البداية والنهاية لابن كثير 34//2-
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالدِّيَارِ الشَّامِيَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ ابْنُ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، وَقُضَاتُهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي السَّنَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَنَائِبُهُ بِمِصْرَ الْحَاجُّ سَيْفُ الدِّينِ أَلْمَلِكُ، وَوَزِيرُهُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ، وَنَاظِرُ الْخَاصِّ الْقَاضِي مَكِينُ الدِّينِ بْنُ قَرَوِينَةَ، وَنَاظِرُ الْجُيُوشِ الْقَاضِي عَلَمُ الدِّينِ بْنُ الْقُطْبِ، وَالْمُحْتَسِبُ الْمُتَقَدِّمُ، وَشَادُّ الدَّوَاوِينِ عَلَمُ الدِّينِ النَّاصِرِيُّ، وَشَادُّ الْأَوْقَافِ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ بْنُ النَّجِيبِيِّ، وَوَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ شَمَرْنُوخَ، وَنَاظِرُ الْخِزَانَةِ الْقَاضِي تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ أَبِي الطَّيِّبِ، وَبَقِيَّةُ الْمُبَاشِرِينَ وَالنُّظَّارِ هُمُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ، وَكَاتِبُ الدَّسْتِ الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ كَاتِبِ السِّرِّ، وَالْقَاضِي أَمِينُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ، وَالْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ بْنُ الْقَيْسَرَانِيِّ، وَالْقَاضِي شَرَفُ الدِّينِ بْنُ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الشِّهَابِ مَحْمُودٍ، وَالْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ شَمَرْنُوخَ.
شَهْرُ الْمُحَرَّمِ
أَوَّلُهُ السَّبْتُ، اسْتَهَلَّ وَالْحِصَارُ وَاقِعٌ بِقَلْعَةِ الْكَرَكِ،
وَأَمَّا الْبَلَدُ فَأُخِذَ، وَاسْتُنِيبَ فِيهِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
قُبْلَايْ، قَدِمَ إِلَيْهَا مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالتَّجَارِيدُ
مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمِنْ دِمَشْقَ مُحِيطُونَ بِالْقَلْعَةِ،
وَالنَّاصِرُ أَحْمَدُ بْنُ النَّاصِرِ مُمْتَنِعٌ مِنَ التَّسْلِيمِ، وَمِنَ
الْإِجَابَةِ إِلَى الْإِنَابَةِ، وَمِنَ الدُّخُولِ فِي طَاعَةِ أَخِيهِ، وَقَدْ
تَفَاقَمَتِ الْأُمُورُ، وَطَالَتِ الْحُرُوبُ، وَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ بِسَبَبِ
ذَلِكَ مِنَ الْجُيُوشِ وَمِنْ أَهْلِ الْكَرَكِ، وَقَدْ تَوَجَّهَتِ الْقَضِيَّةُ
إِلَى خَيْرٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَبْلَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ يَسِيرَةٍ هَرَبَ
مِنْ قَلْعَةِ الْكَرَكِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ بْنُ
بَهَادُرَآصْ الَّذِي كَانَ أُسِرَ فِي أَوَائِلِ حِصَارِ الْكَرَكِ، وَجَمَاعَةٌ
مِنْ مَمَالِيكِ النَّاصِرِ أَحْمَدَ، كَانَ اتَّهَمَهُمْ بِقَتْلِ الشَّهِيبِ،
الَّذِي كَانَ يَعْتَنِي بِهِ وَيُحِبُّهُ، وَاسْتَبْشَرَ الْجُيُوشُ بِنُزُولِ
أَبِي بَكْرٍ مِنْ عِنْدِهِ وَسَلَامَتِهِ مِنْ يَدِهِ، وَجَهَّزَهُ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى الْبَرِيدِ مُعَظَّمًا.
هَذَا وَالْمَجَانِيقُ الثَّلَاثَةُ مُسَلَّطَةٌ عَلَى الْقَلْعَةِ مِنَ
الْبَلَدِ، تَضْرِبُ عَلَيْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَتُدَمِّرُ فِي بِنَائِهَا
مِنْ دَاخِلٍ; فَإِنَّ سُورَهَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ شَيْءٌ بِالْكُلِّيَّةِ،
ثُمَّ ذُكِرَ أَنَّ الْحِصَارَ فَتَرَ، وَلَكِنْ مَعَ الِاحْتِيَاطِ عَلَى أَنْ
لَا يَدْخُلَ إِلَى الْقَلْعَةِ مِيرَةٌ وَلَا شَيْءٌ مِمَّا يَسْتَعِينُونَ بِهِ
عَلَى الْمُقَامِ فِيهَا، فَاللَّهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يُحْسِنَ الْعَاقِبَةَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ قَدِمَ
الْبَرِيدُ مُسْرِعًا مِنَ الْكَرَكِ، فَأَخْبَرَ بِفَتْحِ الْقَلْعَةِ، وَأَنَّ
بَابَهَا أُحْرِقَ، وَأَنَّ جَمَاعَةَ الْأَمِيرِ أَحْمَدَ بْنِ النَّاصِرِ
اسْتَغَاثُوا
بِالْأَمَانِ فَفُتِحَتْ،
وَخَرَجَ أَحْمَدُ مُقَيَّدًا، وَسُيِّرَ عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، الثَّالِثِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ، وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ رَابِعِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ دَقَّتِ
الْبَشَائِرُ بِالْقَلْعَةِ، وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ عَنْ مَرْسُومِ السُّلْطَانِ
الْمَلِكِ الصَّالِحِ; سُرُورًا بِفَتْحِ الْبَلَدِ، وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ
عَلَيْهِ، وَاسْتَمَرَّتِ الزِّينَةُ إِلَى يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَابِعِهِ،
فَرُسِمَ بِرَفْعِهَا بَعْدَ الظُّهْرِ، فَتَشَوَّشَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَوَامِّ،
وَأَرْجَفَ بَعْضُ النَّاسِ بِأَنَّ أَحْمَدَ قَدْ ظَهَرَ أَمْرُهُ، وَبَايَعَهُ
الْأُمَرَاءُ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَهُ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَقِيقَةٌ. وَدَخَلَتِ
الْأَطْلَابُ مِنَ الْكَرَكِ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْأَحَدِ ثَالِثَ عَشَرَ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ بِالطَّبْلَخَانَاهْ وَالْجُيُوشِ، وَاشْتَهَرَ إِعْدَامُ أَحْمَدَ
بْنِ النَّاصِرِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ حَادِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ صُلِّيَ بِالْجَامِعِ
الْأُمَوِيِّ عَلَى الشَّيْخِ أَثِيرِ الدِّينِ أَبِي حَيَّانَ النَّحْوِيِّ،
شَيْخِ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ مِنْ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
بِمِصْرَ عَنْ تِسْعِينَ سَنَةً وَخَمْسَةِ أَشْهُرٍ.
ثُمَّ اشْتَهَرَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ قَتْلُ السُّلْطَانِ أَحْمَدَ، وَحَزُّ
رَأْسِهِ، وَدَفْنُ جُثَّتِهِ بِالْكَرَكِ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى أَخِيهِ
الْمَلِكِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ، وَحَضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الرَّابِعِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَدَخَلَ
الشَّيْخُ أَحْمَدُ الزُّرَعِيُّ عَلَى السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ،
فَطَلَبَ مِنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ تَبْطِيلِ مَظَالِمَ وَمُكُوسَاتٍ،
وَإِطْلَاقِ طَبْلَخَانَاهْ لِلْأَمِيرِ نَاصِرِ الدِّينِ بْنِ بَكْنَاشَ،
وَإِطْلَاقِ أُمَرَاءَ مَحْبُوسِينَ بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ،
فَأَجَابَهُ إِلَى جَمِيعِ ذَلِكَ، فَكَانَ جُمْلَةَ
الْمَرَاسِيمِ الَّتِي
أُجِيبُ فِيهَا - بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ مَرْسُومًا. فَلَمَّا كَانَ آخِرُ شَهْرِ
رَبِيعٍ الْآخِرِ قَدِمَتِ الْمَرَاسِيمُ الَّتِي سَأَلَهَا الشَّيْخُ أَحْمَدُ
مِنَ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ، فَأُمْضِيَتْ كُلُّهَا أَوْ كَثِيرٌ
مِنْهَا، وَأُفْرِجَ عَنْ صَلَاحِ الدِّينِ ابْنِ الْمَلِكِ الْكَامِلِ،
وَالْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بِلَوٍ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَلْخِ هَذَا
الشَّهْرِ، ثُمَّ رُوجِعَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا، فَتَوَقَّفَ حَالُهَا.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ عُمِلَتْ مَنَارَةٌ خَارِجَ بَابِ الْفَرَجِ، وَفُتِحَتْ
مَدْرَسَةٌ كَانَتْ دَارًا قَدِيمَةً فَجُعِلَتْ مَدْرَسَةً لِلْحَنَفِيَّةِ
وَمَسْجِدًا، وَعُمِلَتْ طَهَّارَةٌ عَامَّةٌ، وَمُصَلًّى لِلنَّاسِ، وَكُلُّ
ذَلِكَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ طَقْتَمُرُ الْخَلِيلِيُّ -
أَمِيرُ حَاجِبٍ كَانَ، وَهُوَ الَّذِي جَدَّدَ الدَّارَ الْمَعْرُوفَةَ بِهِ
الْيَوْمَ بِالْقَصَّاعِينَ.
وَفِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ عَاشِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ تُوُفِّيَ صَاحِبُنَا
الْمُحَدِّثُ تَقِيُّ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ صَدْرِ الدِّينِ سُلَيْمَانَ
الْجَعْبَرِيُّ، زَوْجُ بِنْتِ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ الْمِزِّيِّ، وَوَالِدُ
شَرَفِ الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ، وَجَمَالِ الدِّينِ إِبْرَاهِيمَ، وَغَيْرِهِمْ،
وَكَانَ فَقِيهًا بِالْمَدَارِسِ، وَشَاهِدًا تَحْتَ السَّاعَاتِ وَغَيْرِهَا،
وَعِنْدَهُ فَضِيلَةٌ جَيِّدَةٌ فِي قِرَاءَةِ الْحَدِيثِ، وَشَيْءٌ مِنَ
الْعَرَبِيَّةِ، وَلَهُ نَظْمٌ مُسْتَحْسَنٌ، انْقَطَعَ يَوْمَيْنِ وَبَعْضَ
الثَّالِثِ، وَتُوُفِّيَ فِي اللَّيْلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي وَسَطِ اللَّيْلِ،
وَكُنْتُ عِنْدَهُ وَقْتَ الْعَشَاءِ الْآخِرَةِ لَيْلَتَئِذٍ، وَحَدَّثَنِي
وَضَاحَكَنِي، وَكَانَ خَفِيفَ الرُّوحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ثُمَّ
تُوُفِّيَ فِي بَقِيَّةِ لَيْلَتِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ أَشْهَدَنِي
عَلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ مِنْ جَمِيعِ مَا يُسْخِطُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ،
وَأَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى تَرْكِ الشُّهُودِ أَيْضًا، رَحِمَهُ اللَّهُ، صُلِّيَ
عَلَيْهِ ظُهْرَ يَوْمِ
الِاثْنَيْنِ، وَدُفِنَ
بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ عِنْدَ أَبَوَيْهِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَانِيَ عِشْرِينَ شَهْرِ رَجَبٍ خَطَبَ الْقَاضِي
عِمَادُ الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْعِزِّ الْحَنَفِيُّ بِجَامِعِ تَنْكِزَ
خَارِجَ بَابِ النَّصْرِ، عَنْ نُزُولِ الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ
دَاوُدَ الْقَحْفَازِيِّ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَيْضًا نَائِبِ السَّلْطَنَةِ
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ طُقُزْدَمُرَ، وَحُضُورِهِ عِنْدَهُ فِي الْجَامِعِ
الْمَذْكُورِ يَوْمَئِذٍ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ تَاسِعِ عِشْرِينَ رَجَبٍ تُوُفِّيَ الْقَاضِي
الْإِمَامُ الْعَالِمُ جَلَالُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ ابْنُ قَاضِي
الْقُضَاةِ حُسَامِ الدِّينِ الرُّومِيُّ الْحَنَفِيُّ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ
صَلَاةِ الْجُمْعَةِ بِمَسْجِدِ دِمَشْقَ، وَحَضَرَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ،
وَدُفِنَ بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا إِلَى جَانِبِ الزَّرْدَكَاشِ
قَرِيبًا مِنَ الْخَاتُونِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ، وَكَانَ قَدْ وَلِيَ قَضَاءَ
قُضَاةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَيَّامِ وِلَايَةِ أَبِيهِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَأَفْتَى فِي
سَنَةِ سَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَدِمُوا الشَّامَ مَعَ أَبِيهِ فَأَقَامُوا
بِهَا، ثُمَّ لَمَّا وَلِيَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ لَاجِينُ وَلَّى أَبَاهُ
قَضَاءَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَوَلَدَهُ هَذَا قَضَاءَ الشَّامِ، ثُمَّ
إِنَّهُ عُزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ثَلَاثِ مَدَارِسَ مِنْ خِيَارِ
مَدَارِسِ الْحَنَفِيَّةِ، ثُمَّ حَصَلَ لَهُ صَمَمٌ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَكَانَ
مُمَتَّعًا بِحَوَاسِّهِ - سِوَاهُ - وَقُوَاهُ، وَكَانَ يُذْكَرُ فِي الْعِلْمِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ تُوُفِّيَ
الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ الْقَحْفَازِيُّ، خَطِيبُ جَامِعِ
تَنْكِزَ، وَمُدَرِّسُ الظَّاهِرِيَّةِ، وَقَدْ نَزَلَ عَنْهَا قَبْلَ
وَفَاتِهِ بِقَلِيلٍ
لِلْقَاضِي عِمَادِ الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعِزِّ الْحَنَفِيِّ، وَصُلِّيَ
عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ الْمَذْكُورِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَئِذٍ،
وَعِنْدَ بَابِ النَّصْرِ، وَعِنْدَ جَامِعِ جَرَّاحٍ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ
ابْنِ الشَّيْرَجِيِّ عِنْدَ وَالِدِهِ، وَحَضَرَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ،
وَكَانَ أُسْتَاذًا فِي النَّحْوِ، وَلَهُ عُلُومٌ أُخَرُ، لَكِنْ كَانَ نِهَايَةً
فِي النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ
الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ الضَّرِيرُ الزُّرَعِيُّ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ
الظُّهْرِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَبِبَابِ النَّصْرِ، وَعِنْدَ مَقَابِرِ
الصُّوفِيَّةِ، وَدُفِنَ بِهَا قَرِيبًا مِنَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ
تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ كَثِيرَ التِّلَاوَةِ حَسَنَهَا
وَصَحِيحَهَا، كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، يُقْرِئُ النَّاسَ مِنْ دَهْرٍ طَوِيلٍ،
وَيَقُومُ بِهِمُ الْعَشْرَ الْأَخِيرَ مِنْ رَمَضَانَ فِي مِحْرَابِ
الْحَنَابِلَةِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَانِي شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُعَظَّمِ تُوُفِّيَ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الْعَابِدُ الزَّاهِدُ الْوَرِعُ
أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ الْمَالِكِيُّ، إِمَامُ مِحْرَابِ الصَّحَابَةِ
الَّذِي لِلْمَالِكِيَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَحَضَرَ
جَنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ
وَعَلَى صَلَاحِهِ وَفَتَاوِيهِ النَّافِعَةِ الْكَثِيرَةِ، وَدُفِنَ إِلَى
جَانِبِ قَبْرِ أَبِيهِ وَأَخِيهِ، إِلَى جَانِبِ قَبْرِ أَبِي الْحَجَّاجِ
الْفِنْدَلَاوِيِّ الْمَالِكِيِّ، قَرِيبًا مِنْ مَسْجِدِ النَّارَنْجِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَوَلِيَ مَكَانَهُ فِي الْمِحْرَابِ وَلَدُهُ وَهُوَ طِفْلٌ صَغِيرٌ،
فَاسْتُنِيبَ لَهُ إِلَى حِينِ صَلَاحِيَّتِهِ، جَبَرَهُ اللَّهُ وَرَحِمَ
أَبَاهُ.
وَفِي صَبِيحَةِ لَيْلَةِ
الثُّلَاثَاءِ سَادِسِ رَمَضَانَ وَقَعَ ثَلْجٌ عَظِيمٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ
بِدِمَشْقَ مِنْ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَكَانَ النَّاسُ مُحْتَاجِينَ إِلَى مَطَرٍ،
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَتَكَاثَفَ الثَّلْجُ عَلَى الْأَسْطِحَةِ،
وَتَرَاكَمَ حَتَّى أَعْيَا النَّاسَ أَمْرُهُ، وَنَقَلُوهُ عَنِ الْأَسْطِحَةِ
إِلَى الْأَزِقَّةِ، يُحْمَلُ، ثُمَّ نُودِيَ بِالْأَمْرِ بِإِزَالَتِهِ مِنَ
الطُّرُقَاتِ; فَإِنَّهُ سَدَّهَا وَتَعَطَّلَتْ مَعَايِشُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ،
فَعَوَّضَ اللَّهُ الضُّعَفَاءَ بِعَمَلِهِمْ فِي الثَّلْجِ، وَلَحِقَ النَّاسَ
كُلْفَةٌ كَبِيرَةٌ، وَغَرَامَةٌ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ صُلِّيَ
بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ عَلَى غَائِبٍ، وَهُوَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ
الْجَاوِلِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي أَوَّلِ شَوَّالٍ يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ وَقَعَ فِيهِ ثَلْجٌ عَظِيمٌ
بِحَيْثُ لَمْ يُمَكِّنِ الْخَطِيبَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْمُصَلَّى، وَلَا
خَرَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ، بَلِ اجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ وَالْقُضَاةُ بِدَارِ
السَّعَادَةِ، وَحَضَرَ الْخَطِيبُ فَصَلَّى بِهِمُ الْعِيدَ، وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ صَلَّوُا الْعِيدَ فِي الْبُيُوتِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ دَرَّسَ
قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ الشَّافِعِيُّ بِالشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ، عَنِ الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ النَّقِيبِ رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ، وَالْأُمَرَاءُ، وَخَلْقٌ
مِنَ الْفُضَلَاءِ، وَأَخَذَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ
الْوَهَّابُ [ ص: 35 ]
وَمَا بَعْدَهَا.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ اسْتُفْتِيَ فِي قَتْلِ كِلَابِ الْبَلَدِ، فَكَتَبَ
جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ فِي ذَلِكَ، فَرُسِمَ بِإِخْرَاجِهِمْ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ مِنَ الْبَلَدِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، لَكِنْ إِلَى
الْخَنْدَقِ ظَاهِرَ بَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانَ الْأَوْلَى قَتْلَهُمْ
بِالْكُلِّيَّةِ وَإِحْرَاقَهُمْ، لِئَلَّا يَتَأَذَّى النَّاسُ بِنَتْنِ
رَيِحِهِمْ، عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مِنْ جَوَازِ
قَتْلِ الْكِلَابِ بِبَلْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ لِلْمَصْلَحَةِ، إِذَا رَأَى الْإِمَامُ
ذَلِكَ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ أُمَّةِ الْكِلَابِ;
وَلِهَذَا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يَأْمُرُ فِي خُطْبَتِهِ بِقَتْلِ
الْكِلَابِ وَذَبْحِ الْحَمَامِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ، وَسُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَالشَّامِيَّةِ وَالْحَرَمَيْنِ، وَالْبِلَادِ الْحَلَبِيَّةِ،
وَأَعْمَالِ ذَلِكَ - الْمَلِكُ الصَّالِحُ عِمَادُ الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ
النَّاصِرِ بْنِ الْمَنْصُورِ، وَقُضَاتُهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
وَالشَّامِيَّةِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَنُوَّابُهُ
فِي الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ أَيْضًا. وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَادِسِ
شَهْرِ مُحَرَّمٍ كَمَلَتْ عِمَارَةُ الْجَامِعِ الَّذِي بِالْمِزَّةِ
الْفَوْقَانِيَّةِ، الَّذِي جَدَّدَهُ وَأَنْشَأَهُ الْأَمِيرُ بَهَاءُ الدِّينِ
بْنُ الْمَرْجَانِيِّ، الَّذِي بَنَى وَالِدُهُ مَسْجِدَ الْخَيْفِ بِمِنًى،
وَهُوَ جَامِعٌ حَسَنٌ مُتَّسِعٌ فِيهِ رُوحٌ وَانْشِرَاحٌ، تَقَبَّلَ اللَّهُ
مِنْ بَانِيهِ، وَعُقِدَتْ فِيهِ الْجُمْعَةُ بِجَمْعٍ كَثِيرٍ وَجَمٍّ غَفِيرٍ مِنْ
أَهْلِ الْمِزَّةِ، وَمَنْ حَضَرَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَكُنْتُ أَنَا
الْخَطِيبَ - يَعْنِي: الشَّيْخَ عِمَادَ الدِّينِ الْمُصَنَّفَ تَغَمَّدَهُ
اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَوَقَعَ كَلَامٌ
وَبَحْثٌ فِي اشْتِرَاطِ الْمُحَلِّلِ فِي الْمُسَابَقَةِ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ
الشَّيْخَ شَمْسَ الدِّينِ ابْنَ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ صَنَّفَ فِيهِ مُصَنَّفًا
مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، وَنَصَرَ فِيهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ صَارَ يُفْتَى بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ
التُّرْكِ، وَلَا يَعْزُوهُ إِلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ
الدِّينِ ابْنِ
تَيْمِيَةَ، فَاعْتَقَدَ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ قَوْلُهُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ
لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، فَحَصَلَ عَلَيْهِ إِنْكَارٌ فِي ذَلِكَ، وَطَلَبَهُ
الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ، وَحَصَلَ كَلَامٌ فِي ذَلِكَ، وَانْفَصَلَ الْحَالُ
عَلَى أَنْ أَظْهَرَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةَ
الْمُوَافَقَةَ لِلْجُمْهُورِ.
وَفَاةُ الْمَلَكِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ
فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
أُظْهِرَ مَوْتُ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ عِمَادِ الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ النَّاصِرِ بْنِ الْمَنْصُورِ آخِرَ النَّهَارِ، وَكَانَ قَدْ عَهِدَ
بِالْأَمْرِ إِلَى أَخِيهِ لِأَبَوَيْهِ الْمَلِكِ الْكَامِلِ سَيْفِ الدِّينِ
أَبِي الْفُتُوحِ شَعْبَانَ، فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ يَوْمَ
الْخَمِيسِ رَابِعِهِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، ثُمَّ قَدِمَ الْخَبَرُ إِلَى
دِمَشْقَ عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْهُ،
وَكَانَ الْبَرِيدُ قَدِ انْقَطَعَ عَنِ الشَّامِ نَحْوَ عِشْرِينَ يَوْمًا
لِلشُّغْلِ بِمَرَضِ السُّلْطَانِ، فَقَدِمَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْغَرَا
لِلْبَيْعَةِ لِلْمَلِكِ الْكَامِلِ، فَرَكِبَ عِلْيَةُ الْجَيْشِ لِتَلَقِّيهِ،
فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَةُ الْجُمُعَةِ أُخِذَتِ الْبَيْعَةُ مِنَ النَّائِبِ،
وَالْمُقَدَّمِينَ، وَبَقِيَّةِ الْأُمَرَاءِ وَالْجُنْدِ - لِلسُّلْطَانِ
الْمَلِكِ الْكَامِلِ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَزُيِّنَ
الْبَلَدُ، وَخَطَبَ الْخُطَبَاءُ يَوْمَئِذٍ لِلْمَلِكِ الْكَامِلِ، جَعَلَهُ
اللَّهُ وَجْهًا مُبَارَكًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ
الْآخِرِ دَرَّسَ الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ حُسَيْنٌ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ
تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ الشَّافِعِيِّ بِالْمَدْرَسَةِ الشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ، نَزَلَ لَهُ أَبَوْهُ عَنْهَا، وَاسْتَخْرَجَ لَهُ مَرْسُومًا
سُلْطَانِيًّا بِذَلِكَ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ
الْقُضَاةُ،
وَالْأَعْيَانُ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْفُقَهَاءِ، وَجَلَسَ بَيْنَ
أَبِيهِ وَالْقَاضِي الْحَنَفِيِّ، وَأَخَذَ الدَّرْسَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [ النَّمْلِ: 15
] الْآيَاتِ. وَتَكَلَّمَ الشَّرِيفُ مَجْدُ الدِّينِ الْمُتَكَلِّمُ فِي
الدَّرْسِ بِكَلَامٍ فِيهِ نَكَارَةٌ وَبَشَاعَةٌ، فَشَنَّعَ عَلَيْهِ
الْحَاضِرُونَ، فَاسْتُتِيبَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الدَّرْسِ، وَحُكِمَ
بِإِسْلَامِهِ، وَقَدْ طُلِبَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ نَائِبُ دِمَشْقَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طُقُزْدَمُرُ وَهُوَ مُتَمَرِّضٌ، انْقَطَعَ عَنِ
الْجُمُعَةِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ مَرَّاتٍ، وَالْبَرِيدُ يَذْهَبُ إِلَى حَلَبَ
لِمَجِيءِ نَائِبِهَا الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ يَلْبُغَا لِنِيَابَةِ دِمَشْقَ،
وَذَكَرَ أَنَّ الْحَاجَّ أَرُقْطَايَ تَعَيَّنَ لِنِيَابَةِ حَلَبَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ رَابِعِ شَهْرِ جُمَادَى الْأُولَى خَرَجَتْ أَثْقَالُ
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ طُقُزْدَمُرَ النَّائِبِ، وَخُيُولُهُ، وَهُجُنُهُ،
وَمَرَاكِبُهُ، وَحَوَاصِلُهُ، وَطَبْلَخَانَاتُهْ، وَأَوْلَادُهُ فِي تَجَمُّلٍ
عَظِيمٍ، وَأُبَّهَةٍ هَائِلَةٍ جِدًّا، وَخَرَجَتِ الْمَحَافِلُ وَالْكَحَّارَاتُ
وَالْمِحَفَّاتُ لِنِسَائِهِ وَبَنَاتِهِ وَأَهْلِهِ فِي هَيْبَةٍ عَجِيبَةٍ،
هَذَا كُلُّهُ وَهُوَ بِدَارِ السَّعَادَةِ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ وَقْتِ السَّحَرِ
فِي يَوْمِ السَّبْتِ خَامِسِهِ خَرَجَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طُقُزْدَمُرُ
بِنَفْسِهِ إِلَى الْكُسْوَةِ فِي مِحَفَّةٍ; لِمَرَضِهِ، مَصْحُوبًا
بِالسَّلَامَةِ، فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِئِذٍ قَدِمَ مِنْ حَلَبَ
أُسْتَادَارُ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ يَلْبُغَا الْيَحْيَاوِيُّ، فَتَسَلَّمَ
دَارَ السَّعَادَةِ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِهِمْ، وَذَهَبَ النَّاسُ لِلتَّهْنِئَةِ
وَالتَّوَدُّدِ إِلَيْهِمْ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى
خَرَجَ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ لِتَلَقِّي نَائِبِ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرِ سَيْفِ
الدِّينِ يَلْبُغَا، فَدَخَلَ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ جَاءَ فَنَزَلَ عِنْدَ
بَابِ السِّرِّ، وَقَبَّلَ الْعَتَبَةَ عَلَى الْعَادَةِ ثُمَّ مَشَى إِلَى دَارِ
السَّعَادَةِ.
وَفِي عَشِيَّةِ يَوْمِ
الِاثْنَيْنِ رَابِعَ عَشَرَهِ قَطَعَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ مِمَّنْ وَجَبَ
قَطْعُهُ مِنْ أَهَلِ الْحَبْسِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَأَضَافَ إِلَى قَطْعِ
الْيَدِ قَطْعَ الرِّجْلِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ; لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ
تَكَرَّرَتْ جِنَايَاتُهُمْ، وَصُلِبَ ثَلَاثَةٌ بِالْمَسَامِيرِ مِمَّنْ وَجَبَ قَتْلُهُ،
فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ لِقَمْعِهِ الْمُفْسِدِينَ، وَأَهْلَ الشُّرُورِ،
وَالْعَبَثِ، وَالْفَسَادِ.
وَاشْتَهَرَ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَفَاةُ
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ طُقُزْدَمُرَ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ بِأَيَّامٍ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ مُسْتَهَلِّ هَذَا
الشَّهْرِ، وَذُكِرَ أَنَّهُ رُسِمَ عَلَى وَلَدِهِ وَأُسْتَادَارِهِ
وَدَوَادَارِهِ، وَطُلِبَ مِنْهُمْ مَالٌ جَزِيلٌ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِيَ عَشَرَهُ تُوُفِّيَ الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ
بْنُ الْعِزِّ الْحَنَفِيُّ، نَائِبُ الْحُكْمِ بِبُسْتَانِهِ بِالصَّالِحِيَّةِ
وَدُفِنَ بِهَا، وَذَلِكَ بَعْدَ عَوْدِ الْمَدْرَسَةِ الظَّاهِرِيَّةِ إِلَيْهِ،
وَأَخْذِهِ إِيَّاهَا مِنْ عَمِّهِ الْقَاضِي عِمَادِ الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ،
كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَمْ يُدَرِّسْ فِيهَا إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا وَهُوَ
مُتَمَرِّضٌ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الصَّالِحِيَّةِ، فَتَمَادَى بِهِ مَرَضُهُ إِلَى
أَنْ مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ إِلَى الْحِجَازِ الشَّرِيفِ يَوْمَ السَّبْتِ حَادِيَ عَشَرَ
شَوَّالٍ، وَخَرَجَ نَاسٌ وَتُجَّارٌ كَثِيرٌ جِدًّا، وَكَانَ قَدْ وَقَعَ قَلِيلُ
مَطَرٍ، فَلَمَّا بَرَزُوا إِلَى الْكُسْوَةِ
وَنَحْوِهَا وَدُونِهَا، وَلَمْ يَخْرُجْ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْبَلَدِ، وَوَقَعَ مَطَرٌ عَظِيمٌ جِدًّا، فَفَرِحَ النَّاسُ بِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَطَرَ كَانَ قَلِيلًا جِدًّا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهُوَ كَانُونُ الْأَصَمُّ، فَلَمَّا وَقَعَ هَذَا اسْتَبْشَرُوا بِهِ وَخَافُوا عَلَى الْحُجَّاجِ ضَرَرَهُ، ثُمَّ تَدَارَكَ الْمَطَرُ وَتَتَابَعَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، لَكِنْ تَرَحَّلَ الْحُجَّاجُ فِي أَوْحَالٍ كَثِيرَةٍ وَزَلَقٍ كَثِيرٍ، وَاللَّهُ الْمُسَلِّمُ وَالْمُعِينُ وَالْحَامِي. وَلَمَّا اسْتَقَلَّ الْحَجِيجُ ذَاهِبِينَ وَقَعَ عَلَيْهِمْ مَطَرٌ شَدِيدٌ بِالصَّنَمَيْنِ، فَعَوَّقَهُمْ أَيَّامًا بِهَا، ثُمَّ تَحَامَلُوا إِلَى زُرَعَ، فَلَمْ يَصِلُوهَا إِلَّا بَعْدَ جَهْدٍ جَهِيدٍ وَأَمْرٍ شَدِيدٍ، وَرَجَعَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ عَظِيمَةً حَصَلَتْ لَهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ وَقُوَّةِ الْأَمْطَارِ وَكَثْرَةِ الْأَوْحَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ تَقَدَّمَ إِلَى أَرْضِ بُصْرَى، فَحَصَلَ لَهُمْ رِفْقٌ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَذُكِرَ أَنَّ نِسَاءً كَثِيرَةً مِنَ الْمُخَدَّرَاتِ مَشَيْنَ حُفَاةً فِيمَا بَيْنَ زُرَعَ وَالصَّنَمَيْنِ وَبَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ أَمِيرُ الْحَاجِّ سَيْفَ الدِّينِ مَلِكَ آصْ، وَقَاضِيهِ شِهَابَ بْنَ الشَّجَرَةِ الْحَاكِمَ بِمَدِينَةِ بِعْلَبَكَّ يَوْمَئِذٍ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. انْتَهَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَالشَّامِيَّةِ وَالْحَرَمَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ - الْمَلِكُ
الْكَامِلُ سَيْفُ الدِّينِ شَعْبَانُ ابْنُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ ابْنِ
الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، وَلَيْسَ لَهُ بِمِصْرَ نَائِبٌ، وَقُضَاةُ مِصْرَ
هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَنَائِبُ دِمَشْقَ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ يَلْبُغَا الْيَحْيَاوِيُّ، وَقُضَاةُ دِمَشْقَ هُمُ
الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، إِلَّا أَنَّ قَاضِيَ الْقُضَاةِ عِمَادَ
الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ الْحَنَفِيَّ نَزَلَ عَنِ الْقَضَاءِ لِوَلَدِهِ قَاضِي
الْقُضَاةِ نَجْمِ الدِّينِ، وَاسْتَقَلَّ بِالْوِلَايَةِ وَتَدْرِيسِ
النُّورِيَّةِ، وَبَقِيَ وَالِدُهُ عَلَى تَدْرِيسِ الرَّيْحَانِيَّةِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
تُوُفِّيَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، الشَّيْخُ الصَّالِحُ مُحَمَّدٌ ابْنُ
الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ قَوَامٍ بِزَاوِيَتِهِمْ بِالسَّفْحِ، وَصُلِّيَ
عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ بِجَامِعِ الْأَفْرَمِ، ثُمَّ دُفِنَ بِالزَّاوِيَةِ،
وَحَضَرَهُ الْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ أَخِيهِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَهَذَا أَشَدُّ مِنْ
ذَلِكَ.
وَفُتِحَتْ فِي أَوَّلِ
السَّنَةِ الْقَيْسَارِيَّةُ الَّتِي أَنْشَأَهَا الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
يَلْبُغَا نَائِبُ السَّلْطَنَةِ ظَاهِرَ بَابِ الْفَرَجِ، وَضُمِنَتْ ضَمَانًا
بَاهِرًا بِنَحْوٍ مِنْ سَبْعَةِ آلَافٍ كُلَّ شَهْرٍ، وَدَاخِلَهَا
قَيْسَارِيَّةُ تِجَارَةٍ فِي وَسَطِهَا بِرْكَةٌ وَمَسْجِدٌ، وَظَاهِرَهَا
دَكَاكِينُ، وَأَعَالِيهَا بُيُوتٌ لِلسَّكَنِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عُقِدَ
مَجْلِسٌ بِمَشْهَدِ عُثْمَانَ لِلنُّورِ الْخُرَاسَانِيِّ، وَكَانَ يُقْرِئُ
الْقُرْآنَ فِي جَامِعِ تَنْكِزَ، وَيُعَلِّمُ النَّاسَ أَشْيَاءَ مِنْ فَرَائِضِ
الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، ادُّعِيَ عَلَيْهِ فِيهِ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي بَعْضِ
الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَقَائِدِ،
وَيُطْلِقُ عِبَارَاتٍ زَائِدَةً عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ، وَشَهِدَ
عَلَيْهِ بَعْضُ الشُّهُودِ بِأَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةٍ، فَاقْتَضَى الْحَالُ أَنَّ
عُزِّرَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَطِيفَ بِهِ فِي الْبَلَدِ، ثُمَّ رُدَّ إِلَى
السِّجْنِ مُعْتَقَلًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ الثَّانِي عِشْرِينَ
مِنْهُ شَفَعَ فِيهِ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ بْنُ مُهَنَّا مَلِكُ الْعَرَبِ عِنْدَ
نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، فَاسْتَحْضَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَطْلَقَهُ إِلَى
أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ.
وَلَمَّا كَانَ تَارِيخُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَالِثَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى
صَلَّى نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ يَلْبُغَا
الْيَحْيَاوِيُّ النَّاصِرِيُّ بِجَامِعِ تَنْكِزَ ظَاهِرَ دِمَشْقَ بَرَّا بَابِ
النَّصْرِ، وَصَلَّى عِنْدَهُ الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ وَالْمَالِكِيُّ وَكِبَارُ
الْأُمَرَاءِ، وَلَمَّا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ صَلَّى وَقَعَدَ بَعْضُ مَمَالِيكِهِ
عَنِ الصَّلَاةِ وَمَعَهُ السِّلَاحُ; حِرَاسَةً لَهُ، ثُمَّ لَمَّا انْصَرَفَ
مِنَ الصَّلَاةِ اجْتَمَعَ بِالْأُمَرَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَتَشَاوَرُوا
طَوِيلًا، ثُمَّ نَهَضَ النَّائِبُ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، فَلَمَّا كَانَ
آخِرُ النَّهَارِ بَرَزَ بِخَدَمِهِ، وَمَمَالِيكِهِ، وَحَشَمِهِ، وَوِطَاقِهِ،
وَسِلَاحِهِ، وَحَوَاصِلِهِ، وَنَزَلَ قِبْلِيَّ مَسْجِدِ الْقَدَمِ، وَخَرَجَ
الْجُنْدُ وَالْأُمَرَاءُ فِي آخِرِ النَّهَارِ، وَانْزَعَجَ
النَّاسُ، وَاتَّفَقَ طُلُوعُ الْقَمَرِ خَاسِفًا، ثُمَّ خَرَجَ الْجَيْشُ مُلْبِسًا تَحْتَ الثِّيَابِ، وَعَلَيْهِمُ التَّرَاكِيشُ بِالنُّشَّابِ وَالْخُيُولِ الْجَنَابَاتِ، وَلَا يَدْرِي النَّاسُ مَا الْخَبَرُ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ بَلَغَهُ أَنَّ نَائِبَ صَفَدَ قَدْ رَكِبَ إِلَيْهِ لِيَقْبِضَ عَلَيْهِ، فَانْزَعَجَ لِذَلِكَ، وَقَالَ: لَا أَمُوتُ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ أَفْرَاسِي، لَا عَلَى فِرَاشِي. وَخَرَجَ الْجُنْدُ وَالْأُمَرَاءُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَفُوتَهُمْ بِالْفِرَارِ، فَنَزَلُوا يَمْنَةً وَيَسْرَةً، فَلَمْ يَذْهَبْ مِنْ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ بَلِ اسْتَمَرَّ بِهَا يَعْمَلُ النِّيَابَةَ، وَيَجْتَمِعُ بِالْأُمَرَاءِ جَمَاعَةً وَفُرَادَى، وَيَسْتَمِيلُهُمْ إِلَى مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الرَّأْيِ، وَهُوَ خَلْعُ الْمَلِكِ الْكَامِلِ شَعْبَانَ ; لِأَنَّهُ يُكْثِرُ مِنْ مَسْكِ الْأُمَرَاءِ بِغَيْرِ سَبَبٍ، وَيَفْعَلُ أَفْعَالًا لَا تَلِيقُ بِمِثْلِهِ، وَذَكَرُوا أُمُورًا كَثِيرَةً، وَأَنْ يُوَلُّوا أَخَاهُ أَمِيرَ حَاجِّي بْنَ النَّاصِرِ; لِحُسْنِ شَكَالَتِهِ، وَجَمِيلِ فِعْلِهِ، وَلَمْ يَزَلْ يَفْتِلُ لَهُمْ فِي الذِّرْوَةِ وَالْغَارِبِ حَتَّى أَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَوَافَقُوهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمُوا لَهُ مَا يَدَّعِيهِ، وَبَايَعُوهُ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ وَتَابَعُوهُ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الْبَعْثِ إِلَى نُوَّابِ الْبِلَادِ يَسْتَمِيلُهُمْ إِلَى مَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ الدِّمَشْقِيُّونَ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ، وَشَرَعَ أَيْضًا فِي التَّصَرُّفِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ الْكُلِّيَّةِ، وَأَخْرَجَ بَعْضَ مَنْ كَانَ الْمَلَكُ الْكَامِلُ اعْتَقَلَهُ بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَرَدَّ إِلَيْهِ إِقْطَاعَهُ بَعْدَ مَا بَعَثَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ إِلَى مَنْ أَقْطَعَهُ مَنْشُورَهُ، وَعَزَلَ وَوَلَّى، وَأَخَذَ وَأَعْطَى، وَطَلَبَ التُّجَّارَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ ثَامِنَ عَشَرَهُ لِيُبَاعَ عَلَيْهِمْ غِلَالُ الْحَوَاصِلِ السُّلْطَانِيَّةِ، فَيَدْفَعُوا أَثْمَانَهَا فِي الْحَالِ، ثُمَّ يَذْهَبُوا
فَيَتَسَلَّمُوهَا مِنَ
الْبِلَادِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ عَلَى الْعَادَةِ
وَالْأُمَرَاءُ وَالسَّادَةُ، وَهَذَا كُلُّهُ وَهُوَ مُخَيِّمٌ بِالْمَكَانِ
الْمَذْكُورِ، لَا يَحْصُرُهُ بَلَدٌ وَلَا يَحْوِيهِ سُورٌ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ رَابِعِ جُمَادَى الْآخِرَةِ خَرَجَتْ تَجْرِيدَةٌ نَحْوُ
عَشَرَةٍ طَلِيعَةً لِتَلَقِّي مَنْ يَقْدُمُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
إِمَّا مُقَاتِلًا أَوْ مُخَامِرًا عَلَيْهِمْ، وَهِيَ أَلْفَانِ بِمُقَدَّمَيْنِ،
هَذَا كُلُّهُ وَالْأَخْبَارُ تَقْدُمُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
بِاخْتِلَافِ الْأُمَرَاءِ عَلَى السُّلْطَانِ، وَأَنَّ الْأُمَرَاءَ مُبَايِعُونَ
لِلشَّامِيِّينَ، وَتَقْدُمُ التَّجَارِيدُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنَ
الْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ بِبَقَاءِ الْأَمْرِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَلَمْ
يُصَدِّقْهُمُ النَّائِبُ، وَرُبَّمَا عَاقَبَ بَعْضَهُمْ، ثُمَّ رَفَعَهُمْ إِلَى
الْقَلْعَةِ، وَأَهِلُ دِمَشْقَ مَا بَيْنَ مُصَدِّقٍ بِاخْتِلَافِ
الْمِصْرِيِّينَ، وَمَا بَيْنَ قَائِلٍ: السُّلْطَانُ الْكَامِلُ قَائِمُ
الصُّورَةِ، مُسْتَمِرٌّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَالتَّجَارِيدُ
الْمِصْرِيَّةُ وَاصِلَةٌ قَرِيبًا، وَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ خَبْطَةٍ عَظِيمَةٍ.
وَتَشَوَّشَتْ أَذْهَانُ النَّاسِ وَأَحْوَالُهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ
الْمَسْئُولُ أَنْ يُحْسِنَ الْعَاقِبَةَ.
وَحَاصِلُ الْقَضِيَّةِ أَنَّ الْعَامَّةَ مَا بَيْنَ تَصْدِيقٍ وَتَكْذِيبٍ،
وَنَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَخَوَاصُّهُ مِنْ كِبَارِ الْأُمَرَاءِ عَلَى ثِقَةٍ
مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّ الْأُمَرَاءَ عَلَى خُلْفٍ شَدِيدٍ فِي الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ بَيْنَ السُّلْطَانِ الْكَامِلِ شَعْبَانَ وَبَيْنَ أَخِيهِ
أَمِيرِ حَاجِّي، وَالْجُمْهُورُ مَعَ أَخِيهِ أَمِيرِ حَاجِّي، ثُمَّ جَاءَتِ
الْأَخْبَارُ إِلَى النَّائِبِ بِأَنَّ التَّجَارِيدَ الْمِصْرِيَّةَ خَرَجَتْ
تَقْصِدُ الشَّامَ وَمَنْ فِيهِ مِنَ الْجُنْدِ لِتُوَطِّدَ الْأَمْرَ، ثُمَّ
إِنَّهُ تَرَاجَعَتْ رُءُوسُ الْأُمَرَاءِ فِي اللَّيْلِ إِلَى مِصْرَ،
وَاجْتَمَعُوا إِلَى إِخْوَانِهِمْ مِمَّنْ هُوَ مُمَالِئٌ لَهُمْ عَلَى
السُّلْطَانِ، فَاجْتَمَعُوا وَدَعَوْا إِلَى سَلْطَنَةِ أَمِيرِ حَاجِّي،
وَضُرِبَتِ الطَّبْلَخَانَاهْ، وَصَارَتْ بَاقِي النُّفُوسِ مُتَجَاهِرَةً عَلَى
نِيَّةِ تَأْيِيدِهِ، وَنَابَذُوا السُّلْطَانَ الْكَامِلَ، وَعَدُّوا
عَلَيْهِ مَسَاوِئَهُ،
وَقُتِلَ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ، وَفَرَّ الْكَامِلُ وَأَنْصَارُهُ فَاحْتِيطَ
عَلَيْهِ، وَخَرَجَ أَرْغُونُ الْعَلَائِيُّ زَوْجُ ابْنَتِهِ وَاسْتَظْهَرَ
أَيْضًا أَمِيرَ حَاجِّي، فَأَجْلَسُوهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَلَقَّبُوهُ
بِالْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ، وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ إِلَى النَّائِبِ بِذَلِكَ،
فَضُرِبَتِ الْبَشَائِرُ عِنْدَهُ، وَبُعِثَ إِلَى نَائِبِ الْقَلْعَةِ
فَامْتَنَعَ مِنْ ضَرْبِهَا، وَكَانَ قَدْ طُلِبَ إِلَى الْوِطَاقِ فَامْتَنَعَ
مِنَ الْحُضُورِ، وَأَغْلَقَ بَابَ الْقَلْعَةِ، فَانْزَعَجَ النَّاسُ،
وَاخْتَبَطَ الْبَلَدُ، وَتَقَلَّصَ وُجُودُ الْخَيْرِ، وَحُصِّنَتِ الْقَلْعَةُ،
وَدَعَوْا لِلْكَامِلِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً عَلَى الْعَادَةِ، وَأَرْجَفَ
الْعَامَّةُ بِالْجَيْشِ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي كَثْرَةِ فُضُولِهِمْ، فَحَصَلَ
لِبَعْضِهِمْ أَذِيَّةٌ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ ثَامِنِ الشَّهْرِ
قَدِمَ نَائِبُ حَمَاةَ إِلَى دِمَشْقَ مُطِيعًا لِنَائِبِ السَّلْطَنَةِ فِي
تَجَمُّلٍ وَأُبَّهَةٍ، كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَمْثَالِهِ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ وُقِّعَتْ بِطَاقَةٌ بِقُدُومِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
بَيْغَرَا حَاجِبِ الْحُجَّابِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ; لِأَجْلِ الْبَيْعَةِ
لِلسُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ، فَدَقَّتِ الْبَشَائِرَ بِالْوِطَاقِ،
وَأُمِرَ بِتَزْيِينِ الْبَلَدِ، فَزَيَّنَ النَّاسُ وَلَيْسُوا مُنْشَرِحِينَ،
وَأَكْثَرُهُمْ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا مَكْرٌ وَخَدِيعَةٌ، وَأَنَّ التَّجَارِيدَ
الْمِصْرِيَّةَ وَاصِلَةٌ قَرِيبًا، وَامْتَنَعَ نَائِبُ الْقَلْعَةِ مِنْ دَقِّ
الْبَشَائِرِ، وَبَالَغَ فِي تَحْصِينِ الْقَلْعَةِ، وَغَلْقِ بَابِهَا، فَلَا يُفْتَحُ
إِلَّا الْخَوْخَةُ الْبَرَّانِيَّةُ وَالْجَوَّانِيَّةُ، وَهَذَا الصَّنِيعُ هُوَ
الَّذِي يُشَوِّشُ خَوَاطِرَ الْعَامَّةِ، يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ ثَمَّ شَيْءٌ
لَهُ صِحَّةٌ كَانَ نَائِبُ الْقَلْعَةِ يَطَّلِعُ عَلَى هَذَا قَبْلَ الْوِطَاقِ،
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ بَعْدَ الزَّوَالِ قَدِمَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ بَيْغَرَا إِلَى الْوِطَاقِ، وَقَدْ تَلَقَّوْهُ وَعَظَّمُوهُ، وَمَعَهُ
تَقْلِيدُ النِّيَابَةِ
مِنَ الْمُظَفَّرِ إِلَى
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ يَلْبُغَا نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَكِتَابٌ إِلَى
الْأُمَرَاءِ بِالسَّلَامِ، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ وَبَايَعُوهُ، وَانْتَظَمَتِ
الْكَلِمَةُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَرَكِبَ بَيْغَرَا إِلَى الْقَلْعَةِ،
فَتَرَجَّلَ وَسَلَّ سَيْفَهُ، وَدَخَلَ إِلَى نَائِبِ الْقَلْعَةِ، فَبَايَعَهُ
سَرِيعًا، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ فِي الْقَلْعَةِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ حِينَ
بَلَغَهُ الْخَبَرُ، وَطَابَتْ أَنْفُسُ النَّاسِ، ثُمَّ أَصْبَحَتِ الْقَلْعَةُ
فِي الزِّينَةِ وَزَادَتِ الزِّينَةُ فِي الْبَلَدِ، وَفَرِحَ النَّاسُ. فَلَمَّا
كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ حَادِيَ عَشَرَ الشَّهْرِ دَخَلَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ
مِنَ الْوِطَاقِ إِلَى الْبَلَدِ، وَالْأَطْلَابُ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي تَجَمُّلٍ
وَطَبْلَخَانَاهْ عَلَى عَادَةِ الْعَرْضِ، وَقَدْ خَرَجَ أَهْلُ الْبَلَدِ
لِلْفُرْجَةِ، وَخَرَجَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالتَّوْرَاةِ، وَأُشْعِلَتِ الشُّمُوعُ،
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَقَدْ صَلَّى فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِالشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ صَبِيٌّ عُمُرُهُ سِتُّ سِنِينَ، وَقَدْ رَأَيْتُهُ
وَامْتَحَنْتُهُ فَإِذَا هُوَ يُجِيدُ الْحِفْظَ وَالْأَدَاءَ، وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ
مَا يَكُونُ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ فُرِغَ مِنْ بِنَاءِ
الْحَمَّامَيْنِ الَّذِينَ بَنَاهُمَا نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِالْقُرْبِ مِنِ
الثَّابِتِيَّةِ فِي خَانِ السُّلْطَانِ الْعَتِيقِ، وَمَا حَوْلَهَا مِنَ
الرِّبَاعِ وَالْقِرَبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ حَادِيَ عَشَرَهُ اجْتَمَعَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ،
وَالْقُضَاةُ الْأَرْبَعَةُ، وَوَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ، وَالدَّوْلَةِ عِنْدَ
تَلِّ الْمُشْنِقِينَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ قَدْ عَزَمَ عَلَى
بِنَاءِ هَذِهِ
الْبُقْعَةِ جَامِعًا بِقَدْرِ جَامِعِ تَنْكِزَ، فَاشْتَوَرُوا هُنَالِكَ، ثُمَّ
انْفَصَلَ الْحَالُ عَلَى أَنْ يُعْمَلَ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَالِثِ ذِي الْقِعْدَةِ صُلِّيَ عَلَى الشَّيْخِ زَيْنِ
الدِّينِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، أَخِي الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ
- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَانِيَ عَشَرَهُ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ
الْقَطَنَانِيُّ بِقَطَنَا، وَكَانَ قَدِ اشْتَهَرَ أَمْرُهُ فِي هَذِهِ
السِّنِينَ، وَاتَّبَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفَلَّاحِينَ وَالشَّبَابِ
الْمُنْتَمِينَ إِلَى طَرِيقَةِ أَحْمَدَ بْنِ الرِّفَاعِيِّ، وَعَظُمَ أَمْرُهُ
وَسَارَ ذِكْرُهُ، وَقَصَدَهُ الْأَكَابِرُ إِلَى بَلَدِهِ لِلزِّيَارَةِ
مَرَّاتٍ، وَكَانَ يُقِيمُ السَّمَاعَاتِ عَلَى عَادَةِ أَمْثَالِهِ، وَلَهُ
أَصْحَابٌ يُظْهِرُونَ إِشَارَاتٍ بَاطِلَةً، وَأَحْوَالًا مُفْتَعَلَةً، وَهَذَا
مِمَّا كَانَ يُنْقَمُ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ
بِحَالِهِمْ فَجَاهِلٌ، وَإِنْ كَانَ يُقِرُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِثْلُهُمْ،
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَفِي أَوَاخِرِ هَذَا الشَّهْرِ - أَعْنِي: ذَا الْحِجَّةِ مِنَ الْعِيدِ وَمَا
بَعْدَهُ - اهْتَمَّ مَلِكُ
الْأُمَرَاءِ فِي بِنَاءِ الْجَامِعِ الَّذِي بَنَاهُ تَحْتَ الْقَلْعَةِ مَكَانَ تَلِّ الْمُشْنِقِينَ، وَهَدْمِ مَا كَانَ هُنَاكَ مِنْ أَبْنِيَةٍ، وَعُمِلَتِ الْعَجَلُ، وَأُخِذَتْ أَحْجَارٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَرْجَاءِ الْبَلَدِ، وَأَكْثَرُ مَا أُخِذَتِ الْأَحْجَارُ مِنَ الرَّحْبَةِ الَّتِي لِلْحَضَرِيِّينَ، مِنْ تَحْتِ الْمِئْذَنَةِ الَّتِي فِي رَأْسِ عَقَبَةِ الْكَتَّانِ، تَيَسَّرَ مِنْهَا أَحْجَارٌ كَثِيرَةٌ، وَالْأَحْجَارُ أَيْضًا مِنْ جَبَلِ قَاسِيُونَ، وَحُمِلَ عَلَى الْجَمَالِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ سَلْخَ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي: سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ - قَدْ بَلَغَتْ غِرَارَةُ الْقَمْحِ إِلَى مِائَتَيْنِ فَمَا دُونَهَا، وَرُبَّمَا بِيعَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَالشَّامِيَّةِ، وَالْحَرَمَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ - الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ
أَمِيرُ حَاجِّي ابْنُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ،
وَنَائِبُهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرُقْطَايُ،
وَقُضَاةُ مِصْرَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْمَاضِيَةِ بِأَعْيَانِهِمْ،
وَنَائِبُهُ بِالشَّامِ الْمَحْرُوسَةِ سَيْفُ الدِّينِ يَلْبُغَا النَّاصِرِيُّ،
وَقُضَاةُ الشَّامِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا بِأَعْيَانِهِمْ،
غَيْرَ أَنَّ الْقَاضِيَ عِمَادَ الدِّينِ الْحَنَفِيَّ نَزَلَ لِوَلَدِهِ قَاضِي
الْقُضَاةِ نَجْمِ الدِّينِ، فَبَاشَرَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، وَحَاجِبُ
الْحُجَّابِ فَخْرُ الدِّينِ أَيَاسُ.
وَاسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَنَائِبُ السَّلْطَنَةِ فِي هِمَّةٍ عَالِيَةٍ
فِي عِمَارَةِ الْجَامِعِ الَّذِي قَدْ شَرَعَ فِي بِنَائِهِ غَرْبِيَّ سُوقِ
الْخَيْلِ، بِالْمَكَانِ الَّذِي كَانَ يُعْرَفُ بِتَلِّ الْمُشْنِقِينَ.
وَفِي ثَالِثِ الْمُحَرَّمِ تُوُفِّيَ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ الدِّينِ
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْهَمْدَانِيُّ الْمَالِكِيُّ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِمَيْدَانِ الْحَصَا، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ
عَلَيْهِ لِرِيَاسَتِهِ وَدِيَاثَةِ أَخْلَاقِهِ، وَإِحْسَانِهِ إِلَى كَثِيرٍ
مِنَ النَّاسِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ وَصَلَ
تَقْلِيدُ قَضَاءِ الْمَالِكِيَّةِ لِلْقَاضِي
جَمَالِ الدِّينِ
الْمِسَلَّاتِيِّ الَّذِي كَانَ نَائِبًا لِلْقَاضِي شَرَفِ الدِّينِ قَبْلَهُ،
وَخُلِعَ عَلَيْهِ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ.
وَفِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أَخَذُوا لِبِنَاءِ الْجَامِعِ الْمُجَدَّدِ
بِسُوقِ الْخَيْلِ أَعْمِدَةً كَثِيرَةً مِنَ الْبَلَدِ وَظَاهِرِ الْبَلَدِ،
يُعَلِّقُونَ مَا فَوْقَهُ مِنَ الْبِنَاءِ وَيَأْخُذُونَهُ ثُمَّ يُقِيمُونَ
بَدَلَهُ دِعَامَةً، وَأَخَذُوا مِنْ دَرْبِ الصَّيْقَلِ، وَأَخَذُوا الْعَمُودَ
الَّذِي كَانَ بِسُوقِ الْعِلْبِيِّينَ الَّذِي فِي تِلْكَ الدَّخْلَةِ عَلَى
رَأْسِهِ مِثْلُ الْكُرَةِ فِيهَا حَدِيدٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ
عَسَاكِرَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِ طَلْسَمٌ لِعُسْرِ بَوْلِ الْحَيَوَانِ إِذَا
دَارُوا حَوْلَهُ بِالدَّابَّةِ يَنْحَلُّ أَرَاقِيهَا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ
السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
خَلَعُوهُ مِنْ مَوْضِعِهِ، بَعْدَ مَا كَانَ لَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ نَحْوًا
مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي هَذَا
الْيَوْمِ وَهُوَ مَمْدُودٌ فِي سُوقِ الْعِلْبِيِّينَ عَلَى الْأَخْشَابِ
لِيَجُرُّوهُ إِلَى الْجَامِعِ الْمَذْكُورِ مِنَ السُّوقِ الْكَبِيرِ،
وَيَخْرُجُوا بِهِ مِنْ بَابِ الْجَابِيَةِ الْكَبِيرِ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ.
وَفِي أَوَاخِرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ ارْتَفَعَ بِنَاءُ الْجَامِعِ الَّذِي
أَنْشَأَهُ النَّائِبُ، وَجَفَّتِ الْعَيْنُ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ جِدَارِهِ
حِينَ أَسَّسُوهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي سَلْخِ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ بِمِسْكِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الْأُمَرَاءِ; كَالْحِجَازِيِّ،
وَآقْ سُنْقُرُ النَّاصِرِيُّ، وَمَنْ لَفَّ لَفَّهُمَا، فَتَحَرَّكَ الْجُنْدُ
بِالشَّامِ، وَوَقَعَتْ خَبْطَةٌ. ثُمَّ اسْتَهَلَّ شَهْرُ جُمَادَى الْأُولَى
وَالْجُنْدُ فِي حَرَكَةٍ
شَدِيدَةٍ، وَنَائِبُ
السَّلْطَنَةِ يَسْتَدْعِي الْأُمَرَاءَ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ بِسَبَبِ مَا
وَقَعَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَتَعَاهَدَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنْ لَا
يُؤْذِيَ أَحَدًا أَبَدًا، وَأَنْ يَكُونُوا يَدًا وَاحِدَةً.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ تَحَوَّلَ مَلِكُ الْأُمَرَاءِ مِنْ دَارِ السَّعَادَةِ
إِلَى الْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، وَاحْتَرَزَ لِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ حَاشِيَتُهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْهُ قَدِمَ أَمِيرٌ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى الْبَرِيدِ، وَمَعَهُ كِتَابٌ مِنَ السُّلْطَانِ
فِيهِ التَّصْرِيحُ بِعَزْلِ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ يَلْبُغَا نَائِبِ الشَّامِ،
فَقُرِئَ عَلَيْهِ بِحَضْرَةِ الْأُمَرَاءِ بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، فَتَغَمَّمَ
لِذَلِكَ وَسَاءَهُ، وَفِيهِ طَلَبُهُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى
الْبَرِيدِ لِيُوَلَّى نِيَابَةَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ
ذَلِكَ خَدِيعَةً لَهُ، فَأَظْهَرَ الِامْتِنَاعَ، وَأَنَّهُ لَا يَذْهَبُ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَبَدًا، وَقَالَ: إِنْ كَانَ السُّلْطَانُ قَدِ
اسْتَكْثَرَ عَلَيَّ وِلَايَةَ دِمَشْقَ، فَيُوَلِّينِي أَيَّ الْبِلَادِ شَاءَ،
فَأَنَا رَاضٍ بِهَا. وَرَدَّ الْجَوَابَ بِذَلِكَ.
وَلَمَّا أَصْبَحَ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ يَوْمُ الْخَمِيسِ وَهُوَ خَامِسَ
عَشَرَهُ، رَكِبَ فَخَيَّمَ قَرِيبًا مِنَ الْجُسُورَةِ، فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي
خَيَّمَ فِيهِ عَامَ أَوَّلٍ، وَفِي الشَّهْرِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ، فَبَاتَ
لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَأَمَرَ الْأُمَرَاءَ بِنَصْبِ الْخِيَامِ هُنَالِكَ عَلَى
عَادَتِهِمْ عَامَ أَوَّلٍ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ سَادِسَ عَشَرَهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ مَا شَعَرَ
النَّاسُ إِلَّا وَالْأُمَرَاءُ قَدِ اجْتَمَعُوا تَحْتَ الْقَلْعَةِ،
وَأَحْضَرُوا مِنَ الْقَلْعَةِ سَنْجَقَيْنِ سُلْطَانِيَّيْنِ أَصْفَرَيْنِ،
وَضَرَبُوا الطُّبُولَ حَرْبِيًّا، فَاجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ تَحْتَ السَّنْجَقِ
السُّلْطَانِيِّ، وَلَمْ يَتَأَخَّرْ مِنْهُمْ سِوَى النَّائِبِ وَذَوِيهِ; كَابْنَيْهِ،
وَإِخْوَتِهِ، وَحَاشِيَتِهِ، وَالْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
قَلَاوُونَ أَحَدِ
مُقَدَّمِي الْأُلُوفِ، وَخُبْزُهُ أَكْبَرُ أَخْبَازِ الْأُمَرَاءِ بَعْدَ
النِّيَابَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْأُمَرَاءُ أَنْ هَلُمَّ إِلَى السَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ لِلسُّلْطَانِ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَتَكَرَّرَتِ الرُّسُلُ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ، فَسَارُوا إِلَيْهِ فِي الطَّبْلَخَانَاهِ
وَالْبُوقَاتِ مَلْبِسِينَ لَأْمَةَ الْحَرْبِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ،
وَجَدُوهُ قَدْ رَكِبَ خُيُولَهُ مُلْبِسًا وَاسْتَعَدَّ لِلْهَرَبِ، فَلَمَّا
وَاجَهَهُمْ هَرَبَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَفَرُّوا فِرَارَ رَجُلٍ وَاحِدٍ،
وَسَاقَ الْجُنْدَ وَرَاءَهُ فَلَمْ يَكْتَنِفُوا لَهُ غُبَارًا، وَأَقْبَلَ
الْعَامَّةُ وَتَرْكُمَانُ الْقُبَيْبَاتِ، فَانْتَهَبُوا مَا بَقِيَ فِي
مُعَسْكَرِهِ مِنَ الشَّعِيرِ، وَالْأَغْنَامِ، وَالْخِيَامِ، حَتَّى جَعَلُوا
يُقَطِّعُونَ الْخِيَامَ وَالْأَطْنَابَ قِطَعًا قِطَعًا، فَعُدِمَ لَهُ
وَلِأَصْحَابِهِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ مَا يُسَاوِي أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ،
وَانْتُدِبَ لِطَلَبِهِ وَالْمَسِيرِ وَرَاءَهُ الْحَاجِبُ الْكَبِيرُ الَّذِي
قَدِمَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ قَرِيبًا، وَالْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ
بْنُ صُبْحٍ أَحَدُ مُقَدَّمِي الْأُلُوفِ، فَسَارَ عَلَى طَرِيقِ
الْأَشْرَفِيَّةِ ثُمَّ عَدَلَ إِلَى نَاحِيَةِ الْقَرْيَتَيْنِ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ قَدِمَ الْأَمِيرُ فَخْرُ الدِّينِ إِيَاسُ
نَائِبُ صَفَدَ مِنْهَا، فَتَلَقَّاهُ الْأُمَرَاءُ وَالْمُقَدَّمُونَ، ثُمَّ
جَاءَ فَنَزَلَ الْقَصْرَ، وَرَكِبَ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ فِي الْجَحَافِلِ،
وَلَمْ يَتْرُكْ بِدِمَشْقَ أَحَدًا مِنَ الْجُنْدِ إِلَّا رَكِبَ مَعَهُ، وَسَاقَ
وَرَاءَ يَلْبُغَا وَمَنْ مَعَهُ، وَأَتْبَعَهُمُ الْأَزْوَادَ وَالْأَثْقَالَ،
وَسَاقَ يَلْبُغَا فَابْتَدَأَ نَحْوَ الْبَرِّيَّةِ، فَجَعَلَتِ الْأَعْرَابُ
يَعْتَرِضُونَهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَمَا زَالُوا يَكُفُّونَهُ حَتَّى سَارَ نَحْوَ
حَمَاةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ نَائِبُهَا وَقَدْ ضَعُفَ أَمْرُهُ جِدًّا، وَكَلَّ
هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ كَثْرَةِ السَّوْقِ وَمُصَاوَلَةِ الْأَعْدَاءِ مِنْ
كُلِّ جَانِبٍ، فَأَلْقَى بِيَدِهِ، وَأَخَذَ سَيْفَهُ وَسُيُوفَ مَنْ مَعَهُ،
وَاعْتُقِلُوا بِحَمَاةَ، وَبُعِثَ بِالسُّيُوفِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى دِمَشْقَ صَبِيحَةَ يَوْمِ
الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ عَشَرَ هَذَا الشَّهْرِ، فَضُرِبَتِ الْبَشَائِرُ بِالْقَلْعَةِ وَعَلَى بَابِ الْمَيَادِينِ عَلَى الْعَادَةِ، وَأَحْدَقَتِ الْعَسَاكِرُبِحَمَاةَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يَنْتَظِرُونَ مَا رَسَمَ بِهِ السُّلْطَانُ مِنْ شَأْنِهِ، وَقَامَ إِيَاسُ بِجَيْشِ دِمَشْقَ عَلَى حِمْصَ، وَكَذَلِكَ جَيْشُ طَرَابُلُسَ، ثُمَّ دَخَلَتِ الْعَسَاكِرُ رَاجِعَةً إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ التَّاسِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ، وَقَدِمَ يَلْبُغَا مُقَيَّدًا عَلَى كَدِيشٍ هُوَ وَأَبُوهُ، وَحَوْلَهُ الْأُمَرَاءُ الْمُوَكَّلُونَ بِهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ، فَدَخَلُوا بِهِ بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَاجْتَازُوا بِهِ فِي سُوقِ السَّبْقَةِ بَعْدَ مَا غُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ، وَطُفِئَتِ السُّرُجُ، وَغُلِّقَتِ الطَّاقَاتُ، ثُمَّ مَرُّوا عَلَى الشَّيْخِ رَسْلَانَ وَالْبَابِ الشَّرْقِيِّ عَلَى بَابِ الصَّغِيرِ، ثُمَّ مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ الذَّبَانِ عَلَى الْمُصَلَّى، وَاسْتَمَرُّوا ذَاهِبِينَ نَحْوَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَتَوَاتَرَتِ الْبَرِيدِيَّةُ مِنَ السُّلْطَانِ بِمَا رَسَمَ بِهِ فِي أَمْرِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ; مِنَ الِاحْتِيَاطِ عَلَى حَوَاصِلِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، وَأَمْلَاكِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدِمَ الْبَرِيدُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَأَخْبَرَ بِقَتْلِ يَلْبُغَا فِيمَا بَيْنَ قَاقُونَ وَغَزَّةَ، وَأُخِذَتْ رُءُوسُهُمَا إِلَى السُّلْطَانِ، وَكَذَلِكَ قُتِلَ بِغَزَّةَ الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ، وَهُمُ الْوَزِيرُ ابْنُ سَرْدِ بْنِ الْبَغْدَادِيِّ، وَالدَّوَادَارُ طُغَيْتَمُرَ، وَبَيْدَمُرُ الْبَدْرِيُّ أَحَدُ الْمُقَدَّمِينَ، كَانَ قَدْ نَقَمَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ مُمَالَأَةَ يَلْبُغَا، فَأَخْرَجَهُمْ مِنْ مِصْرَ مَسْلُوبِينَ جَمِيعَ أَمْوَالِهِمْ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا كَانُوا بِغَزَّةَ لَحِقَهُمُ الْبَرِيدُ بِقَتْلِهِمْ حَيْثُ وَجَدَهُمْ،
وَكَذَلِكَ رُسِمَ
بِقَتْلِ يَلْبُغَا حَيْثُ الْتَقَاهُ مِنَ الطَّرِيقِ، فَلَمَّا انْفَصَلَ
الْبَرِيدُ مِنْ غَزَّةَ، الْتَقَى يَلْبُغَا فِي طَرِيقِ وَادِي فَحْمَةَ،
فَخَنَقَهُ ثُمَّ احْتَزَّ رَأْسَهُ وَذَهَبَ بِهِ إِلَى السُّلْطَانِ، وَقَدِمَ
أَمِيرَانِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِالْحَوْطَةِ عَلَى حَوَاصِلِ
يَلْبُغَا وَطَوَاشِيٍّ مِنْ بَيْتِ الْمَمْلَكَةِ، فَتَسَلَّمَ مَصَاغًا
وَجَوَاهِرَ نَفِيسَةً جِدًّا، وَرُسِمَ بِبَيْعِ أَمْلَاكِهِ وَمَا كَانَ
وَقَفَهُ عَلَى الْجَامِعِ الَّذِي كَانَ قَدْ شَرَعَ بِعِمَارَتِهِ بِسُوقِ
الْخَيْلِ، وَكَانَ قَدِ اشْتَهَرَ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَيْهِ الْقَيْسَارِيَّةَ
الَّتِي كَانَ أَنْشَأَهَا ظَاهِرَ بَابِ الْفَرَجِ، وَالْحَمَّامَيْنِ
الْمُتَجَاوِرَيْنِ ظَاهِرَ بَابِ الْجَابِيَةِ غَرْبِيَّ خَانِ السُّلْطَانِ
الْعَتِيقِ، وَخُصَصًا فِي قَرَايَا أُخَرَ كَانَ قَدِ اسْتَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ
بِذَلِكَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ طُلِبَ بَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ
مِنْ حَمَاةَ، فَحُمِلُوا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَعُدِمَ خَبَرُهُمْ،
فَلَا يُدْرَى عَلَى أَيِّ صِفَةٍ هَلَكُوا.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُونُ شَاهْ
دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةَ نَائِبًا عَلَيْهَا، وَكَانَ قُدُومُهُ مِنْ حَلَبَ،
انْفَصَلَ عَنْهَا، وَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا الْأَمِيرُ فَخْرُ الدِّينِ إِيَاسُ
الْحَاجِبُ، فَدَخَلَهَا أَرْغُونُ شَاهْ فِي أُبَّهَةِ النِّيَابَةِ، وَعَلَيْهِ
خِلْعَةٌ وَعِمَامَةٌ بِطَرَفَيْنِ، وَهُوَ قَرِيبُ الشَّكْلِ مِنْ تَنْكِزَ
رَحِمَهُ اللَّهُ، فَنَزَلَ دَارَ السَّعَادَةِ وَحَكَمَ بِهَا، وَفِيهِ صَرَامَةٌ
وَشَهَامَةٌ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْآخِرِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ صُلِّيَ عَلَى
الْأَمِيرِ عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ قَرَاسُنْقُرَ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ
وَظَاهِرَ بَابِ النَّصْرِ، وَحَضَرَ الْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ،
وَالْأُمَرَاءُ، وَدُفِنَ
بِتُرْبَتِهِ بِمَيْدَانِ الْحَصَا بِالْقُرْبِ مِنَ الْجَامِعِ الْكَرِيمِيِّ.
وَعُمِلَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ عَلَى الْعَادَةِ مِنْ إِشْعَالِ الْقَنَادِيلِ،
وَلَمْ يَشْتَغِلِ النَّاسُ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْغَلَاءِ، وَتَأَخُّرِ
الْمَطَرِ، وَقِلَّةِ الْغَلَّةِ، وَغَلَاءِ السِّعْرِ، كُلُّ رَطْلٍ إِلَّا
وُقِيَّةً بِدِرْهَمٍ، وَهُوَ مُتَغَيِّرٌ، وَسَائِرُ الْأَشْيَاءِ غَالِيَةٌ،
وَالزَّيْتُ كُلُّ رَطْلٍ بِأَرْبَعَةٍ وَنِصْفٍ، وَمَثْلُهُ الشَّيْرَجُ،
وَالصَّابُونُ، وَالْأُرْزُ، وَالْعَنْبَرِيسُ، كُلُّ رَطْلٍ بِثَلَاثَةٍ،
وَسَائِرُ الْأَطْعِمَاتِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ قَرِيبَ
الْحَالِ سِوَى اللَّحْمِ بِدِرْهَمَيْنِ وَرُبْعٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَغَالِبُ
أَهْلِ حَوْرَانَ يَرِدُونَ مِنَ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ، وَيَجْلِبُونَ
الْقَمْحَ لِلْمُؤْنَةِ وَالْبِدَارِ مِنْ دِمَشْقَ، وَبِيعَ عِنْدَهُمُ الْقَمْحُ
الْمُغَرْبَلُ كُلُّ مُدٍّ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، وَهُمْ فِي جَهْدٍ شَدِيدٍ،
وَاللَّهُ هُوَ الْمَأْمُولُ الْمَسْئُولُ، وَإِذَا سَافَرَ أَحَدٌ شَقَّ عَلَيْهِ
تَحْصِيلُ الْمَاءِ لِنَفْسِهِ وَلِفَرَسِهِ وَدَابَّتِهِ; لِأَنَّ الْمِيَاهَ
الَّتِي فِي الدَّرْبِ كُلَّهَا نَفِدَتْ، وَأَمَّا الْقُدْسُ فَأَشَدُّ حَالًا
وَأَبْلَغُ فِي ذَلِكَ.
وَلَمَّا كَانَ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَنَّ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ عَلَى عِبَادِهِ
بِإِرْسَالِ الْغَيْثِ الْمُتَدَارَكِ الَّذِي أَحْيَا الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ،
وَتَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَى أَوْطَانِهِمْ; لِوُجُودِ الْمَاءِ فِي الْأَوْدِيَةِ
وَالْغُدْرَانِ، وَامْتَلَأَتْ بِرْكَةُ زُرَعَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا
قَطْرَةٌ، وَجَاءَتْ بِذَلِكَ الْبَشَائِرُ إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَذُكِرَ
أَنَّ الْمَاءَ عَمَّ الْبِلَادَ كُلَّهَا، وَأَنَّ الثَّلْجَ عَلَى جَبَلِ بَنِي
هِلَالٍ كَثِيرٌ، وَأَمَّا الْجِبَالُ الَّتِي حَوْلَ
دِمَشْقَ فَعَلَيْهَا
ثُلُوجٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَاطْمَأَنَّتِ الْقُلُوبُ، وَحَصَلَ فَرَحٌ شَدِيدٌ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَذَلِكَ فِي آخِرِ يَوْمٍ بَقِيَ مِنْ
تِشْرِينَ الثَّانِي.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ تُوُفِّيَ
الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ مُحَمَّدٌ الْحَنْبَلِيُّ بِالصَّالِحِيَّةِ، وَهُوَ
خَطِيبُ الْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْمَشْهُورِينَ
رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يُلَقِّنُ الْأَمْوَاتَ بَعْدَ
دَفْنِهِمْ، فَلَقَّنَهُ اللَّهُ حُجَّتَهُ، وَثَبَّتَهُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
مَقْتَلُ الْمُظَفَّرِ وَتَوْلِيَةُ النَّاصِرِ حَسَنِ بْنِ النَّاصِرِ
وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ جَاءَ الْبَرِيدُ مِنْ نَائِبِ غَزَّةَ
إِلَى نَائِبِ دِمَشْقَ بِقَتْلِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ حَاجِّي
بْنِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ، وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُمَرَاءِ فَتَحَيَّزُوا
عَنْهُ إِلَى قُبَّةِ النَّسْرِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِي طَائِفَةٍ قَلِيلَةٍ
فَقُتِلَ فِي الْحَالِ، وَسُحِبَ إِلَى مَقْبَرَةٍ هُنَاكَ، وَيُقَالُ: قُطِّعَ
قِطَعًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ آخِرَ النَّهَارِ وَرَدَ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ أَمِيرٌ لِلْبَيْعَةِ لِأَخِيهِ السُّلْطَانِ النَّاصِرِ حَسَنٍ
ابْنِ السُّلْطَانِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ، فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ
فِي الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَزَيَّنَ الْبَلَدَ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ
مَنْ أَمْكَنَ مِنَ النَّاسِ، وَمَا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ يَوْمَ السَّبْتِ حَتَّى
زُيِّنَ الْبَلَدُ بِكَمَالِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى انْتِظَامِ
الْكَلِمَةِ، وَاجْتِمَاعِ الْأُلْفَةِ.
وَفِي يَوْمِ
الثُّلَاثَاءِ الْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ قَدِمَ الْأَمِيرُ فَخْرُ الدِّينِ
إِيَاسُ نَائِبُ حَلَبَ مُحْتَاطًا عَلَيْهِ، فَاجْتَمَعَ بِالنَّائِبِ فِي دَارِ
السَّعَادَةِ، ثُمَّ أُدْخِلَ الْقَلْعَةَ مُضَيَّقًا عَلَيْهِ، وَيُقَالُ:
إِنَّهُ قَدْ فُوِّضَ أَمْرُهُ إِلَى نَائِبِ دِمَشْقَ، فَمَهْمَا فَعَلَ فِيهِ
فَقَدْ أُمْضِيَ لَهُ. فَأَقَامَ بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ نَحْوًا مِنْ
جُمُعَةٍ، ثُمَّ أُرْكِبَ عَلَى الْبَرِيدِ لِيُسَارَ بِهِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، فَلَمْ يُدْرَ مَا فُعِلَ بِهِ.
وَفِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ ثَالِثِ شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ
الْحَافِظُ الْكَبِيرُ، مُؤَرِّخُ الْإِسْلَامِ، وَشَيْخُ الْمُحَدِّثِينَ، شَمْسُ
الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الذَّهَبِيُّ، بِتُرْبَةِ
أُمِّ الصَّالِحِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي
جَامِعِ دِمَشْقَ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ، وَقَدْ خُتِمَ بِهِ شُيُوخُ
الْحَدِيثِ وَحُفَّاظُهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ سَادِسَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ حَضَرْتُ تُرْبَةَ أُمِّ
الصَّالِحِ - رَحِمَ اللَّهُ وَاقِفَهَا - عِوَضًا عَنِ الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ
الذَّهَبِيِّ، وَحَضَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْفُقَهَاءِ وَبَعْضُ
الْقُضَاةِ، وَكَانَ دَرْسًا مَشْهُودًا - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ -
أَوْرَدْتُ فِيهِ حَدِيثَ أَحْمَدَ، عَنِ الشَّافِعِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ،
أَنَّ رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:إِنَّمَا نَسَمَةُ
الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلَقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ تَاسِعَ عَشَرَهُ أَمَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِجَمَاعَةٍ انْتَهَبُوا شَيْئًا مِنَ الْبَاعَةِ، فَقَطَعَ أَيْدِي أَحَدَ عَشَرَ مِنْهُمْ، وَسَمَّرَ سَبْعَةَ عَشَرَ تَسْمِيرًا; تَعْزِيرًا وَتَأْدِيبًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ الْمَلِكُ
النَّاصِرُ نَاصِرُ الدِّينِ حَسَنُ بْنُ النَّاصِرِ بْنِ الْمَنْصُورِ،
وَنَائِبُهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْبُغَا،
وَوَزِيرُهُ مَنْجَكْ، وَقُضَاتُهُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ الشَّافِعِيُّ،
وَتَقِيُّ الدِّينِ الْأَخْنَائِيُّ الْمَالِكِيُّ، وَعَلَاءُ الدِّينِ بْنُ
التُّرْكُمَانِيِّ الْحَنَفِيُّ، وَمُوَفَّقُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ،
وَكَاتِبُ سِرِّهِ الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ فَضْلِ
اللَّهِ الْعُمَرِيُّ، وَنَائِبُ الشَّامِ الْمَحْرُوسِ بِدِمَشْقَ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُونُ شَاهْ النَّاصِرِيُّ، وَحَاجِبُ الْحُجَّابِ الْأَمِيرُ
طَيْدَمُرُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالْقُضَاةُ بِدِمَشْقَ; قَاضِي الْقُضَاةِ
تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ الشَّافِعِيُّ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ نَجْمُ
الدِّينِ الْحَنَفِيُّ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ الْمَسَلَّاتِيُّ
الْمَالِكِيُّ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ مُنَجَّا
الْحَنْبَلِيُّ، وَكَاتِبُ سِرِّهِ الْقَاضِي نَاصِرُ الدِّينِ الْحَلَبِيُّ
الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ قَاضِي الْعَسَاكِرِ بِحَلَبَ، وَمُدَرِّسُ الْأَسَدِيَّةِ
بِهَا أَيْضًا، مَعَ إِقَامَتِهِ بِدِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ.
وَتَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ بِوُقُوعِ الْوَبَاءِ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ،
فَذُكِرَ عَنْ بِلَادِ الْقِرْمِ أَمْرٌ هَائِلٌ، وَمَوْتَانٌ فِيهِمْ كَثِيرٌ،
ثُمَّ ذُكِرَ أَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَى بِلَادِ الْفِرَنْجِ حَتَّى قِيلَ: إِنَّ
أَهْلَ
قُبْرُصَ مَاتَ
أَكْثَرُهُمْ أَوْ مَا يُقَارِبُ ذَلِكَ، وَكَذَا وَقَعَ بِغَزَّةَ أَمْرٌ عَظِيمٌ
فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَدْ جَاءَتْ مُطَالَعَةُ نَائِبِ غَزَّةَ
إِلَى نَائِبِ دِمَشْقَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ يَوْمِ عَاشُورَاءَ إِلَى مِثْلِهِ
مِنْ شَهْرِ صَفَرٍ نَحْوٌ مِنْ بِضْعَةِ عَشَرَ أَلْفًا، وَقُرِئَ "
الْبُخَارِيُّ " فِي رَبْعَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ سَابِعَ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَحَضَرَ الْقُضَاةُ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ
النَّاسِ، وَقَرَأَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُقْرِئُونَ، وَدَعَا النَّاسُ بِرَفْعِ
الْوَبَاءِ عَنِ الْبِلَادِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ لِمَا بَلَغَهُمْ مِنْ
حُلُولِ هَذَا الْمَرَضِ فِي السَّوَاحِلِ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَرْجَاءِ الْبِلَادِ
- يَتَوَهَّمُونَ وَيَخَافُونَ مِنْ وُقُوعِهِ بِمَدِينَةِ دِمَشْقَ حَمَاهَا
اللَّهُ وَسَلَّمَهَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَهُمْ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ جَمَاعَةٌ
مِنْ أَهْلِهَا بِهَذَا الدَّاءِ. وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَحَدِ تَاسِعِهِ
اجْتَمَعَ النَّاسُ بِمِحْرَابِ الصَّحَابَةِ، وَقَرَءُوا مُتَوَزِّعِينَ "
سُورَةَ نُوحٍ " ثَلَاثَةَ آلَافِ مَرَّةٍ، وَثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةً
وَسِتِّينَ مَرَّةً، عَنْ رُؤْيَا رَجُلٍ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرْشِدُهُ إِلَى قِرَاءَةِ ذَلِكَ كَذَلِكَ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أَيْضًا كَثُرَ الْمَوْتُ فِي النَّاسِ بِأَمْرَاضِ
الطَّوَاعِينِ، وَزَادَ الْأَمْوَاتُ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَى الْمِائَةِ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَإِذَا وَقَعَ فِي أَهْلِ بَيْتٍ لَا
يَكَادُ يَخْرُجُ مِنْهُ حَتَّى يَمُوتَ أَكْثَرُهُمْ، وَلَكِنَّهُ بِالنَّظَرِ
إِلَى كَثْرَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ قَلِيلٌ، وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
الْأَيَّامِ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَلَا
سِيَّمَا مِنَ النِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَوْتَ فِيهِنَّ أَكْثَرُ مِنَ الرِّجَالِ
بِكَثِيرٍ كَثِيرٍ، وَشَرَعَ الْخَطِيبُ فِي الْقُنُوتِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ،
وَالدُّعَاءِ بِرَفْعِ الْوَبَاءِ مِنَ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ سَادِسَ
شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَحَصَلَ لِلنَّاسِ بِذَلِكَ
خُضُوعٌ، وَخُشُوعٌ، وَتَضَرُّعٌ، وَإِنَابَةٌ، وَكَثُرَتِ
الْأَمْوَاتُ فِي هَذَا
الشَّهْرِ جِدًّا، وَزَادُوا عَلَى الْمِائَتَيْنِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَتَضَاعَفَ عَدَدُ الْمَوْتَى مِنْهُمْ،
وَتَعَطَّلَتْ مَصَالِحُ النَّاسِ، وَتَأَخَّرَتِ الْمَوْتَى عَنْ إِخْرَاجِهِمْ،
وَزَادَ ضَمَانُ الْمَوْتَى جِدًّا، فَتَضَرَّرَ النَّاسُ وَلَا سِيَّمَا
الصَّعَالِيكُ; فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ عَلَى الْمَيِّتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا،
فَرَسَمَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِإِبْطَالِ ضَمَانِ النُّعُوشِ،
وَالْمُغَسِّلِينَ، وَالْحَمَّالِينَ، وَنُودِيَ بِإِبْطَالِ ذَلِكَ فِي يَوْمِ
الِاثْنَيْنِ سَادِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَوُقِفَتْ نُعُوشٌ كَثِيرَةٌ فِي
أَرْجَاءِ الْبَلَدِ، وَاتَّسَعَ النَّاسَ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ كَثُرَتِ
الْمَوْتَى، فَاللَّهُ الْمُتْسِعَانُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ نُودِيَ فِي
الْبَلَدِ أَنْ يَصُومَ النَّاسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَنْ يَخْرُجُوا فِي
الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ إِلَى عِنْدِ مَسْجِدِ الْقَدْمِ
يَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ، وَيَسْأَلُونَهُ فِي رَفْعِ الْوَبَاءِ عَنْهُمْ،
فَصَامَ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَنَامَ النَّاسُ فِي الْجَامِعِ، وَأَحْيَوُا
اللَّيْلَ كَمَا يَفْعَلُونَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، خَرَجَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ
فَجٍّ عَمِيقٍ إِلَى الصَّحْرَاءِ، وَالْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى، وَالسَّامِرَةُ،
وَالشُّيُوخُ، وَالْعَجَائِزُ، وَالصِّبْيَانُ، وَالْفُقَرَاءُ، وَالْأُمَرَاءُ،
وَالْكُبَرَاءُ، وَالْقُضَاةُ، مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَمَا زَالُوا
هُنَالِكَ يَدْعُونَ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى تَعَالَى النَّهَارُ جِدًّا، وَكَانَ
يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ عَاشِرِ جُمَادَى الْأُولَى صَلَّى الْخَطِيبُ بَعْدَ
صَلَاةِ الظُّهْرِ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ مَيِّتًا جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَتَهَوَّلَ
النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ، وَانْذَعَرُوا، وَكَانَ الْمَوْتُ يَوْمَئِذٍ كَثِيرًا،
رُبَّمَا يُقَارِبُ الثَّلَاثَمِائَةٍ بِالْبَلَدِ وَحَوَاضِرِهِ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَصُلِّيَ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى
خَمْسَةَ عَشَرَ مَيِّتًا بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَصُلِّيَ بِجَامِعِ الْخَيْلِ
عَلَى إِحْدَى عَشَرَةَ نَفْسًا، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ
الِاثْنَيْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ رَسَمَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ
بِقَتْلِ الْكِلَابِ مِنَ الْبَلَدِ، وَقَدْ كَانَتْ كَثِيرَةً بِأَرْجَاءِ
الْبَلَدِ، وَرُبَّمَا ضَرَّتِ النَّاسَ، وَقَطَعَتْ عَلَيْهِمُ الطُّرُقَاتِ فِي
أَثْنَاءِ اللَّيْلِ، أَمَّا تَنْجِيسُهَا الْأَمَاكِنَ فَكَثِيرٌ قَدْ عَمَّ
الِابْتِلَاءُ بِهِ، وَشَقَّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَقَدْ جَمَعْتُ جُزْءًا مِنَ
الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي قَتْلِهِمْ، وَاخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ فِي نَسْخِ
ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَأْمُرُ فِي خُطْبَتِهِ
بِذَبْحِ الْحَمَامِ، وَقَتْلِ الْكِلَابِ. وَنَصَّ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ
وَهْبٍ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ كِلَابِ بَلْدَةٍ بِعَيْنِهَا، إِذَا أَذِنَ
الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ لِلْمَصْلَحَةِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ تُوُفِّيَ زَيْنُ
الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ شَيْخِنَا الْحَافِظِ الْمُزِّيِّ، بِدَارِ
الْحَدِيثِ النُّورِيَّةِ، وَهُوَ شَيْخُهَا، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ
مَعَ وَالِدِهِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي مُنْتَصَفِ شَهْرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ قَوِيَ الْمَوْتُ وَتَزَايَدَ،
وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ، وَمَاتَ خَلَائِقُ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ
مِمَّنْ نَعْرِفُهُمْ، وَغَيْرِهِمْ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَأَدْخَلَهُمْ
جَنَّتَهُ، وَكَانَ يُصَلَّى فِي أَكْثَرِ الْأَيَّامِ فِي الْجَامِعِ عَلَى
أَزْيَدَ مِنْ مِائَةِ مَيِّتٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،
وَبَعْضُ الْمَوْتَى لَا يُؤْتَى بِهِمْ إِلَى الْجَامِعِ، وَأَمَّا حَوْلَ
الْبَلَدِ وَأَرْجَائِهَا فَلَا يَعْلَمُ عَدَدَ مَنْ يَمُوتُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ تُوُفِّيَ الصَّدْرُ
شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الصَّبَابِ التَّاجِرُ السَّفَّارُ، بَانِي الْمَدْرَسَةِ
الصَّابِيَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ قُرْآنٍ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَدْرَسَةِ الظَّاهِرِيَّةِ،
وَهِيَ قِبْلِيُّ الْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْبُقْعَةُ
بُرْهَةً مِنَ الزَّمَانِ خَرِبَةً
شَنِيعَةً، فَعَمَرَهَا
هَذَا الرَّجُلُ، وَجَعَلَهَا دَارَ قُرْآنٍ وَدَارَ حَدِيثٍ لِلْحَنَابِلَةِ،
وَوَقَفَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَلَيْهَا أَوْقَافًا جَيِّدَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَانِي شَهْرِ رَجَبٍ صُلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ
بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ عَلَى غَائِبٍ; وَهُوَ الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ
ابْنُ قَاضِي شُهْبَةَ، ثُمَّ صُلِّي عَلَى إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ نَفْسًا
جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَلَمْ يَتَّسِعْ دَاخِلُ الْجَامِعِ لِصَفِّهِمْ بَلْ
خَرَجُوا بِبَعْضِ الْمَوْتَى إِلَى ظَاهِرِ بَابِ السِّرِّ، وَخَرَجَ الْخَطِيبُ
وَالنَّقِيبُ فَصَلَّى عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ هُنَاكَ، وَكَانَ وَقْتًا مَشْهُودًا،
وَعِبْرَةً عَظِيمَةً، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ تُوُفِّيَ التَّاجِرُ الْمُسَمَّى بِأَفْرِيدُونَ، الَّذِي
بَنَى الْمَدْرَسَةَ الَّتِي بِظَاهِرِ بَابِ الْجَابِيَةِ تُجَاهَ تُرْبَةِ
بَهَادُرَآصْ، حَائِطُهَا مِنْ حِجَارَةٍ مُلَوَّنَهٍ، وَجَعَلَهَا دَارًا
لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا أَوْقَافًا جَيِّدَةً، وَكَانَ
مَشْهُورًا مَشْكُورًا، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَالِثِ رَجَبٍ صُلِّيَ عَلَى الشَّيْخِ عَلِيٍّ
الْمَغْرِبِيِّ، أَحَدِ أَصْحَابِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
بِالْجَامِعِ الْأَفْرِمِيِّ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَدُفِنَ بِالسَّفْحِ رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَكَانَتْ لَهُ عِبَادَةٌ، وَزَهَادَةٌ، وَتَقَشُّفٌ، وَوَرَعٌ، وَلَمْ
يَتَوَلَّ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَظِيفَةً بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
مَالٌ، بَلْ كَانَ يُؤْتَى بِشَيْءٍ مِنَ الْفُتُوحِ يَسْتَنْفِقُهُ قَلِيلًا
قَلِيلًا، وَكَانَ يُعَانِي التَّصَوُّفَ، وَتَرَكَ زَوْجَةً وَثَلَاثَةَ
أَوْلَادٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعِ رَجَبٍ صُلِّيَ عَلَى الْقَاضِي
زَيْنِ الدِّينِ بْنِ النَّجِيحِ نَائِبِ الْقَاضِي الْحَنْبَلِيِّ - بِالْجَامِعِ
الْمُظَفَّرِيِّ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ،
وَكَانَ مَشْكُورًا فِي
الْقَضَاءِ، لَدَيْهِ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ، وَدِيَانَةٌ، وَعِبَادَةٌ، وَكَانَ
مِنَ اصْحَابِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَكَانَ قَدْ وَقَعَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَاضِي الشَّافِعِيِّ مُشَاجَرَاتٌ بِسَبَبِ أُمُورٍ، ثُمَّ
اصْطَلَحَا فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِيَ عَشَرَهُ بَعْدَ أَذَانِ الظُّهْرِ حَصَلَ
بِدِمَشْقَ، وَمَا حَوْلَهَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ أَثَارَتْ غُبَارًا شَدِيدًا
اصْفَرَّ الْجَوُّ مِنْهُ، ثُمَّ اسْوَدَّ حَتَّى أَظْلَمَتِ الدُّنْيَا، وَبَقِيَ
النَّاسُ فِي ذَلِكَ نَحْوًا مِنْ رُبْعِ سَاعَةٍ يَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَيَسْتَغْفِرُونَ، وَيَبْكُونَ، مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ
الْمَوْتِ الذَّرِيعِ، وَرَجَا النَّاسُ أَنَّ هَذَا الْحَالَ يَكُونُ خِتَامَ مَا
هُمْ فِيهِ مِنَ الطَّاعُونِ، فَلَمْ يَزْدَدِ الْأَمْرُ إِلَّا شِدَّةً،
وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَبَلَغَ الْمُصَلَّى عَلَيْهِمْ فِي الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ إِلَى نَحْوِ
الْمِائَةِ وَخَمْسِينَ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، خَارِجًا عَمَّنْ لَا يُؤْتَى
بِهِمْ إِلَيْهِ مِنْ أَرْجَاءِ الْبَلَدِ وَمِمَّنْ يَمُوتُ مِنْ أَهْلِ
الذِّمَّةِ، وَأَمَّا حَوَاضِرُ الْبَلَدِ وَمَا حَوْلَهَا فَأَمْرٌ كَثِيرٌ،
يُقَالُ: إِنَّهُ بَلَغَ أَلْفًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَيَّامِ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَصَلَّى بَعْدَ الظُّهْرِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ
بِالْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ عَلَى الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمِ بْنِ الْمُحِبِّ، الَّذِي
كَانَ يُحَدِّثُ فِي الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ وَجَامِعِ تَنْكِزَ، وَكَانَ
مَجْلِسُهُ كَثِيرَ الْجَمْعِ; لِصَلَاحِهِ، وَحُسْنِ مَا كَانَ يُؤَدِّيهِ مِنَ
الْمَوَاعِيدِ النَّافِعَةِ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ
حَافِلَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَعُمِلَتِ الْمَوَاعِيدُ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ
مِنْ رَجَبٍ، يَقُولُونَ: لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَلَمْ يَجْتَمِعِ النَّاسُ
فِيهِ عَلَى الْعَادَةِ; لِكَثْرَةِ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ; وَلِشُغْلِ
كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ
بِمَرْضَاهُمْ وَمَوْتَاهُمْ.
وَاتَّفَقَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَنَّهُ تَأَخَّرَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ فِي
الْخِيَمِ ظَاهِرَ الْبَلَدِ، فَجَاءُوا لِيَدْخُلُوا مِنْ بَابِ النَّصْرِ عَلَى
عَادَتِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ اجْتَمَعَ خَلْقٌ مِنْهُمْ بَيْنَ
الْبَابَيْنِ، فَهَلَكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ كَنَحْوِ مَا يَهْلَكُ النَّاسُ فِي
هَذَا الْحِينِ عَلَى الْجَنَائِزِ، فَانْزَعَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ، فَخَرَجَ
فَوَجَدَهُمْ، فَأَمَرَ بِجَمْعِهِمْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ أَمَرَ
بِتَسْمِيرِهِمْ ثُمَّ عَفَا عَنْهُمْ، وَضَرَبَ مُتَوَلِّيَ الْبَلَدِ ضَرْبًا
شَدِيدًا، وَسَمَّرَ نَائِبَهُ فِي اللَّيْلِ، وَسَمَّرَ الْبَوَّابَ بِبَابِ
النَّصْرِ، وَأَمَرَ أَنْ لَا يَمْشِيَ أَحَدٌ بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ
سَمَحَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ.
وَاسْتَهَلَّ شَهْرُ شَعْبَانَ وَالْفَنَاءُ فِي النَّاسِ كَثِيرٌ جِدًّا،
وَرُبَّمَا أَنْتَنَتِ الْبَلَدُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَتُوُفِّيَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الصَّلَاحِ مُدَرِّسُ
الْقَيْمَرِيَّةِ الْكَبِيرَةِ بِالْمُطْرَزِيِّينَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَالِثَ
عَشَرَ شَعْبَانَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ رَابِعَ عَشَرَ شَعْبَانَ صُلِّي بَعْدَ الصَّلَاةِ
عَلَى جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ; مِنْهُمُ الْقَاضِي عِمَادُ الدِّينِ بْنُ
الشِّيرَازِيِّ مُحْتَسِبُ الْبَلَدِ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ رُؤَسَاءِ دِمَشْقَ،
وَوَلِيَ نَظَرَ الْجَامِعِ مُدَّةً، وَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ نَظَرَ
الْأَوْقَافِ، وَجُمِعَ لَهُ فِي وَقْتٍ بَيْنَهُمَا، وَدُفِنَ بِسَفْحِ
قَاسِيُونَ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ شَوَّالٍ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ قَرَابُغَا دُوَادَارَ النَّائِبُ بِدَارِهِ غَرْبِيَّ حِكْرِ
السُّمَاقِ، وَقَدْ أَنْشَأَ لَهُ إِلَى جَانِبِهَا تُرْبَةً وَمَسْجِدًا،
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ
السَّوِيقَةَ الْمُجَدَّدَةَ عِنْدَ دَارِهِ، وَعَمِلَ لَهَا بَابَيْنِ شَرْقِيًّا
وَغَرْبِيًّا، وَضُمِّنَتْ بِقِيمَةٍ كَثِيرَةٍ بِسَبَبِ جَاهِهِ، ثُمَّ بَارَتْ
وَهُجِرَتْ; لِقِلَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَحَضَرَ الْأُمَرَاءُ،
وَالْقُضَاةُ، وَالْأَكَابِرُ جَنَازَتَهُ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ هُنَاكَ،
وَتَرَكَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَحَوَاصِلَ كَثِيرَةً جِدًّا، أَخَذَهَا
مَخْدُومُهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَابِعِ شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ تُوُفِّيَ خَطِيبُ
الْجَامِعِ، الْخَطِيبُ تَاجُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ ابْنِ الْقَاضِي جَلَالِ
الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَزْوِينِيِّ، بِدَارِ الْخَطَابَةِ،
مَرِضَ يَوْمَيْنِ، وَأَصَابَهُ مَا أَصَابَ النَّاسُ مِنَ الطَّاعُونِ،
وَكَذَلِكَ عَامَّةُ أَهْلِ بَيْتِهِ مِنْ جَوَارِيهِ، وَأَوْلَادِهِ، وَتَبِعَهُ
أَخُوهُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ صَدْرُ الدِّينِ عَبْدُ الْكَرِيمِ، وَصُلِّي عَلَى
الْخَطِيبِ تَاجِ الدِّينِ بَعْدَ الظُّهْرِ يَوْمَئِذٍ عِنْدَ بَابِ
الْخَطَابَةِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ بِالصُّوفِيَّةِ عِنْدَ أَبِيهِ،
وَأَخَوَيْهِ بَدْرِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ، وَجَمَالِ الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ،
رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ تَاسِعِهِ اجْتَمَعَ الْقُضَاةُ، وَكَثِيرٌ مِنَ
الْفُقَهَاءِ الْمُفْتِينَ عِنْدَ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ بِسَبَبِ الْخَطَابَةِ،
فَطُلِبَ إِلَى الْمَجْلِسِ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ
جُمْلَةَ، فَوَلَّاهُ إِيَّاهَا نَائِبُ السَّلْطَنَةِ، وَانْتُزِعَتْ مِنْ يَدِهِ
وَظَائِفُ كَانَ يُبَاشِرُهَا، فَفُرِّقَتْ عَلَى النَّاسِ، فَوَلِيَ الْقَاضِي
بَهَاءُ الدِّينِ أَبُو الْبَقَاءِ تَدْرِيسَ الظَّاهِرِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ،
وَتَوَزَّعَ النَّاسُ بَقِيَّةَ جِهَاتِهِ، وَلَمْ يَبْقَ بِيَدِهِ سِوَى
الْخَطَابَةِ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ يَوْمَئِذٍ الظُّهْرَ، ثُمَّ خُلِعَ عَلَيْهِ
فِي بُكْرَةِ نَهَارِ الْجُمُعَةِ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ يَوْمَئِذٍ وَخَطَبَهُمْ
عَلَى قَاعِدَةِ
الْخُطَبَاءِ.
وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ - وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ - تُوُفِّيَ الْقَاضِي شِهَابُ
الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ، كَاتِبُ الْأَسْرَارِ الشَّرِيفَةِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، ثُمَّ عُزِلَ عَنْ ذَلِكَ، وَمَاتَ،
وَلَيْسَ يُبَاشِرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ رِيَاسَةٍ، وَسَعَادَةٍ، وَأَمْوَالٍ
جَزِيلَةٍ، وَأَمْلَاكٍ، وَمُرَتَّبَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَعَمَرَ دَارًا هَائِلَةً
بِسَفْحِ قَاسِيُونَ بِالْقُرْبِ مِنَ الرُّكْنِيَّةِ شَرْقِيَّهَا، لَيْسَ
بِالسَّفْحِ مِثْلُهَا، وَقَدِ انْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الْإِنْشَاءِ،
وَكَانَ يُشَبَّهُ بِالْقَاضِي الْفَاضِلِ فِي زَمَانِهِ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ عَدِيدَةٌ
بِعِبَارَاتٍ سَعِيدَةٍ، وَكَانَ حَسَنَ الْمُذَاكَرَةِ، سَرِيعَ الِاسْتِحْضَارِ،
جَيِّدَ الْحِفْظِ، فَصِيحَ اللِّسَانِ، جَمِيلَ الْأَخْلَاقِ، يُحِبُّ
الْعُلَمَاءَ وَالْفُقَرَاءَ، وَلَمْ يُجَاوِزِ الْخَمْسِينَ، تُوفِي بِدَارِهِمْ
دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ،
وَدُفِنَ بِالسَّفْحِ مَعَ أَبِيهِ وَأَخِيهِ بِالْقُرْبِ مِنَ الْيَغْمُورِيَّةِ
سَامَحَهُ اللَّهُ، وَغَفَرَ لَهُ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ رَشِيقٍ
الْمَغْرِبِيُّ، كَاتِبُ مُصَنَّفَاتِ شَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ،
كَانَ أَبْصَرَ بِخَطِّ الشَّيْخِ مِنْهُ، إِذَا عَزَبَ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى
الشَّيْخِ اسْتَخْرَجَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هَذَا، وَكَانَ سَرِيعَ
الْكِتَابَةِ لَا بَأْسَ بِهِ، دَيِّنًا عَابِدًا، كَثِيرَ التِّلَاوَةِ، حَسَنَ
الصَّلَاةِ، لَهُ عِيَالٌ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَفَرَ لَهُ،
آمِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
خَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السُّنَةُ وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَالشَّامِيَّةِ، وَالْحَرَمَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ - الْمَلِكُ
النَّاصِرُ حَسَنُ بْنُ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ، وَنَائِبُ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمُدَبِّرُ مَمَالِكِهِ وَالْأَتَابِكُ - سَيْفُ
الدِّينِ يَلْبُغَا، وَقُضَاةُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ
فِي الَّتِي قَبِلَهَا، وَنَائِبُ الشَّامِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُونَ
شَاهْ النَّاصِرِيُّ، وَقُضَاةُ دِمَشْقَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي
قَبْلَهَا، وَكَذَلِكَ أَرْبَابُ الْوَظَائِفِ - سِوَى الْخَطِيبِ، وَسِوَى
الْمُحْتَسِبِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - تَقَاصَرَ أَمْرُ الطَّاعُونِ
جِدًّا، وَنَزَلَ دِيوَانُ الْمَوَارِيثِ إِلَى الْعِشْرِينَ وَمَا حَوْلَهَا
بَعْدَ أَنْ بَلَغَ الْخَمْسَمِائَةٍ فِي أَثْنَاءِ سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ
كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ لَمْ يَرْتَفِعْ بِالْكُلِّيَّةِ; فَإِنَّ فِي يَوْمِ
الْأَرْبِعَاءِ رَابِعِ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ تُوُفِّيَ الْفَقِيهُ شِهَابُ
الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ الثِّقَةِ، هُوَ وَابْنُهُ وَأَخُوهُ فِي سَاعَةٍ
وَاحِدَةٍ بِهَذَا الْمَرَضِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَدُفِنُوا فِي
قَبْرٍ، وَاحِدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ
تُوُفِّيَ صَاحِبُنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَابِدُ الزَّاهِدُ
النَّاسِكُ الْخَاشِعُ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ الْقَادِرِ
بْنِ الصَّائِغِ الشَّافِعِيُّ، مُدَرِّسُ الْعِمَادِيَّةِ، كَانَ رَحِمَهُ
اللَّهُ لَدَيْهِ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ،
وَفِيهِ عِبَادَةٌ كَثِيرَةٌ، وَتِلَاوَةٌ، وَقِيَامُ لَيْلٍ، وَسُكُونٌ حَسَنٌ،
وَخُلُقٌ حَسَنٌ، جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ بِنَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثِ صَفَرٍ بَاشَرَ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ
رَافِعٍ الْمُحَدِّثُ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ النُّورِيَّةِ، وَحَضَرَ
عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُضَلَاءِ، وَالْقُضَاةِ، وَالْأَعْيَانِ.
مِسْكُ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ أَرْغُونَ شَاهْ
وَفِي لَيْلَةِ الْخَمِيسِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
مُسِكَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِدِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُونُ
شَاهْ، وَكَانَ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى الْقَصْرِ الْأَبْلَقِ بِأَهْلِهِ، فَمَا
شَعَرَ وَسَطَ اللَّيْلِ إِلَّا وَنَائِبُ طَرَابُلُسَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
أُلْجَيْبُغَا الْمُظَفَّرِيُّ النَّاصِرِيُّ رَكِبَ إِلَيْهِ فِي طَائِفَةٍ مِنَ
الْأُمَرَاءِ الْأُلُوفِ وَغَيْرِهِمْ، فَأَحَاطُوا بِهِ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ مَنْ
دَخَلَ وَهُوَ مَعَ جَوَارِيهِ نَائِمٌ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَبَضُوا عَلَيْهِ
وَقَيَّدُوهُ، وَرَسَمُوا عَلَيْهِ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ أَكْثَرُهُمْ لَا يَشْعُرُ
بِشَيْءٍ مِمَّا وَقَعَ، فَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَاجْتَمَعَتِ
الْأَتْرَاكُ إِلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أُلْجَيْبُغَا الْمَذْكُورِ،
وَنَزَلَ بِظَاهِرِ
الْبَلَدِ، وَاحْتِيطَ
عَلَى حَوَاصِلِ أَرْغُونَ شَاهْ، فَبَاتَ عَزِيزًا وَأَصْبَحَ ذَلِيلًا،
وَأَمْسَى عَلَيْنَا نَائِبَ السَّلْطَنَةِ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ أَحَاطَ بِهِ
الْفَقْرُ وَالْمَسْكَنَةُ، فَسُبْحَانَ مَنْ بِيَدِهِ الْأَمْرُ مَالِكِ
الْمُلْكِ، يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ
يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَهَذَا كَمَا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا
بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ
بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ
مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [ الْأَعْرَافِ: 97 ]. ثُمَّ
لَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ الرَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ أَصْبَحَ مَذْبُوحًا، فَأُثْبِتَ مَحْضَرٌ بِأَنَّهُ ذَبَحَ نَفْسَهُ،
فَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
كَائِنَةٌ عَجِيبَةٌ غَرِيبَةٌ جِدًّا
ثُمَّ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ سَنَةَ خَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَقَعَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ جَيْشِ
دِمَشْقَ وَبَيْنَ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أُلْجَيْبُغَا نَائِبِ طَرَابُلُسَ،
الَّذِي جَاءَ فَأَمْسَكَ نَائِبَ دِمَشْقَ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ أَرْغُونَ
شَاهْ النَّاصِرِيَّ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ، وَقَتَلَهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ كَمَا
تَقَدَّمَ، وَأَقَامَ بِالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ يَسْتَخْلِصُ أَمْوَالَهُ،
وَحَوَاصِلَهُ، وَيَجْمَعُهَا عِنْدَهُ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الْأُمَرَاءُ
الْكِبَارُ، وَأَمَرُوهُ أَنْ يَحْمِلَ الْأَمْوَالَ إِلَى قَلْعَةِ السُّلْطَانِ،
فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، فَاتَّهَمُوهُ فِي أَمْرِهِ، وَشَكُّوا فِي الْكِتَابِ
الَّذِي عَلَى يَدِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِمَسْكِهِ وَقَتْلِهِ، وَرَكِبُوا
مُلْبِسِينَ تَحْتَ الْقَلْعَةِ وَأَبْوَابِ الْمَيَادِينِ، وَرَكِبَ هُوَ فِي
أَصْحَابِهِ وَهُمْ فِي دُونِ الْمِائَةِ، وَقَائِلٌ
يَقُولُ: هُمْ مَا بَيْنَ
السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ وَالتِّسْعِينَ. جَعَلُوا يَحْمِلُونَ عَلَى
الْجَيْشِ حَمْلَ الْمُسْتَقْبِلِينَ، إِنَّمَا يُدَافِعُهُمْ مُدَافَعَةَ
الْمُتَبَرِّمِينَ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَرْسُومٌ بِقَتْلِهِمْ وَلَا قِتَالِهِمْ;
فَلِهَذَا وَلَّى أَكْثَرُهُمْ مُنْهَزِمِينَ، فَخَرَجَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْجَيْشِ
حَتَّى بَعْضُ الْأُمَرَاءِ الْمُقَدَّمِينَ، وَهُوَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ أُلْجَيْبُغَا الْعَادِلِيُّ، فَقُطِعَتْ يَدَهُ الْيُمْنَى، وَقَدْ
قَارَبَ التِّسْعِينَ، وَقُتِلَ آخَرُونَ مِنْ أَجْنَادِ الْحَلْقَةِ
وَالْمُسْتَخْدَمِينَ، ثُمَّ انْفَصَلَ الْحَالُ عَلَى أَنْ أَخَذَ أُلْجَيْبُغَا
الْمُظَفَّرِيُّ مِنْ خُيُولِ أَرْغُونَ شَاهْ الْمُرْتَبِطَةِ فِي إِسْطَبْلِهِ
مَا أَرَادَ، ثُمَّ انْصَرَفَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمِزَّةِ صَاعِدًا عَلَى
عَقَبَتِهَا، وَمَعَهُ الْأَمْوَالُ الَّتِي جَمَعَهَا مِنْ حَوَاصِلِ أَرْغُونَ
شَاهْ، وَاسْتَمَرَّ ذَاهِبًا، وَلَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ مِنَ الْجَيْشِ،
وَصُحْبَتُهُ الْأَمِيرُ فَخْرُ الدِّينِ إِيَاسُ الَّذِي كَانَ حَاجِبًا، وَنَابَ
فِي حَلَبَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، فَذَهَبَا بِمَنْ مَعَهُمَا إِلَى
طَرَابُلُسَ، وَكَتَبَ أُمَرَاءُ الشَّامِ إِلَى السُّلْطَانِ يُعْلِمُونَهُ
بِصُورَةِ مَا وَقَعَ، فَجَاءَ الْبَرِيدُ بِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَ السُّلْطَانِ
عَلْمٌ بِمَا وَقَعَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنَّ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ عَلَى
يَدَيْهِ مُفْتَعِلٌ، وَجَاءَ الْأَمْرُ لِأَرْبَعَةِ آلَافٍ مِنْ جَيْشِ دِمَشْقَ
أَنْ يَسِيرُوا وَرَاءَهُ لِيُمْسِكُوهُ، ثُمَّ أُضِيفَ نَائِبُ صَفَدَ مُقَدَّمًا
عَلَى الْجَمِيعِ، فَخَرَجُوا فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَادِسِ رَبِيعٍ الْآخِرِ خَرَجَتِ الْعَسَاكِرُ فِي
طَلَبِ سَيْفِ الدِّينِ أُلْجَيْبُغَا الَّذِي فَعَلَ الْأَفَاعِيلَ، وَخَرَجَ
مِنْ دِمَشْقَ بِالسَّالِمِيِّ بَعْدَ مَا قَتَلَ نَائِبَ
سَلْطَنَتِهَا
وَجَمَاعَةً مِنْ أَهْلِهَا، وَجَرَحَ خَلْقًا مِنْ أَجْنَادِهَا، وَقُطِعَتْ يَدُ
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أُلْجَيْبُغَا الْعَادِلِي فِي الْمَعْرَكَةِ، وَهُوَ
أَحَدُ الْأُمَرَاءِ الْأُلُوفِ الْمُقَدَّمِينَ.
وَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْخَمِيسِ سَابِعُهُ نُودِيَ بِالْبَلَدِ عَلَى مَنْ
يَقْرَبُهَا مِنَ الْأَجْنَادِ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ أَحَدٌ عَنِ الْخُرُوجِ بِالْغَدِ،
فَأَصْبَحُوا فِي سُرْعَةٍ عَظِيمَةٍ، وَاسْتُنِيبَ فِي الْبَلَدِ نِيَابَةً عَنِ
النَّائِبِ الرَّاتِبِ الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْخَطِيرِ، فَحَكَمَ
بِدَارِ السَّعَادَةِ عَلَى عَادَةِ النُّوَّابِ.
وَفِي لَيْلَةِ السَّبْتِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ سَادِسَ عَشَرَهُ دَخَلَ
الْجَيْشُ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِ أُلْجَيْبُغَا الْمُظَفَّرِيِّ، وَهُوَ
مَعَهُمْ أَسِيرٌ ذَلِيلٌ حَقِيرٌ، وَكَذَلِكَ الْفَخْرُ إِيَاسُ الْحَاجِبُ
مَأْسُورٌ مَعَهُمْ، فَأُودِعَا فِي الْقَلْعَةِ مُهَانَيْنِ مِنْ جِسْرِ بَابِ
النَّصْرِ الَّذِي تُجَاهَ دَارِ السَّعَادَةِ، وَذَلِكَ بِحُضُورِ الْأَمِيرِ
بَدْرِ الدِّينِ الْخَطِيرِ فِي دَارِ السَّعَادَةِ وَهُوَ نَائِبُ الْغَيْبَةِ،
فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْهُ خَرَجَا مِنَ
الْقَلْعَةِ إِلَى سُوقِ الْخَيْلِ، فَوُسِّطَا بِحَضْرَةِ الْجَيْشِ، وَعُلِّقَتْ
جُثَّتُهُمَا عَلَى الْخُشُبِ لِيَرَاهُمَا النَّاسُ، فَمَكَثَا أَيَّامًا ثُمَّ
أُنْزِلَا فَدُفِنَا بِمَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ.
وَفِي أَوَائِلِ شَهْرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ جَاءَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ نَائِبِ
حَلَبَ سَيْفِ الدِّينِ قُطْلِيشَا، فَفَرِحُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِمَوْتِهِ،
وَذَلِكَ لِسُوءِ أَعْمَالِهِ فِي مَدِينَةِ حَمَاةَ فِي
زَمَنِ الطَّاعُونِ،
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يَحْتَاطُ عَلَى التَّرِكَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا وَلَدٌ
ذَكَرٌ أَوْ غَيْرُهُ، وَيَأْخُذُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ جَهْرَةً، حَتَّى
حَصَلَ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى حَلَبَ بَعْدَ نَائِبِهَا
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أَرُقْطَايَ الَّذِي كَانَ عُيِّنَ لِنِيَابَةِ
دِمَشْقَ بَعْدَ مَوْتِ أَرْغُونَ شَاهْ، وَخَرَجَ النَّاسُ لِتَلِّقِيهِ، فَمَا
هُوَ إِلَّا أَنْ بَرَزَ مَنْزِلَةً وَاحِدَةً مِنْ حَلَبَ فَمَاتَ بِتِلْكَ
الْمَنْزِلَةِ، فَلَمَّا صَارَ قُطْلَيْشَا إِلَى حَلَبَ لَمْ يَقُمْ بِهَا إِلَّا
يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِتِلْكَ الْأَمْوَالِ الَّتِي كَانَ
حَصَّلَهَا، لَا فِي دُنْيَاهُ وَلَا فِي أُخْرَاهُ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
دَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَيْتَمُشُ النَّاصِرِيُّ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ إِلَى دِمَشْقَ نَائِبًا عَلَيْهَا، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْجَيْشُ
عَلَى الْعَادَةِ، فَقَبَّلَ الْعَتَبَةَ، وَلَبِسَ الْحِيَاصَةَ وَالسَّيْفَ،
وَأُعْطِيَ تَقْلِيدَهُ وَمَنْشُورَهُ هُنَالِكَ، ثُمَّ وَقَفَ فِي الْمَوْكِبِ عَلَى
عَادَةِ النُّوَّابِ، وَرَجَعَ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، وَحَكَمَ، وَفَرِحَ
النَّاسُ بِهِ، وَهُوَ حَسَنُ الشَّكْلِ، تَامُّ الْخِلْقَةِ، وَكَانَ الشَّامُ
بِلَا نَائِبٍ مُسْتَقِلٍّ قَرِيبًا مِنْ شَهْرَيْنِ وَنِصْفٍ، وَفِي يَوْمِ
دُخُولِهِ حَبَسَ أَرْبَعَةً مِنْ أُمَرَاءِ الطَّبْلَخَانَاهْ; وَهُمُ
الْقَاسِمِيُّ، وَأَوْلَادُ الْأَبُوبَكْرِيِّ الثَّلَاثَةُ، اعْتَقَلَهُمْ فِي
الْقَلْعَةِ لِمُمَالَأَتِهِمْ أُلْجَيْبُغَا الْمُظَفَّرِيَّ عَلَى أَرْغُونَ
شَاهْ نَائِبِ الشَّامِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ خَامِسَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ حَكَمَ الْقَاضِي
نَجْمُ الدِّينِ ابْنُ
الْقَاضِي عِمَادِ
الدِّينِ الطَّرَسُوسِيِّ الْحَنَفِيِّ، وَذَلِكَ بِتَوْقِيعٍ سُلْطَانِيٍّ،
وَخِلْعَةٍ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَادِسَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ حَصَلَ الصُّلْحُ
بَيْنَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ، وَبَيْنَ الشَّيْخِ
شَمْسِ الدِّينِ بْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ، عَلَى يَدَيِ الْأَمِيرِ سَيْفِ
الدِّينِ بْنِ فَضْلٍ مَلِكِ الْعَرَبِ، فِي بُسْتَانِ قَاضِي الْقُضَاةِ، وَكَانَ
قَدْ نَقَمَ عَلَيْهِ إِكْثَارَهُ مِنَ الْفُتْيَا بِمَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ نُقِلَتْ جُثَّةُ
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أَرْغُونَ شَاهْ مِنْ مَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ إِلَى
تُرْبَتِهِ الَّتِي أَنْشَأَهَا تَحْتَ الطَّارِمَةِ، وَشَرَعَ فِي تَكْمِيلِ
التُّرْبَةِ وَالْمَسْجِدِ الَّذِي قِبَلَهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَاجَلَتْهُ
الْمَنِيَّةُ عَلَى يَدَيْ أُلْجَيْبُغَا الْمُظَفَّرِيِّ قَبْلَ إِتْمَامِهِمَا،
وَحِينَ قَتَلُوهُ ذَبْحًا دَفَنُوهُ لَيْلًا فِي مَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ
قَرِيبًا مِنْ قَبْرِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ الصَّلَاحِ، ثُمَّ حُوِّلَ
إِلَى تُرْبَتِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ تَاسِعَ عَشَرَ رَجَبٍ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ لِلْفَجْرِ
قَبْلَ الْوَقْتِ بِقَرِيبٍ مِنْ سَاعَةٍ، فَصَلَّى النَّاسُ فِي الْجَامِعِ
الْأُمَوِيِّ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي تَرْتِيبِ الْأَئِمَّةِ، ثُمَّ رَأَوُا
الْوَقْتَ بَاقِيًا، فَأَعَادَ الْخَطِيبُ الْفَجْرَ بَعْدَ صَلَاةِ الْأَئِمَّةِ
كُلِّهِمْ، وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ ثَانِيًا، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَتَّفِقْ
مِثْلُهُ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ
ثَامِنِ شَهْرِ شَعْبَانَ تُوُفِّيَ قَاضِي الْقُضَاةِ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ
مُنَجَّا الْحَنْبَلِيُّ بِالْمِسْمَارِيَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ الظُّهْرَ
بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، ثُمَّ بِظَاهِرِ بَابِ النَّصْرِ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ
قَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ بُكْرَةَ النَّهَارِ اسْتُدْعِيَ
الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ الْمَرْدَاوِيُّ مِنَ الصَّالِحِيَّةِ إِلَى دَارِ
السَّعَادَةِ، وَكَانَ تَقْلِيدُ الْقَضَاءِ لِمَذْهَبِهِ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ
قَبْلَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ، فَأُحْضِرَتِ الْخِلْعَةُ بَيْنَ يَدَيِ النَّائِبِ
وَالْقُضَاةِ الْبَاقِينَ، وَأُرِيدَ عَلَى لُبْسِهَا وَقَبُولِ الْوِلَايَةِ،
فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ فَصَمَّمَ، وَبَالَغَ فِي
الِامْتِنَاعِ جِدًّا، وَخَرَجَ وَهُوَ مُغْضَبٌ، فَرَاحَ إِلَى الصَّالِحِيَّةِ
فَبَالَغَ النَّاسُ فِي تَعْظِيمِهِ، وَبَقِيَ الْقُضَاةُ يَوْمَ ذَلِكَ فِي دَارِ
السَّعَادَةِ، ثُمَّ بَعَثُوا إِلَيْهِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَحَضَرَ مِنَ
الصَّالِحِيَّةِ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى قَبِلَ وَلَبِسَ الْخِلْعَةَ،
وَخَرَجَ إِلَى الْجَامِعِ فَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَاجْتَمَعَ
مَعَهُ الْقُضَاةُ وَهَنَّأَهُ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَفَرِحُوا بِهِ;
لِدِيَانَتِهِ، وَصِيَانَتِهِ، وَفَضِيلَتِهِ، وَأَمَانَتِهِ.
وَبَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ بِأَيَّامٍ حَكَمَ الْفَقِيهُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ
بْنُ مُفْلِحٍ الْحَنْبَلِيُّ نِيَابَةً عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالِ الدِّينِ
الْمَرْدَاوِيِّ الْمَقْدِسِيِّ، وَابْنُ مُفْلِحٍ زَوْجُ ابْنَتِهِ.
وَفِي الْعَشْرِ
الْأَخِيرِ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ حَضَرَ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْمُحَدِّثُ
الْمُفِيدُ أَمِينُ الدِّينِ الْإِيجِيُّ الْمَالِكِيُّ مَشْيَخَةَ دَارِ
الْحَدِيثِ بِالْمَدْرَسَةِ النَّاصِرِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ، نَزَلَ لَهُ
عَنْهَا الصَّدْرُ أَمِينُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ وَكَيْلُ بَيْتِ الْمَالِ،
وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْأَكَابِرُ وَالْأَعْيَانُ.
وَفِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ تَكَامَلَ بِنَاءُ التُّرْبَةِ الَّتِي تَحْتَ
الطَّارِمَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أَرْغُونَ شَاهْ،
الَّذِي كَانَ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ بِدِمَشْقَ، وَكَذَلِكَ الْقِبْلِيُّ
مِنْهَا، وَصَلَّى فِيهَا النَّاسُ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مَسْجِدًا صَغِيرًا
فَعَمَرَهُ، وَكَبَّرَهُ، وَجَاءَ كَأَنَّهُ جَامِعٌ، تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَسُلْطَانُ الشَّامِ وَمِصْرَ النَّاصِرُ حَسَنُ بْنُ النَّاصِرِ
مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ، وَنَائِبُهُ بِمِصْرَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
بَيْبُغَا، وَأَخُوهُ سَيْفُ الدِّينِ مَنْجَكُ الْوَزِيرُ، وَالْمُشَاوِرُونَ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُقَدَّمِينَ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَقُضَاةُ مِصْرَ وَكَاتِبُ
السِّرِّ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَنَائِبُ
الشَّامِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَيْتَمُشُ النَّاصِرِيُّ، وَالْقُضَاةُ هُمُ
الْقُضَاةُ سِوَى الْحَنْبَلِيِّ، فَإِنَّهُ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ يُوسُفُ
الْمَرْدَاوِيُّ، وَكَاتِبُ السِّرِّ، وَشَيْخُ الشُّيُوخِ تَاجُ الدِّينِ،
وَكُتَّابُ الدَّسْتِ - هُمُ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَأُضِيفَ إِلَيْهِمْ شَرَفُ
الدِّينِ عَبْدُ الْوَهَّابِ ابْنُ الْقَاضِي عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ شَمْرَنُوخَ،
وَالْمُحْتَسِبُ الْقَاضِي عِمَادُ الدِّينِ بْنُ الْفُرْفُورِ، وَشَادُّ
الْأَوْقَافِ الشَّرِيفُ، وَنَاظِرُ الْجَامِعِ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ الْعَفِيفِ،
وَخَطِيبُ الْبَلَدِ جَمَالُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ جُمْلَةَ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ نُودِيَ بِالْبَلَدِ مِنْ جِهَةِ
نَائِبِ السُّلْطَانِ عَنْ كِتَابٍ
جَاءَهُ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ أَنْ لَا تَلْبَسَ النِّسَاءُ الْأَكْمَامَ الطِّوَالَ الْعِرَاضَ،
وَلَا الْبُرَدَ الْحَرِيرَ، وَلَا شَيْئًا مِنَ اللِّبَاسَاتِ وَالثِّيَابِ
الثَّمِينَةِ، وَلَا الْأَقْمِشَةِ الْقِصَارِ، وَبَلَغَنَا أَنَّهُمْ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ شَدَّدُوا فِي ذَلِكَ جِدًّا، حَتَّى قِيلَ:
إِنَّهُمْ غَرَّقُوا بَعْضَ النِّسَاءِ بِسَبَبِ ذَلِكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَجُدِّدَتْ وَأُكْمِلَتْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ دَارُ قُرْآنٍ قِبْلِيَّ
تُرْبَةِ امْرَأَةِ تَنْكِزَ، بِمَحَلَّةِ بَابِ الْخَوَّاصِينَ، حَوَّلَهَا -
وَكَانَتْ صُورَةَ مَدْرَسَةٍ - الطَّوَاشِيُّ صَفِيُّ الدِّينِ عَنْبَرٌ، مَوْلَى
ابْنِ حَمْزَةَ، وَهُوَ أَحَدُ الْكِبَارِ الْأَجْوَادِ، تَقَبَّلَ اللَّهُ
مِنْهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ خَامِسِ شَهْرِ جُمَادَى الْأُولَى فُتِحَتِ الْمَدْرَسَةُ
الطَّيَبَانِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ دَارًا لِلْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ طَيْبَانَ
بِالْقُرْبِ مِنَ الشَّامِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ - بَيْنَهَا وَبَيْنَ أُمِّ
الصَّالِحِ - اشْتُرِيَتْ مِنْ ثُلْثِهِ الَّذِي وَصَّى بِهِ، وَفُتِحَتْ
مَدْرَسَةً، وَحُوِّلَ لَهَا شُبَّاكٌ إِلَى الطَّرِيقِ فِي ضَفَّتِهَا
الْقِبْلِيَّةِ مِنْهَا، وَحَضَرَ الدَّرْسَ بِهَا فِي هَذَا الْيَوْمِ الشَّيْخُ
عِمَادُ الدِّينِ بْنُ شَرَفِ الدِّينِ ابْنِ عَمِّ الشَّيْخِ كَمَالِ الدِّينِ
بْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ بِوَصِيَّةِ الْوَاقِفِ لَهُ بِذَلِكَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ
قَاضِي الْقُضَاةِ السُّبْكِيُّ، وَالْمَالِكِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ،
وَأَخَذَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ
فَلَا مُمْسِكَ لَهَا [ فَاطِرٍ: 2 ] الْآيَةَ.
وَاتَّفَقَ فِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى
الْأُولَى أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤَذِّنِينَ عَلَى السُّدَّةِ
فِي جَامِعِ دِمَشْقَ وَقْتَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ لِلْمَغْرِبِ سِوَى
مُؤَذِّنٍ وَاحِدٍ،
فَانْتَظَرَ مَنْ يُقِيمُ مَعَهُ الصَّلَاةَ فَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ غَيْرَهُ
بِمِقْدَارِ دَرَجَةٍ أَوْ أَزْيَدَ مِنْهَا، ثُمَّ أَقَامَ هُوَ الصَّلَاةَ
وَحْدَهُ، فَلَمَّا أَحْرَمَ الْإِمَامُ بِالصَّلَاةِ تَلَاحَقَ الْمُؤَذِّنُونَ
فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ حَتَّى بَلَغُوا دُونَ الْعَشَرَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ
غَرِيبٌ مِنْ عِدَّةِ ثَلَاثِينَ مُؤَذِّنٍ أَوْ أَكْثَرَ، لَمْ يَحْضُرْ سِوَى
مُؤَذِّنٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ أَخْبَرَ خَلْقٌ مِنَ الْمَشَايِخِ أَنَّهُمْ لَمْ
يَرَوْا نَظِيرَ هَذِهِ الْكَائِنَةِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَابِعَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ اجْتَمَعَ
الْقُضَاةُ بِمَشْهَدِ عُثْمَانَ، وَكَانَ الْقَاضِي الْحَنْبَلِيُّ قَدْ حَكَمَ
فِي دَارِ الْمُعْتَمِدِ الْمُلَاصِقَةِ لِمَدْرَسَةِ الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ
بِنَقْضِهَا، وَكَانَتْ وَقْفًا; لِتُضَافَ إِلَى دَارِ الْقُرْآنِ، وَوَقَفَ
عَلَيْهَا أَوْقَافًا لِلْفُقَرَاءِ، فَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ ذَلِكَ; مِنْ
أَجْلِ أَنَّهُ يَئُولُ أَمْرُهَا أَنْ تَكُونَ دَارَ حَدِيثٍ، ثُمَّ فَتَحُوا
بَابًا آخَرَ، وَقَالُوا: هَذِهِ الدَّارُ لَمْ يُسْتَهْدَمْ جَمِيعُهَا، وَمَا
صَادَفَ الْحُكْمُ مَحِلًّا; لِأَنَّ مَذْهَبَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ
الْوَقْفَ يُبَاعُ إِذَا اسْتُهْدِمَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ مَا
يُنْتَفَعُ بِهِ.
فَحَكَمَ الْقَاضِي الْحَنَفِيُّ بِإِثْبَاتِهَا وَقْفًا كَمَا كَانَتْ،
وَنَفَّذَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْمَالِكِيُّ، وَانْفَصَلَ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ،
وَجَرَتْ أُمُورٌ طَوِيلَةٌ، وَأَشْيَاءُ عَجِيبَةٌ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
أَصْبَحَ بَوَّابُ الْمَدْرَسَةِ الْمُسْتَجَدَّةِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا:
الطَّيِّبَانِيَّةُ - إِلَى جَانِبِ أُمِّ الصَّالِحِ مَقْتُولًا مَذْبُوحًا،
وَقَدْ أُخِذَتْ مِنْ عِنْدِهِ أَمْوَالٌ مِنَ الْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَةِ،
وَلَمْ يُطَّلَعْ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ، وَكَانَ الْبَوَّابُ رَجُلًا صَالِحًا
مَشْكُورًا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
تَرْجَمَةُ الشَّيْخِ
شَمْسُ الدِّينِ بْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ
وَفِي لَيْلَةِ الْخَمِيسِ ثَالِثَ عَشَرَ رَجَبٍ، وَقْتَ أَذَانِ الْعِشَاءِ
تُوُفِّيَ صَاحِبُنَا الْإِمَامُ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ الزُّرَعِيُّ، إِمَامُ الْجَوْزِيَّةِ،
وَابْنُ قَيِّمِهَا، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنَ الْغَدِ
بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَدُفِنَ عِنْدَ وَالِدَتِهِ بِمَقَابِرِ الْبَابِ
الصَّغِيرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وُلِدَ فِي سِنَةِ إِحْدَى وَتِسْعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ، فَبَرَعَ فِي
عُلُومٍ مُتَعَدِّدَةٍ، لَا سِيَّمَا عِلْمُ التَّفْسِيرِ، وَالْحَدِيثِ
وَالْأَصْلَيْنِ، وَلَمَّا عَادَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ
مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ
لَازَمَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ الشَّيْخُ، فَأَخَذَ عَنْهُ عِلْمًا جَمًّا مَعَ مَا
سَلَفَ لَهُ مِنَ الِاشْتِغَالِ، فَصَارَ فَرِيدًا فِي بَابِهِ فِي فُنُونٍ
كَثِيرَةٍ، مَعَ كَثْرَةِ الطَّلَبِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَكَثْرَةِ الصَّلَاةِ
وَالِابْتِهَالِ، وَكَانَ حَسَنَ الْقِرَاءَةِ وَالْخُلُقِ، كَثِيرَ التَّوَدُّدِ،
لَا يَحْسُدُ أَحَدًا، وَلَا يُؤْذِيهِ، وَلَا يَسْتَعِيبُهُ، وَلَا يَحْقِدُ
عَلَى أَحَدٍ، وَكُنْتُ مِنْ أَصْحَبِ النَّاسِ لَهُ، وَأَحَبِّ النَّاسِ
إِلَيْهِ، وَلَا أَعْرِفُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي زَمَانِنَا أَكْثَرَ
عِبَادَةً مِنْهُ، وَكَانَتْ لَهُ طَرِيقَةٌ فِي الصَّلَاةِ يُطِيلُهَا جِدًّا،
وَيَمُدُّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا، وَيَلُومُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي
بَعْضِ الْأَحْيَانِ فَلَا يَرْجِعُ،
وَلَا يَنْزِعُ عَنْ
ذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَهُ مِنَ التَّصَانِيفِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ
شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَكَتَبَ بِخَطِّهِ الْحَسَنِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَاقْتَنَى مِنَ
الْكُتُبِ مَا لَا يَتَهَيَّأُ لِغَيْرِهِ تَحْصِيلُ عُشْرِهِ مِنْ كُتُبِ
السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ قَلِيلَ النَّظِيرِ، بَلْ عَدِيمَ
النَّظِيرِ فِي مَجْمُوعِهِ، وَأُمُورِهِ، وَأَحْوَالِهِ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِ
الْخَيْرُ وَالْأَخْلَاقُ الصَّالِحَةُ، سَامَحَهُ اللَّهُ وَرَحِمَهُ، وَقَدْ
كَانَ مُتَصَدِّيًا لِلْإِفْتَاءِ بِمَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ الَّتِي اخْتَارَهَا
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَجَرَتْ لَهُ بِسَبَبِهَا فُصُولٌ
يَطُولُ بَسْطُهَا مَعَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ
وَغَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً رَحِمَهُ اللَّهُ، شَهِدَهَا
الْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ، وَالصَّالِحُونَ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ،
وَتَزَاحَمَ النَّاسُ عَلَى حَمْلِ نَعْشِهِ، وَكَمَلَ لَهُ مِنَ الْعُمْرِ
سِتُّونَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِيَ عَشَرَ شَهْرِ شَعْبَانَ ذَكَرَ الدَّرْسَ
بِالصَّدْرِيَّةِ شَرَفُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ
الْعَلَّامَةِ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ، عِوَضًا عَنْ أَبِيهِ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَفَادَ، وَأَجَادَ، وَسَرَدَ طَرَفًا صَالِحًا فِي فَضْلِ
الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ.
وَمِنَ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ الَّتِي لَمْ يَتَّفِقْ مِثْلُهَا، وَلَمْ
يَقَعْ مِنْ نَحْوِ مِائَتَيْ سَنَةٍ وَأَكْثَرَ، أَنَّهُ بَطَلَ الْوَقِيدُ
بِجَامِعِ دِمَشْقَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَلَمْ يَزِدْ فِي
وَقَيْدِهِ قِنْدِيلٌ وَاحِدٌ عَلَى عَادَةِ لَيَالِيهِ فِي سَائِرِ السَّنَةِ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَفَرِحَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَأَهْلُ
الدِّيَانَةِ، وَشَكَرُوا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى تَبْطِيلِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ
الشَّنِيعَةِ،
الَّتِي كَانَ
يَتَوَلَّدُ بِسَبَبِهَا شُرُورٌ كَثِيرَةٌ بِالْبَلَدِ، وَلَا سِيَّمَا
بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَرْسُومِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ
النَّاصِرِ حَسَنِ ابْنِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ -
خَلَّدَ اللَّهُ سُلْطَانَهُ، وَشَيَّدَ أَرْكَانَهُ - وَكَانَ السَّاعِيَ فِي
ذَلِكَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ
بْنُ النَّجِيبِيِّ - بَيَّضَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَقَدْ كَانَ مُقِيمًا فِي هَذَا
الْحِينِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَقَدْ كُنْتُ رَأَيْتُ عِنْدَهُ فُتْيَا
عَلَيْهَا خَطُّ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَالشَّيْخِ
كَمَالِ الدِّينِ بْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ، وَغَيْرِهِمَا فِي إِبْطَالِ هَذِهِ
الْبِدْعَةِ، فَأَنْفَذَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ،
وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ قَدِ اسْتَقَرَّتْ بَيْنَ أَظْهُرِ النَّاسِ
مِنْ نَحْوِ سَنَةِ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَإِلَى زَمَانِنَا هَذَا،
وَكَمْ سَعَى فِيهَا مِنْ فَقِيهٍ، وَقَاضٍ، وَمُفْتٍ، وَعَالَمٍ، وَعَابِدٍ،
وَأَمِيرٍ، وَزَاهِدٍ، وَنَائِبِ سَلْطَنَةٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يُيَسِّرِ
اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا فِي عَامِنَا هَذَا، وَالْمَسْئُولُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى
إِطَالَةُ عُمْرِ هَذَا السُّلْطَانِ; لِيَعْلَمَ الْجَهَلَةُ الَّذِينَ
اسْتَقَرَّ فِي أَذْهَانِهِمْ مِنَ انَّهُ إِذَا أَبْطَلَ هَذَا الْوَقِيدُ فِي
عَامٍ يَمُوتُ سُلْطَانُ الْوَقْتِ، وَكَانَ هَذَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَلَا
دَلِيلَ عَلَيْهِ إِلَّا مُجَرَّدُ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ شَهْرِ رَمَضَانَ اتَّفَقَ أَمْرٌ غَرِيبٌ لَمْ يَتَّفِقْ
مِثْلُهُ مِنْ مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ - فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفُقَهَاءِ
وَالْمَدَارِسِ - وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ تُوُفِّيَ ابْنُ النَّاصِحِ
الْحَنْبَلِيُّ بِالصَّالِحِيَّةِ، وَكَانَ بِيَدِهِ نِصْفُ الصَّاحِبِيَّةِ
الَّتِي لِلْحَنَابِلَةِ بِالصَّالِحِيَّةِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِلشَّيْخِ
شَرَفِ الدِّينِ ابْنِ الْقَاضِي شَرَفِ الدِّينِ الْحَنْبَلِيِّ شَيْخِ
الْحَنَابِلَةِ بِدِمَشْقَ،
فَاسْتَنْجَزَ مَرْسُومًا
بِالنِّصْفِ الْآخَرِ، وَكَانَتْ بِيَدِهِ وِلَايَةٌ مُتَقَدِّمَةٌ مِنَ الْقَاضِي
عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ الْمُنَجَّا الْحَنْبَلِيِّ، فَعَارَضَهُ فِي ذَلِكَ قَاضِي
الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ الْمَرْدَاوِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وَوَلَّيَ فِيهَا
نَائِبَهُ الْقَاضِيَ شَمْسَ الدِّينِ بْنَ مُفْلِحٍ، وَدَرَّسَ بِهَا فِي صَدْرِ
هَذَا الْيَوْمِ، فَدَخَلَ الْقُضَاةُ الثَّلَاثَةُ الْبَاقُونَ وَمَعَهُمُ
الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ الْمَذْكُورُ إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَأَنْهُوا
إِلَيْهِ صُورَةَ الْحَالِ، فَرَسَمَ لَهُ بِالتَّدْرِيسِ، فَرَكِبَ الْقُضَاةُ
الْمَذْكُورُونَ وَبَعْضُ الْحُجَّابِ فِي خِدْمَتِهِ إِلَى الْمَدْرَسَةِ
الْمَذْكُورَةِ، وَاجْتَمَعَ الْفُضَلَاءُ، وَالْأَعْيَانُ، وَدَرَّسَ الشَّيْخُ
شَرَفُ الدِّينِ الْمَذْكُورُ، وَبَثَّ فَضَائِلَ كَثِيرَةً، وَفَرِحَ النَّاسُ.
وَفِي شَوَّالٍ كَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَى الْحَجِّ فِي هَذَا
الْعَامِ نَائِبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَمُدَبِّرُ مَمَالِكِهَا الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ بَيْبُغَا النَّاصِرِيُّ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ،
فَلَمَّا اسْتَقَلَّ النَّاسُ ذَاهِبِينَ نَهَضَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ
عَلَى أَخِيهِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ مَنْجَكْ، وَهُوَ وَزِيرُ
الْمَمْلَكَةِ، وَأُسْتَادَارُ الْأُسْتَادَارِيَّةِ، وَهُوَ بَابُ الْحَوَائِجِ
فِي دَوْلَتِهِمْ، وَإِلَيْهِ يَرْحَلُ ذَوُو الْحَاجَاتِ بِالذَّهَبِ
وَالْهَدَايَا، فَأَمْسَكُوهُ، وَجَاءَتِ الْبَرِيدِيَّةُ إِلَى نَائِبِ الشَّامِ
فِي أَوَاخِرَ هَذَا الشَّهْرِ بِذَلِكَ، وَبَعْدَ أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ وَصَلَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ شَيْخُونُ - وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الدَّوْلَةِ
الْمِصْرِيَّةِ - تَحْتَ التَّرْسِيمِ، فَأُدْخِلَ إِلَى قَلْعَةِ دِمَشْقَ، ثُمَّ
أُخِذَ مِنْهَا بَعْدَ لَيْلَةٍ، فَذُهِبَ بِهِ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ،
فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَجَاءَ الْبَرِيدُ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى دِيوَانِهِ
وَدِيوَانِ مَنْجَكَ بِالشَّامِ، وَأُيِسَ مِنْ
سَلَامَتِهِمَا،
وَكَذَلِكَ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِمَسْكِ بَيْبُغَا فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ،
وَأُرْسِلَ سَيْفَهُ إِلَى السُّلْطَانِ، وَقَدِمَ أَمِيرٌ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ فَحَلَّفَ الْأُمَرَاءَ بِالطَّاعَةِ إِلَى السُّلْطَانِ،
وَأَكَّدَ ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَى حَلَبَ فَحَلَّفَ مَنْ بِهَا مِنَ الْأُمَرَاءِ
ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ عَادَ رَاجِعًا إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَحَصَلَ لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ النُّوَّابِ
وَالْأُمَرَاءِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ مُسِكَ الْأَمِيرَانِ
الْكَبِيرَانِ الْمُقَدَّمَانِ الشَّامِيَّانِ، شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ
صُبْحٍ، وَمَلِكُ آصْ، مِنْ دَارِ السَّعَادَةِ بِحَضْرَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ
وَالْأُمَرَاءِ، وَرُفِعَا إِلَى الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، سِيرَ بِهِمَا
مَاشِيَيْنِ مِنْ دَارِ السَّعَادَةِ إِلَى بَابِ الْقَلْعَةِ مِنْ نَاحِيَةِ
دَارِ الْحَدِيثِ، وَقُيِّدَا وَسُجِنَا بِهَا. وَجَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ
السُّلْطَانَ اسْتَوْزَرَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الْقَاضِيَ عَلَمَ الدِّينِ
بْنَ زُنْبُورٍ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِّيَّةً لَمْ يَسْمَعْ بِمِثْلِهَا
مِنْ أَعْصَارٍ مُتَقَادِمَةٍ، وَبَاشَرَ، وَخَلَعَ عَلَى الْأُمَرَاءِ
وَالْمُقَدَّمِينَ، وَكَذَلِكَ خَلَعَ عَلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
طَشْبُغَا، وَأُعِيدَ إِلَى مُبَاشَرَةِ الدُّوَيْدَارِيَّةِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَجُعِلَ مُقَدَّمًا.
وَفِي أَوَائِلِ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ اشْتَهَرَ أَنَّ نَائِبَ صَفَدَ شِهَابَ
الدِّينِ أَحْمَدَ ابْنِ مُشِدِّ الشُّرْبَخَانَاهْ طُلِبَ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ فَامْتَنَعَ مِنْ إِجَابَةِ الدَّاعِي، وَنَقَضَ
الْعَهْدَ، وَحَصَّنَ
قَلْعَتَهَا، وَحَصَلَ فِيهَا عِدَدًا وَمَدَدًا، وَادَّخَرَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً
بِسَبَبِ الْإِقَامَةِ بِهَا وَالِامْتِنَاعِ فِيهَا، فَجَاءَتِ الْبَرِيدِيَّةُ
إِلَى نَائِبِ دِمَشْقَ بِأَنْ يَرْكَبَ هُوَ وَجَمِيعُ جَيْشِ دِمَشْقَ إِلَيْهِ،
فَتَجَهَّزَ الْجَيْشُ لِذَلِكَ وَتَأَهَّبُوا، ثُمَّ خَرَجَتِ الْأَطْلَابُ عَلَى
رَايَاتِهَا، فَلَمَّا بَرَزَ مِنْهَا بَعْضٌ بَدَا لِنَائِبِ السَّلْطَنَةِ
فَرَدَّهُمْ، وَكَانَ لَهُ خِبْرَةٌ عَظِيمَةٌ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْحَالُ عَلَى
تَجْرِيدِ أَرْبَعَةِ مُقَدَّمِينَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ إِلَيْهِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَانِيَ عَشَرَهُ، وَقَعَتْ كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ بِمِنًى،
وَذَلِكَ أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْأُمَرَاءُ الْمِصْرِيُّونَ وَالشَّامِيُّونَ مَعَ
صَاحِبِ الْيَمَنِ الْمَلِكِ الْمُجَاهِدِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا
قَرِيبًا مِنْ وَادِي مُحَسِّرٍ، ثُمَّ انْجَلَتِ الْوَقْعَةُ عَنْ أَسْرِ صَاحِبِ
الْيَمَنِ الْمُجَاهِدِ، فَحُمِلَ مُقَيَّدًا إِلَى مِصْرَ، كَذَلِكَ جَاءَتْ
بِهَا كُتُبُ الْحُجَّاجِ، وَهُمْ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ.
وَاشْتَهَرَ فِي أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ أَنَّ نَائِبَ حَلَبَ الْأَمِيرَ سَيْفَ
الدِّينِ أَرْغُونَ شَاهْ الْكَامِلِيَّ قَدْ خَرَجَ عَنْهَا بِمَمَالِيكِهِ
وَأَصْحَابِهِ، فَرَامَ الْجَيْشُ الْحَلَبِيُّ رَدَّهُ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا
ذَلِكَ، وَجُرِحَ مِنْهُمْ جِرَاحَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاسْتَمَرَّ ذَاهِبًا، وَكَانَ فِي
أَمَلِهِ - فِيمَا ذُكِرَ - أَنْ يَتَلَقَّى سَيْفَ الدِّينِ بَيْبُغَا فِي
أَثْنَاءِ طَرِيقِ الْحِجَازِ فَيَقَدَمَ مَعَهُ إِلَى دِمَشْقَ، وَإِنْ كَانَ
نَائِبُ دِمَشْقَ قَدِ اشْتَغَلَ فِي حِصَارِ صَفَدَ أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْهَا
بَغْتَةً فَيَأْخُذَهَا، فَلَمَّا سَارَ بِمَنْ مَعَهُ، وَأَخَذَتْهُ الْقُطَّاعُ مِنْ
كُلِّ جَانِبٍ، وَنُهِبَتْ حَوَاصِلُهُ، وَبَقِيَ تَجْرِيدَةٌ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ
مِنْ مَمَالِيكِهِ، فَاجْتَازَ بِحَمَاةَ لِيُهَرِّبَهُ نَائِبُهَا فَأَبَى
عَلَيْهِ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِحِمْصَ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى
السُّلْطَانِ بِنَفْسِهِ، فَقَدِمَ بِهِ نَائِبُ حِمْصَ وَتَلْقَاهُ بَعْضُ
الْحُجَّابِ وَبَعْضُ مُقَدَّمِي الْأُلُوفِ،
وَدَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ سَابِعَ عِشْرِينَ الشَّهْرِ، وَهُوَ فِي أُبَّهَةٍ، فَنَزَلَ بِدَارِ السَّعَادَةِ فِي بَعْضِ قَاعَاتِ الدُّوَيْدَارِيَّةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ،
وَالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَمَا يُلْحَقُ
بِذَلِكَ مِنَ الْأَقَالِيمِ وَالْبُلْدَانِ - الْمَلِكُ النَّاصِرُ حَسَنُ ابْنُ
السُّلْطَانِ الْمَلِكِ مُحَمَّدِ ابْنِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ
قَلَاوُونَ الصَّالِحِيُّ، وَنَائِبُهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ بَيْبُغَا الْمُلَقَّبُ بِحَارِسِ الطَّيْرِ، وَهُوَ عِوَضٌ عَنِ
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بَيْبُغَا آرُوسَ الَّذِي رَاحَ إِلَى بِلَادِ
الْحِجَازِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ بِقَصْدِ الْحَجِّ الشَّرِيفِ،
فَعَزَلَهُ السُّلْطَانُ فِي غَيْبَتِهِ، وَأَمْسَكَ عَلَى شَيْخُونَ
وَاعْتَقَلَهُ، وَأَخَذَ مَنْجَكَ الْوَزِيرَ - وَهُوَ أُسْتَادَارُ وَمُقَدَّمُ
أَلْفٍ - وَاصْطَفَى أَمْوَالَهُ، وَاعْتَاضَ عَنْهُ، وَوَلَّى مَكَانَهُ فِي
الْوِزَارَةِ الْقَاضِي عَلَمَ الدِّينِ بْنَ زُيْنُورٍ، وَاسْتَرْجَعَ إِلَى
وَظِيفَةِ الدُّوَيْدَارِيَّةِ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ طَشْبُغَا
النَّاصِرِيَّ، وَكَانَ أَمِيرًا بِالشَّامِ مُقِيمًا مُنْذُ عُزِلَ إِلَى أَنْ
أُعِيدَ فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَا كَاتِبُ السِّرِّ
بِمِصْرَ وَقُضَاتُهَا فَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَاسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَنَائِبُ صَفَدَ قَدْ حَصَّنَ الْقَلْعَةَ،
وَأَعَدَّ فِيهَا عُدَّتَهَا وَمَا يَنْبَغِي لَهَا مِنَ الْأَطْعِمَاتِ،
وَالذَّخَائِرِ، وَالْعُدَدِ، وَالرِّجَالِ، وَقَدْ نَابِذَ الْمَمْلَكَةَ
وَحَارَبَ،
وَقَدْ قَصَدَتْهُ
الْعَسَاكِرُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَدِمَشْقَ،
وَطَرَابُلُسَ، وَغَيْرِهَا، وَالْأَخْبَارُ قَدْ ضَمِنَتْ عَنْ بَيْبُغَا، وَمَنْ
مَعَهُ بِبِلَادِ الْحِجَازِ مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِ، وَنَائِبُ دِمَشْقَ فِي
احْتِرَازٍ وَخَوْفٍ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ فَيَدْهَمَهَا
بِمَنْ مَعَهُ، وَالْقُلُوبُ وَجِلَةٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا وَرَدَ الْخَبَرُ أَنَّ صَاحِبَ الْيَمَنِ حَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
فَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ مَكَّةَ عَجْلَانَ; بِسَبَبِ أَنَّهُ أَرَادَ
أَنْ يُوَلِّيَ عَلَيْهَا أَخَاهُ ثَقَبَةَ، فَاشْتَكَى عَجْلَانُ ذَلِكَ إِلَى
أُمَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، وَكَبِيرُهُمْ إِذْ ذَاكَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
طَازْ، وَأَمِيرُ حَجَّتِهِمْ وَأَمِيرُ حَجِيجِهِمُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
بُزْلَارُ، وَمَعَهُمْ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أَمْسَكُوا أَخَاهُمْ
بَيْبُغَا، وَقَيَّدُوهُ فَقَوِيَ رَأْسُهُ عَلَيْهِمْ، وَاسْتَخَفَّ بِهِمْ،
فَصَبَرُوا حَتَّى قُضِيَ الْحَجُّ، وَفَرَغَ النَّاسُ مِنَ الْمَنَاسِكِ،
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ يَوْمُ الْخَمِيسِ تَوَاقَفُوا هُمْ
وَهُوَ، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَالْأَكْثَرُ مِنَ
الْيَمَنِيِّينَ، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ قَرِيبَةً مِنْ وَادِي مُحَسِّرٍ،
وَبَقِيَ الْحَجِيجُ خَائِفِينَ أَنْ تَكُونَ الدَّائِرَةُ عَلَى الْأَتْرَاكِ فَتَنْهَبَ
الْأَعْرَابُ أَمْوَالَهُمْ، وَرُبَّمَا قَتَلُوهُمْ، فَفَرَّجَ اللَّهُ تَعَالَى،
وَنَصَرَ الْأَتْرَاكَ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، وَلَجَأَ الْمَلِكُ الْمُجَاهِدُ
إِلَى جَبَلٍ فَلَمْ يَعْصِمْهُ مِنَ الْأَتْرَاكِ، بَلْ أَسَرُوهُ ذَلِيلًا
حَقِيرًا، وَأَخَذُوهُ مُقَيَّدًا أَسِيرًا، وَعَاثَ عَوَامُّ النَّاسِ فِي
الْيَمَنِيِّينَ، فَنَهَبُوا شَيْئًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا لَهُمْ جَلِيلًا
وَلَا حَقِيرًا، وَلَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، وَاحْتَاطَ الْأُمَرَاءُ عَلَى
حَوَاصِلِ الْمَلِكِ، وَأَمْوَالِهِ، وَأَمْتِعَتِهِ، وَأَثْقَالِهِ، وَسَارُوا
بِخَيْلِهِ وَجِمَالِهِ، وَأَدْنَوْا إِلَى
صِنْدِيدٍ مَنْ رَحَّلَهُ
وَرِجَالَهُ، وَاسْتَصْحَبُوا مَعَهُمْ طُفَيْلًا الَّذِي كَانَ حَاصَرَ
الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، وَقَيَّدُوهُ أَيْضًا،
وَجَعَلُوا الْغُلَّ فِي عُنُقِهِ، وَاسْتَاقُوهُ كَمَا يُسْتَاقُ الْأَسِيرُ فِي
وَثَاقِهِ مَصْحُوبًا بِهَمِّهِ، وَحَتْفِهِ، وَانْشَمَرُوا عَنْ تِلْكَ
الْبِلَادِ إِلَى دِيَارِهِمْ رَاجِعِينَ، وَقَدْ فَعَلُوا فَعْلَةً تُذْكَرُ
بَعْدَهُمْ إِلَى حِينٍ.
وَدَخَلَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الثَّالِثِ
وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ،
وَالْقَاعِدَةِ الْمُسْتَقِرَّةِ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ قَدِمَتِ الْبَرِيدِيَّةُ مِنْ تِلْقَاءِ مَدِينَةِ صَفَدَ
مُخْبِرَةً بِأَنَّ الْأَمِيرَ شِهَابَ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنَ مُشِدِّ
الشُّرْبَخَانَاهْ، الَّذِي كَانَ قَدْ تَمَرَّدَ بِهَا، وَطَغَى، وَبَغَى حَتَّى
اسْتَحْوَزَ عَلَيْهَا، وَقَطَعَ سُبُلَهَا، وَقَتَلَ الْفُرْسَانَ
وَالرَّجَّالَةَ، وَمَلَأَهَا أَطْعِمَةً وَأَسْلِحَةً، وَمَمَالِيكَهُ
وَرِجَالَهُ، فَعِنْدَمَا تَحَقَّقَ مَسْكُ بَيْبُغَا آرُوسَ خَضَعَتْ تِلْكَ
النُّفُوسُ، وَخَمَدَتْ نَارُهُ، وَسَكَنَ شَرَارُهُ، وَأُخِذَ بِنَارِهِ،
وَوَضَحَ قَرَارُهُ، وَأَنَابَ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعِ، وَرَغِبَ إِلَى
السَّلَامَةِ وَالْإِخْلَاصِ، وَخَضَعَ وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ، وَأَرْسَلَ
سَيْفَهُ إِلَى السُّلْطَانِ، ثُمَّ تَوَجَّهَ بِنَفْسِهِ عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى
حَضْرَةِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ، وَاللَّهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يُحَنِّنَهُ
عَلَيْهِ، وَأَنْ يُقْبِلَ بِقَلْبِهِ إِلَيْهِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ خَامِسِ صَفَرٍ قَدِمَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُونُ الْكَامِلِيُّ مُعَادًا إِلَى نِيَابَةِ
حَلَبَ، وَفِي صُحْبَتِهِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طَشْبُغَا الدَّوَادَارِ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَهُوَ زَوْجُ ابْنَةِ نَائِبِ الشَّامِ،
فَتَلَقَّاهُ نَائِبُ الشَّامِ وَأَعْيَانُ
الْأُمَرَاءِ، وَنَزَلَ
طَشْبُغَا الدَّوَادَارُ عِنْدَ زَوْجَتِهِ بِدَارِ مُنَجَّا فِي مَحِلَّةِ
مَسْجِدِ الْقَصَبِ الَّتِي كَانَتْ تُعْرَفُ بِدَارِ حُنَيْنِ بْنِ حَيْدَرٍ،
وَقَدْ جُدِّدَتْ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَتَوَجَّهَا فِي اللَّيْلَةِ
الثَّانِيَةِ مِنْ قُدُومِهِمَا إِلَى حَلَبَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ اجْتَمَعَ
الْقُضَاةُ الثَّلَاثَةُ، وَطَلَبُوا الْحَنْبَلِيَّ لِيَتَكَلَّمُوا مَعَهُ
فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِدَارِ الْمُعْتَمِدِ الَّتِي بِجِوَارِ مَدْرَسَةِ الشَّيْخِ
أَبِي عُمَرَ الَّتِي حَكَمَ بِنَقْضِ وَقْفِهَا، وَهَدْمِ بَابِهَا،
وَإِضَافَتِهَا إِلَى دَارِ الْقُرْآنِ الْمَذْكُورَةِ، وَجَاءَ مَرْسُومُ
السُّلْطَانِ بِوَقْفِ ذَلِكَ، وَكَانَ الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ قَدْ أَرَادَ
مَنْعَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا جَاءَ مَرْسُومُ السُّلْطَانِ اجْتَمَعُوا
لِذَلِكَ، فَلَمْ يَحْضُرِ الْقَاضِي الْحَنْبَلِيُّ، وَقَالَ: حَتَّى يَجِيءَ
نَائِبُ السَّلْطَنَةِ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ خَامِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ حَضَرَ
الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَلَدُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ عَنْ
أَبِيهِ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ، وَقُرِئَ عَلَيْهِ شَيْءٌ
كَانَ قَدْ خَرَّجَهُ لَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ، وَشَاعَ فِي الْبَلَدِ أَنَّهُ
نَزَلَ لَهُ عَنْهَا، وَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ كَلَامًا كَثِيرًا، وَانْتَشَرَ
الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ نَزَلَ لَهُ عَنِ
الْغَزَالِيَّةِ، وَالْعَادِلِيَّةِ، وَاسْتَخْلَفَهُ فِي ذَلِكَ، فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَفِي سَحَرِ لَيْلَةِ الْخَمِيسِ خَامِسِ شَهْرِ جُمَادَى الْأُولَى، وَقَعَ
حَرِيقٌ عَظِيمٌ فِي الْحَرَّانِيِّينَ فِي السُّوقِ الْكَبِيرِ، وَاحْتَرَقَتْ
دَكَاكِينُ الْفَوَاخِرَةِ وَالْمَنَاخِلِيِّينَ، وَفُرْجَةُ الْغَرَابِيلِ،
وَإِلَى دَرْبِ الْقَلْيِ، ثُمَّ إِلَى قَرِيبِ دَرْبِ الْعَمِيدِ، وَصَارَتْ
تِلْكَ
النَّاحِيَةُ دَكَّا
بَلْقَعًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَجَاءَ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ بَعْدَ الْأَذَانِ إِلَى هُنَاكَ، وَرَسَمَ بِطَفْيِ النَّارِ،
وَجَاءَ الْمُتَوَلِّي، وَالْقَاضِي الشَّافِعِيُّ، وَالْحُجَّابُ، وَشَرَعَ
النَّاسُ فِي طَفْيِ النَّارِ، وَلَوْ تَرَكُوهَا لَأَحْرَقَتْ شَيْئًا كَثِيرًا،
وَلَمْ يُفْقَدْ - فِيمَا بَلَغْنَا - أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ هَلَكَ
لِلنَّاسِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمَتَاعِ، وَالْأَثَاثِ، وَالْأَمْلَاكِ، وَغَيْرِ
ذَلِكَ، وَاحْتَرَقَ لِلْجَامِعِ مِنَ الرِّبَاعِ فِي هَذَا الْحَرِيقِ مَا
يُسَاوِي مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ جِدًّا
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ خَامِسَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى اسْتَسْلَمَ الْقَاضِي
الْحَنْبَلِيُّ جَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْهُمْ نَوْعُ
اسْتِهْزَاءٍ بِالْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَإِنَّهُمْ حَمَلُوا رَجُلًا مِنْهُمْ -
صِفَةَ أَنَّهُ مَيِّتٌ عَلَى نَعْشٍ - وَيُهَلِّلُونَ كَتَهْلِيلِ الْمُسْلِمِينَ
أَمَامَ الْمَيِّتِ، وَيَقْرَءُونَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [ الْإِخْلَاصِ: 1
- 4 ] فَسَمِعَ بِهِمْ مَنْ بِحَارَتِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَخَذُوهُمْ
إِلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، فَدَفَعَهُمْ إِلَى
الْحَنْبَلِيِّ، فَاقْتَضَى الْحَالُ اسْتِسْلَامَهُمْ، فَأَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ
مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ، وَتَبِعَ أَحَدَهُمْ ثَلَاثَةُ أَطْفَالٍ، وَأَسْلَمَ فِي
الْيَوْمِ الثَّانِي ثَمَانِيَةٌ آخَرُونَ، فَأَخَذَهُمُ الْمُسْلِمُونَ،
وَطَافُوا بِهِمْ فِي الْأَسْوَاقِ يُهَلِّلُونَ وَيُكَبِّرُونَ، وَأَعْطَاهُمْ
أَهْلُ الْأَسْوَاقِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَرَاحُوا بِهِمْ إِلَى الْجَامِعِ
فَصَلُّوا، ثُمَّ أَخَذُوهُمْ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، فَاسْتَطْلَقُوا لَهُمْ
شَيْئًا، وَرَجَعُوا وَهُمْ فِي ضَجِيجٍ وَتَهْلِيلٍ وَتَقْدِيسٍ، وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
مَمْلَكَةُ السُّلْطَانِ
الْمَلِكِ الصَّالِحِ صَلَاحِ الدِّينِ صَالِحِ بْنِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ ابْنِ
الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ الصَّالِحِيِّ
فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ الْفَرْدِ وَرَدَتِ الْبَرِيدِيَّةُ
مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِعَزْلِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ
حَسَنِ بْنِ النَّاصِرِ بْنِ قَلَاوُونَ; لِاخْتِلَافِ الْأُمَرَاءِ عَلَيْهِ،
وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى أَخِيهِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ صَالِحٍ، وَأُمُّهُ بِنْتُ
مَلِكِ الْأُمَرَاءِ تَنْكِزَ الَّذِي كَانَ نَائِبَ الشَّامِ مُدَّةً طَوِيلَةً -
وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً - وَجَاءَتِ الْأُمَرَاءُ لِلْحَلِفِ،
فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَزُيِّنَ الْبَلَدُ عَلَى الْعَادَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ
الْمَلِكَ النَّاصِرَ حَسَنَ خُنِقَ. وَرَجَعَتِ الْأُمَرَاءُ الَّذِينَ كَانُوا
بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مِثْلَ شَيْخُونَ وَمَنْجَكَ وَغَيْرِهِمَا، وَأَرْسَلُوا
إِلَى بَيْبُغَا فَجِيءَ بِهِ مِنَ الْكَرْكِ، وَكَانَ مَسْجُونًا بِهَا مِنْ
مَرْجِعِهِ مِنَ الْحَجِّ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ شَفَعَ
فِي صَاحِبِ الْيَمَنِ الْمَلِكِ الْمُجَاهِدِ الَّذِي كَانَ مَسْجُونًا فِي
الْكَرْكِ، فَأُخْرِجَ، وَعَادَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَمَّا
الْأُمَرَاءُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ نَاحِيَةِ السُّلْطَانِ حِينَ مُسِكَ
مُغْلَطَايْ أَمِيرُ آخُورَ، وَمُنَكَلِي بُغَا الْفَخْرِيُّ، وَغَيْرُهُمَا،
فَاحْتِيطَ عَلَيْهِمْ، وَأُرْسِلُوا إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَخُطِبَ
لِلْمَلِكِ الصَّالِحِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّابِعَ عَشَرَ
مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ، وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْأُمَرَاءُ وَالْقُضَاةِ;
لِلدُّعَاءِ لَهُ بِالْمَقْصُورَةِ عَلَى الْعَادَةِ.
وَفِي أَثْنَاءِ
الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَجَبٍ عُزِلَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ سَيْفُ الدِّينِ
أَيْتَمُشُ عَنْ دِمَشْقَ مَطْلُوبًا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَسَارَ
إِلَيْهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ حَادِيَ عَشَرَ شَعْبَانَ قَدِمَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ أَرْغُونُ الْكَامِلِيُّ الَّذِي كَانَ نَائِبًا عَلَى الدِّيَارِ
الْحَلَبِيَّةِ مِنْ هُنَاكَ، فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي
أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَخَرَجَ الْأُمَرَاءُ، وَالْمُقَدَّمُونَ، وَأَرْبَابُ
الْوَظَائِفِ; لِتَلَقِّيهِ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، مِنْهُمْ مَنْ وَصَلَ
إِلَى حَلَبَ وَحَمَاةَ وَحِمْصَ، وَجَرَى فِي هَذَا الْيَوْمِ عَجَائِبُ لَمْ
تُرَ مِنْ دُهُورٍ، وَاسْتَبْشَرَ النَّاسُ بِهِ; لِصَرَامَتِهِ، وَشَهَامَتِهِ،
وَحِدَّتِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ لِينِ الَّذِي قَبْلَهُ وَرَخَاوَتِهِ، فَنَزَلَ
دَارَ السَّعَادَةِ عَلَى الْعَادَةِ. وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ وَقَفَ فِي مَوْكِبٍ
هَائِلٍ، قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُرَ مِثْلَهُ مِنْ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ. وَلَمَّا
سِيرَ إِلَى نَاحِيَةِ بَابِ الْفَرَجِ اشْتَكَى إِلَيْهِ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ عَلَى
أَمِيرٍ كَبِيرٍ يُقَالُ لَهُ: الطَّرْخَانِيُّ. فَأَمَرَ بِإِنْزَالِهِ عَنْ
فَرَسِهِ، فَأُنْزِلَ وَأُوقِفَ مَعَهُنَّ فِي الْحُكُومَةِ.
وَاسْتَمَرَّ بُطْلَانُ الْوَقِيدِ فِي الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ فِي هَذَا
الْعَامِ أَيْضًا كَالَّذِي قَبْلَهُ حَسَبَ مَرْسُومِ السُّلْطَانِ النَّاصِرِ
حَسَنٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَفَرِحَ أَهْلُ الْخَيْرِ بِذَلِكَ فَرَحًا
شَدِيدًا، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ مِنْ نَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ
سَنَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَنُودِيَ فِي الْبَلَدِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَالَّذِي بَعْدَهُ عَنِ النَّائِبِ:
مَنْ وَجَدَ جُنْدِيًّا سَكْرَانَ فَلْيُنْزِلْهُ عَنْ فَرَسِهِ، وَلِيَأْخُذْ
ثِيَابَهُ، وَمَنْ أَحْضَرَهُ مِنَ الْجُنْدِ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ فَلَهُ
خُبْزُهُ. فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَاحْتَجَرَ عَنِ الْخَمَّارِينَ
وَالْعَطَّارِينَ وَالْعَصَّارِينَ،
وَرَخَصَتِ الْأَعْنَابُ،
وَجَادَتِ الْأَخْبَازُ وَاللَّحْمُ بَعْدَ أَنْ كَانَ بَلَغَ كُلُّ رِطْلٍ
أَرْبَعَةً وَنِصْفًا، فَصَارَ بِدِرْهَمَيْنِ وَنِصْفٍ وَأَقَلَّ، وَأُصْلِحَتِ
الْمَعَايِشُ مِنْ هَيْبَةِ النَّائِبِ، وَصَارَ لَهُ صِيتٌ حَسَنٌ، وَذِكْرٌ
جَمِيلٌ فِي النَّاسِ بِالْعَدْلِ، وَجَوْدَةِ الْقَصْدِ، وَصِحَّةِ الْفَهْمِ،
وَقُوَّةِ الْعَدْلِ، وَالْإِدْرَاكِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ عَشَرَ شَعْبَانَ وَصَلَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ
بْنُ شَادِّ الشُّرْبَخَانَاهْ - الَّذِي كَانَ قَدْ عَصَى فِي صَفَدَ - وَكَانَ
مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، فَاعْتُقِلَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، ثُمَّ أُخْرِجَ فِي
هَذِهِ الدَّوْلَةِ وَأُعْطِيَ نِيَابَةَ حَمَاةَ، فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي هَذَا
الْيَوْمِ سَائِرًا إِلَى حَمَاةَ، فَرَكِبَ مَعَ النَّائِبِ فِي الْمَوْكِبِ،
وَسِيرَ عَنْ يَمِينِهِ وَنَزَلَ فِي خِدْمَتِهِ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ،
وَتَرَجَّلَ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ دَخَلَ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ بَيْبُغَا الَّذِي كَانَ نَائِبًا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
ثُمَّ مُسِكَ بِالْحِجَازِ وَأُودِعَ الْكَرَكَ، ثُمَّ أُخْرِجَ فِي هَذِهِ
الدَّوْلَةِ وَأُعْطِيَ نِيَابَةَ حَلَبَ، فَتَلَقَّاهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ،
وَأُنْزِلَ دَارَ السَّعَادَةِ حَتَّى أُضِيفَ، وَنَزَلَ وِطَاقُهُ بِوَطْأَةِ
بَرْزَةَ، وَضُرِبَتْ لَهُ خَيْمَةٌ بِالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَمَا يَتْبَعُ
ذَلِكَ - الْمَلِكُ الصَّالِحُ صَلَاحُ الدِّينِ صَالِحُ ابْنُ السُّلْطَانِ
الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ،
وَالْخَلِيفَةُ الَّذِي يُدْعَى لَهُ الْمُعْتَضِدُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَنَائِبُ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُبْلَايْ، وَقُضَاةُ
مِصْرَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَالْوَزِيرُ الْقَاضِي ابْنُ
زُنْبُورٍ، وَأُولُو الْأَمْرِ الَّذِينَ يُدَبِّرُونَ الْمَمْلَكَةَ فَلَا
تَصْدُرُ الْأُمُورُ إِلَّا عَنْ آرَائِهِمْ لِصِغَرِ السُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ -
جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِهِمْ ثَلَاثَةٌ; سَيْفُ الدِّينِ شَيْخُونُ، وَطَازْ،
وَصَرْغَتْمُشُ، وَنَائِبُ دِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُونُ
الْكَامِلِيُّ، وَقُضَاتُهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا،
وَنَائِبُ الْبِلَادِ الْحَلَبِيَّةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْبُغَا
آرُوسُ، وَنَائِبُ طَرَابُلُسَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَكْلَمُشُ، وَنَائِبُ
حَمَاةَ الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ مُشِدِّ الشُّرْبَخَانَةُ.
وَوَصْلَ بَعْضُ الْحُجَّاجِ إِلَى دِمَشْقَ فِي تَاسِعِ الشَّهْرِ - وَهَذَا
نَادِرٌ - وَأَخْبَرَ بِمَوْتِ الْمُؤَذِّنِ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ سَعِيدٍ بَعْدَ
مَنْزِلَةِ الْعُلَا فِي الْمَطَالِعِ.
وَفِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ
سَادِسَ عَشَرَ صَفَرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ عِنْدَ بَابِ
جَيْرُونَ شَرْقِيَّهُ، فَأَحْرَقَ دُكَّانَ الْفَقَّاعِيِّ الْكَبِيرَةَ
الْمُزَخْرَفَةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَاتَّسَعَ اتِّسَاعًا فَظِيعًا، وَاتَّصَلَ
الْحَرِيقُ بِالْبَابِ الْأَصْفَرِ مِنَ النُّحَاسِ، فَبَادَرَ دِيوَانُ
الْجَامِعِ إِلَيْهِ، فَكَشَطُوا مَا عَلَيْهِ مِنَ النُّحَاسِ، وَنَقَلُوهُ مِنْ
يَوْمِهِ إِلَى خِزَانَةِ الْحَاصِلِ بِمَقْصُورَتِهِ الْحَلَبِيَّةِ بِجِوَارِ
مَشْهَدِ عَلَيٍّ، ثُمَّ غَدَوْا عَلَيْهِ يَكْسِرُونَ خَشَبَهُ بِالْفُئُوسِ
الْحِدَادِ، وَالسَّوَاعِدِ الشِّدَادِ، وَإِذَا هُوَ مِنْ خَشَبِ الصَّنَوْبَرِ
الَّذِي فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْقُوَّةِ وَالثَّبَاتِ، وَتَأَسَّفَ
النَّاسُ عَلَيْهِ; لِكَوْنِهِ كَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الْبَلَدِ وَمَعَالِمِهِ، وَلَهُ
فِي الْوُجُودِ مَا يُنَيِّفُ عَنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ.
تَرْجَمَةُ بَابِ جَيْرُونَ الْمَشْهُورِ بِدِمَشْقَ
الَّذِي كَانَ هَلَاكُهُ وَذَهَابُهُ وَكَسْرُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ
بَابُ شَرْقِيِّ جَامِعِ دِمَشْقَ، لَمْ يُرَ بَابٌ أَوْسَعُ وَلَا أَعْلَى مِنْهُ
فِيمَا يُعْرَفُ مِنَ الْأَبْنِيَةِ فِي الدُّنْيَا، وَلَهُ غَلَقَانِ مِنْ
نُحَاسٍ أَصْفَرَ بِمَسَامِيرَ مِنْ نُحَاسٍ أَصْفَرَ أَيْضًا بَارِزَةٍ، مِنْ
عَجَائِبِ الدُّنْيَا وَمَحَاسِنِ دِمَشْقَ وَمَعَالِمِهَا، وَقَدْ تَمَّ
بِنَاؤُهَا، وَقَدْ ذَكَرَتْهُ الْعَرَبُ فِي أَشْعَارِهَا وَالنَّاسُ، وَهُوَ
مَنْسُوبٌ إِلَى مَلِكٍ يُقَالُ لَهُ: جَيْرُونُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عَادِ بْنِ
عَوْصَ
بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَهُوَ الَّذِي بَنَاهُ، وَكَانَ بِنَاؤُهُ لَهُ قَبْلَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَلْ قَبْلَ ثَمُودَ وَهُودٍ أَيْضًا، عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " وَغَيْرُهُ، وَكَانَ فَوْقَهُ حِصْنٌ عَظِيمٌ، وَقَصْرٌ مُنِيفٌ، وَيُقَالُ: بَلْ هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى اسْمِ الْمَارِدِ الَّذِي بَنَاهُ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ اسْمُ ذَلِكَ الْمَارِدِ جَيْرُونَ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ لِهَذَا الْبَابِ مِنَ الْمُدَدِ الْمُتَطَاوِلَةِ مَا يُقَارِبُ خَمْسَةَ آلَافِ سَنَةٍ، ثُمَّ كَانَ انْجِعَافُ هَذَا الْبَابِ لَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، بَلْ بِالْأَيْدِي الْعَادِيَةِ عَلَيْهِ; بِسَبَبِ مَا نَالَهُ مِنْ شَوْظِ حَرِيقٍ اتَّصَلَ إِلَيْهِ مِنْ حَرِيقٍ وَقَعَ إِلَى جَانِبِهِ فِي صَبِيحَةِ لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ، سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، فَتَبَادَرَ دِيوَانُ الْجَامِعِ فَفَرَّقُوا شَمْلَهُ، وَقَضَمُوا ثَمْلَهُ، وَعَرَّوْا جِلْدَهُ النُّحَاسَ عَنْ بَدَنِهِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَشَبِ الصَّنَوْبَرِ الَّذِي كَأَنَّ الصَّانِعَ قَدْ فَرَغَ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ شَاهَدْتُ الْفُئُوسَ تَعْمَلُ فِيهِ وَلَا تَكَادُ تُحِيلُ فِيهِ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ، فَسُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الَّذِينَ بَنَوْهُ أَوَّلًا، ثُمَّ قَدَّرَ أَهْلَ هَذَا الزَّمَانِ عَلَى أَنْ هَدَمُوهُ آخِرًا بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَدِ الْمُتَطَاوِلَةِ، وَالْأُمَمِ الْمُتَدَاوَلَةِ، وَلَكِنْ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [ الرَّعْدِ: 38 ]
وَلَا إِلَهَ إِلَّا
رَبُّ الْعِبَادِ.
بَيَانُ تَقَدُّمِ مُدَّةِ هَذَا الْبَابِ وَزِيَادَتِهَا عَلَى مُدَّةِ
أَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ بَلْ يُقَارِبُ الْخَمْسَةَ
ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي أَوَّلِ " تَارِيخِهِ " بَابُ
بِنَاءِ دِمَشْقَ بِسَنَدِهِ عَنِ الْقَاضِي يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ الْبَتَلْهِيِّ
الْحَاكِمِ بِهَا فِي الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ - وَقَدْ كَانَ هَذَا الْقَاضِي
مِنْ تَلَامِيذِ أَبِي عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيِّ - قَالَ: لَمَّا فَتَحَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَلِيٍّ دِمَشْقَ بَعْدَ حِصَارِهَا - يَعْنِي: وَانْتَزَعَهَا مِنْ أَيْدِي
بَنِي أُمَيَّةَ، وَسَلَبَهُمْ مُلْكَهُمْ - هَدَمُوا سُورَ دِمَشْقَ، فَوَجَدُوا
حَجَرًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ بِالْيُونَانِيَّةِ، فَجَاءُوا بِرَاهِبٍ فَقَرَأَهُ
لَهُمْ، فَإِذَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: وَيَكُ إِرَمَ الْجَبَابِرَ، مَنْ
رَامَكِ بِسُوءٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، إِذَا وَهَى مِنْكِ جَيْرُونُ الْغَرْبِيُّ
مِنْ بَابِ الْبَرِيدِ، وَيْلَكِ مِنْ خَمْسَةِ أَعْيُنٍ، نَقْضُ سُورِكِ عَلَى
يَدَيْهِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ تَعِيشِينَ رَغَدًا، فَإِذَا وَهَى
مِنْكِ جَيْرُونُ الشَّرْقِيُّ أُدِيلَ لَكِ مِمَّنْ يَعْرِضُ لَكِ. قَالَ:
فَوَجَدْنَا الْخَمْسَةَ أَعْيُنٍ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمَطْلَبِ، عَيْنُ بْنُ عَيْنِ بْنِ عَيْنِ
بْنِ عَيْنِ بْنِ عَيْنٍ. فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ بِسُورِهَا سِنِينًا
إِلَى حِينِ إِخْرَابِهِ عَلَى يَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ أَرْبَعَةَ
آلَافِ سَنَةٍ، وَقَدْ كَانَ إِخْرَابُهُ لَهُ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَةٍ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي " التَّارِيخِ الْكَبِيرِ " فَعَلَى
هَذَا يَكُونُ لِهَذَا الْبَابِ إِلَى يَوْمِ خَرِبَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ -
أَعْنِي: سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ - أَرْبَعَةُ آلَافٍ
وَسِتُّمِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - هُوَ الَّذِي أَسَّسَ دِمَشْقَ بَعْدَ حَرَّانَ، وَذَلِكَ بَعْدَ
مُضِيِّ الطُّوفَانِ. وَقِيلَ: بَنَاهَا دَمَسْقَسُ غُلَامُ ذِي الْقَرْنَيْنِ
عَنْ إِشَارَتِهِ. وَقِيلَ: الْعَازَرُ الْمُلَقَّبُ بِدِمَشْقَ، وَهُوَ غُلَامُ
الْخَلِيلِ.
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَأَظْهَرُهَا أَنَّهَا مِنْ بِنَاءِ
الْيُونَانِ; لِأَنَّ مَحَارِيبَ مَعَابِدِهَا كَانَتْ مُوَجَّهَةً إِلَى
الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَهُمُ النَّصَارَى فَصَلَّوْا فِيهَا
إِلَى الشَّرْقِ، ثُمَّ كَانَ فِيهَا بَعْدَهُمْ أَجْمَعِينَ أُمَّةُ
الْمُسْلِمِينَ فَصَلَّوْا إِلَى الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَبْوَابَهَا كَانَتْ سَبْعَةً، كُلٌّ
مِنْهَا يُتَّخَذُ عِنْدَهُ عِيدٌ لِهَيْكَلٍ مِنَ الْهَيَاكِلِ السَّبْعَةِ،
فَبَابُ الْقَمَرِ بَابُ السَّلَامَةِ، وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ بَابَ
الْفَرَادِيسِ
الْمَسْدُودَ، وَلِعُطَارِدَ بَابُ الْفَرَادِيسِ الْكَبِيرِ، وَلِلزُّهْرَةِ
بَابُ تُومَاءَ، وَلِلشَّمْسِ الْبَابُ الشَّرْقِيُّ، وَلِلْمِرِّيخِ بَابُ
الْجَابِيَةِ، وَلِلْمُشْتَرِي بَابُ الْجَابِيَةِ الصَّغِيرِ، وَلِزُحَلَ بَابُ
كَيْسَانَ.
وَفِي أَوَائِلِ شَهْرِ رَجَبٍ الْفَرْدِ اشْتَهَرَ أَنَّ نَائِبَ حَلَبَ
بَيْبُغَا آرُوسَ اتَّفَقَ مَعَ نَائِبِ طَرَابُلُسَ بَكْلَمُشْ، وَنَائِبِ
حَمَاةَ أَمِيرِ أَحْمَدَ بْنِ مُشِدِّ الشُّرْبَخَانَهْ عَلَى الْخُرُوجِ عَنْ
طَاعَةِ السُّلْطَانِ حَتَّى يُمْسِكَ شَيْخُونُ وَطَازْ، وَهُمَا عَضُدَا
الدَّوْلَةِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَبَعَثُوا إِلَى نَائِبِ دِمَشْقَ
وَهُوَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُونُ الْكَامِلِيُّ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ
ذَلِكَ، وَكَاتَبَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ،
وَانْزَعَجَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَخَافُوا مِنْ غَائِلَةِ هَذَا الْأَمْرِ،
وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ. وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ ثَامِنُ
الشَّهْرِ جَمَعَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْأُمَرَاءَ عِنْدَهُ بِالْقَصْرِ
الْأَبْلَقِ، وَاسْتَحْلَفَهُمْ بَيْعَةً أُخْرَى لِنَائِبِ السَّلْطَنَةِ
الْمَلِكِ الصَّالِحِ، فَحَلَفُوا وَاتَّفَقُوا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ
وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ عَشَرَ
رَجَبٍ جَاءَتِ الْجَبَلِيَّةُ الَّذِينَ جَمَعُوهُمْ مِنَ الْبِقَاعِ لِأَجْلِ
حِفْظِ ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ مِنْ قُدُومِ الْعَسَاكِرِ الْحَلَبِيَّةِ، وَمَنْ
مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ طَرَابُلُسَ وَحَمَاةَ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْجَبَلِيَّةُ
قَرِيبًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَحَصَلَ بِسَبَبِهِمْ ضَرَرٌ كَثِيرٌ عَلَى
أَهْلِ بِرْزَةَ وَمَا جَاوَرَهُمْ مِنَ الثِّمَارِ وَغَيْرِهَا.
وَفِي بُكْرَةِ يَوْمِ السَّبْتِ الْعِشْرِينَ مِنْهُ رَكِبَ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُونُ، وَمَعَهُ الْجُيُوشُ الدِّمَشْقِيَّةُ
قَاصِدِينَ نَاحِيَةَ الْكُسْوَةِ لِئَلَّا يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ
يَبْقَ فِي الْبَلَدِ
مِنَ الْجُنْدِ أَحَدٌ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ وَلَيْسَ لَهُمْ نَائِبٌ وَلَا
عَسْكَرٌ، وَخَلَتِ الدِّيَارُ مِنْهُمْ، وَنَائِبُ الْغَيْبَةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ أُلْجَيْبُغَا الْعَادِلِيُّ، وَانْتَقَلَ النَّاسُ مِنَ الْبَسَاتِينِ
وَمِنْ أَطْرَافِ الْعُقَيْبَةِ وَغَيْرِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَكْثَرُ
الْأُمَرَاءِ نُقِلَتْ حَوَاصِلُهُمْ وَأَهَالِيهُمْ إِلَى الْقَلْعَةِ
الْمَنْصُورَةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَلَمَّا
اقْتَرَبَ دُخُولُ الْأَمِيرِ بَيْبُغَا بِمَنْ مَعَهُ انْزَعَجَ النَّاسُ،
وَانْتَقَلَ أَهْلُ الْقُرَى الَّذِينَ فِي طَرِيقِهِ، وَسَرَى ذَلِكَ إِلَى
أَطْرَافِ الصَّالِحِيَّةِ وَالْبَسَاتِينِ وَحَوَاضِرِ الْبَلَدِ، وَغُلِقَتْ
أَبْوَابُ الْبَلَدِ إِلَى مَا يَلِي الْقَلْعَةَ; كَبَابِ النَّصْرِ، وَبَابِ
الْفَرَجِ، وَكَذَا بَابُ الْفَرَادِيسِ، وَخَلَتْ أَكْثَرُ الْمَحَالِّ مِنْ
أَهَالِيهِمْ، وَنَقَلُوا حَوَائِجَهُمْ، وَحَوَاصِلَهُمْ، وَأَنْعَامَهُمْ إِلَى
الْبَلَدِ عَلَى الدَّوَابِّ وَالْحَمَّالِينَ، وَبَلَغَهُمْ أَنَّ أَطْرَافَ
الْجَيْشِ انْتَهَبُوا مَا فِي الْقَرَايَا فِي طَرِيقِهِمْ مِنَ الشَّعِيرِ
وَالتِّبْنِ وَبَعْضِ الْأَنْعَامِ لِلْأَكْلِ، وَرُبَّمَا وَقَعَ فَسَادٌ غَيْرُ
هَذَا مِنْ بَعْضِ الْجَهَلَةِ، فَخَافَ النَّاسُ كَثِيرًا، وَتَشَوَّشَتْ
خَوَاطِرُهُمْ.
دُخُولُ بَيْبُغَا آرُوسَ إِلَى دِمَشْقَ
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ
دَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْبُغَا آرُوسَ - نَائِبُ حَلَبَ - إِلَى
دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ الْحَلَبِيَّةِ،
وَغَيْرِهِمْ، وَفِي صُحْبَتِهِ نَائِبُ طَرَابُلُسَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
بَكْلَمُشْ، وَنَائِبُ حَمَاةَ الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ، وَنَائِبُ صَفَدَ
الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ طَيْبُغَا - يُلَقَّبُ
بُرْنَاقُ - وَكَانَ قَدْ تُوَجَّهُ قَبْلَهُ قِيلَ: بِيَوْمٍ. وَمَعَهُ نُوَّابُ قِلَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنْ بِلَادِ حَلَبَ وَغَيْرِهَا، فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ وَالتُّرْكُمَانِ، فَوَقَفَ فِي سُوقِ الْخَيْلِ مَكَانَ نُوَّابِ السُّلْطَانِ تَحْتَ الْقَلْعَةِ، وَاسْتَعْرَضَ الْجُيُوشَ الَّذِينَ وَفَدُوا مَعَهُ هُنَاكَ، فَدَخَلُوا فِي تَجَمُّلٍ كَثِيرٍ مُلْبَسِينَ، وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ أُمَرَاءِ الطَّبْلَخَانَاهْ قَرِيبًا مِنْ سِتِّينَ أَمِيرًا، يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ، عَلَى مَا اسْتَفَاضَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِمَّنْ شَاهَدَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَارَ قَرِيبًا مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْمُخَيَّمِ الَّذِي ضُرِبَ لَهُ قَبْلَ مَسْجِدِ الْقَدْمِ عِنْدَ قُبَّةِ بَيْبُغَا عِنْدَ الْجَدْوَلِ الَّذِي هُنَاكَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا هَائِلًا; لِمَا عَايَنَ النَّاسُ مِنْ كَثْرَةِ الْجُيُوشِ وَالْعُدَدِ، وَعَذَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ صَاحِبَ دِمَشْقَ فِي ذَهَابِهِ بِمَنْ مَعَهُ لِئَلَّا يُقَاتِلَ هَؤُلَاءِ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَ قُلُوبَهُمْ عَلَى مَا فِيهِ صَلَاحُ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَى نَائِبِ الْقَلْعَةِ، وَهُوَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَيَاجِي - يَطْلُبُ مِنْهُ حَوَاصِلَ أَرْغُونَ الَّتِي عِنْدَهُ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَقَدْ حَصَّنَ الْقَلْعَةَ، وَسَتَرَهَا، وَأَرْصَدَ فِيهَا الرِّجَالَ، وَالرُّمَاةَ، وَالْعُدَدَ، وَهَيَّأَ بَعْضَ الْمَجَانِيقِ لِيَبْعُدَ بِهَا فَوْقَ الْأَبْرِجَةِ، وَأَمَرَ أَهْلَ الْبَلَدِ أَنْ لَا يَفْتَحُوا الدَّكَاكِينَ، وَيُغْلِقُوا الْأَسْوَاقَ، وَجَعَلَ
يُغْلِقُ أَبْوَابَ
الْبَلَدِ إِلَّا بَابًا أَوْ بَابَيْنِ مِنْهَا، وَاشْتَدَّ حَنَقُ الْعَسْكَرِ
عَلَيْهِ، وَهَمُّوا بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنَ الشَّرِّ، ثُمَّ يَرَعَوُونَ عَنِ
النَّاسِ، وَاللَّهُ الْمُسْلِمُ، غَيْرَ أَنَّ أَقْيَالَ الْعَسْكَرِ
وَأَطْرَافَهُ قَدْ عَاثُوا فِيمَا جَاوَرُوهُ مِنَ الْقَرَايَا، وَالْبَسَاتِينِ،
وَالْكُرُومِ، وَالزُّرُوعِ، فَيَأْخُذُونَ مَا يَأْكُلُونَ وَتَأْكُلُ
دَوَابُّهُمْ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ. وَنُهِبَتْ قَرَايَا كَثِيرَةٌ، وَفَجَرُوا بِنِسَاءٍ وَبَنَاتٍ،
وَعَظُمَ الْخَطْبُ، وَأَمَّا التُّجَّارُ وَمَنْ يُذْكَرُ بِكَثْرَةِ مَالٍ
فَأَكْثَرُهُمْ مُخْتَفٍ لَا يَظْهَرُ لِمَا يَخْشَى مِنَ الْمُصَادَرَةِ،
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُحْسِنَ عَاقِبَتَهُمْ.
وَاسْتَهَلَّ شَهْرُ شَعْبَانَ، وَأَهْلُ الْبَلَدِ فِي خَوْفٍ شَدِيدٍ، وَأَهْلُ
الْقَرَايَا وَالْحَوَاضِرِ فِي نَقْلَةِ أَثَاثِهِمْ، وَأَبْقَارِهِمْ،
وَدَوَابِّهِمْ، وَأَبْنَائِهِمْ، وَنِسَائِهِمْ، وَأَكْثَرُ أَبْوَابِ الْبَلَدِ
مُغْلَقَةٌ سِوَى بَابِي الْفَرَادِيسِ، وَالْجَابِيَةِ، وَفِي كُلِّ يَوْمٍ
نَسْمَعُ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنَ النَّهْبِ لِلْقَرَايَا، وَالْحَوَاضِرِ،
حَتَّى انْتَقَلَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الصَّالِحِيَّةِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ،
وَكَذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعُقَيْبَةِ، وَسَائِرِ حَوَاضِرِ الْبَلَدِ، فَنَزَلُوا
عِنْدَ مَعَارِفِهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَزَلَ عَلَى قَارِعَةِ
الطَّرِيقِ بِنِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا
بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ
أَدْرَكُوا زَمَنَ قَازَانَ: إِنَّ هَذَا الْوَقْتَ كَانَ أَصْعَبَ مِنْ ذَلِكَ;
لِمَا تَرَكَ النَّاسُ مِنْ وَرَائِهِمْ مِنَ الْغَلَّاتِ، وَالثِّمَارِ الَّتِي
هِيَ عُمْدَةُ قُوتِهِمْ فِي سَنَتِهِمْ، وَأَمَّا أَهْلُ الْبَلَدِ فَفِي قَلَقٍ
شَدِيدٍ أَيْضًا لِمَا يَبْلُغُهُمْ
فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنَ الْأَرَاجِيفِ أَنَّهُمْ عَلَى عَزْمِ نَهْبِ الْبَلَدِ، فَجَعَلَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُودِعُونَ عَزِيزَ مَا يَمْلِكُونَ عِنْدَ مَنْ يَأْمَنُونَ، وَاشْتَدَّ الْحَالُ جَدَّا، وَخَافَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْعَارِ; لِمَا يَبْلُغُهُمْ عَنْهُمْ مِنَ الْفُجُورِ بِالنِّسَاءِ، وَجَعَلُوا يَدْعُونَ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ عَلَيْهِمْ، يُصَرِّحُونَ بِأَسْمَائِهِمْ، وَيُعَقِّبُونَ بِأَسْمَاءِ أُمَرَائِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَنَائِبُ الْقَلْعَةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَيَاجِي النَّاصِرِيُّ فِي كُلِّ وَقْتٍ يُسَكِّنُ جَأْشَ النَّاسِ، وَيُقَوِّي عَزْمَهُمْ، وَيُبَشِّرُهُمْ بِخُرُوجِ الْعَسَاكِرِ الْمَنْصُورَةِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ صُحْبَةَ السُّلْطَانِ إِلَى بِلَادِ غَزَّةَ حَيْثُ الْجَيْشُ الدِّمَشْقِيُّ، لِيَجِيئُوا كُلُّهُمْ فِي خِدْمَتِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَدُقُّ الْبَشَائِرُ فَيَفْرَحُ النَّاسُ، ثُمَّ تَسْكُنُ الْأَخْبَارُ، وَتَبْطُلُ الرِّوَايَاتُ فَتَقْلَقُ، وَيَخْرُجُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَسَاعَةٍ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ، وَوَعْدٍ، وَهَيْئَاتٍ حَسَنَةٍ، ثُمَّ جَاءَ السُّلْطَانُ - أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ تَرَجَّلَ الْأُمَرَاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ حِينِ بُسِطَ لَهُ عِنْدَ مَسْجِدِ الذِّبَّانِ إِلَى دَاخِلِ الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَهُوَ لَابِسٌ قَبَاءً أَحْمَرَ لَهُ قِيمَتُهُ، عَلَى فَرَسٍ أَصِيلَةٍ مُؤَدَّبَةٍ مُعَلَّمَةٍ الْمَشْيَ عَلَى الْقَوْسِ لَا تَحِيدُ عَنْهُ، وَهُوَ حَسَنُ الصُّورَةِ، مَقْبُولُ الطَّلْعَةِ، عَلَيْهِ بَهَاءُ الْمَمْلَكَةِ وَالرِّيَاسَةِ، وَالْخَزُّ فَوْقَ رَأْسِهِ يَحْمِلُهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ الْأَكَابِرِ، وَكُلَّمَا عَايَنَهُ مَنْ عَايَنَهُ مِنَ النَّاسِ يَبْتَلِهُونَ بِالدُّعَاءِ بِأَصْوَاتٍ عَالِيَةٍ، وَالنِّسَاءُ بِالزَّغْرَطَةِ، وَفَرِحَ النَّاسُ فَرَحًا
شَدِيدًا، وَكَانَ
يَوْمًا مَشْهُودًا، وَأَمْرًا حَمِيدًا، جَعَلَهُ اللَّهُ مُبَارَكًا عَلَى
الْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَ بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَقَدْ قَدِمَ مَعَهُ
الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَضِدُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ
الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ أَبِي الرَّبِيعِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ
اللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ، وَكَانَ رَاكِبًا إِلَى جَانِبِهِ مِنْ
نَاحِيَةِ الْيَسَارِ، وَنَزَلَ بِالْمَدْرَسَةِ الدِّمَاغِيَّةِ فِي أَوَاخِرِ
هَذَا الْيَوْمِ سَائِرُ الْأُمَرَاءِ مَعَ نَائِبِ الشَّامِ، وَمُقَدَّمُهُمْ
طَازْ، وَشَيْخُونُ - فِي طَلَبِ بَيْبُغَا، وَمِنْ مَعَهُ مِنَ الْبُغَاةِ
الْمُفْسِدِينَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَانِيهِ حَضَرَ السُّلْطَانُ - أَيَّدَهُ اللَّهُ -
إِلَى الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَصَلَّى فِيهِ الْجُمُعَةَ بِالْمَشْهَدِ الَّذِي
يُصَلِّي فِيهِ نُوَّابُ السُّلْطَانِ - أَيَّدَهُ اللَّهُ - فَكَثُرَ الدُّعَاءُ
وَالْمَحَبَّةُ لَهُ ذَاهِبًا وَآيِبًا - تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ - وَكَذَلِكَ
فَعَلَ فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ تَاسِعُ الشَّهْرِ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ عَاشِرِهِ اجْتَمَعْنَا - يَقُولُ الشَّيْخُ عِمَادُ
الدِّينِ بْنُ كَثِيرٍ الْمُصَنِّفُ، رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالْخَلِيفَةِ
الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ أَبِي الْفَتْحِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُسْتَكْفِي
بِاللَّهِ أَبِي الرَّبِيعِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي
الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ، وَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، وَهُوَ نَازِلٌ بِالْمَدْرَسَةِ
الدِّمَاغِيَّةِ دَاخِلَ بَابِ الْفَرَجِ، وَقَرَأَتُ عِنْدَهُ جُزْءًا فِيهِ مَا
رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ فِي
" مُسْنَدِهِ "، وَذَلِكَ عَنِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ
الضِّيَاءِ الْحَمَوِيِّ بِسَمَاعِهِ مِنَ ابْنِ الْبُخَارِيِّ وَزَيْنَبَ بِنْتِ
مَكِّيٍّ، عَنْ
أَحْمَدَ بْنِ الْحُصَيْنِ،
عَنِ ابْنِ الْمُذْهَبِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِيهِ - فَذَكَرَهُمَا، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ شَابٌّ
حَسَنُ الشَّكْلِ، مَلِيحُ الْكَلَامِ، مُتَوَاضِعٌ، جَيِّدُ الْفَهْمِ، حُلْوُ
الْعِبَارَةِ، رَحِمَ اللَّهُ سَلَفَهُ.
وَفِي رَابِعَ عَشَرَهُ قَدِمَ الْبَرِيدُ مِنْ بِلَادِ حَلَبَ بِسُيُوفِ
الْأُمَرَاءِ الْمَمْسُوكِينَ مِنْ أَصْحَابِ بَيْبُغَا. وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ
خَامِسَ عَشَرَهُ وَقْتَ الْعَصْرِ نَزَلَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الصَّالِحُ مِنَ
الطَّارِمَةِ إِلَى الْقَصْرِ الْأَبْلَقِ فِي أُبَّهَةِ الْمَمْلَكَةِ، وَلَمْ
يَحْضُرْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى الصَّلَاةِ، بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى الصَّلَاةِ
بِالْقَصْرِ الْمَذْكُورِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَاكِرِ النَّهَارِ دَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ شَيْخُونُ،
وَطَازْ بِمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْعَسَاكِرِ مِنْ بِلَادِ حَلَبَ، وَقَدْ فَاتَ
تَدَارُكُ بَيْبُغَا وَأَصْحَابِهِ; لِدُخُولِهِمْ بِلَادَ ابْنِ دُلْغَادِرِ
التُّرْكُمَانِيِّ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُمْ، وَهُمُ الْقَلِيلُ، وَقَدْ أُسِرَ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، وَهُمْ فِي الْقُيُودِ
وَالسَّلَاسِلِ صُحْبَةَ الْأَمِيرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، فَدَخَلَا عَلَى
السُّلْطَانِ - وَهُوَ بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ - فَسَلَّمَا عَلَيْهِ، وَقَبَّلَا
الْأَرْضَ، وَهَنَّآهُ بِالْعِيدِ، وَنَزَلَ طَازْ بِدَارِ أَيْتَمُشْ بِالشَّرْقِ
الشَّمَالِيِّ، وَنَزَلَ شَيْخُونُ بِدَارِ إِيَاسٍ الْحَاجِبِ بِالْقُرْبِ مِنَ
الظَّاهِرِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَنَزَلَ بَقِيَّةُ الْجَيْشِ فِي أَرْجَاءِ
الْبَلَدِ، وَأَمَّا الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُونُ فَأَقَامَ بِحَلَبَ
نَائِبًا بِهَا عَنْ سُؤَالِهِ إِلَى مَا ذَكَرَ، وَخُوطِبَ فِي تَقْلِيدِهِ
بِأَلْقَابٍ هَائِلَةٍ، وَلَبِسَ خِلْعَةً سَنِيَّةً، وَعُظِّمَ تَعْظِيمًا
زَائِدًا; لِيَكُونَ هُنَاكَ أَلْبًا عَلَى بَيْبُغَا وَأَصْحَابِهِ لِشِدَّةِ مَا
بَيْنَهُمَا
مِنَ الْعَدَاوَةِ، ثُمَّ
صَلَّى السُّلْطَانُ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ، وَمَنِ انْضَافَ
إِلَيْهِمْ مِنَ الشَّامِيِّينَ صَلَاةَ عِيدِ الْفِطْرِ بِالْمَيْدَانِ
الْأَخْضَرِ، وَخَطَبَ بِهِمُ الْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ الْمُنَاوِيُّ
الْمِصْرِيُّ - قَاضِي الْعَسْكَرِ الْمِصْرِيِّ - بِمَرْسُومِ السُّلْطَانِ
وَذَوِيهِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ.
قَتْلُ الْأُمَرَاءِ السَّبْعَةِ مِنْ أَصْحَابِ بَيْبُغَا
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَالِثِ شَوَّالٍ قَبْلَ الْعَصْرِ رَكِبَ السُّلْطَانُ
مِنَ الْقَصْرِ إِلَى الطَّارِمَةِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْقُبَّةُ وَالْجِتْرُ،
يَحْمِلُهُمَا الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْخَطِيرِ، فَجَلَسَ فِي
الطَّارِمَةِ، وَوَقَفَ الْجَيْشُ بَيْنَ يَدَيْهِ تَحْتَ الْقَلْعَةِ،
وَأَحْضَرُوا الْأُمَرَاءَ الَّذِينَ قَدِمُوا بِهِمْ مِنْ بِلَادِ حَلَبَ،
فَجَعَلُوا يُوقِفُونَ الْأَمِيرَ مِنْهُمْ، ثُمَّ يُشَاوِرُونَ عَلَيْهِ،
فَمِنْهُمْ مَنْ يُشْفَعُ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمَرُ بِتَوْسِيطِهِ،
فَوُسِّطَ سَبْعَةٌ: خَمْسُ طَبْلَخَانَاهْ وَمُقَدَّمَا أَلْفٍ، مِنْهُمْ نَائِبُ
صَفَدَ بُرْنَاقُ، وَشُفِعَ فِي الْبَاقِينَ، فَرُدُّوا إِلَى السِّجْنِ،
وَكَانُوا خَمْسَةَ آخُورٍ. وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ خَامِسِهِ مُسِكَ
جَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ دِمَشْقَ ; سَبْعَةٌ، وَتَحَوَّلَتْ دُوَلٌ كَثِيرَةٌ،
وَتَأَمَّرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَجْنَادِ وَغَيْرِهِمْ.
خُرُوجُ السُّلْطَانِ مِنْ
دِمَشْقَ مُتَوَجِّهًا إِلَى بِلَادِ مِصْرَ
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَابِعِ شَوَّالٍ رَكِبَ السُّلْطَانُ فِي جَيْشِهِ مِنَ
الْقَصْرِ الْأَبْلَقِ قَاصِدًا لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ،
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابِ النَّصْرِ تَرَجَّلَ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ بَيْنَ
يَدَيْهِ مُشَاةً، وَذَلِكَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ كَثِيرِ الْوَحْلِ، فَصَلَّى
بِالْمَقْصُورَةِ إِلَى جَانِبِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ، وَلَيْسَ مَعَهُ فِي
الصَّفِّ الْأَوَّلِ أَحَدٌ، بَلْ بَقِيَّةُ الْأُمَرَاءِ خَلْفَهُ صُفُوفٌ، فَسَمِعَ
خُطْبَةَ الْخَطِيبِ، وَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قُرِئَ كِتَابٌ بِإِطْلَاقِ
أَعْشَارِ الْأَوْقَافِ، وَخَرَجَ السُّلْطَانُ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ بَابِ
النَّصْرِ، فَرَكِبَ الْجَيْشُ، وَاسْتَقَلَّ ذَاهِبًا نَحْوَ الْكُسْوَةِ بِمَنْ
مَعَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ الْمَنْصُورَةِ، مَصْحُوبِينَ بِالسَّلَامَةِ
وَالْعَافِيَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ، وَخَرَجَ السُّلْطَانُ وَلَيْسَ بِدِمَشْقَ
نَائِبُ سَلْطَنَةٍ، وَبِهَا الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْخَطِيرِ هُوَ
الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِي الْأُمُورِ نَائِبَ غَيْبَةٍ، حَتَّى يَقْدَمَ إِلَيْهَا
نَائِبُهَا وَيَتَعَيَّنَ لَهَا، وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِوُصُولِ السُّلْطَانِ
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ سَالِمًا، وَدَخَلَهَا فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ
فِي أَوَائِلِ شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَخَلَعَ عَلَى
الْأُمَرَاءِ كُلِّهِمْ، وَلَبِسَ خِلْعَةَ نِيَابَةِ الشَّامِ الْأَمِيرُ عَلَاءُ
الدِّينِ الْمَارِدَانِيُّ، وَمُسِكَ الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ بْنُ زُنْبُورٍ،
وَتَوْلِيَةِ الْوِزَارَةِ الصَّاحِبَ مُوَفَّقَ الدِّينِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ السَّبْتِ خَامِسِ ذِي الْحِجَّةِ دَخَلَ الْأَمِيرُ
عَلَاءُ الدِّينِ عَلَى الْجَمَدَارِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى
دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ فِي أُبَّهَةٍ هَائِلَةٍ، وَمَوْكِبٍ حَافِلٍ
مُسْتَوْلِيًا نِيَابَةً بِهَا، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْأُمَرَاءُ عَلَى الْعَادَةِ،
فَوَقَفَ عِنْدَ تُرْبَةِ بَهَادُرَآصْ حَتَّى اسْتَعْرَضَ عَلَيْهِ الْجَيْشُ،
فَلَحِقَهُمْ، فَدَخَلَ دَارَ السَّعَادَةِ فَنَزَلَهَا عَلَى عَادَةِ النُّوَّابِ
قَبْلَهُ،
جَعَلَهُ اللَّهُ وَجْهًا
مُبَارَكًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَالِثَ عَشَرَهُ قَدِمَ دَوَادَارُ السُّلْطَانِ
الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ طُقْطَايْ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَنَزَلَ
الْقَصْرَ الْأَبْلَقَ، وَمِنْ عَزْمِهِ الذَّهَابُ إِلَى الْبِلَادِ
الْحَلَبِيَّةِ لِيُجَهِّزَ الْجُيُوشَ نَحْوَ بَيْبُغَا وَأَصْحَابِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الْإِسْلَامِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، وَالْمَمْلَكَةِ الْحَلَبِيَّةِ،
وَمَا وَالَاهَا، وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ الْمَلِكُ الصَّالِحُ صَلَاحُ
الدِّينِ صَالِحٌ ابْنُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ
الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ الصَّالِحِيُّ، وَنَائِبُهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُبْلَايْ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِمْ فِي تَدْبِيرِ
الْمَمْلَكَةِ الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُ; سَيْفُ الدِّينِ شَيْخُونُ، وَسَيْفُ
الدِّينِ طَازْ، وَسَيْفُ الدِّينِ صَرْغَتْمُشُ النَّاصِرِيُّونَ، وَقُضَاةُ
الْقُضَاةِ، وَكَاتِبُ السِّرِّ هُنَاكَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي السَّنَةِ
الْمَاضِيَةِ، وَنَائِبُ حَلَبَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُونُ
الْكَامِلِيُّ ; لِأَجْلِ مُقَاتَلَةِ أُولَئِكَ الْأُمَرَاءِ الثَّلَاثَةِ;
بَيْبُغَا، وَأَمِيرُ أَحْمَدَ، وَبَكْلَمُشُ، الَّذِينَ فَعَلُوا مَا ذَكَرْنَا
فِي رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، ثُمَّ لَجَئُوا إِلَى بِلَادِ الْأَبُلُسْتَيْنِ
فِي خَفَارَةِ ابْنِ دُلْغَادِرِ التُّرْكُمَانِيِّ، ثُمَّ إِنَّهُ احْتَالَ
عَلَيْهِمْ مِنْ خَوْفِهِ مِنْ صَاحِبِ مِصْرَ، وَأَسْلَمَهُمْ إِلَى قَبْضَةِ
نَائِبِ حَلَبَ الْمَذْكُورِ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَنَائِبُ طَرَابُلُسَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ أَيْتَمُشُ
الَّذِي كَانَ نَائِبَ دِمَشْقَ كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ تَقَلَّبَتْ بِهِ
الْأَحْوَالُ حَتَّى اسْتُنِيبَ فِي طَرَابُلُسَ حِينَ كَانَ السُّلْطَانُ
بِدِمَشْقَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَاسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ
الْأُمَرَاءَ الثَّلَاثَةَ بَيْبُغَا وَبَكْلَمُشَ وَأَمِيرَ أَحْمَدَ قَدْ
حَصَلُوا فِي قَبْضَةِ نَائِبِ حَلَبَ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أَرْغُونَ،
وَهُمْ مَسْجُونُونَ بِقَلْعَتِهَا، يُنْتَظَرُ مَا يُرْسَمُ بِهِ فِيهِمْ، وَقَدْ
فَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ سَابِعَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ
الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ طُقْطَايْ الدَّوَادَارَ عَائِدًا مِنَ الْبِلَادِ
الْحَلَبِيَّةِ، وَفِي صُحْبَتِهِ رَأْسُ بَيْبُغَا الْبَاغِي، أَمْكَنَ اللَّهُ
مِنْهُ بَعْدَ وُصُولِ صَاحِبَيْهِ بَكْلَمُشِ الَّذِي كَانَ نَائِبًا
بِطَرَابُلُسَ، وَأَمِيرَ أَحْمَدَ الَّذِي كَانَ نَائِبَ حَمَاةَ، فَقُطِعَتْ
رُءُوسُهُمَا بِحَلَبَ بَيْنَ يَدَيْ نَائِبِهَا الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
أَرْغُونَ الْكَامِلِيِّ، وَسُيِّرَتْ إِلَى مِصْرَ، وَلَمَّا وَصَلَ بَيْبُغَا
بَعْدَهُمَا فُعِلَ بِهِ كَفِعْلِهِمَا جَهْرَةً بَعْدَ الْعَصْرِ بِسُوقِ
الْخَيْلِ بَيْنَ يَدَيْ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَالْجَيْشِ بِرُمَّتِهِ
وَالْعَامَّةِ عَلَى الْأَحَاجِيرِ يَتَفَرَّجُونَ، وَيَفْرَحُونَ بِمَصْرَعِهِ،
وَسُرَّ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ أُقِيمَتْ جُمُعَةٌ جَدِيدَةٌ بِمَحَلَّةِ الشَّاغُورِ بِمَسْجِدٍ
هُنَاكَ يُقَالُ لَهُ: مَسْجِدُ الْمَزَازِ، وَخَطَبَ فِيهِ جَمَالُ الدِّينِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الشَّيْخِ شَمْسُ الدِّينِ بْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ، ثُمَّ وَقَعَ فِي ذَلِكَ
كَلَامٌ، فَأَفْضَى الْحَالُ أَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ ذَهَبُوا إِلَى سُوقِ
الْخَيْلِ يَوْمَ مَوْكِبٍ، وَحَمَلُوا سَنَاجِقَ خَلِيفَتِيَّةً مِنْ جَامِعِهِمْ
وَمَصَاحِفَ، وَاشْتَمَلُوا إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَسَأَلُوا مِنْهُ أَنْ
تَسْتَمِرَّ الْخُطْبَةُ عِنْدَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ،
ثُمَّ وَقَعَ نِزَاعٌ فِي جَوَازِ ذَلِكَ، ثُمَّ حَكَمَ الْقَاضِي الْحَنْبَلِيُّ
لَهُمْ بِالِاسْتِمْرَارِ، وَجَرَتْ خُطُوبٌ طَوِيلَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ سَابِعِ رَبِيعٍ الْآخِرِ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ أُلْجَيْبُغَا الْعَادِلِيُّ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ الَّتِي
كَانَ أَنْشَأَهَا قَدِيمًا ظَاهِرَ بَابِ الْجَابِيَةِ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ
تُعْرَفُ بِهِ، وَكَانَ لَهُ فِي الْإِمْرَةِ قَرِيبًا مِنْ سِتِّينَ سَنَةً،
وَقَدْ كَانَ أَصَابَهُ فِي نَوْبَةِ أَرْغُونَ شَاهْ وَقَضِيَّتِهِ ضَرْبَةٌ
أَصَابَتْ يَدَهُ الْيُمْنَى، وَاسْتَمَرَّ مَعَ ذَلِكَ عَلَى إِمْرَتِهِ
وَتَقْدِمَتِهُ مُحْتَرَمًا مُعَظَّمًا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ذِكْرُ أَمْرٍ غَرِيبٍ جِدًّا
لَمَّا ذَهَبْتُ لِتَهْنِئَةِ الْأَمِيرِ نَاصِرِ الدِّينِ بْنِ الْأَقْوَشِ
بِنِيَابَةِ بِعْلَبَكَّ وَجَدْتُ هُنَالِكَ
شَابًّا، فَذَكَرَ لِي مَنْ حَضَرَ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ أُنْثَى ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ ذَكَرٌ، وَقَدْ كَانَ أَمْرُهُ اشْتَهَرَ بِبِلَادِ طَرَابُلُسَ، وَشَاعَ بَيْنَ النَّاسِ بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهَا، وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِهِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ وَعَلَيْهِ قُبَّعَةٌ تُرْكِيَّةٌ اسْتَدْعَيْتُهُ إِلَيَّ، وَسَأَلْتُهُ بِحَضْرَةِ مَنْ حَضَرَ، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ كَانَ أَمْرُكَ ؟ فَاسْتَحْيَى وَعَلَاهُ خَجَلٌ يُشْبِهُ النِّسَاءَ، فَقَالَ: كُنْتُ امْرَأَةً مُدَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَزَوَّجُونِي بِثَلَاثَةِ أَزْوَاجٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيَّ، وَكُلُّهُمْ يُطَلِّقُ، ثُمَّ اعْتَرَضَنِي حَالٌ غَرِيبٌ، فَغَارَتْ ثَدْيَايَ وَصَغُرَتْ، وَجَعَلَ النَّوْمُ يَعْتَرِينِي لَيْلًا وَنَهَارًا، ثُمَّ جَعَلَ يَخْرُجُ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْجِ شَيْءٌ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَيَتَزَايَدُ حَتَّى بَرَزَ شِبْهُ ذَكَرٍ وَأُنْثَيَانِ. فَسَأَلَتْهُ: أَهْوَ كَبِيرٌ أَمْ صَغِيرٌ ؟ فَاسْتَحْيَى ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ صَغِيرٌ بِقَدْرِ الْأُصْبُعِ. فَسَأَلَتْهُ: هَلِ احْتَلَمَ ؟ فَذَكَرَ أَنَّهُ احْتَلَمَ مَرَّتَيْنِ مُنْذُ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ. وَكَانَ لَهُ قَرِيبًا مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إِلَى حِينِ أَخْبَرَنِي، وَذَكَرَ أَنَّهُ يُحْسِنُ صَنْعَةَ النِّسَاءِ كُلَّهَا مِنَ الْغَزَلِ، وَالتَّطْرِيزِ، وَالزَّرْكَاشِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا كَانَ اسْمُكَ وَأَنْتَ عَلَى صِفَةِ النِّسَاءِ ؟ فَقَالَ: نَفِيسَةُ. فَقُلْتُ: وَالْيَوْمَ ؟ فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ. وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ لَهُ هَذَا الْحَالُ كَتَمَهُ عَنْ أَهْلِهِ حَتَّى عَنْ أَبِيهِ، ثُمَّ عَزَمُوا عَلَى تَزْوِيجِهِ بِرَابِعٍ، فَقَالَ لِأُمِّهِ: إِنَّ الْأَمْرَ مَا صَفَّتْهُ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَلَمَّا اطَّلَعَ أَهْلُهُ عَلَى ذَلِكَ أَعْلَمُوا بِهِ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ هُنَاكَ، وَكُتِبَ بِذَلِكَ مَحْضَرًا، وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ، فَقَدِمَ دِمَشْقَ، وَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ بِدِمَشْقَ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ كَمَا أَخْبَرَنِي، فَأَخَذَهُ الْحَاجِبُ سَيْفُ الدِّينِ كُجْكُنُ بْنُ الْأَقْوَشِ عِنْدَهُ، وَأَلْبَسَهُ ثِيَابَ الْأَجْنَادِ، وَهُوَ شَابٌّ حَسَنٌ، عَلَى وَجْهِهِ وَسِمَتِهِ وَمِشْيَتِهِ وَحَدِيثِهِ أُنُوثَةُ النِّسَاءِ، فَسُبْحَانَ الْفَعَّالِ لِمَا يَشَاءُ، فَهَذَا أَمُرٌ لَمْ يَقَعْ مِثْلُهُ فِي الْعَالَمِ إِلَّا قَلِيلًا جِدًّا. وَعِنْدِي أَنَّ ذَكَرَهُ كَانَ
غَائِرًا فِي جُورَةٍ
ظَنُّوهَا فَرَجًا، ثُمَّ لَمَّا بَلَغَ ظَهَرَ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى
تَكَامَلَ ظُهُورُهُ، فَتَبَيَّنُوا أَنَّهُ كَانَ ذَكَرًا، وَذَكَرَ لِي أَنَّ
ذَكَرَهُ بَرَزَ مَخْتُونًا، فَسُمِّيَ خِتَانَ الْقَمَرِ، فَهَذَا يُوجَدُ
كَثِيرًا، وَاللَّهَ أَعْلَمُ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ خَامِسِ شَهْرِ رَجَبٍ قَدِمَ الْأَمِيرُ عِزُّ
الدِّينِ طُقْطَايْ الدَّوَادَارَ مِنَ الدِّيَارِ الْحَلَبِيَّةِ، وَخَبَّرَ
عَمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعَسَاكِرُ الْحَلَبِيَّةُ مِنْ ذَهَابِهِمْ مَعَ
نَائِبِهِمْ وَنُوَّابِ تِلْكَ الْحُصُونِ وَعَسَاكِرَ خَلْفَ ابْنِ دُلْغَادِرِ
التُّرْكُمَانِيِّ - الَّذِي كَانَ أَعَانَ بَيْبُغَا وَذَوِيهِ عَلَى خُرُوجِهِ
عَلَى السُّلْطَانِ، وَقَدِمَ مَعَهُ إِلَى دِمَشْقَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا
تَقَدَّمَ بَسْطُهُ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ - وَأَنَّهُمْ نَهَبُوا
أَمْوَالَهُ، وَحَوَاصِلَهُ، وَأَسَرُوا خَلْقًا مِنْ بَنِيهِ وَذَوِيِهِ
وَحَرِيمِهِ، وَأَنَّ الْجَيْشَ أَخَذَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَغْنَامِ،
وَالْأَبْقَارِ، وَالرَّقِيقِ، وَالدَّوَابِّ، وَالْأَمْتِعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَأَنَّهُ لَجَأَ إِلَى ابْنِ أَرِتْنَا، فَاحْتَاطَ عَلَيْهِ وَاعْتَقَلَهُ عِنْدَهُ،
وَرَاسَلَ السُّلْطَانَ بِأَمْرِهِ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِرَاحَةِ الْجَيْشِ
الْحَلَبِيِّ وَسَلَامَتِهِ بَعْدَمَا قَاسَوْا شَدِيدًا وَتَعَبًا كَثِيرًا.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثَ عَشَرَهُ كَانَ قُدُومُ الْأُمَرَاءِ
الَّذِينَ كَانُوا مَسْجُونِينَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مِنْ لَدُنْ عَوْدِ
السُّلْطَانِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، مِمَّنْ كَانَ اتَّهَمَ
بِمُوَالَاةِ بَيْبُغَا أَوْ خِدْمَتِهِ، كَالْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ مَلِكِ
آصْ، وَعَلَاءِ الدِّينِ عَلِيٍّ الْبَشْمَقْدَارِ، وَسَاطَلَمِشَ الْجَلَالِيِّ
وَمَنْ مَعَهُمْ.
وَفِي أَوَّلِ شَهْرِ
رَمَضَانَ اتُّفِقَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُفْتِينَ أَفْتَوْا بِأَحَدِ
قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ
جَوَازُ اسْتِعَادَةِ مَا اسْتَهْدَمَ مِنَ الْكَنَائِسِ، فَتَغَضَّبَ عَلَيْهِمْ
قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ، فَقَرَّعَهُمْ فِي ذَلِكَ،
وَمَنَعَهُمْ مِنَ الْإِفْتَاءِ، وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا يَتَضَمَّنُ
الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ سَمَّاهُ " الدَّسَائِسَ فِي الْكَنَائِسِ ".
وَفِي خَامِسَ عَشَرَيْ رَمَضَانَ قُدِمَ بِالْأَمِيرِ ابْنِ دُلْغَادِرَ
التُّرْكُمَانِيِّ الَّذِي كَانَ مُؤَازِرًا بَيْبُغَا فِي الْعَامِ الْمَاضِي
عَلَى تِلْكَ الْأَفَاعِيلِ الْقَبِيحَةِ، وَهُوَ مُضَيَّقٌ عَلَيْهِ، فَأُحْضِرَ
بَيْنَ يَدَيِ النَّائِبِ، ثُمَّ أَوْدِعَ الْقَلْعَةَ الْمَنْصُورَةَ فِي هَذَا
الْيَوْمِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السُّنَةُ وَسُلْطَانُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، وَالْحَرَمَيْنِ
الشَّرِيفَيْنِ، وَمَا وَالَاهُمَا مِنْ بِلَادِ الْحِجَازِ وَغَيْرِهَا -
الْمَلِكُ الصَّالِحُ صَلَاحُ الدِّينِ ابْنُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ
ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ الصَّالِحِيُّ، وَهُوَ ابْنُ بِنْتِ
تَنْكِزَ نَائِبِ الشَّامِ - وَكَانَ فِي الدَّوْلَةِ النَّاصِرِيَّةِ -
وَنَائِبُهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُبْلَايْ
النَّاصِرِيُّ، وَوَزِيرُهُ الْقَاضِي مُوَفَّقُ الدِّينِ، وَقُضَاةُ مِصْرَ هُمُ
الْمَذْكُورُونَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، وَمِنْهُمْ قَاضِي الْقُضَاةِ عِزُّ
الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ الشَّافِعِيُّ، وَقَدْ جَاوَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي
الْحِجَازِ الشَّرِيفِ، وَالْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ الْمَنَاوِيُّ يَسُدُّ
الْمَنْصِبَ عَنْهُ، وَكَاتِبُ السِّرِّ الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ فَضْلِ
اللَّهِ الْعَدَوِيُّ، وَمُدَبِّرُوا الْمَمْلَكَةِ الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُ;
سَيْفُ الدِّينِ شَيْخُونُ، وَطَازْ، وَصَرْغَتْمُشُ النَّاصِرِيُّونَ،
وَالدَّوَادَارُ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ عِزُّ الدِّينِ طُقْطَايْ النَّاصِرِيُّ.
وَدَخَلَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ شَيْخُونُ فِي طَلَبِ
الْأَحْدَبِ مِنْ مُدَّةِ
شَهْرٍ أَوْ قَرِيبٍ.
وَنَائِبُ دِمَشْقَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ أَمِيرُ عَلِيُّ
الْمَارِدَانِيُّ، وَقُضَاةُ دِمَشْقَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي
قَبْلَهَا، وَنَاظِرُ الدَّوَاوِينِ الصَّاحِبُ شَمْسُ الدِّينِ مُوسَى بْنُ
التَّاجِ إِسْحَاقَ، وَكَاتِبُ السِّرِّ الْقَاضِي نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ
الشَّرَفِ يَعْقُوبَ، وَخَطِيبُ الْبَلَدِ جَمَالُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ
جُمْلَةَ، وَمُحْتَسِبُهُ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْأَنْصَارِيُّ، قَرِيبُ
الشَّيْخِ بَهَاءِ الدِّينِ ابْنِ إِمَامِ الْمَشْهَدِ، وَهُوَ مُدَرِّسُ
الْأَمِينِيَّةِ مَكَانَهُ أَيْضًا.
وَفِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ قَدِمَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ مُغْلَطَايْ
الَّذِي كَانَ مَسْجُونًا بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ ثُمَّ أُفْرِجَ عَنْهُ، وَقَدْ
كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ هُوَ الدَّوْلَةَ، وَأُمِرَ بِالْمَسِيرِ إِلَى الشَّامِ
لِيَكُونَ عِنْدَ أَيْتَمُشَ نَائِبَ طَرَابُلُسَ، وَأَمَّا مَنْجَكُ الَّذِي
كَانَ وَزِيرَهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَكَانَ مُعْتَقَلًا
بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مَعَ مُغْلَطَايْ - فَإِنَّهُ صَارَ إِلَى صَفَدَ مُقِيمًا
بِهَا بَطَّالًا، كَمَا أَنَّ مُغْلَطَايْ أُمِرَ بِالْمُقَامِ بِطَرَابُلُسَ
بَطَّالًا أَيْضًا إِلَى حِينِ يَحْكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
نَادِرَةٌ مِنَ الْغَرَائِبِ
فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَادِسَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى اجْتَازَ رَجُلٌ
مِنَ الرَّوَافِضِ مِنْ أَهْلِ الْحِلَّةِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ بَعْدَ صَلَاةِ
الْعَصْرِ، وَهُوَ يَسُبُّ أَوَّلَ مَنْ ظَلَمَ آلَ
مُحَمَّدٍ، وَيُكَرِّرُ
ذَلِكَ لَا يَفْتُرُ، وَلَمْ يُصَلِّ مَعَ النَّاسِ، وَلَا صَلَّى عَلَى
الْجِنَازَةِ الْحَاضِرَةِ، بَلِ النَّاسُ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ يُكَرِّرُ ذَلِكَ
وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهِ، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الصَّلَاةِ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ
النَّاسَ، فَأَخَذُوهُ وَإِذَا قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّافِعِيُّ فِي تِلْكَ
الْجِنَازَةِ حَاضِرٌ مَعَ النَّاسِ، فَجِئْتُ إِلَيْهِ، وَاسْتَنْطَقْتُهُ: مَنِ
الَّذِي ظَلَمَ آلَ مُحَمَّدٍ ؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. ثُمَّ قَالَ
جَهْرَةً وَالنَّاسُ يَسْمَعُونَ: لَعَنَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ،
وَعُثْمَانَ، وَمُعَاوِيَةَ، وَيَزِيدَ. فَأَعَادَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، فَأَمَرَ
بِهِ الْحَاكِمُ إِلَى السِّجْنِ، ثُمَّ اسْتَحْضَرَهُ الْمَالِكِيُّ وَجَلَدَهُ
بِالسِّيَاطِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَصْرُخُ بِالسَّبِّ وَاللَّعْنِ وَالْكَلَامِ
الَّذِي لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ شَقِيٍّ، وَاسْمُ هَذَا اللَّعِينِ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ كَثِيرٍ، قَبَّحَهُ اللَّهُ
وَأَخْزَاهُ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ تَاسِعَ عَشَرَهُ عُقِدَ لَهُ
مَجْلِسٌ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَحَضَرَ الْقُضَاةُ الْأَرْبَعَةُ، وَطُلِبَ
إِلَى هُنَالِكَ، فَقَدَّرَ اللَّهُ أَنْ حَكَمَ نَائِبُ الْمَالِكِيِّ
بِقَتْلِهِ، فَأُخِذَ سَرِيعًا، فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ تَحْتَ الْقَلْعَةِ،
وَحَرَّقَهُ الْعَامَّةُ، وَطَافُوا بِرَأْسِهِ الْبَلَدَ، وَنَادَوْا عَلَيْهِ:
هَذَا جَزَاءُ مَنْ سَبَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَقَدْ نَاظَرْتُ هَذَا الْجَاهِلَ بِدَارِ الْقَاضِي الْمَالِكِيِّ،
وَإِذَا عِنْدَهُ شَيْءٌ مِمَّا يَقُولُهُ الرَّافِضَةُ الْغُلَاةُ، وَقَدْ
تَلَقَّى عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ مُطَهَّرٍ أَشْيَاءَ فِي الْكُفْرِ
وَالزَّنْدَقَةِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ.
وَوَرَدَ الْكِتَابُ بِإِلْزَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالشُّرُوطِ الْعُمَرِيَّةِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَامِنَ عَشَرَ رَجَبٍ الْفَرْدِ قُرِئَ بِجَامِعِ
دِمَشْقَ بِالْمَقْصُورَةِ بِحَضْرَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَأُمَرَاءِ
الْأَعْرَابِ، وَكِبَارِ الْأُمَرَاءِ، وَأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ
وَالْعَامَّةِ، كِتَابُ السُّلْطَانِ بِإِلْزَامِ أَهْلِ
الذِّمَّةِ بِالشُّرُوطِ
الْعُمَرِيَّةِ وَزِيَادَاتٍ أُخَرَ; مِنْهَا أَنْ لَا يُسْتَخْدَمُوا فِي شَيْءٍ
مِنَ الدَّوَاوِينِ السُّلْطَانِيَّةِ وَالْأُمَرَاءِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ
الْأَشْيَاءِ، وَأَنْ لَا تَزِيدَ عِمَامَةُ أَحَدِهِمْ عَلَى عَشَرَةِ أَذْرُعٍ،
وَلَا يَرْكَبُوا الْخَيْلَ وَلَا الْبِغَالَ، وَلَكِنَّ الْحَمِيرَ بِالْأُكُفِّ
عَرْضًا، وَأَنْ لَا يَدْخُلُوا إِلَّا بِالْعَلَامَاتِ مِنْ جَرَسٍ، أَوْ
بِخَاتَمِ نُحَاسٍ أَصْفَرَ أَوْ رَصَاصٍ، وَلَا تَدْخُلُ نِسَاؤُهُمْ مَعَ
الْمُسَلَّمَاتِ الْحَمَّامَاتِ، وَلْيَكُنْ لَهُنَّ حَمَّامَاتٌ تَخْتَصُّ
بِهِنَّ، وَأَنْ يَكُونَ إِزَارُ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ كَتَّانٍ أَزْرَقَ،
وَالْيَهُودِيَّةِ مِنْ كَتَّانٍ أَصْفَرَ، وَأَنْ يَكُونَ أَحَدُ خُفَّيْهَا
أَسُودَ وَالْآخَرُ أَبْيَضَ، وَأَنْ يُحْمَلَ حُكْمُ مَوَارِيثِهِمْ عَلَى
الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَاحْتَرَقَتْ بَاشُورَةٌ بِبَابِ الْجَابِيَةِ فِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ
الْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَعَدِمَ الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ
الْأُطْعِمَاتِ وَالْحَوَاصِلَ النَّافِعَةَ مِنَ الْبَابِ الْجَوَّانِيِّ إِلَى
الْبَابِ الْبَرَّانِيِّ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ شَهْرِ رَمَضَانَ عَمِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ
الْبَارِعُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ النَّقَّاشِ الْمِصْرِيُّ الشَّافِعِيُّ - وَرَدَ
دِمَشْقَ - بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ تُجَاهَ مِحْرَابِ الصَّحَابَةِ - مِيعَادًا
لِلْوَعْظِ، وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ خَلْقٌ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْفُضَلَاءِ
وَالْعَامَّةِ، وَشَكَرُوا كَلَامَهُ وَطَلَاقَهَ عِبَارَتِهِ، مِنْ غَيْرِ
تَلَعْثُمٍ وَلَا تَخْلِيطٍ وَلَا تَوَقُّفٍ، وَطَالَ ذَلِكَ إِلَى قَرِيبِ
الْعَصْرِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَحَدِ ثَالِثِهِ صُلِّيَ بِجَامِعِ دِمَشْقَ
بِالصَّحْنِ تَحْتَ النَّسْرِ عَلَى
الْقَاضِي جَمَالِ
الدِّينِ حُسَيْنٌ ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ
الشَّافِعِيِّ، وَنَائِبِهِ، وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ عَلَاءُ
الدِّينِ عَلِيٌّ، وَقُضَاةُ الْبَلَدِ وَالْأَعْيَانِ وَالدَّوْلَةِ وَكَثِيرٌ
مِنَ الْعَامَّةِ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ مَحْشُودَةً، وَحَضَرَ وَالِدُهُ قَاضِي
الْقُضَاةِ وَهُوَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، يَظْهَرُ عَلَيْهِ الْحُزْنُ
وَالْكَآبَةُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ إِمَامًا، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ;
لِسَمَاحَةِ أَخْلَاقِهِ وَانْجِمَاعِهِ عَلَى نَفْسِهِ، لَا يَتَعَدَّى شَرُّهُ
إِلَى غَيْرِهِ، وَكَانَ يَحْكُمُ جَيِّدًا، نَظِيفَ الْعِرْضِ فِي ذَلِكَ،
وَكَانَ قَدْ دَرَسَ فِي عِدَّةِ مَدَارِسَ، مِنْهَا الشَّامِيَّةُ
الْبَرَّانِيَّةُ وَالْعَذْرَاوِيَّةُ، وَأَفْتَى، وَتَصَدَّرَ، وَكَانَتْ
لَدَيْهِ فَضِيلَةٌ جَيِّدَةٌ بِالنَّحْوِ وَالْفِقْهِ وَالْفَرَائِضِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ فِي تُرْبَةٍ مَعْرُوفَةٍ لَهُمْ،
رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
عَوْدَةُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ حَسَنٍ ابْنِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ
قَلَاوُونَ
وَذَلِكَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ ثَانِيَ شَهْرِ شَوَّالٍ اتَّفَقَ جُمْهُورُ
الْأُمَرَاءِ مَعَ الْأَمِيرِ شَيْخُونَ وَصَرْغَتْمُشَ - فِي غَيْبَةِ طَازْ فِي
الصَّيْدِ - عَلَى خَلْعِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ صَالِحِ بْنِ النَّاصِرِ،
وَأُمُّهُ بِنْتُ تَنْكِزَ، وَإِعَادَةِ أَخِيهِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ حَسَنٍ،
وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَئِذٍ، وَأُلْزِمَ الصَّالِحُ بَيْتَهُ مُضَيِّقًا عَلَيْهِ،
وَسُلِّمَ إِلَى أُمِّهِ خُونْدَةَ بِنْتِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ تَنْكِزَ
نَائِبِ الشَّامِ، كَانَ، فَطَلَبُوا طَازْ، وَأُمْسِكَ أَخُوهُ جَنْتَمُرَ،
وَأَخُو السُّلْطَانِ الصَّالِحِ
لِأُمِّهِ عُمَرُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ بَكْتَمُرَ السَّاقِي، وَوَقَعَتْ خَبْطَةٌ عَظِيمَةٌ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُقْبِلِ الْبَرِيدُ إِلَى الشَّامِ وَخَبَرُ
الْبَيْعَةِ إِلَّا يَوْمَ الْخَمِيسِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ،
قَدِمَ بِهِمَا الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ أَيْدَمُرُ الشَّمْسِيُّ، وَبَايَعَ
النَّائِبَ بَعْدَ مَا خَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً، وَالْأُمَرَاءُ
بِدَارِ السَّعَادَةِ عَلَى الْعَادَةِ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَزُيِّنَ
الْبَلَدُ، وَخَطَبَ لَهُ الْخَطِيبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِحَضْرَةِ
نَائِبِ السَّلْطَنَةِ وَالْقُضَاةِ وَالدَّوْلَةِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْخَمِيسِ تَاسِعَ عَشَرَ شَوَّالٍ دَخَلَ دِمَشْقَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ مَنْجَكُ عَلَى نِيَابَةِ طَرَابُلُسَ، وَنَزَلَ
الْقَصْرَ الْأَبْلَقَ مَعَ الْأَمِيرِ عِزِّ الدِّينِ أَيْدَمُرَ، فَأَقَامَ
أَيَّامًا عَدِيدَةً ثُمَّ سَارَ إِلَى بَلَدِهِ بَعْدَ أَيَّامٍ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ دَخَلَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طَازْ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي جَمَاعَةٍ
مِنْ أَصْحَابِهِ مُجْتَازًا إِلَى نِيَابَةِ حَلَبَ الْمَحْرُوسَةِ، فَتَلَقَّاهُ
نَائِبُ السَّلْطَنَةِ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ جَامِعِ كَرِيمِ الدِّينِ
بِالْقُبَيْبَاتِ، وَشَيَّعَهُ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ بَابِ الْفَرَادِيسِ، فَسَارَ
وَنَزَلَ بِوَطْأَةِ بَرْزَةَ فَبَاتَ هُنَالِكَ، ثُمَّ أَصْبَحَ غَادِيًا، وَقَدْ
كَانَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ نَظِيرَ الْأَمِيرِ شَيْخُونَ، وَلَكِنْ قَوِيَ
عَلَيْهِ فَسَيَّرَهُ إِلَى بِلَادِ حَلَبَ، وَهُوَ مُحَبَّبٌ إِلَى الْعَامَّةِ
لِمَا لَهُ مِنَ السَّعْيِ الْمَشْكُورِ فِي أُمُورٍ كِبَارٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ
السُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ حَسَنٌ ابْنُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ
ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ الصَّالِحِيُّ، وَلَيْسَ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ نَائِبٌ وَلَا وَزِيرٌ، وَقُضَاتُهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي
الَّتِي قَبْلَهَا، وَنَائِبُ دِمَشْقَ الْأَمِيرُ عَلِيٌّ الْمَارِدَانِيُّ،
وَالْقُضَاةُ وَالْحَاجِبُ وَالْخَطِيبُ وَكَاتِبُ السِّرِّ هُمُ الْمَذْكُورُونَ
فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَنَائِبُ حَلَبَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طَازْ،
وَنَائِبُ طَرَابُلُسَ مَنْجَكُ، وَنَائِبُ حَمَاةَ أَسَنْدَمُرَ الْعُمَرِيُّ،
وَنَائِبُ صَفَدَ الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ صُبْحٍ، وَنَائِبُ حِمْصَ
الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الْأَقْوَشِ، وَنَائِبُ بَعْلَبَكَّ الْحَاجُّ
كَامِلٌ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ تَاسِعِ صَفَرٍ مُسِكَ الْأَمِيرُ أَرْغُونُ
الْكَامِلِيُّ الَّذِي نَابَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً ثُمَّ بَعْدَهَا بِحَلَبَ، ثُمَّ
طُلِبَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ حِينَ وَلِيَهَا طَازْ، فَقُبِضَ
عَلَيْهِ، وَأُرْسِلَ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مُعْتَقَلًا. وَفِي يَوْمِ
السَّبْتِ مِنْ شَهْرِ صَفَرٍ قَدِمَ تَقْلِيدُ قَضَاءِ الشَّافِعِيَّةِ
بِدِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا لِقَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ عَبْدِ الْوَهَّابِ
ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ، عَلَى قَاعِدَةِ
وَالِدِهِ، وَذَلِكَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، وَذَهَبَ النَّاسُ لِلسَّلَامِ
عَلَيْهِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَحَدِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ
الْآخِرِ تَوَجَّهَ قَاضِي
الْقُضَاةِ تَقِيُّ
الدِّينِ السُّبْكِيُّ بَعْدَ اسْتِقْلَالِ وَلَدِهِ تَاجِ الدِّينِ عَبْدِ
الْوَهَّابِ فِي قَضَاءِ الْقُضَاةِ وَمَشْيَخَةِ دَارِ الْحَدِيثِ
الْأَشْرَفِيَّةِ مُسَافِرًا نَحْوَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي مِحَفَّةٍ،
وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهِ وَذَوِيِهِ، مِنْهُمْ سِبْطُهُ الْقَاضِي بَدْرُ
الدِّينِ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ وَآخَرُونَ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ وَدَّعُوهُ
قَبْلَ ذَلِكَ وَعِنْدَهُ ضَعْفٌ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَخَافُ عَلَيْهِ
وَعْثَاءِ السَّفَرِ مَعَ الْكِبَرِ وَالضَّعْفِ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ سَابِعُ شَهْرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ صُلِّيَ
بَعْدَ الْجُمُعَةِ عَلَى قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
الْكَافِي بْنِ تَمَامٍ السُّبْكِيِّ الْمِصْرِيِّ الشَّافِعِيِّ، تُوُفِّيَ
بِمِصْرَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ ثَالِثَهُ، وَدُفِنَ مِنْ صَبِيحَةِ ذَلِكَ
الْيَوْمِ وَقَدْ أَكْمَلَ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَدَخَلَ فِي
الرَّابِعَةِ أَشْهُرًا، وَوَلِيَ الْحُكْمَ بِدِمَشْقَ نَحْوًا مِنْ سَبْعَ
عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ نَزَلَ عَنْ ذَلِكَ لِوَلَدِهِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ
عَبْدِ الْوَهَّابِ، ثُمَّ رَحَلَ فِي مِحَفَّةٍ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
كَمَا ذَكَرْنَا. وَلَمَّا وَصَلَ مِصْرَ أَقَامَ دُونَ الشَّهْرِ ثُمَّ تُوُفِّيَ
كَمَا ذَكَرْنَا، وَجَاءَتِ التَّعْزِيَةُ وَمَرْسُومٌ بِاسْتِقْرَارِ وَلَدِهِ
فِي مَدْرَسَتِهِ الْيَعْقُوبِيَّةِ وَالْقَيْمَرِيَّةِ، وَبِتَشْرِيفٍ;
تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ، وَذَهَبَ النَّاسُ إِلَى تَعْزِيَتِهِ عَلَى الْعَادَةِ.
وَقَدْ سَمِعَ قَاضِي الْقُضَاةِ السُّبْكِيُّ الْحَدِيثَ فِي شَبِيبَتِهِ
بِدِيَارِ مِصْرَ، وَرَحَلَ إِلَى الشَّامِ، وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ وَكَتَبَ
وَخَرَّجَ، وَلَهُ تَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ مُنْتَشِرَةٌ كَثِيرَةُ الْفَائِدَةِ،
وَمَا زَالَ فِي مُدَّةِ الْقَضَاءِ يُصَنِّفُ وَيَكْتُبُ إِلَى حِينِ وَفَاتِهِ،
وَكَانَ كَثِيرَ التِّلَاوَةِ، وَذُكِرَ لِي أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي شَهْرِ جُمَادَى
الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اشْتُهِرَ أَخْذُ الْفِرَنْجِ الْمَخْذُولِينَ
لِمَدِينَةِ طَرَابُلُسَ الْمَغْرِبِ. وَقَرَأَتُ مِنْ كِتَابٍ لِقَاضِي قُضَاةِ
الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ أَخْذَهُمْ إِيَّاهَا كَانَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ
مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ بَعْدَ خَمْسَةَ
عَشَرَ يَوْمًا اسْتَعَادَهَا الْمُسْلِمُونَ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ أَضْعَافَ مَا
قَتَلُوا أَوَّلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ،
وَأَرْسَلَ الدَّوْلَةُ إِلَى الشَّامِ يَطْلُبُونَ مِنْ أَمْوَالِ أَوْقَافِ
الْأُسَارَى مَا يَسْتَنْقِذُونَ بِهِ مَنْ بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ حَادِيَ عَشَرَ رَجَبٍ الْفَرْدِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ حَكَمَ الْقَاضِي الْمَالِكِيُّ - وَهُوَ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ
الدِّينِ الْمَسَلَّاتِيُّ - بِقَتْلِ نَصْرَانِيٍّ مِنْ قَرْيَةِ الرَّأْسِ مِنْ
مُعَامَلَةِ بَعْلَبَكَّ، اسْمُهُ دَاوُدُ بْنُ سَالِمٍ; ثَبَتَ عَلَيْهِ
بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ فِي بَعْلَبَكَّ أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِمَا شَهِدَ عَلَيْهِ
أَحْمَدُ بْنُ نُورِ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ غَازِي - مِنْ قَرْيَةِ اللَّبْوَةِ -
مِنَ الْكَلَامِ السَّيِّئِ الَّذِي نَالَ بِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ - وَسَبَّهُ وَقَذَفَهُ بِكَلَامٍ لَا يَلِيقُ ذِكْرُهُ،
فَقُتِلَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - يَوْمَئِذٍ بَعْدَ أَذَانِ الْعَصْرِ بِسُوقِ
الْخَيْلِ وَحَرَّقَهُ النَّاسُ، وَشَفَى اللَّهُ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَحَدِ رَابِعَ عَشَرَ شَعْبَانَ دَرَّسَ الْقَاضِي
بَهَاءُ الدِّينِ أَبُو الْبَقَاءِ السُّبْكِيُّ بِالْمَدْرَسَةِ
الْقَيْمَرِيَّةِ، نَزَلَ لَهُ عَنْهَا ابْنُ عَمِّهِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ
الدِّينِ عَبْدُ الْوَهَّابِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ
السُّبْكِيِّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ عَلَى الْعَادَةِ،
وَأَخَذَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ
بِهِمْ خَصَاصَةٌ [ الْحَشْرِ: 9 ].
وَصُلِّي بَعْدَ الظُّهْرِ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى الشَّيْخِ الشَّابِّ
الْفَاضِلِ الْمُحَصِّلِ جَمَالِ الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الْعَلَّامَةِ
شَمْسِ الدِّينِ بْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيِّ،
وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ
بِمَقَابِرَ بَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً، وَكَانَتْ
لَدَيْهِ عُلُومٌ جَيِّدَةٌ، وَذِهْنُهُ حَاضِرٌ خَارِقٌ، أَفْتَى، وَدَرَّسَ،
وَأَعَادَ، وَنَاظَرَ، وَحَجَّ مَرَّاتٍ عَدِيدَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَبَلَّ
بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ تَاسِعَ عَشَرَ شَوَّالٍ وَقَعَ حَرِيقٌ هَائِلٌ فِي
سُوقِ الْقَطَّانِينَ بِالنَّهَارِ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ، وَالْحَجَبَةُ،
وَالْقُضَاةُ، حَتَّى اجْتَهَدَ الْفَعُولُ وَالْمُتَبَرِّعُونَ فِي إِخْمَادِهِ
وَطَفْيِهِ، حَتَّى سَكَنَ شَرُّهُ. وَقَدْ ذَهَبَ بِسَبَبِهِ دَكَاكِينُ وَدَوْرٌ
كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَقَدْ
رَأَيْتُهُ مِنَ الْغَدِ وَالنَّارُ كَمَا هِيَ عَمَّالَةٌ، وَالدُّخَانُ صَاعِدٌ،
وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ يُطْفُونَهُ بِالْمَاءِ الْكَثِيرِ الْغَمْرِ، وَالنَّارُ
لَا تَخْمُدُ، لَكِنْ هَدَّمَتِ الْجُدْرَانَ، وَخَرَّبَتِ الْمَسَاكِنَ،
وَانْتَقَلَ السُّكَّانُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَالشَّامِيَّةِ وَالْحَرَمَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ - الْمَلِكُ
النَّاصِرُ حَسَنٌ ابْنُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ
الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ الصَّالِحِيُّ، وَلَا نَائِبَ وَلَا وَزِيرَ بِمِصْرَ،
وَإِنَّمَا يَرْجِعُ تَدْبِيرُ الْمَمْلَكَةِ إِلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
شَيْخُونَ، ثُمَّ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ صَرْغَتْمُشَ، ثُمَّ الْأَمِيرِ
عِزِّ الدِّينِ طُقْطَايْ الدِّوِيدَارِ، وَقُضَاةُ مِصْرَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ
فِي الَّتِي قَبْلَهَا سِوَى الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ ابْنُ الْمُتَوَفَّى قَاضِي
الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ تَقِيِّ الدِّينِ
السُّبْكِيِّ، وَنَائِبُ حَلَبَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طَازْ، وَطَرَابُلُسَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ مَنْجَكُ، وَبِصَفَدَ الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ
بْنُ صُبْحٍ، وَبِحَمَاةَ أَسَنْدَمُرَ الْعُمَرِيُّ، وَبِحِمْصَ عَلَاءُ الدِّينِ
بْنُ الْمُعَظَّمِ، وَبِبَعْلَبَكَّ الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الْأَقْوَشِ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تَكَامَلَ إِصْلَاحُ بَلَاطِ
الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَغَسْلُ فُصُوصِ الْمَقْصُورَةِ وَالْقُبَّةِ، وَبُسِطَ
بَسْطًا حَسَنًا، وَبَيِّضَتْ أَطْبَاقُ الْقَنَادِيلِ، وَأَضَاءَ حَالُهُ جِدًّا،
وَكَانَ الْمُسْتَحِثُّ عَلَى ذَلِكَ الْأَمِيرَ عَلَاءَ الدِّينِ أَيْدُغْمُشَ
أَحَدَ أُمَرَاءِ الطَّبْلَخَانَاهْ، بِمَرْسُومِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ لَهُ فِي
ذَلِكَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ صُلِّي
عَلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بُرَاقٍ أَمِيرِ آخُورَ بِجَامِعِ تَنْكِزَ،
وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ، وَكَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ، كَثِيرَ
الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ، مُحِبًّا لِلْخَيْرِ وَأَهْلِهِ، مِنْ أَكْبَرِ
أَصْحَابِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى، وَقَدْ رُسِمَ لِوَلَدَيْهِ نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ، وَسَيْفِ
الدِّينِ أَبِي بَكْرٍ; كُلٍّ مِنْهُمَا بِعَشَرَةِ أَرْمَاحٍ، وَلِنَاصِرِ
الدِّينِ بِمَكَانِ أَبِيهِ فِي الْوَظِيفَةِ بِإِصْطَبْلِ السُّلْطَانِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ رَابِعِ شَهْرِ جُمَادَى الْأُولَى خُلِعَ عَلَى
الْأَمِيرَيْنِ الْأَخَوَيْنِ; نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ، وَسَيْفِ الدِّينِ
أَبِي بَكْرٍ، وَلَدَيِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بُرَاقٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - بِأَمِيرَيْنِ عَشَرَتَيْنِ.
وَوَقَعَ فِي هَذَا الشَّهْرِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْحَنَابِلَةِ فِي مَسْأَلَةِ
الْمُنَاقَلَةِ، وَكَانَ سَبَبَهَا أَنَّ الْقَاضِيَ الْمَالِكِيَّ - وَهُوَ
قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ الْمَسَلَّاتِيُّ - أَذِنَ لِلشَّيْخِ شَرَفِ
الدِّينِ ابْنِ قَاضِي الْجَبَلِ الْحَنْبَلِيِّ أَنْ يَحْكُمَ بِالْمُنَاقَلَةِ
فِي قَرَارِ دَارِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ طَيْدَمُرَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ
حَاجِبِ الْحُجَّابِ إِلَى أَرْضٍ أُخْرَى يَجْعَلُهَا وَقْفًا عَلَى مَا كَانَتْ
قَرَارُ دَارِهِ عَلَيْهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِطَرِيقِهِ، وَنَفَّذَهُ الْقُضَاةُ
الثَّلَاثَةُ; الشَّافِعِيُّ، وَالْحَنَفِيُّ، وَالْمَالِكِيُّ، فَغَضِبَ
الْقَاضِي الْحَنْبَلِيُّ - وَهُوَ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ
الْمَرْدَاوِيُّ الْمَقْدِسِيُّ - مِنْ ذَلِكَ، وَعَقْدَ بِسَبَبِ ذَلِكَ
مَجَالِسَ، وَتَطَاوُلَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَادَّعَى
كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ
مَذْهَبَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الْمُنَاقَلَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي حَالِ
الضَّرُورَةِ، وَحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَوْقُوفِ، فَأَمَّا
الْمُنَاقَلَةُ لِمُجَرَّدِ الْمُصْلَحَةِ وَالْمَنْفَعَةِ الرَّاجِحَةِ فَلَا،
وَامْتَنَعُوا مِنْ قَبُولِ مَا قَرَّرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ
تَيْمِيَّةَ فِي ذَلِكَ وَنَقَلَهُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ وُجُوهٍ
كَثِيرَةٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِهِ صَالِحٍ، وَحَرْبٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَغَيْرِهِمْ
أَنَّهَا تَجُوزُ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ مَسْأَلَةً
مُفْرَدَةً، وَقَفْتُ عَلَيْهَا فَرَأَيْتُهَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ
وَالْإِفَادَةِ، بِحَيْثُ لَا يَتَخَالَجُ مَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا مِمَّنْ
يَذُوقُ طَعْمَ الْفِقْهِ أَنَّهَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ
اللَّهُ، فَقَدِ احْتَجَّ أَحْمَدُ فِي ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ صَالِحٍ
بِمَا رَوَاهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ
بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أَنْ يُحَوِّلَ
الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ بِالْكُوفَةِ إِلَى مَوْضِعِ سُوقِ التَّمَارِينَ،
وَيَجْعَلَ السُّوقَ فِي مَكَانِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ الْعَتِيقِ، فَفَعَلَ
ذَلِكَ، فَهَذَا فِيهِ أَوْضَحُ دَلَالَةٍ عَلَى مَا اسْتَدَلَّ بِهِ فِيهَا مِنَ
النَّقْلِ بِمُجَرَّدِ الْمُصْلِحَةِ، فَإِنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إِلَى جَعْلِ
الْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ سُوقًا، عَلَى أَنَّ الْإِسْنَادَ فِيهِ انْقِطَاعٌ بَيْنَ
الْقَاسِمِ وَبَيْنَ عُمَرَ، وَبَيْنَ الْقَاسِمِ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَكِنْ
قَدْ جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ " الْمَذْهَبِ "، وَاحْتَجَّ بِهِ، وَهُوَ
ظَاهِرٌ وَاضِحٌ فِي ذَلِكَ، فَعُقِدَ الْمَجْلِسُ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ
الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ.
وَفِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى
الْأُولَى، وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ ظَاهِرَ بَابِ الْفَرَجِ، احْتَرَقَ بِسَبَبِهِ
قَيَاسِيرُ كَثِيرَةٌ لِطَازْ وَيَلْبُغَا، وَقَيْسَرِيَّةُ الطَّوَاشِيِّ
لِبِنْتِ
تَنْكِزَ، وَأُخَرُ
كَثِيرَةٌ، وَدُورٌ، وَدَكَاكِينَ، وَذَهَبَ لِلنَّاسِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ
الْأَمْتِعَةِ، وَالنُّحَاسِ، وَالْبَضَائِعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُقَاوِمُ
أَلْفَ أَلْفٍ وَأَكْثَرَ خَارِجًا عَنِ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ كَانَ فِي
هَذِهِ الْقَيَاسِيرِ شَرٌّ كَثِيرٌ مِنَ الْفِسْقِ، وَالرِّبَا، وَالزَّغَلِ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى وَرَدَ الْخَبَرُ
بِأَنَّ الْفِرَنْجَ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - اسْتَحْوَذُوا عَلَى مَدِينَةِ
صَيْدًا; قَدِمُوا فِي سَبْعَةِ مَرَاكِبَ، وَقَتَلُوا طَائِفَةً مِنْ أَهْلِهَا،
وَنَهَبُوا شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَسَرُوا أَيْضًا، وَهَجَمُوا عَلَى النَّاسِ
وَقْتَ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ قَتَلَ مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ
خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَسَرُوا مَرْكَبًا مِنْ مَرَاكِبِهِمْ، وَجَاءَ الْفِرَنْجُ
فِي عَشِيَّةِ السَّبْتِ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَقَدِمَ الْوَالِي وَهُوَ جَرِيحٌ
مُثْقَلٌ، فَأَمَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ عِنْدَ ذَلِكَ بِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ
إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَسَارُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ،
وَتَقَدَّمَهُمْ حَاجِبُ الْحُجَّابِ، وَتَحَدَّرَ إِلَيْهِمْ نَائِبُ صَفَدَ الْأَمِيرُ
شِهَابُ الدِّينِ بْنُ صُبْحٍ، فَسَبَقَ الْجَيْشَ الدِّمَشْقِيَّ، وَوَجَدَ
الْفِرَنْجَ قَدْ بَرَزُوا بِمَا غَنِمُوا مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْأُسَارَى إِلَى
جَزِيرَةٍ تِلْقَاءَ صَيْدًا فِي الْبَحْرِ، وَقَدْ أَسَرَ الْمُسْلِمُونَ
مِنْهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ شَيْخًا وَشَابًّا مِنْ أَبْنَاءِ أَشْرَافِهِمْ،
وَهُوَ الَّذِي عَاقَهُمْ عَنِ الذَّهَابِ، فَرَاسَلَهُمُ الْجَيْشُ فِي
انْفِكَاكِ الْأُسَارَى مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَفَادَوْهُمْ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ
بِخَمْسِمِائِةٍ، فَأَخَذُوا مِنْ دِيوَانِ الْأُسَارَى مَبْلَغَ ثَلَاثِينَ
أَلْفًا، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - أَحَدٌ.
وَاسْتَمَرَّ الصَّبِيُّ مِنَ الْفِرَنْجِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَسْلَمَ،
وَدُفِعَ إِلَيْهِمُ الشَّيْخُ الْجَرِيحُ، وَعَطِشَ الْفِرَنْجُ عَطَشًا
شَدِيدًا، وَأَرَادُوا أَنْ يَرْوَوْا مِنْ نَهْرٍ هُنَاكَ، فَبَادَرَهُمُ
الْجَيْشُ إِلَيْهِ،
فَمَنَعُوهُمْ أَنْ
يَنَالُوا مِنْهُ قَطْرَةً وَاحِدَةً، فَرَحَلُوا لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءَ
مُنْشَمِرِينَ بِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَبُعِثَتْ رُءُوسُ جَمَاعَةٍ
مِنَ الْفِرَنْجِ مِمَّنْ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ فَنُصِبَتْ عَلَى الْقَلْعَةِ
بِدِمَشْقَ، وَجَاءَ الْخَبَرُ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِأَنَّ إِيَاسَ قَدْ أَحَاطَ
بِهَا الْفِرَنْجَ، وَقَدْ أَخَذُوا الرُّبَضَ، وَهُمْ مُحَاصِرُونَ الْقَلْعَةَ،
وَفِيهَا نَائِبُ الْبَلَدِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ
أَهْلِهَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَذَهَبَ صَاحِبُ
حَلَبَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ نَحْوَهُمْ، وَاللَّهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يُظْفِرَهُمْ
بِهِمْ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَشَاعَ بَيْنَ الْعَامَّةِ أَيْضًا أَنَّ
الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ مُحَاصَرَةٌ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ إِلَى الْآنِ،
وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ رَابِعِ جُمَادَى الْآخِرَةِ قَدِمَ رُءُوسٌ مِنْ قَتْلَى
الْفِرَنْجِ عَلَى صَيْدًا، وَهِيَ بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ رَأْسًا، فَنُصِبَتْ عَلَى
شُرُفَاتِ الْقَلْعَةِ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ دَاخِلَ بَابِ الصَّغِيرِ مِنْ مَطْبَخِ السُّكَّرِ
الَّذِي عِنْدَ السَّوِيقَةِ الْمُلَاصِقَةِ لِمَسْجِدِ الشَّنْبَاشِيِّ،
فَاحْتَرَقَ الْمَطْبَخُ وَمَا حَوْلَهُ إِلَى حَمَّامِ أَبِي نَصْرٍ، وَاتَّصَلَ
بِالسَّوِيقَةِ الْمَذْكُورَةِ وَمَا هُنَالِكَ مِنَ الْأَمَاكِنِ، فَكَانَ
قَرِيبًا أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الْحَرِيقِ ظَاهِرَ بَابِ الْفَرَجِ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ كَانَ وَقْتَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَلَكِنْ كَانَ الرِّيحُ قَوِيًّا،
وَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
وَتُوُفِّيَ الشَّيْخُ
عِزُّ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُمَرَ الْحَمَوِيُّ، أَحَدُ
مَشَايِخِ الرُّوَاةِ، فِي لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ
بَعْدَ الظُّهْرِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرَ بَابِ الصَّغِيرِ. وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي
ثَانِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَجَمَعَ
الْكَثِيرَ، وَتَفَرَّدَ بِالرِّوَايَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ فِي آخِرِ عُمْرِهِ،
وَانْقَطَعَ بِمَوْتِهِ سَمَاعُ " السُّنَنِ الْكَبِيرِ " لِلْبَيْهَقِيِّ.
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَوَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ خَامِسَ عَشَرَ رَجَبٍ بِمَحَلَّةِ
الصَّالِحِيَّةِ مِنْ سَفْحِ قَاسِيُونَ، فَاحْتَرَقَ السُّوقُ الْقِبْلِيُّ مِنْ
جَامِعِ الْحَنَابِلَةِ بِكَمَالِهِ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَجَنُوبًا وَشَمَالًا،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ خَامِسِ شَهْرِ رَمَضَانَ خُطِبَ بِالْجَامِعِ الَّذِي
أَنْشَاهُ سَيْفُ الدِّينِ يَلْبُغَا النَّاصِرِيُّ غَرْبِيَّ سُوقِ الْخَيْلِ،
وَفُتِحَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَجَاءَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْبَهَاءِ،
وَخَطَبَ الشَّيْخُ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الرَّبْوَةِ الْحَنَفِيُّ، وَكَانَ قَدْ
نَازَعَهُ فِيهِ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الشَّافِعِيُّ الْمَوْصِلَيُّ،
وَأَظْهَرَ وِلَايَةً مِنْ وَاقِفِهِ يَلْبُغَا الْمَذْكُورِ، وَمَرَاسِيمَ
شَرِيفَةً سُلْطَانِيَّةً، وَلَكِنْ قَدْ قَوِيَ عَلَيْهِ ابْنُ الرَّبْوَةِ ;
بِسَبَبِ أَنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الشَّيْخِ قَوَامِ الدِّينِ الْإِتْقَانِيِّ
الْحَنَفِيِّ، وَهُوَ مُقِيمٌ بِمِصْرَ، وَمَعَهُ وِلَايَةٌ مِنَ السُّلْطَانِ
مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ وِلَايَةِ الْمَوْصِلِيِّ، فَرُسِمَ لِابْنِ الرَّبْوَةِ،
فَلَبِسَ يَوْمَئِذٍ الْخِلْعَةَ السَّوْدَاءَ مِنْ دَارِ السَّعَادَةِ، وَجَاءُوا
بَيْنَ يَدَيْهِ بِالسَّنَاجِقِ السُّودِ الْخَلْيِفَتِيَّةِ، وَالْمُؤَذِّنُونَ
يُكَبِّرُونَ عَلَى الْعَادَةِ، وَخَطَبَ يَوْمَئِذٍ خُطْبَةً حَسَنَةً،
أَكْثَرُهَا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَقَرَأَ فِي
الْمِحْرَابِ بِأَوَّلِ
سُورَةِ " طَهَ "، وَحَضَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَالْعَامَّةِ،
وَالْخَاصَّةِ، وَبَعْضُ الْقُضَاةِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَكُنْتُ
مِمَّنْ حَضَرَ قَرِيبًا مِنْهُ. وَالْعَجَبُ أَنِّي وَقَفْتُ فِي شَهْرِ ذِي
الْقَعْدَةِ عَلَى كِتَابٍ أَرْسَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ مِنْ
بِلَادِ طَرَابُلُسَ، وَفِيهِ: وَالْمَخْدُومُ يُعَرِّفُ الشَّيْخَ عِمَادَ
الدِّينِ بِمَا جَرَى فِي بِلَادِ السَّوَاحِلِ مِنَ الْحَرِيقِ، مِنْ بِلَادِ
طَرَابُلُسَ إِلَى آخِرِ مُعَامَلَةِ بَيْرُوتَ إِلَى جَمِيعِ كَسْرُوانَ،
أَحْرَقَ الْجِبَالَ كُلَّهَا، وَمَاتَ الْوُحُوشُ كُلُّهَا مِثْلَ النُّمُورِ،
وَالدُّبِّ، وَالثَّعْلَبِ، وَالْخِنْزِيرِ; مِنَ الْحَرِيقِ، مَا بَقِيَ
لِلْوُحُوشِ مَوْضِعٌ يَهْرُبُونَ فِيهِ، وَبَقِيَ الْحَرِيقُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ،
وَهَرَبَ النَّاسُ إِلَى جَانِبِ الْبَحْرِ مِنْ خَوْفِ النَّارِ، وَاحْتَرَقَ
زَيْتُونٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا نَزَلَ الْمَطَرُ أَطْفَأَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ
تَعَالَى، قَالَ: وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ وَرَقَةً مِنْ شَجَرَةٍ سَقَطَتْ فِي
بَيْتٍ مِنْ مِدْخَنَتِهِ فَأَحْرَقَتْ جَمِيعَ مَا فِيهِ مِنَ الْأَثَاثِ،
وَالثِّيَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْ حَلْيِهِ حَرِيرًا كَثِيرًا، وَغَالِبُ
هَذِهِ الْبِلَادِ لِلدَّرْزِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ. نَقَلْتُهُ مِنْ خَطِّ
كَاتِبِهِ مُحَمَّدِ بْنِ بَلْبَانَ إِلَى صَاحِبِهِ، وَهُمَا عِنْدِي ثِقَتَانِ،
فَيَاللَّهِ لِلْعَجَبِ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ - يَعْنِي: ذِي الْقَعْدَةِ - وَقَعَ بَيْنَ الشَّيْخِ
عِمَادِ الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعِزِّ الْحَنَفِيِّ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مُنَاقَشَةٌ; بِسَبَبِ اعْتِدَائِهِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ
فِي مُحَاكَمَةٍ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ إِحْضَارَهُ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَثَلِ الْمُتَمَرِّدِ عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَحْضُرْ
فِيهَا حَكَمَ عَلَيْهِ الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ الْكُفْرِيُّ - نَائِبُ
الْحَنَفِيِّ - بِإِسْقَاطِ عَدَالَتِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ خَبَرُهُ بِأَنَّهُ قَصَدَ
بِلَادَ مِصْرَ، فَأَرْسَلَ النَّائِبُ فِي أَثَرِهِ مَنْ يَرُدُّهُ، فَعَنَّفَهُ،
ثُمَّ أَطْلَقَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَشَفَّعَ فِيهِ قَاضِي الْقُضَاةِ
الْحَنَفِيُّ
فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْخَلِيفَةُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
الْمُعْتَضِدُ بِاللَّهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ أَبِي
الرَّبِيعِ سُلَيْمَانَ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ الْإِسْلَامِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ وَمَا يَتْبَعُهَا، وَبِالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ وَمَا وَالَاهَا،
وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ - الْمَلِكُ النَّاصِرُ حَسَنٌ
ابْنُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ
الصَّالِحِيُّ، وَلَيْسَ لَهُ بِمِصْرَ نَائِبٌ وَلَا وَزِيرٌ، وَإِنَّمَا
تُرْجَعُ الْأُمُورُ إِصْدَارًا، وَإِيرَادًا إِلَى الْأَمِيرَيْنِ
الْكَبِيرَيْنِ; سَيْفِ الدِّينِ شَيْخُونَ، وَصَرْغَتْمُشَ النَّاصِرِيَّيْنِ،
وَقُضَاةُ مِصْرَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَنَائِبُ الشَّامِ
بِدِمَشْقَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ أَمِيرُ عَلِيَّ الْمَارِدَانِيُّ،
وَقُضَاةُ دِمَشْقَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ جِدًّا
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ نَهَدَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ مُجَاوِرِي الْجَامِعِ بِدِمَشْقَ مِنْ
مَشْهَدِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ، وَاتَّبَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ
وَالْمَغَارِبَةِ، وَجَاءُوا إِلَى أَمَاكِنَ مُتَّهَمَةٍ بِالْخَمْرِ وَبَيْعِ
الْحَشِيشِ، فَكَسَرُوا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ أَوَانِي الْخَمْرِ، وَأَرَاقُوا
مَا فِيهَا، وَأَتْلَفُوا شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْحَشِيشِ، وَغَيْرِهِ، ثُمَّ
انْتَقَلُوا
إِلَى حِكْرِ السُّمَاقِ
وَغَيْرِهِمْ، فَثَارَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَارْذَارِيَّةِ، وَالْكَلَابَرِيَّةِ،
وَغَيْرِهِمْ مِنَ الرُّعَاعِ، فَتَنَاوَشُوا، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ ضَرَبَاتٌ
بِالْأَيْدِي، وَغَيْرِهَا، وَرُبَّمَا سَلَّ بَعْضُ الْفُسَّاقِ السُّيُوفَ
عَلَيْهِمْ كَمَا ذُكِرَ. وَقَدْ رَسَمَ مَلِكُ الْأُمَرَاءِ لِوَالِي
الْمَدِينَةِ، وَوَالِي الْبَرِّ أَنْ يَكُونُوا عَضُدًا لَهُمْ، وَعَوْنًا عَلَى
الْخَمَّارِينَ وَالْحَشَّاشَةِ، فَنَصَرُوهُمْ عَلَيْهِمْ، غَيْرَ أَنَّهُ كَثُرَ
مَعَهُمُ الضَّجِيجُ، وَنَصَبُوا رَايَةً، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ.
وَلَمَّا كَانَ فِي أَوَاخِرِ النَّهَارِ تَقَدَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ النُّقَبَاءِ
وَالْخَزَانْدَارِيَّةِ، وَمَعَهُمْ جَنَازِيرُ، فَأَخَذُوا جَمَاعَةً مِنْ
مُجَاوِرِي الْجَامِعِ وَغَيْرِهِمْ، وَضُرِبُوا بِالْمَقَارِعِ، وَطِيفَ بِهِمْ
فِي الْبَلَدِ، وَنَادَوْا عَلَيْهِمْ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِمَا لَا
يَعْنِيهِ تَحْتَ عِلْمِ السُّلْطَانِ. فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ،
وَأَنْكَرُوهُ، حَتَّى إِنَّهُ أَنْكَرَ اثْنَانِ مِنَ الْعَامَّةِ عَلَى
الْمُنَادِيَةِ، فَضَرَبَ بَعْضُ الْجُنْدِ أَحَدَهُمَا بِدَبُّوسٍ فَقَتَلَهُ،
وَضَرَبَ الْآخَرَ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ مَاتَ أَيْضًا. فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ حُكِيَ عَنْ جَارِيَةٍ مِنْ عَتِيقَاتِ
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ تَمُرٍ الْمَهْمَنْدَارِ أَنَّهَا حَمَلَتْ قَرِيبًا
مِنْ سَبْعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ شَرَعَتْ تَطْرَحُ مَا فِي بَطْنِهَا، فَوَضَعَتْ
قَرِيبًا مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ وَمُتَفَرِّقَةٍ
أَرْبَعَ عَشْرَةَ بِنْتًا، وَصَبِيًّا بَعْدَهُنَّ، كُلُّهُنَّ يَعْرِفُ بِشَكْلِ
الذَّكَرِ مِنَ الْأُنْثَى.
وَجَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ شَيْخُونَ مُدَبِّرَ
الْمَمَالِكِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ، ظَفِرَ عَلَيْهِ
مَمْلُوكٌ مِنْ مَمَالِيكِ السُّلْطَانِ، فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ ضَرَبَاتٍ
فَجَرَحَهُ فِي أَمَاكِنَ فِي جَسَدِهِ; مِنْهَا مَا هُوَ فِي وَجْهِهِ، وَمِنْهَا
مَا هُوَ فِي يَدِهِ، فَحُمِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ صَرِيعًا طَرِيحًا جَرِيحًا،
وَغَضِبَتْ لِذَلِكَ طَوَائِفُ مِنَ الْأُمَرَاءِ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُمْ
رَكِبُوا،
وَدَعَوْا إِلَى
الْمُبَارَزَةِ، فَلَمْ يَجِئْ إِلَيْهِمْ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ بِذَلِكَ جِدًّا،
وَاتَّهَمُوا بِهِ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ صَرْغَتْمُشَ، وَغَيْرَهُ، وَأَنَّ
هَذَا إِنَّمَا فُعِلَ عَنْ مُمَالَأَةٍ مِنْهُمْ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفَاةُ أَرْغُونَ الْكَامِلِيُّ بَانِي الْبِيمَارَسْتَانَ بِحَلَبَ
كَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّادِسِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةٍ
أَنْشَأَهَا غَرْبِيَّ الْمَسْجِدِ بِشَمَالِهِ، وَقَدْ نَابَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً
بَعْدَ حَلَبَ، ثُمَّ جَرَتِ الْكَائِنَةُ الَّتِي أَصْلُهَا بَيْبُغَا -
قَبَّحَهُ اللَّهُ - فِي أَيَّامِهِ. ثُمَّ صَارَ إِلَى نِيَابَةِ حَلَبَ، ثُمَّ
سُجِنَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مُدَّةً، ثُمَّ أُفْرِجَ عَنْهُ فَأَقَامَ
بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ إِلَى أَنْ كَانَتْ وَفَاتُهُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي
التَّارِيخِ الْمَذْكُورِ، حَرَّرَهُ الشَّرِيفُ ابْنُ زِيرِكٍ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَفَاةُ الْأَمِيرِ شَيْخُونَ
وَرَدَ الْخَبَرُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِوَفَاةِ الْأَمِيرِ شَيْخُونَ
لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ
السَّادِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِتُرْبَتِهِ، وَقَدِ ابْتَنَى مَدْرَسَةً هَائِلَةً، وَجَعَلَ فِيهَا الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ، وَدَارًا لِلْحَدِيثِ، وَخَانَقَاهُ لِلصُّوفِيَّةِ، وَأَوْقَفَ عَلَيْهَا شَيْئًا كَثِيرًا، وَقَرَّرَ فِيهَا مَعَالِيمَ وَافِرَةً دَارَّةً، وَتَرَكَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَحَوَاصِلَ كَثِيرَةً، وَدَوَاوِينَ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ، وَخَلَّفَ بَنَاتٍ، وَزَوْجَةً، وَوِرْثَ الْبَقِيَّةَ أَوْلَادُ السُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ - بِالْوَلَاءِ. وَمُسِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ أُمَرَاءُ كَثِيرُونَ بِمِصْرَ كَانُوا مِنْ حِزْبِهِ، مِنْ أَشْهَرِهِمْ عِزُّ الدِّينِ طُقْطَايْ الدَّوَادَارُ، وَابْنُ قَوْصُونَ، وَأُمُّهُ أُخْتُ السُّلْطَانِ، خَلَفَ عَلَيْهَا شَيْخُونَ بَعْدَ قَوْصُونَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الْإِسْلَامِ بِالْبِلَادِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَالشَّامِيَّةِ، وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَمَا يَتْبَعُ
ذَلِكَ - الْمَلِكُ النَّاصِرُ حَسَنٌ ابْنُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ ابْنِ
الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، وَقَدْ
قَوِيَ جَانِبُهُ وَحَاشِيَتُهُ بِمَوْتِ الْأَمِيرِ شَيْخُونَ، كَمَا ذَكَرْنَا
فِي سَادِسِ عِشْرِينَ ذِي الْقِعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَصَارَ
إِلَيْهِ مِنْ مِيرَاثِهِ مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ
الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ، وَالْأَنْعَامِ، وَالْحَرْثِ، وَكَذَلِكَ مِنَ الْمَمَالِيكِ،
وَالْأَسْلِحَةِ، وَالْعُدَّةِ، وَالْبَرَكِ، وَالْمَتَاجِرِ مَا يَشُقُّ
حَصْرُهُ، وَيَتَعَذَّرُ إِحْصَاؤُهُ هَاهُنَا، وَلَيْسَ فِي الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ فِيمَا بَلَغَنَا إِلَى الْآنَ نَائِبٌ وَلَا وَزِيرٌ،
وَالْقُضَاةُ بِهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَأَمَّا دِمَشْقُ
فَنَائِبُهَا وَقُضَاتُهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، سِوَى
الْحَنَفِيِّ، فَإِنَّهُ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ الدِّينِ الْكَفْرِيُّ عِوَضًا
عَنْ نَجْمِ الدِّينِ الطَّرَسُوسِيِّ; تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ
الْمَاضِيَةِ. وَنَائِبُ حَلَبَ سَيْفُ الدِّينِ طَازْ، وَطَرَابُلُسَ مَنْجَكُ،
وَحَمَاةَ أَسَنْدَمُرَ الْعُمَرِيُّ، وَصَفَدَ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ صُبْحٍ،
وَبِحِمْصَ صَلَاحُ الدِّينِ
خَلِيلُ بْنُ خَاصَ
تُرْكَ، وَبِبَعْلَبَكَّ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الْأَقْوَشِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ رَابِعَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ خَرَجَتْ
أَرْبَعَةُ آلَافٍ مَعَ أَرْبَعَةِ مُقَدَّمِينَ إِلَى نَاحِيَةِ حَلَبَ نُصْرَةً
لِجَيْشِ حَلَبَ عَلَى مَسْكِ طَازْ إِنِ امْتَنَعَ مِنَ السَّلْطَنَةِ كَمَا
أُمِرَ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ نَادَى
الْمُنَادِيَ مِنْ جِهَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ أَنْ يَرْكَبَ مَنْ بَقِيَ مِنَ
الْجُنْدِ فِي الْحَدِيدِ، وَيُوَافُوهُ إِلَى سُوقِ الْخَيْلِ، فَرَكِبَ مَعَهُمْ
قَاصِدًا نَاحِيَةَ ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ لِيَمْنَعَ الْأَمِيرَ طَازْ مِنْ
دُخُولِ الْبَلَدِ; لَمَّا تَحَقَّقَ مَجِيئُهُ فِي جَيْشِهِ قَاصِدًا إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةَ، فَانْزَعَجَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَأُخْلِيَتْ دَارُ
السَّعَادَةِ مِنَ الْحَوَاصِلِ وَالْحَرِيمِ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَتَحَصَّنَ
كَثِيرٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ بِدُورِهِمْ دَاخِلَ الْبَلَدِ، وَأُغْلِقَ بَابُ
النَّصْرِ، فَاسْتَوْحَشَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ بَعْضَ الشَّيْءِ، ثُمَّ غُلِّقَتْ
أَبْوَابُ الْبَلَدِ كُلِّهَا إِلَّا بَابِيَ الْفَرَادِيسِ، وَالْفَرَجِ، وَبَابَ
الْجَابِيَةِ أَيْضًا; لِأَجْلِ دُخُولِ الْحُجَّاجِ.
وَدَخَلَ الْمَحْمَلُ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ
مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ; لِشُغْلِهِمْ
بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ أَمْرِ طَازْ، وَأَمْرِ الْعَشِيرِ بِحَوْرَانَ، وَجَاءَ
الْخَبَرُ بِمَسْكِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ طَيْدَمُرَ الْحَاجِبِ الْكَبِيرِ
بِأَرْضِ حَوْرَانَ، وَسَجْنِهِ بِقَلْعَةِ صَرْخَدَ، وَجَاءَ سَيْفُهُ صُحْبَةَ
الْأَمِيرِ جَمَالِ الدِّينِ الْحَاجِبِ، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى الْوِطَاقِ عِنْدَ
الثَّنِيَّةِ، وَقَدْ وَصَلَ طَازْ بِجُنُودِهِ إِلَى بَابِ الْقُطَيْفَةِ،
وَتَلَاقَى شَالِيشُهُ بِشَالِيشِ
نَائِبِ الشَّامِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ قِتَالٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. ثُمَّ تَرَاسَلَ هُوَ وَالنَّائِبُ فِي الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ طَازْ نَفْسَهُ، وَيَرْكَبُ فِي عَشَرَةِ سُرُوجٍ إِلَى السُّلْطَانِ، وَيَنْسَلِخَ مِمَّا هُوَ فِيهِ، وَيُكَاتِبَ فِيهِ النَّائِبِ، وَيَتَلَطَّفُوا بِأَمْرِهِ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَبِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ يَطْلُبُ مَنْ يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيَّتِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْقَاضِيَ شِهَابُ الدِّينِ قَاضِي الْعَسْكَرِ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ، فَأَوْصَى لِوَلَدِهِ، وَأُمِّ وَلَدِهِ، وَلِوَالِدِهِ نَفْسِهِ، وَجَعَلَ النَّاظِرَ عَلَى وَصِيَّتِهِ الْأَمِيرَ عَلَاءَ الدِّينِ أَمِيرَ عَلِيَّ الْمَارِدَانِيَّ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ، وَلِلْأَمِيرِ صَرْغَتْمُشَ، وَرَجَعَ النَّائِبُ مِنَ الثَّنِيَّةِ عَشِيَّةَ يَوْمِ السَّبْتِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، وَتَضَاعَفَتِ الْأَدْعِيَةُ لَهُ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَدَعَوْا إِلَى الْأَمِيرِ طَازْ بِسَبَبِ إِجَابَتِهِ إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَعَدَمِ مُقَاتَلَتِهِ مَعَ كَثْرَةِ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ، وَقُوَّةِ مَنْ كَانَ يُحَرِّضُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إِخْوَتِهِ وَذَوِيِهِ، وَقَدِ اجْتَمَعْتُ بِنَائِبِ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرِ عَلَاءِ الدِّينِ أَمِيرِ عَلِيٍّ الْمَارِدَانِيِّ، فَأَخْبَرَنِي بِمُلَخَّصِ مَا وَقَعَ مُنْذُ خَرَجَ إِلَى أَنْ رَجَعَ، وَمَضْمُونُ كَلَامِهِ أَنَّ اللَّهَ لَطَفَ بِالْمُسْلِمِينَ لُطْفًا عَظِيمًا; إِذْ لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَمَّا وَصَلَ طَازْ إِلَى الْقُطَيِّفَةِ - وَقَدْ نَزَلْنَا نَحْنُ بِالْقُرْبِ مِنْ خَانِ لَاجِينَ - أَرْسَلْتُ إِلَيْهِ مَمْلُوكًا مِنْ مَمَالِيكِي أَقُولُ لَهُ: إِنَّ الْمَرْسُومَ الشَّرِيفَ قَدْ وَرَدَ بِذَهَابِكَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي عَشَرَةِ سُرُوجٍ فَقَطْ، فَإِذَا جِئْتَ هَكَذَا فَأَهْلًا وَسَهْلًا، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَأَنْتَ أَصْلُ الْفِتْنَةِ. وَرَكِبْتُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ طُولَ اللَّيْلِ فِي الْجَيْشِ وَهُوَ مُلْبَسٌ، فَرَجَعَ مَمْلُوكِي وَمَعَهُ مَمْلُوكُهُ سَرِيعًا يَقُولُ: إِنَّهُ يَسْأَلُ أَنْ يَدْخُلَ بِطُلْبِهِ كَمَا خَرَجَ بِطُلْبِهِ مِنْ مِصْرَ، فَقُلْتُ: لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا فِي عَشَرَةِ سُرُوجٍ كَمَا رَسَمَ السُّلْطَانُ. فَرَجَعَ،
وَجَاءَنِي الْأَمِيرُ
الَّذِي جَاءَ مِنْ مِصْرَ بِطُلْبِهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ يَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ
يَدْخُلَ فِي مَمَالِيكِهِ، فَإِذَا جَاوَزَ دِمَشْقَ إِلَى الْكُسْوَةِ نَزَلَ
جَيْشُهُ هُنَاكَ، وَرَكِبَ هُوَ فِي عَشَرَةِ سُرُوجٍ كَمَا رُسِمَ، فَقُلْتُ:
لَا سَبِيلَ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ دِمَشْقَ، وَيَتَجَاوَزَ بِطُلْبِهِ أَصْلًا،
وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ خَيْلٌ، وَرِجَالٌ، وَعُدَّةٌ، فَعِنْدِي أَضْعَافُ ذَلِكَ،
فَقَالَ لِي الْأَمِيرُ: يَا خَوْنَدْ، لَا تَكُونُ تُنْشِئُ فِتْنَةً، فَقُلْتُ:
لَا يَقَعُ إِلَّا مَا تَسْمَعُ. فَرَجَعَ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَاقَ
مِقْدَارَ رَمْيَةِ سَهْمٍ، وَجَاءَ بَعْضُ الْجَوَاسِيسِ الَّذِينَ لَنَا
عِنْدَهُمْ فَقَالَ: يَاخَوْنَدْ، هَا قَدْ وَصَلَ جَيْشُ حَمَاةَ، وَطَرَابُلُسَ،
وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ جَيْشِ دِمَشْقَ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ خَرَجُوا
بِسَبَبِهِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا هُمْ وَهُوَ. قَالَ: فَحِينَئِذٍ رَكِبْتُ فِي
الْجَيْشِ، وَأَرْسَلْتُ طَلِيعَتَيْنِ أَمَامِي، وَقُلْتُ: تَرَاءَوْا
لِلْجُيُوشِ الَّذِينَ جَاءُوا حَتَّى يَرَوْكُمْ فَيَعْلَمُوا أَنَّا قَدْ
أَحَطْنَا بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَحِينَئِذٍ جَاءَتِ الْبُرُدُ مِنْ
جِهَتِهِ بِطَلَبِ الْأَمَانِ، وَيَجْهَرُونَ بِالْإِجَابَةِ إِلَى أَنْ يَرْكَبَ
فِي عَشَرَةِ سُرُوجٍ، وَيَتْرُكَ طُلْبَهُ بِالْقُطَيِّفَةِ، وَذَلِكَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ رَكِبْتُ أَنَا وَالْجَيْشُ فِي السِّلَاحِ
طُولَ اللَّيْلِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ مَكِيدَةً وَخَدِيعَةً، فَجَاءَتْنَا
الْجَوَاسِيسُ، فَأَخْبَرُونَا أَنَّهُمْ قَدْ أَوْقَدُوا نُشَّابَهُمْ،
وَرِمَاحَهُمْ، وَكَثِيرًا مِنْ سِلَاحِهِمْ، فَتَحَقَّقْنَا عِنْدَ ذَلِكَ
طَاعَتَهُ وَإِجَابَتَهُ لِكُلِّ مَا رُسِمَ بِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ يَوْمَ السَّبْتِ،
وَصَّى، وَرَكِبَ فِي عَشَرَةِ سُرُوجٍ، وَسَارَ نَحْوَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ دَخَلَ حَاجِبُ
الْحُجَّابِ الَّذِي كَانَ سُجِنَ فِي قَلْعَةِ صَرْخَدَ مَعَ الْبَرِيدِيِّ
الَّذِي قَدِمَ بِسَبَبِهِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَتَلَقَّاهُ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ، وَتَصَدَّقَ بِصَدَقَاتٍ كَثِيرَةٍ
فِي دَارِهِ، وَفَرِحُوا بِهِ فَرَحًا
شَدِيدًا، وَهُوَ
وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ ذَاهِبٌ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
مُعَظَّمًا مُكَرَّمًا عَلَى تَقْدِمَةِ أَلْفٍ وَوَظَائِفَ هُنَاكَ. فَلَمَّا
كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ لَمْ يُفْجَأَ النَّاسُ
إِلَّا وَقَدْ دَخَلَ الْقَلْعَةَ الْمَنْصُورَةَ مُعْتَقَلًا بِهَا مُضَيَّقًا
عَلَيْهِ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ هَذِهِ التَّرْحَةِ مِنْ تِلْكَ الْفَرْحَةِ،
فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عُقِدَ مَجْلِسٌ بِسَبَبِ
الْحَاجِبِ بِالْمَشْهَدِ مِنَ الْجَامِعِ. وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ أُحْضِرَ
الْحَاجِبُ مِنَ الْقَلْعَةِ إِلَى دَارِ الْحَدِيثِ، وَاجْتَمَعَ الْقُضَاةُ
هُنَاكَ بِسَبَبِ دَعَاوِي يَطْلُبُونَ مِنْهُ حَقَّ بَعْضِهِمْ. ثُمَّ لَمَّا
كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ تَاسِعِهِ قَدِمَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
مُقَدَّمُ الْبَرِيدِيَّةِ بِطَلَبِ الْحَاجِبِ الْمَذْكُورِ، فَأُخْرِجَ مِنَ
الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَجَاءَ إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، فَقَبَّلَ
قَدَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَرَكِبَ مِنْ يَوْمِهِ قَاصِدًا إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةَ مُكَرَّمًا، وَخَرَجَ بَيْنَ يَدَيْهِ خَلْقٌ مِنَ
الْعَوَامِّ وَالْحَرَافِيشِ يَدْعُونَ لَهُ، وَهَذَا أَغْرَبُ مَا أُرِّخَ،
فَهَذَا الرَّجُلُ نَالَتْهُ شِدَّةٌ عَظِيمَةٌ بِسَبَبِ سَجْنِهِ بِصَرْخَدَ،
ثُمَّ أُفْرِجَ عَنْهُ، ثُمَّ حُبِسَ فِي قَلْعَةِ دِمَشْقَ، ثُمَّ أُفْرِجَ عَنْهُ،
وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي نَحْوِ شَهْرٍ.
ثُمَّ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ ثَانِيَ عَشَرَ جُمَادَى
الْأُولَى بِعَزْلِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ عَنْ دِمَشْقَ، فَلَمْ يَرْكَبْ فِي
الْمَوْكِبِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَلَا حَضَرَ فِي دَارِ الْعَدْلِ، ثُمَّ
تَحَقَّقَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ، وَبِذَهَابِهِ إِلَى نِيَابَةِ حَلَبَ،
وَمَجِيءِ نَائِبِ حَلَبَ إِلَى دِمَشْقَ، فَتَأَسَّفَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ
عَلَيْهِ; لِدِيَانَتِهِ، وَجُودِهِ، وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ،
وَلَكِنَّ حَاشِيَتَهُ لَا يُنَفِّذُونَ أَوَامِرَهُ، فَتَوَلَّدَ بِسَبَبِ ذَلِكَ
فَسَادٌ عَرِيضٌ، وَحَمَوْا
كَثِيرًا مِنَ
الْبِلَادِ، فَوَقَعَتِ الْحُرُوبُ بَيْنَ أَهْلِهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَهَاجَتِ
الْعَشِيرَاتُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ السَّبْتِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ خَرَجَ الْأَمِيرُ
عَلِيٌّ الْمَارِدَانِيُّ مِنْ دِمَشْقَ فِي طُلْبِهِ مُسْتَجْمِلًا فِي أُبَّهَةِ
النِّيَابَةِ، قَاصِدًا إِلَى حَلَبَ الْمَحْرُوسَةَ، وَقَدْ ضَرَبَ وَطَاقَهَ
بِوَطْأَةِ بَرْزَةَ، فَخَرَجَ النَّاسُ لِلتَّفَرُّجِ عَلَى طُلْبِهِ. وَفِي
هَذَا الْيَوْمِ بَعْدَ خُرُوجِ النَّائِبِ بِقَلِيلٍ دَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ طَيْدَمُرُ الْحَاجِبُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَائِدًا إِلَى
وَظِيفَةِ الْحُجُوبِيَّةِ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَتَلَقَّاهُ النَّاسُ
بِالشُّمُوعِ، وَدَعَوْا لَهُ، ثُمَّ رَكِبَ مِنْ يَوْمِهِ إِلَى خِدْمَةِ مَلِكِ
الْأُمَرَاءِ إِلَى وَطْأَةِ بَرْزَةَ، فَقَبَّلَ يَدَهُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ
مَلِكُ الْأُمَرَاءِ، وَاصْطَلَحَا.
دُخُولُ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ مَنْجَكَ إِلَى دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ
كَانَ ذَلِكَ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْخَمِيسِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
جُمَادَى الْآخِرَةِ، مِنْ نَاحِيَةِ حَلَبَ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْأُمَرَاءُ
وَالْجَيْشُ عَلَى الْعَادَةِ، وَأُوقِدَتِ الشُّمُوعُ وَخَرَجَ النَّاسُ،
وَمِنْهُمْ مَنْ بَاتَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى الْأَسْطِحَةِ، وَكَانَ يَوْمًا
هَائِلًا.
وَفِي أَوَاخِرِ شَهْرِ رَجَبٍ بَرَزَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ إِلَى الرَّبْوَةِ،
وَأَحْضَرَ الْقُضَاةَ، وَوُلَاةَ
الْأُمُورِ، وَرَسَمَ
بِإِحْضَارِ الْمُفْتِينَ - وَكُنْتُ فِيمَنْ طُلِبَ يَوْمَئِذٍ إِلَى الرَّبْوَةِ
فَرَكِبْتُ إِلَيْهَا - وَكَانَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ عَزَمَ يَوْمَئِذٍ عَلَى
تَخْرِيبِ الْمَنَازِلِ الْمَبْنِيَّةِ بِالرَّبْوَةِ، وَغَلْقِ الْحَمَّامِ مِنْ
أَجْلِ هَذِهِ، فِيمَا ذُكِرَ أَنَّهَا بُنِيَتْ لِيُقْضَى فِيهَا، وَهَذَا
الْحَمَّامُ أَوْسَاخُهُ صَائِرَةٌ إِلَى النَّهْرِ الَّذِي يَشْرَبُ مِنْهُ
النَّاسُ، فَاتَّفَقَ الْحَالُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ عَلَى إِبْقَاءِ الْمَسَاكِنِ،
وَرَدِّ الْمُرْتَفَقَاتِ الْمُسَلَّطَةِ عَلَى ثَوْرَا وَبَانَاسَ، وَيَتْرُكُ
مَا هُوَ مُسَلَّطٌ عَلَى بَرَدَى، فَانْكَفَّ النَّاسُ عَنِ الذَّهَابِ إِلَى
الرَّبْوَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَرُسِمَ يَوْمَئِذٍ بِتَضْيِيقِ أَكْمَامِ
النِّسَاءِ، وَأَنْ تُزَالَ الْأَجْرَاسُ وَالرُّكُبُ عَنِ الْحَمِيرِ الَّتِي
لِلْمُكَارِيَّةِ.
وَفِي أَوَائِلِ شَهْرِ شَعْبَانَ رَكِبَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقِفَ عَلَى الْحَائِطِ الرُّومِيِّ الَّذِي
بِالرَّحْبَةِ، فَخَافَ أَهْلُ الْأَسْوَاقِ، وَغَلَّقُوا دَكَاكِينَهُمْ عَنْ
آخِرِهِمْ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ أَمَرَ بِذَلِكَ، فَغَضِبَ
مِنْ ذَلِكَ، وَتَنَصَّلَ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ بِهَدْمِ الْحَائِطِ
الْمَذْكُورِ، وَأَنْ يَنْقُلَ إِلَى الْعِمَارَةِ الَّتِي اسْتَجَدَّهَا خَارِجَ
بَابِ النَّصْرِ فِي دَارِ الصِّنَاعَةِ الَّتِي إِلَى جَانِبِ دَارِ الْعَدْلِ،
أَمَرَ بِبِنَائِهَا خَانًا، وَنُقِلَتْ تِلْكَ الْأَحْجَارُ إِلَيْهَا.
عَزْلُ الْقُضَاةِ الثَّلَاثَةِ بِدِمَشْقَ
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ تَاسِعُ شَعْبَانَ قَدِمَ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ بَرِيدِيٌّ وَمَعَهُ تَذْكِرَةٌ وَرِقَّةٌ فِيهَا السَّلَامُ عَلَى
الْقُضَاةِ الْمُسْتَجَدِّينَ، وَأَخْبَرَ بِعَزْلِ الْقَاضِي الشَّافِعِيِّ،
وَالْحَنَفِيِّ،
وَالْمَالِكِيِّ، وَأَنَّهُ وَلِيَ قَضَاءَ الشَّافِعِيَّةِ الْقَاضِي بَهَاءُ
الدِّينِ أَبُو الْبَقَاءِ السُّبْكِيُّ، وَقَضَاءَ الْحَنَفِيَّةِ الشَّيْخُ
جَمَالُ الدِّينِ بْنُ السَّرَّاجِ الْحَنَفِيُّ، وَذَهَبَ النَّاسُ إِلَى
السَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَالتَّهْنِئَةِ لَهُمْ، وَاحْتَفَلُوا بِذَلِكَ،
وَأَخْبَرُوا أَنَّ الْقَاضِي الْمَالِكِيَّ سَيَقْدَمُ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ. وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
شَعْبَانَ، وَصَلَ الْبَرِيدُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَمَعَهُ
تَقْلِيدَانِ وَخِلْعَتَانِ لِلْقَاضِي الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي الْحَنَفِيِّ،
فَلَبِسَا الْخِلْعَتَيْنِ، وَجَاءَا مِنْ دَارِ السَّعَادَةِ إِلَى الْجَامِعِ
الْأُمَوِيِّ، وَجَلَسَا فِي مِحْرَابِ الْمَقْصُورَةِ، وَقَرَأَ تَقْلِيدَ قَاضِي
الْقُضَاةِ بَهَاءِ الدِّينِ أَبِي الْبَقَاءِ الشَّافِعِيِّ الشَّيْخُ نُورُ
الدِّينِ بْنُ الصَّارِمِ الْمُحَدِّثُ عَلَى السُّدَّةِ تُجَاهَ الْمِحْرَابِ،
وَقَرَأَ تَقْلِيدَ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ السَّرَّاجِ
الْحَنَفِيِّ الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ السَّرَّاجِ الْمُحَدِّثُ أَيْضًا
عَلَى السُّدَّةِ، ثُمَّ حَكَمَا هُنَالِكَ، ثُمَّ جَاءَ مَعًا إِلَى
الْغَزَّالِيَّةِ، فَدَرَّسَ بِهَا قَاضِي الْقُضَاةِ بَهَاءُ الدِّينِ أَبُو
الْبَقَاءِ، وَجَلَسَ الْحَنَفِيُّ إِلَى جَانِبِهِ عَنْ يَمِينِهِ، وَحَضَرْتُ
عِنْدَهُ، فَأَخَذَ فِي صِيَامِ يَوْمِ الشَّكِّ، ثُمَّ جَاءَا مَعًا إِلَى
الْمَدْرَسَةِ النُّورِيَّةِ، فَدَرَّسَ بِهَا قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ
الْمَذْكُورُ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ بَهَاءُ الدِّينِ، وَذَكَرُوا
أَنَّهُ أَخَذَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ الْآيَةَ [ النِّسَاءِ: 135 ] ثُمَّ انْصَرَفَ بَهَاءُ
الدِّينِ إِلَى الْمَدْرَسَةِ الْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ، فَدَرَّسَ بِهَا
قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ
إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ
الْآيَةَ [ النِّسَاءِ: 58 ].
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَامِنِ شَهْرِ رَمَضَانَ دَخَلَ الْقَاضِي
الْمَالِكِيُّ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَلَبِسَ الْخِلْعَةَ يَوْمَئِذٍ،
وَدَخَلَ الْمَقْصُورَةَ مِنَ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَقُرِئَ هُنَالِكَ
تَقْلِيدُهُ بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ - قَرَأَهُ الشَّيْخُ نُورُ
الدِّينِ بْنُ الصَّارِمِ الْمُحَدِّثُ - وَهُوَ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ
الدِّينِ أَحْمَدُ ابْنُ الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ
الشَّيْخِ شَمْسِ
الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَسْكَرٍ الْعِرَاقِيُّ الْبَغْدَادِيُّ، قَدِمَ الشَّامَ
مِرَارًا، ثُمَّ اسْتَوْطَنَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ بَعْدَ مَا حَكَمَ
بِبَغْدَادَ نِيَابَةً عَنْ قُطْبِ الدِّينِ الْأَخَوَيْنِ، وَدَرَّسَ
بِالْمُسْتَنْصِرِيَّةِ بَعْدَ أَبِيهِ، وَحَكَمَ بِدِمْيَاطَ أَيْضًا، ثُمَّ
نُقِلَ إِلَى قَضَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بِدِمَشْقَ، وَهُوَ شَيْخٌ حَسَنٌ، كَثِيرُ
التَّوَدُّدِ، وَمُسَدَّدُ الْعِبَارَةِ، حَسَنُ الْبِشْرِ عِنْدَ اللِّقَاءِ،
مَشْكُورٌ، فِي مُبَاشَرَتِهِ عِفَّةٌ وَنَزَاهَةٌ وَكَرَمٌ، اللَّهُ يُوَفِّقُهُ
وَيُسَدِّدُهُ.
مَسْكِ الْأَمِيرِ صَرْغَتْمُشَ أَتَابَكِ الْأُمَرَاءِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
وَرَدَ الْخَبَرُ إِلَيْنَا بِمَسْكِهِ يَوْمَ السَّبْتِ الْخَامِسَ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ هَذَا، وَأَنَّهُ قُبِضَ عَلَيْهِ بِحَضْرَةِ
السُّلْطَانِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الْعِشْرِينَ مِنْهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَتِ
الرِّوَايَةُ فِي قَتْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ احْتِيطَ عَلَى حَوَاصِلِهِ
وَأَمْوَالِهِ، وَصُودِرَ أَصْحَابُهُ وَأَتْبَاعُهُ، فَكَانَ فِيمَنْ ضُرِبَ
وَعُصِرَ تَحْتَ الْمُصَادَرَةِ الْقَاضِي ضِيَاءُ الدِّينِ ابْنُ خَطِيبِ بَيْتِ
الْآبَارِ، وَاشْتَهَرَ أَنَّهُ مَاتَ تَحْتَ الْعُقُوبَةِ، وَقَدْ كَانَ
مَقْصِدًا لِلْوَارِدِينَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، لَا سِيَّمَا أَهْلُ
بَلْدَةِ دِمَشْقَ، وَقَدْ بَاشَرَ عِدَّةَ وَظَائِفَ، وَكَانَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ
قَدْ فُوِّضَ إِلَيْهِ نَظَرُ جَمِيعِ الْأَوْقَافِ بِبِلَادِ السُّلْطَانِ،
وَتَكَلَّمَ فِي أَمْرِ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ وَغَيْرِهِ، فَحَصَلَ بِسَبَبِ
ذَلِكَ قَطْعُ أَرْزَاقِ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْكَتَبَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَالَأَ
الْأَمِيرَ صَرْغَتْمُشَ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ خَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ، فَهَلَكَ
بِسَبَبِهِ وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ.
إِعَادَةُ الْقُضَاةِ
وَقَدْ كَانَ صَرْغَتْمُشُ عَزَلَ الْقُضَاةَ الثَّلَاثَةَ بِدِمَشْقَ; وَهُمُ
الشَّافِعِيُّ، وَالْحَنَفِيُّ، وَالْمَالِكِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَزَلَ
قَبْلَهُمُ ابْنَ جَمَاعَةَ، وَوَلَّى ابْنَ عَقِيلٍ، فَلَمَّا مُسِكَ
صَرْغَتْمُشُ رَسَمَ السُّلْطَانُ بِإِعَادَةِ الْقُضَاةَ عَلَى مَا كَانُوا
عَلَيْهِ، وَلَمَّا وَرَدَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ إِلَى دِمَشْقَ امْتَنَعَ
الْقُضَاةُ الثَّلَاثَةُ مِنَ الْحُكْمِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ حَضَرُوا لَيْلَةَ
الْعِيدِ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَرَكِبُوا مَعَ
النَّائِبِ صَبِيحَةَ الْعِيدَ إِلَى الْمُصَلَّى عَلَى عَادَةِ الْقُضَاةِ،
وَهُمْ عَلَى وَجِلٍ، وَقَدِ انْتَقَلُوا مِنْ مَدَارِسِ الْحُكْمِ، فَرَجَعَ
قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْبَقَاءِ الشَّافِعِيُّ إِلَى بُسْتَانِهِ
بِالزُّعَيْفَرِيَّةِ، وَرَجَعَ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ
السَّرَّاجِ إِلَى دَارِهِ بِالتَّعْدِيلِ. وَارْتَحَلَ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ
الدِّينِ الْمَالِكِيُّ إِلَى الصَّالِحِيَّةِ دَاخِلَ الصِّمْصَامِيَّةِ،
وَتَأَلَّمَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِسَبَبِهِ; لِأَنَّهُ قَدْ قَدِمَ غَرِيبًا
مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَهُوَ فَقِيرٌ وَتَدَيَّنَ، وَقَدْ بَاشَرَ
الْحُكْمَ جَيِّدًا، ثُمَّ تَبَيَّنَ بِأَخَرَةٍ أَنَّهُ لَمْ يُعْزَلْ، وَأَنَّهُ
مُسْتَمِرٌّ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، فَفَرِحَ أَصْحَابُهُ وَأَحْبَابُهُ وَكَثِيرٌ
مِنَ النَّاسِ بِذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ رَابِعُ شَوَّالٍ قَدِمَ
الْبَرِيدُ، وَصُحْبَتَهُ تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ
الدِّينِ بْنِ السُّبْكِيِّ، وَتَقْلِيدُ الْحَنَفِيِّ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفِ
الدِّينِ الْكَفْرِيِّ، وَاسْتَمَرَّ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ الدِّينِ
الْمَالِكِيُّ الْعِرَاقِيُّ عَلَى قَضَاءِ الْمَالِكِيَّةِ; لِأَنَّ السُّلْطَانَ
تَذَكَّرَ أَنَّهُ كَانَ شَافَهَهُ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ بِالشَّامِ،
وَسَيَّرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى دِمَشْقَ، فَحُمِدَتْ سِيرَتُهُ كَمَا حَسُنَتْ
سَرِيرَتُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَفَرِحَ النَّاسُ لَهُ بِذَلِكَ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ تُوُفِّيَ الْمُحَدِّثُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ
سَعْدِ الدِّينِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ الْحَنْبَلِيُّ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ ثَالِثَهُ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِالسَّفْحِ، وَقَدْ قَارَبَ
السِّتِّينَ، وَكَتَبَ
كَثِيرًا وَخَرَّجَ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِأَسْمَاءِ
الْأَجْزَاءِ وَرُوَاتِهَا مِنَ الشُّيُوخِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَقَدْ كَتَبَ
لِلْحَافِظِ الْبِرْزَالِيِّ قِطْعَةً كَبِيرَةً مِنْ مَشَايِخِهِ، وَخَرَّجَ لَهُ
عَنْ كُلٍّ حَدِيثًا أَوْ أَكْثَرَ، وَأَثْبَتَ لَهُ مَا سَمِعَهُ عَنْ كُلٍّ
مِنْهُمْ، وَلَمْ يَتِمَّ حَتَّى تُوُفِّيَ الْبِرْزَالِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَتُوُفِّيَ بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ الْمَرْجَانِيِّ، بَانِي جَامِعِ الْفَوْقَانِيِّ،
وَكَانَ مَسْجِدًا فِي الْأَصْلِ فَبَنَاهُ جَامِعًا، وَجَعَلَ فِيهِ خُطْبَةً،
وَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ خَطَبَ فِيهِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ
وَسَبْعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ.
وَبَلَغَنَا مَقْتَلُ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بْنِ فَضْلِ بْنِ عِيسَى بْنِ
مُهَنَّا أَحَدِ أُمَرَاءِ الْأَعْرَابِ الْأَجْوَادِ الْأَنْجَادِ، وَقَدْ وَلِيَ
إِمْرَةَ آلِ مُهَنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ كَمَا وَلِيَهَا أَبُوهُ مِنْ قَبْلِهِ;
عَدَا عَلَيْهِ بَعْضُ بَنِي عَمِّهِ فَقَتَلَهُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ بِقَتْلِهِ،
كَمَا ذُكِرَ، لَكِنْ لَمَّا حَمَلَ عَلَيْهِ السَّيْفَ أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ
عَنْ نَفْسِهِ وَيَتَّقِيَهُ، فَضَرَبَهُ بِسَيْفٍ فِي رَأْسِهِ فَفَلَقَهُ،
فَلَمْ يَعِشْ بَعْدَهَا غَيْرَ أَيَّامًا قَلَائِلَ وَمَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
آمِينَ.
عَزْلُ مَنْجَكَ عَنْ دِمَشْقَ
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ ثَامِنُ ذِي الْحِجَّةِ قَدِمَ أَمِيرٌ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَمَعَهُ تَقْلِيدُ نَائِبِ دِمَشْقَ ; وَهُوَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ مَنْجَكُ بِنِيَابَةِ صَفَدَ الْمَحْرُوسَةِ،
فَأَصْبَحَ مِنَ
الْغَدِ - وَهُوَ يَوْمُ
عَرَفَةَ - وَقَدِ انْتَقَلَ مِنْ دَارِ السَّعَادَةِ إِلَى سَطْحِ الْمِزَّةِ
قَاصِدًا إِلَى صَفَدَ الْمَحْرُوسَةِ، فَعَمِلَ الْعِيدَ بِسَطْحِ الْمِزَّةِ،
ثُمَّ تَرْحَلُ نَحْوَ صَفَدَ، وَطَمِعَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
وَالْخَمَّارِينِ وَغَيْرِهِمْ، وَفَرِحُوا بِزَوَالِهِ عَنْهُمْ.
وَفِي يَوْمِ الْعِيدِ قُرِئَ كِتَابُ السُّلْطَانِ بِدَارِ السَّعَادَةِ عَلَى
الْأُمَرَاءِ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِاسْتِنَابَةِ أَمِيرِ عَلِيَّ
الْمَارِدَانِيِّ عَلَيْهِمْ، وُعَوْدِهِ إِلَيْهِ، وَالْأَمْرِ بِطَاعَتِهِ،
وَتَعْظِيمِهِ، وَاحْتِرَامِهِ، وَالشُّكْرِ لَهُ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ،
وَقَدِمَ الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ صُبْحٍ مِنْ نِيَابَةِ صَفَدَ،
وَنَزَلَ بِدَارِهِ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ بِالْقُرْبِ مِنَ الشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ. وَوَصَلَ الْبَرِيدُ يَوْمَ السَّبْتِ الْحَادِيَ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ بِنَفْيِ حَاجِبِ الْحُجَّابِ طَيْدَمُرَ
الْإِسْمَاعِيلِيِّ إِلَى مَدِينَةِ حَمَاةَ بَطَّالًا مِنْ سَرْجَيْنِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
سِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَالشَّامِيَّةِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْمَمَالِكِ الْإِسْلَامِيَّةِ -
الْمَلِكُ النَّاصِرُ حَسَنٌ ابْنُ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ
ابْنِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ الصَّالِحِيُّ، وَقُضَاتُهُ
بِمِصْرَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَنَائِبُهُ
بِدِمَشْقَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ أَمِيرُ عَلِيٌّ الْمَارِدَانِيُّ،
وَقُضَاةُ الشَّامِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا غَيْرَ
الْمَالِكِيِّ، فَإِنَّهُ عُزِلَ جَمَالُ الدِّينِ الْمَسَلَّاتِيُّ بِالْقَاضِي
شَرَفِ الدِّينِ الْعِرَاقِيِّ، وَحَاجِبُ الْحُجَّابِ الْأَمِيرُ شِهَابِ
الدِّينِ بْنُ صُبْحٍ، وَخَطِيبُ الْبَلَدِ، وَكَاتِبُ سِرِّهَا الْمَذْكُورَانِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثِ الْمُحَرَّمِ دَخَلَ الْأَمِيرُ
عَلَاءُ الدِّينِ أَمِيرُ عَلِيٌّ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ إِلَى دِمَشْقَ مِنْ
نِيَابَةِ حَلَبَ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِهِ، وَتَلَقَّوْهُ إِلَى أَثْنَاءِ
الطَّرِيقِ، وَحَمَلَتْ لَهُ الْعَامَّةَ الشُّمُوعَ فِي طُرُقَاتِ الْبَلَدِ،
وَلَبِسَ الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ صُبْحٍ خِلْعَةَ الْحِجَابَةِ
الْكَبِيرَةِ بِدِمَشْقَ عِوَضًا عَنْ نِيَابَةِ صَفَدَ.
، وَوَرَدَتْ كُتُبُ الْحُجَّاجِ يَوْمَ السَّبْتِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْهُ
مُؤَرَّخَةً سَابِعَ عِشْرِينَ ذِي الْحِجَّةِ مِنَ الْعُلَا - وَذَكَرُوا أَنَّ
صَاحِبَ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ عَدَا عَلَيْهِ فِدَاوِيَّانِ عِنْدَ
لُبْسِهِ خِلْعَةَ
السُّلْطَانِ، وَقْتَ دُخُولِ الْمَحْمَلِ إِلَى الْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ،
فَقَتْلَاهُ، فَعَدَتْ عَبِيدُهُ عَلَى الْحَجِيجِ الَّذِينَ هُمْ دَاخِلَ الْمَدِينَةِ،
فَنَهَبُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَقَتَلُوا بَعْضَهُمْ وَخَرَجُوا، وَكَانُوا قَدْ
أَغْلَقُوا أَبْوَابَ الْمَدِينَةِ دُونَ الْجَيْشِ فَأُحْرِقَ بَعْضُهَا،
وَدَخَلَ الْجَيْشُ السُّلْطَانِيُّ، فَاسْتَنْقَذُوا النَّاسَ مِنْ أَيْدِي
الظَّالِمِينَ. وَدَخَلَ الْمَحْمَلُ السُّلْطَانِيُّ إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ
السَّبْتِ الْعِشْرِينَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ عَلَى عَادَتِهِ، وَبَيْنَ يَدَيِ
الْمَحْمَلِ الْفِدَاوِيَّانِ اللَّذَانِ قَتَلَا صَاحِبَ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ
ذُكِرَتْ عَنْهُ أُمُورٌ شَنِيعَةٌ بَشِعَةٌ; مِنْ غُلُوِّهِ فِي الرَّفْضِ
الْمُفْرِطِ، وَمِنْ قَوْلِهِ إِنَّهُ لَوْ تَمَكَّنَ لَأَخْرَجَ الشَّيْخَيْنِ
مِنَ الْحُجْرَةِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ عِبَارَاتٍ مُؤَدِّيَةٍ لِعَدَمِ
إِيمَانِهِ، إِنْ صَحَّ عَنْهُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَادِسِ صَفَرٍ مُسِكَ الْأَمِيرُ شِهَابُ
الدِّينِ بْنُ صُبْحٍ حَاجِبُ الْحُجَّابِ، وَوَلَدَاهُ الْأَمِيرَانِ، وَحُبِسُوا
فِي الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، ثُمَّ سَافَرَ بِهِ الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ
بْنُ جَارَبِكَ بَعْدَ أَيَّامٍ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَفِي رِجْلِ
ابْنِ صُبْحٍ قَيْدٌ، وَذُكِرَ أَنَّهُ فُكَّ مِنْ رِجْلِهِ فِي أَثْنَاءِ
الطَّرِيقِ. وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَالِثَ عَشَرَ صَفَرٍ قَدِمَ نَائِبُ
طَرَابُلُسَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ عَبْدُ الْغَنِيِّ، فَأُدْخِلَ الْقَلْعَةَ،
ثُمَّ سَافَرَ بِهِ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُحْتَفِظًا بِهِ مُضَيِّقًا عَلَيْهِ، وَجَاءَ
الْخَبَرُ بِأَنَّ مَنْجَكَ سَافَرَ مِنْ صَفَدَ عَلَى الْبَرِيدِ مَطْلُوبًا
إِلَى السُّلْطَانِ، فَلَمَّا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَزَّةَ بَرِيدٌ وَاحِدٌ
دَخَلَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ خَدَمِهِ التِّيهَ فَارًّا مِنَ السُّلْطَانِ، وَحِينَ
وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى نَائِبِ غَزَّةَ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِهِ فَأَعْجَزَهُ،
وَتَفَارَطَ الْأَمْرُ.
مَسْكُ الْأَمِيرِ
عَلِيٍّ الْمَارِدَانِيِّ نَائِبِ الشَّامِ
وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّهُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الثَّانِي
وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، رَكِبَ الْجَيْشُ إِلَى تَحْتِ الْقَلْعَةِ
مُلْبِسِينَ، وَضُرِبَتِ الْبَشَائِرُ فِي الْقَلْعَةِ فِي نَاحِيَةِ
الطَّارِمَةِ، وَجَاءَ الْأُمَرَاءُ بِالطَّبْلَخَانَاهْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ،
وَالْقَائِمُ بِأَعْبَاءِ الْأَمْرِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْدَمُرُ
الْحَاجِبُ، وَنَائِبُ السَّلْطَنَةِ دَاخِلَ دَارِ السَّعَادَةِ، وَالرُّسُلُ
مُرَدَّدَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَيْشِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَحُمِلَ عَلَى سُرُوجٍ
يَسِيرَةٍ مُحْتَاطًا عَلَيْهِ إِلَى نَاحِيَةِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَاسْتَوْحَشَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ عِنْدَ بَابِ النَّصْرِ، فَتَبَاكَى النَّاسُ
رَحْمَةً لَهُ، وَأَسَفَةً عَلَيْهِ; لِدِيَانَتِهِ، وَقِلَّةِ أَذِيَّتِهِ، وَأَذِيَّةِ
الرَّعِيَّةِ، وَإِحْسَانِهِ إِلَى الْعُلَمَاءِ، وَالْفُقَرَاءِ، وَالْقُضَاةِ.
ثُمَّ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْخَمِيسِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ احْتِيطَ
عَلَى الْأُمَرَاءِ الثَّلَاثَةِ; وَهُمُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طَيْبُغَا
حَاجِّي أَحَدُ مُقَدَّمِي الْأُلُوفِ، وَالْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُطْلِيجَا
الدَّوَادَارُ أَحَدُ الْمُقَدَّمَيْنِ أَيْضًا، وَالْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ
أَيْدُغْمُشُ الْمَارِدَانِيُّ أَحَدُ أُمَرَاءِ الطَّبْلَخَانَاهْ، وَكَانَ
هَؤُلَاءِ مِمَّنْ حَضَرَ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ الْمَذْكُورَ، وَهُمْ جُلَسَاؤُهُ
وَسُمَّارُهُ، وَالَّذِينَ بِسِفَارَتِهِ أُعْطُوا الْأَخْبَازَ،
وَالطَّبْلَخَانَاهْ، وَالتَّقَادُمَ، فَرُفِعُوا إِلَى الْقَلْعَةِ
الْمَنْصُورَةِ مُعْتَقَلِينَ بِهَا مَعَ مَنْ بِهَا مِنَ الْأُمَرَاءِ، ثُمَّ
وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْأَمِيرَ عَلِيًّا رُدَّ مِنَ الطَّرِيقِ بَعْدَ
مُجَاوَزَتِهِ غَزَّةَ، وَأُرْسِلَ إِلَيْهِ بِتَقْلِيدِ نِيَابَةِ صَفَدَ
الْمَحْرُوسَةِ، فَتَمَاثَلَ الْحَالُ، وَفَرِحَ بِذَلِكَ أَصْحَابُهُ
وَأَحْبَابُهُ، وَقَدِمَ مُتَسَلِّمُ نَائِبِ دِمَشْقَ
الَّذِي خُلِعَ عَلَيْهِ
بِنِيَابَتِهَا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَادِسَ عَشَرَ
شَهْرِ رَجَبٍ بَعْدَ أَنِ اسْتَعْفَى مِنْ ذَلِكَ مِرَارًا، وَبَاسَ الْأَرْضَ
مِرَارًا، فَلَمْ يُعْفِهِ السُّلْطَانُ; وَهُوَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَسَنْدَمُرُ
أَخُو يَلْبُغَا الْيَحْيَاوِيِّ، الَّذِي كَانَ نَائِبَ الشَّامِ، وَبِنْتُهُ
الْيَوْمَ زَوْجَةُ السُّلْطَانِ، قَدِمَ مُتَسَلِّمُهُ إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ
الْخَمِيسَ سَلْخَ الشَّهْرِ، فَنَزَلَ فِي دَارِ السَّعَادَةِ، وَرَاحَ
الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَالتَّوَدُّدِ إِلَيْهِ،
وَحُمِلَتْ إِلَيْهِ الضِّيَافَاتُ، وَالتَّقَادُمُ.
كَائِنَةٌ وَقَعَتْ بِقَرْيَةِ حَوْرَانَ فَأَوْقَعَ اللَّهُ بِهِمْ بَأْسًا
شَدِيدًا فِي هَذَا الشَّهْرِ الشَّرِيفِ
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَشْهَرُ أَهْلِ قَرْيَةٍ بِحَوْرَانَ، وَهِيَ خَاصٌّ
لِنَائِبِ الشَّامِ وَهُمْ حَلَبِيَّةُ يَمَنٍ، وَيُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لَبْسَهْ،
وَبَنِي نَاشِي، وَهِيَ حَصِينَةٌ مَنِيعَةٌ، يَضْوِي إِلَيْهَا كُلُّ مُفْسِدٍ،
وَقَاطِعٍ، وَمَارِقٍ، وَلَجَأَ إِلَيْهِمْ أَحَدُ شَيَاطِينِ رُوسِ الْعَشِيرِ،
وَهُوَ عُمَرُ الْمَعْرُوفُ بِالدُّنِيطِ، فَأَعَدُّوا عُدَدًا كَثِيرَةً،
وَنَهَبُوا لِيَغْنَمُوا الْعَشِيرَ، وَفِي هَذَا الْحِينِ بَدَرَهُمْ وَالِي
الْوُلَاةِ الْمَعْرُوفُ بِشَنْكَلَ مَنْكَلَ، فَجَاءَ إِلَيْهِمْ لِيَرُدَّهُمْ،
وَيَهْدِيَهُمْ، وَطَلَبَ مِنْهُمْ عُمَرَ الدُّنِيطَ فَأَبَوْا عَلَيْهِ،
وَرَامُوا مُقَاتَلَتَهُ، وَهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَجَمٌّ غَفِيرٌ، فَتَأَخَّرَ
عَنْهُمْ، وَكَتَبَ إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ لِيَمُدَّهُ بِجَيْشٍ عَوْنًا
لَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَمْثَالِهِمْ، فَجَهَّزَ لَهُ جَمَاعَةً مِنْ أُمَرَاءِ
الطَّبْلَخَانَاهْ، وَالْعَشَرَاوَاتِ وَمِائَةً مِنْ جُنْدِ الْحَلْقَةِ
الرُّمَاةِ، فَلَمَّا بَغَتَهُمْ فِي بَلَدِهِمْ تَجَمَّعُوا لِقِتَالِ
الْعَسْكَرِ، وَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ وَالْمَقَالِيعِ، وَحَجَزُوا
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَلَدِ،
فَعِنْدَ ذَلِكَ رَمَتْهُمُ الْأَتْرَاكُ بِالنِّبَالِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ،
فَقَتَلُوا مِنْهُمْ فَوْقَ الْمِائَةِ، فَفَرُّوا رَاجِعِينَ عَلَى
أَعْقَابِهِمْ، وَأَسَرَ مِنْهُمْ وَالِي الْوُلَاةِ نَحَّوْا مِنْ سِتِّينَ
رَجُلًا، وَأَمَرَ بِقَطْعِ رُءُوسِ الْقَتْلَى وَتَعْلِيقِهَا فِي أَعْنَاقِ
هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى، وَنُهِبَتْ بُيُوتُ الْفَلَّاحِينَ كُلُّهَا، وَسُلِّمَتْ
إِلَى مَمَالِيكِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ; لَمْ يَفْقِدْ مِنْهَا مَا يُسَاوِي
ثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَكَرَّ رَاجِعًا إِلَى بُصْرَى، وَشُيُوخُ
الْعَشِيرَاتِ مَعَهُ، فَأَخْبَرَنِي الْأَمِيرُ صَلَاحُ الدِّينِ بْنُ خَاصَ
تُرْكَ - وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أُمَرَاءِ الطَّبْلَخَانَاهْ الَّذِينَ
قَاتَلُوهُمْ - بِمَبْسُوطِ مَا يَخُصُّهُ، وَأَنَّهُ كَانَ إِذَا أَعْيَا بَعْضُ
أُولَئِكَ الْأَسْرَى مِنَ الْجَرْحَى أَمَرَ الْمَشَاعِلِيَّ بِذَبْحِهِ
وَتَعْلِيقِ رَأْسِهِ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَسْرَى، وَفَعَلَ هَذَا بِهِمْ غَيْرَ
مَرَّةٍ حَتَّى إِنَّهُ قَطَعَ رَأْسَ شَابٍّ مِنْهُمْ، وَعَلَّقَ رَأَّسَهُ عَلَى
أَبِيهِ; شَيْخٍ كَبِيرٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، حَتَّى
قَدِمَ بِهِمْ بُصْرَى فَشَكَلَ طَائِفَةً مِنْ أُولَئِكَ الْمَأْسُورِينَ،
وَشَكَلَ آخَرِينَ وَوَسَّطَ الْآخَرِينَ، وَحَبَسَ بَعْضَهُمْ فِي الْقَلْعَةِ،
وَعَلَّقَ الرُّءُوسَ عَلَى أَخْشَابٍ نَصَبَهَا حَوْلَ قَلْعَةِ بُصْرَى، فَحَصَلَ
بِذَلِكَ تَنْكِيلٌ شَدِيدٌ لَمْ يَقَعْ مِثْلُهُ فِي هَذَا الْأَوَانِ بِأَهْلِ
حَوْرَانَ، وَهَذَا كُلُّهُ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، وَمَا
رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا
بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ الْأَنْعَامِ: 129 ]. فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
دُخُولُ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أَسَنْدَمُرَ
الْيَحْيَاوِيِّ
فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ حَادِيَ عَشَرَ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ كَانَ دُخُولُ الْأَمِيرِ
سَيْفِ الدِّينِ
أَسَنْدَمُرَ الْيَحْيَاوِيِّ نَائِبًا عَلَى دِمَشْقَ مِنْ جِهَةِ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَتَلَقَّاهُ النَّاسُ، وَاحْتَفَلُوا لَهُ احْتِفَالًا زَائِدًا،
وَشَاهَدْتُهُ حِينَ تَرَجَّلَ لِتَقْبِيلِ الْعَتَبَةِ وَبِعَضُدِهِ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ بَيْدَمُرُ الَّذِي كَانَ حَاجِبَ الْحُجَّابِ، وَعُيِّنَ
لِنِيَابَةِ حَلَبَ الْمَحْرُوسَةِ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَسَجَدَ عَلَى
الْعَتَبَةِ، وَقَدْ بُسِطَ لَهُ عِنْدَهَا مَفَارِشُ وَصَمَدَةٌ هَائِلَةٌ، ثُمَّ
إِنَّهُ رَكِبَ فَتَعَضَّدَهُ بَيْدَمُرُ أَيْضًا، وَسَارَ نَحْوَ الْمَوْكِبِ،
فَأَوْكَبَ ثُمَّ عَادَ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ عَلَى عَادَةِ مَنْ تَقَدَّمَهُ
مِنَ النُّوَّابِ، وَجَاءَ تَقْلِيدُ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بَيْدَمُرَ مِنْ
آخِرِ النَّهَارِ لِنِيَابَةِ حَلَبَ الْمَحْرُوسَةِ.
وَفِي آخِرِ نَهَارِ الثُّلَاثَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَرَدَ الْبَرِيدُ
الْبَشِيرِيُّ، وَعَلَى يَدِهِ مَرْسُومٌ شَرِيفٌ بِنَفْيِ الْقَاضِي بَهَاءِ
الدِّينِ أَبِي الْبَقَاءِ، وَأَوْلَادِهِ، وَأَهْلِهِ إِلَى طَرَابُلُسَ بِلَا
وَظِيفَةٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِيهِ وَمَنْ يَلِيهِ،
وَتَغَمَّمَ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَسَافَرَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ
أُذِنَ لَهُ فِي الِاسْتِنَابَةِ فِي جِهَاتِهِ، فَاسْتَنَابَ، وَلَدَهُ
الْكَبِيرَ وَلِيَّ الدِّينِ.
وَاشْتَهَرَ فِي شَوَّالٍ أَنَّ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ مَنْجَكَ الَّذِي
كَانَ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ بِالشَّامِ وَهَرَبَ، وَلَمْ يُطَّلَعْ لَهُ عَلَى
خَبَرٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا الْوَقْتِ - ذُكِرَ أَنَّهُ مُسِكَ بِبَلَدٍ
بِحَرَّانَ مِنْ مُعَامَلَةِ مَارِدِينَ فِي زِيِّ فَقِيرٍ، وَأَنَّهُ احْتُفِظَ
عَلَيْهِ، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ فَدَاوَيْهِ، وَعَجِبَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ
مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ يَظْهَرْ لِذَلِكَ حَقِيقَةٌ، وَكَانَ الَّذِينَ رَأَوْهُ
ظَنُّوا أَنَّهُ هُوَ، فَإِذَا هُوَ فَقِيرٌ مِنْ جُمْلَةِ الْفُقَرَاءِ، يُشْبِهُهُ
مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ.
وَاشْتَهَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَنَّ الْأَمِيرَ عِزَّ الدِّينِ فَيَّاضَ بْنَ مُهَنَّا مَلِكَ الْعَرَبِ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ السُّلْطَانِ، وَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْعِرَاقِ، فَوَرَدَتِ الْمَرَاسِيمُ السُّلْطَانِيَّةُ لِمَنْ بِأَرْضِ الرَّحْبَةِ مِنَ الْعَسَاكِرِ الدِّمَشْقِيَّةِ، وَهُمْ أَرْبَعَةُ مُقَدَّمِينَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَكَذَلِكَ جَيَّشُ حَلَبَ، وَغَيْرُهُ - بِتَطَلُّبِهِ، وَإِحْضَارِهِ إِلَى بَيْنِ يَدَيِ السُّلْطَانِ، فَسَعَوْا فِي ذَلِكَ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، فَعَجَزُوا عَنْ لِحَاقِهِ، وَالدُّخُولِ وَرَاءَهُ إِلَى الْبَرَارِي، وَتَفَارَطَ الْحَالُ، وَخَلَصَ إِلَى أَرْضِ الْعِرَاقِ، فَضَاقَ النِّطَاقُ، وَتَعَذَّرَ اللِّحَاقُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَسُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ حَسَنٌ ابْنُ
الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ،
وَقُضَاةُ مِصْرَ وَالشَّامِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا،
وَنَائِبُ الشَّامِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَسَنْدَمُرُ أَخُو يَلْبُغَا
الْيَحْيَاوِيِّ، وَكَاتِبُ السِّرِّ الْقَاضِي أَمِينُ الدِّينِ بْنُ
الْقَلَانِسِيِّ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ جَاءَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ الشَّيْخِ صَلَاحِ
الدِّينِ الْعَلَائِيِّ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ ثَالِثَ
الْمُحَرَّمِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بَعْدَ
صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ الرَّحْمَةِ، وَلَهُ مِنَ
الْعُمْرِ سِتٌّ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَكَانَ مُدَّةَ مُقَامِهِ بِالْقُدْسِ
مُدَرِّسًا بِالْمَدْرَسَةِ الصَّلَاحِيَّةِ وَشَيْخًا بِدَارِ الْحَدِيثِ
السُّكَّرِيَّةِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقَدْ صَنَّفَ، وَأَلَّفَ، وَجَمَعَ،
وَخَرَّجَ، وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي مَعْرِفَتِهِ الْعَالِيَ،
وَالنَّازِلَ، وَتَخْرِيجِ الْأَجْزَاءِ وَالْفَوَائِدِ، وَلَهُ مُشَارَكَةٌ
قَوِيَّةٌ فِي الْفِقْهِ، وَاللُّغَةِ، وَالْعَرَبِيَّةِ، وَالْأَدَبِ، وَفِي
كِتَابَتِهِ ضَعْفٌ لَكِنْ مَعَ صِحَّةٍ وَضَبْطٍ لِمَا يُشْكِلُ، وَلَهُ عِدَّةُ
مُصَنَّفَاتٍ، وَبَلَغَنِي أَنَّهُ وَقَفَهَا عَلَى الْخَانِقَاهْ
السُّمَيْسَاطِيَّةِ
بِدِمَشْقَ، وَقَدْ
وَلِيَ بَعْدُهُ التَّدْرِيسَ بِالصَّلَاحِيَّةِ الْخَطِيبُ بُرْهَانُ الدِّينِ
بْنُ جَمَاعَةَ وَالنَّظَرَ بِهَا، وَكَانَ مَعَهُ تَفْوِيضٌ مِنْهُ مُتَقَدِّمُ
التَّارِيخِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّادِسِ مِنْ مُحَرَّمٍ احْتِيطَ عَلَى مُتَوَلِّي
الْبَرِّ ابْنِ بَهَادُرَ السَّنْجَرِيِّ، وَرُسِمَ عَلَيْهِ بِالْعَذْرَاوِيَّةِ;
بِسَبَبِ أَنَّهُ اتُّهِمَ بِأَخْذِ مَطْلَبٍ مِنْ نُعْمَانِ الْبَلْقَاءِ هُوَ
وَكُجْكُنُ الْحَاجِبُ، وَقَاضِي حَسَّانَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ مُرَافَعَةٌ
مِنْ خَصْمٍ عَدُوٍّ لَهُمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى رَجُلٍ يُزَوِّرُ الْمَرَاسِيمَ الشَّرِيفَةَ،
وَأُخِذَ بِسَبَبِهِ مُدَرِّسُ الصَّارِمِيَّةِ; لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ فِي
الْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ،
وَكَذَلِكَ عَلَى الشَّيْخِ زَيْنِ الدِّينِ زَيْدٍ الْمَغْرِبِيِّ الشَّافِعِيِّ،
وَذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ يَطْلُبُ مَرْسُومًا لِمَدْرَسَةِ الْأَكْزِيَّةِ،
وَضُرِبَ أَيْضًا، وَرُسِمَ عَلَيْهِ فِي حَبْسِ السَّدِّ، وَكَذَلِكَ حُبِسَ
الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ الَّذِي كَانَ مُتَوَلِّيَ الْبَلَدِ; لِأَنَّهُ
كَانَ قَدْ كَتَبَ لَهُ مَرْسُومٌ شَرِيفٌ بِالْوِلَايَةِ، فَلَمَّا فَهِمَ ذَلِكَ
كَاتِبُ السِّرِّ أَطْلَعَ عَلَيْهِ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ، فَانْفَتَحَ عَلَيْهِ
الْبَابُ، وَحُبِسُوا كُلُّهُمْ بِالسَّدِّ، وَجَاءَتْ كُتُبُ الْحُجَّاجِ
لَيْلَةَ السَّبْتِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَأَخْبَرَتْ
بِالْخِصْبِ، وَالرُّخْصِ، وَالْأَمْنِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَدَخَلَ الْمَحْمَلُ بَعْدَ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ السَّبْتِ الثَّانِي
وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، ثُمَّ دَخَلَ
الْحَجِيجُ بَعْدَهُ فِي
الطِّينِ وَالدَّحَضِ، وَقَدْ لَقُوا مِنْ ذَلِكَ مِنْ بِلَادِ حَوْرَانَ عَنَاءً
وَشِدَّةً، وَوَقَعَتْ جِمَالَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَسُبِيَتْ نِسَاءٌ كَثِيرَةٌ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَحَصَلَ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ
تَعَبٌ شَدِيدٌ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ قُطِعَتْ يَدُ
الَّذِي زَوَّرَ الْمَرَاسِيمَ، وَاسْمُهُ السَّرَّاجُ عُمَرُ الْقِفْطِيُّ
الْمِصْرِيُّ، وَهُوَ شَابٌّ كَاتِبٌ مِنْطِيقٌ - عَلَى مَا ذُكِرَ - وَحُمِلَ فِي
قَفَصٍ عَلَى جَمَلٍ، وَهُوَ مَقْطُوعُ الْيَدِ، وَلَمْ يُحْسَمْ بَعْدُ وَالدَّمُ
يَنْصَبُّ مِنْهَا، وَأُرْكِبَ مَعَهُ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ زِيدٌ عَلَى
جَمَلٍ، وَهُوَ مَنْكُوسٌ وَجْهُهُ إِلَى نَاحِيَةِ دُبُرِ الْجَمَلِ، وَهُوَ
عُرْيَانُ مَكْشُوفُ الرَّأْسِ، وَكَذَلِكَ الْبَدْرُ الْحِمْصِيُّ عَلَى جَمَلٍ
آخَرَ، وَأُرْكِبَ الْوَالِي شِهَابُ الدِّينِ عَلَى جَمَلٍ آخَرَ، وَعَلَيْهِ
تَخْفِيفَةٌ صَغِيرَةٌ، وَخُفٌّ، وَقَبَاءٌ، وَطِيفَ بِهِمْ فِي مَحَالِّ
الْبَلَدِ، وَنُودِيَ عَلَيْهِمْ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ يُزَوِّرُ عَلَى
السُّلْطَانِ، ثُمَّ أُوْدِعُوا حَبْسَ الْبَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانُوا قَبْلَ
هَذَا التَّعْزِيرِ فِي حَبْسِ السُّدِّ، وَمِنْهُ أُخِذُوا وَأُشْهِرُوا،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
مَسْكُ مَنْجَكَ، وَصِفَةُ الظُّهُورِ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ مُخْتَفِيًا
بِدِمَشْقَ قَرِيبًا مِنْ سَنَةٍ.
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ،
جَاءَ نَاصِحٌ إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
أَسَنْدَمُرَ، فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّ مَنْجَكَ فِي دَارٍ بِالشَّرَفِ الْأَعْلَى،
فَأَرْسَلَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى ذَلِكَ الْمَنْزِلِ الَّذِي هُوَ فِيهِ بَعْضَ
الْحَجَبَةِ، وَمَنْ عِنْدَهُ مِنْ
خَوَاصِّهِ - فَأُحْضِرُ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ مُحْتَفَظًا عَلَيْهِ جَدًّا، بِحَيْثُ إِنَّ بَعْضَهُمْ رَدَفَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَاحْتَضَنَهُ، فَلَمَّا وَاجَهَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ أَكْرَمَهُ، وَتَلَقَّاهُ، وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى مِقْعَدَتِهِ، وَتَلَطُّفَ بِهِ، وَسَقَاهُ، وَأَضَافَهُ - وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ صَائِمًا فَأَفْطَرَ عِنْدَهُ - وَأَعْطَاهُ مِنْ مَلَابِسِهِ، وَقَيَّدَهُ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى السُّلْطَانِ مِنْ لَيْلَتِهِ - لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ - مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْجُنْدِ وَبَعْضِ الْأُمَرَاءِ; مِنْهُمْ حُسَامُ الدِّينِ أَمِيرُ حَاجِبِ، وَقَدْ كَانَ أَرْسَلَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَلَدَهُ بِسَيْفِ مَنْجَكَ مِنْ أَوَائِلِ النَّهَارِ، وَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ جَدًّا، وَمَا كَانَ يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ عُدِمَ بِاغْتِيَالٍ أَوْ أَنَّهُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ النَّائِيَةِ، وَلَمْ يَشْعُرِ النَّاسُ أَنَّهُ فِي وَسَطِ دِمَشْقَ، وَأَنَّهُ يَمْشِي بَيْنَهُمْ مُتَنَكِّرًا، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُ الْجُمُعَاتِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَيَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ مُتَنَكِّرًا فِي لُبْسِهِ وَهَيْئَتِهِ، وَمَعَ هَذَا لَنْ يُغْنِيَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، وَأُرْسِلَ وَلَدُ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ بِالسَّيْفِ وَبِمَلَابِسِهِ الَّتِي كَانَ يَتَنَكَّرُ بِهَا، وَبُعِثَ هُوَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْحَجَبَةِ، وَغَيْرِهِمْ، وَجَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُقَيَّدًا مُحْتَفَظًا عَلَيْهِ، وَرَجَعَ ابْنُ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ بِالتُّحَفِ، وَالْهَدَايَا، وَالْخِلَعِ، وَالْأَنْعَامِ لِوَالِدِهِ، وَلِحَاجِبِ الْحُجَّابِ، وَلَبِسَ ذَلِكَ الْأُمَرَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاحْتَفَلَ النَّاسُ بِالشُّمُوعِ، وَغَيْرِهَا، ثُمَّ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ بِدُخُولِ مَنْجَكَ إِلَى السُّلْطَانِ، وَعَفْوِهِ عَنْهُ، وَخِلْعَتِهِ الْكَامِلَةِ عَلَيْهِ، وَإِطْلَاقِهِ لَهُ الْحُسَامَ، وَالْخُيُولَ الْمُسَوَّمَةَ، وَالْأَلْبِسَةَ الْمُفْتَخَرَةَ، وَالْأَمْوَالَ، وَالْأَمَانَ، وَتَقْدِيمِ الْأُمَرَاءِ وَالْأَكَابِرِ لَهُ مِنْ سَائِرِ صُنُوفِ التُّحَفِ، وَقَدِمَ الْأَمِيرُ عَلِيٌّ مِنْ صَفَدَ قَاصِدًا إِلَى حَمَاةَ لِنِيَابَتِهَا، فَنَزَلَ الْقَصْرَ الْأَبْلَقَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ رَابِعَ صَفَرٍ،
وَتَوَجَّهَ لَيْلَةَ
الْأَحَدِ سَابِعَهُ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ قَدِمَ الْقَاضِي بَهَاءُ
الدِّينِ أَبُو الْبَقَاءِ مِنْ طَرَابُلُسَ بِمَرْسُومٍ شَرِيفٍ أَنْ يَعُودَ
إِلَى دِمَشْقَ عَلَى وَظَائِفِهِ الْمُبْقَاةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ وَلَدُهُ
وَلِيُّ الدِّينِ يَنُوبُ عَنْهُ فِيهَا، فَتَلَقَّاهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ
إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، وَبَرَزَ إِلَيْهِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ
إِلَى حَرَسْتَا، وَرَاحَ النَّاسُ إِلَى تَهْنِئَتِهِ إِلَى دَارِهِ، وَفَرِحُوا
بِرُجُوعِهِ إِلَى وَطَنِهِ. وَوَقَعَ مَطَرٌ عَظِيمٌ فِي أَوَّلِ هَذَا الشَّهْرِ
- وَهُوَ أَثْنَاءُ شَهْرِ شُبَاطَ - وَثَلْجٌ عَظِيمٌ جِدًّا، فَرَوِيَتِ
الْبَسَاتِينُ الَّتِي كَانَتْ لَهَا عَنِ الْمَاءِ عِدَّةُ شُهُورٍ، وَلَا
يَحْصُلُ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ سَقْيٌ إِلَّا بِكُلْفَةٍ عَظِيمَةٍ وَمَشَقَّةٍ،
وَمَبْلَغٍ كَثِيرٍ، حَتَّى كَادَ النَّاسُ يَقْتَتِلُونَ عَلَيْهِ بِالْأَيْدِي،
وَالدَّبَابِيسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبَذْلِ الْكَثِيرِ، وَذَلِكَ فِي
شُهُورِ كَانُونَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَأَوَّلِ شُبَاطَ; وَذَلِكَ لِقِلَّةِ
مِيَاهِ الْأَنْهَارِ وَضَعْفِهَا، وَكَذَلِكَ بِلَادُ حَوْرَانَ أَكْثَرُهُمْ
يَرْوُونَ مِنْ أَمَاكِنَ بَعِيدَةٍ فِي هَذِهِ الشُّهُورِ، ثُمَّ مَنَّ اللَّهُ
تَعَالَى فَجَرَتِ الْأَوْدِيَةُ، وَكَثُرَتِ الْأَمْطَارُ، وَالثُّلُوجُ،
وَغَزُرَتِ الْأَنْهَارُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَتَوَالَتِ الْأَمْطَارُ
فَكَأَنَّهُ حَصَلَ السَّيْلُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ كَانُونَ إِلَى شُبَاطَ،
فَكَأَنَّ شُبَاطَ هُوَ كَانُونُ، وَكَانُونَ لَمْ يَسِلْ فِيهِ مِيزَابٌ وَاحِدٌ.
وَوَصَلَ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ مَنْجَكَ إِلَى
الْقُدْسِ الشَّرِيفِ; لِيَبْتَنِيَ لِلسُّلْطَانِ مَدْرَسَةً وَخَانَقَاهْ
غَرْبِيَّ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ، وَأُحْضِرَ الطَّرْخَانُ الَّذِي كُتِبَ لَهُ
بِمَاءِ الذَّهَبِ إِلَى دِمَشْقَ، وَشَاهَدَهُ النَّاسُ، وَوَقَعْتُ عَلَى
نُسْخَتِهِ وَفِيهَا تَعْظِيمٌ زَائِدٌ وَمَدْحٌ
وَثَنَاءٌ لَهُ، وَشُكْرٌ
عَلَى مُتَقَدَّمِ خِدَمِهِ لِهَذِهِ الدَّوْلَةِ، وَالْعَفْوُ عَمَّا مَضَى مِنْ
زَلَّاتِهِ، وَذِكْرُ سِيرَتِهِ بِعِبَارَةٍ حَسَنَةٍ.
وَفِي أَوَائِلِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ رُسِمَ عَلَى الْمُعَلِّمِ سَنْجَرَ
مَمْلُوكِ ابْنِ هِلَالٍ صَاحِبِ الْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ بِمَرْسُومٍ شَرِيفٍ
قَدِمَ مَعَ الْبَرِيدِ، وَطُلِبَ مِنْهُ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ،
وَاحْتِيطَ عَلَى الْعِمَارَةِ الَّتِي أَنْشَاهَا عِنْدَ بَابِ
النَّاطِفَانِيِّينَ لِيَجْعَلَهَا مَدْرَسَةً، وَرُسِمَ بِأَنْ يُعْمَرَ
مَكَانَهَا مَكْتَبٌ لِلْأَيْتَامِ، وَأَنْ يُوقَفَ عَلَيْهِمْ كِفَايَتُهُمْ
جَارِيَةً عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ رُسِمَ بِأَنْ يُجْعَلَ فِي كُلِّ مَدْرَسَةٍ
مِنْ مَدَارِسِ الْمَمْلَكَةِ الْكِبَارِ، وَهَذَا مَقْصِدٌ جَيِّدٌ، وَسُلِّمَ
الْمُعَلِّمُ سَنْجَرُ إِلَى شَادِّ الدَّوَاوِينِ يَسْتَخْلِصُ مِنْهُ
الْمَبْلَغَ الْمَذْكُورَ سَرِيعًا، فَعَاجَلَ بِحَمْلِ مِائَتَيْ أَلْفٍ،
وَسُيِّرَتْ مَعَ أَمِيرِ عَشَرَةٍ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
الِاحْتِيَاطُ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالدَّوَاوِينِ
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ خَامِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَرَدَ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَمِيرٌ مَعَهُ مَرْسُومٌ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى
دَوَاوِينِ السُّلْطَانِ; بِسَبَبِ مَا أَكَلُوا مِنَ الْأَمْوَالِ الْمُرَتَّبَةِ
لِلنَّاسِ مِنَ الصَّدَقَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَرُسِمَ
عَلَيْهِمْ بِدَارِ الْعَدْلِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَأُلْزِمُوا بِأَمْوَالٍ
جَزِيلَةٍ كَثِيرَةٍ، بِحَيْثُ احْتَاجُوا إِلَى بَيْعِ أَثَاثِهِمْ،
وَأَقْمِشَتِهِمْ، وَفُرُشِهِمْ، وَأَمْتِعَتِهِمْ، وَغَيْرِهَا، حَتَّى ذُكِرَ
أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ يُعْطِيهِ، فَأَحْضَرَ بَنَاتَهُ
إِلَى الدَّكَّةِ لِيَبِيعَهُنَّ، فَتَابَكَى النَّاسُ وَانْتَحَبُوا; رَحْمَةً
وَرِقَّةً لِأَبِيهِنَّ. ثُمَّ أُطْلِقَ بَعْضُهُمْ، وَهُمُ الضُّعَفَاءُ مِنْهُمْ
وَالْفُقَرَاءُ الَّذِينَ لَا شَيْءَ مَعَهُمْ، وَبَقِيَتِ الْغَرَامَةُ عَلَى
الْكُبَرَاءِ مِنْهُمْ كَالصَّاحِبِ، وَالْمُسْتَوْفِينَ، ثُمَّ شُدِّدَتْ
عَلَيْهِمُ الْمُطَالَبَةُ، وَضُرِبُوا ضَرْبًا مُبَرِّحًا،
وَأَلْزَمُوا الصَّاحِبَ
بِمَالٍ كَثِيرٍ، بِحَيْثُ إِنَّهُ احْتَاجَ إِلَى أَنْ سَأَلَ مِنَ الْأُمَرَاءِ
وَالْأَكَابِرِ وَالتُّجَّارِ بِنَفْسِهِ وَبِأَوْرَاقِهِ، فَأَسْعَفُوهُ
بِمَبْلَغٍ كَثِيرٍ يُقَارِبُ مَا أُلْزِمَ بِهِ، بَعْدَ أَنْ عُرِّيَ لِيُضْرَبَ،
وَلَكِنْ تُرِكَ، وَاشْتَهَرَ أَنَّهُ قَدْ عُيِّنَ عِوَضُهُ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ.
مَوْتُ فَيَّاضِ بْنِ مُهَنَّا: وَرَدَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ
الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْهُ، فَاسْتَبْشَرَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ،
وَأُرْسِلَ إِلَى السُّلْطَانِ مُبَشِّرُونَ بِذَلِكَ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ
خَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، فَمَاتَ مِيتَةَ جَاهِلِيَّةٍ
بِأَرْضِ الْعِرَاقِ، أَرْضِ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ، وَقَدْ ذُكِرَتْ عَنْ هَذَا
الْمَذْكُورِ أَشْيَاءٌ صَدَرَتْ عَنْهُ مِنْ ظُلْمِ النَّاسِ، وَالْإِفْطَارِ فِي
شَهْرِ رَمَضَانَ بِلَا عُذْرٍ، وَأَمْرِهِ أَصْحَابَهُ وَذَوِيهِ بِذَلِكَ فِي
هَذَا الشَّهْرِ الْمَاضِي، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
جَاوَزَ السَّبْعِينَ.
كَائِنَةٌ عَجِيبَةٌ جِدًّا، وَهِيَ هَدْمُ الْمُعَلِّمِ سِنْجِرِ مَمْلُوكِ ابْنِ
هِلَالٍ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ أُطْلِقَ
الْمُعَلِّمُ الْهِلَالِيُّ بَعْدَ أَنِ اسْتَوْفَوْا مِنْهُ تَكْمِيلَ
سِتِّمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَبَاتَ فِي مَنْزِلِهِ عِنْدَ بَابِ
النَّاطِفَانِيِّينَ سُرُورًا بِالْخَلَاصِ، وَلَمَّا أَصْبَحَ ذَهَبَ إِلَى
الْحَمَّامِ، وَقَدْ وَرَدَ الْبَرِيدُ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، فَأَقْبَلَتِ
الْحَجَبَةُ، وَنُقَبَاءُ النَّقَبَةِ، وَالْأَعْوَانُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ،
فَقَصَدُوا دَارَهُ، فَاحْتَاطُوا بِهَا وَعَلَيْهَا بِمَا فِيهَا، وَرُسِمَ
عَلَيْهِ وَعَلَى وَلَدَيْهِ، وَأُخْرِجَتْ نِسَاؤُهُ مِنَ الْمَنْزِلِ فِي
حَالَةٍ صَعْبَةٍ، وَفَتَّشُوا النِّسَاءَ، وَانْتَزَعُوا
عَنْهُنَّ الْحُلِيَّ
وَالْجَوَاهِرَ وَالنَّفَائِسَ، وَاجْتَمَعَتِ الْعَامَّةُ وَالْغَوْغَاءُ،
وَحَضَرَ بَعْضُ الْقُضَاةِ، وَمَعَهُ الشُّهُودُ بِضَبْطِ الْأَمْوَالِ،
وَالْحُجَجِ، وَالرُّهُونِ، وَأَحْضَرُوا الْمُعَلِّمَ لِيَسْتَعْلِمُوا مِنْهُ
جَلِيَّةَ ذَلِكَ، فَوَجَدُوا مِنْ حَاصِلِ الْفِضَّةِ أَوَّلَ يَوْمٍ
ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ وَسَبْعِينَ أَلْفًا، ثُمَّ صَنَادِيقَ أُخْرَى لَمْ
تُفْتَحْ، وَحَوَاصِلَ لَمْ يَصِلُوا إِلَيْهَا; لِضِيقِ الْوَقْتِ، ثُمَّ
أَصْبَحُوا يَوْمَ الْأَحَدِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَقَدْ بَاتَ الْحَرَسُ عَلَى
الْأَبْوَابِ وَالْأَسْطُحَةِ لِئَلَّا يُعْدَى عَلَيْهَا فِي اللَّيْلِ، وَبَاتَ
هُوَ وَأَوْلَادُهُ بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ مُحْتَفَظًا عَلَيْهِمْ، وَقَدْ
رَقَّ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لِمَا أَصَابَهُ مِنَ الْمُصِيبَةِ الْعَظِيمَةِ
بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا سَرِيعًا.
وَفِي أَوَاخِرِ هَذَا الشَّهْرِ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ
بْنُ الدَّوَادَارُ السُّكَّرِيُّ، كَانَ ذَا مَكَانَةٍ عِنْدَ أُسْتَاذِهِ
وَمَنْزِلَةٍ عَالِيَةٍ، وَنَالَ مِنَ السَّعَادَةِ فِي وَظِيفَتِهِ أَقْصَاهَا،
ثُمَّ قَلَبَ اللَّهُ قَلْبَ أُسْتَاذِهِ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ، وَصَادَرَهُ،
وَعَزَلَهُ، وَسَجَنَهُ، وَنَزَلَ قَدْرُهُ عِنْدَ النَّاسِ، وَآلَ بِهِ الْحَالُ
إِلَى أَنْ كَانَ يَقِفُ عَلَى الْبَاعَةِ بِفَرَسِهِ وَيَشْتَرِي مِنْهُمْ،
وَيُحَاكِكُهُمْ، وَيَحْمِلُ حَاجَتَهُ مَعَهُ فِي سَرْجِهِ، وَصَارَ مُثْلَةً
بَيْنَ النَّاسِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ فِيهِ
الدُّوَادَرِيَّةُ مِنَ الْعِزِّ، وَالْجَاهِ، وَالْمَالِ، وَالرِّفْعَةِ فِي
الدُّنْيَا، وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا يُرْفَعَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ
الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَحَدِ سَابِعَ عَشَرَهُ أُفْرِجَ عَنِ الْمُعَلِّمِ
الْهِلَالِيِّ وَعَنْ وَلَدَيْهِ، وَكَانُوا مُعْتَقَلِينَ بِالْقَلْعَةِ
الْمَنْصُورَةِ، وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِمْ دُورُهُمْ وَحَوَاصِلُهُمْ، وَلَكِنْ
أُخِذَ مَا كَانَ حَاصِلًا فِي دَارِهِ، وَهُوَ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرُونَ
أَلْفًا، وَخُتِمَ عَلَى حُجَجِهِ لِيُعَقَدَ لِذَلِكَ مَجْلِسٌ لِيَرْجِعَ رَأْسُ
مَالِهِ مِنْهَا; عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ
رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [ الْبَقَرَةِ: 279 ].
وَنُودِيَ عَلَيْهِ فِي الْبَلَدِ: إِنَّمَا فَعَلْنَا بِهِ ذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَا
يُؤَدِّي الزَّكَاةَ، وَيُعَامِلُ بِالرِّبَا، وَحَاجِبُ السُّلْطَانِ
وَمُتَوَلِّي الْبَلَدِ وَبَقِيَّةُ الْمُتَعَمِّمِينَ وَالْمَشَاعِلِيَّةُ
تُنَادِي عَلَيْهِ فِي أَسْوَاقِ الْبَلَدِ وَأَرْجَائِهَا.
وَفِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ وَرَدَ الْمَرْسُومُ
السُّلْطَانِيُّ الشَّرِيفُ بِإِطْلَاقِ الدَّوَاوِينِ إِلَى دِيَارِهِمْ
وَأَهَالِيهِمْ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِسَبَبِ ذَلِكَ لِخَلَاصِهِمْ مِمَّا كَانُوا
فِيهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالْمُصَادَرَةِ الْبَلِيغَةِ، وَلَكِنْ لَمْ
يَسْتَمِرَّ بِهِمْ فِي مُبَاشَرَاتِهِمْ.
وَفِي أَوَاخِرِ الشَّهْرِ تَكَلَّمَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ
الْوَاعِظُ، قَدِمَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ تُجَاهَ مِحْرَابِ
الصَّحَابَةِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَحَضَرَ مِنْ قُضَاةِ الْقُضَاةِ:
الشَّافِعِيُّ وَالْمَالِكِيُّ، فَتَكَلَّمَ عَلَى تَفْسِيرِ آيَاتٍ مِنَ
الْقُرْآنِ، وَأَشَارَ إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ إِشَارَاتِ الصُّوفِيَّةِ
بِعِبَارَاتٍ طَلْقَةٍ مُعْرَبَةٍ حُلْوَةٍ صَادِعَةٍ لِلْقُلُوبِ، فَأَفَادَ،
وَأَجَادَ، وَوَدَّعَ النَّاسَ بِعَوْدِهِ إِلَى بَلَدِهِ، وَلَمَّا دَعَا
اسْتَنْهَضَ النَّاسَ لِلْقِيَامِ، فَقَامُوا فِي حَالِ الدُّعَاءِ، وَقَدِ
اجْتَمَعْتُ بِهِ بِالْمَجْلِسِ، فَرَأَيْتُهُ حَسَنَ الْهَيْئَةِ وَالْكَلَامِ
وَالتَّأَدُّبِ، فَاللَّهُ يُصْلِحُهُ وَإِيَّانَا. آمِينَ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْآخِرَةِ رَكِبَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
بَيْدَمُرُ نَائِبُ حَلَبَ لِقَصْدِ غَزْوِ بِلَادِ سِيسَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ،
لَقَّاهُ اللَّهُ النَّصْرَ وَالتَّأْيِيدَ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ هَذَا الشَّهْرِ أَصْبَحَ أَهْلُ الْقَلْعَةِ وَقَدْ نَزَلَ
جَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْأَعْرَابِ مِنْ أَعَالِي مَحْبَسِهِمْ - فِي
عَمَائِمَ وَحِبَالٍ - إِلَى الْخَنْدَقِ، وَخَاضُوهُ، وَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِ
جِسْرِ الزَّلَابِيَّةِ،
فَانْطَلَقَ اثْنَانِ، وَأُمْسِكَ الثَّالِثُ الَّذِي تَبَقَّى فِي السَّجْنِ،
وَكَأَنَّهُ كَانَ يُمْسِكُ لَهُمُ الْحِبَالَ حَتَّى تَدَلَّوْا فِيهَا،
فَاشْتَدَّ نَكِيرُ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ عَلَى نَائِبِ الْقَلْعَةِ، وَضَرَبَ
ابْنَيْهِ النَّقِيبَ وَأَخَاهُ وَسَجَنَهُمَا، وَكَاتَبَ فِي هَذِهِ الْكَائِنَةِ
إِلَى السُّلْطَانِ، فَوَرَدَ الْمَرْسُومُ بِعَزْلِ نَائِبِ الْقَلْعَةِ
وَإِخْرَاجِهِ مِنْهَا، وَطَلَبِهِ لِمُحَاسَبَةِ مَا قَبَضَ مِنَ الْأَمْوَالِ
السُّلْطَانِيَّةِ فِي مُدَّةِ سِتِّ سِنِينَ مُبَاشَرَتِهِ، وَعَزْلِ ابْنِهِ
عَنِ النِّقَابَةِ، وَابْنِهِ الْآخَرِ عَنِ اسْتَادَّارِيَّةِ السُّلْطَانِ،
فَنَزَلُوا مِنْ عِزِّهِمْ إِلَى عَزْلِهِمْ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَابِعَ عَشْرِهِ جَاءَ الْأَمِيرُ تَاجُ الدِّينِ
جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بَيْدَمُرَ نَائِبِ حَلَبَ،
وَقَدْ فَتَحَ بَلَدَيْنِ مِنْ بِلَادِ سِيسَ، وَهُمَا طَرَسُوسُ، وَأَذَنَةُ،
وَأَرْسَلَ مَفَاتِيحَهُمَا صُحْبَةَ جِبْرِيلَ الْمَذْكُورِ إِلَى السُّلْطَانِ -
أَيَّدَهُ اللَّهُ - ثُمَّ افْتَتَحَ حُصُونًا أُخَرَ كَثِيرَةً فِي أَسْرَعِ
مُدَّةٍ، وَأَيْسَرِ كُلْفَةٍ، وَخَطَبَ هُنَاكَ الْقَاضِي نَاصِرُ الدِّينِ
كَاتِبُ السِّرِّ خُطْبَةً بَلِيغَةً حَسَنَةً، وَبَلَغَنِي فِي كِتَابٍ أَنَّ
أَبْوَابَ كَنِيسَةِ أَذَنَةَ حُمِلَتْ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي
الْمَرَاكِبِ، قُلْتُ: وَهَذِهِ هِيَ أَبْوَابُ النَّاصِرِيَّةِ الَّتِي
بِالسَّفْحِ، أَخَذَهَا صَاحِبُ سِيسَ عَامَ قَازَانَ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ
وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَاسْتُنْفِذَتْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
وَفِي أَوَاخِرِ هَذَا الشَّهْرِ بَلَغَنَا أَنَّ الشَّيْخَ قُطْبَ الدِّينِ
هِرْمَاسَ الَّذِي كَانَ شَيْخَ السُّلْطَانِ طُرِدَ عَنْ جَنَابِ مَخْدُومِهِ،
وَضُرِبَ، وَصُودِرَ، وَخُرِّبَتْ دَارُهُ إِلَى الْأَسَاسِ، وَنُفِيَ إِلَى
مِصْيَافٍ، فَاجْتَازَ بِدِمَشْقَ، وَنَزَلَ بِالْمَدْرَسَةِ الْحَلَبِيَّةِ
ظَاهِرَ بَابِ الْفَرَجِ،
وَزُرْتُهُ فِي مَنْ
سَلَّمَ عَلَيْهِ، وَاجْتَمَعْتُ بِهِ فَإِذَا هُوَ شَيْخٌ حَسَنٌ عِنْدَهُ مَا
يُقَالُ، وَيُتَلَفَّظُ مُعْرِبًا جَيِّدًا، وَلَدَيْهِ فَضِيلَةٌ، وَعِنْدَهُ
تَوَاضُعٌ وَتَصَوُّفٌ، فَاللَّهُ يُحْسِنُ عَاقِبَتَهُ. ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى
الْعَذْرَاوِيَّةِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ السَّبْتِ سَابِعَ شَهْرِ رَجَبٍ تَوَجَّهَ الشَّيْخُ
شَرَفُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ الْحَنْبَلِيُّ
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَطْلُوبًا عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى السُّلْطَانِ;
لِتَدْرِيسِ الطَّائِفَةِ الْحَنْبَلِيَّةِ بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَاهَا
السُّلْطَانُ بِالْقَاهِرَةِ الْمُعِزِّيَّةِ، وَخَرَجَ لِتَوْدِيعِهِ الْقُضَاةُ
وَالْأَعْيَانُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، كَتَبَ اللَّهُ سَلَامَتَهُ.
مَسْكُ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ أَسَنْدَمُرَ الْيَحْيَاوِيُّ
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ
قُبِضَ عَلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أَسَنْدَمُرَ
أَخِي يَلْبُغَا الْيَحْيَاوِيِّ، عَنْ كِتَابٍ وَرَدَ مِنَ السُّلْطَانِ صُحْبَةَ
الدَّوَادَارِ الصَّغِيرِ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ رَاكِبًا بِنَاحِيَةِ مَيْدَانِ
ابْنِ أَتَابِكَ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى عِنْدِ مَقَابِرِ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى، احْتَاطَ عَلَيْهِ الْحَاجِبُ الْكَبِيرُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ
الْجَيْشِ، وَأَلْزَمُوهُ بِالذَّهَابِ إِلَى نَاحِيَةِ طَرَابُلُسَ، فَذَهَبَ
مِنْ عَلَى طَرِيقِ الشَّيْخِ رَسْلَانَ، وَلَمْ يُمَكَّنْ مِنَ الْمَسِيرِ إِلَى
دَارِ السَّعَادَةِ، وَرُسِمَ عَلَيْهِ مِنَ الْجُنْدِ مَنْ أَوْصَلَهُ إِلَى
طَرَابُلُسَ مُقِيمًا بِهَا بَطَّالًا، فَسُبْحَانَ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ
شَيْءٍ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَبَقِيَ الْبَلَدُ بِلَا نَائِبٍ، يَحْكُمُ فِيهِ
الْحَاجِبُ الْكَبِيرُ عَنْ مَرْسُومِ
السُّلْطَانِ، وَعُيِّنَ
لِلنِّيَابَةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْدَمُرُ النَّائِبُ بِحَلَبَ.
وَفِي شَعْبَانَ وَصَلَ تَقْلِيدُ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بَيْدَمُرَ بِنِيَابَةِ
دِمَشْقَ، وَرُسِمَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ جَيْشِ حَلَبَ،
وَيَقْصِدَ الْأَمِيرَ حَيَّارَ بْنَ مُهَنَّا; لِيُحْضِرَهُ إِلَى خِدْمَةِ
السُّلْطَانِ، وَكَذَلِكَ رُسِمَ لِنَائِبَيْ حَمَاةَ وَحِمْصَ أَنْ يَكُونَا
عَوْنًا لِلْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بَيْدَمُرَ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ
يَوْمُ الْجُمُعَةِ رَابِعَهُ الْتَقَوْا مَعَ حَيَّارٍ عِنْدَ سَلَمْيَةَ،
فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ مُنَاوَشَاتٌ، فَأَخْبَرَنِي الْأَمِيرُ تَاجُ الدِّينِ
إِسْرَائِيلُ الدَّوَادَارَ - وَكَانَ مُشَاهِدَ الْوَقْعَةِ - أَنَّ الْأَعْرَابَ
أَحَاطُوا بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْعَرَبِ، وَكَانُوا
نَحْوَ الثَّمَانِمِائَةٍ، وَكَانَتِ التُّرْكُ مِنْ حَمَاةَ وَحِمْصَ وَحَلَبَ
مِائَةً وَخَمْسِينَ، فَرَمَوُا الْأَعْرَابَ بِالنِّشَابِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ
طَائِفَةً كَثِيرَةً، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ التُّرْكِ سِوَى رَجُلٍ وَاحِدٍ;
رَمَاهُ بَعْضُ التُّرْكِ - ظَانًّا أَنَّهُ مِنَ الْعَرَبِ - بِنَاشِجٍ
فَقَتَلَهُ، ثُمَّ حَجَزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، وَخَرَجَتِ التُّرْكُ مِنَ
الدَّائِرَةِ، وَنُهِبَتْ أَمْوَالٌ مِنَ التُّرْكِ وَمِنَ الْعَرَبِ، وَجَرَتْ
فِتْنَةٌ، وَجُرِّدَتْ أُمَرَاءُ عِدَّةٌ مِنْ دِمَشْقَ لِتَدَارُكِ الْحَالِ،
وَأَقَامَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ يَنْتَظِرُ وُرُودَهُمْ، وَقَدِمَ الْأَمِيرُ
عُمَرُ الْمُلَقَّبُ بِمُصَمَّعِ بْنِ مُوسَى بْنِ مُهَنَّا مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ أَمِيرًا عَلَى الْأَعْرَابِ، وَفِي صُحْبَتِهِ الْأَمِيرُ بَدْرُ
الدِّينِ رَمْلَةُ بْنُ جَمَّازٍ أَمِيرَانِ عَلَى الْأَعْرَابِ، فَنَزَلَ
مُصَمَّعٌ بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، وَنَزَلَ الْأَمِيرُ رَمْلَةُ بِالنُّورِيَّةِ
عَلَى عَادَتِهِ، ثُمَّ تَوَجَّهَا إِلَى نَاحِيَةِ حَيَّارٍ بِمَنْ مَعَهُمَا
مِنْ عَرَبِ الطَّاعَةِ مِمَّنْ أُضِيفَ إِلَيْهِمْ مِنْ تَجْرِيدَةِ دِمَشْقَ،
وَمَنْ يَكُونُ مَعَهُمْ مِنْ جَيْشِ حَمَاةَ وَحِمْصَ; لِتَحْصِيلِ الْأَمِيرِ
حَيَّارٍ، وَإِحْضَارِهِ إِلَى الْخِدْمَةِ الشَّرِيفَةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى
يُحْسِنُ الْعَاقِبَةَ.
دُخُولُ نَائِبِ
السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بَيْدَمُرَ إِلَى دِمَشْقَ
وَذَلِكَ صَبِيحَةَ يَوْمِ السَّبْتِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ، أَقْبَلَ
بِجَيْشِهِ مِنْ نَاحِيَةِ حَلَبَ، وَقَدْ بَاتَ بِوَطْأَةِ بَرْزَةَ لَيْلَةَ
السَّبْتِ، وَتَلَقَّاهُ النَّاسُ إِلَى حَمَاةَ وَدُونِهَا، وَجَرَتْ لَهُ
وَقْعَةٌ مَعَ الْعَرَبِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ دَخَلَ
فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَتَجَمُّلٍ حَافِلٍ، فَقَبَّلَ الْعَتَبَةَ عَلَى
الْعَادَةِ، وَمَشَى إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ جَنَائِبُهُ فِي
لُبُوسٍ هَائِلَةٍ بَاهِرَةٍ، وَعَدَدٍ كَثِيرٍ، وَعُدَدٍ ثَمِينَةٍ، وَفَرِحَ
الْمُسْلِمُونَ بِهِ لِشَهَامَتِهِ، وَصَرَامَتِهِ، وَأَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ،
وَنَهْيِهِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُؤَيِّدُهُ وَيُسَدِّدُهُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَانِي شَهْرِ رَمَضَانَ خَطَبَتِ الْحَنَابِلَةُ
بِجَامِعِ الْقُبَيْبَاتِ، وَعُزِلَ عَنْهُ الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ قَاضِي
الْعَسْكَرِ الْحَنَفِيُّ بِمَرْسُومِ نَائِبِ السُّلْطَانِ; لِأَنَّهُ كَانَ
يَعْرِفُ أَنَّهُ كَانَ مُخْتَصًّا بِالْحَنَابِلَةِ مُنْذُ عُيِّنَ إِلَى هَذَا
الْحِينِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْهُ قُتِلَ عُثْمَانُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ دَبَادِبَ الدَّقَّاقُ - بِالْحَدِيدِ عَلَى مَا
شَهِدَ عَلَيْهِ بِهِ جَمَاعَةٌ لَا يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ
أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ مِنْ شَتْمِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَرُفِعَ إِلَى الْحَاكِمِ الْمَالِكِيِّ، وَادُّعِيَ عَلَيْهِ،
فَأَظْهَرَ التَّجَانُنَ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ عَلَى أَنْ قُتِلَ، قَبَّحَهُ
اللَّهُ وَأَبْعَدَهُ، وَلَا رَحِمَهُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ قُتِلَ مُحَمَّدٌ
الْمَدْعُو زُبَالَةَ الَّذِي
انْحَازَ لِابْنِ
مَعْبَدٍ، عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ سَبِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعْوَاهُ أَشْيَاءَ كُفْرِيَّةً، وَذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ
يُكْثِرُ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ، وَمَعَ هَذَا يَصْدُرُ مِنْهُ أَحْوَالٌ
بَشِعَةٌ فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي
حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضُرِبَتْ عُنُقَهُ
أَيْضًا فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي سُوقِ الْخَيْلِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَفِي ثَالِثَ عَشَرَ شَوَّالٍ خَرَجَ الْمَحْمَلُ السُّلْطَانِيُّ، وَأَمِيرُهُ
الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ قَرَاسُنْقُرَ، وَقَاضِي الْحَجِيجِ الشَّيْخُ
شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ سَنَدٍ الْمُحَدِّثُ، أَحَدُ الْمُفْتِينَ.
وَفِي أَوَاخِرِ شَهْرِ شَوَّالٍ أُخِذَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: حَسَنٌ - كَانَ
خَيَّاطًا بِمَحَلَّةٍ الشَّاغُورِ، وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْتَصِرَ لِفِرْعَوْنَ
لَعَنَهُ اللَّهُ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيَحْتَجُّ
بِأَنَّهُ فِي سُورَةِ " يُونُسَ " حِينَ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ:
آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ
وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ يُونُسَ: 90 ]. وَلَا يَفْهَمُ مَعْنَى قَوْلِهِ:
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [ يُونُسَ: 91 ]،
وَلَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى [
النَّازِعَاتِ: 25 ]، وَلَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا
الْمُزَّمِّلِ: 16 ]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ
الْكَثِيرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ أَكْفَرُ الْكَافِرِينَ، كَمَا
هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَادِسِ الْقَعْدَةِ قَدِمَ الْبَرِيدُ
بِطَلَبِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ إِلَى
الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ فِي تَكْرِيمٍ وَتَعْظِيمٍ - عَلَى عَادَةِ تَنْكِزَ - فَتَوَجَّهَ
النَّائِبُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَقَدِ اسْتَصْحَبَ مَعَهُ تُحَفًا
سَنِيَّةً، وَهَدَايَا مُعَظَّمَةً تَصْلُحُ لِلْإِيوَانِ الشَّرِيفِ، فِي
صَبِيحَةِ السَّبْتِ رَابِعَ عَشَرَهُ، وَخَرَجَ مَعَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ
مِنَ الْحَجَبَةِ وَالْأُمَرَاءِ لِتَوْدِيعِهِ.
وَفِي أَوَائِلِ ذِي الْحِجَّةِ وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ
بِخَطِّهِ إِلَى قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ الشَّافِعِيِّ يَسْتَدْعِيهِ
إِلَى الْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَزِيَارَةِ قَبْرِ الْخَلِيلِ، وَيَذْكُرُ فِيهِ مَا
عَامَلَهُ بِهِ السُّلْطَانُ مِنَ الْإِحْسَانِ، وَالْإِكْرَامِ، وَالِاحْتِرَامِ،
وَالْإِطْلَاقِ، وَالْإِنْعَامِ; مِنَ الْخَيْلِ، وَالتُّحَفِ، وَالْمَالِ،
وَالْغَلَّاتِ، فَتَوَجَّهَ نَحْوَهُ قَاضِيَ الْقُضَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
بَعْدَ الصَّلَاةِ رَابِعَهُ عَلَى سِتَّةٍ مِنْ خَيْلِ الْبَرِيدِ، وَمَعَهُ تُحَفٌ،
وَمَا يُنَاسِبُ مِنَ الْهَدَايَا، وَعَادَ عَشِيَّةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَامِنَ
عَشَرَهُ إِلَى بُسْتَانِهِ.
وَوَقَعَ فِي هَذَا الشَّهْرِ وَالَّذِي قَبْلَهُ سُيُولٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي
أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ عِنْدَهُمْ، مِنْ ذَلِكَ مَا شَاهَدْنَا آثَارَهُ فِي
مَدِينَةِ بَعْلَبَكَّ، أَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَشْجَارِ، وَاخْتَرَقَ
أَمَاكِنَ كَثِيرَةً مُتَعَدِّدَةً عِنْدَهُمْ، وَبَقِيَ آثَارُ سَيْحِهِ عَلَى
أَرَاضٍ كَثِيرَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ سَيْلٌ وَقَعَ بِأَرْضِ خَيْرَانَ، أَتْلَفَ
شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، وَغَرِقَ فِيهِ قَاضِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَمَعَهُ
بَعْضُ الْأَخْيَارِ، كَانُوا وُقُوفًا عَلَى أَكَمَةٍ فَدَهَمَهُمْ أَمْرٌ
عَظِيمٌ، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا دَفْعَهُ وَلَا مَنْعَهُ فَهَلَكُوا، وَمِنْ ذَلِكَ
سَيْلٌ وَقَعَ بِنَاحِيَةِ جُبَّةِ عَسَّالٍ فَهَلَكَ بِهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ
الْأَشْجَارِ، وَالْأَغْنَامِ، وَالْأَعْنَابِ، وَغَيْرِهَا، وَمِنْ
ذَلِكَ سَيْلٌ بِأَرْضِ
حَلَبَ هَلَكَ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ، وَغَيْرِهِمْ، رِجَالًا،
وَنِسَاءً، وَأَطْفَالًا، وَغَنَمًا، وَإِبِلًا - قَرَأْتُهُ مِنْ كِتَابِ مَنْ
شَاهَدَ ذَلِكَ عَيَانًا، وَذَكَرَ أَنَّهُ سَقَطَ عَلَيْهِمْ بَرَدٌ، وُزِنَتِ
الْوَاحِدَةُ مِنْهُ فَبَلَغَتْ زِنَتُهَا سَبْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَفِيهِ مَا
هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَصْغَرُ.
الْأَمْرُ بِإِلْزَامِ الْقَلَنْدَرِيَّةِ بِتَرْكِ حَلْقِ لِحَاهُمْ
وَحَوَاجِبِهِمْ وَشَوَارِبِهِمْ
وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ بِالْإِجْمَاعِ حَسَبَ مَا حَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَإِنَّمَا
ذَكَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالْكَرَاهِيَةِ. وَرَدَ كِتَابٌ مِنَ السُّلْطَانِ
- أَيَّدَهُ اللَّهُ - إِلَى دِمَشْقَ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ خَامِسَ عَشَرَ
ذِي الْحِجَّةِ بِإِلْزَامِهِمْ بِزِيِّ الْمُسْلِمِينَ، وَتَرْكِ زِيِّ
الْأَعَاجِمِ وَالْمَجُوسِ، فَلَا يُمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنَ الدُّخُولِ
إِلَى بِلَادِ السُّلْطَانِ حَتَّى يَتْرُكَ هَذَا الزِّيَّ الْمُبْتَدَعَ، وَاللِّبَاسَ
الْمُسْتَشْنَعَ، وَمَنْ لَا يَلْتَزِمُ بِذَلِكَ يُعَزَّرُ شَرْعًا، وَيُقْلَعُ
مِنْ قَرَارِهِ قَلْعًا. وَكَانَ اللَّائِقُ أَنْ يُؤْمَرُوا بِتَرْكِ أَكْلِ
الْحَشِيشَةِ الْخَسِيسَةِ، وَإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ بِأَكْلِهَا،
وَسُكْرِهَا، كَمَا أَفْتَى بِذَلِكَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، وَالْمَقْصُودُ:
أَنَّهُمْ نُودِيَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي جَمِيعِ أَرْجَاءِ الْبَلَدِ
وَنَوَاحِيهِ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَبَلَغَنَا فِي هَذَا الشَّهْرِ وَفَاةُ الشَّيْخِ الصَّالِحِ أَحْمَدَ بْنِ
مُوسَى الزُّرَعِيِّ بِمَدِينَةِ
خَيْرَانَ يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ خَامِسَ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ مِنَ الْمُبْتَلَيْنَ بِالْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْقِيَامِ فِي مَصَالِحِ
النَّاسِ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَالدَّوْلَةِ، وَلَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ الْخَاصِّ
وَالْعَامِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ كُجْكُنَ بْنِ
الْأَقْوَشِ الَّذِي كَانَ حَاجِبًا بِدِمَشْقَ وَأَمِيرًا، ثُمَّ عُزِلَ عَنْ
ذَلِكَ كُلِّهِ، وَنَفَاهُ السُّلْطَانُ إِلَى طَرَابُلُسَ، فَمَاتَ هُنَاكَ.
وَقَدِمَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْدَمُرُ عَائِدًا
مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَقَدْ لَقِيَ مِنَ السُّلْطَانِ إِكْرَامًا،
وَإِحْسَانًا زَائِدًا فَاجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ،
فَأَقَامَ بِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَالنَّحْرِ، ثُمَّ سَلَكَ عَلَى طَرِيقِ غَابَةِ
أَرْصُوفَ يَصْطَادُ بِهَا، فَأَصَابَهُ وَعَكٌّ مَنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَسْرَعَ
السَّيْرَ، فَدَخَلَ دِمَشْقَ مِنْ صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْحَادِي
وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ فِي أُبَّهَةٍ هَائِلَةٍ، وَرِيَاسَةٍ طَائِلَةٍ،
وَتَزَايَدَ خُرُوجُ الْعَامَّةِ لِلتَّفَرُّجِ عَلَيْهِ، وَالنَّظَرِ إِلَيْهِ
فِي مَجِيئِهِ هَذَا، فَدَخَلَ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مُعَظَّمٌ، وَمُطَرَّزٌ،
وَبَيْنَ يَدَيْهِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنَ الْحُوفِيَّةِ،
وَالشَّالِيشِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ، وَمِنْ نِيَّتِهِ الْإِحْسَانُ إِلَى
الرَّعِيَّةِ، وَالنَّظَرُ فِي أَحْوَالِ الْأَوْقَافِ وَإِصْلَاحِهَا عَلَى
طَرِيقَةِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ تَنْكِزَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
اثْنَتَيْنِ، وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ الْمُبَارَكَةُ وَسُلْطَانُ الْإِسْلَامِ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالشَّامِيَّةِ، وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ،
وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ وَيَلْتَحِقُ بِهِ - الْمَلِكُ النَّاصِرُ حَسَنٌ ابْنُ
الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ
الصَّالِحِيُّ، وَلَا نَائِبَ لَهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَقُضَاتُهُ
بِهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، وَوَزِيرُهُ الْقَاضِي ابْنُ
خَصِيبٍ، وَنَائِبُ الشَّامِ بِدِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْدَمُرُ
الْخَوَارِزْمِيُّ، وَالْقُضَاةُ وَالْخَطِيبُ وَبَقِيَّةُ الْأَشْرَافِ وَنَاظِرُ
الْجَيْشِ وَالْمُحْتَسِبُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي،
وَالْوَزِيرُ ابْنُ قَرَوَيْنَهَ، وَكَاتِبُ السِّرِّ الْقَاضِي أَمِينُ الدِّينِ
بْنُ الْقَلَانِسِيِّ، وَوَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ الْقَاضِي صَلَاحُ الدِّينِ
الصَّفَدَيُّ، وَهُوَ أَحَدُ مُوَقِّعِي الدَّسْتِ الْأَرْبَعَةِ، وَشَادُّ
الْأَوْقَافِ الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ، وَحَاجِبُ
الْحُجَّابِ الْيُوسُفِيُّ، وَقَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
لِيَكُونَ بِهَا أَمِيرَ جُنْدَارَ، وَمُتَوَلِّي الْبَلَدِ نَاصِرُ الدِّينِ،
وَنَقِيبُ النُّقَبَاءِ ابْنُ الشُّجَاعِيِّ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَادِسِ الْمُحَرَّمِ قَدِمَ الْأَمِيرُ
عَلِيٌّ نَائِبُ حَمَاةَ مِنْهَا، فَدَخَلَ دِمَشْقَ مُجْتَازًا إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، فَنَزَلَ فِي الْق