30 //3...البداية والنهاية لابن كثير الحافظ
فِيهَا وَرَدَ كِتَابٌ مِنَ الْقَاضِي الْفَاضِلِ إِلَى ابْنِ الزَّكِيِّ يُخْبِرُهُ فِيهِ أَنَّ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ التَّاسِعِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ أَتَى عَارِضٌ فِيهِ ظُلُمَاتٌ مُتَكَاثِفَةٌ، وَبُرُوقٌ خَاطِفَةٌ، وَرِيَاحٌ عَاصِفَةٌ، فَقَوِيَ لَهُوبُهَا، وَاشْتَدَّ هُبُوبُهَا، فَتَدَافَعَتْ لَهَا أَعِنَّةٌ مُطْلَقَاتٌ، وَارْتَفَعَتْ لَهَا صَعَقَاتٌ، فَرَجَفَتْ لَهَا الْجُدْرَانُ، وَاصْطَفَقَتْ، وَتَلَاقَتْ عَلَى بُعْدِهَا وَاعْتَنَقَتْ، وَثَارَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَجَاجٌ، فَقِيلَ: لَعَلَّ هَذِهِ عَلَى هَذِهِ قَدِ انْطَبَقَتْ. وَلَا تَحْسَبُ إِلَّا أَنَّ جَهَنَّمَ قَدْ سَالَ مِنْهَا وَادٍ، وَعَدَا مِنْهَا عَادٍ، وَزَادَ عَصْفُ الرِّيحِ إِلَى أَنْ أَطْفَأَ سُرُجَ النُّجُومِ ; وَمَزَّقَتْ أَدِيمَ السَّمَاءِ، وَمَحَتْ مَا فَوْقَهُ مِنَ الرُّقُومِ، فَكُنَّا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ [ الْبَقَرَةِ: 19 ] وَكَمَا قُلْنَا: يَرُدُّونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَعْيُنِهِمْ مِنِ الْبَوَارِقِ. لَا عَاصِمَ مِنَ الْخَطْفِ لِلْأَبْصَارِ، وَلَا مَلْجَأَ مِنَ الْخَطْبِ إِلَّا مَعَاقِلُ الِاسْتِغْفَارِ، وَفَرَّ النَّاسُ نِسَاءً وَرِجَالًا وَأَطْفَالًا، وَنَفَرُوا مِنْ دُورِهِمْ خِفَافًا وَثِقَالًا ; لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، فَاعْتَصَمُوا بِالْمَسَاجِدِ الْجَامِعَةِ، وَأَذْعَنُوا لِلنَّازِلَةِ بِأَعْنَاقٍ خَاضِعَةٍ، بِوُجُوهٍ عَانِيَةٍ، وَنُفُوسٍ عَنِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ سَالِيَةٍ، يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ
خَفِيٍّ، وَيَتَوَقَّعُونَ
أَيَّ خَطْبٍ جَلِيٍّ، قَدِ انْقَطَعَتْ مِنَ الْحَيَاةِ عُلَقُهُمْ، وَعَمِيَتْ
عَنِ النَّجَاةِ طُرُقُهُمْ، وَوَقَعَتِ الْفِكْرَةُ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ
قَادِمُونَ، وَقَامُوا إِلَى صَلَاتِهِمْ، وَوَدُّوا لَوْ كَانُوا مِنَ الَّذِينَ
هُمْ عَلَيْهَا دَائِمُونَ إِلَى أَنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي الرُّكُودِ، وَأَسْعَفَ
الْهَاجِدِينَ بِالْهُجُودِ، وَأَصْبَحَ كُلٌّ يُسَلِّمُ عَلَى رَفِيقِهِ، وَيُهَنِّيهِ
بِسَلَامَةِ طَرِيقِهِ، وَيَرَى أَنَّهُ قَدْ بُعِثَ بَعْدَ النَّفْخَةِ،
وَأَفَاقَ بَعْدَ الصَّيْحَةِ، وَالصَّرْخَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ رَدَّ لَهُ
الْكَرَّةَ، وَأَحْيَاهُ بَعْدَ أَنْ كَادَ يَأْخُذُهُ عَلَى غِرَّةٍ، وَوَرَدَتِ
الْأَخْبَارُ بِأَنَّهَا قَدْ كَسَرَتِ الْمَرَاكِبَ فِي الْبِحَارِ،
وَالْأَشْجَارَ فِي الْقِفَارِ، وَأَتْلَفَتْ خَلْقًا كَثِيرًا مِنِ السُّفَّارِ،
وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّ فَلَمْ يَنْفَعْهُ الْفِرَارُ... إِلَى أَنْ قَالَ: وَلَا
يَحْسَبُ الْمَجْلِسُ أَنِّي أَرْسَلْتُ الْقَلَمَ مُحَرِّفًا، وَالْقَوْلَ
مُجَزِّفًا، فَالْأَمْرُ أَعْظَمُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ، وَنَرْجُو أَنَّ
اللَّهَ قَدْ أَيْقَظْنَا بِمَا وَعَظَنَا، وَنَبَّهْنَا بِمَا وَلَّهَنَا، فَمَا
مِنْ عِبَادِهِ مَنْ رَأَى الْقِيَامَةَ عِيَانًا، وَلَمْ يَلْتَمِسْ عَلَيْهَا
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ بُرْهَانًا إِلَّا أَهْلُ بَلَدِنَا ; فَمَا قَصَّ
الْأَوَّلُونَ مِثْلَهَا فِي الْمُثُلَاتِ، وَلَا سَبَقَتْ لَهَا سَابِقَةٌ فِي
الْمُعْضِلَاتِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مِنْ فَضْلِهِ قَدْ جَعَلَنَا
نُخْبِرُ عَنْهَا، وَلَا تُخْبِرُ عَنَّا، وَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَصْرِفَ
عَنَّا عَارِضَ الْحِرْصِ وَالْغُرُورِ إِذَا عَنَّا//
وَفِيهَا كَتَبَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى
الْمَلِكِ الْعَادِلِ بِدِمَشْقَ يَحُثُّهُ عَلَى قِتَالِ الْفِرِنْجِ،
وَيَشْكُرُهُ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ مِنْ مُحَارَبَتِهِمْ، وَحِفْظِ حَوْزَةِ
الْإِسْلَامِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْكُتُبِ: هَذِهِ
الْأَوْقَاتُ الَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا
عَرَائِسُ الْأَعْمَارِ،
وَهَذِهِ النَّفَقَاتُ الَّتِي تَجْرِي عَلَى أَيْدِيكُمْ مُهُورُ الْحُورِ فِي
دَارِ الْقَرَارِ، وَمَا أَسْعَدَ مَنْ أَوْدَعَ يَدَ اللَّهِ مَا فِي يَدَيْهِ،
فَتِلْكَ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَتَوْفِيقُهُ الَّذِي مَا كُلُّ مَنْ طَلَبَهُ
وَصَلَ إِلَيْهِ، وَسَوَادُ الْعَجَاجِ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِفِ بَيَاضُ مَا
سَوَّدَتْهُ الذُّنُوبُ مِنَ الصَّحَائِفِ، فَمَا أَسْعَدَ تِلْكَ الْوَقَعَاتِ،
وَمَا أَعْوَدَ بِالطُّمَأْنِينَةِ تِلْكَ الرَّجَفَاتِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ
أَيْضًا: أَدَامَ اللَّهُ ذَلِكَ الِاسْمَ تَاجًا عَلَى مَفَارِقِ الْمَنَابِرِ
وَالطُّرُوسِ، وَحَيَّاةً لِلدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَجْسَادِ
وَالنُّفُوسِ، وَعَرَّفَ الْمَمْلُوكَ مَا عَرَفَهُ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي
اقْتَضَتْهُ الْمُشَاهَدَةُ، وَجَرَتْ بِهِ الْعَاقِبَةُ فِي سُرُورٍ، وَلَا
مَزِيدَ عَلَى تَشْبِيهِ الْحَالِ بِقَوْلِهِ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَرَءَ تَدْوَى يَمِينُهُ فَيَقْطَعُهَا عَمْدًا لِيَسْلَمَ
سَائِرُهْ
وَلَوْ كَانَ فِيهَا تَدْبِيرٌ لَكَانَ مَوْلَانَا سَبَقَ إِلَيْهِ، وَمَنْ قَلَمَ
مِنَ الْأُصْبَعِ ظُفْرًا فَقَدْ جَلَبَ إِلَى الْجَسَدِ بِفِعْلِهِ نَفْعًا،
وَدَفَعَ عَنْهُ ضَرَرًا.
وَتَجَشُّمُ الْمَكْرُوهِ لَيْسَ بِضَائِرٍ مَا خِلْتَهُ سَبَبًا إِلَى
الْمَحْمُودِ
وَآخِرُ كُلِّ شِقْوَةٍ أَوَّلُ كُلِّ غَزْوَةٍ، فَلَا يَسْأَمْ مَوْلَانَا
نِيَّةَ الرِّبَاطِ وَفِعْلَهَا، وَتَجَشُّمَ الْكُلَفِ وَحَمْلَهَا، فَهُوَ إِذَا
صَرَفَ وَجْهَهُ إِلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ وَجْهُ اللَّهِ، صَرَفَ اللَّهُ
إِلَيْهِ الْوُجُوهَ كُلَّهَا وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْهُدْنَةِ الَّتِي كَانَ عَقَدَهَا
الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ
لِلْفِرِنْجِ فَأَقْبَلُوا
بِقَضِّهِمْ، وِقَضِيضِهِمْ فَتَلَقَّاهُمُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ بِمَرْجِ عَكَّا
فَكَسَرَهُمْ وَغَنِمَهُمْ وَفَتَحَ يَافَا عَنْوَةً؛ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ كَانُوا كَتَبُوا إِلَى مَلِكِ الْأَلْمَانِ يَسْتَنْهِضُونَهُ لِفَتْحِ
بَيْتِ الْمَقَدْسِ فَقَدَّرَ اللَّهُ هَلَاكَهُ سَرِيعًا، وَأَخَذَتِ الْفِرِنْجُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَيْرُوتَ مِنْ نَائِبِهَا عِزِّ الدِّينِ شَامَةَ مِنْ
غَيْرِ قِتَالٍ وَلَا نِزَالٍ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي
الْأَمِيرِ شَامَةَ:
سَلِّمِ الْحِصْنَ مَا عَلَيْكَ مَلَامَهْ مَا يُلَامُ الَّذِي يَرُومُ
السَّلَامَهْ
فَعَطَاءُ الْحُصُونِ مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ سُنَّةٌ سَنَّهَا بِبَيْرُوتَ شَامَهْ
وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلِكُ الْفِرِنْجِ كُنْدَهِرِيٌّ ; سَقَطَ مِنْ
شَاهِقٍ فَمَاتَ، فَبَقِيَتِ الْفِرِنْجُ كَالْغَنَمِ بِلَا رَاعٍ، حَتَّى
مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ صَاحِبَ قُبْرُسَ وَزَوَّجُوهُ بِالْمَلِكَةِ امْرَأَةِ
كُنْدَهِرِيٍّ، وَجَرَتْ خُطُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَادِلِ أَبِي
بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، فَفِي كُلِّهَا يَسْتَظْهِرُ عَلَيْهِمْ وَيَكْسِرَهُمْ،
وَيَقْتُلُ خَلْقًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ؛ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَلَمْ يَزَالُوا
كَذَلِكَ مَعَهُ حَتَّى طَلَبُوا الصُّلْحَ وَالْمُهَادَنَةَ، فَعَاقَدَهُمْ عَلَى
ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ مَلِكُ الْيَمَنِ سَيْفُ الْإِسْلَامِ
طُغْتِكِينُ
أَخُو السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَكَانَ قَدْ جَمَعَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً
جِدًّا، وَكَانَ يَسْبِكُ الذَّهَبَ مِثْلَ الطَّوَاحِينِ وَيَدَّخِرُهُ كَذَلِكَ،
وَقَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ، وَكَانَ أَهْوَجَ قَلِيلَ
التَّدْبِيرِ، فَحَمَلَهُ جَهْلُهُ عَلَى أَنِ ادَّعَى أَنَّهُ قُرَشِيٌّ
أُمَوِيٌّ، وَتَلَقَّبَ بِالْهَادِي،
فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَمُّهُ
الْعَادِلُ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَيَتَهَدَّدُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَلَمْ
يَقْبَلْ مِنْهُ وَلَا الْتَفَتَ إِلَيْهِ، بَلْ تَمَادَى وَأَسَاءَ التَّدْبِيرَ
إِلَى الْأُمَرَاءِ وَالرَّعِيَّةِ، فَقُتِلَ وَتَوَلَّى بَعْدَهُ مَمْلُوكٌ مِنْ
مَمَالِيكِ أَبِيهِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ: الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ أَبُو الْهَيْجَاءِ السَّمِينُ
الْكُرْدِيُّ، كَانَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ
الدِّينِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ نَائِبًا عَلَى عَكَّا وَخَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ
أَخْذِ الْفِرِنْجِ، ثُمَّ دَخَلَهَا بَعْدَ الْمَشْطُوبِ فَأُخِذَتْ مِنْهُ،
وَاسْتَنَابَهُ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى الْقُدْسِ ثُمَّ لَمَّا أَخَذَهَا
الْعَزِيزُ عُزِلَ عَنْهَا، فَطُلِبَ إِلَى بَغْدَادَ فَأُكْرِمَ إِكْرَامًا
زَائِدًا، وَأَرْسَلَهُ الْخَلِيفَةُ مُقَدَّمًا عَلَى الْعَسَاكِرِ إِلَى
هَمَذَانَ فَمَاتَ هُنَاكَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ: قَاضِي قُضَاةِ بَغْدَادَ أَبُو طَالِبٍ عَلِيُّ بْنُ عَلِيِّ
بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْبُخَارِيِّ
سَمِعَ الْحَدِيثَ عَلَى أَبِي الْوَقْتِ وَغَيْرِهِ، وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي
الْقَاسِمِ بْنِ فَضْلَانَ، وَتَوَلَّى نِيَابَةَ الْحُكْمِ بِبَغْدَادَ، ثُمَّ
اشْتَغَلَ بِالْمَنْصِبِ، وَأُضِيفَ إِلَيْهِ فِي وَقْتِ نِيَابَةِ الْوِزَارَةِ،
ثُمَّ عُزِلَ عَنِ الْقَضَاءِ، ثُمَّ أُعِيدَ وَمَاتَ وَهُوَ حَاكِمٌ، نَسْأَلُ
اللَّهَ الْعَافِيَةَ، وَكَانَ فَاضِلًا بَارِعًا مِنْ بَيْتِ فِقْهٍ وَعَدَالَةٍ،
وَلَهُ شِعْرٌ:
تَنَحَّ عَنِ الْقَبِيحِ وَلَا تُرِدْهُ وَمَنْ أَوْلَيْتَهُ حَسَنًا فَزِدْهُ
سَتُكْفَى مِنْ عَدُوِّكَ كُلَّ كَيْدٍ
إِذَا كَادَ الْعَدُوُّ وَلَمْ تَكِدْهُ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ: السَّيِّدُ الشَّرِيفُ نَقِيبُ الطَّالِبِيِّينَ بِبَغْدَادَ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ حَمْزَةَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْعَلَوِيُّ الْحُسَيْنِيُّ، الْمَعْرُوفُ
بِابْنِ الْأَقْسَاسِيِّ، الْكُوفِيُّ مَوْلِدًا وَمَنْشَأً، كَانَ شَاعِرًا
مُطَبِّقًا، امْتَدَحَ الْخُلَفَاءَ وَالْوُزَرَاءَ، وَهُوَ مِنْ بَيْتٍ مَشْهُورٍ
بِالْأَدَبِ وَالرِّيَاسَةِ وَالْمُرُوءَةِ، قَدِمَ بَغْدَادَ فَامْتَدَحَ
الْمُقْتَفِيَ وَالْمُسْتَنْجِدَ وَابْنَهُ الْمُسْتَضِيءَ وَابْنَهُ النَّاصِرَ
فَوَلَّاهُ النِّقَابَةَ كَانَ شَيْخًا مَهِيبًا، جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، وَقَدْ
أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ السَّاعِي قَصَائِدَ كَثِيرَةً مِنْهَا:
اصْبِرْ عَلَى كَيْدِ الزَّمَا نِ فَمَا يَدُومُ عَلَى طَرِيقَهْ
سَبَقَ الْقَضَاءُ فَكُنْ بِهِ رَاضٍ وَلَا تَطْلُبْ حَقِيقَهْ
كَمْ قَدْ تَغَلَّبَ مَرَّةً وَأَرَاكَ مِنْ سَعَةٍ وَضِيقَهْ
مَا زَالَ فِي أَوْلَادِهِ يَجْرِي عَلَى هَذِي الطَّرِيقَهْ
وَفِيهَا تُوُفِّيَتِ السِّتُّ عَذْرَاءُ بِنْتُ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ
وَدُفِنَتْ بِمَدْرَسَتِهَا دَاخِلَ بَابِ النَّصْرِ.
وَالسِّتُّ خَاتُّونُ وَالِدَةُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ، وَدُفِنَتْ بِدَارِهَا
بِدِمَشْقَ الْمُجَاوِرَةِ لِدَارِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا جَمَعَتِ الْفِرِنْجُ جُمُوعَهَا وَأَقْبَلُوا فَحَاصَرُوا تِبْنِينَ،
فَاسْتَدْعَى الْعَادِلُ بَنِي أَخِيهِ لِقِتَالِهِمْ، فَجَاءَهُ الْعَزِيزُ مِنْ
مِصْرَ وَالْأَفْضَلُ مِنْ صَرْخَدَ فَأَقْلَعَتِ الْفِرِنْجُ عَنِ الْحِصْنِ
وَبَلَغَهُمْ مَوْتُ مَلِكِ الْأَلْمَانِ، فَطَلَبُوا مِنَ الْعَادِلِ الْهُدْنَةَ
وَالْأَمَانَ، فَهَادَنَهُمْ وَرَجَعَتِ الْمُلُوكُ إِلَى أَمَاكِنِهَا، وَقَدْ
عَظُمَ الْمُعَظَّمُ عِيسَى بْنُ الْعَادِلِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَاسْتَنَابَهُ
أَبُوهُ عَلَى دِمَشْقَ وَسَارَ إِلَى مُلْكِهِ بِالْجَزِيرَةِ فَأَحْسَنَ فِيهِمُ
السِّيرَةَ.
وَكَانَ قَدْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ السُّلْطَانُ صَاحِبُ سِنْجَارَ
وَغَيْرِهَا مِنِ الْمَدَائِنِ الْكِبَارِ، وَهُوَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِيُّ
بْنُ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ الْأَتَابِكِيُّ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ
وَأَحْسَنِهِمْ شَكْلًا وَسِيرَةً، وَأَجْوَدِهِمْ طَوِيَّةً وَسَرِيرَةً، غَيْرَ
أَنَّهُ كَانَ يُبْخَّلُ، وَكَانَ شَدِيدَ الْمَحَبَّةِ لِلْعُلَمَاءِ، وَلَا
سِيَّمَا الْحَنَفِيَّةَ، وِقَدِ ابْتَنَى لَهُمْ مَدْرَسَةً بِسِنْجَارَ،
وَشَرَطَ لَهُمْ طَعَامًا يُطْبَخُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ،
وَهَذَا نَظَرٌ حَسَنٌ، وَالْفَقِيهُ أَوْلَى بِهَذِهِ الْحَسَنَةِ مِنَ
الْفَقِيرِ ; لِاشْتِغَالِ الْفَقِيهِ بِتَكْرَارِهِ وَمُطَالَعَتِهِ عَنِ
الْفِكْرِ فِيمَا يُقِيتُهُ، فَعَدَا عَلَى أَوْلَادِهِ ابْنُ عَمِّهِ صَاحِبُ
الْمَوْصِلِ فَأَخَذَ الْمُلْكَ مِنْهُمْ، فَاسْتَغَاثَ
بَنُوهُ بِالْمَلِكِ
الْعَادِلِ، فَرَدَّ فِيهِمُ الْمُلْكَ وَدَرَأَ عَنْهُمُ الضَّيْمَ،
وَاسْتَقَرَّتِ الْمَمَلَكَةُ لِوَلَدِهِ قُطْبِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ سَارَ
الْعَادِلُ إِلَى مَارِدِينَ فَحَاصَرَهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَاسْتَوْلَى
عَلَى رَبَضِهَا وَمُعَامَلَتِهَا، وَأَعْجَزَتْهُ قَلْعَتُهَا فَصَافَ عَلَيْهَا
وَشَتَا، وَمَا ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ تَمَلَّكَهَا ; حَتَّى هَنَّتْهُ
الشُّعَرَاءُ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَثْبُوتًا وَلَا مُقَدَّرًا.
وَفِيهَا مَلَكَتِ الْغُورُ مَدِينَةَ بَلْخَ وَكَسَرُوا الْخِطَا وَقَهَرُوهُمْ
وَهَزَمُوهُمْ وَتَوَقَّعُوا بِإِرْسَالِ الْخَلِيفَةِ إِلَيْهِمْ أَنْ يَمْنَعُوا
خُوَارِزْمَ شَاهْ مِنْ دُخُولِ الْعِرَاقِ فَإِنَّهُ كَانَ يَرُومُ أَنْ يُخْطَبَ
لَهُ بِبَغْدَادَ.
وَفِيهَا حَاصَرَ خُوَارِزْمُ شَاهْ مَدِينَةَ بُخَارَا فَفَتَحَهَا بَعْدَ
مُدَّةٍ، وَقَدْ كَانَتِ امْتَنَعَتْ عَلَيْهِ دَهْرًا وَنَصَرَهُمُ الْخِطَا
فَقَهَرَهُمْ جَمِيعًا وَأَخَذَهَا عَنْوَةً، وَعَفَا عَنْ أَهْلِهَا وَصَفَحَ
عَنْهُمْ، وَقَدْ كَانُوا أَلْبَسُوا كَلْبًا أَعْوَرَ قَبَاءً وَسَمَّوْهُ
خُوَارِزْمَ شَاهْ، وَرَمَوْهُ فِي الْمَنْجَنِيقِ إِلَى الْخُوَارِزْمِيَّةِ،
وَقَالُوا: هَذَا مَلِكُكُمْ. وَكَانَ خُوَارِزْمُ شَاهْ أَعْوَرَ، فَلَمَّا
قَدِرَ عَلَيْهِمْ عَفَا عَنْهُمْ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنِ الْأَعْيَانِ:
الْقِوَامُ بْنُ زَبَادَةَ كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ بِبَابِ الْخِلَافَةِ، وَهُوَ
أَبُو طَالِبٍ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
زَبَادَةَ، قِوَامُ الدِّينِ، انْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ التَّرَسُّلِ
وَالْإِنْشَاءِ وَالْبَلَاغَةِ
وَالْفَصَاحَةِ فِي زَمَانِهِ بِالْعِرَاقِ، وَلَهُ عُلُومٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ
ذَلِكَ مِنَ الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَخَذَهُ عَنِ ابْنِ
فَضْلَانَ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْأَصْلَيْنِ وَالْحِسَابِ وَاللُّغَةِ
وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، وَقَدْ وَلِيَ عِدَّةَ مَنَاصِبَ، كَانَ مَشْكُورًا فِي
جَمِيعِهَا، وَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
لَا تَحْقِرَنَّ عَدُوًّا تَزْدَرِيهِ فَكَمْ قَدْ أَتْعَسَ الدَّهْرُ جَدَّ
الْجِدِّ بِاللَّعِبِ فَهَذِهِ الشَّمْسُ يَعْرُوهَا الْكُسُوفُ لَهَا
عَلَى جَلَالَتِهَا بِالرَّأْسِ وَالذَّنَبِ
وَقَوْلُهُ:
بِاضْطِرَابِ الزَّمَانِ تَرْتَفِعُ الْأَنْ ذَالُ فِيهِ حَتَّى يَعُمَّ
الْبَلَاءُ
وَكَذَا الْمَاءُ رَاكِدٌ فِإِذَا حُرِّكَ ثَارَتْ مِنْ قَعْرِهِ الْأَقْذَاءُ
وَلَهُ أَيْضًا:
قَدْ سَلَوْتُ الدُّنْيَا وَلَمْ يَسْلُهَا مَنْ عَلَقَتْ فِي آمَالِهِ
وَالْأَرَاجِي
فَإِذَا مَا صَرَفْتُ وَجْهِي عَنْهَا قَذَفُونِي فِي بَحْرِهَا الْعَجَاجِ
يَسْتَضِيئُونَ بِي وَأَهْلِكُ وَحْدِي فَكَأَنِّي ذُبَالَةٌ فِي سِرَاجِ
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَلَهُ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ
سَنَةً، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَدُفِنَ عِنْدَ مُوسَى بْنِ
جَعْفَرٍ.
الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ جَابِرِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ عَلِيٍّ
الْبَطَائِحِيُّ.
قَدِمَ بَغْدَادَ
فَتَفَقَّهَ بِهَا
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَأَقَامَ بِرَحْبَةِ مَالِكِ بْنِ طَوْقٍ مُدَّةً
يَشْتَغِلُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النَّبِيهِ الْفَرَضِيِّ ثُمَّ وَلِيَ
قَضَاءَ الْعِرَاقِ مُدَّةً، وَكَانَ أَدِيبًا، وَقَدْ سَمِعَ مِنْ شَيْخِهِ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النَّبِيهِ يُنْشِدُ لِنَفْسِهِ مُعَارِضًا لِلْحَرِيرِيِّ
فِي بَيْتَيْهِ اللَّذَيْنِ زَعَمَ أَنَّهُمَا لَا يُعَزَّزَانِ بِثَالِثٍ
لَهُمَا، وَهُمَا قَوْلُهُ:
سِمْ سِمَةً يُحْمَدُ آثَارُهَا وَاشْكُرْ لِمَنْ أَعْطَى وَلَوْ سِمْسِمَهْ
وَالْمَكْرُ مَهْمَا اسْتَطَعْتَ لَا تَأْتَهِ لِتَقْتَنِيَ السُّؤْدُدَ
وَالْمَكْرُمَهْ
فَقَالَ ابْنُ النَّبِيهِ:
مَا الْأَمَةُ الْوَكْعَاءُ بَيْنَ الْوَرَى أَحْسَنُ مِنْ حُرٍّ أَتَى مَلَأَمَهْ
فَمَهْ إِذَا اسْتُجْدِيتَ عَنْ قَوْلِ لَا فَالْحُرُّ لَا يَمْلَأُ مِنْهَا
فَمَهْ
الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ جُرْدَيْكُ
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ فِي زَمَانِ نُورِ الدِّينِ، وَكَانَ مِمَّنْ
شَرِكَ فِي قَتْلِ شَاوِرٍ، وَحَظِيَ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ، وِقَدِ
اسْتَنَابَهُ عَلَى الْقُدْسِ حِينَ افْتَتَحَهَا، وَكَانَ يَسْتَنْدِبُهُ
لِلْمُهِمَّاتِ الْكِبَارِ فَيَسُدُّهَا بِنَهْضَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ، وَلَمَّا
وَلِيَ الْأَفْضَلُ عَزَلَهُ عَنْ بَيْتِ الْمَقَدْسِ، فَتَرَكَ بِلَادَ الشَّامِ
وَانْتَقَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمَلَكِ الْعَزِيزِ صَاحِبِ مِصْرَ
وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الصَّيْدِ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ
الْعِشْرِينَ مِنِ الْمُحَرَّمِ، سَاقَ خَلْفَ ذِئْبٍ، فَكَبَا بِهِ الْفَرَسُ
فَسَقَطَ عَنْهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ أَيَّامٍ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى
الْبَلَدِ، فَنُقِلَ وَدُفِنَ بِدَارِهِ، ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى عِنْدِ تُرْبَةِ
الشَّافِعِيِّ، وَلَهُ سَبْعٌ أَوْ ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ قَدْ عَزَمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى إِخْرَاجِ
الْحَنَابِلَةِ مِنْ بَلَدِهِ، وَيَكْتُبُ إِلَى بَقِيَّةِ إِخْوَتِهِ أَنْ
يُخْرِجُوهُمْ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَشَاعَ ذَلِكَ عَنْهُ وَسُمِعَ مِنْهُ وَذَاعَ
وَصُرِّحَ بِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ مُعَلِّمِيهِ وَخُلَطَائِهِ وَعُشَرَائِهِ
مِنَ الْجَهْمِيَّةِ، وَقِلَّةِ عِلْمِهِ بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، فَلَمَّا
وَقَعَ مَا وَقَعَ عَظُمَ قَدْرُ الْحَنَابِلَةِ بِدِيَارِ مِصْرَ وَالشَّامِ
عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ. وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَ صَالِحِيهِمْ دَعَا
عَلَيْهِ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ خَرَجَ إِلَى الصَّيْدِ، فَكَانَ هَلَاكُهُ سَرِيعًا،
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكُتَبَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ كِتَابَ التَّعْزِيَةِ بِالْعَزِيزِ إِلَى عَمِّهِ
الْمَلِكِ الْعَادِلِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مُحَاصَرَةِ مَارِدِينَ وَمَعَهُ
الْعَسَاكِرُ، وَوَلَدُهُ مُحَمَّدٌ الْكَامِلُ، وَهُوَ نَائِبُهُ عَلَى بِلَادِ
الْجَزِيرَةِ الْمُقَارِبَةِ لِبِلَادِ الْحِيرَةِ، وَصُورَةُ الْكِتَابِ: أَدَامَ
اللَّهُ سُلْطَانَ مَوْلَانَا الْمَلِكِ
الْعَادِلِ، وَبَارَكَ فِي
عُمْرِهِ وَأَعْلَا أَمْرَهُ بِأَمْرِهِ، وَأَعَزَّ نَصْرَ الْإِسْلَامِ
بِنَصْرِهِ، وَفَدَتِ الْأَنْفُسُ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ، وَأَصْغَرَ اللَّهُ
الْعَظَائِمَ بِنِعَمِهِ فِيهِ الْعَظِيمَةِ، وَأَحْيَاهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
يَقِفُ فِيهَا هُوَ وَالْإِسْلَامُ فِي مَوَاقِفِ الْفُتُوحِ الْجَسِيمَةِ،
وَيَنْقَلِبُ عَنْهَا بِالْأُمُورِ الْمُسْلِمَةِ وَالْعَوَاقِبِ السَّلِيمَةِ،
وَلَا نَقَصَ لَهُ رِجَالًا وَلَا عَدَدًا، وَلَا أَعْدَمَهُ نَفْسًا وَلَا
وَلَدًا، وَلَا قَصَّرَ لَهُ ذَيْلًا وَلَا يَدًا، وَلَا أَسْخَنَ لَهُ قَلْبًا
وَلَا كَبِدًا، وَلَا كَدَّرَ لَهُ خَاطِرًا وَلَا مَوْرِدًا، وَلَمَّا قَدَّرَ
اللَّهُ مَا قَدَّرَ فِي الْمَلِكِ الْعَزِيزِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَتَحِيَّاتُهُ
مُكَرَّرَةٌ إِلَيْهِ مِنَ انْقِضَاءِ مُهْلِهِ وَحُضُورِ أَجَلِهِ، كَانَتْ
بَدِيهَةُ الْمُصَابِ عَظِيمَةً، وَطَالِعَةُ الْمَكْرُوهِ أَلِيمَةً، فَرَحِمَ
اللَّهُ ذَلِكَ الْوَجْهَ وَنَضَّرَهُ، ثُمَّ إِلَى سَبِيلِ الْجَنَّةِ يَسَّرَهُ
وَإِذَا مَحَاسِنُ أَوْجُهٍ بَلِيَتْ فَعَفَا الثَّرَى عَنْ وْجِهِهِ الْحَسَنِ
فَأَعَزِزْ عَلَى الْمَمْلُوكِ وَعَلَى الْأَوْلِيَاءِ بَلْ عَلَى قَلْبِ
مَوْلَانَا، لَا سَلَبَهُ ثِيَابَ الْعَزَاءِ، لِسُرْعَةِ مَصْرَعِهِ وَانْقِلَابِهِ
إِلَى مَضْجَعِهِ، وَلِبَاسِهِ ثَوْبَ الْبَلِي قَبْلَ أَنْ يَبْلَى ثَوْبُ
الشَّبَابِ، وَزَفَّهُ إِلَى التُّرَابِ وَسَرِيرُهُ مَحْفُوفٌ بِاللَّذَّاتِ
وَالْأَتْرَابِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ الْمَرَضِ بَعْدَ الْعُودِ مِنَ الْفَيُّومِ
أُسْبُوعَيْنِ، وَكَانَتْ فِي السَّاعَةِ السَّابِعَةِ مِنْ لَيْلَةِ الْأَحَدِ
الْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَالْمَمْلُوكُ فِي حَالِ تَسْطِيرِهَا مَجْمُوعٌ
بَيْنَ مَرَضِ قَلْبٍ وَجَسَدٍ وَوَجَعِ أَطْرَافٍ وَغَلِيلِ كَبِدٍ، وَقَدْ
فُجِعَ بِهَذَا الْمَوْلَى، وَالْعَهْدُ بِوَالِدِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - غَيْرُ
بَعِيدٍ، وَالْأَسَى عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ جَدِيدٍ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ الْعَزِيزُ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ، خَلَّفَ مِنَ الْوَلَدِ
عَشَرَةَ ذُكُورٍ، فَعَمَدَ أُمَرَاؤُهُ فَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ وَلَدَهُ
مُحَمَّدًا، وَلَقَّبُوهُ بِالْمَنْصُورِ، وَجُمْهُورُ الْأُمَرَاءِ فِي
الْبَاطِنِ مَائِلُونَ إِلَى تَمْلِيكِ الْعَادِلِ، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا
مَكَانَهُ، فَأَرْسَلُوا إِلَى الْأَفْضَلِ وَهُوَ بِصَرْخَدَ فَأَحْضَرُوهُ عَلَى
الْبَرِيدِ سَرِيعًا، فَلَمَّا حَصَلَ عِنْدَهُمْ مُنِعَ رِفْدُهُمْ، وَوَجَدُوا
الْكَلِمَةَ
مُخْتَلِفَةً عَلَيْهِ،
وَلَمْ يَتِمَّ لَهُ مَا صَارَ إِلَيْهِ، وَخَامَرَ عَلَيْهِ أَكَابِرُ
الْأُمَرَاءِ النَّاصِرِيَّةِ، وَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِ مِصْرَ فَأَقَامُوا فِي
بَيْتِ الْمَقَدْسِ وَأَرْسَلُوا يَسْتَحِثُّونَ الْجُيُوشَ الْعَادِلِيَّةِ،
فَأَقَرَّ ابْنُ أَخِيهِ عَلَى السَّلْطَنَةِ، وَنَوَّهَ بِاسْمِهِ عَلَى
السِّكَّةِ وَالْخُطْبَةِ فِي سَائِرِ مَا هُنَالِكَ مِنِ الْمَمْلَكَةِ، لَكِنِ
اسْتَفَادَ بِهَذِهِ السَّفْرَةِ أَنْ أَخَذَ جَيْشًا كَثِيفًا مِنَ
الْمِصْرِيِّينَ، وَأَقْبَلَ بِهِمْ لِيَسْتَرِدَّ دِمَشْقَ فِي غَيْبَةِ عَمِّهِ
بِمُحَاصَرَةِ مَارِدِينَ وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ أَخِيهِ صَاحِبِ حَلَبَ وَابْنِ
عَمِّهِ مَلِكِ حِمْصَ أَسَدِ الدِّينِ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهَا وَنَزَلَ
حَوَالَيْهَا، قَطَعَ أَنْهَارَهَا وَعَقَرَ أَشْجَارَهَا وَقَلَّلَ ثِمَارَهَا
وَنَزَلَ بِمُخَيَّمِهِ عَلَى مَسْجِدِ الْقَدِمِ، وَقَدْ لَحِقَهُ الْأَسَفُ
وَالنَّدَمُ، وَجَاءَ إِلَيْهِ أَخُوهُ الظَّاهِرُ وَابْنُ عَمِّهِ الْأَسَدُ
الْكَاسِرُ وَاللَّيْثُ الْكَاشِرُ وَجَيْشُ حَمَاةَ، فَكَثُرَ جَيْشُهُ وَقَوِيَ
الْأَفْضَلُ بْنُ النَّاصِرِ، وَقَدْ دَخَلَ جَيْشُهُ إِلَى الْبَلَدِ، وَنَادَوْا
بِشِعَارِهِ، فَلَمْ يُتَابِعْهُمْ مِنَ الْعَامَّةِ أَحَدٌ وَأَقْبَلَ الْعَادِلُ
مِنْ مَارِدِينَ بِعَسَاكِرِهِ، وِقَدِ الْتَفَّ عَلَيْهِ طَائِفَةُ بَنِي أَخِيهِ
وَأَمَدَّهُ كُلُّ مِصْرٍ بِأَكَابِرِهِ، وَسَبَقَ الْأَفْضَلُ إِلَى دِمَشْقَ
بِيَوْمَيْنِ فَحَصَّنَهَا وَحَفِظَهَا مِنْ كُلِّ حَاسِدٍ وَذِي عَيْنَيْنِ،
وِقَدِ اسْتَنَابَ عَلَى مَارِدِينَ وَلَدَهُ مُحَمَّدًا الْكَامِلَ رَئِيسَ
السَّلَاطِينِ.
وَلَمَّا دَخَلَ دِمَشْقَ خَامَرَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْأُمَرَاءِ مِنَ
الْمِصْرِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ وَضَعُفَ أَمْرُ الْأَفْضَلِ وَيَئِسَ مِنْ
بِرِّهِمْ وَخَيْرِهِمْ، فَأَقَامَ مُحَاصِرًا الْبَلَدَ بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى
انْسَلَخَ الْحَوْلُ وَهُوَ كَذَلِكَ، ثُمَّ انْفَصَلَ الْحَالُ فِي أَوَّلِ
السَّنَةِ الْآتِيَةِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَفِيهَا شَرَعَ فِي بِنَاءِ سُورِ بَغْدَادَ بِالْآجُرِّ وَالْكِلْسِ، وَفَرَّقَ
عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَكَمَلَتْ عِمَارَتُهُ بَعْدَ هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَمِنَتْ
بَغْدَادُ مِنَ الْغَرَقِ وَالْحِصَارِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا سُورٌ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ
تُوُفِّيَ
السُّلْطَانُ الْكَبِيرُ أَبُو مُحَمَّدٍ يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ
الْمُؤْمِنِ
، صَاحِبُ الْمَغْرِبِ وَالْأَنْدَلُسِ بِمَدِينَتِهِ سَلَا، وَكَانَ قَدِ
ابْتَنَى عِنْدَهَا مَدِينَةً مَلِيحَةً سَمَّاهَا الْمَهْدِيَّةَ، وَقَدْ كَانَ
دَيِّنًا حَسَنَ السِّيرَةِ، صَحِيحَ السَّرِيرَةِ، وَكَانَ مَالِكِيَّ
الْمَذْهَبِ، ثُمَّ صَارَ ظَاهِرِيًّا حَزْمِيًّا، ثُمَّ مَالَ إِلَى مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَقْضَى فِي بَعْضِ بِلَادِهِ مِنْهُمْ قُضَاةً، وَكَانَتْ
مُدَّةُ مُلْكِهِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ كَثِيرَ الْجِهَادِ؛ رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَكَانَ يَؤُمُّ النَّاسَ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَكَانَ قَرِيبًا
إِلَى الْمَرْأَةِ وَالضَّعِيفِ، وَهُوَ الَّذِي كَتَبَ إِلَيْهِ صَلَاحُ الدِّينِ
يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى الْفِرِنْجِ، فَلَمَّا لَمْ يُخَاطِبْهُ بِأَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ غَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ،
وَقَامَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ، فَسَارَ كَسِيرَةِ وَالِدِهِ، وَرَجَعَ
إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْبُلْدَانِ اللَّاتِي كَانَتْ قَدْ عَصَتْ عَلَى أَبِيهِ،
ثُمَّ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ تَفَرَّقَتْ بِهِمُ الْأَهْوَاءُ، وَبَادَ هَذَا
الْبَيْتُ بَعْدَ الْمَلِكِ يَعْقُوبَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ادَّعَى رَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ بِدِمَشْقَ أَنَّهُ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ، فَأَمَرَ الْأَمِيرُ صَارِمُ الدِّينِ بُزْغُشُ نَائِبُ
الْقَلْعَةِ، بِصَلْبِهِ فَصُلِبَ عِنْدَ حَمَّامِ الْعِمَادِ الْكَاتِبِ، خَارِجَ
بَابِ الْفَرَجِ مُقَابِلَ الطَّاحُونِ الَّتِي بَيْنَ الْبَابَيْنِ، وَقَدْ بَادَ
هَذَا الْحَمَّامُ قَدِيمًا، وَبَعْدَ صَلْبِهِ بِيَوْمَيْنِ ثَارَتِ الْعَامَّةُ
عَلَى الرَّوَافِضِ وَعَمَدُوا إِلَى قَبْرِ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِبَابِ الصَّغِيرِ
يُقَالُ لَهُ: وَثَّابٌ. فَنَبَشُوهُ وَصَلَبُوهُ مَعَ كَلْبَيْنِ، وَذَلِكَ فِي
رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ
وَقَعَتْ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ بِبِلَادِ خُرَاسَانَ وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ فَخْرَ
الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ عُمَرَ الرَّازِيَّ أُسْتَاذَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي
زَمَانِهِ وَفَدَ إِلَى الْمَلِكِ غِيَاثِ الدِّينِ الْغُورِيِّ صَاحِبِ غَزْنَةَ،
فَأَكْرَمَهُ وَبَنَى لَهُ مَدْرَسَةً بِهَرَاةَ، وَكَانَ أَكْثَرُ الْغُورِيَّةِ
كَرَّامِيَّةً ; فَأَبْغَضُوا الرَّازِيَّ وَأَحَبُّوا إِبْعَادَهُ عَنِ
الْمَلِكِ، فَجَمَعُوا لَهُ جَمَاعَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ
وَالْكَرَّامِيَّةِ، وَخَلْقًا مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَحَضَرَ ابْنُ الْقَدْوَةِ،
وَكَانَ شَيْخًا مُعَظَّمًا فِي النَّاسِ، وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ كِرَامٍ
وَابْنِ الْهَيْصَمِ، فَتَنَاظَرَ هُوَ وَالرَّازِيُّ، وَخَرَجَا مِنَ
الْمُنَاظَرَةِ إِلَى السَّبِّ وَالشَّتْمِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ
اجْتَمَعَ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَقَامَ وَاعِظٌ فَتَكَلَّمَ،
فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا لَا نَقُولُ إِلَّا مَا صَحَّ
عِنْدَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا
عِلْمُ أَرِسْطَاطَالِيسَ وَكُفْرِيَّاتُ ابْنِ سِينَا وَفَلْسَفَةُ
الْفَارَابِيِّ، فَلَا نَعْلَمُهَا، وَلِأَيِّ حَالٍ يُشْتَمُ بِالْأَمْسِ شَيْخٌ
مِنْ شُيُوخِ الْإِسْلَامِ، يَذُبُّ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ.
قَالَ: فَبَكَى النَّاسُ وَضَجُّوا، وَبَكَتِ الْكَرَّامِيَّةُ وَاسْتَغَاثُوا،
وَأَعَانَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ خَوَاصِّ النَّاسِ، وَأَنْهَوْا إِلَى
الْمَلِكِ صُورَةَ مَا وَقَعَ، فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِ الرَّازِيِّ مِنْ بِلَادِهِ،
وَعَادَ إِلَى هَرَاةَ ; فَلِهَذَا أُشْرِبَ قَلْبُ الرَّازِيِّ بُغْضَ
الْكَرَّامِيَّةِ، وَصَارَ يَلْهَجُ بِهِمْ فِي كَلَامِهِ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ،
وَكُلَّمَا هَبَّتِ الصَّبَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ الرِّضَا عَنِ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ أَبِي
الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ، شَيْخِ الْوُعَّاظِ فِي زَمَانِهِ وَبَعْدِهِ،
وَقَدْ كَانَ أُخْرِجُ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى وَاسِطٍ فَأَقَامَ بِهَا خَمْسَ
سِنِينَ فَانْتَفَعَ بِهِ أَهْلُهَا وَاشْتَغَلُوا عَلَيْهِ وَاسْتَفَادُوا
مِنْهُ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى بَغْدَادَ خَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ وَأَذِنَ
لَهُ فِي الْجُلُوسِ عَلَى عَادَتِهِ عِنْدَ التُّرْبَةِ الشَّرِيفَةِ
الْمُجَاوِرَةِ لِقَبْرِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ، فَكَثُرَ الْجَمْعُ جِدًّا،
وَحَضَرَ الْخَلِيفَةُ، وَأَخَذَ فِي الْعِتَابِ، وَأَنْشَدَ يَوْمَئِذٍ فِيمَا
يُخَاطِبُ بِهِ الْخَلِيفَةَ:
لَا تُعْطِشِ الرَّوْضَ الَّذِي نَبْتُهُ بِصَوْبِ إِنْعَامِكَ قَدْ رُوِّضَا
لَا تَبْرِ عُودًا أَنْتَ
قَدْ رِشْتَهُ حَاشَا لِبَانِي الْمَجْدِ أَنْ يَنْقُضَا
إِنْ كَانَ لِي ذَنْبٌ وَلَمْ آتِهِ فَاسْتَأْنِفِ الْعَفْوَ وَهَبْ لِي الرِّضَا
قَدْ كُنْتُ أَرْجُوكَ لِنَيْلِ الْمُنَى فَالْيَوْمَ لَا أَطْلُبُ إِلَّا الرِّضَا
وَمِمَّا أَنْشَدُهُ يَوْمَئِذٍ:
شَقِينَا بِالنَّوَى زَمَنًا فَلَمَّا تَلَاقَيْنَا كَأَنَّا مَا شَقِينَا
سَخِطْنَا عِنْدَمَا جَنَتِ اللَّيَالِي وَمَا زَالَتْ بِنَا حَتَّى رَضِينَا
وَمَنْ لَمْ يَحْيَ بَعْدَ الْمَوْتِ يَوْمًا فَإِنَّا بَعْدَ مَا مِتْنَا حَيِينَا
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَدْعَى الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ قَاضِيَ الْمَوْصِلِ
ضِيَاءَ الدِّينِ بْنِ الشَّهْرُزُورِيِّ، فَوَلَّاهُ قَضَاءَ قُضَاةِ بَغْدَادَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِدِمَشْقَ بِسَبَبِ الْحَافِظِ عَبْدِ
الْغَنِيِّ الْمَقْدَسِيِّ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي مَقْصُورَةِ
الْحَنَابِلَةِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، فَذَكَرَ يَوْمًا شَيْئًا مِنَ
الْعَقَائِدِ فَاجْتَمَعَ الْقَاضِيمُحْيِي الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ وَضِيَاءُ
الدِّينِ الْخَطِيبُ الدَّوْلَعِيُّ بِالسُّلْطَانِ الْمُعَظَّمِ وَالْأَمِيرُ
صَارِمُ الدِّينِ بُزْغُشُ، فَعُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ
بِمَسْأَلَةِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَالنُّزُولِ وَالْحَرْفِ
وَالصَّوْتِ، فَوَافَقَ النَّجْمُ الْحَنْبَلِيُّ بَقِيَّةَ الْفُقَهَاءِ
وَاسْتَمَرَّ الْحَافِظُ عَلَى مَا يَقُولُهُ لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ وَاجْتَمَعَ
بَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ عَلَيْهِ وَأَلْزَمُوهُ بِإِلْزَامَاتٍ شَنِيعَةٍ لَمْ
يَلْتَزِمْهَا، حَتَّى قَالَ لَهُ الْأَمِيرُ بُزْغُشُ: كُلُّ هَؤُلَاءِ عَلَى
الضَّلَالَةِ وَأَنْتَ وَحْدَكَ عَلَى الْحَقِّ ؟ ! قَالَ: نَعَمْ. فَغَضِبَ
الْأَمِيرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِنَفْيِهِ مِنَ الْبَلَدِ، فَاسْتَنْظَرَهُ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَأَنْظَرَهُ، وَأَرْسَلَ بُزْغُشُ الْأُسَارَى مِنَ
الْقَلْعَةِ
، فَكَسَرُوا مِنْبَرَ
الْحَافِظِ، وَتَعَطَّلَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ يَوْمَئِذٍ فِي مِحْرَابِ
الْحَنَابِلَةِ، وَأُخْرِجَتِ الْخَزَائِنُ وَالصَّنَادِيقُ الَّتِي كَانَتْ
هُنَاكَ، وَجَرَتْ خَبْطَةٌ شَدِيدَةٌ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ، مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَكَانَ عَقْدُ الْمَجْلِسِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَارْتَحَلَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ
إِلَى بَعْلَبَكَّ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَآوَاهُ
الْمُحَدِّثُونَ، فَحَنُّوا عَلَيْهِ وَأَكْرَمُوهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنِ الْأَعْيَانِ:
الْأَمِيرُ مُجَاهِدُ الدِّينِ قَايْمَازُ الرُّومِيُّ
نَائِبُ الْمَوْصِلِ وَالْمُسْتَوْلِي عَلَى مَمْلَكَتِهَا أَيَّامَ ابْنِ
أُسْتَاذِهِ نُورِ الدِّينِ أَرَسْلَانَ، وَكَانَ عَاقِلًا ذَكِيًّا فَقِيهًا
حَنَفِيًّا، وَقِيلَ: شَافِعِيًّا. يَحْفَظُ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ التَّوَارِيخِ
وَالْحِكَايَاتِ، وِقَدِ ابْتَنَى عِدَّةَ جَوَامِعَ وَمَدَارِسَ وَرُبُطٍ
وَخَانَاتٍ، وَلَهُ صَدَقَاتٌ كَثِيرَةٌ دَارَّةٌ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَقَدْ
كَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الدُّنْيَا.
أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعَبَّاسِيُّ الْهَاشِمِيُّ
، قَاضِي الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ، بَعْدَ ابْنِ النَّجَّارِيِّ، كَانَ
شَافِعِيًّا، تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِّ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ
وَلِيَ الْقَضَاءَ وَالْخَطَابَةَ بِمَكَّةَ، وَأَصْلُهُ مِنْهَا، وَلَكِنِ
ارْتَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ فَنَالَ مِنْهَا مَا نَالَ مِنَ الدُّنْيَا، وَآلَ بِهِ
الْأَمْرُ إِلَى مَا آلَ، ثُمَّ إِنَّهُ عُزِلَ
عَنِ الْقَضَاءِ بِسَبَبِ
مَحْضَرٍ رُقِمَ خَطُّهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ فِيمَا قِيلَ مُزَوَّرًا عَلَيْهِ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَجَلَسَ فِي مَنْزِلِهِ حَتَّى مَاتَ.
الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ
يَحْيَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ بَرَكَةَ بْنِ فَضْلَانَ، شَيْخُ
الشَّافِعِيَّةِ بِبَغْدَادَ، تَفَقَّهَ أَوَّلًا عَلَى سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدِ
الرَّزَّازِ مُدَرِّسِ النِّظَامِيَّةِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى خُرَاسَانَ
فَأَخَذَ عَنِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الزَّبِيدِيِّ تِلْمِيذِ الْغَزَالِيِّ،
وَعَادَ إِلَى بَغْدَادَ وِقَدِ اقْتَبَسَ عِلْمَ الْمُنَاظَرَةِ وَالْأَصْلَيْنِ،
وَسَادَ أَهْلَ بَغْدَادَ، وَانْتَفَعَ بِهِ الطَّلَبَةُ وَالْفُقَهَاءُ،
وَبُنِيَتْ لَهُ مَدْرَسَةٌ فَدَرَّسَ بِهَا، وَبَعُدَ صِيتُهُ وَكَثُرَتْ
تَلَامِيذُهُ، وَكَانَ كَثِيرَ التِّلَاوَةِ وَإِسْمَاعِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ
شَيْخًا حَسَنًا لَطِيفًا ظَرِيفًا، وَمِنْ شِعْرِهِ:
وَإِذَا أَرَدْتَ مَنَازِلَ الْأَشْرَافِ فَعَلَيْكَ بِالْإِسْعَافِ
وَالْإِنْصَافِ وَإِذَا بَغَا بَاغٍ عَلَيْكَ فَخَلِّهِ
وَالدَّهْرَ فَهُوَ لَهُ مُكَافٍ كَافِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ، وَالْمَلِكُ الْأَفْضَلُ بِالْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ
مُحَاصِرٌ لِعَمِّهِ الْعَادِلِ بِدِمَشْقَ، وَقَدْ قَطَعَ عَنْهَا الْأَنْهَارَ
وَالْمِيرَةَ فَلَا خُبْزَ وَلَا مَاءَ إِلَّا قَلِيلًا، وَقَدْ تَطَاوَلَ
الْحَالُ، وَقَدْ خَنْدَقُوا مِنْ أَرْضِ اللَّوَانِ إِلَى يَلْدَا خَنْدَقًا ; لِئَلَّا
يَصِلَ إِلَيْهِمْ جَيْشُ دِمَشْقَ وَجَاءَ فَصْلُ الشِّتَاءِ وَكَثُرَتِ
الْأَمْطَارُ وَالْأَوْحَالُ، فَلَمَّا دَخَلَ شَهْرُ صَفَرٍ، قَدِمَ الْمَلِكُ
الْكَامِلُ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَادِلِ عَلَى أَبِيهِ بِخَلْقٍ مِنَ
التُّرْكُمَانِ، وَعَسَاكِرَ مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَالرُّهَا وَحَرَّانَ،
فَعِنْدَ ذَلِكَ انْصَرَفَتِ الْعَسَاكِرُ الْمِصْرِيَّةُ، وَتَفَرَّقُوا أَيَادِي
سَبَا، فَرَجَعَ الظَّاهِرُ إِلَى الْمَمْلَكَةِ الْحَلَبِيَّةِ، وَالْأَسَدُ
إِلَى حِمْصَ وَالْأَفْضَلُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَسَلِمَ الْعَادِلُ
مِنْ كَيْدِ الْأَعَادِي، بَعْدَمَا كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَلَدِ
وَاسْتَسْلَمَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ. وَسَارَتِ الْأُمَرَاءُ
النَّاصِرِيَّةِ خَلْفَ الْأَفْضَلِ لِيَمْنَعُوهُ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى
الْقَاهِرَةِ وَكَاتَبُوا الْعَادِلَ أَنْ يُسْرِعَ السَّيْرَ إِلَيْهِمْ
وَالْقُدُومَ عَلَيْهِمْ، فَنَهَضَ إِلَيْهِمْ سَرِيعًا سَامِعًا لِمَشُورَتِهِمْ
مُطِيعًا، فَتَحَصَّنَ الْأَفْضَلُ بِالْقَلْعَةِ مِنَ الْجَبَلِ، وِقَدِ
اعْتَرَاهُ الضَّعْفُ وَالْفَشَلُ، وَنَزَلَ الْعَادِلُ عَلَى الْبَرَكَةِ
وَاسْتَبَدَّ بِمُلْكِ مِصْرَ آمِنًا مِنَ الشَّرِكَةِ، وَنَزَلَ إِلَيْهِ ابْنُ
أَخِيهِ الْأَفْضَلُ خَاضِعًا
ذَلِيلًا بَعْدَمَا كَانَ
مَهِيبًا جَلِيلًا، فَأَقْطَعُهُ بِلَادًا مِنَ الْجَزِيرَةِ وَنَفَاهُ عَنِ
الشَّامِ لِسُوءِ السِّيرَةِ، وَدَخَلَ الْعَادِلُ إِلَى دَارِ السُّلْطَانِ
بِالْقَاهِرَةِ، وَأَعَادَ الْقَضَاءَ إِلَى صَدْرِ الدِّينِ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ دِرْبَاسٍ الْمَارَانِيِّ الْكُرْدِيِّ، وَأَبْقَى الْخُطْبَةَ وَالسِّكَّةَ
بِاسْمِ ابْنِ أَخِيهِ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْأُمُورِ،
وَاسْتَوْزَرَ الصَّاحِبَ صَفِيَّ الدِّينِ بْنَ شُكْرٍ لِصَرَامَتِهِ
وَشَهَامَتِهِ وَسِيَادَتِهِ وَدِيَانَتِهِ، وَكَتَبَ الْعَادِلُ إِلَى وَلَدِهِ
الْكَامِلِ يَسْتَدْعِيهِ مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ ; لِيُمَلِّكَهُ عَلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَيَسْتَرْعِيَهُ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ فَأَكْرَمَهُ
وَاحْتَرَمَهُ وَعَانَقَهُ وَالْتَزَمَهُ، وَأَحْضَرَ الْمَلِكُ الْفُقَهَاءَ
وَاسْتَفْتَاهُمْ فِي صِحَّةِ مَمْلَكَةِ ابْنِ أَخِيهِ الْمَنْصُورِ بْنِ
الْعَزِيزِ، وَأَنَّهُ صَغِيرٌ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، فَأَفْتَوْا بِأَنَّ
وِلَايَتَهُ لَا تَصِحُّ ; لِأَنَّهُ مُتَوَلَّى عَلَيْهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ طَلَبَ
الْأُمَرَاءَ وَدَعَاهُمْ إِلَى مُبَايَعَتِهِ فَامْتَنَعُوا، فَأَرْغَبَهُمْ
وَأَرْهَبَهُمْ، وَقَالَ فِيمَا قَالَ: قَدْ سَمِعْتُمْ مَا أَفْتَى بِهِ
الْعُلَمَاءُ وَالْأَئِمَّةُ وَالْفُقَهَاءُ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ ثُغُورَ
الْمُسْلِمِينَ لَا يَحْفَظُهَا الْأَطْفَالُ الصِّغَارُ، وَإِنَّمَا يَحْرُسُهَا
الْمُلُوكُ الْكِبَارُ، فَأَذْعَنُوا عِنْدَ ذَلِكَ وَبَايَعُوهُ، ثُمَّ مِنْ
بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ الْكَامِلِ، فَخَطَبَ الْخُطَبَاءُ بِذَلِكَ بَعْدَ
الْخَلِيفَةِ لَهُمَا، فَضُرِبَتِ السِّكَّةُ بِاسْمِهِمَا، وَاسْتَقَرَّتْ
دِمَشْقُ بِاسْمِ الْمُعَظَّمِ عِيسَى بْنِ الْعَادِلِ، وَمِصْرُ بِاسْمِ
الْكَامِلِ.
وَفِي شَوَّالٍ رَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ الْأَمِيرُ فَلَكُ الدِّينِ أَبُو مَنْصُورٍ
سُلَيْمَانُ بْنُ شَرْوَةَ بْنِ خَلْدَكَ، وَهُوَ أَخُو الْمَلِكِ الْعَادِلِ
لِأُمِّهِ، وَهُوَ وَاقِفُ الْفَلَكِيَّةِ دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ، وَبِهَا
قَبْرُهُ فَأَقَامَ بِهَا مُحْتَرَمًا مُعَظَّمًا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
وَفِيهَا وَفَى الَّتِي بَعْدَهَا كَانَ بِدِيَارِ مِصْرَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ،
فَهَلَكَ بِسَبَبِهِ الْغَنِيُّ
وَالْفَقِيرُ، وَهَرَبَ
النَّاسُ مِنْهَا نَحْوَ الشَّامِ فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا إِلَّا الْقَلِيلُ،
وَتَخَطَّفَهُمُ الْفِرِنْجُ مِنَ الطُّرُقَاتِ وَغَرُّوهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ
وَاغْتَالُوهُمْ بِالْقَلِيلِ مِنَ الْأَقْوَاتِ، وَأَمَّا بِلَادُ الْعِرَاقِ
فَإِنَّهُ كَانَ مُرْخَصًا. قَالَ ابْنُ السَّاعِي: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَاضَ
دِيكٌ بِبَغْدَادَ، فَسَأَلْتُ جَمَاعَةً عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرُونِي بِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنِ الْأَعْيَانِ:
السُّلْطَانُ عَلَاءُ الدِّينِ خُوَارِزِمُشَاهْ
تِكِشُ بْنُ أَلْبِ أَرْسَلَانَ بْنِ أَتْسِزَ مِنْ وَلَدِ طَاهِرِ بْنِ
الْحُسَيْنِ، وَهُوَ صَاحِبُ خُوَارِزْمَ وَبَعْضُ خُرَاسَانَ وَالرَّيِّ وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنَ الْأَقَالِيمِ الْمُتَّسِعَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَطَعَ دَوْلَةَ
السَّلَاجِقَةِ، كَانَ عَادِلًا حَسَنَ السِّيرَةِ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ
بِالْمُوسِيقَى، حَسَنَ الْمُعَاشَرَةِ، فَقِيهًا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَيَعْرِفُ الْأُصُولَ وَبَنَى لِلْحَنَفِيَّةِ مَدْرَسَةً عَظِيمَةً، وَدُفِنَ
بِتُرْبَةٍ بَنَاهَا بِخُوَارِزْمَ، وَقَامَ فِي الْمُلْكِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ
عَلَاءُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ، وَكَانَ يُلَقَّبُ بِقُطْبِ الدِّينِ. وَفِيهَا
قُتِلَ وَزِيرُ السُّلْطَانِ خُوَارِزْمُ شَاهْ.
نِظَامُ الدِّينِ مَسْعُودُ بْنُ عَلِيٍّ
وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ، لَهُ مَدْرَسَةٌ عَظِيمَةٌ
بِخُوَارِزْمَ، وَجَامِعٌ هَائِلٌ، وَبَنَى بِمَرْوَ جَامِعًا عَظِيمًا
لِلشَّافِعِيَّةِ،
فَحَسَدَهُمُ الْحَنَابِلَةُ، وَشَيْخُهُمْ بِهَا يُقَالُ لَهُ: شَيْخُ الْإِسْلَامِ.
فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ أَحْرَقُوهُ. وَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُرُ مِنْ قِلَّةِ
الدِّينِ وَالْعَقْلِ وَاحْتِرَامِ مَعَابِدِ الْإِسْلَامِ، فَأَغْرَمَهُمُ
السُّلْطَانُ خُوَارِزِمُشَاهْ مَا غَرِمَ الْوَزِيرُ عَلَى بِنَائِهِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ الْمُسْنِدُ الْمُعَمَّرُ رُحْلَةُ الْوَقْتِ
أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ صَدَقَةَ بْنِ
الْخَضِرِ بْنِ كُلَيْبٍ الْحَرَّانَيُّ الْأَصْلُ، الْبَغْدَادِيُّ الْمَوْلِدُ
وَالدَّارُ وَالْوَفَاةُ
، عَنْ سِتٍّ وَتِسْعِينَ سَنَةً، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَأَسْمَعَ، وَتَفَرَّدَ
بِالرِّوَايَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ
التُّجَّارِ وَذَوِي الثَّرْوَةِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْفَقِيهُ مَجْدُ الدِّينِ
أَبُو مُحَمَّدٍ طَاهِرُ بْنُ نَصْرِ بْنِ جَهْبَلٍ، مُدَرِّسُ الْقُدْسِ
الشَّرِيفِ، أَوَّلُ مَنْ دَرَّسَ بِالصَّلَاحِيَّةِ، وَهُوَ وَالِدُ الْفُقَهَاءِ
; بَنِي جَهْبَلٍ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدْرَسَةِ الْجَارُوخِيَّةِ، ثُمَّ
صَارُوا إِلَى الْعِمَادِيَّةِ وَالدَّمَاغِيَّةِ فِي أَيَّامِنَا هَذِهِ، ثُمَّ
مَاتُوا وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا شَرْحُهُمْ.
الْأَمِيرُ صَارِمُ الدِّينِ قَايْمَازُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّجْمِيُّ
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الدَّوْلَةِ
الصَّلَاحِيَّةِ كَانَ
عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ بِمَنْزِلَةِ أُسْتَادَّارٍ؛ وَهُوَ الَّذِي تَسَلَّمَ
الْقَصْرَ حِينَ مَاتَ الْعَاضِدُ، فَحَصَلَ لَهُ أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ جِدًّا،
وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ وَالْأَوْقَافِ، تَصَدَّقَ فِي يَوْمٍ بِسَبْعَةِ
آلَافِ دِينَارٍ عَيْنًا، وَهُوَ وَاقِفُ الْمَدْرَسَةِ الْقَيْمَازِيَّةِ
شَرْقِيَّ الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَقَدْ كَانَتْ دَارُ الْحَدِيثِ
الْأَشْرَفِيَّةُ دَارًا لِهَذَا الْأَمِيرِ، وَلَهُ بِهَا حَمَّامٌ، فَاشْتَرَى
ذَلِكَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ فِيمَا بَعْدُ مُوسَى بْنُ الْعَادِلِ، وَبَنَاهَا
دَارَ حَدِيثٍ، وَأَخْرَبَ الْحَمَّامَ وَبَنَاهُ مَسْكَنًا لِلشَّيْخِ الْمُدَرِّسِ
بِهَا، وَلَمَّا تُوُفِّيَ وَدُفِنَ فِي قَبْرِهِ، نُبِشَتْ دُورُهُ
وَحَوَاصِلُهُ، وَكَانَ مُتَّهَمًا بِمَالٍ جَزِيلٍ، فَكَانَ مُتَحَصَّلُ مَا
جُمِعَ مِنْ ذَلِكَ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ يُظَنُّ أَنَّ عِنْدَهُ
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ كَانَ يَدْفِنُ أَمْوَالَهُ فِي الْخَرَابِ مِنْ
أَرَاضِي ضِيَاعِهِ وَقَرَايَاهْ. فَسَامَحَهُ اللَّهُ وَبَلَّ بِالرَّحْمَةِ
ثَرَاهُ.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ لُؤْلُؤٌ
أَحَدُ الْحُجَّابِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، كَانَ مِنْ أَكَابِرِ
الْأُمَرَاءِ فِي الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَتَسَلَّمُ
الْأُسْطُولَ بِالْبَحْرِ، فَيَكُونُ كَالشَّجَا فِي حُلُوقِ الْفِرِنْجِ
وَالنَّحْرِ فِي النَّحْرِ، فَكَمْ مِنْ شُجَاعٍ قَدْ أُسِرَ، وَكَمْ مِنْ
مَرْكَبٍ قَدْ
كُسِرَ، وَكَمْ مِنْ
أُسْطُولٍ لَهُمْ قَدْ فَرَّقَ شَمْلَهُ، وَمَنْ بَطْسَةٍ وَقَارِبٍ قَدْ غَرَّقَ
أَهْلَهُ، وَقَدْ كَانَ مَعَ كَثْرَةِ جِهَادِهِ دَارَّ الصَّدَقَاتِ، كَثِيرَ
النَّفَقَاتِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَكَانَ بِدِيَارِ مِصْرَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ
فَتَصَدَّقَ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ رَغِيفٍ، لِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ فَقِيرٍ؛
فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا وَرَحْمَةً فِي قَبْرِهِ، وَبَيَّضَ وَجْهَهُ يَوْمَ
مَحْشَرِهِ وَمَنْشَرِهِ؛ آمِينَ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْفَقِيهُ الْعَلَّامَةُ شِهَابُ الدِّينِ الطُّوسِيُّ
أَحَدُ مَشَايِخِ الشَّافِعِيَّةِ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَشَيْخُ الْمَدْرَسَةِ
الْمَنْسُوبَةِ إِلَى تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ
الَّتِي يُقَالُ لَهَا: مَنَازِلُ الْعِزِّ. وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدِ بْنِ
يَحْيَى تِلْمِيذِ الْغَزَالِيِّ، كَانَ لَهُ قَدْرٌ وَمَنْزِلَةٌ عِنْدَ مُلُوكِ
مِصْرَ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، إِلَى أَنْ
تُوُفِّيَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى
جِنَازَتِهِ، وَتَأَسَّفُوا عَلَيْهِ.
الشَّيْخُ ظَهِيرُ الدِّينِ عَبْدُ السَّلَامِ الْفَارِسِيُّ
شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ بِحَلَبَ، أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى
تِلْمِيذِ الْغَزَالِيِّ، وَتَلْمَذَ لِلْفَخْرِ الرَّازِيِّ، وَرَحَلَ إِلَى
مِصْرَ فَعُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يُدَرِّسَ بِتُرْبَةِ الشَّافِعِيِّ فَلَمْ
يَقْبَلْ، فَسَارَ إِلَى حَلَبَ فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ عَسْكَرَ
رَئِيسُ الْحَنَفِيَّةِ بِدِمَشْقَ، قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَيُعْرَفُ بِابْنِ
الْعَقَّادَةِ.
الشَّاعِرُ الْمَاهِرُ
الْهُمَامُ الْعَبْدِيُّ، وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ.
عَلِيُّ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَقِيلِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
الْقَيْسِ بْنِ رَبِيعَةَ وَهُوَ بَغْدَادِيٌّ، قَدِمَ دِمَشْقَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ
وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَمَعَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ لَهُ، فِيهِ دُرَرٌ
حِسَانٌ وَفَرَائِدُ وَعَقَائِدُ وَعِقْيَانُ، وَقَدْ تَصَدَّى لِمَدْحِ الْمَلِكِ
الْأَمْجَدِ صَاحِبِ بَعْلَبَكَّ وَمَنْ قَبْلَهُ وَلَهُ:
وَمَا النَّاسُ إِلَّا كَامِلُ الْحَظِّ نَاقِصٌ وَآخَرُ مِنْهُمْ نَاقِصُ
الْحَظِّ كَامِلُ وَإِنِّي لِمُثْرٍ مِنْ حَيَاءٍ وَعِفَّةٍ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي مِنِ الْمَالِ طَائِلٌ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ: الْقَاضِي الْفَاضِلُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ
الْفُصَحَاءِ وَالْبُلَغَاءِ.
أَبُو عَلِيٍّ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ الْقَاضِي الْأَشْرَفِ
أَبِي الْمَجْدِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْبَيْسَانِيِّ الْمَوْلَى
الْأَجَلُّ الْقَاضِي الْفَاضِلُ، كَانَ أَبُوهُ قَاضِيًا بِعَسْقَلَانَ،
فَأَرْسَلَ وَلَدَهُ فِي الدَّوْلَةِ الْفَاطِمِيَّةِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، فَاشْتَغَلَ بِهَا بِكِتَابَةِ الْإِنْشَاءِ عَلَى أَبِي
الْفَتْحِ قَادُوسَ وَغَيْرِهِ، فَسَادَ أَهْلُ الْبِلَادِ حَتَّى بَغْدَادَ
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي زَمَانِهِ نَظِيرٌ، وَلَا عَدِيدٌ وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ
إِلَى وَقْتِنَا هَذَا مُمَاثِلٌ وَلَا مُنَاظِرٌ وَلَا نَدِيدٌ، وَلَمَّا
اسْتَقَرَّ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ جَعَلَهُ
كَاتِبَهُ وَصَاحِبَهُ وَوَزِيرَهُ وَجَلِيسَهُ وَأَنِيسَهُ، وَكَانَ أَعَزَّ
عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَأَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيفِهِ
وَتِلَادِهِ، وَتَسَاعَدَا حَتَّى فَتَحَ الْأَقَالِيمَ وَالْبُلْدَانَ
وَالْحُصُونَ وَالْمَعَاقِلَ، هَذَا بِحُسَامِهِ وَسِنَانِهِ، وَهَذَا بِقَلَمِهِ
وَلِسَانِهِ وَبَيَانِهِ، وَقَدْ كَانَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنْ كَثْرَةِ
أَمْوَالِهِ وَوَجَاهَتِهِ وَرِيَاسَتِهِ كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ
وَالصِّلَاتِ وَالصِّيَامِ
وَالصَّلَاةِ، وَكَانَ يُوَاظِبُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَلَى خَتْمَةٍ
كَامِلَةٍ، مَعَ مَا يَزِيدُ عَلَيْهَا مِنْ نَافِلَةٍ، رَحِيمَ الْقَلْبِ، حَسَنَ
السِّيرَةِ، طَاهِرَ الْقَلْبِ وَالسَّرِيرَةِ، لَهُ مَدْرَسَةٌ بِدِيَارِ مِصْرَ
عَلَى الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَأَوْقَافٌ عَلَى تَخْلِيصِ
الْأُسَارَى مِنْ أَيْدِي النَّصَّارَى، وِقَدِ اقْتَنَى مِنَ الْكُتُبِ نَحْوًا
مِنْ مِائَةِ أَلْفِ كِتَابٍ، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَفْرَحْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ
الْوُزَرَاءِ وَلَا الْعُلَمَاءِ وَلَا الْمُلُوكِ وَلَا الْكُتَّابِ، كَانَ
مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَقَدْ كَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي يَوْمِ دَخَلَ الْعَادِلُ إِلَى قَصْرِ مِصْرَ بِمَدْرَسَتِهِ
فَجْأَةً، يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ سَادِسِ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَاحْتَفَلَ النَّاسُ
بِجِنَازَتِهِ، وَزَارَ قَبْرَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الْمَلِكُ الْعَادِلُ،
وَتَأْسَّفَ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ اسْتَوْزَرَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ
صَفِيَّ الدِّينِ بْنَ شُكْرٍ، فَلَمَّا سَمِعَ الْفَاضِلُ بِذَلِكَ دَعَا اللَّهَ
أَنْ لَا يُحَيِيَهُ إِلَى هَذِهِ الدَّوْلَةِ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَافَسَةِ،
فَمَاتَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَمْ يُنِلْهُ أَحَدٌ بِضَيْمٍ وَلَا أَذًى، وَلَا
رَأَى فِي الدَّوْلَةِ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَقَدْ رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ
بِأَشْعَارٍ حَسَنَةٍ، مِنْهَا قَوْلُ الْقَاضِي هِبَةِ اللَّهِ بْنِ سَنَاءِ
الْمُلْكِ:
عَبْدُ الرَّحِيمِ عَلَى الْبَرِيَّةِ رَحْمَةٌ أَمِنَتْ بِصُحْبَتِهَا حُلُولَ
عِقَابِهَا
يَا سَائِلًا عَنْهُ وَعَنْ أَسْبَابِهِ نَالَ السَّمَاءَ فَسَلْهُ عَنْ
أَسْبَابِهَا
وَالدَّهْرُ يَعْلَمُ أَنَّ فَيْصَلَ خَطْبِهِ بِخُطَا يَرَاعَتِهِ وَفَصْلِ
خِطَابِهِا
وَلَقَدْ عَلَتْ رُتَبُ الْأَجَلِّ عَلَى الْوَرَى بِسُمُوِّ مَنْصِبِهِا وَطِيبِ
نِصَابِهَا
وَأَتَتْهُ خَاطِبَةً إِلَيْهِ وِزَارَةٌ وَلَطَالَمَا أَعْيَتْ عَلَى خُطَّابِهَا
مَا لَقَّبُوهُ بِهَا
لِأَنْ يَعْلُو بِهَا أَسْمَاؤُهُ أَغْنَتْهُ عَنْ أَلْقَابِهَا
قَالَ الزَّمَانُ لِغَيْرِهِ إِذْ رَامَهَا تَرِبَتْ يَمِينُكَ لَسْتَ مِنْ
أَتْرَابِهَا
اذْهَبْ طَرِيقَكَ لَسْتَ مِنْ أَرْبَابِهَا وَارْجِعْ وَرَاءَكَ لَسْتَ مِنْ
أَصْحَابِهَا
وَبِعِزِّ سَيِّدِنَا وَسَيِّدِ غَيْرِنَا ذَلَّتْ مِنَ الْأَيَامِ شَمْسُ
صِعَابِهَا
وَأَتَتْ سَعَادَتُهُ إِلَى أَبْوَابِهِ لَا كَالَّذِي يَسْعَى إِلَى أَبْوَابِهَا
تَعْنُو الْمُلُوكُ لِوَجْهِهِ بِوُجُوهِهَا لَا بَلْ تُسَاقُ لِبَابِهِ
بِرِقَابِهَا
شُغِلَ الْمُلُوكُ بِمَا يَزُولُ وَنَفْسِهِ مَشْغُولَةٌ بِالذِّكْرِ فِي
مِحْرَابِهَا
فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَوَاتِ أَتْعَبَ نَفْسَهُ وَضَمَانُ رَاحَتِهِ عَلَى
إِتْعَابِهَا
وَتَعَجَّلَ الْإِقْلَاعَ عَنِ لَذَّاتِهِ ثِقَةً بِحُسْنِ مَآلِهَا وَمَآبِهَا
فَلْتَفْخَرِ الدُّنْيَا بِسَائِسِ مُلْكِهَا مِنْهُ وَدَارِسِ عِلْمِهَا
وَكِتَابِهَا
صَوَّامِهَا قَوَّامِهَا عَلَّامِهَا عَمَّالِهَا بَذَّالِهَا وَهَّابِهَا
وَالْعَجَبُ أَنَّ الْقَاضِيَ الْفَاضِلَ مَعَ بَرَاعَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ الَّتِي
لَا تُدَانَى وَلَا تُجَارَى لَا يُعْرَفُ لَهُ قَصِيدَةٌ طَوِيلَةٌ طَنَّانَةٌ،
بَلْ لَهُ مَا بَيْنَ بَيْتٍ وَبَيْتَيْنِ فِي أَثْنَاءِ الرَّسَائِلِ وَغَيْرِهَا
شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
سَبَقْتُمْ بِإِسْدَاءِ الْجَمِيلِ تَكَرُّمًا وَمَا مِثْلُكُمْ فِيمَنْ تَحَدَّثَ
أَوْ حَكَى
وَقَدْ كَانَ ظَنِّي أَنْ أُسَابِقَكُمْ بِهِ وَلَكِنْ بَكَتْ قَبْلِي فَهِيجَ
لِيَ الْبُكَا
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَلِي صَاحِبٌ مَا خِفْتُ
مِنْ جَوْرِ حَادِثٍ مِنَ الدَّهْرِ إِلَّا كَانَ لِي مِنْ وَرَائِيَهْ
إِذَا عَضَّنِي صَرْفُ الزَّمَانِ فَإِنَّنِي بِرَايَاتِهِ أَسْطُو عَلَيْهِ
وَرَائِيَهْ
وَلَهُ فِي بَدُوِّ أَمْرِهِ:
أَرَى الْكُتَّابَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا بِأَرْزَاقٍ تَعُمُّهُمْ سِنِينَا
وَمَا لِيَ بَيْنَهُمْ رِزْقٌ كَأَنِّي خُلِقْتُ مِنَ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَا
وَلَهُ فِي النَّحْلَةِ وَالزَّلْقَطَةِ:
وَمُغَرِّدَيْنِ تَجَاوَبَا فِي مَجْلِسٍ فَنَفَاهُمَا لَأَذَاهُمَا الْأَقْوَامُ
هَذَا يَجُودُ بِعَكْسِ مَا يَأْتِي بِهِ هَذَا فَيُحْمَدُ ذَا وَذَاكَ يُذَامُ
وَلَهُ فِي مِمْسَحَةِ الْقَلَمِ:
مِمْسَحَةٌ نَهَارُهَا يَجِنُّ لَيْلَ الظُّلَمِ كَأَنَّهَا مِنْ طَرَفِهَا
مَنْدِيلُ كَفِّ الْقَلَمِ
وَقَوْلُهُ:
بِتْنَا عَلَى حَالٍ تَسُرُّ الْهَوَى لَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الشَّرْحُ
بَوَّابُنَا اللَّيْلُ وَقُلْنَا لَهُ إِنْ غِبْتَ عَنَّا هَجَمَ الصُّبْحُ
وَسَأَلَهُ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ عُثْمَانُ بْنُ النَّاصِرِ عَنْ جَارِيَةٍ مِنْ
حَظَايَاهُ؛ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ زِرًّا مِنْ ذَهَبٍ مُغَلَّفٍ بِعَنْبَرٍ أَسْوَدَ،
فَأَنْشَأَ الْفَاضِلُ يَقُولُ:
أَهْدَتْ لَكَ الْعَنْبَرَ
فِي وَسْطِهِ زِرٌّ مِنَ التِّبْرِ رَقِيقُ اللِّحَامِ
فَالزِّرُّ فِي الْعَنْبَرِ مَعْنَاهُمَا زُرْ هَكَذَا مُخْتَفِيًا فِي الظَّلَامِ
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ وِقَدِ اخْتُلِفَ فِي لَقَبِهِ، فَقِيلَ:
مُحْيِي الدِّينِ، وَقِيلَ: مُجِيرُ الدِّينِ. وَحُكِيَ عَنْ عُمَارَةَ
الْيَمَنِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَهُ بِذِكْرٍ جَمِيلٍ، وَأَنَّ الْعَادِلَ بْنَ
الصَّالِحِ بْنِ رُزِّيكَ هُوَ الَّذِي اسْتَقْدَمَهُ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ،
وَقَدْ كَانَ مَعْدُودًا فِي حَسَنَاتِهِ. وَقَدْ بَسَطَ ابْنُ خَلِّكَانَ
تَرْجَمَتَهُ بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَا، وَفِي هَذِهِ زِيَادَةٌ كَثِيرَةٌ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا اشْتَدَّ الْغَلَاءُ بِأَرْضِ مِصْرَ جِدًّا، فَهَلَكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ
جِدًّا مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ فَنَاءٌ عَظِيمٌ،
حَتَّى حَكَى الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ فِي " الذَّيْلِ " أَنَّ
الْعَادِلَ كَفَّنَ مِنْ مَالِهِ فِي مُدَّةِ شَهْرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
نَحْوًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ مَيِّتٍ، وَأُكِلَتِ الْكِلَابُ
وَالْمَيْتَاتُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِمِصْرَ، وَأُكِلَ مِنَ الصِّغَارِ
وَالْأَطْفَالِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، يَشْوِيهِ وَالِدَاهُ وَيَأْكُلَانِهِ، وَكَثُرَ
هَذَا فِي النَّاسِ حَتَّى صَارَ لَا يُنْكَرُ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ صَارُوا
يَحْتَالُونَ عَلَى بَعْضِهِمْ بَعْضًا فَيَأْكُلُونَ مَنْ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ،
وَمَنْ غَلَبَ مِنْ قَوِيٍّ ضَعِيفًا ذَبَحَهُ وَأَكَلَهُ.
وَكَانَ الرَّجُلُ يُضِيفُ صَاحِبَهُ فَإِذَا خَلَا بِهِ ذَبَحَهُ وَأَكَلَهُ،
وَوُجِدَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَرْبَعُمِائَةِ رَأْسٍ.
وَهَلَكَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَطِبَّاءِ الَّذِينَ يُسْتَدْعُونَ إِلَى الْمَرْضَى،
فَيُذْبَحُونَ وَيُؤَكَلُونَ ; وِقَدِ اسْتَدْعَى رَجُلٌ طَبِيبًا فَخَافَ
الطَّبِيبُ وَذَهَبَ مَعَهُ عَلَى وَجَلٍ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَتَصَدَّقُ عَلَى
مَنْ وَجَدَهُ فِي الطَّرِيقِ وَيَذْكُرُ وَيُسَبِّحُ، وَيُكْثِرُ مِنْ ذَلِكَ،
فَارْتَابَ بِهِ الطَّبِيبُ وَتَخَيَّلَ، وَمَعَ هَذَا حَمَلَهُ الطَّمَعُ عَلَى
الِاسْتِمْرَارِ مَعَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الدَّارِ إِذَا هِيَ خَرِبَةٌ
فَارْتَابَ أَيْضًا، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الدَّارِ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ: وَمَعَ
هَذَا الْبُطْءِ جِئْتَ لَنَا بِصَيْدٍ. فَلَمَّا سَمِعَهَا الطَّبِيبُ هَرَبَ،
فَخَرَجَا خَلْفَهُ سِرَاعًا فَمَا
خَلَصَ إِلَّا بَعْدَ
جُهْدٍ جَهِيدٍ.
وَفِيهَا وَقَعَ وَبَاءٌ شَدِيدٌ بِبِلَادِ عَنَزَةَ بَيْنَ الْحِجَازِ
وَالْيَمَنِ، وَكَانُوا يَسْكُنُونَ فِي عِشْرِينَ قَرْيَةً، فَبَادَتْ مِنْهَا
ثَمَانِي عَشْرَةَ قَرْيَةً، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا دَيَّارٌ وَلَا نَافِخُ نَارٍ،
وَبَقِيَتْ أَنْعَامُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ لَا قَانِيَ لَهَا، وَلَا يَسْتَطِيعُ
أَحَدٌ أَنْ يَسْكُنَ تِلْكَ الْقُرَى وَلَا يَدْخُلَهَا، بَلْ كَانَ مَنِ
اقْتَرَبَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقُرَى هَلَكَ مِنْ سَاعَتِهِ، فَسُبْحَانَ
مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجِعُونَ، أَمَّا
الْقَرْيَتَانِ الْبَاقِيَتَانِ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَمُتْ مِنْهُمَا أَحَدٌ وَلَا
عِنْدَهُمْ شُعُورٌ بِمَا جَرَى عَلَى مَنْ حَوْلَهُمْ؛ بَلْ هُمْ عَلَى مَا
كَانُوا عَلَيْهِ لَمْ يُفْقَدْ مِنْهُمْ أَحَدٌ.
وَاتَّفَقَ بِالْيَمَنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ جِدًّا، وَهِيَ
أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمْزَةَ الْعَلَوِيُّ كَانَ
قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ، وَجَمَعَ نَحَوًا مِنِ
اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ وَمِنَ الرَّجَّالَةِ جَمْعًا كَثِيرًا، وَخَافَهُ
مَلِكُ الْيَمَنِ الْمُعِزُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَيْفِ الْإِسْلَامِ بْنِ
طُغْتِكِينَ بْنِ أَيُّوبَ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ زَوَالُ مُلْكِهِ عَلَى يَدَيْ
هَذَا الْمُتَغَلِّبِ، وَأَيْقَنَ بِالْهَلَكَةِ لِضَعْفِهِ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ،
وَاخْتِلَافِ أُمَرَائِهِ مَعَهُ فِي الْمَشُورَةِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ صَاعِقَةً،
فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَاضْطَرَبَ الْجَيْشُ
فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَأَقْبَلَ الْمُعِزُّ بِعَسْكَرِهِ فَقُتِلَ مِنْهُمْ سِتَّةُ
آلَافِ قَتِيلٍ، وَاسْتَقَرَّ فِي مُلْكِهِ آمِنًا.
وَفِيهَا تَكَاتَبَ الْأَخَوَانِ ; الْأَفْضَلُ مِنْ صَرَخْدَ وَالظَّاهِرُ مِنْ
حَلَبَ عَلَى أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى حِصَارِ دِمَشْقَ وَيَنْزِعَاهَا مِنَ
الْمُعَظَّمِ بْنِ الْعَادِلِ، وَتَكُونُ لِلْأَفْضَلِ، ثُمَّ يَسِيرَا إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَيَأْخُذَاهَا مِنَ الْعَادِلِ وَابْنِهِ الْكَامِلِ اللَّذَيْنِ
نَقَضَا الْعَهْدَ
وَأَبْطَلَا خُطْبَةَ
الْمَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَنَكَثَا الْمَوَاثِيقَ، فَإِذَا
اسْتَقَرَّ لَهُمَا مُلْكُ مِصْرَ كَانَتْ لِلْأَفْضَلِ، وَتَصِيرُ دِمَشْقُ
مُضَافَةً إِلَى الظَّاهِرِ مَعَ حَلَبَ فَلَمَّا بَلَغَ الْعَادِلَ مَا تَمَالَآ
عَلَيْهِ، أَرْسَلَ جَيْشًا مَدَدًا لِابْنِهِ الْمُعَظَّمِ بِدِمَشْقَ،
فَوَصَلُوا قَبْلَ وُصُولِ الظَّاهِرِ وَأَخِيهِ الْأَفْضَلِ، وَكَانَ
وُصُولُهُمَا إِلَيْهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ نَاحِيَةِ بَعْلَبَكَّ فَنَزَلَا
بِجَيْشِهِمَا فِي مَسْجِدِ الْقَدَمِ، وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ لِلْبَلَدِ،
وَتَسَلَّقَ كَثِيرٌ مِنَ الْجَيْشِ مِنْ نَاحِيَةِ خَانِ ابْنِ الْمُقَدَّمِ،
وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا فَتْحُ الْبَلَدِ، لَوْلَا هُجُومُ اللَّيْلِ. ثُمَّ إِنَّ
الظَّاهِرَ بَدَا لَهُ فِيمَا كَانَ عَاهَدَ أَخَاهُ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِ
دِمَشْقَ تَكُونُ لِلْأَفْضَلِ، فَرَأَى أَنْ تَكُونَ لَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ إِذَا
فُتِحَتْ مِصْرُ يُسَلِّمُهَا لِلْأَفْضَلِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ
فَلَمْ يَقْبَلِ الْأَفْضَلُ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَا وَتَفَرَّقَتْ كَلِمَتُهُمَا، وَتَنَازَعَا
عَلَى الْمُلْكِ بِدِمَشْقَ، فَتَفَرَّقَتِ الْأُمَرَاءُ عَنْهُمَا، وَكُوتِبَ
الْعَادِلُ فِي الصُّلْحِ، فَأَرْسَلَ يُجِيبُ إِلَى مَا سَأَلَا مِنْ
إِقْطَاعِهِمَا شَيْئًا مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَبَعْضِ مُعَامَلَةِ
الْمَعَرَّةِ. وَتَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ عَنِ الْبَلَدِ فِي مُحَرَّمٍ سَنَةَ
ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ، وَسَارَ كُلٌّ مِنَ الْمَلِكَيْنِ إِلَى تَسَلُّمِ
الْبِلَادِ الَّتِي أُقْطِعَهَا، وَجَرَتْ خُطُوبٌ يَطُولُ شَرْحُهَا، وَقَدْ
كَانَ الظَّاهِرُ وَأَخُوهُ كَتَبَا إِلَى صَاحِبِ الْمَوْصِلِ نُورِ الدِّينِ
أَرْسَلَانَ الْأَتَابِكِيِّ أَنْ يُحَاصِرَ مُدُنَ الْجَزِيرَةِ الَّتِي مَعَ
عَمِّهِمَا الْعَادِلِ، فَرَكِبَ فِي جَيْشِهِ وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَمِّهِ
قُطْبِ الدِّينِ صَاحِبِ سِنْجَارَ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُمَا صَاحِبُ مَارِدِينَ
الَّذِي كَانَ الْعَادِلُ قَدْ حَاصَرَهُ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ مُدَّةً طَوِيلَةً،
فَقَصَدَتِ الْعَسَاكِرُ حَرَّانَ وَبِهَا الْفَائِزُ بْنُ الْعَادِلِ،
فَحَاصَرُوهُ مُدَّةً، ثُمَّ لَمَّا بَلَغَهُمْ وُقُوعُ الصُّلْحِ بَيْنَ
الْعَادِلِ وَابْنَيْ أَخِيهِ الظَّاهِرِ وَالْأَفْضَلِ عَدَلُوا إِلَى
الْمُصَالَحَةِ أَيْضًا، وَذَلِكَ بَعْدَ طَلَبِ الْفَائِزِ ذَلِكَ مِنْهُمْ،
وَتَمَهَّدَتِ الْأُمُورُ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ؛ وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ غِيَاثُ الدِّينِ وَأَخُوهُ شِهَابُ الدِّينِ
الْغُورِيَّانِ جَمِيعَ مَا
كَانَ يَمْلِكُهُ
خُوَارِزْمُ شَاهْ مِنَ الْبُلْدَانِ وَالْحَوَاصِلِ وَالْأَمْوَالِ، وَجَرَتْ
لَهُمْ خُطُوبٌ طَوِيلَةٌ جِدًّا. وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ،
ابْتَدَأَتْ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ إِلَى الْجَزِيرَةِ وَبِلَادِ الرُّومِ
وَالْعِرَاقِ، وَكَانَ جُمْهُورُهَا وَعُظْمُهَا بِالشَّامِ ; تَهَدَّمَتْ مِنْهَا
دُورٌ كَثِيرَةٌ، وَخُسِفَ بِقَرْيَةٍ مِنْ أَرْضِ بُصْرَى، وَأَمَّا السَّوَاحِلُ
فَهَلَكَ فِيهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَخَرِبَتْ مَحَالٌّ كَثِيرَةٌ مِنْ طَرَابُلُسَ
وَصُورَ وَعَكَّا وَنَابُلُسَ، وَلَمْ يَبْقَ بِنَابُلُسَ سِوَى حَارَةِ
السَّامَرَّةِ وَمَاتَ بِهَا وَبِقُرَاهَا ثَلَاثُونَ أَلْفًا تَحْتَ الرَّدْمِ،
وَسَقَطَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْمَنَارَةِ الشَّرْقِيَّةِ بِجَامِعِ
دِمَشْقَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةً مِنْهُ، وَغَالِبُ الْكَلَّاسَةِ
وَالْمَارَسْتَانِ النُّورِيِّ، وَخَرَجَ النَّاسُ إِلَى الْمَيَادِينِ
يَسْتَغِيثُونَ، وَسَقَطَ غَالِبُ قَلْعَةِ بَعْلَبَكَّ مَعَ وَثَاقَةِ
بِنَائِهَا، وَانْفَرَقَ الْبَحْرُ إِلَى قُبْرُسَ وَحَذَفَ بِالْمَرَاكِبِ إِلَى
سَاحِلِهِ، وَتَعَدَّى إِلَى نَاحِيَةِ الشَّرْقِ، فَسَقَطَ بِسَبَبِهَا دُورٌ
كَثِيرَةٌ، وَمَاتَ أُمَمٌ لَا يُحْصُونَ حَتَّى قَالَ صَاحِبُ " مِرْآةِ
الزَّمَانِ ": إِنَّهُ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِسَبَبِ الزَّلْزَلَةِ
نَحْوٌ مِنْ أَلْفِ أَلْفِ وَمِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ. نَقَلَهُ فِي "
ذَيْلِ الرَّوْضَتَيْنِ " عَنْهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيِّ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُمَّادَى بْنِ أَحْمَدَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْجَوْزِيُّ - نِسْبَةً إِلَى فُرْضَةِ
نَهْرٍ بِالْبَصْرَةِ -
ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ النَّضِرِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، الشَّيْخُ الْحَافِظُ الْوَاعِظُ
جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْفَرَجِ، الْمَشْهُورُ بِابْنِ الْجَوْزِيِّ،
الْقُرَشِيُّ التَّيْمِيُّ الْبَغْدَادِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، أَحَدُ أَفْرَادِ
الْعُلَمَاءِ، بَرَزَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ، وَجَمَعَ الْمُصَنَّفَاتِ
الْكِبَارَ وَالصِّغَارَ نَحَوًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ مُصَنَّفٍ، وَكَتَبَ
بِيَدِهِ نَحْوًا مِنْ أَلْفَيْ مُجَلَّدَةٍ، وَتَفْرَّدَ بِفَنِّ الْوَعْظِ
الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ، وَلَا يُلْحَقُ شَأْوُهُ فِي طَرِيقَتِهِ
وَشَكْلِهِ، وَفِي فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَعُذُوبَةِ كَلَامِهِ، وَحَلَاوَةِ
تَرْصِيعِهِ، وَنُفُوذِ وَعْظِهِ، وَغَوْصِهِ عَلَى الْمَعَانِي الْبَدِيعَةِ،
وَتَقْرِيبِهِ الْأَشْيَاءَ الْغَرِيبَةَ فِيمَا يُشَاهَدُ مِنَ الْأُمُورِ
الْحِسِّيَّةِ، بِعِبَارَةٍ وَجِيزَةٍ سَرِيعَةٍ، هَذَا وَلَهُ فِي الْعُلُومِ
كُلِّهَا الْيَدُ الطُّولَى، وَالْمُشَارَكَاتُ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ
مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّارِيخِ وَالْحِسَابِ، وَالنَّظَرِ فِي
النُّجُومِ، وَلَهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ فِي ذَلِكَ مَا يَضِيقُ هَذَا الْمَقَامُ
عَنْ تِعْدَادِهَا، وَحَصْرِ أَفْرَادِهَا ; مِنْهَا كِتَابُهُ فِي التَّفْسِيرِ
الْمَشْهُورُ بِ " زَادِ الْمَسِيرِ " وَلَهُ أَبْسَطُ مِنْهُ
وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ وَلَا مَنْكُورٍ، وَلَهُ " جَامِعُ الْمَسَانِيدِ
" اسْتَوْعَبَ فِيهِ غَالِبَ " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " وَ
" صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ " وَ " جَامِعِ
التِّرْمِذِيِّ "، وَلَهُ كِتَابُ " الْمُنْتَظَمِ فِي تَوَارِيخِ
الْأُمَمِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ " فِي عِشْرِينَ مُجَلَّدًا، قَدْ
أَوْرَدْنَا فِي كِتَابِنَا هَذَا كَثِيرًا مِنْ حَوَادِثِهِ وَتَرَاجِمِهِ،
فَلَمْ يَزَلْ يُؤَرِّخُ أَخْبَارَ الْعَالَمِ حَتَّى صَارَ هُوَ تَارِيخًا، وَمَا
أَحَقَّهُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَا زِلْتَ تَدْأَبُ فِي التَّارِيخِ مُجْتَهِدًا حَتَّى رَأْيْتُكَ فِي
التَّارِيخِ مَكْتُوبًا
وَلَهُ مَقَامَاتٌ وَخُطَبٌ، وَلَهُ " الْأَحَادِيثُ الْمَوْضُوعَةُ "
وَ " الْعِلَلُ الْمُتَنَاهِيَةُ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَاهِيَةِ "
وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وُلِدَ سَنَةَ عَشْرٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَمَاتَ أَبُوهُ وَعُمْرُهُ ثَلَاثُ
سِنِينَ، وَكَانَ أَهْلُهُ تُجَّارًا
فِي النُّحَاسِ، فَلَمَّا
تَرَعْرَعَ جَاءَتْ بِهِ عَمَّتُهُ إِلَى مَسْجِدِ مُحَمَّدِ بْنِ نَاصِرٍ
الْحَافِظِ، فَلَزِمَ الشَّيْخَ، وَسَمِعَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَ، وَتَفَقَّهَ
بِابْنِ الزَّاغُونِيِّ، وَحَفِظَ الْوَعْظَ، وَوَعَظَ وَهُوَ دُونَ الْعِشْرِينَ،
وَأَخَذَ اللُّغَةَ عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيِّ، وَكَانَ صَيِّنًا
دَيِّنًا، مَجْمُوعًا عَلَى نَفْسِهِ لَا يُخَالِطُ أَحَدًا، وَلَا يَأْكُلُ
مِمَّا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا لِلْجُمُعَةِ، وَقَدْ
حَضَرَ مَجْلِسَ وَعْظِهِ الْخُلَفَاءُ وَالْوُزَرَاءُ وَالْمُلُوكُ
وَالْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْفُقَرَاءُ، وَمِنْ سَائِرِ صُنُوفِ بَنِي
آدَمَ، وَأَقَلُّ مَا كَانَ يَجْتَمِعُ فِي مَجْلِسِهِ عَشَرَةُ آلَافٍ،
وَرُبَّمَا اجْتَمَعَ فِيهِ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، وَرُبَّمَا تَكَلَّمَ
مِنْ خَاطِرِهِ عَلَى الْبَدِيهَةِ نَظْمًا وَنَثْرًا؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ أُسْتَاذًا فَرْدًا فِي الْوَعْظِ، لَهُ مُشَارَكَاتٌ
حَسَنَةٌ فِي بَقِيَّةِ الْعُلُومِ، وَقَدْ كَانَ فِيهِ بَهَاءٌ، وَتَرَفُّعٌ فِي
نَفْسِهِ، وَيَسْمُو بِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَقَامِهِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي
نَثْرِهِ وَنَظْمِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
مَا زِلْتُ أُدْرِكُ مَا غَلَا بَلْ مَا عَلَا وَأَكَابِدُ النَّهْجَ الْعَسِيرَ
الْأَطْوَلَا
تَجْرِي بِيَ الْآمَالُ فِي حَلَبَاتِهِ طَلَقَ السَّعِيدِ جَرَى مَدَى مَا
أَمَّلَا
يُفْضِي بِيَ التَّوْفِيقُ فِيهِ إِلَى الَّذِي أَعْمَى سِوَايَ تَوَصُّلًا
وَتَغَلْغُلَا
لَوْ كَانَ هَذَا الْعِلْمُ شَخْصًا نَاطِقًا وَسَأَلْتُهُ هَلْ زُرْتَ مِثْلِي
قَالَ لَا
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا، وَيُرْوَى لِغَيْرِهِ:
إِذَا قَنِعْتَ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقُوتِ أَصْبَحْتَ فِي النَّاسِ حُرًّا غَيْرَ
مَمْقُوتِ
يَا قُوتَ نَفْسِي إِذَا مَا دَرَّ خِلْفُكَ لِي فَلَسْتَ آسَى عَلَى دُرٍّ
وَيَاقُوتِ
وَلَهُ مِنَ النَّظْمِ
وَالنَّثْرِ شَيْءٌ كَثِيرٌ لَا يَنْضَبِطُ، وَلَهُ كِتَابٌ مُفْرَدٌ سَمَّاهُ:
" نَظْمَ الْجُمَانِ فِي كَانَ وَكَانَ ".
وَمِنْ لَطَائِفِ كَلَامِهِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا
بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ إِنَّمَا طَالَتْ أَعْمَارُ مَنْ قَبْلَنَا
لِطُولِ الْبَادِيَةِ، فَلَمَّا شَارَفَ الرَّكْبُ بَلَدَ الْإِقَامَةِ، قِيلَ
لَهُمْ: حُثُّوا الْمَطِيَّ. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَيُّمَا أَفْضَلُ ؟ أَجْلِسُ
أُسَبِّحُ أَوْ أَسْتَغْفِرُ ؟ فَقَالَ: الثَّوْبُ الْوَسِخُ أَحْوَجُ إِلَى
الصَّابُونِ مِنِ الْبَخُورِ.
وَسُئِلَ عَمَّنْ أَوْصَى وَهُوَ فِي السِّيَاقِ، فَقَالَ: هَذَا طِينٌ سُطُوحُهُ
فِي كَانُونٍ.
وَالْتَفَتَ يَوْمًا إِلَى نَاحِيَةِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضِيءِ وَهُوَ فِي
الْوَعْظِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ; إِنْ تَكَلَّمْتُ خِفْتُ مِنْكَ،
وَإِنْ سَكْتُّ خِفْتُ عَلَيْكَ، وَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: اتَّقِ اللَّهَ،
خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ أَهْلُ بَيْتٍ مَغْفُورٌ لَكُمْ. وَكَانَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: إِذَا بَلَغَنِي عَنْ عَامِلٍ أَنَّهُ ظَالِمٌ
فَلَمْ أُغَيِّرْهُ، فَأَنَا الظَّالِمُ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ; وَكَانَ
يُوسُفُ لَا يَشْبَعُ فِي زَمَنِ الْقَحْطِ حَتَّى لَا يَنْسَى الْجِيعَانَ،
وَكَانَ عُمْرُ يَضْرِبُ بَطْنَهُ عَامَ الرَّمَادَةِ وَيَقُولُ: قَرْقِرْ أَوْ
لَا تُقَرْقِرْ، وَاللَّهِ لَا سَمْنًا وَلَا سَمِينًا حَتَّى يُخْصِبَ النَّاسُ.
قَالَ: فَتَصَدَّقَ الْمُسْتَضِيءُ بِمَالٍ جَزِيلٍ، وَأَطْلَقَ الْمَحَابِيسَ،
وَكَسَى خَلْقًا مِنَ الْفُقَرَاءِ.
وُلِدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي حُدُودِ سَنَةِ عَشْرٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، كَمَا
تَقَدْمَ، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي لَيْلَةِ
الْجُمُعَةِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَلَهُ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَحُمِلَتْ جِنَازَتُهُ عَلَى
رُءُوسِ النَّاسِ، فَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ عِنْدَ أَبِيهِ بِالْقُرْبِ مِنَ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ أَفْطَرَ
جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ بِسَبَبِ شِدَّةِ الْحَرِّ وَكَثْرَةِ الزِّحَامِ؛
رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ أَوْصَى أَنْ تُكْتَبَ عَلَى قَبْرِهِ هَذِهِ
الْأَبْيَاتُ:
يَا كَثِيرَ الْعَفْوِ عَمَّنْ كَثُرَ الْذَّنْبُ لَدَيْهِ
جَاءَكَ الْمُذْنِبُ يَرْجُو الصَّفْ حَ عَنْ جُرْمِ يَدَيْهِ
أَنَا ضَيْفٌ وَجَزَاءُ الضَّيْ فِ إِحْسَانٌ إِلَيْهِ
وَقَدْ كَانَ لِلشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الْجَوْزِيِّ مِنَ الْأَوْلَادِ
الذُّكُورِ ثَلَاثَةٌ ; عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَوْلَادِهِ، مَاتَ
شَابًّا فِي حَيَاةِ وَالِدِهِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، ثُمَّ أَبُو
الْقَاسِمِ عَلِيٌّ، وَقَدْ كَانَ عَاقًّا لِوَالِدِهِ إِلْبًا عَلَيْهِ فِي
زَمَنِ الْمِحْنَةِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ تَسَلَّطَ عَلَى كُتُبِهِ فِي غَيْبَتِهِ
بِوَاسِطٍ، فَبَاعَهَا بِأَبْخَسِ الْأَثْمَانِ، ثُمَّ مُحْيِي الدِّينِ يُوسُفُ،
وَكَانَ أَنْجَبَ الْأَوْلَادِ وَأَصْغَرَهُمْ ; وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِينَ
وَوَعَظَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَاشْتَغَلَ وَحَرَّرَ وَأَتْقَنَ وَسَادَ أَقْرَانَهُ،
ثُمَّ بَاشَرَ حِسْبَةَ بَغْدَادَ ثُمَّ كَانَ رَسُولَ الْخُلَفَاءِ إِلَى
الْمُلُوكِ بِأَطْرَافِ الْبِلَادِ، وَلَا سِيَّمَا إِلَى بَنِي أَيُّوبَ
بِالشَّامِ، وَقَدْ حَصَلَ مِنْهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْكَرَامَاتِ مَا
ابْتَنَى بِهِ الْمَدْرَسَةَ الْجَوْزِيَّةَ الَّتِي بِالنَّشَابِينَ بِدِمَشْقَ،
ثُمَّ صَارَ أُسْتَاذَ دَارِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَعْصِمِ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَاسْتَمَرَّ مُبَاشِرَهَا إِلَى أَنْ قُتِلَ مَعَ الْخَلِيفَةِ
عَامَ هُولَاكُو بْنِ تُولِي بْنِ جِنْكِزَخَانَ، وَكَانَ لِأَبِي الْفَرَجِ
عِدَّةُ بَنَاتٍ ; مِنْهُنَّ رَابِعَةُ أُمُّ سِبْطِهِ أَبِي الْمُظَفَّرِ بْنِ
قَزَاوَغْلِيٍّ صَاحِبِ " مِرْآةِ الزَّمَانِ " وَهِيَ كِتَابٌ
مِنْ أَجْمَعِ
التَّوَارِيخِ وَأَكْثَرِهَا فَائِدَةً، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي
" الْوَفِيَّاتِ " فَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَدَحَهُ وَشَكَرَ تَصَانِيفَهُ
وَعُلُومَهُ.
الْعِمَادُ الْكَاتِبُ الْأَصْبَهَانِيُّ
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَامِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ أَلُّهْ - بِتَشْدِيدِ اللَّامِ
وَضَمِّهَا - الْمَعْرُوفُ بِالْعِمَادِ الْكَاتِبِ الْأَصْبَهَانِيِّ، صَاحِبُ
الْمُصَنَّفَاتِ وَالرَّسَائِلِ وَالشِّعْرِ، وُلِدَ بِأَصْبَهَانَ فِي سَنَةِ
تِسْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وِقَدِمَ بَغْدَادَ فَاشْتَغَلَ بِهَا عَلَى
الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ سَعِيدِ بْنِ الرَّزَّازِ مُدَرِّسِ النِّظَامِيَّةِ،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى الشَّامِ فَحَظِيَ عِنْدَ الْمَلِكِ
نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ، وَكَتَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَوَلَّاهُ
الْمَدْرَسَةَ الَّتِي أَنْشَأَهَا دَاخِلَ بَابِ الْفَرَجِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا
الْعِمَادِيَّةِ ; نِسْبَةً إِلَى الْعِمَادِ هَذَا لِكَثْرَةِ إِقَامَتِهِ بِهَا،
وَتَدْرِيسِهِ فِيهَا، وَلَمْ يَكُنْ أَوَّلَ مَنْ دَرَّسَ بِهَا، بَلْ قَدْ
سَبَقَهُ إِلَى تَدْرِيسِهَا غَيْرُ وَاحِدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ
نُورِ الدِّينِ.
ثُمَّ صَارَ الْعِمَادُ كَاتِبًا فِي الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ، وَكَانَ
الْقَاضِي الْفَاضِلُ يُثْنِي عَلَيْهِ وَيَشْكُرُهُ، قَالُوا: وَكَانَ
مَنْطُوقُهُ يَعْتَرِيهِ جُمُودٌ وَفَتْرَةٌ، وَقَرِيحَتُهُ فِي غَايَةِ
الْجَوْدَةِ وَالْحِدَّةِ. وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ لِأَصْحَابِهِ
يَوْمًا: قُولُوا، فَتَكَلَّمُوا وَشَبَّهُوهُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ بِصِفَاتٍ،
فَلَمْ يَقْبَلْهَا الْقَاضِي، وَقَالَ: هُوَ كَالزِّنَادِ، ظَاهِرُهُ بَارِدٌ
وَدَاخِلُهُ نَارٌ، وَلَهُ
مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ: " خَرِيدَةُ الْقَصْرِ فِي شُعَرَاءِ الْعَصْرِ "
وَ " الْفَتْحُ الْقُدْسِيِّ " وَ " الْبَرْقُ الشَّامِيِّ "
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الْمُسْجَعَةِ، وَالْعِبَارَاتِ
الْمُصَرَّعَةِ، وَالْقَصَائِدِ الْمُطَوَّلَةِ، وَالْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ
الْمُؤَثَّلَةِ.
وَمِنْ لَطِيفِ تَغَزُّلِهِ، قَوْلُهُ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
كَيْفَ قُلْتُمْ فِي مُقْلَتَيْهِ فُتُورُ وَأَرَاهَا بِلَا فُتُورٍ تَجُورُ
لَوْ بَصَرْتُمْ بِطَرْفِهِ كَيْفَ يَسْبِي قُلْتُمْ ذَاكَ كَاسِرٌ لَا كَسِيرُ
مُوتِرٌ قَوْسَ حَاجِبَيْهِ لِإِصْمَا ءِ فُؤَادِي كَأَنَّهُ مَوْتُورُ
لَا تَسَلْنِي عَنِ الْعَقَارِ فَعَقْلِي طَافِحٌ مِنْ عَقَارِهِنَّ عَقِيرُ
كَيْفَ يَصْحُو مِنْ سُكْرِهِ مُسْتَهَامُ مَزَجَتْ كَأْسَهُ الْحِسَانُ الْحُورُ
أَوْرَثَتْهُ سَقَامَهَا الْحُدْقُ النَّجْ لُ وَأَهْدَتْ لَهُ النُّحُولُ
الْخُصُورُ
مَا تَصِيدُ الْأُسْدُ الْخَوَادِرُ إِلَّا ظَبِيَاتٍ كُنَاسُهُنَّ الْخُدُورُ
كُلُّ غُصْنِيَّةِ الْمَوَشَّحِ هَيْفَا ءُ عَلَى الْبَدْرِ جَيْبُهَا مَزْرُورُ
وَجَنَّاتٌ تَجْنِي الشَّقَائِقَ مِنْهَا وَثَنَايَا كَأَنَّهَا الْمَنْثُورُ
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي مُسْتَهَلِّ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً؛ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ
الصُّوفِيَّةِ.
الْأَمِيرُ بَهَاءُ الدِّينِ قَرَاقُوشُ
الْفَحْلُ الْخَصِيُّ، أَحَدُ كُبَرَاءِ أُمَرَاءِ الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ،
كَانَ شَهْمًا شُجَاعًا فَاتِكًا، تَسَلَّمَ الْقَصْرَ لَمَّا مَاتَ الْعَاضِدُ،
وَعَمَّرَ سُورَ
الْقَاهِرَةِ مُحِيطًا
عَلَى مِصْرَ أَيْضًا، وَانْتَهَى إِلَى الْمَقْسَمِ ; وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي
اقْتَسَمَتْ فِيهِ الصَّحَابَةُ مَا غَنِمُوا مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَبَنَى قَلْعَةَ الْجَبَلِ، وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ سَلَّمَهُ
عَكَّا لِيُعَمِّرَ فِيهَا أَمَاكِنَ كَثِيرَةً، فَوَقَعَ الْحِصَارُ وَهُوَ
بِهَا، فَلَمَّا خَرَجَ الْبَدَلُ مِنْهَا كَانَ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ خَرَجَ،
ثُمَّ دَخَلَهَا ابْنُ الْمَشْطُوبِ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ أُسِرَ فَافْتَدَى
نَفْسَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَعَادَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ فَفَرِحَ
بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا، وَلَمَّا تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ احْتَاطَ
الْعَادِلُ عَلَى تَرِكَتِهِ وَصَارَتْ أَقْطَاعُهُ وَأَمْلَاكُهُ لِلْمَلِكِ
الْكَامِلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَادِلِ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَقَدْ
نُسِبَ إِلَيْهِ أَحْكَامٌ عَجِيبَةٌ، حَتَّى صَنَّفَ بَعْضُهُمْ جُزْءًا لَطِيفًا
سَمَّاهُ: كِتَابَ " الْفَاشُوشِ فِي أَحْكَامِ قَرَاقُوشَ " فَذَكَرَ
أَشْيَاءَ كَثِيرَةً جِدًّا وَأَظُنُّهَا مَوْضُوعَةً عَلَيْهِ ; فَإِنَّ الْمَلِكَ
صَلَاحَ الدِّينِ كَانَ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ
وَهُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ ! وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَكْلَبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُسْتَنْجِدِيُّ
كَانَ تُرْكِيًّا عَابِدًا زَاهِدًا، سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ وَقْتَ السَّحَرِ وَهُوَ
يُنْشِدُ عَلَى الْمَنَارَةِ:
يَا رِجَالَ اللَّيْلِ جِدُّوا رُبَّ صَوْتٍ لَا يُرَدُّ
مَا يَقُومُ اللَّيْلُ إِلَّا مَنْ لَهُ عَزْمٌ وَجِدُّ
فَبَكَى مَكْلَبَةُ، وَقَالَ لِلْمُؤَذِّنِ: يَا مُؤَذِّنِي زِدْنِي، فَقَالَ
الْمُؤَذِّنُ:
قَدْ مَضَى اللَّيْلُ وَوَلَّى وَحَبِيبِي قَدْ تَجَلَّى
فَصَرَخَ مَكْلَبَةُ
صَرْخَةً كَانَ فِيهَا حَتْفُهُ، فَأَصْبَحَ أَهْلُ الْبَلَدِ قَدِ اجْتَمَعُوا
عَلَى بَابِهِ، فَالسَّعِيدُ مَنْ وَصَلَ إِلَى نَعْشِهِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
أَبُو مَنْصُورِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ شُجَاعٍ
الْمُزَكْلِشُ بِبَغْدَادَ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ نُقْطَةَ، كَانَ يَدُورُ فِي
أَسْوَاقِ بَغْدَادَ بِالنَّهَارِ يُنْشِدُ كَانَ وَكَانَ وَالْمَوَالِيَا،
وَيُسَحِّرُ النَّاسَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، وَكَانَ مَطْبُوعًا ظَرِيفًا
خَلِيعًا، وَكَانَ أَخُوهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ الزَّاهِدُ مِنْ أَكَابِرِ
الصَّالِحِينَ، لَهُ زَاوِيَةٌ بِبَغْدَادَ يُزَارُ فِيهَا، وَكَانَ لَهُ
أَتْبَاعٌ وَمُرِيدُونَ، وَلَا يَدَّخِرُ شَيْئًا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْفُتُوحِ.
تَصَدَّقَ فِي لَيْلَةٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَأَصْحَابُهُ صُيَّامٌ لَمْ يَدَّخِرْ
مِنْهَا شَيْئًا لِعَشَائِهِمْ. وَزَوْجَتُهُ أَمُّ الْخَلِيفَةِ بِجَارِيَةٍ مِنْ
خَوَاصِّهَا وَجَهَّزَتْهَا بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ إِلَيْهِ، فَمَا حَالَ
الْحَوْلُ وَعِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، بَلْ جَمِيعُ ذَلِكَ يُؤْثِرُ بِهِ
وَيَتَصَدَّقُ بِهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ سِوَى هَاوُنٍ، فَوَقَفَ
سَائِلٌ بِبَابِهِ فَأَلَحَ فِي الطَّلَبِ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ الْهَاوُنَ،
فَقَالَ: خُذْ هَذَا وَكُلْ بِهِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَلَا تُشَنِّعْ عَلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الصَّالِحِينَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ قِيلَ لِأَخِيهِ أَبِي مَنْصُورٍ هَذَا: وَيْحَكَ، أَنْتَ
تَدُورُ فِي الْأَسْوَاقِ وَتُنْشِدُ الْأَشْعَارَ، وَأَخُوكَ مَنْ قَدْ عَرَفْتَ
! فَأَنْشَأَ يَقُولُ فِي جَوَابِ ذَلِكَ بَيْتَيْنِ مُوَالِيًا مِنْ شِعْرِهِ
عَلَى الْبَدِيهَةِ:
قَدْ خَابَ مَنْ شَبَّهَ الْجَزْعَهْ إِلَى الدُّرَّهْ وَشَابَهَ قَحْبَهْ إِلَى
مُسْتَجِنَّهْ حُرَّهْ
أَنَا مُغَنِّي وَأَخِي
زَاهِدْ إِلَى مُرَّهْ فِي الدَّارِ بِئْرَيْنِ ذِي حَلْوَهْ وَذِي مُرَّهْ
وَقَدْ جَرَى عِنْدَهُ مَرَّةً ذِكْرُ قَتْلِ عُثْمَانَ، وَعَلِيٌّ حَاضِرٌ،
فَأَنْشَأَ يَقُولُ: كَانَ وَكَانَ، وَمَنْ قُتِلَ فِي جِوَارِهِ مِثْلُ ابْنِ
عَفَّانَ فَاعْتَذَرَ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ فِي الشَّامِ عُذْرَ
يَزِيدَ. فَأَرَادَتِ الرَّوَافِضُ قَتْلَهُ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ فِي بَعْضِ
اللَّيَالِي يُسَحِّرُ النَّاسَ فِي رَمَضَانَ إِذْ مَرَّ بِدَارِ الْخَلِيفَةِ
فَعَطَسَ الْخَلِيفَةُ فِي الطَّارِقَةِ فَشَمَّتَهُ أَبُو مَنْصُورٍ هَذَا مِنَ
الطَّرِيقِ فِي نَظْمٍ ارْتَجَلَهُ عَلَى الْبَدِيهَةِ مُوَالِيًا يَقُولُ فِي
آخِرِهِ:
أَيْ مَنْ عَطَسَ فِي الْمَنْظَرِهْ يَرْحَمُكَ اللَّهْ
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مِائَةَ دِينَارٍ، وَرَسَمَ بِحِمَايَتِهِ مِنَ الرَّوَافِضِ،
إِلَى أَنْ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
مُسْنِدُ الشَّامِ أَبُو طَاهِرٍ بَرَكَاتُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَاهِرٍ
الْخُشُوعِيُّ، شَارَكَ ابْنَ عَسَاكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَشْيَخَتِهِ، وَطَالَتْ
حَيَاتُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَأَلْحَقَ فِيهَا
الْأَحْفَادَ بِالْأَجْدَادِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا شَرَعَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ قُدَامَةَ
الْمَقْدِسِيُّ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بِالْجَبَلِ، فَأَنْفَقَ
عَلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الشَّيْخُ أَبُو دَاوُدَ مَحَاسِنُ الْفَامِيُّ.
حَتَّى بَلَغَ الْبِنَاءُ مِقَدْارَ قَامَةٍ، فَنَفِدَ مَا عِنْدَهُ، وَمَا كَانَ
مَعَهُ مِنَ الْمَالِ، فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ كُوكُبُورِي بْنُ زَيْنِ
الدِّينِ صَاحِبُ إِرْبِلَ مَالًا جَزِيلًا لِيُتَمِّمَهُ بِهِ فَكَمَلَ،
وَأَرْسَلَ أَلْفَ دِينَارٍ لِيُسَاقَ بِهَا إِلَيْهِ الْمَاءُ مِنْ بَرْزَةَ،
فَلَمْ يُمَكِّنْ مِنْ ذَلِكَ الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ صَاحِبُ دِمَشْقَ
وَاعْتَذَرَ بِأَنَّ هَذَا يُشَوِّشُ قُبُورًا كَثِيرَةً لِلْمُسْلِمِينَ،
فَصُنِعَ لَهُ بِئْرٌ وَبَغْلٌ يَدُورُ، وَأُوقِفُ عَلَيْهِ وَقْفٌ لِذَلِكَ.
وَفِيهَا كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ وَخُطُوبٌ طَوِيلَةٌ بَيْنَ
الْخُوَارِزْمِيَّةِ وَالْغُورِيَّةِ بِبِلَادِ الْمَشْرِقِ، بَسَطَهَا ابْنُ
الْأَثِيرِ، وَاخْتَصَرَهَا ابْنُ كَثِيرٍ.
وَفِيهَا دَرَّسَ بِالنِّظَامِيَّةِ مَجْدُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ الرَّبِيعِ،
وَخُلِعَ عَلَيْهِ خِلْعَةٌ سَنِيَّةٌ سَوْدَاءُ وَطَرْحَةٌ كُحْلِيَّةٌ، وَحَضَرَ
عِنْدَهُ الْعُلَمَاءُ وَالْأَعْيَانُ. وَفِيهَا وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ
بِبَغْدَادَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ الْجِيلِيُّ، وَخُلِعَ
عَلَيْهِ أَيْضًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ
فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْقَاضِي ابْنُ الزَّكِيِّ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ أَبُو الْمَعَالِي الْقُرَشِيُّ، مُحْيِي الدِّينِ قَاضِي الْقُضَاةِ
بِدِمَشْقَ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ كَانَ قَاضِيًا ; أَبُوهُ وَجَدُّهُ وَأَبُو جَدِّهِ
يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ وَلِيَ الْحُكْمَ
بِدِمَشْقَ مِنْهُمْ، وَكَانَ جَدَّ الْحَافِظِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَسَاكِرَ
لِأُمِّهِ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي التَّارِيخِ، وَلَمْ يَزِدْ
عَلَى الْقُرَشِيِّ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ: وَلَوْ كَانَ أُمَوِيًّا
عُثْمَانِيًّا كَمَا يَزْعُمُونَ لَذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَسَاكِرَ، إِذْ كَانَ
فِيهِ شَرَفٌ لِجَدِّهِ وَخَالَيْهِ، مُحَمَّدٍ وَسُلْطَانَ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ
صَحِيحًا لَمَا خُفِيَ عَلَى ابْنِ عَسَاكِرَ.
اشْتَغَلَ ابْنُ الزَّكِيِّ عَلَى الْقَاضِي شَرَفِ الدِّينِ أَبِي سَعْدٍ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَصْرُونَ، وَنَابَ عَنْهُ فِي الْحُكْمِ،
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَرَكَ النِّيَابَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ بِالْقُدْسِ
لَمَّا فَتَحَهُ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي
سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ، ثُمَّ وَلَّاهُ قَضَاءَ دِمَشْقَ وَأَضَافَ إِلَيْهِ
قَضَاءَ حَلَبَ أَيْضًا، وَكَانَ نَاظِرَ أَوْقَافِ الْجَامِعِ، ثُمَّ عُزِلَ
قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشُهُورٍ، وَوَلِيَهَا شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْبَيْنِيِّ
ضَمَانًا، وَقَدْ كَانَ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ يَنْهَى
الطَّلَبَةَ عَنِ الِاشْتِغَالِ
بِالْمَنْطِقِ وَعِلْمِ
الْكَلَامِ، وَيُمَزِّقُ كُتُبَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
بِالْمَدْرَسَةِ التَّقَوِيَّةِ، وَكَانَ يَحْفَظُ الْعَقِيدَةَ الْمُسَمَّاةَ
بِالْمِصْبَاحِ لِلْغَزَالِيِّ، وَيُحَفِّظُهَا أَوْلَادَهُ أَيْضًا، وَكَانَ لَهُ
دَرْسٌ فِي التَّفْسِيرِ يَذْكُرُهُ بِالْكَلَّاسَةِ، تُجَاهَ تُرْبَةِ الْمَلِكِ
النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَكَانَ قَدْ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، فَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَاتَّخَذَ لَهُ بَابًا مِنْ دَارِهِ
إِلَى الْجَامِعِ ; لِيَخْرُجَ مِنْهُ إِلَى الصَّلَاةِ، ثُمَّ خُولِطَ فِي
عَقْلِهِ، فَكَانَ يَعْتَرِيهِ شِبْهُ الصَّرْعِ إِلَى أَنْ تُوفِّيَ فِي سَابِعِ
شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ فِي تُرْبَةٍ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ.
الْخَطِيبُ الدَّوْلَعِيُّ
ضِيَاءُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ زَيْدِ بْنِ يَاسِينَ
التَّغْلِبِيُّ الدَّوْلَعِيُّ، نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ بِالْمَوْصِلِ، يُقَالُ
لَهَا: الدَّوْلَعِيَّةُ. وُلِدَ بِهَا فِي سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ
وَخَمْسِمِائَةٍ، وَتَفَقَّهَ بِبَغْدَادَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ، فَسَمِعَ " التِّرْمِذِيَّ " عَلَى أَبِي الْفَتْحِ
الْكَرُوخِيِّ، وَ " النَّسَائِيَّ " عَلَى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ
بْنِ أَحْمَدَ الْيَزْدِيِّ، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ فَوَلِيَ بِهَا الْخَطَابَةَ
وَتَدْرِيسَ الْغَزَّالِيَّةَ، وَكَانَ زَاهِدًا مُتَوَرِّعًا، حَسَنَ
الطَّرِيقَةَ مَهِيبًا فِي الْحَقِّ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ،
وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ الصَّغِيرِ عِنْدَ قُبُورِ الشُّهَدَاءِ، وَكَانَ
يَوْمُ جِنَازَتِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَتَوَلَّى بَعْدَهُ الْخَطَابَةَ وَلَدُ
أَخِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ زَيْدٍ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً،
وَقَدْ كَانَ ابْنُ الزَّكِيِّ وَلَّى وَلَدَهُ
الزَّكِيَّ الطَّاهِرَ،
فَصَلَّى صَلَاةً وَاحِدَةً، فَتَشْفَّعَ جَمَالُ الدِّينِ بِالْأَمِيرِ فَلَكِ
الدِّينِ أَخِي الْعَادِلِ، فَوَلَّاهُ إِيَّاهَا فَبَقِيَ فِيهَا إِلَى أَنْ
تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ.
الشَّيْخُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غُلَيْسٍ
الْيَمَنِيُّ الْعَابِدُ الزَّاهِدُ، كَانَ مُقِيمًا شَرْقِيَّ الْكَلَّاسَةِ،
وَكَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ، نَقَلَهَا الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ
السَّخَاوِيُّ عَنْهُ، وَسَاقَهَا أَبُو شَامَةَ عَنْهُ فِي " الذَّيْلِ
".
الصَّدْرُ أَبُو الثَّنَاءِ حَمَّادُ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ حَمَّادٍ
الْحَرَّانَيُّ التَّاجِرُ
وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، عَامَ وُلِدَ نُورُ الدِّينِ بْنُ زَنْكِيٍّ،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ بِبَغْدَادَ وَمِصْرَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ،
وَحَدَّثَ، وَتُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ.
وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
تَنَقُّلُ الْمَرْءِ فِي الْآفَاقِ يُكْسِبُهُ مَحَاسِنًا لَمْ تَكُنْ فِيهِ
بِبَلْدَتِهِ أَمَا تَرَى بَيْذَقَ الشِّطْرَنْجِ أَكْسَبَهُ
حُسْنُ التَّنَقُّلِ فِيهَا فَوْقَ رُتْبَتِهِ
السِّتُّ الْجَلِيلَةُ الْمَصُونَةُ بَنَفْشَا بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ
عَتِيقَةُ الْإِمَامِ
الْمُسْتَضِيءِ، كَانَتْ
مِنْ أَكْبَرِ حَظَايَاهُ، ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَهُ مِنْ أَكْثَرِ النِّسَاءِ
صَدَقَةً وَبِرًّا وَإِحْسَانًا إِلَى الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، لَهَا
بِطَرِيقِ الْحِجَازِ مَعْرُوفٌ كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ، وَوَقَفَتْ مَدْرَسَةً عَلَى
الْحَنَابِلَةِ وَأَوْقَافًا دَارَّةً، وَدُفِنَتْ بِبَغْدَادَ عِنْدَ تُرْبَةِ
مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ
ابْنُ الْمُحْتَسِبِ الشَّاعِرُ أَبُو الشُّكْرِ مَحْمُودُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ
سَعِيدَ الْمَوْصِلِيُّ
، يُعْرَفُ بِابْنِ الْمُحْتَسِبِ تَفَقَّهَ بِبَغْدَادَ ثُمَّ سَافَرَ إِلَى
الْبِلَادِ وَصَحِبَ ابْنَ الشَّهْرُزُورِيِّ وِقَدِمَ مَعَهُ، فَلَمَّا وُلِّيَ
قَضَاءَ بَغْدَادَ وَلَّاهُ نَظَرَ أَوْقَافِ النِّظَامِيَّةِ، وَكَانَ فَاضِلًا
يَقُولُ الشِّعْرَ الرَّائِقَ، فَمِنْ ذَلِكَ:
أَسْلَفَ لَنَا فِي سُلَافَةِ الْعِنَبِ جَمِيعَ مَا يُقْتَنَى مِنَ الذَّهَبِ
وَانَشَبْ مَعَ النَّفْسِ فِي مُعَامَلَةٍ فِيهَا بِمَا عِنْدَنَا مِنَ النَّشَبِ
جَمِيعُ مَا فِي الْهِمْيَانِ يَحْقِرُهُ الْ عَاقِلُ فِي لَثْمِ رِيقِهَا
الشَّنِبِ
لَا سِيَّمَا إِنْ أَتَتْكَ كَالذَّهَبِ قَدْ قَلَّدُوهَا عِقْدًا مِنَ الْحَبَبِ
تُحْرَقُ كَفُّ الْمُدِيرِ إِنْ وَقَفَ الدَّ وْرُ بِهَا سَاعَةً مِنَ اللَّهَبِ
إِذَا بَدَا هَمُّنَا لِيَسْتَرِقَ السَّمْ عَ بِرِفْقٍ لِلَّهْوِ وَاللَّعِبِ
تُتْبِعُهُ مِنْ سَمَاءِ
رَاوُوقِهَا الرَّا ئِقِ رَجْمًا بِالْأَنْجُمِ الشُّهُبِ
مَا قَطُّ تَبَّتْ يَدٌ لِشَارِبِهَا وَحَقِّ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبِ
أَمُرُّ بِالْكَرْمِ خَلْفَ حَائِطِهِ تَأْخُذُنِي نَشْوَةٌ مِنَ الطَّرَبِ
أَسْكَرُ بِالْأَمْسِ إِنْ عَزَمْتُ عَلَى الشُّرْ بِ غَدًا إِنَّ ذَا مِنَ
الْعَجَبِ
جَنَّبَهَا سُكْرَهَا وَصُحْبَتَهَا تَحْرِيمُ شَرْعٍ لِسَيِّدِ الْعَرَبِ
تَرَكْتُهَا جَانِبًا وَلُذْتُ إِلَى ظِلِّ إِمَامٍ مُنْجٍ مِنَ النُّوَبِ
الطَّاهِرِ الطُّهْرِ وَابْنِ خَيْرِ فَتًى وَطَاهِرِ الْخُلْقِ طَاهِرِ النَّسَبِ
مَاذَا يَقُولُ الْمَدَّاحُ فِي رَجُلٍ خَلِيفَةُ اللَّهِ وَابْنُ عَمِّ نَبِي
وَمِنْ شِعْرِهِ الرَّائِقِ لَهُ أَيْضًا:
أَهَابُ وَصْفَ الْخَمْرِ فِي إِهَابِهَا يَا حَبَّذَا مَا كَانَ مِنْ مُهَابِهَا
حَبَا بِهَا السَّاقِي وَقَدْ أَقْعَدَهُ سُكْرٌ فَزَادَ السُّكْرُ إِذْ حَبَا
بِهَا
خَطَا بِهَا وَثِيقَةً شَرْعِيَّةً عَلَى الَّذِي يُفْلِسُ مِنْ خُطَّابِهَا
دَعَا بِهَا فِي صَدْرِ كُلِّ بَاخِلٍ وَخَلِّيَا مِنْ كُلِّ مَنْ دَعَا بِهَا
فَتَا بِهَا قَلْبَ الْحَسُودِ وَاشْكُرَا كُلَّ فَتًى فِي النَّاسِ قَدْ فَتَا
بِهَا
اعْنَ بِهَا يَا أَيُّهَا الْمُغْرَى بِهَا وَأَسْلِفِ النُّضَارَ فِي
أَعْنَابِهَا
ثَوَى بِهَا كُلُّ السُّرُورِ عِنْدَنَا وَإِثْمُهَا أَكْبَرُ مِنْ ثَوَابِهَا
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
قَالَ سِبْطُ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمِرْآةِ ": فِي لَيْلَةِ
السَّبْتِ سَلْخِ الْمُحْرَّمِ هَاجَتِ النُّجُومُ فِي السَّمَاءِ وَمَاجَتْ
شَرْقًا وَغَرْبًا، وَتَطَايَرَتْ كَالْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ يَمِينًا
وَشِمَالًا، قَالَ: وَلَمْ يُرَ مِثْلُ هَذَا إِلَّا فِي عَامِ الْمَبْعَثِ وَفِي
سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ شُرِعَ فِي عِمَارَةِ سُورِ قَلْعَةِ دِمَشْقَ وَابْتُدِئَ
بِبُرْجِ الزَّاوِيَةِ الْغَرْبِيَّةِ الْقِبْلِيَّةِ الْمُجَاوِرِ لِبَابِ
النَّصْرِ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ الْخِلَعَ وَسَرَاوِيلَاتِ
الْفُتُوَّةِ لِلْمَلِكِ الْعَادِلِ وَبَنِيهِ. وَفِيهَا بَعَثَ الْعَادِلُ
وَلَدَهُ الْأَشْرَفَ مُوسَى لِمُحَاصَرَةِ مَارِدِينَ وَسَاعَدَهُ جَيْشُ
سَنْجَارَ وَالْمَوْصِلِ، ثُمَّ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى يَدَيِ الظَّاهِرِ عَلَى أَنْ
يَحْمِلَ صَاحِبُ مَارِدِينَ لِلْعَادِلِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفٍ
وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَنْ تَكُونَ السِّكَّةُ وَالْخُطْبَةُ
لِلْعَادِلِ، وَأَنَّهُ مَتَى طَلَبَهُ بِجَيْشِهِ يَحْضُرُ إِلَيْهِ.
وَفِيهَا كَمَلَ بِنَاءُ رِبَاطِ الْمَرْزُبَانِيَّةِ، وَوَلِيَهُ الشَّيْخُ
شِهَابُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ السُّهْرَوَرْدِيُّ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ
مِنَ الصُّوفِيَّةِ، وَرُتِّبَ لَهُمْ مِنَ الْمَعْلُومِ وَالْجِرَايَةِ مَا
يَنْبَغِي لِمَثْلِهِمْ
مِنْ إِقَامَتِهِمْ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَفِيهَا احْتَجَرَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْمَلِكِ
الْعَزِيزِ وَإِخْوَتِهِ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الرُّهَا خَوْفًا مِنْ
إِقَامَتِهِمْ بِمِصْرَ. وَفِيهَا اسْتَحْوَذَتِ الْكُرْجُ عَلَى مَدِينَةِ
دَوِينَ، فَقَتَلُوا أَهْلَهَا وَنَهَبُوهَا، وَهِيَ مِنْ بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ،
وَذَلِكَ لِاشْتِغَالِ مَلِكِهَا بِالْفِسْقِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ - قَبَّحَهُ
اللَّهُ - فَتَحَكَّمَتِ الْكَفَرَةُ مِنْ رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِهِ،
وَذَلِكَ كُلُّهُ غُلٌّ فِي عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمَلِكُ غِيَاثُ الدِّينِ الْغُورِيُّ أَخُو شِهَابِ
الدِّينِ
فَقَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ مَحْمُودٌ، وَتَلَقَّبَ بِلَقَبِ
أَبِيهِ، وَكَانَ غِيَاثُ الدِّينِ عَاقِلًا حَازِمًا شُجَاعًا، لَمْ تُكْسَرْ
لَهُ رَايَةٌ قَطُّ مَعَ كَثْرَةِ حُرُوبِهِ، وَكَانَ شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ،
قَدِ ابْتَنَى مَدْرَسَةً هَائِلَةً لِلشَّافِعِيَّةِ، وَكَانَتْ سِيرَتُهُ فِي
غَايَةِ الْجَوْدَةِ، وَكَذَا سَرِيرَتُهُ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ فَلَكُ الدِّينِ، أَبُو مَنْصُورٍ سُلَيْمَانُ بْنُ
شَرْوَةَ بْنِ خَلْدَكَ أَخُو الْمَلِكِ الْعَادِلِ لِأُمِّهِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ
بِدَارِهِ الَّتِي
جَعَلَهَا مَدْرَسَةً دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ فِي مَحَلَّةِ الْأَفْتَرِيسِ،
وَأَوْقَفَ عَلَيْهَا الْجُمَانَ بِكَمَالِهَا؛ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ.
الْقَاضِي الضِّيَاءُ الشَّهْرُزُورِيُّ
أَبُو الْفَضَائِلِ، الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ
الشَّهْرُزُورِيُّ الْمَوْصِلِيُّ، قَاضِي الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ، وَهُوَ ابْنُ
أَخِي قَاضِي الْقُضَاةِ بِدِمَشْقَ كَمَالِ الدَّيْنِ الشَّهْرُزُورِيِّ أَيَّامَ
نُورِ الدِّينِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ فِي أَيَّامِ
الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ أَوْصَى لِوَلَدِ أَخِيهِ هَذَا بِالْقَضَاءِ فَوَلِيَهُ،
ثُمَّ عُزِلَ عَنْهُ بِابْنِ أَبِي عَصْرُونَ، وَعُوِّضَ بِالسِّفَارَةِ إِلَى
الْمُلُوكِ، ثُمَّ تَوَلَّى قَضَاءَ بَلْدَةِ الْمَوْصِلِ، ثُمَّ اسْتُدْعِيَ
إِلَى بَغْدَادَ فَوَلِيَهَا سَنَتَيْنِ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ
اسْتَقَالَهُ فَلَمْ يُقِلْهُ الْخَلِيفَةُ لِحُظْوَتِهِ عِنْدَهُ، فَاسْتَشْفَعَ
بِزَوْجَتِهِ سِتِّ الْمُلُوكِ عَلَى أُمِّ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَتْ لَهَا
مَكَانَةٌ عِنْدَهَا، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، فَصَارَ إِلَى قَضَاءِ حَمَاةَ
لِمَحَبَّتِهِ إِيَّاهَا، وَكَانَ يُعَابُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَكَانَتْ لَدَيْهِ
فَضَائِلُ، وَلَهُ أَشْعَارٌ رَائِقَةٌ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِحَمَاةَ فِي
الْمُنْتَصَفِ مِنْ رَجَبٍ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ حَمْزَةَ
أَبُو بَكْرٍ الْبَغْدَادِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمَرَسْتَانِيَّةِ، أَحَدُ
الْفُضَلَاءِ الْمَشْهُورِينَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَجَمَعَهُ، وَكَانَ طَبِيبًا
مُنَجِّمًا يَعْرِفُ عُلُومَ الْأَوَائِلِ وَأَيَّامَ النَّاسِ، وَصَنَّفَ
دِيوَانَ الْإِسْلَامِ فِي تَارِيخِ دَارِ السَّلَامِ،
وَرَتَّبَهُ عَلَى
ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ كِتَابًا إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُشْتَهَرْ، وَجَمَعَ
سِيرَةَ ابْنِ هُبَيْرَةَ وَقَدْ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ
الصِّدِّيقِ، فَتَكَلَّمُوا فِيهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَأَنْشْدَ بَعْضُهُمْ:
دَعِ الْأَنْسَابَ لَا تَعْرِضْ لِتَيْمٍ فَإِنَّ الْهُجْنَ مِنْ وَلَدِ
الصَّمِيمِ لَقَدْ أَصْبَحْتَ مِنْ تَيْمٍ دَعِيًّا
كَدَعْوَى حَيْصَ بَيْصَ إِلَى تَمِيمِ
ابْنُ النَّجَا الْوَاعِظُ
عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَجَا، زَيْنُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ
الدِّمَشْقِيُّ، الْوَاعِظُ الْحَنْبَلِيُّ، وَسِبْطُ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ
الشِّيرَازِيِّ الْحَنْبَلِيِّ. قَدِمَ بَغْدَادَ فَتَفَقَّهَ بِهَا، وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا رَسُولًا مِنْ
جِهَةِ نُورِ الدِّينِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَحَدَّثَ بِهَا، ثُمَّ
كَانَتْ لَهُ حُظْوَةٌ عِنْدَ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَهُوَ
الَّذِي نَمَّ عَلَى عُمَارَةَ الْيَمَنِيِّ وَذَوِيهِ فَصُلِبُوا، وَكَانَتْ لَهُ
مَكَانَةٌ بِمِصْرَ، وَقَدْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الَّتِي خَطَبَ فِيهَا
بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ وَقْتًا
مَشْهُودًا، وَكَانَ يَعِيشُ عَيْشًا أَطْيَبَ مِنْ عَيْشِ الْمُلُوكِ فِي
الْأَطْعِمَةِ وَالْمَلَابِسِ، وَكَانَ عِنْدَهُ عِشْرُونَ سُرِّيَّةً، كُلُّ
وَاحِدَةٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ مَاتَ فَقِيرًا لَمْ
يَخْلُفْ كَفَنًا، وَقَدْ أَنْشَدَ وَهُوَ عَلَى مِنْبَرِهِ لِلْوَزِيرِ طَلَائِعَ
بْنِ رُزِّيكَ شِعْرًا فَقَالَ:
مَشِيبُكَ قَدْ قَضَى صَبْغَ الشَّبَابِ وَحَلَّ الْبَازُ فِي وَكْرِ الْغُرَابِ
تَنَامُ وَمُقْلَةُ
الْحَدَثَانِ يَقْظَى وَمَا نَابُ النَّوَائِبِ عَنْكَ نَابِ
وَكَيْفَ بَقَاءُ عُمْرِكَ وَهُوَ كَنْزٌ وَقَدْ أَنْفَقْتَ مِنْهُ بِلَا حِسَابِ
الشَّيْخُ أَبُو الْبَرَكَاتِ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ التَّكْرِيتِيُّ يُعْرَفُ بِالْمُؤَيَّدِ،
كَانَ أَدِيبًا شَاعِرًا، وَمِمَّا نَظَمَهُ فِي الْوَجِيهِ النَّحْوِيِّ - حِينَ
كَانَ حَنْبَلِيًّا، فَانْتَقَلَ حَنَفِيًّا، ثُمَّ صَارَ شَافِعِيًّا - فِي
حَلْقَةِ النَّحْوِ بِالنِّظَامِيَّةِ:
أَلَا مُبْلِغٌ عَنِّي الْوَجِيهَ رِسَالَةً وَإِنْ كَانَ لَا تُجْدِي لَدَيْهِ
الرَّسَائِلُ
تَمَذْهَبْتَ لِلنُّعْمَانِ بَعْدَ ابْنِ حَنْبَلٍ وَذَلَكَ لَمَّا أَعْوَزَتْكَ
الْمَآكِلُ
وَمَا اخْتَرْتَ رَأْيَ الشَّافِعِيِّ تَدَيُّنًا وَلَكِنَّمَا تَهْوَى الَّذِي
هُوَ حَاصِلٌ
وَعَمَّا قَلِيلٍ أَنْتَ لَا شَكَّ صَائِرٌ إِلَى مَالِكٍ فَافْطِنْ لِمَا أَنْتَ
قَائِلُ
؟
السِّتُّ الْجَلِيلِيةُ الْمَصُونَةُ زُمُرُّدُ خَاتُّونَ
أُمُّ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ بْنِ الْمُسْتَضِيءِ، كَانَتْ
صَالِحَةً عَابِدَةً كَثِيرَةَ الْبِرِّ وَالصِّلَاتِ وَالْأَوْقَافِ
وَالصَّدَقَاتِ، عَمَّرَتِ
الْمَصَانِعَ بِطَرِيقِ الْحِجَازِ الشَّرِيفِ، وَأَصْلَحَتِ الطُّرُقَاتِ،
وَبَنَتْ لَهَا تُرْبَةً إِلَى جَانِبِ قَبْرِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ، وَكَانَتْ
جِنَازَتُهَا مَشْهُودَةً جِدًّا، وَاسْتَمَرَّ الْعَزَاءُ بِسَبَبِهَا شَهْرًا،
عَاشَتْ فِي خِلَافَةِ وَلَدِهَا أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً نَافِذَةَ الْكَلِمَةِ
مُطَاعَةَ الْأَوَامِرِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ مَوْلِدُ الشَّيْخِ شِهَابِ - الدِّينِ أَبِي
شَامَةَ، وَقَدْ تَرْجَمَ نَفْسَهُ عِنْدَ ذِكْرِ مَوْلِدِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
فِي " الذَّيْلِ " تَرْجَمَةً مُطَوَّلَةً، فَيُنْقَلُ إِلَى سَنَةِ
وَفَاتِهِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَذَكَرَ بَدْءَ أَمْرِهِ وَاشْتِغَالِهِ،
وَمُصَنَّفَاتِهِ وَشَيْئًا كَثِيرًا مِنْ أَشْعَارِهِ، وَمَا رُئِيَ لَهُ مِنَ
الْمَنَامَاتِ الْمُبَشِّرَةِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ ابْتِدَاءُ مَلِكِ
جِنْكِزْخَانَ مَلِكِ التَّتَارِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَجِنْكِزْخَانُ هُوَ
صَاحِبُ الْيَاسِقِ، وَضَعَهَا لِيَتَحَاكَمَ إِلَيْهَا التَّتَارُ وَمَنِ
اتَّبَعَهُمْ مِنْ أُمَرَاءِ التُّرْكِ - مِمَّنْ يَبْتَغِي حُكْمَ
الْجَاهِلِيَّةِ - وَهُوَ وَالِدُ تُولِي، وَجَدُّ هُولَاكُو بْنِ تُولِي -
الَّذِي قَتَلَ الْخَلِيفَةَ الْمُسْتَعْصِمَ وَأَهْلَ بَغْدَادَ فِي سَنَةِ سِتٍّ
وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
سَنَةُ سِتِّمِائَةٍ مِنَ
الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتِ الْفِرِنْجُ قَدْ جَمَعُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْهُمْ
لِيَسْتَعِيدُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - فِيمَا كَانُوا
زَاعِمِينَ - فَأَشْغَلَهُمُ اللَّهُ بِقِتَالِ الرُّومِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُمُ
اجْتَازُوا فِي طَرِيقِهِمْ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَوَجَدُوا مُلُوكَهَا قَدِ
اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَحَاصَرُوهَا حَتَّى فَتَحُوهَا قَسْرًا،
وَأَبَاحُوهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَتْلًا وَأَسْرًا، وَاحْتَرَقَ أَكْثَرُ مِنْ
رُبْعِهَا، وَمَا أَصْبَحَ أَحَدٌ مِنَ الرُّومِ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ إِلَّا
قَتِيلًا أَوْ فَقِيرًا أَوْ مَكْبُولًا أَوْ أَسِيرًا، وَلَجَأَ عَامَّةُ مَنْ
بَقِيَ مِنْهَا إِلَى كَنِيسَتِهَا الْعُظْمَى الْمُسَمَّاةِ بِصُوفِيَا،
فَقَصَدَهَا الْفِرِنْجُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْقِسِّيسُونَ بِالْأَنَاجِيلِ ;
لِيَتَوَسَّلُوا إِلَيْهِمْ وَيَتْلُوا عَلَيْهِمْ، فَمَا الْتَفَتُوا إِلَى
شَيْءٍ مِمَّا وَاجَهُوهُمْ بِهِ، بَلْ قَتَلُوهُمْ أَجْمَعِينَ أَكْتَعِينَ
أَبْصَعِينَ، وَأَخَذُوا مَا كَانَ فِي الْكَنِيسَةِ مِنَ الْحُلِيِّ
وَالْأَذْهَابِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلَا تُعَدُّ، وَأَخَذُوا مَا
كَانَ عَلَى الصُّلْبَانِ وَالْحِيطَانِ؛ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمَنِ، الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
ثُمَّ اقْتَرَعَ مُلُوكُ الْفِرِنْجِ وَكَانُوا ثَلَاثَةً ; وَهُمْ دُوقَسُ
الْبَنَادِقَةِ، وَكَانَ شَيْخًا أَعْمَى تُقَادُ فَرَسُهُ، وَمَرْكِيسُ
الْإِفْرَنْسِيسُ، وَكَنَدُ أَفْلِنَدُ، وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ عَدَدًا وَعُدَدًا،
فَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَوَلَّوْهُ مُلْكَ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ
وَأَخَذَ الْمَلِكَانِ
الْآخَرَانِ بَعْضَ الْبِلَادِ، وَتَحَوَّلَ الْمُلْكُ مِنَ الرُّومِ إِلَى
الْفِرِنْجِ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُلِ اللَّهُمَّ
مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ
تَشَاءُ وَلَمْ يَبْقَ بِأَيْدِي الرُّومِ هُنَاكَ إِلَّا مَا وَرَاءَ الْخَلِيجِ،
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الرُّومِ يُقَالُ لَهُ: لَشْكُرِي. لَمْ يَزَلْ
مَالِكًا لِتِلْكَ النَّاحِيَةِ حَتَّى تُوُفِّيَ؛ لَعَنَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ قَصَدُوا بِلَادَ الشَّامِ وَقَدْ تَقَوَّوْا
بِمُلْكِهِمُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ فَنَزَلُوا عَكَّا وَأَغَارُوا عَلَى كَثِيرٍ
مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ نَاحِيَةِ الْغُورِ وَتِلْكَ الْأَرَاضِي
فَقَتَلُوا وَسَبَوْا، فَنَهَضَ إِلَيْهِمُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ وَكَانَ
بِدِمَشْقَ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - وَاسْتَدْعَى بِالْجُيُوشِ الْمِصْرِيَّةِ
وَالْمَشْرِقِيَّةِ، وَنَازَلَهُمْ بِالْقُرْبِ مِنْ عَكَّا فَكَانَ بَيْنَهُمْ
قِتَالٌ شَدِيدٌ وَمُصَابِرَةٌ عَظِيمَةٌ، ثُمَّ وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمْ
وَالْهُدْنَةُ، وَأَطْلَقَ لَهُمْ شَيْئًا مِنَ الْبُلْدَانِ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ جَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ الْخُوَارِزْمِيَّةِ
وَالْغُورِيَّةِ بِالْمَشْرِقِ يَطُولُ ذِكْرُهَا.
وَفِيهَا تَحَارَبَ نُورُ الدِّينِ - صَاحِبُ الْمَوْصِلِ - وَقُطْبُ الدِّينِ
مُحَمَّدُ بْنُ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ - صَاحِبُ سَنْجَارَ - وَسَاعَدَ
الْأَشْرَفُ بْنُ الْعَادِلِ الْقُطْبَ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ،
وَتَزَوَّجَ الْأَشْرَفُ أُخْتَ نُورِ الدِّينِ، وَهِيَ الْأَتَابِكِيَّةُ بِنْتُ
عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودِ بْنِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ، وَاقِفَةُ الْمَدْرَسَةِ
الَّتِي بِالسَّفْحِ، وَبِهَا تُرْبَتُهَا.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ
وَقُبْرُسَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ ;
قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ
فِي " كَامِلِهِ ".
وَفِيهَا تَغَلَّبَ رَجُلٌ مِنَ التُّجَّارِ يُقَالُ لَهُ: مَحْمُودُ بْنُ
مُحَمَّدِ الْحِمْيَرِيُّ عَلَى بَعْضِ بِلَادِ حَضْرَمَوْتَ ; ظِفَارَ
وَغَيْرِهَا، وَاسْتَمَرَّتْ أَيَّامُهُ إِلَى سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ
وَسِتِّمِائَةٍ وَمَا بَعْدَهَا.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا عُقِدَ مَجْلِسٌ لِقَاضِي الْقُضَاةِ
بِبَغْدَادَ، وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سُلَيْمَانَ الْحَلَبِيُّ بِدَارِ الْوَزِيرِ، وَثَبَتَ عَلَيْهِ مَحْضَرٌ
بِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الرُّشَا، فَعُزِلَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَفُسِّقَ،
وَنُزِعَتِ الطَّرْحَةُ عَنْ رَأْسِهِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَتِهِ سَنَتَيْنِ
وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمَلِكِ رُكْنِ الدِّينِ بْنِ قِلْجِ أَرَسْلَانَ،
صَاحِبِ بِلَادِ الرُّومِ مَا بَيْنَ مَلَطْيَةَ وَقُونِيَةَ، وَكَانَتْ فِيهِ
شَهَامَةٌ وَصَرَامَةٌ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُنْسَبُ إِلَى اعْتِقَادِ
الْفَلَاسِفَةِ، وَكَانَ كَهْفًا لِمَنْ يُنْسَبُ إِلَى ذَلِكَ، وَمَلْجَأً
لَهُمْ، وَظَهَرَ مِنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ تَجَهُّمٌ عَظِيمٌ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ
حَاصَرَ أَخَاهُ شَقِيقَهُ - وَكَانَ صَاحِبَ أَنْكُورِيَةَ، وَتُسَمَّى أَيْضًا:
أَنْقِرَةَ - مُدَّةَ سَنَتَيْنِ حَتَّى ضَيَّقَ عَلَيْهِ الْأَقْوَاتَ بِهَا،
فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ قَسْرًا، عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بَعْضَ الْبِلَادِ،
فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْهُ وَمِنْ أَوْلَادِهِ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مَنْ
قَتَلَهُمْ غَدْرًا وَخَدِيعَةً وَمَكْرًا، فَلَمْ يُنْظَرْ إِلَّا خَمْسَةَ أَيَّامٍ
حَتَّى ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقُولَنْجِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَمَاتَ فَمَا
بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ وَأُقِيمَ
بَعْدَهُ فِي الْمُلْكِ وَلَدُهُ قِلْجُ أَرْسَلَانَ، وَكَانَ صَغِيرًا فَبَقِيَ
سَنَةً
وَاحِدَةً، ثُمَّ نُزِعَ
مِنْهُ الْمُلْكُ أَيْضًا، وَصَارَ إِلَى عَمِّهِ كَيْخَسْرُو.
وَفِيهَا قُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ بِوَاسِطٍ؛ وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِي رَجَبٍ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ
بِرِبَاطٍ بِبَغْدَادَ فِي سَمَاعٍ، فَأَنْشَدَهُمُ الْحَادِي، وَهُوَ الْجَمَّالُ
الْحِلِّيُّ:
عُوَيْذِلَتِي أَقْصِرِي كَفَى بِمَشِيبِي عَذَلْ شَبَابٌ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ
وَشِيبٌ كَأَنْ لَمْ يَزَلْ وَحَقِّ لَيَالِي الْوِصَالِ
أَوَاخِرُهَا وَالْأُوَلْ وَصُفْرَةُ لَوَنِ الْمُحِبِّ
عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْعَذَلْ لَئِنْ عَادَ عَيْشِي بِكُمْ
حَلَا الْعَيْشُ لِي وَاتَّصَلْ
قَالَ: فَتَحَرَّكَ الصُّوفِيَّةُ عَلَى الْعَادَةِ فَتَوَاجَدَ مِنْ بَيْنِهِمْ
رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الرَّازِيُّ، فَخَرَّ مَغْشِيًّا
عَلَيْهِ، فَحَرَّكُوهُ فَإِذَا هُوَ مَيِّتٌ. قَالَ: وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا،
وَقَالَ ابْنُ السَّاعِي: كَانَ شَيْخًا صَالِحًا صَحِبَ الصَّدْرَ عَبْدَ
الرَّحِيمِ شَيْخَ الشُّيُوخِ. فَشَهِدَ النَّاسُ جِنَازَتَهُ، وَدُفِنَ بِبَابِ
أَبْرَزَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بَهَاءُ الدِّينٍ
الْحَافِظُ ابْنُ الْحَافِظِ أَبِي الْقَاسِمِ
عَلِيُّ بْنُ هِبَةِ
اللَّهِ بْنِ عَسَاكِرَ، كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ، أَسْمَعَهُ أَبُوهُ الْكَثِيرَ، وَشَارَكْ أَبَاهُ فِي أَكْثَرِ
مَشَايِخِهِ، وَكَتَبَ تَارِيخَ أَبِيهِ مَرَّتَيْنِ بِخَطِّهِ، وَكَتَبَ
الْكَثِيرَ، وَأَسْمَعَ، وَصَنَّفَ كُتُبًا عِدَّةً، وَخَلَفَ أَبَاهُ فِي
إِسْمَاعِ الْحَدِيثِ بِالْجَامِعِ، وَدَارِ الْحَدِيثِ النُّورِيَّةِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَامِنِ صَفَرٍ، وَدُفِنَ بَعْدَ الْعَصْرِ
عَلَى أَبِيهِ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ شَرْقِيَّ قُبُورِ الصَّحَابَةِ
خَارِجَ الْحَظِيرَةِ؛ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيُّ
عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سُرُورٍ، الْحَافِظُ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ، مِنْ
ذَلِكَ: " الْكَمَالُ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ " وَ "
الْأَحْكَامُ الْكُبْرَى " وَ " الصُّغْرَى " وَغَيْرُ ذَلِكَ،
وُلِدَبِجَمَّاعِيلَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ، وَهُوَ أَسُنُّ مِنَ ابْنِ خَالَتِهِ الْإِمَامِ مُوَفَّقِ
الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ قُدَامَةَ الْمَقْدِسِيِّ،
بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَ قُدُومُهُمَا مَعَ أَهْلِهِمَا مِنْ بَيْتِ
الْمَقَدْسِ إِلَى مَسْجِدِ أَبِي صَالِحٍ أَوَّلًا، ثُمَّ انْتَقَلُوا إِلَى
السَّفْحِ فَعُرِفَتِ الْمَحَلَّةُ بِهِمْ، فَقِيلَ لَهَا: الصَّالِحِيَّةُ.
فَسَكَنُوا الدَّيْرَ، وَقَرَأَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ الْقُرْآنَ،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَارْتَحَلَ هُوَ وَالْمُوَفَّقُ إِلَى بَغْدَادَ سَنَةَ
سِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَأَنْزَلَهُمَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ عِنْدَهُ
فِي الْمَدْرَسَةِ، وَكَانَ لَا يَتْرُكُ أَحَدًا يَنْزِلُ عِنْدَهُ، وَلَكِنَّهُ
تَوَسَّمَ فِيهِمَا النَّجَابَةَ وَالْخَيْرَ
وَالصَّلَاحَ،
فَأَكْرَمَهُمَا وَأَسْمَعَهُمَا، ثُمَّ تُوفِّيَ بَعْدَ مَقْدَمِهِمَا
بِخَمْسِينَ لَيْلَةً.
وَكَانَ مَيْلُ عَبْدِ الْغَنِيِّ إِلَى الْحَدِيثِ وَأَسْمَاءِ الرِّجَالِ،
وَمَيْلُ الْمُوَفَّقِ إِلَى الْفِقْهِ، وَاشْتَغَلَا عَلَى الشَّيْخِ أَبِي
الْفَرَجِ ابْنِ الْمَنِّيِّ، ثُمَّ قَدِمَا دِمَشْقَ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ،
فَدَخَلَ عَبْدُ الْغَنِيِّ إِلَى مِصْرَ وَإِسْكَنْدَرِيَّةَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى
دِمَشْقَ ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى الْجَزِيرَةِ وَبَغْدَادَ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى
أَصْبَهَانَ فَسَمِعَ بِهَا الْكَثِيرَ، وَوَقَفَ عَلَى مُصَنَّفٍ لِلْحَافِظِ
أَبِي نُعَيْمٍ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ - قُلْتُ: وَهُوَ عِنْدِي بِخَطِّ
أَبِي نُعَيْمٍ - فَأَخَذَ فِي مُنَاقَشَتِهِ فِي أَمَاكِنَ مِنَ الْكِتَابِ فِي
مِائَةٍ وَتِسْعِينَ مَوْضِعًا، فَغَضِبَ بَنُو الْخُجَنْدِيِّ مِنْ ذَلِكَ،
وَتَعَصَّبُوا عَلَيْهِ وَأَخْرَجُوهُ مِنْهَا مُخْتَفِيًّا فِي إِزَارٍ.
وَلَمَّا دَخَلَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ سَمِعَ كِتَابَ الْعُقَيْلِيِّ
فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، فَثَارَ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ بِسَبَبِ أَبِي
حَنِيفَةَ، فَخَرَجَ مِنْهَا أَيْضًا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، فَلَمَّا وَرَدَ
دِمَشْقَ كَانَ يَقْرَأُ الْحَدِيثَ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِرِوَاقِ
الْحَنَابِلَةِ مِنْ جَامِعِ دِمَشْقَ فَيَجْتَمِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَكَانَ
رَقِيقَ الْقَلْبِ، سَرِيعَ الدَّمْعَةِ، فَحَصَلَ لَهُ قَبُولٌ، فَحَسَدَهُ
الدَّمَاشِقَةُ، وَجَهَّزُوا النَّاصِحَ ابْنَ الْحَنْبَلِيِّ، فَتَكَلَّمَ تَحْتَ
النَّسْرِ، حَتَّى يُشَوِّشَ عَلَيْهِ، فَحَوَّلَ عَبْدُ الْغَنِيِّ مِيعَادَهُ
إِلَى بَعْدَ الْعَصْرِ، فَذَكَرَ يَوْمًا عَقِيدَتَهُ عَلَى الْكُرْسِيِّ، فَثَارَ
عَلَيْهِ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ ابْنُ الزَّكِيِّ، وَالْخَطِيبُ ضِيَاءُ
الدِّينِ الدَّوْلَعِيُّ، وَعُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ فِي الْقَلْعَةِ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ
وَتِسْعِينَ.
وَتَكَلَّمُوا مَعَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعُلُوِّ وَمَسْأَلَةِ النُّزُولِ،
وَمَسْأَلَةِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ،
وَطَالَ الْكَلَامُ،
حَتَّى قَالَ لَهُ الصَّارِمُ بُزْغُشُ وَالِي الْقَلْعَةِ: كُلُّ هَؤُلَاءِ عَلَى
الضَّلَالَةِ، وَأَنْتَ عَلَى الْحَقِّ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَغَضِبَ بُزْغُشُ مِنْ
ذَلِكَ وَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْبَلَدِ.
فَارْتَحَلَ بَعْدَ ثَلَاثٍ إِلَى بَعْلَبَكَّ ثُمَّ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، فَآوَاهُ الطَّحَّانُونَ، فَكَانَ يَقْرَأُ الْحَدِيثَ بِهَا،
فَثَارَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ بِمِصْرَ أَيْضًا، وَكَتَبُوا إِلَى الْوَزِيرِ
صَفِيِّ الدِّينِ بْنِ شُكْرٍ، فَأَقَرَّ بِنَفْيِهِ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَمَاتَ
قَبْلَ وُصُولِ الْكِتَابِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ
بِالْقَرَافَةِ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ؛ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ.
قَالَ السِّبْطُ: وَكَانَ وَرِعًا زَاهِدًا عَابِدًا، يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ
ثَلَاثَمِائَةِ رَكْعَةٍ، كَوِرْدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ،
وَيَصُومُ عَامَّةَ السَّنَةِ، وَكَانَ كَرِيمًا جَوَادًا لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا،
وَيَتَصَدَّقُ عَلَى الْأَرَامِلِ وَالْأَيْتَامِ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ
وَكَانَ يُرَقِّعُ ثَوْبَهُ، وَيُؤْثِرُ بِثَمَنِ الْجَدِيدِ، وَكَانَ قَدْ ضَعُفَ
بَصَرُهُ مِنْ كَثْرَةِ الْمُطَالَعَةِ وَالْبُكَاءِ، وَكَانَ أَوْحَدَ زَمَانِهِ
فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَالْحِفْظِ.
قُلْتُ: وَقَدْ هَذَّبَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ -
تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ - كِتَابَهُ " الْكَمَالَ فِي أَسْمَاءِ
الرِّجَالِ " - رِجَالِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ - بِتَهْذِيبِهِ الَّذِي
اسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ فِيهِ أَمَاكِنَ كَثِيرَةً، نَحْوًا مِنْ أَلْفِ مَوْضِعٍ ;
وَذَلِكَ أَنَّهُ الْإِمَامُ الْمِزِّيُّ الَّذِي لَا يُبَارَى وَلَا يُجَارَى
وَلَا يُمَارَى، وَكِتَابُهُ " التَّهْذِيبُ " لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ،
وَلَا يُلْحَقْ فِي مِثْلِ شَكْلِهِ، فَرَحِمَ اللَّهُ صَاحِبَيِ "
التَّهْذِيبِ " وَ " الْكَمَالِ " فَلَقَدْ
كَانَا نَادِرَيْنِ فِي
زَمَانَيْهِمَا فِي الرِّجَالِ حِفْظًا وَإِتْقَانًا وَسَمَاعًا وَإِسْمَاعًا
وَسَرْدًا لِلْمُتُونِ وَأَسْمَاءِ الرِّجَالِ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ
أَبُو الْفُتُوحِ أَسْعَدُ بْنُ مَحْمُودٍ الْعِجْلِيُّ
صَاحِبُ " تَتِمَّةِ التَّتِمَّةِ " أَسْعَدُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ
مَحْمُودِ بْنِ خَلَفٍ الْعِجْلِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْأَصْبِهَانِيُّ،
الْوَاعِظُ مُنْتَخَبُ الدِّينِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ وَبَرَعَ
وَصَنَّفَ " تَتِمَّةَ التَّتِمَّةِ " لِأَبِي سَعْدٍ الْهَرَوِيِّ،
وَكَانَ زَاهِدًا عَابِدًا وَلَهُ " شَرْحُ مُشْكِلَاتِ الْوَسِيطِ
وَالْوَجِيزِ " قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ
سِتِّمِائَةٍ.
الْبُنَانِيُّ الشَّاعِرُ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُهَنَّا، الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ
بِالْبُنَانِيِّ، مَدَحَ الْخُلَفَاءَ وَالْوُزَرَاءَ وَالْأُمَرَاءَ
وَغَيْرَهُمْ، وَكَبُرَ وَعَلَتْ سِنُّهُ، وَكَانَ رَقِيقَ الشِّعْرِ لِطَيْفَهُ،
فَمِنْ قَوْلِهِ:
ظُلْمًا تَرَى مُغْرَمًا فِي الْحُبِّ تَزْجُرُهُ وَغِرَّةً بِالْهَوَى أَمْسَيْتَ
تُنْكِرُهُ يَا عَاذِلَ الصَّبِّ لَوْ عَاتَبْتَ قَاتِلَهُ
بِوَجَنْةٍ وَعِذَارٍ كُنْتَ تَعْذُرُهُ أَفْدِي الَّذِي سِحْرُ عَيْنَيْهِ
يُعَلِّمُنِي
إِذَا تَصَدَّى لِقَتْلِي كَيْفَ أَسْحَرُهُ
يَسْتَمْتِعُ اللَّيْلَ
فِي نَوْمٍ وَأَسْهَرُهُ
إِلَى الصَّبَاحِ وَيَنْسَانِي وَأَذْكُرُهُ
وَلَهُ أَيْضًا:
بَكَرَتْ تُدِيرُ عَلَى الْعَوَازِلْ وَتَجُرُّ ذَيْلًا فِي الْخَمَائِلْ
وَتَهُزُّ فِي ثَنْيِ الْغَلَا ئِلِ رَدْفَهَا هَزَّ الذَّوَابِلْ
وَتَقُولُ لِلْغُصْنِ الرَّطِي بِ إِذَا تَمَاثَلَ أَوْ تَمَايَلَ
بَيْضَاءُ صَبْغَةُ خَدِّهَا تَنْمَى وَصَبْغُ الْوَرْدِ حَائِلْ
شَهْدُ الْحَيَاةِ وُصَالُهَا وَصُدُورُهَا سُمُّ الْقَوَاتِلْ
أَبُو سَعِيدٍ الْحَسَنُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْمُبَارَكِ بْنِ مَحْضَرٍ
النَّصْرَانِيُّ الْمَارَدِينِيُّ، الْمُلَقَّبُ بِالْوَحِيدِ.
اشْتَغَلَ فِي حَدَاثَتِهِ بِعِلْمِ الْأَوَائِلِ فَأَتْقَنَهُ وَبَرَزَ فِيهِ،
وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي الشِّعْرِ الرَّائِقِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ؛
قَاتَلَهُ اللَّهُ:
أَتَانِي كِتَابٌ أَنْشَأَتْهُ أَنَامِلٌ حَوَتْ أَبْحُرًا مِنْ فَيْضِهَا
يَغْرَقُ الْبَحْرُ
فَوَا عَجَبًا أَنَّى الْتَوَتْ فَوْقَ طِرْسِهِ وَمَا عُوِّدَتْ بِالْقَبْضِ
أُنَمُلُهُ الْعَشْرُ
وَلَهُ أَيْضًا؛ لَعَنَهُ اللَّهُ:
لَقَدْ أَثَّرَتْ صُدْغَاهُ فِي لَوْنِ خَدِّهِ وَلَاحَ كَفَيْءٍ مِنْ وَرَاءِ
زُجَاجِ
تَرَى عَسْكَرًا لِلرُّومِ فِي الزِّنْجِ قَدْ بَدَتْ طَلَائِعُهُ تَسْعَى
لِيَوْمِ هِيَاجِ
أَمِ الصُّبْحُ بِاللَّيْلِ الْبَهِيمِ مُوَشَّحٌ حَكَى آبِنُوسًا فِي صَفِيحَةِ
عَاجِ
لَقَدْ غَارَ صُدْغَاهُ
عَلَى وَرْدِ خَدِّهِ فَسَيَّجَهُ مِنْ شِعْرِهِ بِسِيَاجِ
الطَّاوُسِيُّ صَاحِبُ الطَّرِيقَةِ.
الْعِرَاقِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعِرَاقِيِّ
رُكْنُ الدِّينِ أَبُو الْفَضْلِ الْقَزْوِينِيُّ، ثُمَّ الْهَمَذَانِيُّ،
الْمَعْرُوفُ بِالطَّاوُسِيِّ، كَانَ بَارِعًا فِي عِلْمِ الْخِلَافِ وَالْجَدَلِ
وَالْمُنَاظَرَةِ، أَخَذَ هَذَا الشَّأْنَ عَنِ الشَّيْخِ رَضِيِّ الدِّينِ
النَّيْسَابُورِيِّ الْحَنَفِيِّ، وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَ تَعَالِيقَ، قَالَ
ابْنُ خَلِّكَانَ أَحْسَنَهُنَّ الْوُسْطَى. وَكَانَتْ إِلَيْهِ الرِّحْلَةُ بِهَمَذَانَ،
وَقَدْ بَنَى لَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ الْحَجَبَةِ بِهَا مَدْرَسَةً تُعْرَفُ
بِالْحَاجِبِيَّةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ
مَنْسُوبٌ إِلَى طَاوُسِ بْنِ كَيْسَانَ التَّابِعِيِّ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ وَلَدَهُ مُحَمَّدًا الْمُلَقَّبَ بِالظَّاهِرِ عَنْ
وِلَايَةِ الْعَهْدِ بَعْدَمَا خَطَبَ لَهُ بِذَلِكَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً،
وَوَلَّى الْعَهْدَ وَلَدَهُ الْآخَرَ عَلِيًّا، فَمَاتَ عَلِيٌّ عَنْ قَرِيبٍ،
فَعَادَ الْأَمْرُ إِلَى الظَّاهِرِ، فَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ
أَبِيهِ النَّاصِرِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ.
وَفِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِدَارِ الْخِلَافَةِ فِي خَزَائِنِ السِّلَاحِ،
فَاحْتَرَقَ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ السِّلَاحِ وَالْمُتْعَةِ وَالْمَسَاكِنِ مَا
يُقَارِبُ قِيمَتُهُ أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَشَاعَ خَبَرُ هَذَا
الْحَرِيقِ فِي النَّاسِ، فَأَرْسَلَتِ الْمُلُوكُ مِنْ سَائِرِ الْأَقْطَارِ
هَدَايَا ; أَسْلِحَةً إِلَى الْخَلِيفَةِ عِوَضًا مِمَّا فَاتَ شَيْئًا كَثِيرًا؛
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا عَاثَتِ الْكُرْجُ بِبِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلُوا خَلْقًا،
وَأَسَرُوا أُمَمًا. وَفِيهَا وَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ أَمِيرِ مَكَّةَ
قَتَادَةَ الْحَسَنِيِّ، وَبَيْنَ أَمِيرِ الْمَدِينَةِ سَالِمِ بْنِ قَاسِمٍ الْحُسَيْنِيِّ،
وَكَانَ قَتَادَةُ قَدْ قَصَدَ الْمَدِينَةَ فَحَصَرَ سَالِمًا فِيهَا، فَرَكِبَ
إِلَيْهِ سَالِمٌ بَعْدَمَا صَلَّى عِنْدَ الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
وَاسْتَنْصَرَ اللَّهَ عَلَيْهِ عَلَى قَتَادَةَ، ثُمَّ بَرَزَ إِلَيْهِ
فَكَسَرَهُ، وَسَاقَ وَرَاءَهُ إِلَى مَكَّةَ فَحَصَرَهُ بِهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ
قَتَادَةُ إِلَى أُمَرَاءِ سَالِمٍ فَأَفْسَدَهُمْ عَلَيْهِ، وَكْرَّ سَالِمٌ
رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ سَالِمٌ.
وَفِيهَا مَلَكَ غِيَاثُ
الدِّينِ كَيْخَسْرُو بْنُ قِلْجَ أَرْسَلَانَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ قِلْجَ
أَرْسَلَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ قُتُلْمِشَ بِلَادَ الرُّومِ وَاسْتَلَبَهَا
مِنَ ابْنِ أَخِيهِ، وَاسْتَقَرَّ هُوَ بِهَا، وَعَظُمَ شَأْنُهُ وَقَوِيَتْ
شَوْكَتُهُ، وَكَثُرَتْ عَسَاكِرُهُ وَأَطَاعَهُ الْأُمَرَاءُ وَأَصْحَابُ
الْأَطْرَافِ، وَخَطَبَ لَهُ الْأَفْضَلُ بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ بِسُمَيْسَاطَ،
وَسَارَ إِلَى خِدْمَتِهِ.
وَاتَّفَقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَنَّ رَجُلًا بِبَغْدَادَ نَزَلَ إِلَى دِجْلَةَ
يَسْبَحُ فِيهَا، وَأَعْطَى ثِيَابَهُ لِغُلَامِهِ فَغَرِقَ فِي الْمَاءِ،
فَوُجِدَ فِي وَرَقَةٍ بِعِمَامَتِهِ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كَانَ لِي أَمَلُ قَصَّرَ بِي عَنْ بُلُوغِهِ الْأَجَلُ
فَلَيْتِّقِ اللَّهَ رَبَّهُ رَجُلٌ
أَمْكَنَهُ فِي زَمَانِهِ الْعَمَلُ مَا أَنَا وَحْدِي نُقِلْتُ حَيْثُ تَرَى
كُلٌّ إِلَى مِثْلِهِ سَيَنْتَقِلُ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ:
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَنْتَرَ بْنِ ثَابِتٍ الْحِلِّيُّ
الْمَعْرُوفُ بِشُمَيْمٍ، كَانَ شَيْخًا أَدِيبًا فَاضِلًا لُغَوِيًّا شَاعِرًا،
جَمَعَ مِنْ شِعْرِهِ حَمَاسَةً كَانَ يُفَضِّلُهَا عَلَى حَمَاسَةِ أَبِي
تَمَّامٍ، وَلَهُ خَمْرِيَّاتٌ يَزْعُمُ أَنَّهَا أَفَحَلُ مِنَ الَّتِي لِأَبِي
نُوَاسٍ. قَالَ أَبُو شَامَةَ فِي " الذَّيْلِ ": كَانَ قَلِيلَ
الدِّينِ ذَا حَمَاقَةٍ وَرَقَاعَةٍ وَخَلَاعَةٍ، وَلَهُ حَمَاسَةٌ وَرَسَائِلُ.
قَالَ ابْنُ السَّاعِي: قَدِمَ بَغْدَادَ فَأَخَذَ النَّحْوَ عَنِ ابْنِ
الْخَشَّابِ، وَحَصَّلَ
طَرَفًا صَالِحًا مِنَ
النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَأَشْعَارِ الْعَرَبِ، ثُمَّ أَقَامَ بِالْمَوْصِلِ حَتَّى
تُوفِّيَ بِهَا. وَمِنْ شِعْرِهِ فِي حَمَاسَتِهِ:
لَا تَسْرَحَنَّ الطَّرْفَ فِي بَقَرِ الْمَهَا فَمَصَارِعُ الْآجَالِ فِي
الْآجَالِ كَمْ نَظْرَةٍ أَرْدَتْ وَمَا أَخَذَتْ يَ
دُ الْمُصْمِي لِمَنْ قَتَلَتْ أَدَاةَ قِتَالِ سَنَحَتْ وَمَا سَمَحَتْ
بِتَسْلِيمٍ وَ
إِقْلَالُ التَّحِيَّةِ فِعْلَةُ الْمُغْتَالِ
وَمِنْ خَمْرِيَّاتِهِ قَوْلُهُ:
امْزُجْ بِمَسْبُوكِ اللُّجَيْنِ دَمًا حَكَتْهُ دُمُوعُ عَيْنِي
لَمَّا نَعَى نَاعِي الْفِرَا قِ بِبَيْنِ مَنْ أَهْوَى وَبَيْنِي
خَفَقَتْ لَنَا شَمْسَانِ مِنْ لَأْلَائِهَا فِي الْخَافِقَيْنِ
وَبَدَتْ لَنَا فِي كَأْسِهَا مِنْ لَوْنِهَا فِي حُلَّتَيْنِ
وَلَهُ فِي التَّجْنِيسِ:
لَيْتَ مَنْ طَوَّلَ بِالشَّأْ مِ نَوَاهُ وَثَوَى بِهْ
جَعَلَ الْعَوْدَ إِلَى
الزَّوْ رَاءِ مِنْ بَعْضِ ثَوَابِهْ
أَتُرَى يُوطِئُنِي الدَّهْ رُ ثَرَى مِسْكِ تُرَابِهْ
وَأَرَى أَيْ نُورَ عَيْنِي مَوْطِئًا لِي وَتُرَى بِهْ
أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ اللَّهِ
بْنِ نَصْرِ بْنِ سَعِيدٍ الدَّجَاجِيُّ، كَانَ وَاعِظًا حَنْبَلِيًّا فَاضِلًا
شَاعِرًا مُجِيدًا، وَلَهُ:
نَفْسُ الْفَتَى إِنْ أَصْلَحْتَ أَحْوَالَهَا كَانَ إِلَى نَيْلِ الْمُنَى
أَحْوَى لَهَا
وَإِنْ تَرَاهَا سَدَّدَتْ أَقْوَالَهَا كَانَ عَلَى حَمْلِ الْعُلَا أَقْوَى
لَهَا
فَإِنْ تَبَدَّتْ حَالُ مَنْ لَهَا لَهَا فِي قَبْرِهِ عِنْدَ الْبِلَى لَهَا
لَهَا
أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ مُحَمَّدِ الْقُرْطُبِيُّ
الْخَزْرَجِيُّ كَانَ إِمَامًا فِي التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالْحِسَابِ
وَالْفَرَائِضِ وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْعَرُوضِ وَالطِّبِّ، وَلَهُ
تَصَانِيفُ حِسَانٌ وَشِعْرٌ رَائِقٌ، مِنْهُ قَوْلُهُ:
وَفِي الْوَجَنَاتِ مَا فِي الرَّوْضِ لَكِنْ لِرَوْنَقِ زَهْرِهَا مَعْنًى
عَجِيبُ
وَأَعْجَبُ مَا التَّعَجُّبُ عَنْهُ أَنِّي أَرَى الْبُسْتَانَ يَحْمِلُهُ قَضِيبُ
أَبُو الْفِدَاءِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَرَنْقُشَ السِّنْجَارِيُّ
مَوْلَى صَاحِبِهَا عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيِّ بْنِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ،
وَكَانَ جُنْدِيًّا حَسَنَ الصُّورَةِ، مَلِيحَ النَّظْمِ، كَثِيرَ
الْأَدَبِ، وَمِنْ
شِعْرِهِ مَا كُتِبَ بِهِ إِلَى الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ مُوسَى بْنِ الْعَادِلِ
يُعَزِّيهِ فِي أَخٍ لَهُ اسْمُهُ يُوسُفُ:
دُمُوعُ الْمَعَالِي وَالْمَكَارِمِ ذُرَّفُ وَرُبْعُ الْعُلَا قَاعٌ لِفَقْدِكَ
صَفْصَفُ
غَدَا الْجُودُ وَالْمَعْرُوفُ فِي اللَّحْدِ ثَاوِيًا غَدَاةَ ثَوَى فِي ذَلِكَ
اللَّحْدِ يُوسُفُ
فَتًى خَطَفَتْ كَفُّ الْمَنِيَّةِ رُوحَهُ وَقَدْ كَانَ لِلْأَرْوَاحِ بِالْبِيضِ
يُخْطَفُ
سَقَتْهُ لَيَالِي الدَّهْرِ كَأْسَ حِمَامِهَا وَكَانَ بِسَقْيِ الْمَوْتِ فِي
الْحَرْبِ يُعْرَفُ
فَوَا حَسْرَتَا لَوْ يَنْفَعُ الْمَوْتَ حَسْرَةٌ وَوَا أَسَفَا لَوْ كَانَ
يُجْدِي التَّأَسُّفُ
وَكَانَ عَلَى الْأَرْزَاءِ نَفْسِي قَوِيَّةً وَلَكِنَّهَا عَنْ حَمْلِ ذَا
الرُّزْءِ تَضْعُفُ
أَبُو الْفَضْلِ بْنُ إِلْيَاسَ بْنِ جَامِعِ بْنِ عَلِيٍّ الْإِرْبِلِيُّ
تَفَقَّهَ بِالنِّظَامِيَّةِ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَصَنَّفَ " التَّارِيخَ
" وَغَيْرَهُ، وَتَفَرَّدَ بِحُسْنِ كِتَابَةِ الشُّرُوطِ، وَلَهُ فَضْلٌ
وَنَظْمٌ حَسَنٌ، مِنْهُ قَوْلُهُ:
أَمُمْرِضَ قَلْبِي، مَا لِهَجْرِكَ آخِرُ وَمُسْهِرَ طَرْفِي، هَلْ خَيَالُكُ
زَائِرُ
وَمُسْتَعْذِبَ التَّعْذِيبِ جَوْرًا بِصَدِّهِ أَمَا لَكَ فِي شَرْعِ الْمَحْبَةِ
زَاجِرُ
هَنِيئًا لَكَ الْقَلْبُ الَّذِي قَدْ وَقَفْتُهُ عَلَى ذِكْرِ أَيْامِي وَأَنْتَ
مُسَافِرُ
فَلَا فَارَقَ الْحُزْنُ الْمُبَرِّحُ خَاطِرِي لِبُعْدِكَ حَتَّى يَجْمَعَ الشَّمْلَ
قَادِرُ
فَإِنْ مِتُّ فَالتَّسْلِيمُ مِنِّي عَلَيْكُمْ يُعَاوِدُكُمْ مَا كَبَّرَ اللَّهَ
ذَاكِرُ
أَبُو السَّعَادَاتِ الْحِلِّيُّ
التَّاجِرُ الْبَغْدَادِيُّ الرَّافِضِيُّ كَانَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ
يَلْبَسُ لِأْمَةَ
الْحَرْبِ، وَيَقِفُ خَلْفَ بَابِ دَارِهِ، وَهُوَ مُجَافٍ عَلَيْهِ، وَالنَّاسِ
فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ يَنْتَظِرُ أَنْ يُخْرِجَ صَاحِبُ الزَّمَانِ
مِنْ سِرْدَابِ سَامَرَّا - يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيَّ -
لِيَمِيلَ بِسَيْفِهِ فِي النَّاسِ نُصْرَةً لِلْمَهْدِيِّ.
أَبُو غَالِبِ بْنُ كَمُونَةَ الْيَهُودِيُّ الْكَاتِبُ
كَانَ يَزُورُ عَلَى خَطِّ ابْنِ مُقْلَةَ مِنْ قُوَّةِ خَطِّهِ، تُوفِّيَ -
لَعَنَهُ اللَّهُ - بِمَطْمُورَةِ وَاسِطٍ ; ذَكَرَهُ ابْنُ السَّاعِي فِي "
تَارِيخِهِ ".
وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَهُودِيٌّ آخَرُ يُقَالُ لَهُ:
أَبُو غَالِبِ بْنُ أَبِي طَاهِرِ بْنِ شِبْرٍ
كَانَ عَامِلًا عَلَى دَارِ الضَّرْبِ بِبَغْدَادَ، ذَكَرَهُ ابْنُ السَّاعِي
الْخَازِنُ فِي " تَارِيخِهِ ".
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثِنْتَيْنِ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا وَقَعَتْ حَرْبٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْمَلِكِ شِهَابِ الدِّينِ مُحَمَّدِ
بْنِ سَامٍ الْغُورِيِّ، صَاحِبِ غَزْنَةَ وَبَيْنَ بَنِي كَوْكَرَ أَصْحَابِ
الْجَبَلِ الْجُودِيِّ، وَكَانُوا قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ،
فَقَاتَلَهُمْ وَكَسَرَهُمْ، وَغَنِمَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا لَا يُحَدُّ
وَلَا يُوصَفُ، فَاتَّبَعَهُ بَعْضُهُمْ حَتَّى قَتَلَهُ غِيلَةً فِي لَيْلَةِ
مُسْتَهَلِّ شَعْبَانَ مِنْهَا بَعْدَ الْعِشَاءِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ مِنْ
أَجْوَدِ الْمُلُوكِ سِيرَةً وَأَعْقَلِهِمْ وَأَثْبَتِهِمْ فِي الْحَرْبِ،
تَغَمَدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَلَمَّا قُتِلَ كَانَ فِي صُحْبَتِهِ فَخْرُ
الدِّينِ الرَّازِيُّ وَكَانَ يَجْلِسُ لِلْوَعْظِ فَيَحْضُرُ الْمَلِكُ وَعْظَهُ،
وَيَبْكِي حِينَ يَقُولُ لَهُ فِي آخِرِ مَجْلِسِهِ: يَا سُلْطَانُ، سُلْطَانُكَ
لَا يَبْقَى، وَلَا تَلْبِيسُ الرَّازِيِّ أَيْضًا، وَإِنَّ مَرَدَّنَا جَمِيعًا
إِلَى اللَّهِ، وَحِينَ قُتِلَ السُّلْطَانُ اتَّهَمَهُ الْخَاصِّكِيَّةُ
بِقَتْلِهِ، فَخَافَ مِنْ ذَلِكَ وَالْتَجَأَ إِلَى الْوَزِيرِ مُؤَيِّدِ
الْمُلْكِ بْنِ خَوَاجَا، فَسَيَّرَهُ إِلَى حَيْثُ يَأْمَنُ، وَتَمَلَّكَ
غَزْنَةَ بَعْدَهُ أَحَدُ مَمَالِيكِهِ تَاجُ الدِّينِ الدُّزُّ، وَجَرَتْ بَعْدَ
ذَلِكَ خُطُوبٌ يَطُولُ بَسْطُهَا، قَدِ اسْتَقْصَاهَا ابْنُ الْأَثِيرِ وَابْنُ
السَّاعِي.
وَفِيهَا أَغَارَتِ الْكُرْجُ عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَوَصَلُوا إِلَى
خِلَاطَ فَقَتَلُوا وَسَبَوْا،
وَقَاتَلَهُمُ
الْمُقَاتِلَةُ وَالْعَامَّةُ، وَفِيهَا سَارَ صَاحِبُ إِرْبِلَ مُظَفَّرُ
الدِّينِ كُوكُبُورِي وَصَحِبَهُ صَاحِبُ مَرَاغَةَ لِقِتَالِ مَلِكَ
أَذْرَبِيجَانَ وَهُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَهْلَوَانِ ; وَذَلِكَ لِنُكُولِهِ
عَنْ قِتَالِ الْكُرْجِ، وَإِقْبَالِهِ عَلَى السُّكْرِ لَيْلًا وَنَهَارًا،
فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَزَوَّجَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِنْتَ
مَلِكِ الْكُرْجِ، فَانْكَفَّ شَرُّهُمْ عَنْهُ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَكَانَ
كَمَا يُقَالُ: أَغْمَدَ سَيْفَهُ وَسَلَّ أَيْرَهُ.
وَفِيهَا اسْتَوْزَرَ الْخَلِيفَةُ نَصِيرَ الدِّينِ نَاصِرَ بْنَ مَهْدِيٍّ
الْعَلَوِيَّ الْحَسَنِيَّ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ بِالْوِزَارَةِ وَضُرِبَتِ
الطُّبُولُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَلَى بَابِهِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ. وَفِيهَا
أَغَارَ صَاحِبُ بِلَادِ الْأَرْمَنِ وَهُوَ ابْنُ لَاوُنَ عَلَى بِلَادِ حَلَبَ
فَقَتَلَ وَسَبَى وَنَهَبَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ غَازِيُّ بْنُ
النَّاصِرِ، فَهَرَبَ ابْنُ لَاوُنَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَدَمَ الظَّاهِرُ
قَلْعَةً كَانَ قَدْ بَنَاهَا، وَدَكَّهَا إِلَى الْأَرْضِ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا هُدِمَتِ الْقَنْطَرَةُ الرُّومَانِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ
عِنْدَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ وَنُشِرَتْ حِجَارَتُهَا لِيُبَلَّطَ بِهَا
الْجَامِعُ الْأُمَوِيُّ بِسِفَارَةِ الْوَزِيرِ صَفِيِّ الدِّينِ بْنِ شُكْرٍ،
وَزِيرِ الْعَادِلِ، وَكَمَلَ تَبْلِيطُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّمِائَةٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
شَرَفُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، جَمَالُ
الْإِسْلَامِ
الشَّهْرَزُورِيُّ
بِمَدِينَةِ حِمْصَ وَقَدْ كَانَ أُخْرِجَ إِلَيْهَا مِنْ دِمَشْقَ، وَكَانَ
قَبْلَ ذَلِكَ مُدَرِّسًا بِالْأَمِينِيَّةِ وَالْحَلْقَةِ بِالْجَامِعِ تُجَاهَ
الْبَرَّادَةِ، وَكَانَ لَدَيْهِ عِلْمٌ جَيِّدٌ بِالْمَذْهَبِ وَالْخِلَافِ.
التَّقِيُّ عِيسَى بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَحْمَدَ الْعِرَاقِيُّ الْغَرَّافِيُّ
الضَّرِيرُ.
مُدَرِّسُ الْأَمِينِيَّةِ أَيْضًا، كَانَ يَسْكُنُ الْمَنَارَةَ الْغَرْبِيَّةِ،
وَكَانَ عِنْدَهُ شَابٌّ يَخْدُمُهُ وَيَقُودُ بِهِ، فَعُدِمَ لِلشَّيْخِ
دَرَاهِمُ فَاتَّهَمَ هَذَا الشَّابَّ بِهَا، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ عِنْدَهُ
شَيْءٌ، وَاتُّهِمَ بِهِ الشَّيْخُ، وَلَمْ يَكُنْ يَظُنُّ النَّاسُ أَنَّ
عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ فَضَاعَ الْمَالُ، وَاتُّهِمَ عِرْضُهُ فَأَصْبَحَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مَشْنُوقًا بِبَيْتِهِ
بِالْمِئْذَنَةِ الْغَرْبِيَّةِ، فَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ ;
لِكَوْنِهِ قَتَلَ نَفْسَهُ، فَتَقَدَّمَ الشَّيْخُ فَخْرُ الدِّينِ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَسَاكِرَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَائْتَمَّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ.
قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ ذَهَابُ مَالِهِ
وَالْوُقُوعُ فِي عِرْضِهِ. قَالَ: وَقَدْ جَرَى لِي أُخْتُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ
فَعَصَمَنِي اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِفَضْلِهِ. قَالَ: وَقَدْ دَرَّسَ بَعْدَهُ فِي
الْأَمِينِيَّةِ الْجَمَالُ الْمِصْرِيُّ وَكِيلُ بَيْتُ الْمَالِ.
أَبُو الْغَنَائِمِ الرَّكْبَسَلَّارُ الْبَغْدَادِيُّ
كَانَ يَخْدُمُ مَعَ عِزِّ الدِّينِ نَجَاحٍ
الشَّرَابِيِّ، وَحَصَّلَ
أَمْوَالًا جَزِيلَةً، كَانَ كُلَّمَا تَهَيَّأَ لَهُ مَالٌ اشْتَرَى بِهِ
مِلْكًا، وَكَتَبَهُ بِاسْمِ صَاحِبٍ لَهُ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا
حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى ذَلِكَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَوَلَّى أَوْلَادَهُ،
وَيُنْفِقَ عَلَيْهِمْ مِنْ مِيرَاثِهِ مِمَّا تَرَكَهُ لَهُمْ، فَمَرِضَ
الْمُوصَى إِلَيْهِ بَعْدَ قَلِيلٍ، فَاسْتَدْعَى الشُّهُودَ ; لِيُشْهِدَهُمْ
عَلَى نَفْسِهِ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ لِوَرَثَةِ أَبِي الْغَنَائِمِ فَتَمَادَى
وَرَثَتُهُ فِي إِحْضَارِ الشُّهُودِ، وَطَوَّلُوا عَلَيْهِ، وَأَخَذَتْهُ
سَكْتَةٌ، فَمَاتَ فَاسْتَوْلَى وَرَثَتُهُ عَلَى تِلْكَ الْأَمْوَالِ
وَالْأَمْلَاكِ، وَلَمْ يُعْطُوا أُولَئِكَ شَيْئًا مِمَّا تَرَكَهُ أَبُوهُمْ
لَهُمْ.
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعَادَةَ الْفَارِقِيُّ
تَفَقَّهَ بِبَغْدَادَ، وَأَعَادَ بِالنِّظَامِيَّةِ وَنَابَ فِي تَدْرِيسِهَا،
وَاسْتَقَلَّ بِتَدْرِيسِ الْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَتْهَا أَمُّ الْخَلِيفَةِ
وَأُرِيدَ عَلَى نِيَابَةِ الْقَضَاءِ عَنْ أَبِي طَالِبٍ عَلِيِّ بْنِ عَلِيٍّ
الْبُخَارِيِّ، فَامْتَنَعَ، فَأُلْزِمَ بِهِ فَبَاشَرَهُ قَلِيلًا، ثُمَّ دَخَلَ
يَوْمًا إِلَى مَسْجِدٍ فَلَبَسَ عَلَى رَأْسِهِ مِئْزَرَ صُوفٍ، وَأَمَرَ
الْوُكَلَاءَ وَالْجَلَاوِذَةَ أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُ، وَأَشْهَدَ عَلَى
نَفْسِهِ بِعَزْلِهَا عَنْ نِيَابَةِ الْقَضَاءِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى الْإِعَادَةِ
وَالتَّدْرِيسِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تُوُفِّيَتْ:
الْخَاتُونُ
أُمُّ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمُعَظَّمِ عِيسَى بْنِ الْعَادِلِ، فَدُفِنَتْ
بِالْقُبَّةِ بِالْمَدْرَسَةِ الْمُعَظَّمِيَّةِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ.
الْأَمِيرُ مُجِيرُ
الدِّينِ طَاشْتِكِينُ الْمُسْتَنْجِدِيُّ
أَمِيرُ الْحَاجِّ وَزَعِيمُ بِلَادِ خُوزِسْتَانَ، كَانَ شَيْخًا خَيِّرًا حَسَنَ
السِّيرَةِ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، غَالِيًا فِي التَّشَيُّعِ، تُوفِّيَ بِتُسْتَرَ
ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّمِائَةٍ، وَحُمِلَ
تَابُوتُهُ إِلَى الْكُوفَةِ فَدُفِنَ بِمَشْهِدِ عَلِيٍّ، بِوَصِيَّةٍ مِنْهُ،
هَكَذَا تَرْجَمَهُ ابْنُ السَّاعِي فِي " تَارِيخِهِ "، وَذَكَرَ أَبُو
شَامَةَ فِي " الذَّيْلِ " أَنَّهُ طَاشْتِكِينُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْمُقْتَفَوِيُّ أَمِيرُ الْحَاجِّ حَجَّ بِالنَّاسِ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً،
وَكَانَ يَكُونُ فِي الْحِجَازِ كَأَنَّهُ مَلِكٌ، وَقَدْ رَمَاهُ الْوَزِيرُ
ابْنُ يُونُسَ بِأَنَّهُ يُكَاتِبُ صَلَاحَ الدِّينِ فَحَبَسَهُ الْخَلِيفَةُ،
ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بُطْلَانُ مَا ذُكِرَ عَنْهُ فَأَطْلَقَهُ، وَأَعْطَاهُ
خُوزِسْتَانَ ثُمَّ أَعَادَهُ إِلَى إِمْرَةِ الْحَجِّ، وَكَانَتِ الْحِلَّةُ
السَّيْفِيَّةُ إِقْطَاعَهُ، وَكَانَ شُجَاعًا جَوَّادًا سَمْحًا، قَلِيلَ
الْكَلَامِ، يَمْضِي عَلَيْهِ الْأُسْبُوعُ لَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ بِكَلِمَةٍ،
وَكَانَ فِيهِ حِلْمٌ وَاحْتِمَالٌ، اسْتَغَاثَ بِهِ رَجُلٌ عَلَى بَعْضِ
نُوَّابِهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمُسْتَغِيثُ: أَحِمَارٌ
أَنْتَ ؟ فَقَالَ: لَا. وَفِيهِ يَقُولُ ابْنُ التَّعَاوِيذِيِّ:
وَأَمِيرٌ عَلَى الْبِلَادِ مُوَلًّى لَا يُجِيبُ الشَّاكِي بِغَيْرِ السُّكُوتِ
كُلَّمَا زَادَ رِفْعَةً حَطَّنَا اللَّ
هُ بِتَغْفِيلِهِ إِلَى الْبَهَمُوتِ
وَقَدْ سَرَقَ فَرَّاشُهُ حِيَاصَةً لَهُ، فَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَقِرُّوا الْفَرَّاشَ عَلَيْهَا، وَكَانَ قَدْ رَآهُ الْأَمِيرُ طَاشْتِكِينُ وَهُوَ يَأْخُذُهَا، فَقَالَ: لَا تُعَاقِبُوا أَحَدًا، فَإِنَّهُ أَخَذَهَا مَنْ لَا يَرُدُّهَا، وَرَآهُ مَنْ لَا يَنُمُّ عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ بَلَغَ مِنَ الْعُمْرِ تِسْعِينَ سَنَةً، وَاتَّفَقَ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مُدَّةَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ لِلْوَقْفِ، فَقَالَ فِيهِ بَعْضُ الْمُضْحِكِينَ: هَذَا لَا يُوقِنُ بِالْمَوْتِ ; عُمْرُهُ تِسْعُونَ سَنَةً وَاسْتَأْجَرَ أَرْضًا ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ. فَاسْتَضْحَكَ الْقَوْمَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا جَرَتْ أُمُورٌ طَوِيلَةٌ بِالْمَشْرِقِ بَيْنَ الْغُورِيَّةِ
وَالْخُوَارِزْمِيَّةِ، وَمَلَكَ خُوَارِزْمُ شَاهْ بْنُ تِكِشَ بِلَادَ
الطَّالْقَانِ. وَفِيهَا وَلَّى الْخَلِيفَةُ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ لِعِمَادِ
الدِّينِ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّامَغَانِيِّ.
وَفِيهَا قَبَضَ الْخَلِيفَةُ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ
بْنِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ، بِسَبَبِ فِسْقِهِ وَفُجُورِهِ،
وَقَدْ أُحْرِقَتْ كُتُبُهُ وَأَمْوَالُهُ قَبْلَ ذَلِكَ ; لِمَا فِيهَا مِنْ
كُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ، وَعُلُومِ الْأَوَائِلِ، وَأَصْبَحَ يَسْتَعْطِي مِنَ
النَّاسِ، وَهَذَا بِخَطِيئَةِ قِيَامِهِ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ
الْجَوْزِيِّ ; فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ وَشَى بِهِ إِلَى الْوَزِيرِ ابْنِ
الْقَصَّابِ حَتَّى أُحْرِقَتْ بَعْضُ كُتُبِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَخَتَمَ عَلَى
بَقِيَّتِهَا، وَنُفِيَ إِلَى وَاسِطٍ خَمْسَ سِنِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ
ذَلِكَ، وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: فِي اللَّهِ كِفَايَةٌ. وَفِي الْقُرْآنِ: وَجَزَاءُ
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [ الشُّورَى: 40 ] وَالصُّوفِيَّةُ يَقُولُونَ:
الطَّرِيقُ تَأْخُذُ حَقَّهَا. وَالْأَطِبَّاءُ يَقُولُونَ: الطَّبِيعَةُ
مُكَافِئَةٌ.
وَفِيهَا نَازَلَتِ الْفِرِنْجُ حِمْصَ فَقَاتَلَهُمْ مَلِكُهَا أَسَدُ الدِّينِ
شِيرَكُوهْ بْنُ نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْدِ الدَّيْنِ شِيرَكُوهْ
الْكَبِيرِ، وَأَعَانَهُ بِالْمَدَدِ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ صَاحِبُ حَلَبَ
فَكَفَّ اللَّهُ
شَرَّهُمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا اجْتَمَعَ شَابَّانِ بِبَغْدَادَ عَلَى الشَّرَابِ، فَضَرَبَ أَحَدُهُمَا
الْآخَرَ بِسِكِّينٍ فَقَتَلَهُ وَهَرَبَ فَأُخِذَ فَقُتِلَ، فَوُجِدَ مَعَهُ
رُقْعَةٌ فِيهَا بَيْتَانِ مِنْ نَظْمِهِ أَمَرَ أَنْ تُجْعَلَ بَيْنَ
أَكْفَانِهِ، وَهُمَا قَوْلُهُ:
قَدِمْتُ عَلَى الْكَرِيمِ بِغَيْرِ زَادٍ مِنَ الْأَعْمَالِ بِالْقَلْبِ
السَّلِيمِ وَسُوءُ الظَّنِّ أَنْ تَعْتَدَّ زَادًا
إِذَا كَانَ الْقُدُومُ عَلَى كَرِيمِ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْفَقِيهُ أَبُو مَنْصُورٍ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النُّعْمَانِ
النِّيلِيُّ، وَالْمُلَقَّبُ بِالْقَاضِي شُرَيْحٍ؛ لِذَكَائِهِ وَفَضْلِهِ
وَبَرَاعَتِهِ وَعَقْلِهِ وَكَمَالِ أَخْلَاقِهِ، وَلِيَ قَضَاءَ بَلَدِهِ، ثُمَّ
قَدِمَ بَغْدَادَ فَنُدِبَ إِلَى الْمَنَاصِبِ الْكِبَارِ فَأَبَاهَا، فَحَلَفَ
عَلَيْهِ الْأَمِيرُ طَاشْتِكِينُ أَنْ يَعْمَلَ عِنْدَهُ فِي الْكِتَابَةِ،
فَخَدَمَهُ عِشْرِينَ عَامًا، ثُمَّ وَشَى بِهِ الْوَزِيرُ ابْنُ مَهْدِيٍّ إِلَى
الْخَلِيفَةِ، فَحَبَسَهُ فِي دَارِ طَاشْتِكِينَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْوَزِيرَ عَمَّا قَرِيبٍ حُبِسَ بِهَا أَيْضًا، وَهَذَا
مِنَ الْعَجَبِ الْغَرِيبِ.
عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ
كَانَ ثِقَةً عَابِدًا زَاهِدًا وَرِعًا، لَمْ يَكُنْ فِي إِخْوَتِهِ خَيْرٌ
مِنْهُ، لَمْ يَدْخُلْ فِيمَا دَخَلُوا فِيهِ مِنَ الْمَنَاصِبِ وَالْوِلَايَاتِ،
بَلْ كَانَ
مُتَقَلِّلًا مِنَ
الدُّنْيَا، مُقْبِلًا عَلَى الْآخِرَةِ، وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَسُمِعَ
عَلَيْهِ أَيْضًا.
أَبُو الْحَرَمِ مَكِّيُّ بْنُ رَيَّانَ بْنِ شَبَّةَ بْنِ صَالِحِ
الْمَاكِسِينِيُّ.
مِنْ أَعْمَالِ سِنْجَارَ، ثُمَّ الْمَوْصِلِيُّ النَّحْوِيُّ قَدِمَ بَغْدَادَ
وَأَخَذَ عَنِ ابْنِ الْخَشَّابِ، وَابْنِ الْقَصَّارِ، وَالْكَمَالِ
الْأَنْبَارِيِّ، وِقَدِمَ الشَّامَ فَانْتَفَعَ بِهِ خَلْقٌ عَظِيمٌ ; مِنْهُمُ
الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ السَّخَاوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ ضَرِيرًا
يَتَعَصَّبُ لِأَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ ; لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْقَدْرِ
الْمُشْتَرَكِ فِي الْأَدَبِ وَالْعَمَى، وَمِنْ شِعْرِهِ:
إِذَا احْتَاجَ النَّوَالُ إِلَى شَفِيعٍ فَلَا تَقْبَلْهُ تُضْحِ قَرِيرَ عَيْنِ
إِذَا عِيفَ النَّوَالُ لَفَرْدِ مَنٍّ
فَأَوْلَى أَنْ يُعَافَ لِمِنَّتَيْنِ
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا:
نَفْسِي فِدَاءٌ لِأَغْيَدٍ غَنِجٍ قَالَ لَنَا الْحَقَّ يَوْمَ وَدَّعَنَا
مَنْ وَدَّ شَيْئًا مِنْ حُبِّهِ طَمَعًا فِي قُبْلَةٍ لِلْوَدَاعِ وَدَّ عَنَا
إِقْبَالٌ الْخَادِمُ جَمَالُ الدِّينِ أَحَدُ خُدَّامِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَاقِفُ
الْإِقْبَالِيَّتَيْنِ ; الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَكَانَتَا دَارَيْنِ فَجَعَلَهُمَا مَدْرَسَتَيْنِ، وَوَقَفَ عَلَيْهِمَا وَقْفًا ; الْكَبِيرَةَ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَيْهَا ثُلُثَا الْوَقْفِ، وَالصَّغِيرَةَ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهَا ثُلُثُ الْوَقْفِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْقُدْسِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
أَرْبَعٍ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا رَجَعَ الْحُجَّاجُّ إِلَى الْعِرَاقِ وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ،
وَيَشْتَكُونَ إِلَى النَّاسِ مَا لَقَوْا مِنْ صَدْرَجَهَانَ الْبُخَارِيِّ
الْحَنَفِيِّ، الَّذِي كَانَ قَدِمَ بَغْدَادَ فِي رِسَالَةٍ، فَاحْتَفَلَ بِهِ
الْخَلِيفَةُ، وَخَرَجَ إِلَى الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَضَيَّقَ عَلَى
النَّاسِ فِي الْمِيَاهِ وَالْمِيرَةِ، فَمَاتَ نَحْوٌ مِنْ سِتَّةِ آلَافٍ مِنَ
الْحَجِيجِ الْعِرَاقِيِّ بِسَبَبِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ - فِيمَا
ذُكِرَ - يَسْبِقُ غِلْمَانُهُ إِلَى الْمَنَاهِلِ فَيَتَحَجَّرُونَ عَلَى
الْمَاءِ، وَيَأْخُذُونَهُ فَيَرُشُّونَ حَوْلَ خَيْمَةِ مَخْدُومِهِمْ فِي قَيْظِ
الْحِجَازِ، وَيَسْقُونَ الْبُقُولَاتِ الَّتِي تُحْمَلُ مَعَهُ فِي تُرَابِهَا،
وَيَمْنَعُونَ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ، الْآمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ،
فَلَمَّا رَجَعَ مَعَ النَّاسِ لَعَنَتْهُ الْعَامَّةُ، وَلَمْ تَحْتَفِلْ بِهِ
الْخَاصَّةُ، وَلَا أَكْرَمَهُ الْخَلِيفَةُ، وَلَا أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَحَدًا، وَخَرَجَ
مِنْ بَغْدَادَ وَالْعَامَّةُ مِنْ وَرَائِهِ يَرْجُمُونَهُ وَيَلْعَنُونَهُ،
وَسَمَّاهُ النَّاسُ: صَدْرَ جَهَنَّمَ. نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنِ الْخِذْلَانِ.
وَفِيهَا قَبِضَ الْخَلِيفَةُ عَلَى وَزِيرِهِ ابْنِ مَهْدِيٍّ الْعَلَوِيِّ؛
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نُسِبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَرُومُ الْخِلَافَةَ، وَقِيلَ:
غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ حُبِسَ بِدَارِ
طَاشْتِكِينَ حَتَّى مَاتَ بِهَا، وَكَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا، حَتَّى قَالَ
بَعْضُهُمْ فِيهِ:
خَلِيلَيَّ قُولَا لِلْخَلِيفَةِ أَحْمَدٍ تَوَقَّ وُقِيتَ السُّوءَ مَا أَنْتَ
صَانِعُ وَزِيرُكَ هَذَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ فِيهِمَا
صَنِيعُكَ يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ ضَائِعُ
فَإِنْ كَانَ حَقًّا مِنْ
سُلَالَةِ حَيْدَرٍ
فَهَذَا وَزِيرٌ فِي الْخِلَافَةِ طَامِعُ وَإِنْ كَانَ فِيمَا يَدَّعِي غَيْرَ
صَادِقٍ
فَأَضْيَعُ مَا كَانَتْ لَدَيْهِ الصَّنَائِعُ
وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ عَفِيفًا عَنِ الْأَمْوَالِ حَسَنَ السِّيرَةِ، جَيِّدَ
الْمُبَاشَرَةِ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِحَالِهِ.
وَفِي رَمَضَانَ رَتَّبَ الْخَلِيفَةُ عِشْرِينَ دَارًا لِلضِّيَافَةِ يُفْطِرُ
فِيهَا الصَّائِمُونَ مِنَ الْفُقَرَاءِ، يُطْبَخُ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِيهَا
طَعَامٌ كَثِيرٌ، وَيُحْمَلُ إِلَيْهَا أَيْضًا مِنَ الْخُبْزِ النَّقِيِّ
وَالْحَلْوَاءِ شَيْءٌ كَثِيرٌ أَيْضًا - فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا - وَهَذَا
الصَّنِيعُ يُشْبِهُ مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ قُرَيْشٌ مِنَ الرِّفَادَةِ فِي
زَمَنِ الْحَجِّ، وَكَانَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، كَمَا كَانَ
الْعَبَّاسُ يَتَوَلَّى السِّقَايَةَ، وَقَدْ كَانَتْ فِيهِمُ السِّفَارَةُ
وَاللِّوَاءُ وَالنَّدْوَةُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ،
وَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْمَنَاصِبُ كُلُّهَا عَلَى أَتَمِّ الْأَحْوَالِ فِي
الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الشَّيْخَ شِهَابَ الدِّينِ السُّهْرَوَرْدِيَّ
وَفِي صُحْبَتِهِ سُنْقُرُ السِّلِحْدَارُ إِلَى الْمَلِكِ الْعَادِلِ
بِالْخِلْعَةِ السَّنِيَّةِ، وَفِيهَا الطَّوْقُ وَالسِّوَارَانِ، وَإِلَى جَمِيعِ
أَوْلَادِهِ بِالْخِلَعِ أَيْضًا.
وَفِيهَا مَلَكَ الْأَوْحَدُ بْنُ الْعَادِلِ صَاحِبُ مَيَّافَارِقِينَ مَدِينَةَ
خِلَاطَ بَعْدَ قَتْلِ صَاحِبِهَا ابْنِ بَكْتَمُرَ، وَكَانَ شَابًّا جَمِيلَ
الصُّورَةِ جِدًّا، قَتَلَهُ بَعْضُ مَمَالِيكِهِمْ، ثُمَّ قُتِلَ الْقَاتِلُ
أَيْضًا، فَخَلَا الْبَلَدُ عَنْ مَلِكٍ، فَأَخَذَهَا الْأَوْحَدُ بْنُ
الْعَادِلِ، كَمَا ذَكَرْنَا.
وَفِيهَا مَلَكَ خُوَارِزْمُ شَاهْ مُحَمَّدُ بْنُ تِكِشَ بِلَادَ مَا وَرَاءَ
النَّهَرِ مِنَ الْخِطَا بَعْدَ حُرُوبٍ طَوِيلَةٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق