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَبَى الْأَمْوَالَ، وَانْتَهَبَ الْأَنْعَامَ،
وَعَاثَ فِي الْبِلَادِ فَسَادًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَأْمُونُ جَيْشًا،
فَقَتَلُوهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ بِالْكُوفَةِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، يَوْمَ الْخَمِيسِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ،
يَدْعُو إِلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَالْعَمَلِ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: ابْنُ طَبَاطَبَا. وَكَانَ الْقَائِمُ
بِأَمْرِهِ وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ بَيْنَ يَدَيْهِ أَبُو السَّرَايَا السَّرِيُّ
بْنُ مَنْصُورٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَقَدْ أَصْفَقَ أَهْلُ الْكُوفَةِ عَلَى
وِفَاقِهِ وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَوَفَدَتْ إِلَيْهِ
الْأَعْرَابُ مِنْ ضَوَاحِي الْكُوفَةِ وَكَانَ النَّائِبُ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ
الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، فَبَعَثَ
الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ إِلَى سُلَيْمَانَ يَلُومُهُ وَيُؤَنِّبُهُ عَلَى ذَلِكَ،
وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِعَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ
صُحْبَةَ زُهَيْرِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، فَتَقَاتَلُوا خَارِجَ الْكُوفَةِ فَهَزَمُوا زُهَيْرًا وَاسْتَبَاحُوا جَيْشَهُ وَنَهَبُوا مَا كَانَ مَعَهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءَ سَلْخَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنَ الْوَقْعَةِ تُوُفِّيَ ابْنُ طَبَاطَبَا أَمِيرُ الشِّيعَةِ فَجْأَةً يُقَالُ: إِنَّ أَبَا السَّرَايَا سَمَّهُ، وَأَقَامَ مَكَانَهُ غُلَامًا أَمْرَدَ يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَانْعَزَلَ زُهَيْرٌ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى قَصْرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ وَأَرْسَلَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ مَعَ عُبْدُوسِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَرْبَعَةَ آلَافِ فَارِسٍ مَدَدًا لِزُهَيْرٍ فَاتَّقَعُوا وَأَبُو السَّرَايَا، فَهَزَمَهُمْ أَبُو السَّرَايَا وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْ أَصْحَابِ عُبْدُوسٍ أَحَدٌ وَانْتَشَرَ الطَّالِبِيُّونَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ وَضَرَبَ أَبُو السَّرَايَا الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي الْكُوفَةِ وَنَقَشَ عَلَيْهَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ الْآيَةَ [ الصَّفِّ: 4 ]، ثُمَّ بَعَثَ أَبُو السَّرَايَا جُيُوشَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ وَوَاسِطٍ وَالْمَدَائِنِ، فَهَزَمُوا مَنْ فِيهَا وَدَخَلُوهَا قَهْرًا، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ فَاهْتَمَّ لِذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ وَكَتَبَ إِلَى هَرْثَمَةَ مِنْ خُرَاسَانَ يَسْتَدْعِيهِ لِحَرْبِ أَبِي السَّرَايَا، فَتَمَنَّعَ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ إِلَى أَبِي السَّرَايَا، فَهَزَمَ أَبَا السَّرَايَا غَيْرَ مَرَّةٍ وَطَرَدَهُ حَتَّى رَدَّهُ إِلَى الْكُوفَةِ وَوَثَبَ الطَّالِبِيُّونَ عَلَى دَورِ بَنِي الْعَبَّاسِ بِالْكُوفَةِ فَنَهَبُوهَا، وَخَرَّبُوا ضِيَاعَهُمْ، وَفَعَلُوا فِعَالًا قَبِيحَةً وَبَعَثَ أَبُو السَّرَايَا إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَاسْتَجَابُوا لَهُ، وَبَعَثَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ حُسَيْنَ بْنَ حَسَنٍ الْأَفْطَسِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ، لِيُقِيمَ لَهُمُ الْمَوْسِمَ، فَتَهَيَّبَ أَنْ يَدْخُلَهَا
جَهْرَةً، وَلَمَّا سَمِعَ نَائِبُ مَكَّةَ وَهُوَ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى بْنِ
مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بِقُدُومِهِ
هَرَبَ مِنْ مَكَّةَ طَالِبًا أَرْضَ الْعِرَاقِ، وَبَقِيَ النَّاسُ بِلَا
إِمَامٍ، فَسُئِلَ مُؤَذِّنُهَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ
الْأَزْرَقِيُّ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ فَأَبَى، فَقِيلَ لِقَاضِيهَا مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ فَامْتَنَعَ، وَقَالَ: لِمَنْ أَدْعُو
وَقَدْ هَرَبَ نُوَّابُ الْبِلَادِ. فَقَدَّمَ النَّاسُ رَجُلًا مِنْ عُرْضِهِمْ،
فَصَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى حُسَيْنِ بْنِ
الْحَسَنِ الْأَفْطَسِ، فَدَخَلَ مَكَّةَ فِي عَشَرَةِ رَهْطٍ قَبْلَ الْغُرُوبِ
فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا وَصَلَّى بِالنَّاسِ
الْفَجْرَ بِمُزْدَلِفَةَ وَدَفَعَ بِهِمْ، وَأَقَامَ بَقِيَّةَ الْمَنَاسِكِ فِي
أَيَّامِ مِنًى لِلنَّاسِ، فَدَفَعَ النَّاسُ مِنْ عَرَفَةَ بِغَيْرِ إِمَامٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَابْنُ شَابُورَ، وَعَمْرٌو
الْعَنْقَزِيُّ، وَأَبُو مُطِيعٍ الْبَلْخِيُّ، وَيُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ مِائَتَيْنِ مِنَ
الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ جَلَسَ حُسَيْنُ بْنُ حَسَنٍ
الْأَفْطَسُ عَلَى طِنْفِسَةٍ مُثَلَّثَةٍ خَلْفَ الْمَقَامِ، وَأَمَرَ
بِتَجْرِيدِ الْكَعْبَةِ مِمَّا عَلَيْهَا مِنْ كَسَاوِي بَنِي الْعَبَّاسِ،
وَقَالَ: نُطَهِّرُهَا مِنْ كَسَاوِيهِمْ. وَكَسَاهَا مُلَاءَتَيْنِ صَفْرَاوَيْنِ
عَلَيْهِمَا اسْمُ أَبِي السَّرَايَا، ثُمَّ أَخَذَ مَا فِي كَنْزِ الْكَعْبَةِ
مِنَ الْأَمْوَالِ، وَتَتَبَّعَ وَدَائِعَ بَنِي الْعَبَّاسِ فَأَخَذَهَا، حَتَّى
إِنَّهُ لَيَأْخُذُ مَالَ ذِي الْمَالِ، وَيُلْزِمُهُ بِإِقْرَارٍ لِلْمُسَوِّدَةِ
فَيَأْخُذُهُ.
وَهَرَبَ مِنْهُ النَّاسُ إِلَى الْجِبَالِ وَحَكَّ مَا عَلَى رُءُوسِ
الْأَسَاطِينِ مِنَ الذَّهَبِ، فَكَانَ يَنْزِلُ مِنَ السَّارِيَةِ مِقْدَارٌ
يَسِيرٌ بَعْدَ جُهْدٍ جَهِيدٍ، وَقَلَعُوا مَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ
الشَّبَابِيكِ، وَبَاعُوهَا بِالْأَثْمَانِ الْبَخْسَةِ، وَأَسَاءُوا السِّيرَةَ
جِدًّا. فَلَمَّا بَلَغَهُ مَقْتَلُ أَبِي السَّرَايَا كَتَمَ ذَلِكَ، وَأَمَّرَ
رَجُلًا مِنَ الطَّالِبِيِّينَ شَيْخًا كَبِيرًا، وَاسْتَمَرَّ عَلَى سُوءِ
السِّيرَةِ.
وَفِي سَادِسَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا، قَهَرَ هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ
أَبَا السَّرَايَا وَهَزَمَ جَيْشَهُ،
وَأَخْرَجَهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الطَّالِبِيِّينَ مِنَ
الْكُوفَةِ وَدَخَلَهَا هَرْثَمَةُ، وَمَنْصُورُ بْنُ الْمَهْدِيِّ فَأَمَّنُوا
أَهْلَهَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِأَحَدٍ، وَسَارَ أَبُو السَّرَايَا بِمَنْ
مَعَهُ إِلَى الْقَادِسِيَّةِ ثُمَّ سَارَ مِنْهَا فَاعْتَرَضَهُمْ بَعْضُ جُيُوشِ
الْمَأْمُونِ فَهَزَمُوهُمْ أَيْضًا، وَجُرِحَ أَبُو السَّرَايَا جِرَاحَةً
مُنْكَرَةً جِدًّا، وَهَرَبُوا يُرِيدُونَ الْجَزِيرَةَ إِلَى مَنْزِلِ أَبِي
السَّرَايَا بِرَأْسِ الْعَيْنِ، فَاعْتَرَضَهُمْ بَعْضُ الْجُيُوشِ أَيْضًا
فَأَسَرُوهُمْ، وَأَتَوْا بِهِمُ الْحَسَنَ بْنَ سَهْلٍ وَهُوَ بِالنَّهْرَوَانِ
حِينَ طَرَدَتْهُ الْحَرْبِيَّةُ، فَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِ أَبِي السَّرَايَا،
فَجَزِعَ مِنْ ذَلِكَ جَزَعًا شَدِيدًا جِدًّا، وَطِيفَ بِرَأْسِهِ، وَأَمَرَ
بِجَسَدِهِ أَنْ يُقَطَّعَ بِاثْنَيْنِ، فَيُنْصَبَ عَلَى جِسْرِ بَغْدَادَ
فَكَانَ بَيْنَ خُرُوجِهِ وَقَتْلِهِ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ، فَبَعَثَ الْحَسَنُ بْنُ
سَهْلٍ مُحَمَّدَ بْنَ مُحَمَّدٍ إِلَى الْمَأْمُونِ مَعَ رَأْسِ أَبِي
السَّرَايَا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
أَلَمْ تَرَ ضَرْبَةَ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ بِسَيْفِكَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَا أَدَارَتْ مَرْوَ رَأْسَ أَبِي السَّرَايَا
وَأَبْقَتْ عِبْرَةً لِلْعَابِرِينَا
وَكَانَ الَّذِي فِي يَدِهِ الْبَصْرَةُ مِنَ الطَّالِبِيِّينَ زَيْدُ بْنُ مُوسَى
بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ،
وَيُقَالُ لَهُ: زَيْدُ النَّارِ. لِكَثْرَةِ مَا حَرَّقَ مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي
لِلْمُسَوِّدَةِ، فَأَسَرَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَمَّنَهُ، وَبَعَثَ
بِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْقُوَّادِ إِلَى الْيَمَنِ، لِقِتَالِ مَنْ هُنَاكَ
مِنْ الطَّالِبِيِّينَ الَّذِينَ قَدْ خَرَجُوا بِهَا.
وَفِيهَا خَرَجَ بِالْيَمَنِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى بْنِ
جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَيُقَالُ
لَهُ: الْجَزَّارُ. لِكَثْرَةِ مَنْ قَتَلَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَأَخَذَ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ. وَقَدْ كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ أَبِي
السَّرَايَا، وَظُهُورُهُ بِأَرْضِ الْكُوفَةِ طَمِعَ فَسَافَرَ إِلَى أَهْلِ
الْيَمَنِ، فَلَمَّا بَلَغَ نَائِبَهَا قُدُومُهُ تَرَكَ لَهُ الْيَمَنَ وَسَارَ
إِلَى خُرَاسَانَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاجْتَازَ بِمَكَّةَ، وَأَخَذَ
أَمَّهُ مِنْهَا، وَاسْتَحْوَذَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى عَلَى بِلَادِ
الْيَمَنِ، وَجَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ وَخُطُوبٌ كَبِيرَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا،
وَرَجَعَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْعَلَوِيُّ الَّذِي ادَّعَى الْخِلَافَةَ
بِمَكَّةَ عَمَّا كَانَ يَزْعُمُهُ، وَقَالَ: كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْمَأْمُونَ
قَدْ مَاتَ كَمَا سَمِعَ ذَلِكَ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ حَيَاتُهُ، وَأَنَا
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ مِمَّا كُنْتُ ادَّعَيْتُ مِنْ ذَلِكَ،
وَقَدْ رَجَعْتُ إِلَى بَيْعَتِهِ، وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْ عُرْضِ
الْمُسْلِمِينَ.
وَهَزَمَ أَبُو السَّرَايَا وَأَصْحَابُهُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الَّذِي
تَأَمَّرَ بِالْكُوفَةِ وَادَّعَى الْخِلَافَةَ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُمَا عَلَى
يَدِ هَرْثَمَةَ بْنِ أَعْيَنَ فَوَشَى بَعْضُ النَّاسِ إِلَى الْمَأْمُونِ أَنَّ
هَرْثَمَةَ لَوْ شَاءَ مَا ظَهَرَ أَبُو السَّرَايَا وَأَصْحَابُهُ، فَاسْتَدْعَى
بِهِ إِلَى مَرْوَ فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَوُطِئَ بَطْنُهُ،
ثُمَّ رُفِعَ إِلَى الْحَبْسِ، ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ، وَانْطَوَى
خَبَرُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَمَّا وَصَلَ خَبَرُ قَتْلِهِ إِلَى بَغْدَادَ
سَعَتِ الْعَامَّةُ وَالْحَرْبِيَّةُ بِالْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ نَائِبِ الْعِرَاقِ
وَغَيْرِهَا، وَقَالُوا: لَا نَرْضَى بِهِ، وَلَا بِعُمَّالِهِ بِبِلَادِنَا.
وَأَقَامُوا إِسْحَاقَ بْنَ مُوسَى بْنِ الْمَهْدِيِّ نَائِبًا، فَاجْتَمَعَ
أَهْلُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى ذَلِكَ،
وَالْتَفَّتْ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْقُوَّادِ وَالْأَجْنَادِ، وَرَاسَلَ مَنْ وَافَقَ الْعَامَّةَ عَلَى ذَلِكَ
مِنَ الْقُوَّادِ يُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ
بَيْنَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ اتَّفَقَ
الْحَالُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ شَيْئًا مِنْ أَرْزَاقِهِمْ يُنْفِقُونَهَا فِي
شَهْرِ رَمَضَانَ، فَمَا زَالَ يَمْطُلُهُمْ إِلَى ذِي الْقَعْدَةِ حَتَّى
يُدْرِكَ الزَّرْعَ، فَخَرَجَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ زَيْدُ بْنُ مُوسَى بْنِ
جَعْفَرٍ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: زَيْدُ النَّارِ، وَقَدْ كَانَ خُرُوجُهُ هَذِهِ
الْمَرَّةَ بِنَاحِيَةِ الْأَنْبَارِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ هِشَامٍ
نَائِبُ بَغْدَادَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ وَالْحَسَنُ بِالْمَدَائِنِ إِذْ
ذَاكَ فَأُخِذَ وَأُتِيَ بِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ هِشَامٍ، وَأَطْفَأَ اللَّهُ
نَائِرَتَهُ.
وَبَعَثَ الْمَأْمُونُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَطْلُبُ جَمَاعَةً مِنَ
الْعَبَّاسِيِّينَ، وَأَحْصَى كَمِ الْعَبَّاسِيُّونَ ؟ فَبَلَغُوا ثَلَاثَةً
وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، مَا بَيْنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى.
وَفِيهَا قَتَلَتِ الرُّومُ مَلِكَهُمْ إِلْيُونَ، وَقَدْ مَلَكَهُمْ سَبْعَ
سِنِينَ، وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ مِيخَائِيلَ نَائِبَهُ. وَفِيهَا قَتَلَ
الْمَأْمُونُ يَحْيَى بْنَ عَامِرِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ
لِلْمَأْمُونِ: يَا أَمِيرَ الْكَافِرِينَ فَقُتِلَ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو إِسْحَاقَ مُحَمَّدٌ الْمُعْتَصِمُ بْنُ هَارُونَ
الرَّشِيدِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو ضَمْرَةَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ وَسَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، وَمُبَشِّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرَ، وَمُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا رَاوَدَ أَهْلُ بَغْدَادَ مَنْصُورَ بْنَ الْمَهْدِيِّ عَلَى الْخِلَافَةِ
فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَرَاوَدُوهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ نَائِبًا
لِلْمَأْمُونِ، يَدْعُو لَهُ فِي الْخُطْبَةِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ،
وَذَلِكَ بَعْدَ إِخْرَاجِ أَهْلِ بَغْدَادَ عَلِيَّ بْنَ هِشَامٍ نَائِبَ
الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ بَعْدَ أَنْ جَرَتْ حُرُوبٌ
كَثِيرَةٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا عَمَّ الْبَلَاءُ بِالْعَيَّارِينَ وَالشُّطَّارِ وَالْفُسَّاقِ
بِبَغْدَادَ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى، كَانُوا يَأْتُونَ الرَّجُلَ
يَسْأَلُونَهُ مَالًا يُقْرِضُهُمْ أَوْ يَصِلُهُمْ بِهِ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ
فَيَأْخُذُونَ جَمِيعَ مَا فِي مَنْزِلِهِ، وَرُبَّمَا تَعَرَّضُوا لِلْغِلْمَانِ
وَالنِّسْوَانِ، وَيَأْتُونَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ فَيَسْتَاقُونَ مَا فِيهَا مِنَ
الْأَنْعَامِ، وَيَأْخُذُونَ مَا شَاءُوا مِنَ الْغِلْمَانِ وَالنِّسْوَانِ
وَنَهَبُوا أَهْلَ قُطْرَبُّلَ وَلَمْ يَدَعُوا لَهُمْ شَيْئًا أَصْلًا،
فَانْتَدَبَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: خَالِدٌ الدَّرْيُوشُ. وَآخَرُ يُقَالُ لَهُ:
سَهْلُ بْنُ سَلَامَةَ أَبُو حَاتِمٍ الْأَنْصَارِيُّ مِنْ أَهْلِ
خُرَاسَانَ وَالْتَفَّ عَلَيْهِمَا جَمَاعَةٌ مِنَ
الْعَامَّةِ، فَرَدُّوا شَرَّهُمْ وَقَاتَلُوهُمْ، وَقَوُوا عَلَيْهِمْ،
وَمَنَعُوهُمْ مِنَ الْعَيْثِ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَاسْتَقَرَّتِ الْأُمُورُ
كَمَا كَانَتْ، وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا رَجَعَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ إِلَى
بَغْدَادَ وَصَالَحَ الْجُنْدَ، وَانْفَصَلَ مَنْصُورُ بْنُ الْمَهْدِيِّ وَمَنِ
الْتَفَّ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ.
وَفِيهَا بَايَعَ الْمَأْمُونُ لَعَلِيٍّ الرِّضَا بْنِ مُوسَى الْكَاظِمِ بْنِ
جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ الشَّهِيدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ،
وَسَمَّاهُ الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَطَرَحَ لُبْسَ السَّوَادِ وَلَبِسَ الْخُضْرَةِ، وَأَلْزَمَ جُنْدَهُ بِذَلِكَ،
وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْآفَاقِ وَالْأَقَالِيمِ. وَكَانَتْ مُبَايَعَتُهُ لَهُ
يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ
إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَأْمُونَ رَأَى أَنَّ عَلِيًّا الرِّضَا
خَيْرُ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَلَيْسَ فِي بَنِي الْعَبَّاسِ مِثْلُهُ فِي عِلْمِهِ
وَدِينِهِ، فَجَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ.
ذِكْرُ بَيْعَةِ أَهْلِ بَغْدَادَ
لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ
لَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَادَ أَنَّ الْمَأْمُونَ بَايَعَ لِعَلِيِّ
بْنِ مُوسَى بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ؛
فَمِنْ مُجِيبٍ مُبَايِعٍ، وَمِنْ آبٍ مَانِعٍ، وَجُمْهُورُ الْعَبَّاسِيِّينَ
عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَكَانَ الْبَاعِثَ لَهُمْ وَالْقَائِمَ فِي ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ
وَمَنْصُورٌ ابْنَا الْمَهْدِيِّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ لِخَمْسٍ
بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، أَظْهَرَ الْعَبَّاسِيُّونَ الْبَيْعَةَ
لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ وَلَقَّبُوهُ الْمُبَارَكَ وَكَانَ أَسْوَدَ
اللَّوْنِ وَمِنْ بَعْدِهِ لِابْنِ أَخِيهِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بْنِ
الْمَهْدِيِّ، وَخَلَعُوا الْمَأْمُونَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ
لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، أَرَادُوا أَنْ يَدْعُوا
لِلْمَأْمُونِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَتِ الْعَامَّةُ: لَا
نَرْضَى إِلَّا بِإِبْرَاهِيمَ فَقَطْ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ وَاضْطَرَبُوا فِيمَا
بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يُصَلُّوا الْجُمُعَةَ وَصَلَّى النَّاسُ فُرَادَى أَرْبَعَ
رَكَعَاتٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ افْتَتَحَ نَائِبُ طَبَرَسْتَانَ جِبَالَهَا وَبِلَادَ
اللَّارِزِ وَالشَّيْزَرِ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ سَلْمًا الْخَاسِرَ قَالَ
فِي ذَلِكَ شِعْرًا. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ سَلْمًا تُوُفِّيَ قَبْلَ
ذَلِكَ بِسَنَتَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَصَابَ أَهْلَ خُرَاسَانَ وَالرَّيَّ وَأَصْبَهَانَ
مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ، وَعَزَّ الطَّعَامُ جِدًّا. وَفِيهَا تَحَرَّكَ بَابَكُ
الْخُرَّمِيُّ وَاتَّبَعَهُ طَوَائِفُ مِنَ السِّفْلَةِ وَالْجَهَلَةِ، وَكَانَ
يَقُولُ بِالتَّنَاسُخِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَسَيَأْتِي مَا آلَ أَمْرُهُ إِلَيْهِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو أُسَامَةَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، وَحَرَمِيُّ
بْنُ عُمَارَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، صَاحِبُ
أَبِي السَّرَايَا الَّذِي كَانَ قَدْ بَايَعَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ بَعْدَ ابْنِ
طَبَاطَبَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَمِائَتَيْنِ
فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهَا بُويِعَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ
بِالْخِلَافَةِ بِبَغْدَادَ، وَخَلْعِ الْمَأْمُونِ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ خَامِسُ الْمُحَرَّمِ صَعِدَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ
الْمِنْبَرَ فَبَايَعَهُ النَّاسُ وَلُقِّبَ بِالْمُبَارَكِ، وَغَلَبَ عَلَى
الْكُوفَةِ وَأَرْضِ السَّوَادِ وَطَلَبَ مِنْهُ الْجُنْدُ أَرْزَاقَهُمْ
فَمَاطَلَهُمْ ثُمَّ أَعْطَاهُمْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ، وَكَتَبَ
لَهُمْ بِتَعْوِيضٍ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ فَخَرَجُوا لَا يَمُرُّونَ بِشَيْءٍ
إِلَّا انْتَهَبُوهُ، وَأَخَذُوا حَاصِلَ الْفَلَّاحِ وَالسُّلْطَانِ،
وَاسْتَنَابَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ الْعَبَّاسَ بْنَ مُوسَى
الْهَادِي، وَعَلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِسْحَاقَ بْنَ مُوسَى الْهَادِي.
وَفِيهَا خَرَجَ خَارِجِيٌّ يُقَالُ لَهُ مَهْدِيُّ بْنُ عُلْوَانَ، فَبَعَثَ
إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ جَيْشًا عَلَيْهِمْ أَبُو إِسْحَاقَ الْمُعْتَصِمُ بْنُ
الرَّشِيدِ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْقُوَّادِ فَكَسَرَهُ وَرَدَّ كَيْدَهُ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ أَخُو أَبِي السَّرَايَا بِالْكُوفَةِ فَبَيَّضَ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ مَنْ قَاتَلَهُ، فَقُتِلَ
أَخُو أَبِي السَّرَايَا وَأُرْسِلَ بِرَأْسِهِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ. وَلَمَّا
كَانَ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
ظَهَرَتْ فِي السَّمَاءِ حُمْرَةٌ،
ثُمَّ ذَهَبَتْ وَبَقِيَ بَعْدَهَا عَمُودَانِ أَحْمَرَانِ
فِي السَّمَاءِ إِلَى آخِرِ اللَّيْلِ. وَجَرَتْ بِالْكُوفَةِ حُرُوبٌ بَيْنَ
أَصْحَابِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ الْمَأْمُونِ وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا
وَعَلَى أَصْحَابِ إِبْرَاهِيمَ السَّوَادُ وَعَلَى أَصْحَابِ الْمَأْمُونِ
الْخُضْرَةُ وَاسْتَمَرَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ إِلَى أَوَاخِرِ رَجَبٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَفِرَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ بِسَهْلِ بْنِ
سَلَامَةَ الْمُطَّوِّعِيِّ فَسَجَنَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ الْتَفَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ
مِنَ النَّاسِ يَقُومُونَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ
الْمُنْكَرِ، وَلَكِنْ كَانُوا قَدْ جَاوَزُوا الْحَدَّ وَأَنْكَرُوا عَلَى
السُّلْطَانِ، وَدَعَوْا إِلَى الْقِيَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَصَارَ
بَابُ دَارِهِ كَأَنَّهُ بَابُ سُلْطَانٍ عَلَيْهِ السِّلَاحُ وَالرِّجَالُ
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أُبَّهَةِ الْمُلْكِ، فَقَاتَلَهُ الْجُنْدُ فَكَسَرُوا
أَصْحَابَهُ، فَأَلْقَى السِّلَاحَ وَصَارَ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالنَّظَّارَةِ،
ثُمَّ اخْتَفَى فِي بَعْضِ الدُّرُوبِ فَأُخِذَ وَجِيءَ بِهِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ
فَسَجَنَهُ سَنَةً كَامِلَةً.
وَفِيهَا أَقْبَلَ الْمَأْمُونُ مِنْ خُرَاسَانَ قَاصِدًا الْعِرَاقَ، وَذَلِكَ
أَنَّ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ الْعَلَوِيَّ أَخْبَرَ الْمَأْمُونَ
بِمَا النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْفِتَنِ وَالِاخْتِلَافِ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ،
وَبِأَنَّ الْهَاشِمِيِّينَ قَدْ أَنْهَوْا إِلَى النَّاسِ بِأَنَّ الْمَأْمُونَ
مَسْحُورٌ وَمَجْنُونٌ، وَأَنَّهُمْ قَدْ يَنْقِمُونَ عَلَيْكَ بِبَيْعَتِكَ
لِعَلِيِّ بْنِ مُوسَى، وَأَنَّ الْحَرْبَ قَائِمَةٌ بَيْنَ الْحَسَنِ بْنِ
سَهْلٍ وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ
فَاسْتَدْعَى الْمَأْمُونُ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أُمَرَائِهِ، وَأَقْرِبَائِهِ،
فَسَأَلَهُمْ عَمَّا أَخْبَرَهُ بِهِ عَلَيٌّ الرِّضَا فَصَدَقُوهُ الْأَمْرَ،
بَعْدَ أَخْذِهِمُ الْأَمَانَ مِنْهُ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّ الْفَضْلَ بْنَ سَهْلٍ
حَسَّنَ لَكَ قَتْلَ هَرْثَمَةَ، وَقَدْ كَانَ نَاصِحًا لَكَ، فَعَاجَلَهُ
فَقَتَلَهُ، وَإِنَّ طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ مَهَّدَ لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى
قَادَ لَكَ الْخِلَافَةَ بِزِمَامِهَا فَطَرَدْتَهُ إِلَى الرَّقَّةِ فَقَعَدَ لَا
عَمَلَ لَهُ وَلَا تَسْتَنْهِضُهُ فِي أَمْرٍ، وَإِنَّ الْأَرْضَ تَفَتَّقَتْ
بِالشُّرُورِ وَالْفِتَنِ مِنْ أَقْطَارِهَا. فَلَمَّا تَحَقَّقَ ذَلِكَ
الْمَأْمُونُ أَمَرَ بِالرَّحِيلِ إِلَى بَغْدَادَ وَقَدْ فَطِنَ الْفَضْلُ بْنُ
سَهْلٍ بِمَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ النَّاصِحُونَ لِلْمَأْمُونِ، فَضَرَبَ
قَوْمًا وَنَتَفَ لِحَى بَعْضِهِمْ.
وَسَارَ الْمَأْمُونُ فَلَمَّا كَانَ بِسَرْخَسَ عَدَا قَوْمٌ عَلَى الْفَضْلِ
بْنِ سَهْلٍ وَزِيرِ الْمَأْمُونِ وَهُوَ فِي الْحَمَّامِ فَقَتَلُوهُ
بِالسُّيُوفِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ
شَعْبَانَ، وَلَهُ سِتُّونَ سَنَةً. فَبَعَثَ الْمَأْمُونُ فِي آثَارِهِمْ فَجِيءَ
بِهِمْ؛ وَهُمْ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَمَالِيكِ فَقَتَلَهُمْ، وَكَتَبَ إِلَى
أَخِيهِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ يُعَزِّيهِ فِيهِ، وَوَلَّاهُ الْوَزَارَةَ
مَكَانَهُ. وَارْتَحَلَ الْمَأْمُونُ مِنْ سَرْخَسَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ نَحْوَ
الْعِرَاقِ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ بِالْمَدَائِنِ، وَفِي
مُقَابَلَتِهِ جَيْشٌ يُقَاتِلُونَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَأْمُونِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ الْمَأْمُونُ بُورَانَ
بِنْتَ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ، وَزَوَّجَ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى الرِّضَا
بِابْنَتِهِ أُمِّ حَبِيبٍ، وَزَوَّجَ ابْنَهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى
بْنِ جَعْفَرٍ بِابْنَتِهِ الْأُخْرَى أُمِّ الْفَضْلِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ
أَخُو عَلِيٍّ الرِّضَا وَدَعَا لِأَخِيهِ بَعْدَ الْمَأْمُونِ ثُمَّ انْصَرَفَ
بَعْدَ الْحَجِّ إِلَى الْيَمَنِ، وَقَدْ كَانَ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا حَمْدَوَيْهِ
بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ مَاهَانَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَضَمْرَةُ، وَعُمَرُ بْنُ حَبِيبٍ، وَالْفَضْلُ بْنُ
سَهْلٍ الْوَزِيرُ، وَأَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَصَلَ الْمَأْمُونُ فِي سَيْرِهِ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى الْعِرَاقِ إِلَى
مَدِينَةِ طُوسَ فَنَزَلَ بِهَا وَأَقَامَ عِنْدَ قَبْرِ أَبِيهِ أَيَّامًا مِنْ
شَهْرِ صَفَرٍ فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ أَكَلَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى
الرِّضَا عِنَبًا فَمَاتَ فَجْأَةً، فَصَلَّى عَلَيْهِ الْمَأْمُونُ وَدَفَنَهُ
إِلَى جَانِبِ أَبِيهِ الرَّشِيدِ، وَأَسِفَ عَلَيْهِ أَسَفًا كَثِيرًا فِيمَا
ظَهَرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَتَبَ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ يُعَزِّيهِ فِي عَلِيٍّ الرِّضَا
وَيُخْبِرُهُ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْحُزْنِ عَلَيْهِ، وَكَتَبَ إِلَى بَنِي
الْعَبَّاسِ بِبَغْدَادَ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ إِنَّمَا نَقِمْتُمْ عَلَيَّ
بِسَبَبِ تَوْلِيَتِي الْعَهْدَ مِنْ بَعْدِي لِعَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا
وَهَاهُوَ قَدْ مَاتَ فَارْجِعُوا إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ. فَأَجَابُوهُ
بِأَغْلَظِ جَوَابٍ كُتِبَ بِهِ إِلَى أَحَدٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَلَبَتِ السَّوْدَاءُ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ حَتَّى
قُيِّدَ فِي الْحَدِيدِ وَأُودِعَ فِي بَيْتٍ، فَكَتَبَ الْأُمَرَاءُ بِذَلِكَ
إِلَى الْمَأْمُونِ فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ: إِنِّي وَاصِلٌ عَلَى إِثْرِ كِتَابِي
هَذَا، ثُمَّ جَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَأَهْلِ بَغْدَادَ
وَتَنَكَّرُوا عَلَيْهِ وَأَبْغَضُوهُ. وَظَهَرَتِ الْفِتَنُ وَالشُّطَّارُ
وَالْفُسَّاقُ بِبَغْدَادَ وَتَفَاقَمَ الْحَالُ وَصَلَّوْا يَوْمَ الْجُمُعَةِ
ظُهْرًا، أَمَّهُمُ الْمُؤَذِّنُ مِنْ غَيْرِ خُطْبَةٍ؛ صَلَّوْا أَرْبَعَ
رَكَعَاتٍ،
وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا
بَيْنَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالْمَأْمُونِ، ثُمَّ غَلَبَتِ الْمَأْمُونِيَّةُ
عَلَيْهِمْ.
ذِكْرُ خَلْعِ أَهْلِ بَغْدَادَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
الْمَهْدِيِّ وَدُعَائِهِمْ لِلْمَأْمُونِ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ دَعَا النَّاسُ لِلْمَأْمُونِ
وَخَلَعُوا إِبْرَاهِيمَ، وَأَقْبَلَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ فِي جَيْشٍ
مِنْ جِهَةِ الْمَأْمُونِ فَحَاصَرَ بَغْدَادَ وَطَمِعَ جُنْدُهَا فِي الْعَطَاءِ،
فَطَاوَعُوهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلْمَأْمُونِ. وَقَدْ قَاتَلَ عِيسَى
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ جِهَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
الْمَهْدِيِّ ثُمَّ احْتَالَ عِيسَى حَتَّى صَارَ فِي أَيْدِي الْمَأْمُونِيَّةَ
أَسِيرًا، ثُمَّ آلَ الْحَالُ إِلَى أَنِ اخْتَفَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ
فِي آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ. وَكَانَتْ أَيَّامُهُ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا
وَاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا. وَقَدْ وَصَلَ الْمَأْمُونُ فِي هَذَا الْوَقْتِ إِلَى
هَمَذَانَ وَجُيُوشُهُ قَدِ اسْتَعَادُوا بَغْدَادَ إِلَى طَاعَتِهِ. وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَلِيُّ بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ الْعَلَوِيُّ،
الْمُلَقَّبُ بِالرِّضَا، كَانَ الْمَأْمُونُ قَدْ هَمَّ أَنْ يَنْزِلَ لَهُ عَنِ
الْخِلَافَةِ فَأَبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَجَعَلَهُ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ
بَعْدِهِ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ فَتُوُفِّيَّ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
بِطُوسَ. وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ. وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ
مِنْهُمُ الْمَأْمُونُ وَأَبُو الصَّلْتِ الْهَرَوِيُّ، وَأَبُو عُثْمَانَ
الْمَازِنِيُّ النَّحْوِيُّ، وَقَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: اللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ
أَنْ يُكَلِّفَ الْعِبَادَ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَهُمْ أَعْجَزُ مِنْ أَنْ
يَفْعَلُوا مَا يُرِيدُونَ. وَمِنْ شِعْرِهِ:
كُلُّنَا يَأْمَلُ مَدًّا فِي الْأَجَلْ وَالْمَنَايَا هُنَّ آفَاتُ الْأَمَلْ لَا
تَغُرَّنَكَ أَبَاطِيلُ الْمُنَى
وَالْزَمِ الْقَصْدَ وَدَعْ عَنْكَ الْعِلَلْ إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلٍّ زَائِلٍ
حَلَّ فِيهِ رَاكِبٌ ثُمَّ ارْتَحَلْ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا كَانَ قُدُومُ الْمَأْمُونِ أَرْضَ الْعِرَاقِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَرَّ
بِجُرْجَانَ فَأَقَامَ بِهَا شَهْرًا، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا، وَكَانَ يَنْزِلُ فِي
الْمَنْزِلِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّهْرَوانِ فَأَقَامَ
بِهَا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَقَدْ كَانَ كَتَبَ إِلَى طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ
وَهُوَ بِالرَّقَّةِ أَنْ يُوَافِيَهُ إِلَى النَّهْرَوانِ فَوَافَاهُ بِهَا وَتَلَقَّاهُ
رُءُوسُ أَهْلِ بَيْتِهِ وَالْقُوَّادُ، وَجُمْهُورُ الْجَيْشِ. فَلَمَّا كَانَ
يَوْمُ السَّبْتِ الْآخَرِ دَخَلَ بَغْدَادَ ارْتِفَاعَ النَّهَارِ، لِأَرْبَعَ
عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ صَفَرٍ، فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ وَجَيْشٍ
عَظِيمٍ، وَعَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِهِ وَقُبَابِهِمْ وَجَمِيعِ
لِبَاسِهِمُ الْخُضْرَةَ فَلَبِسَ أَهْلُ بَغْدَادَ وَبَنُو هَاشِمٍ أَجْمَعُونَ
الْخُضْرَةَ، وَنَزَلَ الْمَأْمُونُ بِالرُّصَافَةِ ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى
قَصْرِهِ عَلَى دِجْلَةَ، وَجَعَلَ الْأُمَرَاءُ، وَوُجُوهُ الدَّوْلَةِ
يَتَرَدَّدُونَ إِلَى دَارِهِ عَلَى الْعَادَةِ، وَقَدْ تَحَوَّلَ لِبَاسُ
الْبَغَادِدَةِ إِلَى الْخُضْرَةِ، وَجَعَلُوا يَحْرِقُونَ كُلَّ مَا يَجِدُونَهُ
مِنَ السَّوَادِ فَمَكَثُوا بِذَلِكَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ. ثُمَّ اسْتَعْرَضَ
حَوَائِجَ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ فَكَانَ أَوَّلَ حَاجَةٍ سَأَلَهَا أَنْ
يَرْجِعَ إِلَى لِبَاسِ السَّوَادِ فَإِنَّهُ لِبَاسُ آبَائِهِ مِنْ دَوْلَةِ
وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ. فَلَمَّا كَانَ السَّبْتُ
الْآخَرُ وَهُوَ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونُ مِنْ صَفَرٍ
جَلَسَ الْمَأْمُونُ لِلنَّاسِ وَعَلَيْهِ الْخُضْرَةُ، ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ
بِخِلْعَةٍ سَوْدَاءَ، فَأَلْبَسَهَا طَاهِرًا، ثُمَّ أَلْبَسَ بَعْدَهُ جَمَاعَةً
مِنَ الْأُمَرَاءِ السَّوَادَ فَلَبِسَ النَّاسُ السَّوَادَ وَعَادُوا إِلَى
ذَلِكَ، بَعْدَ مَا عَلِمَ مِنْهُمُ الطَّاعَةَ وَالْمُوَافَقَةَ، وَقَدْ قِيلَ:
إِنَّ الْمَأْمُونَ مَكَثَ يَلْبَسُ الْخُضْرَةَ بَعْدَ قُدُومِهِ بَغْدَادَ
سَبْعًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ عَمُّهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ بَعْدَ
اخْتِفَائِهِ سِتَّ سِنِينَ وَشُهُورًا، قَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: أَنْتَ
الْخَلِيفَةُ الْأَسْوَدُ. فَأَخَذَ فِي الِاعْتِذَارِ وَالِاسْتِغْفَارِ، ثُمَّ
قَالَ لِلْمَأْمُونِ: أَنَا الَّذِي مَنَنْتَ عَلَيْهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
بِالْعَفْوِ. وَأَنْشَدَ الْمَأْمُونَ عِنْدَ ذَلِكَ:
لَيْسَ يُزْرِي السَّوَادُ بِالرَّجُلِ الشَّهْ مِ وَلَا بِالْفَتَى الْأَدِيبِ
الْأَرِيبِ إِنْ يَكُنْ لِلسَّوَادِ مِنْكَ نَصِيبُ
فَبَيَاضُ الْأَخْلَاقِ مِنْكَ نَصِيبِي
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: وَقَدْ نَظَمَ هَذَا الْمَعْنَى بَعْضُ
الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ نَصْرُ اللَّهِ بْنُ قَلَاقِسَ الْإِسْكَنْدَرِيُّ
فَقَالَ:
رُبَّ سَوْدَاءَ وَهِيَ بَيْضَاءُ فِعْلِ حَسَدَ الْمِسْكَ عِنْدَهَا الْكَافُورُ
مِثْلُ حَبِّ الْعُيُونِ يَحْسَبُهُ النَّا سُ سَوَادًا وَإِنَّمَا هُوَ نُورُ
وَكَانَ الْمَأْمُونُ قَدْ شَاوَرَ فِي قَتْلِ عَمِّهِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ الْوَزِيرُ
الْأَحْوَلُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ قَتَلْتَهُ فَلَكَ نُظَرَاءُ،
وَإِنْ عَفَوْتَ عَنْهُ فَمَا لَكَ نَظِيرٌ. ثُمَّ شَرَعَ الْمَأْمُونُ فِي
بِنَاءِ قُصُورٍ عَلَى دِجْلَةَ إِلَى جَانِبِ قَصْرِهِ بِهَا، وَسَكَنَتِ
الْفِتَنُ وَانْزَاحَتِ الشُّرُورُ، وَأَمَرَ بِمُقَاسَمَةِ أَهْلِ السَّوَادِ
عَلَى الْخُمْسَيْنِ، وَكَانُوا يُقَاسِمُونَ عَلَى النِّصْفِ، وَاتَّخَذَ
الْقَفِيزَ الْمُلْجَمَ وَهُوَ عَشْرَةُ مَكَاكِيَّ بِالْمَكُّوكِ الْهَارُونِيِّ،
وَوَضَعَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ خَرَاجَاتِ بِلَادٍ شَتَّى، وَرَفَقَ بِالنَّاسِ
فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.
وَوَلَّى أَخَاهُ أَبَا عِيسَى بْنَ الرَّشِيدِ الْكُوفَةَ وَوَلَّى أَخَاهُ
صَالِحًا الْبَصْرَةَ وَوَلَّى عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ نِيَابَةَ
الْحَرَمَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَفِيهَا
وَاقَعَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ بَابَكَ الْخُرَّمِيَّ فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ:
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ
الشَّافِعِيُّ
وَقَدْ أَفْرَدْنَا لَهُ تَرْجَمَةً مُطَوَّلَةً فِي أَوَّلِ كِتَابِنَا "
" طَبَقَاتِ الشَّافِعِيِّينَ " "، وَلْنَذْكُرْ هَاهُنَا
مُلَخَّصًا مِنْ ذَلِكَ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
هُوَ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ
الْعَبَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شَافِعِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ
عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَّيٍّ،
الْقُرَشِيُّ الْمُطَّلِبيُّ، وَالسَّائِبُ بْنُ عُبَيْدٍ أَسْلَمَ يَوْمَ بَدْرٍ
وَابْنُهُ شَافِعُ بْنُ السَّائِبِ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَأُمُّهُ
أَزْدِيَّةٌ. وَقَدْ رَأَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ خَرَجَ
مِنْ فَرْجِهَا حَتَّى انْقَضَّ بِمِصْرَ، ثُمَّ وَقَعَ فِي كُلِّ بَلَدٍ مِنْهُ
شَظِيَّةٌ. وَقَدْ وُلِدَ الشَّافِعِيُّ بِغَزَّةَ، وَقِيلَ: بِعَسْقَلَانَ.
وَقِيلَ: بِالْيَمَنِ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَمَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ
صَغِيرٌ، فَحَمَلَتْهُ أُمُّهُ إِلَى مَكَّةَ وَهُوَ ابْنُ سَنَتَيْنِ، لِئَلَّا
يَضِيعَ نَسَبُهُ، فَنَشَأَ بِهَا، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ وَهُوَ ابْنُ سبْعِ
سِنِينَ، وَحَفِظَ " " الْمُوَطَّأَ " " وَهُوَ ابْنُ عَشْرٍ،
وَأَفْتَى وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: ابْنُ ثَمَانِي عَشْرَةَ
سَنَةً. أَذِنَ لَهُ شَيْخُهُ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزَّنْجِيُّ. وَعُنِيَ
بِاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ، وَأَقَامَ فِي هُذَيْلٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ،
وَقِيلَ: عِشْرِينَ سَنَةً، فَتَعَلَّمَ مِنْهُمْ لُغَاتِ الْعَرَبِ
وَفَصَاحَتَهَا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ
الْمَشَايِخِ وَالْأَئِمَّةِ، وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ " " الْمُوَطَّأَ
" " عَلَى مَالِكٍ مِنْ حِفْظِهِ فَأَعْجَبَتْهُ قِرَاءَتُهُ
وَهِمَّتُهُ، وَأُخِذَ عَنْهُ عِلْمُ الْحِجَازِيِّينَ بَعْدَ أَخْذِهِ، عَنْ
مُسْلِمِ
بْنِ خَالِدٍ الزَّنْجِيِّ.
وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَسْمَاءَهُمْ مُرَتَّبِينَ عَلَى
حُرُوفِ الْمُعْجَمِ. وَقَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ قُسْطَنْطِينَ،
عَنْ شِبْلٍ، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ
أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
عَنْ جِبْرِيلَ، عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ الْفِقْهَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزَّنْجِيِّ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ
وَغَيْرِهِمَا، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ مِنْهُمْ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ،
وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَغَيْرُهُمْ، كُلُّهُمْ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَفَقَّهَ أَيْضًا عَلَى مَالِكٍ
عَنْ مَشَايِخِهِ، وَتَفَقَّهَ بِهِ جَمَاعَةٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُمْ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ إِلَى زَمَانِنَا فِي مُصَنَّفٍ مُفْرَدٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ الدُّولَابِيِّ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ وَرَّاقٍ الْحُمَيْدِيِّ، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ
أَنَّهُ وَلِيَ الْحُكْمَ بِنَجْرَانَ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ، ثُمَّ تَعَصَّبُوا
عَلَيْهِ وَوَشَوْا بِهِ إِلَى الرَّشِيدِ هَارُونَ أَنَّهُ يَرُومُ الْخِلَافَةَ،
فَحُمِلَ عَلَى بَغْلٍ فِي قَيْدٍ إِلَى بَغْدَادَ فَدَخَلَهَا فِي سَنَةِ
أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ وَعُمُرُهُ ثَلَاثُونَ سَنَةً فَاجْتَمَعَ
بِالرَّشِيدِ فَتَنَاظَرَ هُوَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَأَحْسَنَ الْقَوْلَ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَتَبَيَّنَ لِلرَّشِيدِ
بَرَاءَتَهُ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ، وَأَنْزَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
عِنْدَهُ.
وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ قَدْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ بِسَنَةٍ وَقِيلَ: بِسَنَتَيْنِ
وَأَكْرَمَهُ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَكَتَبَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ
وَقْرَ بَعِيرٍ. ثُمَّ أَطْلَقَ لَهُ الرَّشِيدُ أَلْفَيْ دِينَارٍ وَقِيلَ:
خَمْسَةَ آلَافِ دِينَارٍ وَعَادَ الشَّافِعِيُّ إِلَى مَكَّةَ فَفَرَّقَ عَامَّةَ
مَا حَصَلَ لَهُ فِي أَهْلِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ مِنْ بَنِي عَمِّهِ، ثُمَّ عَادَ
الشَّافِعِيُّ إِلَى بَغْدَادَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فَاجْتَمَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ هَذِهِ الْمَرَّةَ؛ مِنْهُمْ
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ
الْكَرَابِيسِيُّ، وَالْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ النَّقَّالُ، وَأَبُو عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيُّ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى
مَكَّةَ.
وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ أَيْضًا سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، ثُمَّ
انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى مِصْرَ فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ؛ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ، كَمَا سَيَأْتِي. وَصَنَّفَ بِهَا
كِتَابَهُ " " الْأُمَّ " "، وَهُوَ مِنْ كُتُبِهِ
الْجَدِيدَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَهُوَ
مِصْرِيٌّ. وَقَدْ زَعَمَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا مِنَ
الْقَدِيمِ. وَهَذَا بَعِيدٌ وَعَجِيبٌ مِنْ مِثْلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَثْنَى عَلَى الشَّافِعِيِّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ كِبَارِ الْأَئِمَّةِ،
مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَسَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ
كِتَابًا فِي الْأُصُولِ فَكَتَبَ لَهُ " " الرِّسَالَةَ " "،
وَكَانَ يَدْعُو لَهُ فِي الصَّلَاةِ دَائِمًا، وَشَيْخُهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ
وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَقَالَ: هُوَ إِمَامٌ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ،
وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَكَانَ يَدْعُو لَهُ أَيْضًا فِي صَلَاتِهِ.
وَأَبُو عُبَيْدٍ وَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَفْصَحَ وَلَا أَعْقَلَ وَلَا أَوْرَعَ
مِنَ الشَّافِعِيِّ،
وَيَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ الْقَاضِي، وَإِسْحَاقُ بْنُ
رَاهَوَيْهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ يَطُولُ
ذِكْرُهُمْ وَشَرْحُ أَقْوَالِهِمْ.
وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَدْعُو لَهُ فِي صَلَاتِهِ نَحْوًا مِنْ
أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ أَحْمَدُ يَقُولُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي
أَيُّوبَ، عَنْ شَرَاحِيلَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنَّ اللَّهَ
يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ
لَهَا دِينَهَا قَالَ: فَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ
الْأُولَى، وَالشَّافِعِيُّ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَالَ أَبُو
دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ النَّضْرِ
بْنِ مَعْبَدٍ الْكِنْدِيِّ أَوِ الْعَبْدِيِّ، عَنِ الْجَارُودِ، عَنْ أَبِي
الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَسُبُّوا قُرَيْشًا فَإِنَّ عَالِمَهَا
يَمْلَأُ الْأَرْضَ عِلْمًا، اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَذَقْتَ أَوَّلَهَا عَذَابًا -
أَوْ وَبَالًا - فَأَذِقْ آخِرَهَا نَوَالًا.
وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي "
" مُسْتَدْرَكِهِ " "، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ، عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: لَا يَنْطَبِقُ هَذَا إِلَّا
عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ. حَكَاهُ
الْخَطِيبُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنِ
الشَّافِعِيِّ: هُوَ صَدُوقٌ لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ مَرَّةً: لَوْ كَانَ
الْكَذِبُ لَهُ مُطْلَقًا لَكَانَتْ مُرُوءَتُهُ تَمْنَعُهُ أَنْ يَكْذِبَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: الشَّافِعِيُّ فَقِيهُ
الْبَدَنِ، صَدُوقُ اللِّسَانِ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ أَنَّهُ
قَالَ: مَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَدِيثٌ غَلِطَ فِيهِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي
دَاوُدَ نَحْوَهُ.
وَقَالَ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَقَدْ
سُئِلَ: هَلْ سُنَّةٌ لَمْ تَبْلُغِ الشَّافِعِيَّ ؟ فَقَالَ: لَا. وَمَعْنَى
هَذَا أَنَّهَا تَارَةً تَبْلُغُهُ بِسَنَدِهَا، وَتَارَةً مُرْسَلَةً، وَتَارَةً
مُنْقَطِعَةً، كَمَا هُوَ الْمَوْجُودُ فِي كُتُبِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ حَرْمَلَةُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: سُمِّيتُ بِبَغْدَادَ
نَاصِرُ السُّنَّةِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ الشَّافِعِيِّ،
وَلَا رَأَى هُوَ مِثْلَ نَفْسِهِ. وَكَذَا قَالَ الزَّعْفَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ فِي كِتَابٍ جَمَعَهُ فِي فَضَائِلِ
الشَّافِعِيِّ: لِلشَّافِعِيِّ مِنَ الْفَضَائِلِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ؛
مِنْ شَرَفِ نَسَبِهِ، وَصِحَّةِ دِينِهِ،
وَمُعْتَقَدِهِ، وَسَخَاوَةِ نَفْسِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ
بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ وَسَقَمِهِ وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَحِفْظِهِ
الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَسِيرَةَ الْخُلَفَاءِ، وَحُسْنِ التَّصْنِيفِ،
وَجَوْدَةِ الْأَصْحَابِ وَالتَّلَامِذَةِ، مِثْلَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي
زُهْدِهِ وَوَرَعِهِ، وَإِقَامَتِهِ عَلَى السُّنَّةِ. ثُمَّ سَرَدَ أَعْيَانَ
أَصْحَابِهِ مِنَ الْبَغَادِدَةِ وَالْمِصْرِيِّينَ. وَكَذَا عَدَّ أَبُو دَاوُدَ
مِنْ جُمْلَةِ تَلَامِيذِهِ فِي الْفِقْهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ.
وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ، وَأَشَدِّ النَّاسِ انْتِزَاعًا لِلدَّلَائِلِ مِنْهُمَا، وَكَانَ
مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ قَصْدًا وَإِخْلَاصًا، كَانَ يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنَّ
النَّاسَ تَعَلَّمُوا هَذَا الْعِلْمَ، وَلَا يُنْسَبُ إِلَيَّ شَيْءٌ مِنْهُ
أَبَدًا، فَأُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَلَا يَحْمَدُونِي. وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ
عَنْهُ: إِذَا صَحَّ عِنْدَكُمُ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُولُوا بِهِ وَدَعُوا قَوْلِي فَإِنِّي أَقُولُ بِهِ،
وَإِنْ لَمْ تَسْمَعُوهُ مِنِّي. وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا تُقَلِّدُونِي. وَفِي
رِوَايَةٍ: فَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَى قَوْلِي. وَفِي رِوَايَةٍ: فَاضْرِبُوا
بِقَوْلِي عُرْضَ الْحَائِطِ، فَلَا قَوْلَ لِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: لِأَنْ يَلْقَى اللَّهَ الْعَبْدُ بِكُلِّ
ذَنْبٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ بِاللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِشَيْءٍ
مِنْ
الْأَهْوَاءِ. وَفِي رِوَايَةٍ: خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ
يَلْقَاهُ بِعِلْمِ الْكَلَامِ. وَقَالَ: لَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَا فِي عِلْمِ
الْكَلَامِ مِنَ الْأَهْوَاءِ لَفَرُّوا مِنْهُ كَمَا يَفِرُّونَ مِنَ الْأَسَدِ.
وَقَالَ أَيْضًا: حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ،
وَيُطَافَ بِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ وَيُنَادَى عَلَيْهِمْ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ
تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَقْبَلَ عَلَى عِلْمِ الْكَلَامِ.
وَقَالَ الْبُوَيْطِيُّ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِأَصْحَابِ
الْحَدِيثِ؛ فَإِنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ صَوَابًا.
وَكَانَ يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَكَأَنَّمَا
رَأَيْتَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
جَزَاهُمُ اللَّهُ خَيْرًا، حَفِظُوا لَنَا الْأَصْلَ، فَلَهُمْ عَلَيْنَا
الْفَضْلُ. وَمِنْ شِعْرِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ:
كُلُّ الْعُلُومِ سِوَى الْقُرْآنِ مَشْغَلَةٌ إِلَّا الْحَدِيثَ وَإِلَّا
الْفِقْهَ فِي الدِّينِ الْعِلْمُ مَا كَانَ فِيهِ قَالَ حَدَّثَنَا
وَمَا سِوَى ذَاكَ وَسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ
وَكَانَ يَقُولُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَنْ قَالَ:
مَخْلُوقٌ، فَهُوَ كَافِرٌ.
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الرَّبِيعُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ مَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ
يَمُرُّ بِآيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا كَمَا جَاءَتْ
مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَحْرِيفٍ، عَلَى
طَرِيقَةِ السَّلَفِ. وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: أَنْشَدَنِي الْمُزَنِيُّ، قَالَ:
أَنْشَدَنَا الشَّافِعِيُّ لِنَفْسِهِ:
مَا شِئْتَ كَانَ وَإِنْ لَمْ أَشَأْ وَمَا شِئْتُ إِنْ لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ
خَلَقْتَ الْعِبَادَ عَلَى مَا عَلِمْتَ فَفِي الْعِلْمِ يَجْرِي الْفَتَى
وَالْمُسِنْ
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ وَمِنْهُمْ قَبِيحٌ وَمِنْهُمْ حَسَنْ
عَلَى ذَا مَنَنْتَ وَهَذَا خَذَلْتَ وَهَذَا أَعَنْتَ وَذَا لَمْ تُعِنْ
وَقَالَ الرَّبِيعُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ،
ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ.
وَعَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: أَنْشَدَنِي الشَّافِعِيُّ:
قَدْ عَوِجَ النَّاسُ حَتَّى أَحْدَثُوا بِدَعًا فِي الدِّينِ بِالرَّأْيِ لَمْ
تُبْعَثْ بِهَا الرُّسُلُ
حَتَّى اسْتَخَفَّ بِحَقِّ اللَّهِ أَكْثَرُهُمْ وَفِي الَّذِي حُمِّلُوا مِنْ
حَقِّهِ شُغُلُ
وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ شِعْرِهِ فِي السُّنَّةِ، وَكَلَامِهِ فِيهَا، وَفِي
الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ طَرَفًا
صَالِحًا فِي الَّذِي كَتَبْنَاهُ فِي أَوَّلِ "
طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ".
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَقِيلَ: يَوْمَ
الْجُمُعَةِ، فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ، عَنْ
أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَكَانَ أَبْيَضَ جَمِيلًا طَوِيلًا مَهِيبًا،
يُخَضِّبُ بِالْحِنَّاءِ مُخَالَفَةً لِلشِّيعَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ
مَثْوَاهُ، وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا أَيْضًا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْحَاقُ بْنُ الْفُرَاتِ. وَأَشْهَبُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمِصْرِيُّ
الْمَالِكِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ الْكُوفِيُّ
الْحَنَفِيُّ. وَأَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ. صَاحِبُ
الْمُسْنَدِ وَأَحَدُ الْحُفَّاظِ. وَأَبُو بَدْرٍ شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ.
وَأَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ عَبْدُ الْكَبِيرِ. وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ
عَطَاءٍ الْخَفَّافُ. وَالنَّضْرُ بْنُ
شُمَيْلٍ، أَحَدُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ. وَهِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ، أَحَدُ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ نِيَابَةَ
بَغْدَادَ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ إِلَى أَقْصَى عَمَلِ الْمَشْرِقِ، وَرَضِيَ
عَنْهُ وَرَفَعَ مَنْزِلَتَهُ جِدًّا، وَذَلِكَ لِمَرَضِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ
بِالسَّوَادِ. وَوَلَّى الْمَأْمُونُ مَكَانَ طَاهِرٍ عَلَى الرَّقَّةِ
وَالْجَزِيرَةِ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ وَقَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرِ بْنِ
الْحُسَيْنِ إِلَى بَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدِ
اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الرَّقَّةِ وَأَمَرَهُ بِمُقَاتَلَةِ نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ
وَوَلَّى الْمَأْمُونُ عِيسَى بْنَ يَزِيدَ الْجُلُودِيَّ مُقَاتَلَةَ الزُّطِّ.
وَوَلَّى عِيسَى بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ أَذْرَبِيجَانَ
وَإِرْمِينِيَةَ، وَأَمَرَهُ بِمُحَارَبَةِ بَابَكَ الْخُرَّمِيَّ وَمَاتَ نَائِبُ
مِصْرَ السَّرِيُّ بْنُ الْحَكَمِ بِهَا. وَنَائِبُ السَّنَدِ دَاوُدُ بْنُ
يَزِيدَ، فَوَلَّى مَكَانَهُ بِشْرَ بْنَ
دَاوُدَ، عَلَى أَنْ يَحْمِلَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ
أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
الْحَسَنِ نَائِبُ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ السَّلُولِيُّ. وَبِشْرُ بْنُ بَكْرٍ الدِّمَشْقِيُّ.
وَأَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ.
وَيَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ. وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَسْكَرٍ، أَبُو
سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ. أَصْلُهُ مِنْ وَاسِطٍ وَسَكَنَ قَرْيَةً غَرْبِيَّ
دِمَشْقَ يُقَالُ لَهَا: دَارَيَّا.
وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَرَوَى عَنْهُ
أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ وَجَمَاعَةٌ. وَأَسْنَدَ الْحَافِظُ ابْنُ
عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي
الرَّبِيعِ الزَّاهِدِ يَقُولُ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ يَقُولُ:
سَمِعْتُ ابْنُ عَجْلَانَ يَذْكُرُ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي
صَالِحٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا غَفَرَ اللَّهُ
ذُنُوبَهُ يَوْمَهُ ذَلِكَ وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ: حُكِيَ عَنْ
أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ قَالَ: اخْتَلَفْتُ إِلَى مَجْلِسِ قَاصٍّ
فَأَثَّرَ كَلَامُهُ فِي قَلْبِي، فَلَمَّا قُمْتُ لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِي
شَيْءٌ، فَعُدْتُ ثَانِيَةً فَأَثَّرَ كَلَامُهُ فِي قَلْبِي بَعْدَ مَا قُمْتُ
وَفِي الطَّرِيقِ، ثُمَّ عُدْتُ ثَالِثَةً فَبَقِيَ أَثَرُ كَلَامِهِ فِي قَلْبِي
حَتَّى رَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي، وَكَسَرْتُ آلَاتِ الْمُخَالَفَاتِ وَلَزِمْتُ
الطَّرِيقَ. فَحَكَيْتُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ:
عُصْفُورٌ اصْطَادَ كُرْكِيًّا. يَعْنِي بِالْعُصْفُورِ الْقَاصَّ،
وَبِالْكُرْكِيِّ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ:
لَيْسَ لِمَنْ أُلْهِمَ
شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ حَتَّى
يَسْمَعَهُ مِنَ الْأَثَرِ فَإِذَا سَمِعَهُ مِنَ الْأَثَرِ عَمِلَ بِهِ، وَحَمِدَ
اللَّهَ حِينَ وَافَقَ مَا فِي قَلْبِهِ.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ: قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: رُبَّمَا يَقَعُ
فِي قَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ أَيَّامًا فَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ
إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ؛ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو
سُلَيْمَانَ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ خِلَافُ هَوَى النَّفْسِ. وَقَالَ: لِكُلِّ
شَيْءٍ عَلَمٌ وَعَلَمُ الْخِذْلَانِ تَرْكُ الْبُكَاءِ. وَقَالَ: لِكُلِّ شَيْءٍ
صَدَأٌ وَصَدَأُ نُورِ الْقَلْبِ شِبَعُ الْبَطْنِ. وَقَالَ: كُلُّ مَا شَغَلَكَ
عَنِ اللَّهِ؛ مِنْ أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ؛ فَهُوَ عَلَيْكَ مَشْئُومٌ.
وَقَالَ: كُنْتُ لَيْلَةً فِي الْمِحْرَابِ أَدْعُو وَيَدَايَ مَمْدُودَتَانِ
فَغَلَبَنِي الْبَرْدُ فَضَمَمْتُ إِحْدَاهُمَا وَبَقِيَتِ الْأُخْرَى مَبْسُوطَةً
أَدْعُو بِهَا، وَغَلَبْتَنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ: يَا أَبَا
سُلَيْمَانَ، قَدْ وَضَعْنَا فِي هَذِهِ مَا أَصَابَهَا، وَلَوْ كَانَتِ
الْأُخْرَى لَوَضَعْنَا فِيهَا. قَالَ: فَآلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَلَّا أَدْعُوَ
إِلَّا وَيَدَايَ
خَارِجَتَانِ، حَرًّا كَانَ أَوْ بَرْدًا. وَقَالَ أَبُو
سُلَيْمَانَ: نِمْتُ لَيْلَةً عَنْ وِرْدِي فَإِذَا أَنَا بِحَوْرَاءَ تَقُولُ
لِي: تَنَامُ وَأَنَا أُرَبَّى لَكَ فِي الْخُدُورِ مُنْذُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ ؟
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ:
إِنَّ فِي الْجَنَّةِ أَنْهَارًا عَلَى شَاطِئِهَا خِيَامٌ فِيهِنَّ الْحُورُ،
يُنْشِئُ اللَّهُ خَلْقَ إِحْدَاهُنَّ إِنْشَاءً فَإِذَا تَكَامَلَ خَلْقُهَا
ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِنَّ الْخِيَامَ، جَالِسَةً عَلَى كُرْسِيٍّ مِيلٍ
فِي مِيلٍ، قَدْ خَرَجَ عَجِيزَتُهَا مِنْ جَانِبِ الْكُرْسِيِّ، فَيَجِيءُ أَهْلُ
الْجَنَّةِ مِنْ قُصُورِهِمْ يَتَنَزَّهُونَ مَا شَاءُوا ثُمَّ يَخْلُو كُلُّ
رَجُلٍ مِنْهُمْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: كَيْفَ يَكُونُ
فِي الدُّنْيَا حَالُ مَنْ يُرِيدُ يَفْتَضُّ الْأَبْكَارَ عَلَى شَاطِئِ
الْأَنْهَارِ فِي الْجَنَّةِ ؟
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ
الدَّارَانِيَّ يَقُولُ: رُبَّمَا مَكَثْتُ خَمْسَ لَيَالٍ لَا أَقْرَأُ بَعْدَ
الْفَاتِحَةِ إِلَّا بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ أَتَفَكَّرُ فِي مَعَانِيهَا، وَلَرُبَّمَا
جَاءَتِ الْآيَةُ مِنَ الْقُرْآنِ فَيَطِيرُ الْعَقْلُ، فَسُبْحَانَ مَنْ
يَرُدُّهُ بَعْدُ ! وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِفْتَاحُ الدُّنْيَا
الشِّبَعُ، وَمِفْتَاحُ الْآخِرَةِ الْجُوعُ. وَقَالَ لِي يَوْمًا:
يَا أَحْمَدُ، جَوِّعْ قَلْبَكَ، وَذِلَّ قَلْبَكَ، وَعَرِّ
قَلْبَكَ، وَفَقِّرْ قَلْبَكَ، وَصَبِّرْ قَلْبَكَ، وَقَدِ انْقَضَتْ عَنْكَ
أَيَّامُ الدُّنْيَا.
وَقَالَ أَحْمَدُ: اشْتَهَى أَبُو سُلَيْمَانَ يَوْمًا رَغِيفًا حَارًّا بِمِلْحٍ،
قَالَ: فَجِئْتُهُ بِهِ، فَعَضَّ مِنْهُ عَضَّةً ثُمَّ طَرَحَهُ، وَأَقْبَلَ
يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا رَبِّ عَجَّلْتَ لِي شَهْوَتِي، لَقَدْ أَطَلْتَ جَهْدِي
وَشِقْوَتِي وَأَنَا تَائِبٌ فَاقْبَلْ تَوْبَتِي. فَلَمْ يَذُقِ الْمِلْحَ حَتَّى
لَحِقَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَا رَضِيتُ عَنْ
نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ
يَضَعُونِي كَاتِّضَاعِي عِنْدَ نَفْسِي مَا أَحْسَنُوا. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:
مَنْ رَأَى لِنَفْسِهِ قِيمَةً لَمْ يَذُقْ حَلَاوَةَ الْخِدْمَةِ. وَسَمِعْتُهُ
يَقُولُ: إِذَا تَكَلَّفَ الْمُتَعَبِّدُونَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمُوا إِلَّا
بِالْإِعْرَابِ، ذَهَبَ الْخُشُوعُ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ
بِاللَّهِ، ثُمَّ لَا يَخَافُ فَهُوَ
مَخْدُوعٌ. وَقَالَ: يَنْبَغِي لِلْخَوْفِ أَنْ يَكُونَ
أَغْلَبَ مِنَ الرَّجَاءِ، فَإِذَا غَلَبَ الرَّجَاءُ عَلَى الْخَوْفِ فَسَدَ
الْقَلْبُ. وَقَالَ لِي يَوْمًا: هَلْ فَوْقَ الصَّبْرِ مَنْزِلَةٌ ؟ فَقُلْتُ:
نَعَمْ. يَعْنِي الرِّضَا. قَالَ: فَصَرَخَ صَرْخَةً غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ
أَفَاقَ فَقَالَ: إِذَا كَانَ الصَّابِرُونَ يُوفَّوْنَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ
حِسَابٍ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْآخَرِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ رَضِيَ عَنْهُمْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ
لِي الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا أُنْفِقُهُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ،
وَأَنِّي أَغْفُلُ عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ:
قَالَ زَاهِدٌ لِزَاهِدٍ: أَوْصِنِي. فَقَالَ: لَا يَرَاكَ اللَّهُ حَيْثُ نَهَاكَ
وَلَا يَفْقِدُكَ حَيْثُ أَمَرَكَ. فَقَالَ: زِدْنِي. فَقَالَ: مَا عِنْدِي
زِيَادَةٌ. وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ أَحْسَنَ فِي نَهَارِهِ كُوفِئَ فِي لَيْلِهِ،
وَمَنْ أَحْسَنَ فِي لَيْلِهِ كُوفِئَ فِي نَهَارِهِ، وَمَنْ صَدَقَ فِي تَرْكِ
شَهْوَةٍ ذَهَبَ اللَّهُ بِهَا مِنْ قَلْبِهِ، وَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُعَذِّبَ
قَلْبًا بِشَهْوَةٍ
تُرِكَتْ لَهُ. وَقَالَ: إِذَا سَكَنَتِ الدُّنْيَا
الْقَلْبَ تَرَحَّلَتْ مِنْهُ الْآخِرَةُ. وَقَالَ: إِذَا كَانَتِ الْآخِرَةُ فِي
الْقَلْبِ جَاءَتِ الدُّنْيَا تَزْحَمُهَا، وَإِذَا كَانَتِ الدُّنْيَا فِي
الْقَلْبِ لَمْ تَزْحَمْهَا الْآخِرَةُ؛ إِنَّ الْآخِرَةَ كَرِيمَةٌ وَالدُّنْيَا
لَئِيمَةٌ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: بِتُّ لَيْلَةً عِنْدَ أَبِي
سُلَيْمَانَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ لَئِنْ طَالَبْتَنِي
بِذُنُوبِي لَأُطَالِبَنَّكَ بِعَفْوِكَ وَلَئِنْ طَالَبْتَنِي بِبُخْلِي
لَأُطَالِبَنَّكَ بِسَخَائِكَ، وَلَئِنْ أَمَرْتَ بِي إِلَى النَّارِ
لَأُخْبِرَنَّ أَهْلَ النَّارِ أَنِّي أُحِبُّكَ. وَكَانَ أَبُو سُلَيْمَانَ
يَقُولُ: لَوْ شَكَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي الْحَقِّ مَا شَكَكْتُ فِيهِ وَحْدِي.
وَكَانَ يَقُولُ: مَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِبْلِيسَ،
وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَتَعَوَّذَ مِنْهُ مَا تَعَوَّذْتُ
مِنْهُ أَبَدًا، وَلَوْ بَدَا لِي مَا لَطَمْتُ
إِلَّا صَفْحَةَ وَجْهِهِ. وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللِّصَّ
لَا يَجِيءُ إِلَى خَرِبَةٍ يَنْقُبُ حِيطَانَهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الدُّخُولِ
إِلَيْهَا مِنْ أَيِّ مَكَانٍ شَاءَ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ إِلَى بَيْتٍ مَعْمُورٍ،
كَذَلِكَ إِبْلِيسُ لَا يَجِيءُ إِلَّا إِلَى كُلِّ قَلْبٍ عَامِرٍ
لِيَسْتَنْزِلَهُ عَنْ شَيْءٍ.
وَكَانَ يَقُولُ: إِذَا أَخْلَصَ الْعَبْدُ انْقَطَعَ عَنْهُ كَثْرَةُ
الْوَسْوَاسِ وَالرِّيَاءِ وَالرُّؤْيَا. وَقَالَ: مَكَثْتُ عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ
أَحْتَلِمْ، فَدَخَلْتُ مَكَّةَ فَفَاتَتْنِي صَلَاةُ الْعِشَاءِ فِي جَمَاعَةٍ
فَاحْتَلَمْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. وَقَالَ: إِنَّ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ قَوْمًا
لَا يَشْغَلُهُمُ الْجِنَانُ وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ عَنْهُ، فَكَيْفَ
تَشْتَغِلُونَ بِالدُّنْيَا ؟ وَقَالَ: الدُّنْيَا عِنْدَ اللَّهِ أَقَلُّ مِنْ
جَنَاحِ بَعُوضَةٍ، فَمَا الزُّهْدُ فِيهَا ؟ وَإِنَّمَا الزُّهْدُ فِي الْجِنَانِ
وَالْحُورِ الْعِينِ، حَتَّى لَا يَرَى اللَّهُ فِي قَلْبِكَ غَيْرَهُ.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ: شَيْءٌ يُرْوَى عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَا
اسْتَحْسَنْتُهُ كَثِيرًا؛ قَوْلُهُ: مَنِ
اشْتَغَلَ بِنَفْسِهِ شُغِلَ عَنِ النَّاسِ، وَمَنِ
اشْتَغَلَ بِرَبِّهِ شُغِلَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ النَّاسِ، وَقَالَ غَيْرُهُ:
كَانَ أَبُو سُلَيْمَانَ يَقُولُ: خَيْرُ السَّخَاءِ مَا وَافَقَ الْحَاجَةَ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا وَاسْتِعْفَافًا عَنِ
الْمَسْأَلَةِ وَاسْتِغْنَاءً عَنِ النَّاسِ، لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ يَلْقَاهُ
وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا،
مُفَاخِرًا وَمُكَاثِرًا لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَهُوَ
عَلَيْهِ غَضْبَانُ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مَرْفُوعًا.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: إِنَّ قَوْمًا طَلَبُوا الْغِنَى فَحَسِبُوا أَنَّهُ
فِي جَمْعِ الْمَالِ، أَلَا وَإِنَّمَا الْغِنَى فِي الْقَنَاعَةِ، وَطَلَبُوا
الرَّاحَةَ فِي الْكَثْرَةِ، وَإِنَّمَا الرَّاحَةُ فِي الْقِلَّةِ، وَطَلَبُوا
الْكَرَامَةَ مِنَ الْخَلْقِ، أَلَا وَهِيَ فِي التَّقْوَى، وَطَلَبُوا
النِّعْمَةَ فِي اللِّبَاسِ الرَّقِيقِ اللَّيِّنِ، وَفِي طَعَامٍ طَيِّبٍ،
وَالنِّعْمَةُ فِي
الْإِسْلَامِ وَالسَّتْرِ وَالْعَافِيَةِ. وَكَانَ يَقُولُ:
لَوْلَا قِيَامُ اللَّيْلِ مَا أَحْبَبْتُ الْبَقَاءَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا
أُحِبُّ الْبَقَاءَ فِي الدُّنْيَا لِتَشْقِيقِ الْأَنْهَارِ وَلَا لِغَرْسِ
الْأَشْجَارِ.
وَقَالَ: أَهْلُ الطَّاعَةِ فِي لَيْلِهِمْ أَلَذُّ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ فِي
لَهْوِهِمْ. وَقَالَ: رُبَّمَا اسْتَقْبَلَنِي الْفَرَحُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ،
وَرُبَّمَا رَأَيْتُ الْقَلْبَ يَضْحَكُ ضَحِكًا.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ:
بَيْنَا أَنَا سَاجِدٌ، إِذْ ذَهَبَ بِيَ النَّوْمُ، فَإِذَا أَنَا بِهَا -
يَعْنِي الْحَوْرَاءَ - قَدْ رَكَضَتْنِي بِرِجْلِهَا، فَقَالَتْ: حَبِيبِي، أَتَرْقُدُ
عَيْنَاكَ وَالْمَلِكُ يَقْظَانُ يَنْظُرُ إِلَى الْمُتَهَجِّدِينَ فِي
تَهَجُّدِهِمْ ؟ بُؤْسًا لَعِينٍ آثَرَتْ لَذَّةَ نَوْمَةٍ
عَلَى لَذَّةِ مُنَاجَاةِ الْعَزِيزِ، قُمْ فَقَدْ دَنَا الْفَرَاغُ وَلَقِيَ
الْمُحِبُّونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَمَا هَذَا الرُّقَادُ ؟ حَبِيبِي وَقُرَّةَ
عَيْنِي، أَتَرْقُدُ عَيْنَاكَ وَأَنَا أُرَبَّى لَكَ فِي الْخُدُورِ مُنْذُ كَذَا
وَكَذَا ؟ فَوَثَبْتُ فَزِعًا وَقَدْ عَرِقْتُ اسْتِحْيَاءً مِنْ تَوْبِيخِهَا
إِيَّايَ، وَإِنَّ حَلَاوَةَ مَنْطِقِهَا لَفِي سَمْعِي وَقَلْبِي.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ
فَإِذَا هُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا لَكَ ؟ فَقَالَ: زُجِرْتُ الْبَارِحَةَ فِي
مَنَامِي. قُلْتُ: مَا الَّذِي حَلَّ بِكَ ؟ قَالَ: بَيْنَا أَنَا قَدْ غَفَوْتُ
فِي مِحْرَابِي إِذْ وَقَفَتْ عَلَيَّ جَارِيَةٌ تَفُوقُ الدُّنْيَا حُسْنًا،
وَبِيَدِهَا وَرَقَةٌ وَهِيَ تَقُولُ: أَتَنَامُ يَا شَيْخُ ؟ فَقُلْتُ: مَنْ
غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ نَامَ. فَقَالَتْ: كَلَّا إِنَّ طَالِبَ الْجَنَّةِ لَا
يَنَامُ. ثُمَّ قَالَتْ: أَتَقْرَأُ ؟ فَأَخَذْتُ الْوَرَقَةَ مِنْ يَدِهَا،
فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ:
لَهَتْ بِكَ لَذَّةٌ عَنْ حُسْنِ عَيْشٍ مَعَ الْخَيْرَاتِ فِي غُرَفِ الْجِنَانِ
تَعِيشُ مُخَلَّدًا لَا مَوْتَ فِيهَا
وَتَنْعَمُ فِي الْجِنَانِ مَعَ الْحِسَانِ تَيَقَّظْ مِنْ مَنَامِكَ إِنَّ
خَيْرًا
مِنَ النَّوْمِ التَّهَجُّدُ بِالْقُرَانِ
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: أَمَا يَسْتَحِي أَحَدُهُمْ أَنْ يَلْبَسَ عَبَاءَةً بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَفِي قَلْبِهِ شَهْوَةٌ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ ؟ وَقَالَ أَيْضًا: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُظْهِرَ لِلنَّاسِ الزُّهْدَ وَالشَّهَوَاتُ فِي قَلْبِهِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا، جَازَ أَنْ يُظْهِرَ لِلنَّاسِ الزُّهْدَ بِلُبْسِ الْعَبَاءِ، فَإِنَّهَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ الزُّهَّادِ، وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ لِيَسْتُرَ بِهِمَا أَبْصَارَ النَّاسِ عَنْهُ كَانَ أَسْلَمَ لِزُهْدِهِ. وَكَانَ يَقُولُ أَيْضًا: إِذَا رَأَيْتَ الصُّوفِيَّ يَتَنَوَّقُ فِي لُبْسِ الصُّوفِ، فَلَيْسَ بِصُوفِيٍّ، وَخِيَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَصْحَابُ الْقُطْنِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: إِنَّمَا الْأَخُ الَّذِي يَعِظُكَ بِرُؤْيَتِهِ قَبْلَ كَلَامِهِ، وَقَدْ كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْأَخِ مِنْ أَصْحَابِي بِالْعِرَاقِ فَأَنْتَفِعُ بِرُؤْيَتِهِ شَهْرًا. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " عَبْدِي، إِنَّكَ مَا اسْتَحْيَيْتَ مِنِّي أَنْسَيْتُ النَّاسَ عُيُوبَكَ، وَأَنْسَيْتُ بِقَاعَ الْأَرْضِ ذُنُوبَكَ، وَمَحَوْتُ زَلَّاتِكَ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ، وَلَا أُنَاقِشُكَ فِي الْحِسَابِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَأَلْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ عَنِ
الصَّبْرِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي الَّذِي
تُحِبُّ، فَكَيْفَ فِيمَا تَكْرَهُ ؟ قَالَ أَحْمَدُ: تَنَهَّدْتُ عِنْدَهُ
يَوْمًا، فَقَالَ: إِنَّكَ مَسْئُولٌ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنْ كَانَتْ
عَلَى ذَنْبٍ سَلَفَ فَطُوبَى لَكَ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الدُّنْيَا فَوَيْلٌ
لَكَ. وَقَالَ: إِنَّمَا رَجَعَ مِنَ الطَّرِيقِ قَبْلَ الْوُصُولِ، وَلَوْ
وَصَلُوا إِلَى اللَّهِ مَا رَجَعُوا. وَقَالَ: إِنَّمَا عَصَى اللَّهَ مَنْ
عَصَاهُ لِهَوَانِهِمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَرُمُوا عَلَيْهِ لَحَجَزَهُمْ عَنْ
مَعَاصِيهِ. وَقَالَ: جُلَسَاءُ الرَّحْمَنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ جَعَلَ
فِيهِمْ خِصَالًا: الْكَرَمَ وَالْحِلْمَ، وَالْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ،
وَالرِّقَّةَ، وَالرَّحْمَةَ، وَالْفَضْلَ، وَالصَّفْحَ، وَالْإِحْسَانَ
وَالْبِرَّ، وَالْعَفْوَ وَاللُّطْفَ.
وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فِي كِتَابِ " " مِحَنِ
الْمَشَايِخِ " "، أَنَّ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ أُخْرِجَ
مِنْ دِمَشْقَ وَقَالُوا: إِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَرَى الْمَلَائِكَةَ
وَيُكَلِّمُونَهُ. فَخَرَجَ إِلَى بَعْضِ الثُّغُورِ
فَرَأَى بَعْضُ أَهْلِ دِمَشْقَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِمْ هَلَكُوا،
فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ وَتَشَفَّعُوا إِلَيْهِ، حَتَّى رَدُّوهُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وَفَاتِهِ عَلَى أَقْوَالٍ؛ فَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَمِائَتَيْنِ. وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَتَيْنِ. وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسَ
عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ مَرْوَانُ الطَّاطَرِيُّ يَوْمَ مَاتَ أَبُو
سُلَيْمَانَ: لَقَدْ أُصِيبَ بِهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ كُلُّهِمْ.
قُلْتُ: وَقَدْ دُفِنَ فِي قَرْيَةِ دَارَيَّا، وَقَبْرُهُ بِهَا مَشْهُورٌ
وَعَلَيْهِ بِنَاءٌ، وَقِبْلَتُهُ مَسْجِدٌ بَنَاهُ الْأَمِيرُ نَاهِضُ الدِّينِ
عُمَرُ الْمِهْرَانِيُّ، وَوَقَفَ عَلَى الْمُقِيمِينَ عِنْدَهُ وَقْفًا يَدْخُلُ
عَلَيْهِمْ مِنْهُ غَلَّةٌ، وَقَدْ جَدَّدَ مَزَارَهُ فِي زَمَانِنَا هَذَا،
وَلَمْ أَرَ الْحَافِظَ ابْنَ عَسَاكِرَ تَعَرَّضَ لِمَوْضِعِ دَفْنِهِ
بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا عَجَبٌ مِنْهُ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَحْمَدَ
بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ قَالَ: كُنْتُ أَشْتَهِي أَنْ أَرَى أَبَا سُلَيْمَانَ
فِي الْمَنَامِ فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ سَنَةٍ، فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ
يَا مُعَلِّمُ ؟ فَقَالَ: يَا أَحْمَدُ، دَخَلْتُ يَوْمًا مِنْ بَابِ الصَّغِيرِ
فَرَأَيْتُ حِمْلَ شِيحٍ، فَأَخَذْتُ مِنْهُ عُودًا، فَمَا أَدْرِي تَخَلَّلْتُ
بِهِ أَوْ رَمَيْتُهُ، فَأَنَا فِي
حِسَابِهِ إِلَى الْآنِ.
وَقَدْ تُوُفِّيَ ابْنُهُ سُلَيْمَانُ بَعْدَهُ بِنَحْوٍ مِنْ سَنَتَيْنِ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ دَاوُدَ بْنَ مَاسَجُورَ بِلَادَ الْبَصْرَةِ وَكُورَ
دِجْلَةَ وَالْيَمَامَةَ وَالْبَحْرَيْنِ، وَأَمَرَهُ بِمُحَارَبَةِ الزُّطِّ.
وَفِيهَا جَاءَ مَدٌّ كَثِيرٌ فَغَرَّقَ بِلَادَ أَرْضِ السَّوَادِ وَأَهْلَكَ
لِلنَّاسِ شَيْئًا كَثِيرًا. وَفِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ الرَّقَّةَ وَأَمَرَهُ بِمُحَارَبَةِ نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ
وَذَلِكَ أَنَّ نَائِبَهَا يَحْيَى بْنَ مُعَاذٍ مَاتَ، وَكَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَ
مَكَانَهُ ابْنَهُ أَحْمَدَ، فَلَمْ يُمْضِ ذَلِكَ الْمَأْمُونُ وَاسْتَنَابَ
عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ؛ لِشَهَامَتِهِ وَبَصَرِهِ بِالْأُمُورِ،
وَحَثِّهِ عَلَى قِتَالِ نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ أَبُوهُ مِنْ
خُرَاسَانَ بِكِتَابٍ فِيهِ الْأَمْرُ لَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَاتِّبَاعُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ
بِطُولِهِ وَقَدْ تَدَاوَلَهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ وَاسْتَحْسَنُوهُ وَتُهَادَوْهُ
بَيْنَهُمْ حَتَّى بَلَغَ أَمْرُهُ إِلَى الْمَأْمُونِ فَأَمَرَ فَقُرِئَ
بَيْنَ يَدَيْهِ فَاسْتَجَادَهُ جِدًّا، وَأَمَرَ أَنْ
يُكْتَبَ بِهِ نُسَخٌ إِلَى سَائِرِ الْعُمَّالِ فِي الْأَقَالِيمِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ نَائِبُ
الْحَرَمَيْنِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ الْكَاهِلِيُّ أَبُو حُذَيْفَةَ، صَاحِبُ كِتَابِ "
" الْمُبْتَدَأِ " ". وَحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرُ.
وَدَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، الَّذِي وَضَعَ كِتَابَ " " الْعَقْلِ
" ". وَشَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ. وَمُحَاضِرُ بْنُ الْمُوَرِّعِ.
وَقُطْرُبٌ صَاحِبُ " " الْمُثَلَّثِ فِي اللُّغَةِ " ". وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ. وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، شَيْخُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا خَرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِبِلَادِ عَكٍّ فِي
الْيَمَنِ، يَدْعُو إِلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَذَلِكَ أَنَّ
الْعُمَّالَ بِالْيَمَنِ أَسَاءُوا السِّيرَةَ إِلَى الرَّعَايَا، فَلَمَّا ظَهَرَ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا بَايَعَهُ النَّاسُ، فَلَمَّا بَلَغَ أَمْرُهُ إِلَى
الْمَأْمُونِ بَعَثَ إِلَيْهِ دِينَارَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ
وَمَعَهُ كِتَابُ أَمَانٍ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا، إِنْ هُوَ سَمِعَ
وَأَطَاعَ، فَحَضَرُوا الْمَوْسِمَ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى الْيَمَنِ، فَلَمَّا
انْتَهَوْا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، بَعَثَ دِينَارٌ بِكِتَابِ الْأَمَانِ
فَقَبِلَهُ وَسَمِعَ وَأَطَاعَ، وَجَاءَ حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِ دِينَارٍ،
فَسَارَ مَعَهُ إِلَى بَغْدَادَ وَلَبِسَ السَّوَادَ فِيهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ؛ نَائِبُ الْعِرَاقِ
بِكَمَالِهَا،
وَخُرَاسَانَ بِكَمَالِهَا، وُجِدَ فِي فِرَاشِهِ مَيِّتًا بَعْدَ مَا صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ وَالْتَفَّ فِي الْفِرَاشِ، فَاسْتَبْطَأَ أَهْلُهُ خُرُوجَهُ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَخُوهُ وَعَمُّهُ فَوَجَدَاهُ مَيِّتًا، فَلَمَّا بَلَغَ مَوْتُهُ الْمَأْمُونَ قَالَ: لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَدَّمَهُ وَأَخَّرَنَا. وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمًا وَلَمْ يَدْعُ لَهُ فَوْقَ الْمِنْبَرِ، وَمَعَ هَذَا وَلَّى وَلَدَهُ عَبْدَ اللَّهِ مَكَانَهُ، مَعَ إِضَافَةِ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ إِلَى نِيَابَتِهِ، فَاسْتَخْلَفَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى خُرَاسَانَ أَخَاهُ طَلْحَةَ بْنَ طَاهِرٍ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ طَلْحَةُ فَاسْتَقَلَّ عَبْدُ اللَّهِ بِجَمِيعِ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَكَانَ نَائِبُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى بَغْدَادَ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ كَانَ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ هُوَ الَّذِي انْتَزَعَ بَغْدَادَ وَأَرْضَ الْعِرَاقِ بِكَمَالِهَا مِنْ يَدِ الْأَمِينِ بْنِ الرَّشِيدِ وَقَتَلَهُ أَيْضًا وَاسْتَوْسَقَ الْأَمْرُ لِلْمَأْمُونِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ، وَقَدْ دَخَلَ طَاهِرٌ هَذَا يَوْمًا عَلَى الْمَأْمُونِ فَسَأَلَهُ حَاجَةً فَقَضَاهَا لَهُ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ الْمَأْمُونُ وَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ طَاهِرٌ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَلَمْ يُخْبِرْهُ، فَأَعْطَى طَاهِرٌ حُسَيْنًا الْخَادِمَ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ حَتَّى اسْتَعْلَمَ لَهُ مَا كَانَ خَبَرُ بُكَائِهِ، فَقَالَ لَهُ: لَا تُخْبِرْ بِهِ أَحَدًا، أَقْتُلُكَ، ذَكَرْتُ مَقْتَلَ أَخِي، وَمَا نَالَهُ مِنَ الْإِهَانَةِ عَلَى يَدَيْ
طَاهِرٍ، وَوَاللَّهِ لَا تَفُوتُهُ مِنِّي. فَلَمَّا
تَحَقَّقَ طَاهِرٌ ذَلِكَ سَعَى فِي النُّقْلَةِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلَمْ
يَزَلْ حَتَّى وَلَّاهُ خُرَاسَانَ وَأَطْلَقَ لَهُ خَادِمًا مِنْ خُدَّامِهِ،
وَعَهِدَ إِلَى الْخَادِمِ إِنْ رَأَى مِنْهُ مَا يُرِيبُهُ أَنْ يَسُمَّهُ، فَلَمَّا
خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ طَاهِرٌ، وَلَمْ يَدْعُ لِلْمَأْمُونِ، سَمَّهُ
الْخَادِمُ فِي كَامَخٍ، فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ.
وَقَدْ كَانَ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ هَذَا يُقَالُ لَهُ: ذُو الْيَمِينَيْنِ.
وَكَانَ بِفَرْدِ عَيْنٍ، فَقَالَ فِيهِ عَمْرُو بْنُ بَانَةَ:
يَا ذَا الْيَمِينَيْنِ وَعَيْنٍ وَاحِدَهْ نُقْصَانُ عَيْنٍ وَيَمِينٌ زَائِدَهْ
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى كَوْنِهِ ذَا الْيَمِينَيْنِ، فَقِيلَ: لِأَنَّهُ ضَرَبَ
رَجُلًا بِشِمَالِهِ فَقَدَّهُ نِصْفَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لُقِّبَ بِذَلِكَ
لِأَنَّهُ وَلِيَ الْعِرَاقَ وَخُرَاسَانَ.
وَقَدْ كَانَ كَرِيمًا مُمَدَّحًا يُحِبُّ الشِّعْرَ وَيَجْزِي عَلَيْهِ
الْجَزِيلَ. رَكِبَ يَوْمًا فِي حَرَّاقَةٍ فَقَالَ فِيهِ شَاعِرٌ:
عَجِبْتُ لِحَرَّاقَةِ ابْنِ الْحُسَيْ نِ لَا غَرِقَتْ
كَيْفَ لَا تَغْرَقُ
وَبَحْرَانِ مِنْ فَوْقِهَا وَاحِدٌ وَآخَرُ مِنْ تَحْتِهَا مُطْبِقُ
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَاكَ أَعْوَادُهُا وَقَدْ مَسَّهَا كَيْفَ لَا تُورِقُ
فَأَجَازَهُ بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَقَالَ: إِنْ زِدْتَنَا زِدْنَاكَ.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي بَعْضِ
الرُّؤَسَاءِ وَقَدْ رَكِبَ الْبَحْرَ:
وَلَمَّا امْتَطَى الْبَحْرَ ابْتَهَلْتُ تَضَرُّعًا إِلَى اللَّهِ يَا مُجْرِيَ
الرِّيَاحِ بِلُطْفِهِ
جَعَلْتَ النَّدَى مِنْ كَفِّهِ مِثْلَ مَوْجِهِ فَسَلِّمْهُ وَاجْعَلْ مَوْجَهُ
مِثْلَ كَفِّهِ
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: مَاتَ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ هَذَا يَوْمَ
السَّبْتِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سَبْعٍ
وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ. وَكَانَ
الَّذِي سَارَ إِلَى وَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ وَهُوَ بِأَرْضِ
الرَّقَّةِ يُعَزِّيهِ فِي أَبِيهِ وَيُهَنِّيهِ بِوِلَايَةِ تِلْكَ الْبِلَادِ،
الْقَاضِي يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ عَنْ أَمْرِ الْمَأْمُونِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَلَا السِّعْرُ بِبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، حَتَّى
بَلَغَ سِعْرُ الْقَفِيزِ مِنَ
الْحِنْطَةِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ الرَّشِيدِ، أَخُو
الْمَأْمُونِ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
بِشْرُ بْنُ عُمَرَ الزَّهْرَانِيُّ، وَجَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ
بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَقُرَادٌ أَبُو نُوحٍ، وَكَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ كُنَاسَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ، قَاضِي
بَغْدَادَ وَصَاحِبُ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي، وَأَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ
الْقَاسِمِ، وَالْهَيْثَمُ بْنُ
عَدِيٍّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ.
وَيَحْيَى بْنُ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْظُورٍ أَبُو زَكَرِيَّا،
الْكُوفِيُّ، نَزِيلُ بَغْدَادَ مَوْلَى بَنِي سَعْدٍ، الْمَشْهُورُ
بِالْفَرَّاءِ، شَيْخُ النُّحَاةِ وَاللُّغَوِيِّينَ وَالْقُرَّاءِ، وَكَانَ
يُقَالُ لَهُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي النَّحْوِ. وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ
خَازِمِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [ الْفَاتِحَةِ: 4 ]
بِالْأَلِفِ. رَوَاهُ الْخَطِيبُ، قَالَ: وَكَانَ ثِقَةً إِمَامًا.
وَذُكِرَ أَنَّ الْمَأْمُونَ أَمَرَهُ بِوَضْعِ كِتَابٍ فِي النَّحْوِ
فَأَمْلَاهُ، وَكَتَبَهُ النَّاسُ عَنْهُ، وَأَمَرَ الْمَأْمُونُ بِكَتْبِهِ فِي
الْخَزَائِنِ، وَأَنَّهُ كَانَ يُؤَدِّبُ وَلَدَيْهِ وَلِيَّيِ الْعَهْدِ، فَقَامَ
يَوْمًا، فَابْتَدَرَاهُ أَيُّهُمَا يُقَدِّمُ نَعْلَيْهِ، فَتَنَازَعَا فِي
ذَلِكَ ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يُقَدِّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَعْلًا، فَأَطْلَقَ
لَهُمَا أَبُوهُمَا عِشْرِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَلِلْفَرَّاءِ عَشَرَةُ آلَافِ
دِرْهَمٍ، وَقَالَ لَهُ: لَا أَعَزَّ مِنْكَ إِذْ يُقَدِّمُ نَعْلَيْكَ وَلِيَّا
الْعَهْدِ.
وَرُوِيَ أَنَّ بِشْرًا الْمَرِيسِيَّ أَوْ مُحَمَّدَ بْنَ
الْحَسَنِ سَأَلَ الْفَرَّاءَ عَنْ رَجُلٍ سَهَا فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ،
فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالَ: لِأَنَّ أَصْحَابَنَا
قَالُوا: الْمُصَغَّرُ لَا يُصَغَّرُ. فَقَالَ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ امْرَأَةً
تَلِدُ مِثْلَكَ.
وَالْمَشْهُورُ أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ
ابْنَ خَالَةِ الْفَرَّاءِ
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الصُّولِيُّ: تُوُفِّيَ الْفَرَّاءُ
سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَتَيْنِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: كَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَغْدَادَ. وَقِيلَ: بِطَرِيقِ مَكَّةَ.
وَقَدِ امْتَدَحُوهُ وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ فِي مُصَنَّفَاتِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا ذَهَبَ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ أَخُو طَاهِرٍ فَارًّا
مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى كَرْمَانَ فَعَصَى بِهَا، فَسَارَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ
أَبِي خَالِدٍ فَحَاصَرَهُ حَتَّى نَزَلَ قَهْرًا، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى
الْمَأْمُونِ فَعَفَا عَنْهُ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَفِيهَا اسْتَعْفَى مُحَمَّدُ بْنُ سَمَاعَةَ مِنَ الْقَضَاءِ، فَأَعْفَاهُ
الْمَأْمُونُ وَوَلَّى مَكَانَهُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ حَمَّادِ بْنِ أَبِي
حَنِيفَةَ. وَفِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْمَخْزُومِيَّ الْقَضَاءَ بِعَسْكَرِ الْمَهْدِيِّ فِي شَهْرِ الْمُحَرَّمِ،
ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْ قَرِيبٍ وَوَلَّى مَكَانَهُ بِشْرَ بْنَ الْوَلِيدِ
الْكِنْدِيَّ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا. فَقَالَ الْمَخْزُومِيُّ فِي
ذَلِكَ:
يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُوَحِّدُ رَبَّهُ قَاضِيكَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ
حِمَارُ يَنْفِي شَهَادَةَ مَنْ يَدِينُ بِمَا بِهِ
نَطَقَ الْكِتَابُ وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ وَيَعُدُّ عَدْلًا مَنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ
شَيْخٌ يُحِيطُ بِجِسْمِهِ الْأَقْطَارُ
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَالِحُ بْنُ
هَارُونَ الرَّشِيدِ عَنْ أَمْرِ أَخِيهِ الْمَأْمُونِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ.
وَسَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ.
أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ.
وَالْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ الْحَاجِبُ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ.
وَمُوسَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ.
الَّذِي كَانَ قَدْ وَلَّاهُ الْعَهْدَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَقَّبَهُ بِالنَّاطِقِ
بِالْحَقِّ، فَلَمْ يَتِمَّ لَهُ أَمْرُهُ حَتَّى قُتِلَ أَبُوهُ وَكَانَ مَا
كَانَ.
وَيَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ.
وَيَحْيَى بْنُ حَسَّانَ.
وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الزُّهْرِيُّ.
وَيُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبُ.
وَفَاةُ السَّيِّدَةِ نَفِيسَةَ
وَهِيَ نَفِيسَةُ بِنْتُ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، الْقُرَشِيَّةُ الْهَاشِمِيَّةُ كَانَ أَبُوهَا
نَائِبًا لِلْمَنْصُورِ عَلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ
غَضِبَ عَلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ فَعَزَلَهُ عَنْهَا، وَأَخَذَ مِنْهُ
كُلَّ مَا كَانَ جَمَعَهُ مِنْهَا، وَأَوْدَعَهُ السِّجْنَ بِبَغْدَادَ، فَلَمْ
يَزَلْ بِهِ حَتَّى تُوُفِّيَ الْمَنْصُورُ، فَأَطْلَقَهُ الْمَهْدِيُّ وَأَطْلَقَ
لَهُ كُلَّ مَا كَانَ أُخِذَ مِنْهُ، وَخَرَجَ مَعَهُ إِلَى الْحَجِّ فِي سَنَةِ
ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، فَلَمَّا كَانَ بِالْحَاجِرِ تُوُفِّيَ الْحَسَنُ
بْنُ زَيْدٍ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَقَدْ رَوَى لَهُ النَّسَائِيُّ
حَدِيثَهُ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَاحْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ
مَعِينٍ وَابْنُ عَدِيٍّ، وَوَثَّقَهُ
ابْنُ حِبَّانَ، وَذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي رِيَاسَتِهِ وَشَهَامَتِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ ابْنَتَهُ نَفِيسَةَ دَخَلَتِ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ
مَعَ زَوْجِهَا الْمُؤْتَمَنِ، إِسْحَاقَ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، فَأَقَامَتْ
بِهَا، وَكَانَتْ ذَاتَ مَالٍ وَإِحْسَانٍ إِلَى النَّاسِ وَالْجَذْمَى
وَالزَّمْنَى وَالْمَرْضَى وَعُمُومِ النَّاسِ، وَكَانَتْ عَابِدَةً زَاهِدَةً
كَثِيرَةَ الْخَيْرِ، وَلَمَّا وَرَدَ الشَّافِعِيُّ مِصْرَ أَحْسَنَتْ إِلَيْهِ،
وَكَانَ رُبَّمَا صَلَّى بِهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحِينَ مَاتَ أَمَرَتْ
بِجِنَازَتِهِ فَأُدْخِلَتْ إِلَيْهَا الْمَنْزِلَ فَصَلَّتْ عَلَيْهِ، وَلَمَّا
تُوُفِّيَتْ عَزَمَ زَوْجُهَا إِسْحَاقُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى
الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَمَنَعَهُ أَهْلُ مِصْرَ مِنْ ذَلِكَ، وَسَأَلُوهُ
أَنْ يَتْرُكَهَا عِنْدَهُمْ، فَدُفِنَتْ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي كَانَتْ
تَسْكُنُهُ بِمَحِلَّةٍ كَانَتْ تُعْرَفُ قَدِيمًا بِدَرْبِ السِّبَاعِ بَيْنَ
مِصْرَ وَالْقَاهِرَةِ الْيَوْمَ، وَقَدْ بَادَتْ تِلْكَ الْمَحِلَّةُ فَلَمْ
يَبْقَ سِوَى قَبْرِهَا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي "
" وَفِيَّاتِ الْأَعْيَانِ " "، قَالَ: وَلِأَهْلِ مِصْرَ فِيهَا
اعْتِقَادٌ. قُلْتُ: وَإِلَى الْآنِ، وَقَدْ بَالَغَ الْعَامَّةُ فِي أَمْرِهَا
كَثِيرًا جِدًّا، وَيُطْلِقُونَ فِيهَا عِبَارَاتٍ بَشِعَةً فِيهَا مُجَازَفَةٌ
تُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَأَلْفَاظًا كَثِيرَةً يَنْبَغِي أَنْ
يَعْرِفُوا بِأَنَّهَا لَا تَجُوزُ إِطْلَاقُهَا فِي مِثْلِ أَمْرِهَا، وَرُبَّمَا
نَسَبَهَا بَعْضُهُمْ إِلَى زَيْنِ الْعَابِدِينَ،
وَلَيْسَتْ مِنْ سُلَالَتِهِ، وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ فِيهَا مِنَ
الصَّلَاحِ مَا يَلِيقُ بِأَمْثَالِهَا مِنَ النِّسَاءِ الصَّالِحَاتِ، وَأَصْلُ
عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنَ الْمُغَالَاةِ فِي الْقُبُورِ وَأَصْحَابِهِا، وَقَدْ
أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَسْوِيَةِ الْقُبُورِ
وَطَمْسِهَا. وَالْمُغَالَاةُ فِي الْبَشَرِ حَرَامٌ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا
تَفُكُّ مِنَ الْخَشَبِ، أَوْ أَنَّهَا تَنْفَعُ أَوْ تَضُرُّ بِغَيْرِ مَشِيئَةِ
اللَّهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ. رَحِمَهَا اللَّهُ وَأَكْرَمَهَا وَجَعَلَ الْجَنَّةَ
مَنْزِلَهَا.
الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي فَرْوَةَ كَيْسَانَ.
مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الَّذِي كَانَ زَوَالُ دَوْلَةِ الْبَرَامِكَةِ
عَلَى يَدَيْهِ، وَقَدْ وَزَرَ مَرَّةً لِلرَّشِيدِ، وَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا
مِنَ الرَّشِيدِ، وَكَانَ شَدِيدَ التَّشَبُّهِ بِالْبَرَامِكَةِ، وَكَانُوا
يَسْتَهِينُونَ بِهِ فَلَمْ يَزَلْ يَعْمَلُ جُهْدَهُ فِيهِمْ حَتَّى هَلَكُوا
كَمَا تَقَدَّمَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّ الْفَضْلَ هَذَا
دَخَلَ يَوْمًا عَلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، وَابْنُهُ جَعْفَرٌ، يُوَقِّعُ بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَمَعَ الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ عَشْرُ قِصَصٍ، فَلَمْ يَقْضِ لَهُ
مِنْهَا وَاحِدَةً بَلْ يَتَعَلَّلُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا،
فَجَمَعَهُنَّ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ وَقَالَ: ارْجِعْنَ خَائِبَاتٍ
خَاسِئَاتٍ. ثُمَّ نَهَضَ وَهُوَ يَقُولُ:
عَسَى وَعَسَى يَثْنِي الزَّمَانُ عِنَانَهُ بِتَصْرِيفِ حَالٍ وَالزَّمَانُ
عَثُورُ فَتُقْضَى لُبَانَاتٌ وَتُشْفَى حَسَائِفُ
وَتَحْدُثُ مِنْ بَعْدِ الْأُمُورِ أُمُورُ
فَسَمِعَهُ الْوَزِيرُ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ فَقَالَ لَهُ:
أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمَا رَجَعْتَ. فَأَخَذَ مِنْ يَدِهِ الْقِصَصَ فَوَقَّعَ
عَلَيْهَا. ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَحْفِرُ خَلْفَهُمْ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنْهُمْ،
وَتَوَلَّى الْوَزَارَةَ بَعْدَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ أَبُو نُوَاسٍ:
مَا رَعَى الدَّهْرُ آلَ بَرْمَكَ لَمَّا أَنْ رَمَى مُلْكَهُمْ بِأَمْرٍ فَظِيعِ
إِنَّ دَهْرَاً لَمْ يَرْعَ عَهْدًا لِيَحْيَى غَيْرُ رَاعٍ ذِمَامَ آلِ
الرَّبِيعِ
ثُمَّ وَزَرَ مِنْ بَعْدِ الرَّشِيدِ لِابْنِهِ الْأَمِينِ، فَلَمَّا دَخَلَ
الْمَأْمُونُ بَغْدَادَ اخْتَفَى، فَأَرْسَلَ لَهُ الْمَأْمُونُ أَمَانًا
فَخَرَجَ، وَلَمْ يَزَلْ خَامِلًا حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ
ثَمَانٍ وَسِتُّونَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا حَصَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ نَصْرَ بْنَ شَبَثٍ بَعْدَ مَا
حَارَبَهُ خَمْسَ سِنِينَ، فَلَمَّا حَصَرَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَضَيَّقَ
عَلَيْهِ جِدًّا حَتَّى أَلْجَأَهُ إِلَى أَنْ طَلَبَ مِنْهُ الْأَمَانَ، فَكَتَبَ
ابْنُ طَاهِرٍ إِلَى الْمَأْمُونِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
الْمَأْمُونُ يَأْمُرُهُ بِكِتَابَةِ أَمَانٍ لِنَصْرِ بْنِ شَبَثٍ عَنْ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، فَكَتَبَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ كِتَابَ أَمَانٍ،
فَنَزَلَ فَأَمَرَ عَبْدُ اللَّهِ بِتَخْرِيبِ الْمَدِينَةِ الَّتِي كَانَ
مُتَحَصِّنًا بِهَا، وَذَهَبَ شَرُّهُ.
وَفِيهَا جَرَتْ حُرُوبٌ مَعَ بَابَكَ الْخُرَّمِيِّ فَأَسَرَ بَابَكُ بَعْضَ
أُمَرَاءِ الْإِسْلَامِ وَأَحَدَ مُقَدَّمِي الْعَسَاكِرِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ صَالِحُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ وَالِي مَكَّةَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَلِكُ الرُّومِ مِيخَائِيلُ بْنُ جُورْجِسَ، وَكَانَ لَهُ
عَلَيْهِمْ تِسْعَ سِنِينَ، فَمَلَّكُوا عَلَيْهِمُ ابْنَهُ تَوْفِيلَ بْنَ
مِيخَائِيلَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنْ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ:
الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الْأَشْيَبُ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، وَحَفْصُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَاضِي نَيْسَابُورَ وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ وَيَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا دَخَلَ نَصْرُ بْنُ شَبَثٍ إِلَى بَغْدَادَ حِينَ بَعَثَهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ مِنَ الرَّقَّةِ فَدَخَلَهَا وَلَمْ يَتَلَقَّهُ
أَحَدٌ مِنَ الْجُنْدِ بَلْ دَخَلَهَا وَحْدَهُ فَأُنْزِلَ فِي مَدِينَةِ أَبِي
جَعْفَرٍ، ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، وَفِي هَذَا الشَّهْرِ ظَفِرَ
الْمَأْمُونُ بِجَمَاعَةٍ مِنْ كُبَرَاءِ مَنْ كَانَ بَايَعَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ
الْمَهْدِيِّ فَعَاقَبَهُمْ وَحَبَسَهُمْ فِي الْمُطْبِقِ.
ظُهُورُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ بَعْدَ
اخْتِفَائِهِ
وَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْأَحَدِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ
رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا اجْتَازَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ وَكَانَ
مُخْتَفِيًا مُدَّةَ سِتِّ سِنِينَ وَشُهُورٍ مُنْتَقِبًا فِي زِيِّ امْرَأَةٍ
وَمَعَهُ امْرَأَتَانِ فِي بَعْضِ دُرُوبِ بَغْدَادَ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ،
فَقَامَ الْحَارِسُ فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ وَمِنْ أَيْنَ ؟
ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُمْسِكَهُنَّ، فَأَعْطَاهُ إِبْرَاهِيمُ خَاتَمًا كَانَ فِي
يَدِهِ مِنْ يَاقُوتٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ الْحَارِسُ اسْتَرَابَ وَقَالَ:
إِنَّمَا هَذَا خَاتَمُ رَجُلٍ كَبِيرِ الشَّأْنِ. فَذَهَبَ بِهِنَّ إِلَى مُتَوَلِّي
اللَّيْلِ، فَأَمَرَهُنَّ أَنْ يُسْفِرْنَ عَنْ وُجُوهِهِنَّ، فَتَمَنَّعَ
إِبْرَاهِيمُ فَكَشَفُوا عَنْ وَجْهِهِ فَإِذَا هُوَ هُوَ،
فَعَرَفَهُ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى صَاحِبِ الْحَرَسِ فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ،
فَرَفَعَهُ الْآخَرُ إِلَى بَابِ الْمَأْمُونِ فَأَصْبَحَ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ
وَنِقَابُهُ عَلَى رَأْسِهِ وَالْمِلْحَفَةُ فِي صَدْرِهِ لِيَرَاهُ النَّاسُ،
وَلِيَعْلَمُوا كَيْفَ أُخِذَ. فَأَمَرَ الْمَأْمُونُ بِالِاحْتِفَاظِ بِهِ
وَالِاحْتِرَاسِ عَلَيْهِ مُدَّةً، ثُمَّ أَطْلَقَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. هَذَا وَقَدْ
صَلَبَ جَمَاعَةً مِمَّنْ كَانَ سَجَنَهُمْ بِسَبَبِهِ لِكَوْنِهِمْ أَرَادُوا
الْفَتْكَ بِالْمُوَكَّلِينَ بِالسِّجْنِ، فَصَلَبَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةً.
وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ لَمَّا أُوقِفَ بَيْنَ
يَدَيِ الْمَأْمُونِ شَرَعَ فِي تَأْنِيبِهِ، فَتَرَقَّقَ لَهُ عَمُّهُ
إِبْرَاهِيمُ كَثِيرًا، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ تُعَاقِبْ
فَبِحَقِّكَ، وَإِنْ تَعْفُ فَبِفَضْلِكَ. فَقَالَ: بَلْ أَعْفُو يَا
إِبْرَاهِيمُ، إِنَّ الْقُدْرَةَ تُذْهِبُ الْحَفِيظَةَ، وَالنَّدَمُ تَوْبَةٌ،
وَبَيْنَهُمَا عَفْوُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِمَّا تَسْأَلُهُ.
فَكَبَّرَ إِبْرَاهِيمُ وَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدِ امْتَدَحَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ ابْنَ أَخِيهِ الْمَأْمُونَ
بِقَصِيدَةٍ بَالَغَ فِيهَا، فَلَمَّا سَمِعَهَا الْمَأْمُونُ قَالَ: أَقُولُ
كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ
اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [ يُوسُفَ: 92 ] وَذَكَرَ
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الْمَأْمُونَ لَمَّا عَفَا عَنْ عَمِّهِ
إِبْرَاهِيمَ أَمَرَهُ أَنْ يُغَنِّيَهُ شَيْئًا، فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُهُ.
فَأَمَرَهُ فَأَخَذَ الْعُودَ فِي حِجْرِهِ، وَقَالَ:
هَذَا مَقَامُ مُسَوَّدٍ خَرِبَتْ مَنَازِلُهُ وَدُورُهْ
نَمَّتْ عَلَيْهِ عِدَاتُهُ
كَذِبًا فَعَاقَبَهُ أَمِيرُهْ
ثُمَّ عَادَ فَقَالَ:
ذَهَبْتُ مِنَ الدُّنْيَا وَقَدْ ذَهَبَتْ مِنِّى لَوَى الدَّهْرُ بِي عَنْهَا
وَوَلَّى بِهَا عَنِّي
فِإِنْ أَبْكِ نَفْسِي أَبْكِ نَفْسًا عَزِيزَةً وَإِنْ أَحْتَقِرْهَا
أَحْتَقِرْهَا عَلَى ضَنِّ
وَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ الْمُسِيءَ بِعَيْنِهِ بِرَبِّي تَعَالَى جَدُّهُ حَسَنُ
الظَّنِّ
عَدَوْتُ عَلَى نَفْسِي فَعَادَ بِعَفْوِهِ عَلَيَّ فَعَادَ الْعَفْوُ مَنًّا
عَلَى مَنِّ
فَقَالَ الْمَأْمُونُ: أَحْسَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا. فَرَمَى
بِالْعُودِ مِنْ حِجْرِهِ، وَوَثَبَ قَائِمًا فَزِعًا مِنْ هَذَا الْكَلَامِ،
فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: اقْعُدْ وَاسْكُنْ، مَرْحَبًا بِكَ، لَمْ يَكُنْ
ذَلِكَ لِشَيْءٍ تَتَوَهَّمُهُ، وَوَاللَّهِ لَا رَأَيْتَ طُولَ أَيَّامِي شَيْئًا
تَكْرَهُهُ، وَتَغْتَمُّ بِهِ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِرَدِّ جَمِيعِ مَا كَانَ مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالضِّيَاعِ وَالدُّورِ، فَرُدَّتْ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ لَهُ
بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ مُكْرَمًا
مُعَظَّمًا.
عُرْسُ بُورَانَ
وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا بَنَى الْمَأْمُونُ بِبُورَانَ بِنْتِ الْحَسَنِ بْنِ
سَهْلٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ فِي رَمَضَانَ إِلَى مُعَسْكَرِ
الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ بِفَمِ الصِّلْحِ، وَكَانَ الْحَسَنُ قَدْ عُوفِيَ مِنْ
مَرَضِهِ فَنَزَلَ الْمَأْمُونُ عِنْدَهُ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ وُجُوهِ الْأُمَرَاءِ
وَالرُّؤَسَاءِ وَأَكَابِرِ بَنِي هَاشِمٍ، فَدَخَلَ بِبُورَانَ فِي شَوَّالٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ فِي لَيْلَةٍ عَظِيمَةٍ، وَقَدْ أُشْعِلَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ
شُمُوعُ الْعَنْبَرِ، وَنُثِرَ عَلَى رَأْسِهِ الدُّرُّ وَالْجَوْهَرُ، فَوْقَ
حُصْرٍ مَنْسُوجَةٍ بِالذَّهَبِ الْأَحْمَرِ. وَكَانَ عَدَدُ الْجَوْهَرِ مِنْهُ
أَلْفَ دُرَّةٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَجُمِعَ فِي صِينِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ كَانَ
الْجَوْهَرُ فِيهَا، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا نَثَرْنَاهُ
لِتَتَلَقَّطَهُ الْجَوَارِي. فَقَالَ: لَا، أَنَا أُعَوِّضُهُنَّ خَيْرًا مِنْ
ذَلِكَ. فَجَمَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَلَمَّا جَاءَتِ الْعَرُوسُ وَمَعَهَا
جَدَّتُهَا وَزُبَيْدَةُ أُمُّ أَخِيهِ الْأَمِينِ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ جَاءَ
مَعَهَا فَأُجْلِسَتْ إِلَى جَانِبِهِ فَصَبَّ فِي حِجْرِهَا ذَلِكَ
الْجَوْهَرَ، وَقَالَ لَهَا: هَذَا نِحْلَةٌ مِنِّي لَكِ، وَسَلِي
حَاجَتِكَ. فَأَطْرَقَتْ حَيَاءً، فَقَالَتْ جَدَّتُهَا: كَلِّمِي سَيِّدَكِ
وَسَلِيهِ حَاجَتَكِ فَقَدْ أَمَرَكِ. فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
أَسْأَلُكَ أَنْ تَرْضَى عَنْ عَمِّكَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ وَأَنْ
تَرُدَّهُ إِلَى مَنْزِلَتِهِ الَّتِي كَانَ فِيهَا قَبْلَ ذَلِكَ. فَقَالَ:
نَعَمْ. قَالَتْ: وَأُمُّ جَعْفَرٍ تَعْنِي زُبَيْدَةَ تَأْذَنُ لَهَا فِي
الْحَجِّ. قَالَ: نَعَمْ. فَخَلَعَتْ عَلَيْهَا زُبَيْدَةُ بِذْلَتَهَا
الْأُمَوِيَّةَ، وَأَطْلَقَتْ لَهَا قَرْيَةً مُقَوَّرَةً. وَأَمَّا وَالِدُ
الْعَرُوسِ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ فَإِنَّهُ كَتَبَ أَسْمَاءَ قُرَاهُ وَضِيَاعَهُ
وَأَمْلَاكَهُ فِي رِقَاعٍ وَنَثَرَهَا عَلَى الْأُمَرَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ،
فَمَنْ وَقَعَتْ فِي يَدِهِ مِنْهَا رُقْعَةٌ، بَعَثَ إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي
فِيهَا نُوَّابُهُ فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ مِلْكًا خَالِصًا. وَأَنْفَقَ عَلَى
الْمَأْمُونِ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْجَيْشِ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ عِنْدَهُ
سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا مَا يُعَادِلُ خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَلَمَّا أَرَادَ الْمَأْمُونُ الِانْصِرَافَ مِنْ عِنْدِهِ، أَطْلَقَ لَهُ
عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَقْطَعَهُ الْبَلْدَةَ الَّتِي هُوَ نَازِلٌ
بِهَا، وَهُوَ إِقْلِيمُ فَمِ الصِّلْحِ مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ
الْإِقْطَاعَاتِ. وَرَجَعَ الْمَأْمُونُ إِلَى بَغْدَادَ فِي أَوَاخِرِ شَوَّالٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ رَكِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ إِلَى مِصْرَ
فَاسْتَنْقَذَهَا بِأَمْرِ الْمَأْمُونِ مِنْ يَدِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
السَّرِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، الْمُتَغَلِّبِ عَلَيْهَا، وَاسْتَعَادَهَا مِنْهُ
بَعْدَ
حُرُوبٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ اللُّغَوِيُّ.
وَاسْمُهُ إِسْحَاقُ بْنُ مِرَارٍ.
وَمَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّاطَرِيُّ.
وَيَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ.
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ
وَمِائَتَيْنِ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْجَوَّابِ. وَطَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ
الصَّنْعَانِيُّ، صَاحِبُ " الْمُصَنَّفِ "، وَ " الْمُسْنَدِ
"، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْعِجْلِيُّ، وَأَبُو الْعَتَاهِيَةِ
الشَّاعِرُ الْمُفْلِقُ الْمَشْهُورُ، وَاسْمُهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْقَاسِمِ
بْنِ سُوَيْدِ بْنِ كَيْسَانَ، أَصْلُهُ مِنَ الْحِجَازِ، وَسَكَنَ بَغْدَادَ
وَكَانَ يَبِيعُ الْجِرَارَ أَوَّلًا، ثُمَّ حَظِيَ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ لَا سِيَّمَا
الْمَهْدِيُّ، وَقَدْ كَانَ يَعْشَقُ جَارِيَةً لِلْمَهْدِيِّ اسْمُهُا عُتْبَةُ
وَقَدْ
طَلَبَهَا مِنَ الْخَلِيفَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَإِذَا
سَمَحَ لَهُ بِهَا لَا تُرِيدُهُ الْجَارِيَةُ، وَتَقُولُ لِلْخَلِيفَةِ:
أَتُعْطِينِي لِرَجُلٍ دَمِيمِ الْخَلْقِ كَانَ يَبِيعُ الْجِرَارَ ؟ فَكَانَ
يُكْثِرُ التَّغَزُّلَ فِيهَا، وَشَاعَ أَمْرُهُ وَاشْتُهِرَ بِهَا، وَكَانَ
الْمَهْدِيُّ يَفْهَمُ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَقَدِ اتَّفَقَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْمَهْدِيَّ
اسْتَدْعَى الشُّعَرَاءَ إِلَى مَجْلِسِهِ فَاجْتَمَعُوا، وَكَانَ فِيهِمْ أَبُو
الْعَتَاهِيَةِ وَبَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ الْأَعْمَى، فَسَمِعَ صَوْتَ أَبِي
الْعَتَاهِيَةِ، فَقَالَ بَشَّارٌ لِجَلِيسِهِ: أَثَمَّ هَاهُنَا أَبُو
الْعَتَاهِيَةِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَوَجِمَ لَهَا بَشَّارٌ، ثُمَّ اسْتَنْشَدَ الْمَهْدِيُّ
أَبَا الْعَتَاهِيَةِ. فَانْطَلَقَ يُنْشِدُهُ قَصِيدَتَهُ فِيهَا، الَّتِي
أَوَّلُهَا:
أَلَا مَا لِسَيِّدَتِي مَا لَهَا أَدَلَّتْ فَأَحْمِلَ إِدْلَالَاهَا
فَقَالَ بَشَّارٌ لِجَلِيسِهِ: مَا رَأَيْتُ أَجْسَرَ مِنْ هَذَا. حَتَّى انْتَهَى
أَبُو الْعَتَاهِيَةِ إِلَى قَوْلِهِ:
أَتَتْهُ الْخِلَافَةُ مُنْقَادَةً إِلَيهِ تُجَرِّرُ أَذْيَالَهَا
فَلَمْ تَكُ تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ وَلَمْ يَكُ يَصْلُحُ إِلَّا لَهَا
وَلَوْ رَامَهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ لَزُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا
وَلَوْ لَمْ تُطِعْهُ بَنَاتُ الْقُلُوبِ لَمَا قَبِلَ
اللُّهُ أَعْمَالَهَا
فَقَالَ بَشَّارٌ لِجَلِيسِهِ: انْظُرْ وَيْحَكَ، أَطَارَ الْخَلِيفَةُ عَنْ
فِرَاشِهِ أَمْ لَا ؟ قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ
يَوْمَئِذٍ بِجَائِزَةٍ غَيْرَهُ.
وَقَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: اجْتَمَعَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ بِأَبِي نُوَاسٍ
وَكَانَ فِي طَبَقَتِهِ وَطَبَقَةِ بَشَّارٍ، فَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ
لِأَبِي نُوَاسٍ: كَمْ تَعْمَلُ فِي الْيَوْمِ مِنَ الشِّعْرِ ؟ قَالَ: بَيْتًا
أَوْ بَيْتَيْنِ. فَقَالَ: لَكِنِّي أَعْمَلُ الْمِائَةَ وَالْمِائَتَيْنِ.
فَقَالَ أَبُو نُوَاسٍ: لِأَنَّكَ تَعْمَلُ مِثْلَ قَوْلِكَ:
يَا عُتْبَ مَا لِي وَلَكِ يَا لَيْتَنِي لَمْ أَرَكِ
وَلَوْ أَرَدْتُ مِثْلَ هَذَا الْأَلْفَ وَالْأَلْفَيْنِ، لَقَدَرْتُ عَلَيْهِ،
وَأَنَا أَعْمَلُ مِثْلَ قَوْلِي:
مِنْ كَفِّ ذَاتِ حِرٍّ فِي زِيِّ ذِي ذَكَرٍ لَهَا مُحِبَّانِ لُوطِيٌّ
وَزَنَّاءُ
وَلَوْ أَرَدْتَ مِثْلَ هَذَا لَأَعْجَزَكَ الدَّهْرَ.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَمِنْ لَطِيفِ شِعْرِ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ:
وَلَقَدْ صَبَوْتُ إِلَيْكِ حَتَّ ى صَارَ مِنْ فَرْطِ التَّصَابِي
يَجِدُ الْجَلِيسُ إِذَا دَنَا رِيحَ التَّصَابِي فِي
ثِيَابِي
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَأَشْعَارُهُ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ
ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَالِثَ جُمَادَى
الْآخِرَةِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَقِيلَ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ.
وَأَوْصَى أَنْ يَكْتُبَ عَلَى قَبْرِهِ بِبَغْدَادَ:
إِنَّ عَيْشًا يَكُونُ آخِرَهُ الْمَوْتُ لَعَيْشٌ مُعَجَّلُ التَّنْغِيصِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ
وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَجَّهَ الْمَأْمُونُ مُحَمَّدَ بْنَ حُمَيْدٍ الطُّوسِيَّ عَلَى طَرِيقِ
الْمَوْصِلِ لِمُحَارَبَةِ بَابَكَ الْخُرَّمِيَّ فِي أَرْضِ أَذْرَبِيجَانَ
فَأَخَذَ جَمَاعَةً مِنَ الْمُتَغَلِّبِينَ فِيهَا، فَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى
الْمَأْمُونِ أُسَرَاءَ إِلَى بَغْدَادَ وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ أَظْهَرَ الْمَأْمُونُ فِي النَّاسِ بِدْعَتَيْنِ فَظِيعَتَيْنِ؛
إِحْدَاهُمَا أَطَمُّ مِنَ الْأُخْرَى، وَهِيَ الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ،
وَالْأُخْرَى تَفْضِيلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ أَخْطَأَ فِي كُلٍّ مِنْ
هَذَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ خَطَأً كَبِيرًا فَاحِشًا، وَأَثِمَ إِثْمًا عَظِيمًا،
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُكَفِّرُ مَنْ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، كَمَا
سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْعَبَّاسِ الْعَبَّاسِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ: أَسَدُ بْنُ مُوسَى، الَّذِي يُقَالُ لَهُ: أَسَدُ السُّنَّةِ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ حَفْصٍ، وَأَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ، وَاسْمُهُ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، وَأَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ الشَّامِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ، شَيْخُ الْبُخَارِيِّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا ثَارَ رَجُلَانِ بِمِصْرَ، وَهُمَا عَبْدُ السَّلَامِ وَابْنُ جَلِيسٍ،
فَخَلَعَا الْمَأْمُونَ وَاسْتَحْوَذَا عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَبَايَعَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْقَيْسِيَّةِ وَالْيَمَانِيَّةِ، فَوَلَّى
الْمَأْمُونُ أَخَاهُ أَبَا إِسْحَاقَ نِيَابَةَ الشَّامِ وَمِصْرَ، وَوَلَّى
ابْنَهُ الْعَبَّاسَ نِيَابَةَ الْجَزِيرَةِ وَالثُّغُورِ وَالْعَوَاصِمِ،
وَأَطْلَقَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ أَلْفَ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَخَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَلَمْ يُرَ يَوْمًا أَكْثَرَ
إِطْلَاقًا مِنْهُ، أَطْلَقَ فِيهِ لِهَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءِ الثَّلَاثَةِ أَلْفَ
أَلْفِ دِينَارٍ وَخَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ السِّنْدَ غَسَّانَ بْنَ عَبَّادٍ وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِيهَا أَمِيرُ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ الْخُرَيْبِيُّ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ الْبَصْرِيُّ.
وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْعَبْسِيُّ.
وَعَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الدِّمَشْقِيُّ.
وَحَكَى ابْنُ خِلِّكَانَ فِي " " الْوَفِيَّاتِ " " عَنْ
بَعْضِهِمْ أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَاهَانَ
الْمَوْصِلِيُّ النَّدِيمُ، وَأَبُو الْعَتَاهِيَةِ، وَأَبُو عَمْرٍو
الشَّيْبَانِيُّ النَّحْوِيُّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ بِبَغْدَادَ، وَلَكِنَّهُ
صَحَّحَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ النَّدِيمَ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ
وَمِائَةٍ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
هِشَامٍ رَاوِي السِّيرَةِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَكَاهُ ابْنُ خِلِّكَانَ عَنْهُ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثَمَانِي
عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَبُو
سَعِيدِ بْنُ يُونُسَ فِي " " تَارِيخِ مِصْرَ " ".
الْعَكَوَّكُ الشَّاعِرُ
أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ الْمُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيُّ، وَيُلَقَّبُ بِالْعَكَوَّكِ لِقِصَرِهِ وَسِمَنِهِ،
وَكَانَ مِنَ الْمَوَالِي، وَوُلِدَ أَعْمَى، وَقِيلَ: بَلْ أَصَابَهُ جُدَرِيٌّ
وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ فَعَمِيَ، وَكَانَ أَسْوَدَ أَبْرَصَ، وَكَانَ
شَاعِرًا مُطْبِقًا فَصِيحًا بَلِيغًا، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ فِي شِعْرِهِ
الْجَاحِظُ فَمَنْ بَعْدَهُ، قَالَ الْجَاحِظُ: مَا رَأَيْتُ بَدَوِيًّا وَلَا
حَضَرِيًّا أَحْسَنَ إِنْشَادًا مِنْهُ. فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
بِأَبِي مَنْ زَارَنِي مُكْتَتِمًا خَائِفًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ جَزِعًا
زَائِرًا نَمَّ عَلَيْهِ حُسْنُهُ كَيْفَ يُخْفِي اللَّيْلُ
بَدْرًا طَلَعَا
رَصَدَ الْغَفْلَةَ حَتَّى أَمْكَنَتْ وَرَعَى السَّامِرَ حَتَّى هَجَعَا
رَكِبَ الْأَهْوَالَ فِي زَوْرَتِهِ ثُمَّ مَا سَلَّمَ حَتَّى وَدَّعَا
وَهُوَ الْقَائِلُ فِي أَبِي دُلْفٍ الْقَاسِمِ بْنِ عِيسَى الْعِجْلِيِّ يَمْتَدِحُهُ:
إِنَّمَا الدُّنْيَا أَبُو دُلَفٍ بَيْنَ مَغْزَاهُ وَمُحْتَضَرِهْ فَإِذَا وَلَّى
أَبُو دُلَفٍ وَلَّتِ الدُّنْيَا عَلَى أَثَرِهْ
كُلُّ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ عَرَبٍ بَيْنَ بَادِيهِ إِلَى حَضَرِهْ مُسْتَعِيرٌ
مِنْكَ مَكْرُمَةً يَكْتَسِيهَا يَوْمَ مُفْتَخَرِهْ
وَلَمَّا بَلَغَ الْمَأْمُونَ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ وَهِيَ فِي قَصِيدَةٍ طَوِيلَةٍ
عَارَضَ فِيهَا أَبَا نُوَاسٍ الْحَسَنَ بْنَ هَانِئٍ تَطَلَّبَهُ الْمَأْمُونُ
فَهَرَبَ مِنْهُ كُلَّ مَهْرَبٍ، ثُمَّ أُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ:
وَيْحَكَ ! فَضَّلْتَ الْقَاسِمَ بْنَ عِيسَى عَلَيْنَا ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، أَنْتُمْ أَهْلُ بَيْتٍ اصْطَفَاكُمُ
اللَّهُ مِنْ بَيْنِ عِبَادِهِ، وَآتَاكُمْ مُلْكًا عَظِيمًا، وَإِنَّمَا
فَضَّلْتُهُ عَلَى أَشْكَالِهِ وَأَقْرَانِهِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَبْقَيْتَ
أَحَدًا، وَلَقَدْ أَدْخَلْتَنَا فِي الْكُلِّ حَيْثُ تَقُولُ:
كُلُّ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ عَرَبٍ
الْبَيْتَيْنِ. وَمَعَ هَذَا فَلَا أَسْتَحِلُّ قَتْلَكَ بِهَذَا، وَلَكِنْ
بِكُفْرِكَ وَبِشِرْكِكَ، حَيْثُ تَقُولُ فِي عَبْدٍ ذَلِيلٍ:
أَنْتَ الَّذِي تُنْزِلُ الْأَيَّامَ مَنْزِلَهَا وَتَنْقُلُ الدَّهْرَ مِنْ حَالٍ
إِلَى حَالِ
وَمَا مَدَدْتَ مَدَى طَرَفٍ إِلَى أَحَدٍ إِلَّا قَضَيْتَ بِأَرْزَاقٍ وَآجَالِ
ذَاكَ اللَّهُ يَفْعَلُهُ، أَخْرِجُوا لِسَانَهُ مِنْ قَفَاهُ. فَأَخْرَجُوا
لِسَانَهُ مِنْ قَفَاهُ فَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، سَامَحَهُ اللَّهُ.
وَقَدِ امْتَدَحَ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ الطُّوسِيَّ:
إِنَّمَا الدُّنْيَا حُمَيْدٌ وَأَيَادِيهِ الْجِسَامُ
فَإِذَا وَلَّى حُمَيْدٌ فَعَلَى الدُّنْيَا السَّلَامُ
وَقَوْلُهُ:
تَكَفَّلَ سَاكِنِي الدُّنْيَا حُمَيْدٌ فَقَدْ أَضْحَوْا لَهُ فِيهَا عِيَالَا
كَأَنَّ أَبَاهُ آدَمَ كَانَ أَوْصَى إِلَيْهِ أَنْ يَعُولَهُمْ فَعَالَا
وَلَمَّا مَاتَ حُمَيْدٌ هَذَا فِي سَنَةِ عَشْرٍ مَعَ
الْمَأْمُونِ بِفَمِ الصِّلْحِ، قَالَ الْعَكَوَّكُ يَرْثِيهِ قَصِيدَةً، مِنْهَا
قَوْلُهُ:
فَأَدَّبَنَا مَا أَدَّبَ النَّاسَ قَبْلَنَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلصَّبْرِ
مَوْضِعُ
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ يَرْثِي حُمَيْدًا هَذَا:
أَبَا غَانِمٍ أَمَّا ذَرَاكَ فَوَاسِعٌ وَقَبْرُكَ مَعْمُورُ الْجَوَانِبِ
مُحْكَمُ
وَمَا يَنْفَعُ الْمَقْبُورَ عُمْرَانُ قَبْرِهِ إِذَا كَانَ فِيهِ جِسْمُهُ
يَتَهَدَّمُ
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ خِلِّكَانَ لِعَكَوَّكٍ هَذَا أَشْعَارًا جَيِّدَةً
تَرَكْنَاهَا اخْتِصَارًا
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ
وَمِائَتَيْنِ
فِي يَوْمِ السَّبْتِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا الْتَقَى
مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَبَابَكُ الْخُرَّمِيُّ، لَعَنَهُ اللَّهُ فَقَتَلَ
الْخُرَّمِيُّ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ جَيْشِهِ وَقَتَلَهُ أَيْضًا، وَانْهَزَمَ
بَقِيَّةُ أَصْحَابِ ابْنِ حُمَيْدٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،
فَبَعَثَ الْمَأْمُونُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، وَيَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ
إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ يُخَيِّرَانِهِ بَيْنَ خُرَاسَانَ وَنِيَابَةِ
الْجِبَالِ وَأَذْرَبِيجَانَ وَأَرْمِينِيَةَ، لِمُحَارَبَةِ بَابَكَ فَاخْتَارَ
الْمُقَامَ بِخُرَاسَانَ، لِكَثْرَةِ احْتِيَاجِهَا إِلَى الضَّبْطِ، وَلِلْخَوْفِ
مِنْ ظُهُورِ الْخَوَارِجِ بِهَا.
وَفِيهَا دَخَلَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ الرَّشِيدِ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ،
فَافْتَتَحَهَا وَاسْتَعَادَهَا إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَظَفِرَ بِعَبْدِ
السَّلَامِ وَابْنِ جَلِيسٍ وَقَتَلَهُمَا. وَفِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ:
بِلَالٌ الضَّبَابِيُّ الشَّارِيُّ فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَأْمُونُ ابْنَهُ
الْعَبَّاسَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَقَتَلُوا بِلَالًا وَعَادُوا
سَالِمِينَ. وَفِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ عَلِيَّ بْنَ هِشَامٍ
الْجَبَلَ وَقُمَّ وَأَصْبَهَانَ وَأَذْرَبِيجَانَ،
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِسْحَاقُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ الْوَهْبِيُّ.
وَحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ.
شَيْخُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ الْمِصْرِيُّ.
وَمُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو.
وَأَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ صُبَيْحٍ أَبُو جَعْفَرٍ
الْكَاتِبُ.
وَلِيَ دِيوَانَ الرَّسَائِلِ لِلْمَأْمُونِ. تَرْجَمَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ،
وَأَوْرَدَ مِنْ شِعْرِهِ قَوْلَهُ:
قَدْ يُرْزَقُ الْمَرْءُ لَا مِنْ حُسْنِ حِيلَتِهِ وَيُصْرَفُ الرِّزْقُ عَنْ ذِي
الْحِيلَةِ الدَّاهِي مَا مَسَّنِي مِنْ غِنًى يَوْمًا وَلَا عَدَمٍ
إِلَّا وَقَوْلِي عَلَيْهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
وَلَهُ أَيْضًا:
إِذَا قُلْتَ فِي شَيْءٍ نَعَمْ فَأَتِمَّهُ فَإِنَّ نَعَمْ دَيْنٌ عَلَى الْحُرِّ
وَاجِبُ
وَإِلَّا فَقُلْ لَا تَسْتَرِحْ وُترِحْ بِهَا لِئَلَّا يَقُولَ النَّاسُ إِنَّكَ
كَاذِبُ
وَلَهُ:
إِذَا الْمَرْءُ أَفْشَى سِرَّهُ بِلِسَانِهِ فَلَامَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَهُوَ
أَحْمَقُ
إِذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ عَنْ سِرِّ نَفْسِهِ فَصَدْرُ الَّذِي
اسْتَوْدَعْتَهُ السِّرَّ أَضْيَقُ
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَعْيَنَ بْنِ لَيْثِ بْنِ
رَافِعٍ الْمِصْرِيُّ، أَحَدُ مَنْ قَرَأَ " " الْمُوَطَّأَ "
" عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَتَفَقَّهَ بِمَذْهَبِهِ، وَكَانَ مُعَظَّمًا
بِبِلَادِ مِصْرَ، وَلَهُ بِهَا ثَرْوَةٌ وَأَمْوَالٌ وَافِرَةٌ. وَحِينَ قَدِمَ
الشَّافِعِيُّ مِصْرَ أَعْطَاهُ أَلْفَ دِينَارٍ، وَجَمَعَ لَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ
أَلْفَيْ دِينَارٍ أُخْرَى.
وَهُوَ وَالِدُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الَّذِي
صَحِبَ الشَّافِعِيَّ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ دُفِنَ إِلَى
جَانِبِ قَبْرِ الشَّافِعِيِّ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
دُفِنَ إِلَى جَانِبِ أَبِيهِ مِنَ الْقِبْلَةِ. قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: فَهِيَ
ثَلَاثَةُ أَقْبُرٍ، الشَّافِعِيُّ شَامِيُّهَا، وَهُمَا قِبْلَتُهُ، رَحِمَهُمُ
اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ
وَمِائَتَيْنِ
فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا رَكِبَ الْمَأْمُونُ فِي الْعَسَاكِرِ مِنْ
بَغْدَادَ قَاصِدًا بِلَادَ الرُّومِ لِغَزْوِهِمْ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَادَ
وَأَعْمَالِهَا إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ، فَلَمَّا كَانَ
بِتَكْرِيتَ تَلَقَّاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنَ
الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَأَذِنَ لَهُ الْمَأْمُونُ فِي الدُّخُولِ عَلَى
ابْنَتِهِ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْمَأْمُونِ وَكَانَ مَعْقُودَ الْعَقْدِ
عَلَيْهَا فِي حَيَاةِ أَبِيهِ فَدَخَلَ بِهَا، وَأَخَذَهَا مَعَهُ إِلَى بِلَادِ
الْحِجَازِ، وَتَلَقَّاهُ أَخُوهُ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ الرَّشِيدِ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ وَسَارَ
الْمَأْمُونُ فِي جَحَافِلَ كَثِيرَةٍ إِلَى بِلَادِ طَرَسُوسَ فِي جُمَادَى
الْأُولَى مِنْهَا، وَفَتَحَ حِصْنًا هُنَاكَ عَنْوَةً وَأَمَرَ بِهَدْمِهِ، ثُمَّ
رَجَعَ الْمَأْمُونُ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ إِلَى دِمَشْقَ فَنَزَلَهَا وَعَمَرَ
دَيْرَ مُرَّانَ بِسَفْحِ قَاسْيُونَ، وَأَقَامَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ الصُّورِيُّ،
وَقَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، وَمَكِّيُّ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ.
فَأَمَّا أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ؛ فَهُوَ سَعِيدُ بْنُ أَوْسِ بْنِ ثَابِتٍ
الْبَصْرِيُّ اللُّغَوِيُّ أَحَدُ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ
كَانَ يَرَى الْقَدَرَ. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ
الْمَازِنِيُّ: رَأَيْتُ الْأَصْمَعِيَّ جَاءَ إِلَى أَبِي
زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، فَقَبَّلَ رَأْسَهُ وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ:
أَنْتَ رَئِيسُنَا وَسَيِّدُنَا مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ
خِلِّكَانَ وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا " خَلْقُ الْإِنْسَانِ
" وَ " كِتَابُ الْإِبِلِ " وَ " كِتَابُ الْمِيَاهِ "
وَ " كِتَابُ الْقَوْسِ وَالتُّرْسِ " وَغَيْرُ ذَلِكَ.
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي قَبْلَهَا أَوِ الَّتِي
بَعْدَهَا. وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَارَبَ الْمِائَةَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ
وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا عَدَا مَلِكُ الرُّومِ وَهُوَ تَوْفِيلُ بْنُ مِيخَائِيلَ فَقَتَلَ
جَمَاعَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَرْضِ طَرَسُوسَ؛ نَحْوًا مِنْ أَلْفٍ
وَسِتِّمِائَةِ إِنْسَانٍ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَيْضًا كَتَبَ إِلَى الْمَأْمُونِ
فَبَدَأَ بِنَفْسِهِ فَلَمَّا قَرَأَ الْمَأْمُونُ كِتَابَهُ نَهَضَ مِنْ
فَوْرِهِ، فَرَكِبَ فِي الْجُيُوشِ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ،
وَصُحْبَتُهُ أَخُوهُ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ الرَّشِيدِ نَائِبُ الشَّامِ وَمِصْرَ،
فَافْتَتَحَ بُلْدَانًا كَثِيرَةً صُلْحًا وَعَنْوَةً، وَافْتَتَحَ أَخُوهُ
ثَلَاثِينَ حِصْنًا، وَبَعَثَ الْمَأْمُونُ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ فِي سَرِيَّةٍ
إِلَى طُوَانَةَ فَافْتَتَحَ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَأَسَرَ خَلْقًا مِنَ
الذَّرَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ الرُّومِ، وَحَرَقَ حُصُونًا
عِدَّةً، ثُمَّ عَادَ سَالِمًا مُؤَيَّدًا إِلَى الْعَسْكَرِ. وَأَقَامَ
الْمَأْمُونُ بِبِلَادِ الرُّومِ مِنْ نِصْفِ جُمَادَى الْآخِرَةِ إِلَى نِصْفِ
شَعْبَانَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ وَقَدْ وَثَبَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ:
عُبْدُوسٌ الْفِهْرِيُّ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِبِلَادِ مِصْرَ، فَتَغَلَّبَ
عَلَى نُوَّابِ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ الرَّشِيدِ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ،
وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَرَكِبَ الْمَأْمُونُ مِنْ دِمَشْقَ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَفِيهَا كَتَبَ الْمَأْمُونُ إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ نَائِبِ بَغْدَادَ وَمَا وَالَاهَا مِنَ الْبِلَادِ، يَأْمُرُهُ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِالتَّكْبِيرِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَكَانَ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ فِي جَامِعِ الْمَدِينَةِ وَالرُّصَافَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، أَنَّهُمْ لَمَّا قَضَوُا الصَّلَاةَ قَامَ النَّاسُ قِيَامًا فَكَبَّرُوا ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ اسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ، وَهَذِهِ بِدْعَةٌ أَحْدَثَهَا الْمَأْمُونُ بِلَا مُسْتَنَدٍ وَلَا دَلِيلٍ وَلَا مُعْتَمَدٍ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ قَبْلَهُ أَحَدٌ وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي " " الصَّحِيحِ " " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ. وَقَدِ اسْتَحَبَّ هَذَا طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى عَدَمِ اسْتِحْبَابِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ الذِّكْرَ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ مَشْرُوعٌ، فَلَمَّا عُلِمَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ لِلْجَهْرِ مَعْنًى. وَهَذَا كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِالْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا هَذِهِ الْبِدْعَةُ الَّتِي أَمَرَ بِهَا
الْمَأْمُونُ؛ فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ مِنَ
السَّلَفِ.
وَفِيهَا وَقَعَ بَرْدٌ شَدِيدٌ جِدًّا. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الَّذِي حَجَّ
بِهِمْ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، وَقِيلَ: غَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ.
وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قُرَيْبٍ الْأَصْمَعِيُّ.
صَاحِبُ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَالشِّعْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ بِلَالٍ.
وَهَوْذَةُ بْنُ خَلِيفَةَ.
زُبَيْدَةُ امْرَأَةُ هَارُونَ الرَّشِيدِ وَابْنَةُ عَمِّهِ
وَهِيَ ابْنَةُ جَعْفَرٍ، أَمَةُ الْعَزِيزِ الْمُلَقَّبَةُ بِزُبَيْدَةَ بِنْتُ
جَعْفَرِ بْنِ الْمَنْصُورِ
الْقُرَشِيَّةُ الْهَاشِمِيَّةُ الْعَبَّاسِيَّةُ، امْرَأَةُ هَارُونَ الرَّشِيدِ وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ فِي زَمَانِهَا، مَعَ مَا كَانَ مَعَهَا مِنَ الْحَظَايَا وَالزَّوْجَاتِ كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي تَرْجَمَتِهِ، وَإِنَّمَا لُقِّبَتْ زُبَيْدَةَ؛ لِأَنَّ جَدَّهَا أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ كَانَ يُلَاعِبُهَا وَيُرَقِّصُهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا أَنْتِ زُبَيْدَةُ. لِبَيَاضِهَا، فَغَلَبَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَلَا تُعْرَفُ إِلَّا بِهِ، وَأَصْلُ اسْمِهَا أَمَةُ الْعَزِيزِ، كَانَتْ مِنَ الْجِمَالِ وَالْمَالِ وَالْخَيْرِ وَالدِّيَانَةِ عَلَى جَانِبٍ، وَلَهَا مِنَ الصَّدَقَاتِ وَالْأَوْقَافِ وَوُجُوهِ الْقُرُبَاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَرَوَى الْخَطِيبُ أَنَّهَا حَجَّتْ، فَبَلَغَتْ نَفَقَتُهَا فِي سِتِّينَ يَوْمًا أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَنَّهَا لَمَّا هَنَّأَتِ الْمَأْمُونَ بِالْخِلَافَةِ حِينَ دَخَلَ بَغْدَادَ قَالَتْ لَهُ: لَقَدْ هَنَّأْتُ نَفْسِي بِهَا عَنْكَ قَبْلَ أَنْ أَرَاكَ، وَلَئِنْ كُنْتُ فَقَدْتُ ابْنَا خَلِيفَةٍ لَقَدْ عُوِّضْتُ ابْنًا خَلِيفَةً لَمْ أَلِدْهُ، وَمَا خَسِرَ مَنِ اعْتَاضَ مِثْلَكَ، وَلَا ثَكِلَتْ أُمٌّ مَلَأَتْ يَدَهَا مِنْكَ، وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ أَجْرًا عَلَى مَا أَخَذَ، وَإِمْتَاعًا بِمَا عَوَّضَ. وَذَكَرَ أَنَّهَا تُوُفِّيَتْ بِبَغْدَادَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ.
ثُمَّ قَالَ الْخَطِيبُ: حَدَّثَنِى الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ لَفْظًا قَالَ: وَجَدْتُ بِخَطِّ أَبِي الْفَتْحِ الْقَوَّاسِ: ثنا صَدَقَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ الْمَوْصِلِيُّ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ الزَّمِنُ: رَأَيْتُ زُبَيْدَةَ فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكِ ؟ فَقَالَتْ: غَفَرَ لِي فِي أَوَّلِ مِعْوَلٍ ضُرِبَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ. قُلْتُ: فَمَا هَذِهِ الصُّفْرَةُ فِي وَجْهِكِ ؟ قَالَتْ: دُفِنَ بَيْنَ ظَهْرَانِينَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ زَفَرَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ زَفْرَةً فَاقْشَعَرَّ لَهَا جَسَدِي، فَهَذِهِ الصُّفْرَةُ مِنْ تِلْكَ الزَّفْرَةِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّهُ كَانَ لَهَا مِائَةُ جَارِيَةٍ كُلُّهُنَّ يَحْفَظْنَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَوِرْدُ كُلِّ وَاحِدَةٍ عُشْرُ الْقُرْآنِ، وَكَانَ يُسْمَعُ لَهُنَّ فِي الْقَصْرِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ....=
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق