الأحد، 1 أغسطس 2021

21.. / 2 البداية والنهاية تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي

 

 21.. / 2 البداية والنهاية تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ). فَعَاشَ هَذَا الرَّجُلُ الْأَنْصَارِيُّ حَتَّى رَآنِي وَقَدِ اجْتَمَعَ حَوْلِي النَّاسُ يَسْأَلُونِي، فَيَقُولُ: هَذَا الْفَتَى كَانَ أَعْقَلَ مِنِّي.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، ثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَجَدْتُ عَامَّةَ عِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ، إِنْ كُنْتُ لَأَقِيلُ بِبَابِ أَحَدِهِمْ، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي عَلَيْهِ لَأَذِنَ، وَلَكِنْ أَبْتَغِي بِذَلِكَ طِيبَ نَفْسِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كُنْتُ أَلْزَمُ الْأَكَابِرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَأَسْأَلُهُمْ عَنْ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ، وَكُنْتُ لَا آتِي أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا سُرَّ بِإِتْيَانِي ; لِقُرْبِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلْتُ أَسْأَلُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يَوْمًا - وَكَانَ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ - عَمَّا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بِالْمَدِينَةِ. فَقَالَ: نَزَلَ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ سُورَةً وَسَائِرُهَا بِمَكَّةَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: عَامَّةُ عِلْمِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ

ثَلَاثَةٍ مِنْ عُمَرَ، وَ عَلِيٍّ، وَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَقَالَ طَاوُسٌ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كُنْتُ لَأَسْأَلُ عَنِ الْأَمْرِ الْوَاحِدِ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ مُغِيرَةُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّى أَصَبْتَ هَذَا الْعِلْمَ ؟ قَالَ: بِلِسَانٍ سَئُولٍ، وَقَلْبٍ عَقُولٍ. وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يُجْلِسُ ابْنَ عَبَّاسٍ مَعَ مَشَايِخِ الصَّحَابَةِ، وَيَقُولُ: نِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَكَانَ إِذَا أَقْبَلَ يَقُولُ عُمَرُ: جَاءَ فَتَى الْكُهُولِ، وَذُو اللِّسَانِ السَّئُولِ وَالْقَلْبِ الْعُقُولِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ الصَّحَابَةَ عَنْ تَفْسِيرِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَسَكَتَ بَعْضٌ وَأَجَابَ بَعْضٌ بِجَوَابٍ لَمْ يَرْتَضِهِ عُمَرُ، ثُمَّ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْهَا فَقَالَ: أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُعِيَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ. وَأَرَادَ عُمَرُ بِذَلِكَ أَنْ يُقَرِّرَ عِنْدَهُمْ جَلَالَةَ قَدْرِهِ، وَكَبِيرَ مَنْزِلَتِهِ فِي الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ. وَسَأَلَهُ مَرَّةً عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَاسْتَنْبَطَ أَنَّهَا فِي اللَّيْلَةِ السَّابِعَةِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، فَاسْتَحْسَنَهُ عُمَرُ وَاسْتَجَادَهُ، كَمَا ذَكَرْنَا

فِي التَّفْسِيرِ.
وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْيَمَانِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَقَدْ عَلِمْتَ عِلْمًا مَا عَلِمْنَاهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: قَالَ عُمَرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّكَ لَأَصْبَحُ فِتْيَانِنَا وَجْهًا، وَأَحْسَنُهُمْ عَقْلًا وَأَفْقَهُهُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يُدْنِيكَ وَيُجْلِسُكَ مَعَ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، فَاحْفَظْ عَنِّي ثَلَاثًا ; لَا تُفْشِيَنَّ لَهُ سِرًّا، وَلَا تَغْتَابَنَّ عِنْدَهُ أَحَدًا، وَلَا يُجَرِّبَنَّ عَلَيْكَ كَذِبًا. قَالَ الشَّعْبِيُّ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ وَاحِدَةٍ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ خَيْرٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ عُمَرَ، وَ عُثْمَانَ كَانَا يَدْعُوَانِ ابْنَ عَبَّاسٍ

فَيُشِيرُ مَعَ أَهْلِ بَدْرٍ، وَكَانَ يُفْتِي فِي عَهْدِ عُمَرَ، وَ عُثْمَانَ إِلَى يَوْمِ مَاتَ. قُلْتُ: وَشَهِدَ فَتْحَ إِفْرِيقِيَّةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مَعَ ابْنِ أَبِي سَرْحٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَظَرَ أَبِي إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَوْمَ الْجَمَلِ يَمْشِي بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، فَقَالَ: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَ مَنْ لَهُ ابْنُ عَمٍّ مِثْلُ هَذَا. وَقَدْ شَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ الْجَمَلَ وَصِفِّينَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْمَيْسَرَةِ، وَشَهِدَ مَعَهُ قِتَالَ الْخَوَارِجِ، وَكَانَ مِمَّنْ أَشَارَ عَلَى عَلِيٍّ أَنْ يَسْتَنِيبَ مُعَاوِيَةَ عَلَى الشَّامِ وَأَنْ لَا يَعْزِلَهُ عَنْهَا فِي بَادِئِ الْأَمْرِ، حَتَّى قَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: إِنْ أَحْبَبْتَ عَزْلَهُ فَوَلِّهِ شَهْرًا وَاعْزِلْهُ دَهْرًا. فَأَبَى عَلِيٌّ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَهُ، فَكَانَ مَا كَانَ مِمَّا قَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ. وَلَمَّا تَرَاوَضَ الْفَرِيقَانِ عَلَى تَحْكِيمِ الْحَكَمَيْنِ، طَلَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ عَلِيٍّ ; لِيُكَافِئَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَامْتَنَعَتْ مَذْحِجُ وَأَهْلُ الْيَمَنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ عَلِيٍّ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَكَمَيْنِ مَا سَلَفَ أَيْضًا.
وَقَدِ اسْتَنَابَهُ عَلِيٌّ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ فِي بَعْضِ السِّنِينَ، فَخَطَبَ بِهِمْ فِي عَرَفَاتٍ خُطْبَةً، وَفَسَّرَ فِيهَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: سُورَةَ النُّورِ. قَالَ مَنْ سَمِعَهُ: فَسَّرَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لَوْ سَمِعَتْهُ الرُّومُ وَالتُّرْكُ وَالدَّيْلَمُ لَأَسْلَمُوا.
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَرَّفَ بِالنَّاسِ فِي الْبَصْرَةِ، فَكَانَ يَصْعَدُ الْمِنْبَرَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ، وَيَجْتَمِعُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ حَوْلَهُ فَيُفَسِّرُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَيُذَكِّرُ النَّاسَ مِنْ بَعْدِ الْعَصْرِ إِلَى

الْغُرُوبِ، ثُمَّ يَنْزِلُ فَيُصَلِّي بِهِمُ الْمَغْرِبَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَهُ فِي ذَلِكَ ; فَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ: هُوَ بِدْعَةٌ لَمْ يَعْمَلْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ ذِكْرِ اللَّهِ وَمُوَافَقَةِ الْحُجَّاجِ.
وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَنْتَقِدُ عَلَى عَلِيٍّ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ عَلِيٌّ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيًّا حَرَّقَ نَاسًا ارْتَدَوْا عَنِ الْإِسْلَامِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَمْ أَكُنْ لِأُحَرِّقُهُمْ بِالنَّارِ ; إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ. وَكُنْتُ قَاتِلَهُمْ ; لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ: وَيْحَ ابْنِ عَبَّاسٍ ! وَفِي رِوَايَةٍ: وَيْحَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهُ لَغَوَّاصٌ عَلَى الْهَنَاتِ. وَقَدْ كَافَأَهُ عَلِيٌّ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَرَى إِبَاحَةَ الْمُتْعَةِ، وَتَحْلِيلَ الْحُمْرِ الْإِنْسِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إِنَّكَ امْرُؤٌ تَائِهٌ ;إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخْرَّجٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا، وَلَهُ أَلْفَاظٌ هَذَا مِنْ أَحْسَنِهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْمُؤَمِّلِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا نَصْرِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ يَقُولُ: وَرَدَ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَسَأَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَكَانَ عَلَى خِلَافَتِهِ بِهَا - فَقَالَ صَعْصَعَةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ آخِذٌ بِثَلَاثٍ، وَتَارِكٌ لِثَلَاثٍ ; آخِذٌ بِقُلُوبِ الرِّجَالِ إِذَا حَدَّثَ، وَبِحُسْنِ الِاسْتِمَاعِ إِذَا حُدِّثَ، وَبِأَيْسَرِ الْأَمْرَيْنِ إِذَا خُولِفَ، وَتَرْكِ الْمِرَاءِ، وَمُقَارَنَةِ اللَّئِيمِ، وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَحْضَرَ فَهْمًا وَلَا أَلَبَّ لُبًّا، وَلَا أَكْثَرَ عِلْمًا، وَلَا أَوْسَعَ حِلْمًا مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ عُمَرَ يَدْعُوهُ لِلْمُعْضِلَاتِ، ثُمَّ يَقُولُ: عِنْدَكَ، قَدْ جَاءَتْكَ مُعْضِلَةٌ. ثُمَّ لَا يُجَاوِزُ قَوْلَهُ، وَإِنَّ حَوْلَهُ لَأَهْلُ بَدْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لَوْ أَدْرَكَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَسْنَانَنَا مَا عَشَّرَهُ مِنَّا أَحَدٌ. وَكَانَ يَقُولُ: نِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْلَمُ

النَّاسِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ الْعَلَاءِ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ حِينَ بَلَغَهُ مَوْتُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَصَفَّقَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى: مَاتَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ النَّاسِ وَأَحْلَمُ النَّاسِ، وَقَدْ أُصِيبَتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةُ لَا تُرْتَقُ. وَبِهِ إِلَى يَحْيَى بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: مَاتَ الْيَوْمَ مَنْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فِي الْعِلْمِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: مَوْلَاكَ وَاللَّهِ أَفْقَهُ مَنْ مَاتَ وَمَنْ عَاشَ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ حِينَ كَانَ الصُّلْحُ وَأَوَّلُ مَا الْتَقَيْتُ أَنَا وَهُوَ فَإِذَا عِنْدَهُ أُنَاسٌ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِابْنِ عَبَّاسٍ، مَا تَحَاكَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدٍ كَانَ أَعَزَّ عَلَيَّ بُعْدًا وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ قُرْبًا، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَاتَ عَلِيًّا، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُذَمُّ فِي قَضَائِهِ، وَغَيْرُ هَذَا

الْحَدِيثِ أَحْسَنُ مِنْهُ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تُعْفِيَنِي مِنِ ابْنِ عَمِّي وَأُعْفِيَكَ مِنِ ابْنِ عَمِّكَ. قَالَ: ذَلِكَ لَكَ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ حِينَ حَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالنَّاسِ: هُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْمَنَاسِكِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: رَكِبَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَأَخْذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِهِ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ يَابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا. فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: أَرِنِي يَدَيْكَ. فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ، فَقَبَّلَهُمَا، وَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ جُبَيْرٍ، سَمِعْتُ ابْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْلَمُ النَّاسِ. وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ فَاتَ النَّاسَ بِخِصَالٍ ; بِعِلْمِ مَا سَبَقَهُ، وَفِقْهٍ فِيمَا احْتِيجَ إِلَيْهِ مِنْ رَأْيِهِ، وَحِلْمٍ وَنَسَبٍ وَنَائِلٍ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَعْلَمَ بِمَا سَبَقَهُ مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، وَلَا بِقَضَاءِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ

مِنْهُ وَلَا أَفْقَهَ فِي رَأْيٍ مِنْهُ، وَلَا أَعْلَمَ بِشِعْرٍ وَلَا عَرَبِيَّةٍ، وَلَا بِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَلَا بِحِسَابٍ، وَلَا بِفَرِيضَةٍ مِنْهُ، وَلَا أَعْلَمَ بِمَا مَضَى، وَلَا أَثْبَتَ رَأْيًا فِيمَا احْتِيجَ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَلَقَدْ كَانَ يَجْلِسُ يَوْمًا مَا يَذْكُرُ فِيهِ إِلَّا الْفِقْهَ، وَيَوْمًا التَّأْوِيلَ، وَيَوْمًا الْمَغَازِيَ، وَيَوْمًا الشِّعْرَ، وَيَوْمًا أَيَّامَ الْعَرَبِ، وَمَا رَأَيْتُ عَالِمًا قَطُّ جَلَسَ إِلَيْهِ إِلَّا خَضَعَ لَهُ، وَمَا رَأَيْتُ سَائِلًا قَطُّ سَأَلَهُ إِلَّا وَجَدَ عِنْدَهُ عِلْمًا. قَالَ: وَرُبَّمَا حَفِظْتُ الْقَصِيدَةَ مِنْ فِيهِ يَنْشِدُهَا ثَلَاثِينَ بَيْتًا. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ قُطُّ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا رَأَيْتُ مَجْلِسًا أَكْرَمَ مِنْ مَجْلِسِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَكْثَرَ فِقْهًا، وَلَا أَعْظَمَ هَيْبَةً ; أَصْحَابُ الْقُرْآنِ يَسْأَلُونَهُ، وَأَصْحَابُ الْعَرَبِيَّةِ يَسْأَلُونَهُ، وَأَصْحَابُ الشِّعْرِ عَنْهُ يَسْأَلُونَهُ، فَكُلُّهُمْ يَصْدُرُ فِي وَادٍ وَاسِعٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ بَسَقَ عَلَى النَّاسِ فِي الْعِلْمِ كَمَا تَبْسُقُ النَّخْلَةُ

السَّحُوقُ عَلَى الْوَدِيِّ الصِّغَارِ، وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ: قُلْتُ لِطَاوُسٍ: لِمَ لَزِمْتَ هَذَا الْغُلَامَ - يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ - وَتَرَكْتَ الْأَكَابِرَ مِنَ الصَّحَابَةِ ؟ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ إِذَا تَدَّارَءُوا فِي شَيْءٍ صَارُوا إِلَى قَوْلِهِ. وَقَالَ طَاوُسٌ أَيْضًا: مَا رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنْهُ. قَالَ: وَمَا خَالَفَهُ أَحَدٌ قَطُّ فَتَرَكَهُ حَتَّى يُقَرِّرَهُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَ أَبُو نُعَيْمٍ، وَغَيْرُهُمْ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَلَقَدْ مَاتَ يَوْمَ مَاتَ وَإِنَّهُ لَحَبْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ. قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُسَمَّى الْبَحْرَ ; لِكَثْرَةِ عِلْمِهِ.

وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ، وَالزَّبِيرُ بْنُ بَكَّارٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَدَّهُمْ قَامَةً، وَأَعْظَمَهُمْ جَفْنَةً، وَأَوْسَعَهُمْ عِلْمًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ أَعْرَبَ لِسَانًا مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ ; وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ مَجْلِسًا قَطُّ أَجْمَعَ لِكُلِّ خَيْرٍ مِنْ مَجْلِسِ ابْنِ عَبَّاسٍ ; الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَتَفْسِيرُ الْقُرْآنِ، وَالْعَرَبِيَّةُ وَالشِّعْرُ، وَالطَّعَامُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: ثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا سُلَيْمُ بْنُ أَخْضَرَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، قَالَ: أَنْبَأَنِي مَنْ أَرْسَلَهُ الْحَكَمُ بْنُ أَيُّوبَ إِلَى الْحَسَنِ يَسْأَلُهُ: مَنْ أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِالنَّاسِ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ يَوْمَ عَرَفَةَ ؟ فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَمَّعَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَانَ رَجُلًا مِثَجًّا - أَحْسَبُ فِي الْحَدِيثِ - كَثِيرَ الْعِلْمِ، وَكَانَ يَصْعَدُ الْمِنْبَرَ فَيَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَيُفَسِّرُهَا آيَةً آيَةً. وَقَدْ

رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ نَحْوُهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ: رَوَى سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ الْهُذَلِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوَّلَ مَنْ عَرَّفَ بِالْبَصْرَةِ ; صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ فَفَسَّرَهُمَا حَرْفًا حَرْفًا، وَكَانَ مِثَجًّا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مِثَجًّا مِنَ الثَّجِّ وَهُوَ السَّيَلَانُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا وَقِيلَ: كَثِيرًا بِسُرْعَةٍ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ مَجْلِسًا لَوْ أَنَّ جَمِيعَ قُرَيْشٍ فَخَرَتْ بِهِ لَكَانَ لَهَا فَخْرًا، لَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ اجْتَمَعُوا حَتَّى ضَاقَ بِهِمُ الطَّرِيقُ، فَمَا كَانَ أَحَدٌ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَجِيءَ وَلَا يَذْهَبَ. قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَكَانِهِمْ عَلَى بَابِهِ. فَقَالَ لِي: ضَعْ لِي وَضَوْءًا. قَالَ: فَتَوَضَّأَ وَجَلَسَ، وَقَالَ: اخْرُجْ فَقُلْ لَهُمْ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْقُرْآنِ وَحُرُوفِهِ وَمَا أُرِيدَ مِنْهُ فَلْيَدْخُلْ. قَالَ: فَخَرَجْتُ

فَآذَنْتُهُمْ فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَئُوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ، فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرَهُمْ عَنْهُ وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوا عَنْهُ أَوْ أَكْثَرَ. ثُمَّ قَالَ: إِخْوَانَكُمْ. فَخَرَجُوا. ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فَقُلْ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ أَوْ تَأْوِيلِهِ فَلْيَدْخُلْ. قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَآذَنْتُهُمْ. قَالَ: فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَئُوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ، فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرَهُمْ بِهِ، وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوا أَوْ أَكْثَرَ. ثُمَّ قَالَ: إِخْوَانَكُمْ، فَخَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فَقُلْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْفِقْهِ فَلْيَدْخُلْ. فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ لَهُمْ، فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَئُوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ، فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ إِخْوَانَكُمْ. فَخَرَجُوا ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فَقُلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْفَرَائِضِ وَمَا أَشْبَهَهَا فَلْيَدْخُلْ. قَالَ: فَخَرَجْتُ فَآذَنْتُهُمْ فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَئُوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ. فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِخْوَانَكُمْ. فَخَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فَقُلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ وَالشِّعْرِ وَالْغَرِيبِ مِنَ الْكَلَامِ فَلْيَدْخُلْ. قَالَ: فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَئُوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ، فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَهُ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَلَوْ أَنَّ قُرَيْشًا كُلَّهَا فَخَرَتْ بِذَلِكَ لَكَانَ فَخْرًا،

فَمَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ.
وَقَالَ طَاوُسٌ، وَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: مَا رَأَيْنَا أَوْرَعَ مِنَ ابْنِ عُمَرَ، وَلَا أَفْقَهَ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ مَيْمُونٌ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَفْقَهَهُمَا. وَقَالَ شُرَيْكٌ الْقَاضِي، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنْتُ إِذَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قُلْتُ: أَجْمَلُ النَّاسِ. فَإِذَا نَطَقَ قُلْتُ: أَفْصَحُ النَّاسِ. فَإِذَا تَحَدَّثَ قُلْتُ: أَعْلَمُ النَّاسِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْلَمَهُمَا بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ عَلِيٌّ أَعْلَمَهُمَا بِالْمُبْهَمَاتِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: إِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ قَدْ أَخَذَ مَا عِنْدَ عَلِيٍّ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَضَمَّ إِلَى ذَلِكَ مَا أَخَذَهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَ عُمَرَ، وَ عُثْمَانَ، وَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، مَعَ

دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ.
وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: خَطَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ عَلَى الْمَوْسِمِ فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَجَعَلَ يَقْرَؤُهَا وَيُفَسِّرُ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: مَا رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ كَلَامَ رَجُلٍ مِثْلَهِ، لَوْ سَمِعَتْهُ فَارِسُ وَالرُّومُ لَأَسْلَمَتْ. وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَجَّ بِالنَّاسِ عَامَ قَتْلِ عُثْمَانَ، فَقَرَأَ سُورَةَ النُّورِ فَفَسَّرَهَا. وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، فَلَعَلَّ الْأَوَّلَ كَانَ فِي زَمَانِ عَلِيٍّ، فَقَرَأَ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَفِي فِتْنَةِ عُثْمَانَ سُورَةَ النُّورِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَرَضْتُ الْقُرْآنَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَرَّتَيْنِ، مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، أَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ فَأَسْأَلُهُ عَنْهَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:

أَرْبَعٌ مِنَ الْقُرْآنِ لَا أَدْرِي مَا هِيَ ; الْأَوَّاهُ، وَالْحَنَّانُ، وَالرَّقِيمُ، وَالْغِسْلِينُ، وَكُلُّ الْقُرْآنِ أَعْلَمُهُ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ ; فَإِنْ كَانَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَهِيَ فِي السُّنَّةِ قَالَ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَقُلْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَجَدَهَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَ عُمَرَ قَالَ بِهَا، وَإِلَّا اجْتَهَدَ رَأْيَهُ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، وَ عَبْدُ الرَّحْمَنَ بْنُ حَمَّادٍ الشَّعْبِيُّ، عَنْ كَهْمَسِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، قَالَ: شَتَمَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنَّكَ لَتَشْتُمُنِي وَفِيَّ ثَلَاثُ خِصَالٍ، إِنِّي لَآتِي عَلَى الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَوَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ عَلِمُوا مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي أَعْلَمُ، وَإِنِّي لَأَسْمَعُ بِالْحَاكِمِ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ يَقْضِي بِالْعَدْلِ، فَأَفْرَحُ بِهِ، وَلَعَلِّي لَا أُقَاضِي إِلَيْهِ، وَلَا أُحَاكِمُ أَبَدًا، وَإِنِّي لَأَسْمَعُ بِالْغَيْثِ يُصِيبُ الْأَرْضَ مِنْ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ فَأَفْرَحُ بِهِ،

وَمَا لِي بِهَا مِنْ سَائِمَةٍ أَبَدًا. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَكْرَمٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ كَهْمَسٍ بِهِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا فَقَالَ: كَانَتِ السَّمَاءُ رَتْقًا لَا تَمْطُرُ، وَالْأَرْضُ رَتْقًا لَا تُنْبِتُ، فَفَتَقَ هَذِهِ بِالْمَطَرِ، وَهَذِهِ بِالنَّبَاتِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: صَحِبْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، وَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا نَزَلَ قَامَ شَطْرَ اللَّيْلِ، وَيُرَتِّلُ الْقُرْآنَ يَقْرَأُ حَرْفًا حَرْفًا، وَيُكْثِرُ فِي ذَلِكَ مِنَ النَّشِيجِ وَالنَّحِيبِ، وَيَقْرَأُ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ دِرْهَمٍ، قَالَ: كَانَ فِي هَذَا الْمَكَانِ - وَأَوْمَأَ إِلَى مَجْرَى الدُّمُوعِ مِنْ خَدَّيْهِ - مِنْ خَدَّيِ ابْنِ عَبَّاسٍ - مِثْلُ الشِّرَاكِ الْبَالِي مِنَ الْبُكَاءِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ يَصُومُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، وَيَقُولُ: أُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ. وَرَوَى هُشَيْمٌ

وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَلِكَ الرُّومُ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ أَكْرَمُ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ أَكْرَمُ الْإِمَاءِ عَلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَعَنْ أَرْبَعَةٍ فِيهِمُ الرُّوحُ لَمْ يَرْكُضُوا فِي رَحِمٍ، وَعَنْ قَبْرٍ سَارَ بِصَاحِبِهِ، وَعَنْ مَكَانٍ فِي الْأَرْضِ لَمْ تَطْلُعْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَعَنْ قَوْسِ قُزَحَ مَا هُوَ ؟ وَعَنِ الْمَجَرَّةِ. فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ فَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْهُنَّ، فَكَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَيْهِ: أَمَّا أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ فَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَأَكْرَمُ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ آدَمُ، خَلَقَهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَكْرَمُ الْإِمَاءِ عَلَى اللَّهِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ لَمْ يَرْكُضُوا فِي رَحِمٍ، فَآدَمُ وَحَوَّاءُ، وَعَصَا مُوسَى، وَكَبْشُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي فَدَى بِهِ إِسْمَاعِيلَ - وَفِي رِوَايَةٍ: وَنَاقَةُ صَالِحٍ - وَأَمَّا الْقَبْرُ الَّذِي سَارَ بِصَاحِبِهِ فَهُوَ حُوتُ يُونُسَ، وَأَمَّا الْمَكَانُ الَّذِي لَمْ تُصِبْهُ الشَّمْسُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَهُوَ الْبَحْرُ الَّذِي انْفَلَقَ لِمُوسَى حَتَّى جَازَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْسُ قُزَحَ فَأَمَانٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنَ الْغَرَقِ، وَالْمَجَرَّةُ بَابُ السَّمَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ: الَّذِي تَنْشَقُّ مِنْهُ، فَلَمَّا قَرَأَ مَلِكُ الرُّومِ ذَلِكَ أَعْجَبَهُ، وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هِيَ مِنْ عِنْدِ مُعَاوِيَةَ، وَلَا مِنْ قَوْلِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذِهِ

الْأَسْئِلَةِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَزِيَادَاتٌ كَثِيرَةٌ فِيهَا، وَفِي بَعْضِهَا نَظَرٌ ; أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ مَنْ لَا قَبْلَ لَهُ، وَعَنْ مَنْ لَا عَشِيرَةَ لَهُ، وَعَنْ مَنْ لَا أَبَ لَهُ، وَعَنْ شَيْءٍ، وَنِصْفِ شَيْءٍ، وَلَا شَيْءٍ، وَأَرْسَلَ قَارُورَةً ; فَقَالَ: ابْعَثْ إِلَيَّ فِي هَذِهِ بِبَزْرِ كُلِّ شَيْءٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَقُولُ: أَمَّا الَّذِي لَا قَبْلَ لَهُ فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا مَنْ لَا عَشِيرَةَ لَهُ فَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَمَّا مَنْ لَا أَبَ لَهُ فَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَمَّا عَنْ شَيْءٍ فَهُوَ الْعَاقِلُ يَعْمَلُ بِعَقْلِهِ، وَأَمَّا نِصْفُ شَيْءٍ، فَالَّذِي لَهُ عَقْلٌ وَيَعْمَلُ بِرَأْيِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا لَا شَيْءَ فَالَّذِي لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا يَعْمَلُ بِعَقْلِ غَيْرِهِ. وَمَلَأَ الْقَارُورَةَ مَاءً وَقَالَ: هَذَا بَزْرُ كُلِّ شَيْءٍ. فَأَعْجَبَ ذَلِكَ مَلِكَ الرُّومِ جِدًّا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصَلٌ ( تَوَلِّي ابْنِ عَبَّاسٍ إِمَامَةَ الْحَجِّ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ بِأَمْرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ )
تَوَلَّى ابْنُ عَبَّاسٍ إِمَامَةَ الْحَجِّ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ بِأَمْرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لَهُ وَهُوَ مَحْصُورٌ، وَفِي غَيْبَتِهِ هَذِهِ قُتِلَ عُثْمَانُ. وَحَضَرَ مَعَ عَلِيٍّ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَكَانَ عَلَى الْمَيْسَرَةِ يَوْمَ صِفِّينَ، وَشَهِدَ قِتَالَ الْخَوَارِجِ، وَتَأَمَّرَ عَلَى الْبَصْرَةِ مِنْ جِهَةِ عَلِيٍّ، فَكَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا يَسْتَخْلِفُ أَبَا الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَزِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى الْخَرَاجِ، وَكَانَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ مَغْبُوطِينَ بِهِ، يُفَقِّهُهُمْ وَيُعَلِّمُ جَاهِلَهُمْ، وَيَعِظُ مُجْرِمَهُمْ، وَيُعْطِي فَقِيرَهُمْ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ عَلِيٌّ، وَيُقَالُ: إِنَّ عَلِيًّا عَزَلَهُ عَنْهَا قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ وَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَكْرَمَهُ وَقَرَّبَهُ وَاحْتَرَمَهُ

وَعَظَّمَهُ، وَكَانَ يُلْقِي عَلَيْهِ الْمَسَائِلَ الْمُعْضِلَةَ فَيُجِيبُ فِيهَا سَرِيعًا، فَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَحَضَرَ جَوَابًا مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَمَّا جَاءَ الْكِتَابُ بِمَوْتِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ اتَّفَقَ كَوْنُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فَعَزَّاهُ فِيهِ بِأَحْسَنِ تَعْزِيَةٍ، وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَدًّا حَسَنًا كَمَا قَدَّمْنَا، وَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ ابْنَهُ يَزِيدَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَعَزَّاهُ بِعِبَارَةٍ فَصِيحَةٍ بَلِيغَةٍ وَجِيزَةٍ، شَكَرَهُ عَلَيْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ - وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ أَيْضًا - وَلَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ وَرَامَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْخُرُوجَ إِلَى الْعِرَاقِ، نَهَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَشَدَّ النَّهْيِ، وَأَرَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِثِيَابِ الْحُسَيْنِ ; - لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ قَدْ أَضَرَّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ - فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَوْتُهُ حَزِنَ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا وَلَزِمَ بَيْتَهُ، وَكَانَ يَقُولُ: يَا لِسَانُ قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ، وَاسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَفْعَلْ تَنْدَمْ، وَجَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: جُنْدَبٌ. فَقَالَ لَهُ أَوْصِنِي: فَقَالَ: أُوصِيكَ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَالْعَمَلِ لَهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّ كُلَّ خَيْرٍ أَنْتَ آتِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَقْبُولٌ، وَإِلَى اللَّهِ مَرْفُوعٌ، يَا جُنْدَبُ، إِنَّكَ لَنْ تَزْدَادَ مِنْ يَوْمِكَ إِلَّا قُرْبًا، فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، وَأَصْبِحْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ مُسَافِرٌ، فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ، وَابْكِ عَلَى ذَنْبِكَ، وَتُبْ مِنْ خَطِيئَتِكَ، وَلْتَكُنِ الدُّنْيَا عَلَيْكَ أَهْوَنَ مِنْ شِسْعِ

نَعْلِكَ، وَكَأَنْ قَدْ فَارَقْتَهَا وَصِرْتَ إِلَى عَدْلِ اللَّهِ، وَلَنْ تَنْتَفِعَ بِمَا خَلَّفْتَ، وَلَنْ يَنْفَعَكَ إِلَّا عَمَلُكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:أَوْصَى ابْنُ عَبَّاسٍ بِكَلِمَاتٍ خَيْرٍ مِنَ الْخَيْلِ الدُّهْمِ قَالَ: لَا تَكَلَّمَنَّ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ حَتَّى تَرَى لَهُ مَوْضِعًا، وَلَا تُمَارِيَنَّ سَفِيهًا وَلَا حَلِيمًا ; فَإِنَّ الْحَلِيمَ يَغْلِبُكَ وَالسَّفِيهَ يَزْدَرِيكَ، وَلَا تَذْكُرَنَّ أَخَاكَ إِذَا تَوَارَى عَنْكَ إِلَّا بِمَثَلِ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيكَ إِذَا تَوَارَيْتَ عَنْهُ، وَاعْمَلْ عَمَلَ رَجُلٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَجْزِيٌّ بِالْإِحْسَانِ مَأْخُوذٌ بِالْإِجْرَامِ. فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ: يَابْنَ عَبَّاسٍ، هَذَا خَيْرٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَلِمَةٌ مِنْهُ خَيْرٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَمَامُ الْمَعْرُوفِ تَعْجِيلُهُ وَتَصْغِيرُهُ وَسَتْرُهُ. يَعْنِي أَنْ تُعَجَّلَ الْعَطِيَّةَ لِلْمُعْطَى، وَأَنْ تَصْغُرَ فِي عَيْنِ الْمُعْطِي، وَأَنْ تَسَتُرَهَا عَنِ النَّاسِ فَلَا تُظْهِرَهَا ; فَإِنَّ فِي إِظْهَارِهَا فَتْحَ بَابِ الرِّيَاءِ وَكَسْرَ قَلْبِ الْمُعْطَى، وَاسْتِحْيَاءَهُ مِنَ النَّاسِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعَزُّ النَّاسِ عَلَيَّ جَلِيسِي ; لَوِ اسْتَطَعْتُ أَنْ لَا يَقَعَ الذُّبَابُ عَلَى وَجْهِهِ لَفَعَلْتُ. وَقَالَ أَيْضًا: لَا يُكَافِئُ مَنْ أَتَانِي يَطْلُبُ حَاجَةً فَرَآنِي لَهَا مَوْضِعًا إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَكَذَا رَجُلٌ بَدَأَنِي بِالسَّلَامِ، أَوْ أَوْسَعَ لِي فِي مَجْلِسٍ، أَوْ قَامَ لِي عَنِ الْمَجْلِسِ أَوْ رَجُلٌ سَقَانِي شَرْبَةَ مَاءٍ عَلَى ظَمَأٍ،

أَوْ رَجُلٌ حَفِظَنِي بِظَهْرِ الْغَيْبِ. وَالْمَأْثُورُ عَنْهُ مِنْ هَذِهِ الْمَكَارِمِ كَثِيرٌ جِدًّا، وَفِيمَا ذَكَرْنَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا لَمْ نَذْكُرْهُ.
وَقَدْ عَدَّهُ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي الْعُمْيَانِ مِنَ الْأَشْرَافِ، وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ أُصِيبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ فَنَحَلَ جِسْمُهُ، فَلَمَّا أُصِيبَتِ الْأُخْرَى عَادَ إِلَيْهِ لَحْمُهُ فَقِيلَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَصَابَنِي مَا رَأَيْتُمْ فِي الْأُولَى شَفَقَةً عَلَى الْأُخْرَى، فَلَمَّا ذَهَبَتَا اطْمَأَنَّ قَلْبِي. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ وَقَعَ فِي عَيْنِهِ الْمَاءُ فَقِيلَ لَهُ: نَنْزِعُ مَنْ عَيْنِكَ الْمَاءَ، عَلَى أَنَّكَ لَا تُصَلِّي سَبْعَةَ أَيَّامٍ ؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّهُ مَنْ تَرْكَ الصَّلَاةَ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: نُزِيلُ هَذَا الْمَاءَ مِنْ عَيْنِكَ عَلَى أَنْ تَبْقَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ لَا تُصَلِّي إِلَّا عَلَى عُودٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَّا مُسْتَلْقِيًا، فَقَالَ: لَا، وَاللَّهِ وَلَا رَكْعَةً وَاحِدَةً، إِنَّهُ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً مُتَعَمِّدًا، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ.
وَقَدْ أَنْشَدَ الْمَدَائِنِيُّ لِابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ عَمِيَ:
إِنْ يَأْخُذِ اللَّهُ مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُمَا فَفِي لِسَانِي وَسَمْعِي مِنْهُمَا نُورُ قَلْبِي ذَكِيٌّ وَعَقْلِي غَيْرُ ذِي دَخَلٍ
وَفِي فَمِي صَارِمٌ كَالسَّيْفِ مَأْثُورُ

وَلَمَّا وَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَبَيْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، اعْتَزَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ النَّاسَ، فَدَعَاهُمَا ابْنُ الزُّبَيْرِ ; لِيُبَايِعَاهُ فَأَبَيَا عَلَيْهِ، وَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: لَا نُبَايِعُكَ وَلَا نُخَالِفُكَ، فَهَمَّ بِهِمَا، فَبَعَثَا أَبَا الطُّفَيْلِ عَامِرَ بْنَ وَاثِلَةَ فَاسْتَنْجَدَ لَهُمَا مِنَ الْعِرَاقِ مِنْ شِيعَتِهِمَا فَقَدِمَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَكَبَّرُوا بِمَكَّةَ تَكْبِيرَةً وَاحِدَةً، وَهَمُّوا بِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَانْطَلَقَ ابْنُ الزُّبَيْرِ هَارِبًا وَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ: أَنَا عَائِذٌ بِاللَّهِ. فَكَفُّوهُمْ عَنْهُ، ثُمَّ مَالُوا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَقَدْ حَمَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ حَوْلَ دُورِهِمُ الْحَطَبَ لِيَحْرِقَهُمْ، فَخَرَجُوا بِهِمَا حَتَّى نَزَلُوا الطَّائِفَ، وَأَقَامَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَنَتَيْنِ لَمْ يُبَايِعْ أَحَدًا، كَمَا تَقَدَّمَ.
فَلَمَّا كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ: مَاتَ الْيَوْمَ حَبْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَلَمَّا وَضَعُوهُ لِيُدْخِلُوهُ فِي قَبْرِهِ جَاءَ طَائِرٌ أَبْيَضُ لَمْ يُرَ مِثْلُ خِلْقَتِهِ، فَدَخَلَ فِي أَكْفَانِهِ وَالْتَفَّ فِيهَا حَتَّى دُفِنَ مَعَهُ. قَالَ عَفَّانُ: فَكَانُوا يَرَوْنَهُ

عِلْمَهُ، فَلَمَّا وُضِعَ فِي اللَّحْدِ تَلَا تَالٍ لَا يُعْرَفُ مَنْ هُوَ - وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُمْ سَمِعُوا مِنْ قَبْرِهِ: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي هَذَا الْقَوْلُ فِي وَفَاتِهِ هُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَ الْوَاقِدِيُّ، وَ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحُفَّاظِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعِينَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا شَاذَّةٌ غَرِيبَةٌ مَرْدُودَةٌ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ. وَقِيلَ أَرْبَعًا وَسَبْعِينَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

صِفَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
كَانَ جَسِيمًا إِذَا قَعَدَ يَأْخُذُ مَكَانَ رَجُلَيْنِ، جَمِيلًا لَهُ وَفْرَةٌ، قَدْ شَابَ مُقَدَّمُ رَأْسِهِ، وَشَابَتْ لِمَّتُهُ، وَكَانَ يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ، وَقِيلَ: بِالسَّوَادِ. حَسَنَ الْوَجْهِ،

يَلْبَسُ حَسَنًا وَيُكْثِرُ مِنَ الطِّيبِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ كَانَ إِذَا مَرَّ فِي الطَّرِيقِ تَقُولُ النِّسَاءُ: هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ: رَجُلٌ مَعَهُ مِسْكٌ، وَكَانَ وَسِيمًا أَبْيَضَ، طَوِيلًا، صَبِيحًا، فَصِيحًا، وَلَمَّا عَمِيَ اعْتَرَى لَوْنَهُ صُفْرَةٌ يَسِيرَةٌ، وَقَدْ كَانَ بَنُو الْعَبَّاسِ عَشَرَةً، وَهُمُ الْفَضْلُ، وَ عَبْدُ اللَّهِ، وَ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَ مَعْبَدٌ، وَ قُثَمُ، وَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَ كَثِيرٌ، وَ الْحَارِثُ، وَ عَوْنٌ، وَ تَمَّامٌ، وَكَانَ أَصْغَرَهُمْ تَمَّامٌ ; وَلِهَذَا كَانَ الْعَبَّاسُ يَحْمِلُهُ وَيَقُولُ:
تَمُّوا بِتَمَّامٍ فَصَارُوا عَشَرَهْ يَا رَبِّ فَاجْعَلْهُمْ كِرَامًا بَرَرَهْ وَاجْعَلْهُمْ ذِكْرًا وَأَنْمِ الثَّمَرَهْ
فَأَمَّا الْفَضْلُ فَمَاتَ بِأَجْنَادِينَ شَهِيدًا، وَعَبْدُ اللَّهِ بِالطَّائِفِ، وَ عُبَيْدُ اللَّهِ بِالْيَمَنِ، وَ مَعْبَدٌ، وَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِإِفْرِيقِيَّةَ،، وَ قُثَمُ، وَ كَثِيرٌ بِيَنْبُعَ وَقِيلَ: إِنَّ قُثَمَ مَاتَ بِسَمَرْقَنْدَ.

وَقَدْ قَالَ مُسْلِمُ بْنُ قَمَّادِينَ الْمَكِّيُّ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ بَنِي أُمٍّ وَاحِدَةٍ أَشْرَافًا، وُلِدُوا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، أَبْعَدَ قُبُورًا مِنْ بَنِي أُمِّ الْفَضْلِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَوَاضِعَ قُبُورِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ. إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: الْفَضْلُ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ،، وَ عُبَيْدُ اللَّهِ بِالشَّامِ.
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَلْبَسُ الْحُلَّةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ

الْعَبَّاسُ، وَ عَلِيٌّ، وَيُدْعَى السَّجَّادَ ; لِكَثْرَةِ صِلَاتِهِ، وَكَانَ أَجْمَلَ قُرَشِيٍّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ. وَقِيلَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَعَ الْجَمَالِ التَّامِّ. وَعَلَى هَذَا فَهُوَ أَبُو الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ، فَفِي وَلَدِهِ كَانْتِ الْخِلَافَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ، كَمَا سَيَأْتِي، وَكَانَ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا مُحَمَّدٌ، وَ الْفَضْلُ، وَ عَبْدُ اللَّهِ، وَ لُبَابَةُ، وَأُمُّهُمْ زُرْعَةُ بَنَتُ مُسَرَّحِ بْنِ مَعْدِيَكَرِبَ. وَأَسْمَاءُ وَهِيَ لِأُمِّ وَلَدٍ. وَكَانَ لَهُ مِنَ الْمَوَالِي عِكْرِمَةُ، وَ كُرَيْبٌ، وَ أَبُو مَعْبَدٍ، وَ شُعْبَةُ، وَ دَقِيقٌ، وَ أَبُو عَمْرَةَ، وَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَ مِقْسَمٌ.
وَقَدْ أَسْنَدَ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ وَسَبْعِينَ حَدِيثًا. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ الْعَدَوِيُّ الْكَعْبِيُّ، اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ عَلَى أَقْوَالٍ ; أَصَحُّهَا خُوَيْلِدُ بْنُ عَمْرٍو، أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَكَانَ مَعَهُ أَحَدُ أَلْوِيَةِ بَنِي كَعْبٍ الثَّلَاثَةِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ أَحَادِيثُ.
وَأَبُو وَاقِدٍ اللَّيْثِيُّ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ مُخْتَلَفٌ فِي اسْمِهِ وَفِي شُهُودِهِ بَدْرًا. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَ سُنَّةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، عَنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ

وَاحِدٍ فِي تَارِيخِ وَفَاتِهِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عَاشَ سَبْعِينَ سَنَةً.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَّةَ بَعْدَمَا جَاوَرَ بِهَا سَنَةً، وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ الْمُهَاجِرِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ الْهِلَالِيُّ، الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، قَالَ الشِّعْرَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ، وَهُوَ مِنْ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ
فَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ الْأَشْدَقِ، قَتَلَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ رَكِبَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُنُودِهِ قَاصِدًا قَرْقِيسِيَاءَ ; لِيُحَاصِرَ زُفَرَ بْنَ الْحَارِثِ الْكِلَابِيَّ الَّذِي أَعَانَ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدَ عَلَى جَيْشِ مَرْوَانَ حِينَ قَاتَلُوهُمْ بِعَيْنِ وَرْدَةَ، وَمِنْ عَزْمِهِ إِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقْصِدَ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا سَارَ إِلَيْهَا اسْتَخْلَفَ عَلَى دِمَشْقَ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ الْأَشْدَقَ، فَتَحَصَّنَ بِهَا وَأَخْذَ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ مَعَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَلَكِنَّهُ انْخَذَلَ عَنْهُ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ وَكَرَّ رَاجِعًا إِلَى دِمَشْقَ فِي اللَّيْلِ، وَمَعَهُ حُمَيْدُ بْنُ حُرَيْثِ بْنِ بَحْدَلٍ الْكَلْبِيُّ، وَزُهَيْرُ بْنُ الْأَبْرَدِ الْكَلْبِيُّ، فَانْتَهَوْا إِلَى دِمَشْقَ وَعَلَيْهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُمِّ الْحَكَمِ نَائِبًا مِنْ جِهَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ هَرَبَ وَتَرَكَ الْبَلَدَ، فَدَخَلَهَا عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْأَشْدَقُ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْخَزَائِنِ، وَخَطَبَ بِالنَّاسِ فَوَعَدَهُمُ الْعَدْلَ وَالنَّصَفَ وَالْعَطَاءَ الْجَزِيلَ وَالثَّنَاءَ الْجَمِيلَ، وَلَمَّا عَلِمَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِمَا فَعَلَهُ الْأَشْدَقُ، كَرَّ رَاجِعًا مِنْ فَوْرِهِ فَوَجَدَ الْأَشْدَقَ قَدْ حَصَّنَ دِمَشْقَ وَعَلَّقَ عَلَيْهَا السَّتَائِرَ وَالْمُسُوحَ، وَانْحَازَ الْأَشْدَقُ إِلَى حِصْنٍ رُومِيٍّ مَنِيعٍ كَانَ بِدِمَشْقَ فَنَزَلَهُ،

فَحَاصَرَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ وَقَاتَلَهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْأَشْدَقُ مُدَّةَ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَرَاسَلَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَقَالَ لَهُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ أَنْ تُفْسِدَ أَمْرَ بَيْتِكَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَإِنَّ فِيمَا صَنَعْتَ قُوَّةً لِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَارْجِعْ إِلَى بَيْتِكَ، وَلَكَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ. وَحَلَفَ بِالْأَيْمَانِ الْمُؤَكَّدَةِ أَنَّكَ وَلِيُّ عُهَدِي مِنْ بَعْدِي، وَكَتَبَا بَيْنَهُمَا كِتَابًا، فَانْخَدَعَ لَهُ عَمْرٌو وَفَتَحَ أَبْوَابَ دِمَشْقَ، ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ مَعَ كُلِّ عَامِلٍ لِعَبْدِ الْمَلِكِ عَامِلٌ لَهُ، وَكَتَبَا بَيْنَهُمَا كِتَابَ أَمَانٍ، وَذَلِكَ عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ. وَدَخَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ دِمَشْقَ إِلَى دَارِ الْإِمَارَةِ عَلَى عَادَتِهِ، وَبَعَثَ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأَشْدَقِ يَقُولُ لَهُ: رُدَّ عَلَى النَّاسِ أَعْطِيَاتِهِمُ الَّتِي أَخَذْتَهَا لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَمْرٌو يَقُولُ لَهُ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ إِلَيْكَ، وَلَيْسَ هَذَا الْبَلَدُ لَكَ، فَاخْرُجْ مِنْهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ بَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ يَأْمُرُهُ بِالْإِتْيَانِ إِلَى مَنْزِلِهِ بِدَارِ الْإِمَارَةِ الْخَضْرَاءِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ صَادَفَ عِنْدَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ زَوْجُ ابْنَتِهِ أُمِّ مُوسَى بِنْتِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، فَاسْتَشَارَهُ عَمْرٌو فِي الذَّهَابِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي، وَأَرَى أَنْ لَا تَأْتِيَهُ ; فَإِنَّ تُبَيْعًا الْحِمْيَرِيَّ ابْنَ امْرَأَةِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: إِنَّ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَاءَ بَنِي إِسْمَاعِيلَ يُغْلِقُ أَبْوَابَ دِمَشْقَ فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يُقْتَلَ. فَقَالَ عَمْرٌو: وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُ نَائِمًا مَا تَخَوَّفْتُ أَنْ يُنَبِّهَنِي ابْنُ الزَّرْقَاءِ، وَمَا كَانَ لِيَجْتَرِئَ عَلَى ذَلِكَ مِنِّي، مَعَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَتَانِي الْبَارِحَةَ فِي الْمَنَامِ

فَأَلْبَسَنِي قَمِيصَهُ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ لِلرَّسُولِ: أَبْلِغْهُ السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: أَنَا رَائِحٌ إِلَيْكَ الْعَشِيَّةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ - يَعْنِي بَعْدَ الظُّهْرِ - لَبِسَ عَمْرٌو دِرْعًا بَيْنَ ثِيَابِهِ وَتَقَلَّدَ سَيْفَهُ وَنَهَضَ فَعَثَرَ بِالْبُسَاطِ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ وَبَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ: إِنَّا نَرَى أَنْ لَا تَأْتِيَهُ. فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ذَلِكَ وَمَضَى فِي مِائَةٍ مِنْ مَوَالِيهِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ قَدْ أَمَرَ بَنِي مَرْوَانَ فَاجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ عِنْدَهُ، فَلَمَّا انْتَهَى عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ إِلَى الْبَابِ أَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَنْ يَدْخُلَ وَأَنْ يُحْبَسَ مَنْ مَعَهُ، عِنْدَ كُلِّ بَابٍ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، فَدَخَلَ كَذَلِكَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى صَرْحَةِ الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْ مَوَالِيهِ سِوَى وَصَيْفٍ وَاحِدٍ، فَرَمَى بِبَصَرِهِ فَإِذَا بَنُو مَرْوَانَ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ مُجْتَمِعُونَ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَحَسَّ بِالشَّرِّ فَالْتَفَتَ إِلَى وَصِيفِهِ، فَقَالَ لَهُ هَمْسًا: وَيْلَكَ انْطَلِقْ إِلَى أَخِي يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ فَقُلْ لَهُ فَلْيَأْتِنِي. فَلَمْ يَفْهَمْ عَنْهُ، وَقَالَ لَهُ: لَبَّيْكَ. فَأَعَادَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَفْهَمْ أَيْضًا، وَقَالَ: لَبَّيْكَ. فَقَالَ: وَيْلَكَ ! اغْرُبْ عَنِّي فِي حَرَقِ اللَّهِ وَنَارِهِ. وَكَانَ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ حَسَّانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، فَأَذِنَ لَهُمَا عَبْدُ الْمَلِكِ بِالِانْصِرَافِ، فَلَمَّا خَرَجَا غُلِّقَتِ الْأَبْوَابُ وَاقْتَرَبَ عَمْرٌو مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَرَحَّبَ بِهِ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، ثُمَّ جَعَلَ يُحَدِّثُهُ طَوِيلًا. ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ قَالَ: يَا غُلَامُ، خُذِ السَّيْفَ عَنْهُ. فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّا لِلَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَوَتَطْمَعُ أَنْ تَتَحَدَّثَ مَعِي مُتَقَلِّدًا سَيْفَكَ ؟ فَأَخَذَ الْغُلَامُ السَّيْفَ عَنْهُ، ثُمَّ تَحَدَّثَا سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: يَا أَبَا أُمَيَّةَ. قَالَ: لَبَّيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.

قَالَ: إِنَّكَ حَيْثُ خَلَعْتَنِي آلَيْتُ بِيَمِينِي إِنْ مَلَأْتُ عَيْنِي مِنْكَ وَأَنَا مَالِكٌ لَكَ أَنْ أَجْمَعَكَ فِي جَامِعَةٍ. فَقَالَتْ بَنُو مَرْوَانَ: ثُمَّ تُطْلِقُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: ثُمَّ أُطْلِقُهُ، وَمَا عَسَيْتُ أَنْ أَفْعَلَ بِأَبِي أُمَيَّةَ ؟ فَقَالَ بَنُو مَرْوَانَ: أَبِرَّ قَسَمَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عَمْرٌو: فَأَبِرَّ قَسَمَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَخْرَجَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ تَحْتِ فِرَاشِهِ جَامِعَةً فَطَرَحَهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا غُلَامُ، قُمْ فَاجْمَعْهُ فِيهَا. فَقَامَ الْغُلَامُ فَجَمَعَهُ فِيهَا، فَقَالَ عَمْرٌو: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تُخْرِجَنِي فِيهَا عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَمَكْرًا يَا أَبَا أُمَيَّةَ عِنْدَ الْمَوْتِ ؟ لَاهَا اللَّهِ إِذًا، مَا كُنَّا لِنُخْرِجَكَ فِي جَامِعَةٍ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، وَلَمَّا نُخْرِجْهَا مِنْكَ إِلَّا صَعَدًا. ثُمَّ اجْتَبَذَهُ اجْتِبَاذَةً أَصَابَ فَمَهُ السَّرِيرُ فَكَسَرَ ثَنِيَّتَهُ، فَقَالَ عَمْرٌو: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَدْعُوَكَ كَسْرُ عَظْمِي إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ إِذَا بَقِيتَ تَفِي لِي وَتَصْلُحُ قُرَيْشٌ لَأَطْلَقْتُكَ، وَلَكِنْ مَا اجْتَمَعَ رَجُلَانِ قَطُّ فِي بَلَدٍ عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ إِلَّا أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَمَا عَلِمْتَ يَا عَمْرُو أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فَحْلَانِ فِي شَوْلٍ ؟ فَلَمَّا تَحَقَّقَ عَمْرٌو مَا يُرِيدُ مِنْ قَتْلِهِ قَالَ لَهُ: أَغَدْرًا يَابْنَ الزَّرْقَاءِ ؟ وَبَيْنَمَا هُمَا كَذَلِكَ إِذْ أُذِّنَ لِلْعَصْرِ، فَقَامَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِيَخْرُجَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَأَمَرَ أَخَاهُ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مَرْوَانَ بِقَتْلِهِ، وَخَرَجَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ لَهُ

عَمْرٌو: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ أَنْ لَا تَلِيَ ذَلِكَ مِنِّي، وَلْيَتَوَلَّ ذَلِكَ غَيْرُكَ. فَكَفَّ عَنْهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ. وَلَمَّا رَأَى النَّاسُ عَبْدَ الْمَلِكِ قَدْ خَرَجَ وَلَيْسَ مَعَهُ عَمْرٌو أَرْجَفَ النَّاسُ بِعَمْرٍو، وَأَقْبَلَ أَخُوهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فِي أَلْفِ عَبْدٍ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَأُنَاسٍ مَعَهُمْ كَثِيرٍ، وَأَسْرَعَ عَبْدُ الْمَلِكِ الدُّخُولَ إِلَى دَارِ الْإِمَارَةِ، وَجَاءَ أُولَئِكَ فَجَعَلُوا يَدُقُّونَ بَابَ الْإِمَارَةِ وَيَقُولُونَ: أَسْمِعْنَا صَوْتَكَ يَا أَبَا أُمَيَّةَ. وَضَرَبَ رَجُلٌ مِنْهُمِ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي رَأْسِهِ بِالسَّيْفِ فَجَرَحَهُ، فَأَدْخَلَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرَبِيٍّ صَاحِبُ الدِّيوَانِ بَيْتًا، وَأَحْرَزَهُ فِيهِ، وَوَقَعَتْ خَبْطَةٌ عَظِيمَةٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَضَجَّتِ الْأَصْوَاتُ. وَلَمَّا رَجَعَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَجَدَ أَخَاهُ لَمْ يَقْتُلْهُ، فَلَامَهُ وَسَبَّهُ وَسَبَّ أُمَّهُ، - وَلَمْ تَكُنْ أُمُّ عَبْدِ الْعَزِيزِ أُمُّ عَبْدِ الْمَلِكِ - فَقَالَ: إِنَّهُ نَاشَدَنِي اللَّهَ وَالرَّحِمَ.
وَكَانَ ابْنَ عَمَّةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ قَالَ: يَا غُلَامُ، آتِنِي بِالْحَرْبَةِ. فَأَتَاهُ بِهَا فَهَزَّهَا، وَضَرَبَهُ بِهَا فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا، ثُمَّ ثَنَّى فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا، فَضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى عَضُدِ عَمْرٍو فَوَجْدَ مَسَّ الدِّرْعِ فَضَحِكَ، وَقَالَ: وَدَارِعٌ أَيْضًا ! إِنْ كُنْتَ لَمُعِدًّا، يَا غُلَامُ، ائْتِنِي بِالصَّمْصَامَةِ. فَأَتَاهُ بِسَيْفِهِ ثُمَّ أَمَرَ بِعَمْرٍو فَصُرِعَ فَجَلَسَ عَلَى صَدْرِهِ فَذَبَحَهُ، وَهُوَ يَقُولُ:
يَا عَمْرُو إِنْ لَا تَدَعْ شَتْمِي وَمَنْقَصَتِي أَضْرِبْكَ حَيْثُ تَقُولُ الْهَامَةُ اسْقُونِي

قَالُوا: وَانْتَفَضَ عَبْدُ الْمَلِكِ بَعْدَمَا ذَبَحَهُ كَمَا تَنْتَفِضُ الْقَصَبَةُ بِرِعْدَةٍ شَدِيدَةٍ جِدًّا، بِحَيْثُ إِنَّهُمْ مَا رَفَعُوهُ عَنْ صَدْرِهِ إِلَّا مَحْمُولًا، فَوَضَعُوهُ عَلَى سَرِيرِهِ وَهُوَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا قَطُّ قِتْلَةً، صَاحِبُ دُنْيَا وَلَا طَالِبُ آخِرَةٍ. وَدَفَعَ الرَّأْسَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُمِّ الْحَكَمِ، فَخَرَجَ بِهِ لِلنَّاسِ فَأَلْقَاهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَخَرَجَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ وَمَعَهُ الْبِدَرُ مِنَ الْأَمْوَالِ تُحْمَلُ، فَأُلْقِيَتْ بَيْنَ النَّاسِ فَجَعَلُوا يَخْتَطِفُونَهَا، وَيُقَالُ: إِنَّهَا اسْتُرْجِعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ النَّاسِ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَيُقَالُ إِنَّ الَّذِي وَلِيَ قَتْلَ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ مَوْلَى عَبْدِ الْمَلِكِ أَبُو الزُّعَيْزِعَةِ بَعْدَمَا خَرَجَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ دَخَلَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَخُو عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ دَارَ الْإِمَارَةِ، بَعْدَ مَقْتَلِ أَخِيهِ، بِمَنْ مَعَهُ، فَقَامَ إِلَيْهِمْ بَنُو مَرْوَانَ فَاقْتَتَلُوا، وَجُرِحَ جَمَاعَاتٌ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَجَاءَتْ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ صَخْرَةٌ فِي رَأْسِهِ أَشْغَلَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنِ الْقِتَالِ، ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَجَعَلَ يَقُولُ: وَيْحَكُمُ أَيْنَ الْوَلِيدُ ؟ وَأَبِيهِمْ لَئِنْ كَانُوا قَتَلُوهُ لَقَدْ أَدْرَكُوا ثَأْرَهُمْ، فَأَتَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرَبِيٍّ الْكِنَانِيُّ فَقَالَ: هَذَا الْوَلِيدُ عِنْدِي، قَدْ أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ بَأْسٌ، ثُمَّ أَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنْ يُقْتَلَ، فَشَفَعَ فِيهِ أَخُوهُ

عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ وَفِي جَمَاعَاتٍ آخَرِينَ مَعَهُ، كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ يَوْمَئِذٍ، فَشَفَّعَهُ فِيهِمْ وَأَمَرَ بِحَبْسِهِ فَسُجِنَ شَهْرًا، ثُمَّ سَيَّرَهُ وَبَنِي عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَأَهْلِيهِمْ إِلَى الْعِرَاقِ فَدَخَلُوا عَلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَأَكْرَمَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ.
ثُمَّ لَمَّا انْعَقَدَتِ الْجَمَاعَةُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ - كَمَا سَيَأْتِي - وَفَدُوا عَلَيْهِ فَكَادَ يَقْتُلُهُمْ، فَتَلَطَّفَ بَعْضُهُمْ فِي الْعِبَارَةِ حَتَّى رَقَّ لَهُمْ رِقَّةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: إِنَّ أَبَاكُمْ خَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَنِي أَوْ أَقْتُلَهُ، فَاخْتَرْتُ قَتْلَهُ عَلَى قَتْلِي، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَمَا أَرْغَبَنِي فِيكُمْ وَأَوْصَلَنِي لِقَرَابَتِكُمْ وَأَرْعَانِي لِحَقِّكُمْ ! فَأَحْسَنَ جَائِزَتَهُمْ وَقَّرَبَهُمْ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بَعَثَ إِلَى امْرَأَةِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ أَنِ ابْعَثِي إِلَيَّ بِكِتَابِ الْأَمَانِ الَّذِي كُنْتُ كَتَبْتُهُ لِعَمْرٍو. فَقَالَتْ: إِنِّي دَفَنْتُهُ مَعَهُ لِيُحَاكِمَكَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ.
وَقَدْ كَانَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَعَدَ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ هَذَا أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ وَلَدِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ كَلَامًا مُجَرَّدًا فَطَمِعَ فِي ذَلِكَ وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يُبْغِضُهُ بُغْضًا شَدِيدًا مِنَ الصِّغَرِ، ثُمَّ كَانَ هَذَا صَنِيعَهُ إِلَيْهِ فِي الْكِبَرِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذُكِرَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ ذَاتَ يَوْمٍ: عَجَبٌ مِنْكَ وَمِنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، كَيْفَ أَصَبْتَ غِرَّتَهُ حَتَّى قَتَلْتَهُ ؟ فَقَالَ:
أَدْنَيْتُهُ مِنِّي لِيَسْكُنَ رَوْعُهُ فَأَصُولُ صَوْلَةَ حَازِمٍ مُسْتَمْكِنِ
غَضَبًا وَمَحْمِيَةً لِدِينِي إِنَّهُ لَيْسَ الْمُسِيءُ سَبِيلُهُ كَالْمُحْسِنِ

قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: وَهَذَا الشِّعْرُ لِلصَّبِيِّ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، تَمَثَّلَ بِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ.
وَرَوَى ابْنُ دُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْعُتْبِيِّ أَنْ عَبْدَ الْمَلِكِ قَالَ: لَقَدْ كَانَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ دَمِ النَّوَاظِرِ، وَلَكِنَّ وَاللَّهِ لَا يَجْتَمِعُ فَحْلَانِ فِي الْإِبِلِ إِلَّا أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَإِنَّا لَكَمَا قَالَ أَخُو بَنِي يَرْبُوعٍ:
أُجَازِي مَنْ جَزَانِي الْخَيْرَ خَيْرًا وَجَازِي الْخَيْرِ يُجْزَى بِالنَّوَالِ
وَأَجْزِي مَنْ جَزَانِي الشَّرَّ شَرًّا كَمَا تُحْذَى النِّعَالُ عَلَى النِّعَالِ
قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ وَأَنْشَدَ أَبُو الْيَقْظَانِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ فِي قَتْلِهِ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ:
صَحَّتْ وَلَا تَشْلَلْ وَضَرَّتْ عَدُوَّهَا يَمِينٌ أَرَاقَتْ مُهْجَةَ ابْنِ سَعِيدِ
وَجَدْتُ ابْنَ مَرْوَانَ وَلَا تَبْلَ نَفْسُهُ شَدِيدًا ضَرِيرَ الْبَأْسِ غَيْرَ بَلِيدِ
هُوَ ابْنُ أَبِي الْعَاصِي لِمَرْوَانَ يَنْتَمِي إِلَى أُسْرَةٍ طَابَتْ لَهُ وَجُدُودِ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَمَّا حِصَارُ عَبْدِ الْمَلِكِ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأَشْدَقِ فَكَانَ فِي

سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ رَجَعَ إِلَيْهِ مَنْ بُطْنَانَ، فَحَاصَرَهُ بِدِمَشْقَ، وَأَمَّا قَتْلُهُ إِيَّاهُ فَكَانَ فِي سَنَةِ سَبْعِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأَشْدَقِ
هُوَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، أَبُو أُمَيَّةَ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالْأَشْدَقِ، يُقَالُ: إِنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا أَحْسَنَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ. وَحَدِيثًا آخَرَ فِي الْعِتْقِ.
وَرَوَى عَنْ عُمَرَ، وَ عُثْمَانَ، وَ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ، وَحَدَّثَ عَنْهُ بَنُوهُ؛ أُمَيَّةُ وَسَعِيدٌ، وَ مُوسَى وَغَيْرُهُمْ. وَاسْتَنَابَهُ مُعَاوِيَةُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ أَبِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنَ الْكُرَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ، يُعْطِي الْكَثِيرَ، وَيَتَحَمَّلُ الْعَظَائِمَ، وَكَانَ وَصِيَّ أَبِيهِ مِنْ بَيْنِ بَنِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ - كَمَا

قَدَّمْنَا - مِنَ الْمَشَاهِيرِ الْكُرَمَاءِ، وَالسَّادَةِ النُّجَبَاءِ. قَالَ عَمْرٌو: مَا شَتَمْتُ رَجُلًا مُنْذُ كُنْتُ رَجُلًا، وَلَا كَلَّفْتُ مَنْ قَصَدَنِي أَنْ يَسْأَلَنِي ; لَهُوَ أَمَنُّ عَلَيَّ مِنِّي عَلَيْهِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: خُطَبَاءُ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَخُطَبَاءُ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ: مُعَاوِيَةُ وَابْنُهُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَابْنُهُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، ثَنَا حَمَّادٌ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَيُرْعَفَنَّ عَلَى مِنْبَرِي جَبَّارٌ مِنْ جَبَابِرَةِ بَنِي أُمَيَّةَ حَتَّى يَسِيلَ رُعَافُهُ. قَالَ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى عَمْرَو بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ رَعَفَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَالَ رُعَافُهُ.
وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ الْحَرَّةِ أَيَّامَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لِقِتَالِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَنَهَاهُ أَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ، وَذَكَرَ لَهُ الْحَدِيثَ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْرِيمِ مَكَّةَ فَقَالَ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ. الْحَدِيثَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ. ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ دَخَلَ إِلَى مِصْرَ بَعْدَمَا دَعَا إِلَى

بَيْعَةِ نَفْسِهِ، وَاسْتَقَرَّ لَهُ الشَّامُ وَدَخَلَ مَعَهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ فَفَتَحَ مِصْرَ، وَقَدْ كَانَ وَعَدَ عَمْرًا أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَنْ يَكُونَ قَبْلَ ذَلِكَ نَائِبًا بِدِمَشْقَ، فَلَمَّا قَوِيَتْ شَوْكَةُ مَرْوَانَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ لِوَلَدِهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَخَلَعَ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ مِنْ ذَلِكَ، فَمَا زَالَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، حَتَّى كَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ، وَعَزَمَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى الْعِرَاقِ لِقِتَالِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَرَجَعَ مِنْ جَيْشِهِ وَدَخَلَ عَمْرٌو دِمَشْقَ وَتَحَصَّنَ بِهَا، وَأَجَابَهُ أَهْلُهَا، فَاتَّبَعَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ فَحَاصَرَهُ، ثُمَّ اسْتَنْزَلَهُ عَلَى أَمَانٍ صُورِيٍّ، ثُمَّ قَتَلَهُ كَمَا قَدَّمْنَا.
وَكَانَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ يُونُسَ: سَنَةَ سَبْعِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنَ الْغَرِيبِ مَا ذَكَرَهُ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ بِسَنَدٍ لَهُ: أَنْ رَجُلًا سَمِعَ فِي الْمَنَامِ قَائِلًا يَقُولُ عَلَى سُورِ دِمَشْقَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَبْلَ قَتْلِهِ بِمُدَّةٍ، هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
أَلَا يَا لِقَوْمِي لِلسَّفَاهَةِ وَالْوَهْنِ وَلِلْفَاجِرِ الْمَوْهُونِ وَالرَّأْيِ ذِي الْأَفْنِ
وَلِابْنِ سَعِيدٍ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ عَلَى قَدَمَيْهِ خَرَّ لِلْوَجْهِ وَالْبَطْنِ

رَأَى الْحِصْنَ مَنْجَاةً مِنَ الْمَوْتِ فَالْتَجَا إِلَيْهِ فَزَارَتْهُ الْمَنِيَّةُ فِي الْحِصْنِ
قَالَ: فَأَتَى الرَّجُلُ عَبْدَ الْمَلِكِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: وَيَحَكَ، سَمِعَهَا مِنْكَ أَحَدٌ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: ضَعْهَا تَحْتَ قَدَمَيْكَ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ خَلَعَ عَمْرٌو الطَّاعَةَ، وَقَتَلَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ أَيْضًا أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ
وَيُقَالُ: الدِّيلِيُّ. قَاضِي الْبَصْرَةَ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، وَاسْمُهُ ظَالِمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سُفْيَانَ بْنِ جَنْدَلِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ حِلْسِ بْنِ نُفَاثَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الدُّئِلِ بْنِ بَكْرٍ أَبُو

الْأَسْوَدِ، الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ عِلْمُ النَّحْوِ وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ عَلَى أَقْوَالٍ ; أَشْهَرُهَا أَنَّ اسْمَهُ ظَالِمُ بْنُ عَمْرٍو. وَقِيلَ: عَكْسُهُ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: اسْمُهُ عَوَيْمِرُ بْنُ ظُوَيْلِمٍ. قَالَ: وَقَدْ أَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرَهُ، وَشَهِدَ الْجَمَلَ مَعَ عَلِيٍّ، وَهَلَكَ فِي وِلَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ: كَانَ ثِقَةً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي النَّحْوِ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ: مَاتَ فِي طَاعُونِ الْجَارِفِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَدْ كَانَ ابْتِدَاؤُهَا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ. قُلْتُ: وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَغَيْرُهُ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى إِلَيْهِ عِلْمَ النَّحْوِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي

طَالِبٍ وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ الْكَلَامَ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ نَحَا نَحْوَهُ وَفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ، وَسَلَكَ طَرِيقَهَ فَسُمِّيَ هَذَا الْعِلْمُ النَّحْوَ لِذَلِكَ. وَكَانَ الْبَاعِثَ لِأَبِي الْأَسْوَدِ عَلَى بَسْطِ ذَلِكَ تَغَيُّرُ لُغَةِ النَّاسِ، وَدُخُولُ اللَّحْنِ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَيَّامَ وِلَايَةِ زِيَادٍ عَلَى الْعِرَاقِ، وَكَانَ أَبُو الْأَسْوَدِ مُؤَدِّبَ بَنِيهِ ; فَإِنَّهُ جَاءَ رَجُلٌ يَوْمًا إِلَى زِيَادٍ فَقَالَ: تُوُفِّيَ أَبَانَا وَتَرَكَ بَنُونَ، فَأَمَرَهُ زِيَادٌ أَنْ يَضَعَ لِلنَّاسِ شَيْئًا يَهْتَدُونَ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَيُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَا وَضَعَ مِنْهُ بَابُ التَّعَجُّبِ ; مِنْ أَجْلِ أَنَّ ابْنَتَهُ قَالَتْ لَهُ لَيْلَةً: يَا أَبَهْ، مَا أَحْسَنُ السَّمَاءِ ! فَقَالَ: نُجُومُهَا. فَقَالَتْ: إِنِّي لَمْ أَسْأَلْ عَنْ أَحْسَنِهَا، إِنَّمَا تَعَجَّبْتُ مِنْ حُسْنِهَا. فَقَالَ قُولِي: مَا أَحْسَنَ السَّمَاءَ !
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَقَدْ كَانَ أَبُو الْأَسْوَدِ يَبْخَلُ، وَكَانَ يَقُولُ: لَوْ أَطَعْنَا الْمَسَاكِينَ فِي أَمْوَالِنَا لَكُنَّا مِثْلَهُمْ، وَعَشَّى لَيْلَةً مِسْكِينًا، ثُمَّ قَيَّدَهُ وَبَيَّتَهُ عِنْدَهُ، وَمَنَعَهُ أَنْ يَخْرُجَ لَيْلَتَهُ تِلْكَ ; لِئَلَّا يُؤْذِيَ الْمُسْلِمِينَ بِسُؤَالِهِ، فَقَالَ لَهُ الْمِسْكِينُ: أَطْلِقْنِي. فَقَالَ: هَيْهَاتَ، إِنَّمَا عَشَّيْتُكَ لِأُرِيحَ مِنْكَ الْمُسْلِمِينَ اللَّيْلَةَ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَطْلَقَهُ. وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ أَظْهَرَ خَارِجِيٌّ التَّحْكِيمَ بِمِنًى فَقُتِلَ عِنْدَ الْجَمْرَةِ. وَالنُّوَّابُ فِيهَا هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ بْنِ جُنَادَةَ
، لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَلِأَبِيهِ أَيْضًا صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ. نَزَلَ الْكُوفَةَ وَبِهَا تُوُفِّيَ هَذِهِ السَّنَةَ، وَقِيلَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ الْأَنْصَارِيَّةُ
، بَايَعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَتَلَتْ بِعَمُودِ خَيْمَتِهَا يَوْمَ الْيَرْمُوكِ تِسْعَةً مِنَ الرُّومِ لَيْلَةَ عُرْسِهَا، وَسَكَنَتْ دِمَشْقَ وَقَبْرُهَا بِبَابِ الصَّغِيرِ.
حَسَّانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ، الْأَمِيرُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْبَحْدَلِيُّ

الْكَلْبِيُّ. وَهُوَ الَّذِي قَامَ بِبَيْعَةِ مَرْوَانَ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ سَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ سَلَّمَهَا لِمَرْوَانَ.
وَقَصْرُ حَسَّانَ بِدِمَشْقَ، وَيُعْرَفُ بِقَصْرِ ابْنِ أَبِي الْحَدِيدِ، وَهُوَ قَصْرُ الْبَحَادِلَةِ.
مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
يُوسُفُ بْنُ الْحَكَمِ الثَّقَفِيُّ
وَالِدُ الْحَجَّاجِ. قَدِمَ مِنَ الطَّائِفِ إِلَى الشَّامِ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى مِصْرَ وَالْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَلْزَمُ مَرْوَانَ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ
أَخُو مَرْوَانَ، شَهِدَ الدَّارَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَكَانَ شَاعِرًا مُحْسِنًا، وَلَهُ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ وَابْنُهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِيهَا ثَارَتِ الرُّومُ وَاسْتَجَاشُوا عَلَى مَنْ بِالشَّامِ، وَاسْتَضْعَفُوهُمْ لِمَا يَرَوْنَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَصَالِحَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، مَلِكَ الرُّومِ، وَهَادَنَهُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي كُلِّ جُمْعَةٍ أَلْفَ دِينَارٍ خَوْفًا مِنْهُ عَلَى الشَّامِ.
وَفِيهَا وَقْعُ الْوَبَاءُ بِمِصْرَ، فَهَرَبَ مِنْهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ إِلَى الشَّرْقِيَّةِ، فَنَزَلَ حُلْوَانَ وَهِيَ عَلَى مَرْحَلَةٍ مِنَ الْقَاهِرَةِ وَاتَّخَذَهَا مَنْزِلًا وَاشْتَرَاهَا مِنَ الْقِبْطِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَبَنَى بِهَا دَارًا لِلْإِمَارَةِ، وَجَامِعًا، وَأَنْزَلَهَا الْجُنْدَ.
وَفِيهَا رَكِبَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى مَكَّةَ وَمَعَهُ أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ فَأَعْطَى وَفَرَّقَ، وَنَحَرَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ أَلْفَ بَدَنَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ شَاةٍ، وَأَغْنَى سَاكِنِي مَكَّةَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَأَنْعَمَ وَأَطْلَقَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّاسِ بِالْحِجَازِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْعُمَّالُ عَلَى الْأَمْصَارِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِيمَا قَبْلُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ

عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْقُرَشِيُّ الْعَدَوِيُّ
وَأُمُّهُ: جَمِيلَةُ بِنْتُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ. وُلِدَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَرْوِ إِلَّا عَنْ أَبِيهِ حَدِيثًا وَاحِدًا، " إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا " الْحَدِيثَ. وَعَنْهُ ابْنَاهُ حَفْصٌ، وَ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ طَلَّقَ أَبُوهُ أُمَّهُ فَأَخَذَتْهُ جَدَّتُهُ الشَّمُوسُ بِنْتُ أَبِي عَامِرٍ، حَكَمَ لَهُ بِهَا الصِّدِّيقُ، وَقَالَ: شَمُّهَا وَلُطْفُهَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْكَ. ثُمَّ لَمَّا زَوَّجَهُ أَبُوهُ فِي أَيَّامِهِ أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ شَهْرًا، ثُمَّ كَفَّ عَنِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ ثُمُنَ مَالِهِ، وَأَمْرَهُ أَنْ يَتَّجِرَ وَيُنْفِقَ عَلَى عَيَالِهِ. وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ: أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ عَاصِمٍ وَبَيْنَ الْحَسَنِ أَوِ الْحُسَيْنِ مُنَازَعَةٌ فِي أَرْضٍ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ عَاصِمٌ مِنَ الْحَسَنِ الْغَضَبَ قَالَ: هِيَ لَكَ. فَقَالَ لَهُ: بَلْ هِيَ لَكَ. فَتَرَكَاهَا وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لَهَا، وَلَا أَحَدٌ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا حَتَّى أَخَذَهَا النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَكَانَ عَاصِمٌ رَئِيسًا وَقُورًا، كَرِيمًا فَاضِلًا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: مَاتَ سَنَةَ سَبْعِينَ.

قَبِيصَةُ بْنُ جَابِرِ بْنِ وَهْبٍ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ أَبُو الْعَلَاءِ
، مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، شَهِدَ خُطْبَةَ عُمَرَ بِالْجَابِيَةِ، وَكَانَ أَخَا مُعَاوِيَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَكَانَ مِنَ الْفُصَحَاءِ الْبُلَغَاءِ.
قَيْسُ بْنُ ذَرِيحٍ، أَبُو يَزِيدَ، اللَّيْثِيُّ
الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، مِنْ بَادِيَةِ الْحِجَازِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَخُو الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ مِنَ الرَّضَاعَةِ.
وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ لُبْنَى بِنْتَ الْحَبَّابِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَلَمَّا طَلَّقَهَا، هَامَ لِمَا بِهِ مِنَ الْغَرَامِ، وَسَكَنَ الْبَادِيَةَ، وَجَعَلَ يَقُولُ فِيهَا الْأَشْعَارَ وَنَحُلَ جِسْمُهُ، فَلَمَّا زَادَ مَا بِهِ أَتَاهُ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ، فَأَخْذَهُ وَمَضَى بِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَقَالَ لَهُ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، ارْكَبْ مَعِي فِي حَاجَةٍ. فَرَكِبَ، وَاسْتَنْهَضَ مَعَهُ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ مِنْ وُجُوهِ قُرَيْشٍ، فَذَهَبُوا مَعَهُ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا يُرِيدُ، حَتَّى أَتَى بِهِمْ بَابَ،

زَوْجِ لُبْنَى، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَإِذَا وُجُوهُ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكُمْ ! مَا جَاءَ بِكُمْ ؟ قَالُوا: حَاجَةٌ لِابْنِ أَبِي عَتِيقٍ. فَقَالَ الرَّجُلُ: اشْهَدُوا عَلَى أَنَّ حَاجَتَهُ مَقْضِيَّةٌ، وَحُكْمَهُ جَائِزٌ. فَقَالُوا: أَخْبِرْهُ بِحَاجَتِكَ. فَقَالَ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ: اشْهَدُوا عَلَى أَنَّ زَوْجَتَهُ لُبْنَى مِنْهُ طَالِقٌ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ: قَبَّحَكَ اللَّهُ، أَلِهَذَا جِئْتَ بِنَا ؟ فَقَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكُمْ، يُطَلِّقُ هَذَا زَوْجَتَهُ، وَيَتَزَوَّجُ بِغَيْرِهَا، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمُوتَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي هَوَاهَا صَبَابَةً، وَاللَّهِ لَا أَبْرَحُ حَتَّى يَنْتَقِلَ مَتَاعُهَا إِلَى بَيْتِ قَيْسٍ، فَفَعَلَتْ، وَأَقَامُوا مُدَّةً فِي أَرْغَدِ عَيْشٍ وَأَطْيَبِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
يَزِيدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ رَبِيعَةَ الْحِمْيَرِيُّ الشَّاعِرُ
كَانَ كَثِيرَ الشِّعْرِ وَالْهَجْوِ. وَقَدْ أَرَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ قَتْلَهُ ; لِكَوْنِهِ هَجَا أَبَاهُ زِيَادًا، فَمَنَعَهُ مُعَاوِيَةُ مِنْ قَتْلِهِ، وَقَالَ: أَدِّبْهُ. فَسَقَاهُ دَوَاءً مُسُهِلًا وَأَرْكَبَهُ عَلَى حِمَارٍ، وَطَافَ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَهُوَ يَسْلَحُ عَلَى الْحِمَارِ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ:
يَغْسِلُ الْمَاءُ مَا صَنَعْتُ وَشِعْرِي رَاسِخٌ مِنْكَ فِي الْعِظَامِ الْبَوَالِي

بَشِيرُ بْنُ النَّضْرِ
قَاضِي مِصْرَ، كَانَ رِزْقُهُ فِي الْعَامِ أَلْفَ دِينَارٍ. تُوُفِّيَ بِمِصْرَ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْزَةَ الْخَوْلَانِيُّ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
مَالِكُ بْنُ يَخَامِرَ السَّكْسَكِيُّ الْأَلْهَانِيُّ الْحِمْصِيُّ
تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، وَيُقَالُ: لَهُ صُحْبَةٌ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ عَنْهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي حَدِيثِ الطَّائِفَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْحَقِّ أَنَّهُمْ بِالشَّامِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: لَهُ صُحْبَةٌ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ تَابِعِيٌّ وَلَيْسَ بِصَحَابِيٍّ، وَكَانَ مِنْ أَخَصِّ أَصْحَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقِيلَ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ
وَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَذَلِكَ أَنْ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ سَارَ فِي جُنُودٍ هَائِلَةٍ مِنَ الشَّامِ قَاصِدًا مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ بِالْعِرَاقِ، فَالْتَقَيَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ كَانَا قَبْلَهَا يَرْكَبُ كُلُّ وَاحِدٍ لِمُلْتَقَى الْآخَرِ، فَيَحُولُ بَيْنَهُمَا الشِّتَاءُ وَالْبَرْدُ وَالْوَحْلُ، فَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى بَلَدِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا الْعَامِ سَارَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ السَّرَايَا، وَدَخَلَ بَعْضُ مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ فَدَعَا أَهْلَهَا إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فِي السِّرِّ، فَاسْتَجَابَ لَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَدْ كَانَ مُصْعَبٌ سَارَ إِلَى الْحِجَازِ، فَجَاءَ وَدَخَلَ الْبَصْرَةَ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ، فَأَنَّبَ الْكُبَرَاءَ مِنَ النَّاسِ، وَشَتَمَهُمْ وَلَامَهُمْ عَلَى دُخُولِ أُولَئِكَ إِلَيْهِمْ، وَإِقْرَارِهِمْ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَهَدَمَ دُورَ بَعْضِهِمْ، ثُمَّ شَخَصَ إِلَى الْكُوفَةِ، ثُمَّ بَلَغَهُ قَصْدُ عَبْدِ الْمَلِكِ لَهُ بِجُنُودِ الشَّامِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ.
وَوَصَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى مَسْكِنٍ، وَكَتَبَ إِلَى الْمَرْوَانِيَّةِ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِمَنْ بَعَثَهُ إِلَيْهِمْ فَأَجَابُوهُ، وَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ يُوَلِّيَهُمْ أَصْبَهَانَ، فَقَالَ: نَعَمْ. وَهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَقَدْ جَعَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ،

وَخَرَجَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَخَذَلُوهُ وَجَعَلَ يَتَأَمَّلُ مَنْ مَعَهُ فَلَا يَجِدُهُمْ يُقَاوِمُونَ أَعْدَاءَهُ، فَاسْتَقْتَلَ وَطَمَّنَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: لِي بِالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ أُسْوَةٌ حِينَ امْتَنَعَ مِنْ إِلْقَائِهِ يَدَهُ، وَمِنَ الذِّلَّةِ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، وَجَعَلَ يُنْشِدُ وَيَقُولُ مُسَلِّيًا نَفْسَهُ:
وَإِنَّ الْأُلَى بِالطَّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ تَأَسَّوْا فَسَنُّوا لِلْكِرَامِ التَّأَسِّيَا
وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ أُمَرَائِهِ أَنْ يُقِيمَ بِالشَّامِ، وَأَنْ يَبْعَثَ إِلَى مُصْعَبٍ جَيْشًا فَأَبَى، وَقَالَ: لَعَلِّي أَبْعَثُ رَجُلًا شُجَاعًا لَا رَأْيَ لَهُ، أَوْ مَنْ لَهُ رَأْيٌ وَلَا شَجَاعَةَ لَهُ، وَإِنِّي أَجِدُ مِنْ نَفْسِي بَصَرًا بِالْحَرْبِ وَشَجَاعَةً، وَإِنَّ مُصْعَبًا فِي بَيْتِ شَجَاعَةٍ، أَبُوهُ أَشْجَعُ قُرَيْشٍ، وَأَخُوهُ لَا تُجْهَلُ شَجَاعَتُهُ، وَهُوَ شُجَاعٌ، لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ، وَهُوَ يُحِبُّ الدَّعَةَ وَالْخَفْضَ، وَمَعَهُ مَنْ يُخَالِفُهُ، وَمَعِي مَنْ يَنْصَحُ لِي. فَسَارَ بِنَفْسِهِ، فَلَمَّا تَقَارَبَ

الْجَيْشَانِ بَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى أُمَرَاءِ مُصْعَبٍ بِكُتُبٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى نَفْسِهِ وَيَعِدُهُمُ الْوِلَايَاتِ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ إِلَى مُصْعَبٍ فَأَلْقَى إِلَيْهِ كِتَابًا مَخْتُومًا، وَقَالَ: هَذَا جَاءَنِي مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ. فَفَتَحَهُ فَإِذَا هُوَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِتْيَانِ إِلَيْهِ، وَلَهُ نِيَابَةُ الْعِرَاقِ. وَقَالَ لِمُصْعَبٍ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أُمَرَائِكَ إِلَّا وَقَدْ جَاءَهُ كِتَابٌ مِثْلُ هَذَا فَإِنْ أَطَعْتَنِي ضَرَبْتُ أَعْنَاقَهُمْ. فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: إِنِّي لَوْ فَعَلْتُ ذَلِكَ لَمْ تَنْصَحْنَا عَشَائِرُهُمْ بَعْدَهُمْ. فَقَالَ: فَأَوَقِرْهُمْ فِي الْحَدِيدِ وَابْعَثْهُمْ إِلَى أَبْيَضِ كِسْرَى فَاسْجُنْهُمْ فِيهِ، وَوَكِّلْ بِهِمْ مَنْ إِنْ غُلِبْتَ ضَرَبَ أَعْنُقَهُمْ، وَإِنْ غَلَبْتَ مَنَنْتَ بِهِمْ عَلَى عَشَائِرَهُمْ. فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا النُّعْمَانِ، إِنِّي لَفِي شُغْلٍ عَنْ هَذَا. ثُمَّ قَالَ مُصْعَبٌ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَحْرٍ - يَعْنِي الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ - إِنْ كَانَ لِيُحَذِّرُنِي غَدْرَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ الْآنَ.
ثُمَّ تَوَاجَهَ الْجَيْشَانِ بِدَيْرِ الْجَاثَلِيقِ مِنْ مَسْكِنٍ، فَحَمَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ - وَهُوَ أَمِيرُ الْمُقَدِّمَةِ الْعِرَاقِيَّةِ لِجَيْشِ مُصْعَبٍ - عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ - وَهُوَ أَمِيرُ مُقَدِّمَةِ الشَّامِ - فَأَزَالَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ، فَأَرْدَفَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَحَمَلُوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ، وَمَنْ مَعَهُ فَطَحَنُوهُمْ، وَقُتِلَ إِبْرَاهِيمُ

بْنُ الْأَشْتَرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَفَا عَنْهُ، وَقُتِلَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ عَلَى خَيْلِ مُصْعَبٍ فَهَرَبَ أَيْضًا وَلَجَأَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَجَعَلَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي الْقَلْبِ يُنْهِضُ أَصْحَابَ الرَّايَاتِ، وَيَحُثُّ الشُّجْعَانَ وَالْأَبْطَالَ أَنْ يَتَقَدَّمُوا إِلَى أَمَامِ الْقَوْمِ، فَلَا يَتَحَرَّكُ أَحَدٌ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا إِبْرَاهِيمُ وَلَا إِبْرَاهِيمَ لِي الْيَوْمَ ! وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ وَتَخَاذَلَتِ الرِّجَالُ، وَضَاقَ الْحَالُ، وَكَثُرَ النِّزَالُ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: عَنْ يَحْيَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَرْسَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَخَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ إِلَى مُصْعَبٍ يُعْطِيهِ الْأَمَانَ فَأَبَى، وَقَالَ: إِنَّ مِثْلِي لَا يَنْصَرِفُ عَنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَّا غَالِبًا أَوْ مَغْلُوبًا.
قَالُوا: فَنَادَى مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ عِيسَى بْنَ مُصْعَبٍ فَقَالَ: يَابْنَ أَخِي، لَا تَقْتُلْ نَفْسَكَ، لَكَ الْأَمَانُ. فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: قَدْ آمَنَكَ عَمُّكَ فَامْضِ إِلَيْهِ. فَقَالَ: لَا تَتَحَدَّثُ نِسَاءُ قُرَيْشٍ أَنِّي أَسْلَمْتُكَ لِلْقَتْلِ. فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، فَارْكَبْ خَيْلَ السَّبْقِ فَالْحَقْ بِعَمِّكَ، فَأَخْبِرْهُ بِمَا صَنَعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ فَإِنِّي مَقْتُولٌ هَاهُنَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَا أُخْبِرُ عَنْكَ أَحَدًا أَبَدًا، وَلَا أُخْبِرُ نِسَاءَ قُرَيْشٍ بِمَصْرَعِكَ أَبَدًا، وَلَا أُقْتَلُ إِلَّا مَعَكَ، وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ رَكِبْتَ خَيْلَكَ، وَسِرْنَا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُمْ عَلَى

الْجَمَاعَةِ. فَقَالَ مُصْعَبٌ: لَا وَاللَّهِ، مَا الْفِرَارُ لِي بِعَادَةٍ، وَلَكِنْ أُقَاتِلُ، فَإِنْ قُتِلْتُ فَمَا السَّيْفُ لِي بِعَارٍ، وَاللَّهِ لَا تَتَحَدَّثُ قُرَيْشٌ عَنِّي أَنِّي فَرَرْتُ مِنَ الْقِتَالِ. ثُمَّ قَالَ لِابْنِهِ: تَقَدَّمْ بَيْنَ يَدَيَّ حَتَّى أَحْتَسِبَكَ. فَتَقَدَّمَ ابْنُهُ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَأُثْخِنَ مُصْعَبٌ بِالرَّمْيِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ، وَهُوَ كَذَلِكَ فَحَمَلُ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا ثَارَاتِ الْمُخْتَارِ ! فَصَرَعَهُ، وَنَزَلَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ التَّمِيمِيُّ، فَقَتَلَهُ وَحَزَّ رَأْسَهُ، وَأَتَى بِهِ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، فَسَجَدَ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَأَطْلَقَ لَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَقَالَ: لَمْ أَقْتُلْهُ عَلَى طَاعَتِكَ، وَلَكِنْ بِثَأْرٍ كَانَ لِي عِنْدَهُ، وَكَانَ قَدْ وَلِيَ لَهُ عَمَلًا قَبْلَ ذَلِكَ فَعَزَلَهُ عَنْهُ وَأَهَانَهُ.
قَالُوا: وَلَمَّا وُضِعَ رَأْسُ مُصْعَبٍ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَقَدْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ مُصْعَبٍ صُحْبَةٌ قَدِيمَةٌ، وَكَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَلِكَ عَقِيمٌ.
وَقَالَ: لَمَّا تَفَرَّقَ عَنْ مُصْعَبٍ جُمُوعُهُ قَالَ لَهُ ابْنُهُ عِيسَى: لَوِ اعْتَصَمْتَ بِبَعْضِ الْقِلَاعِ، وَكَاتَبْتَ مَنْ بَعُدُ عَنْكَ مِثْلَ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ وَغَيْرِهِ فَقَدِمُوا عَلَيْكَ، فَإِذَا اجْتَمَعَ لَكَ مَا تُرِيدُ مِنْهُمْ لَقِيَتَ الْقَوْمَ ; فَإِنَّكَ قَدْ ضَعُفْتَ جِدًّا. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ جَوَابًا. ثُمَّ ذَكَرَ مَا جَرَى لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَكَيْفَ قُتِلَ كَرِيمًا، وَلَمْ يُلْقِ بِيَدِهِ، وَلَمْ يَجِدْ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَفَاءً. وَكَذَلِكَ أَبُوهُ وَأَخُوهُ، وَنَحْنُ مَا وَجَدْنَا لَهُمْ وَفَاءً.
ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَبَقِيَ فِي قَلِيلٍ مِنْ خَوَاصِّهِ، وَمَالَ الْجَمِيعُ إِلَى

عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يُحِبُّ مُصْعَبًا حَبًّا شَدِيدًا، وَكَانَ خَلِيلًا لَهُ قَبْلَ الْخِلَافَةِ، فَقَالَ لِأَخِيهِ مُحَمَّدٍ: اذْهَبْ إِلَيْهِ فَآمِنْهُ، فَجَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُصْعَبُ قَدْ آمَنُكَ ابْنُ عَمِّكَ عَلَى نَفْسِكَ وَوَلَدِكَ وَمَالِكَ وَأَهْلِكَ، فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْبِلَادِ، وَلَوْ أَرَادَ بِكَ غَيْرَ ذَلِكَ لَكَانَ، فَقَالَ مُصْعَبٌ: قُضِيَ الْأَمْرُ، إِنَّ مِثْلِي لَا يَنْصَرِفُ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْمَوْقِفِ إِلَّا غَالِبًا أَوْ مَغْلُوبًا. فَتَقَدَّمَ ابْنُهُ عِيسَى فَقَاتَلَ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ يَابْنَ أَخِي لَا تَقْتُلْ نَفْسَكَ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ قَتْلِ أَبِيهِ بَعْدَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ: وَلَمَّا وُضِعَ رَأْسُ مُصْعَبٍ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ بَكَى وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَقْدِرُ أَنْ أَصْبِرَ عَلَيْهِ سَاعَةً وَاحِدَةً مِنْ حُبِّي لَهُ حَتَّى دَخَلَ السَّيْفُ بَيْنَنَا، وَلَكِنَّ الْمُلْكَ عَقِيمٌ ! وَلَقَدْ كَانَتِ الْمَحَبَّةُ وَالْحُرْمَةُ بَيْنَنَا قَدِيمَةً، مَتَى تَلِدُ النِّسَاءُ مِثْلَ مُصْعَبٍ ؟ ثُمَّ أَمَرَ بِمُوَارَاتِهِ، وَدَفَنَهُ هُوَ وَابْنَهُ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ فِي قُبُورٍ بِمَسْكِنٍ بِالْقُرْبِ مِنَ الْكُوفَةِ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَكَانَ مَقْتَلُ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى أَوِ الْآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالُوا: وَلَمَّا قَتَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ مُصْعَبًا ارْتَحَلَ إِلَى الْكُوفَةِ فَنَزَلَ النُّخَيْلَةَ فَوَفَدَتْ عَلَيْهِ الْوُفُودُ بِهَا مِنْ رُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ وَسَادَاتِ الْعَرَبِ، وَجَعَلَ يُخَاطِبُهُمْ بِفَصَاحَةٍ

وَبَلَاغَةٍ وَاسْتِشْهَادٍ بِأَشْعَارٍ حَسَنَةٍ، وَبَايَعَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَفَرَّقَ الْعِمَالَاتِ فِي النَّاسِ، وَوَلَّى الْكُوفَةَ قَطَنَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى أَخَاهُ بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَيْهَا، وَخَطَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا بِالْكُوفَةِ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ لَوْ كَانَ خَلِيفَةً كَمَا يَزْعُمُ لَخَرَجَ فَآسَى بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَغْرِزْ ذَنْبَهُ فِي الْحَرَمِ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ أَخِي بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ وَأَمَرْتُهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِ الطَّاعَةِ، وَبِالشِّدَّةِ عَلَى أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا.
وَأَمَّا أَهْلُ الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا بَلَغَهُمْ مَقْتَلُ مُصْعَبٍ تَنَازَعَ فِي إِمَارَتِهَا حُمْرَانُ بْنُ أَبَانٍ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، فَغَلَبَهُ حُمْرَانُ بْنُ أَبَانٍ عَلَيْهَا فَبَايَعَهُ أَهْلُهَا فَكَانَ أَشْرَفَ الرَّجُلَيْنِ. قَالَ أَعْرَابِيٌّ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رِدَاءَ ابْنِ أَبَانٍ مَالَ عَنْ عَاتِقِهِ يَوْمًا، فَابْتَدَرَهُ مَرْوَانُ، وَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ أَيُّهُمَا يُسَوِّيهِ عَلَى مَنْكِبَيْهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَدَّ حُمْرَانُ يَوْمًا رِجْلَهُ فَابْتَدَرَ مُعَاوِيَةُ، وَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ أَيُّهُمَا يَغْمِزُهَا. قَالَ: فَبَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ

خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ وَالِيًا عَلَيْهَا - يَعْنِي عَلَى الْبَصْرَةِ - فَأَخَذَهَا مِنْ حُمْرَانَ بْنِ أَبَانٍ وَاسْتَنَابَ فِيهَا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ، وَعَزَلَ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانٍ عَنْهَا.

قَالُوا: وَقَدْ أَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِطَعَامٍ كَثِيرٍ فَعُمِلَ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ فَأَكَلُوا مِنْ سِمَاطِهِ، وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ عَلَى السَّرِيرِ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَا أَلَذَّ عَيْشَنَا لَوْ أَنَّ شَيْئًا يَدُومُ، وَلَكِنْ نَحْنُ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ:
وَكُلُّ جَدِيدٍ يَا أُمَيْمَ إِلَى بِلًى وَكُلُّ امْرِئٍ يَوْمًا يَصِيرُ إِلَى كَانْ
فَلَمَّا فَرَغَ النَّاسُ مِنَ الطَّعَامِ نَهَضَ فَدَارَ فِي الْقَصْرِ، وَجَعَلَ يَسْأَلُ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ عَنْ أَحْوَالِ الْقَصْرِ وَمَنْ بَنَى أَمَاكِنَهُ وَبُيُوتَهُ، فَيُخْبِرُهُ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَجْلِسِهِ فَاسْتَلْقَى وَهُوَ يَقُولُ:
اعْمَلْ عَلَى مَهَلٍ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ وَاكَدَحْ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانْ
فَكَأَنَّ مَا قَدْ كَانَ لَمْ يَكُ إِذْ مَضَى وَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ قَدْ كَانْ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِيهَا رَجَعَ عَبْدُ الْمَلِكِ - فِيمَا زَعَمَ الْوَاقِدِيُّ - إِلَى الشَّامِ.

قَالَ: وَفِيهَا عَزَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ جَابِرَ بْنَ الْأَسْوَدِ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ هُوَ آخِرَ أُمَرَائِهِ عَلَيْهَا، حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهَا طَارِقُ بْنُ عَمْرٍو مَوْلَى عُثْمَانَ، مِنْ جِهَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى الْعِرَاقِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا عَقَدَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ نَائِبُ مِصْرَ لِحَسَّانَ الْغَسَّانِيِّ عَلَى غَزْوِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَسَارَ إِلَيْهَا فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ، فَافْتَتَحَ قَرْطَاجَنَّةَ وَكَانَ أَهْلُهَا رُومًا عُبَّادَ أَصْنَامٍ.
وَفِيهَا قُتِلَ نَجْدَةُ الْحَرُورِيُّ الَّذِي تَغَلَّبَ عَلَى الْيَمَامَةَ، وَفِيهَا خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَوْرٍ فِي الْيَمَامَةِ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَهُوَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَصَيِّ بْنِ كِلَابٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ - وَيُقَالُ لَهُ: أَبُو عِيسَى أَيْضًا - الْأَسَدِيُّ. وَأَمُّهُ

الرَّبَابُ بِنْتُ أُنَيْفٍ الْكَلْبِيَّةُ. كَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَشْجَعِهِمْ قَلْبًا، وَأَسْخَاهُمْ كَفًّا.
وَقَدْ حَكَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَرَوَى عَنْ أَبِيهِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَسَعْدٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَرَوَى عَنْهُ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ الْجُمَحِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَوَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ مِمَّنْ يُجَالِسُ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا.
حَكَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّ جَمِيلًا نَظَرَ إِلَيْهِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، فَقَالَ: إِنَّ هَاهُنَا فَتًى أَكْرَهُ أَنْ تَرَاهُ بُثَيْنَةُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَمِيرًا قَطُّ عَلَى مِنْبَرٍ أَحْسَنَ مِنْهُ. وَكَذَا قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ أَجْمَلُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَلِيَ إِمْرَةَ الْعِرَاقَيْنِ لِأَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، حَتَّى قَتَلَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بِمَسْكِنٍ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْ أَوَانَا عَلَى نَهْرِ دُجَيْلٍ عِنْدَ دَيْرِ الْجَاثَلِيقِ، وَقَبْرُهُ إِلَى الْآنِ مَعْرُوفٌ هُنَاكَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا صِفَةَ قَتْلِهِ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ، وَأَنَّهُ قَتَلَ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ سَبْعَةَ

آلَافٍ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا قَتَلَ مُصْعَبٌ الْمُخْتَارَ طَلَبَ أَهْلُ الْقَصْرِ مِنْ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ مِنْ مُصْعَبٍ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِمْ عَبَّادَ بْنَ الْحُصَيْنِ فَجَعَلَ يُخْرِجُهُمْ مُلْتَفِّينَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَصَرَكُمْ عَلَيْنَا، وَابْتَلَانَا بِالْأَسْرِ، يَابْنَ الزُّبَيْرِ مَنْ عَفَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ عَاقَبَ لَا يَأْمَنُ الْقِصَاصَ، نَحْنُ أَهْلُ قِبْلَتِكُمْ وَعَلَى مِلَّتِكُمْ وَقَدْ قَدَرْتَ فَاسْمَحْ وَاعْفُ عَنَّا. قَالَ: فَرَقَّ لَهُمْ مُصْعَبٌ وَأَرَادَ أَنْ يُخْلِيَ سَبِيلَهُمْ، فَقَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ وَغَيْرُهُ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ، فَقَالُوا: قَدْ قَتَلُوا أَوْلَادَنَا وَعَشَائِرَنَا، وَجَرَحُوا مِنَّا خَلْقًا، اخْتَرْنَا أَوِ اخْتَرْهُمْ. فَأَمَرَ حِينَئِذٍ بِقَتْلِهِمْ، فَنَادَوْا بِأَجْمَعِهِمْ: لَا تَقْتُلْنَا وَاجْعَلْنَا مُقَدِّمَتَكَ فِي قِتَالِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَإِنْ ظَفَرْنَا فَلَكُمْ، وَإِنْ قُتِلْنَا لَا نُقْتَلُ حَتَّى نَقْتُلَ مِنْهُمْ طَائِفَةً وَكَانَ الَّذِي تُرِيدُ. فَأَبَى ذَلِكَ مُصْعَبٌ، فَقَالَ لَهُ مُسَافِرٌ: اتَّقِ اللَّهَ يَا مُصْعَبٌ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَكَ أَنْ لَا تَقْتُلَ نَفْسًا مُسْلِمَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ، وَإِنَّ: مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ( النِّسَاءِ: 93 ) فَلَمْ يَسْمَعْ لَهُ، بَلْ أَمَرَ بِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ جَمِيعِهِمْ، وَكَانُوا سَبْعَةَ آلَافِ نَفْسٍ، ثُمَّ كَتَبَ مُصْعَبٌ إِلَى ابْنِ الْأَشْتَرِ: إِنْ أَجَبْتَنِي فَلَكَ الشَّامُ، وَأَعِنَّةُ الْخَيْلِ. فَسَارَ ابْنُ الْأَشْتَرِ إِلَى مُصْعَبٍ. وَقِيلَ: إِنَّ مُصْعَبًا لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ: أَيْ عَمِّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ قَوْمٍ خَلَعُوا الطَّاعَةَ، وَقَاتَلُوا حَتَّى إِذَا غُلِبُوا تَحَصَّنُوا، وَسَأَلُوا الْأَمَانَ فَأُعْطُوهُ، ثُمَّ قُتِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ. فَقَالَ: وَكَمْ هُمْ ؟ قَالَ: خَمْسَةُ

آلَافٍ. فَسَبَّحَ ابْنُ عُمَرَ وَاسْتَرْجَعَ، وَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَتَى مَاشِيَةَ الزُّبَيْرِ فَذَبَحَ مِنْهَا خَمْسَةَ آلَافِ مَاشِيَةٍ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ أَلَسْتَ تَعُدُّهُ مُسْرِفًا ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَتَرَاهُ إِسْرَافًا فِي الْبَهَائِمِ وَلَا تَرَاهُ إِسْرَافًا فِي مَنْ تَرْجُو تَوْبَتَهُ ؟ ! يَابْنَ أَخِي أَصِبْ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ مَا اسْتَطَعْتَ فِي دُنْيَاكَ.
ثُمَّ إِنَّ مُصْعَبًا بَعَثَ بِرَأْسِ الْمُخْتَارِ إِلَى أَخِيهِ بِمَكَّةَ، وَتَمَكَّنَ مُصْعَبٌ فِي الْعِرَاقِ تَمَكُّنًا زَائِدًا، فَقَرَّرَ بِهَا الْوِلَايَاتِ وَالْعُمَّالَ، وَحَظِيَ عِنْدَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ فَجَعَلَهُ عَلَى الْوِفَادَةِ، ثُمَّ رَحَلَ مُصْعَبٌ إِلَى أَخِيهِ بِمَكَّةَ فَأَعْلَمَهُ بِمَا فَعَلَ، فَأَقَرَّهُ عَلَى مَا صَنَعَ، إِلَّا إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ لَمْ يُمْضِ لَهُ مَا جَعَلَهُ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ: أَعَمَدْتَ إِلَى رَايَةٍ خَفَضَهَا اللَّهُ، تُرِيدُ أَنْ تَرْفَعَهَا ؟ ثُمَّ كَشَفَ عَنْ ظَهْرِهِ فَإِذَا ضَرْبَةٌ قَدْ أَصَابَتْهُ، وَقَالَ لَهُ: أَتُرَانِي أُحِبُّ الْأَشْتَرَ وَهُوَ الَّذِي جَرَحَنِي هَذِهِ الْجِرَاحَةَ. ثُمَّ اسْتَدْعَى بِمَنْ قَدِمَ مَعَ مُصْعَبٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي بِكُلِّ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو حَاضِرٍ الْأَسَدِيُّ - وَكَانَ قَاضِيَ الْجَمَاعَةِ بِالْبَصْرَةِ -: إِنَّ لَنَا وَلَكُمْ مَثَلًا قَدْ مَضَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مَا قَالَ الْأَعْشَى:
عُلِّقْتُهَا عَرَضًا وَعُلِّقَتْ رَجُلًا غَيْرِي وَعُلِّقَ أُخْرَى غَيْرَهَا الرَّجُلُ

قُلْتُ كَمَا قِيلَ أَيْضًا:
جُنِنَّا بِلَيْلَى وَهِيَ جُنَّتْ بِغَيْرِنَا وَأُخْرَى بِنَا مَجْنُونَةٌ لَا نُرِيدُهَا
عُلِّقْنَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَعُلِّقْتَ أَهْلَ الشَّامِ، وَعُلِّقَ أَهْلُ الشَّامِ إِلَى مَرْوَانَ فَمَا عَسَيْنَا أَنْ نَصْنَعَ ؟ قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَمَا سَمِعْتُ جَوَابًا أَحْسَنَ مِنْهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ مُصْعَبٌ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مَحَبَّةً لِلنِّسَاءِ. وَقَدْ أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ جَمَاعَةٌ، فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: لِيَقُمْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ فَلْيَسْأَلْ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يُحِبُّهُ. فَقَامَ كُلٌّ يَسْأَلُ حَاجَتَهُ مِنْهُمْ، وَكَانَ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُزَوِّجَهُ سُكَيْنَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ، وَعَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ - وَكَانَتَا أَحْسَنَ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ - وَأَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ إِمْرَةَ الْعِرَاقَيْنِ. فَأَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ تَزَوُّجَ بِعَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، وَكَانَ صَدَاقُهَا مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَتْ بَاهِرَةَ الْجَمَالِ جِدًّا، وَكَانَ مُصْعَبٌ أَيْضًا جَمِيلًا جِدًّا، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ زَوْجَاتِهِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: اجْتَمَعَ فِي الْحِجْرِ

مُصْعَبٌ، وَ عُرْوَةُ، وَ عَبْدُ اللَّهِ، بَنُو الزُّبَيْرِ، وَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَقَالُوا: تَمَنَّوْا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى الْخِلَافَةَ، وَقَالَ عُرْوَةُ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى أَنْ يُؤْخَذَ عَنِّي الْعِلْمُ. وَقَالَ مُصْعَبٌ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى إِمْرَةَ الْعِرَاقِ وَالْجَمْعَ بَيْنَ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ وَسُكَيْنَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى الْمَغْفِرَةَ. قَالَ: فَنَالُوا كُلُّهُمْ مَا تَمَنَّوْا، وَلَعَلَّ ابْنُ عُمَرَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ.
وَقَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ يَوْمًا إِذْ دَعَانِي الْأَمِيرُ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَدْخَلَنِي دَارَ الْإِمَارَةِ، ثُمَّ كَشَفَ عَنْ سِتْرٍ فَإِذَا وَرَاءَهُ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا أَبْهَى، وَلَا أَحْسَنَ مِنْهَا. فَقَالَ: أَتَدْرِي مَنْ هَذِهِ ؟ فَقُلْتُ: لَا. فَقَالَ: هَذِهِ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ، ثُمَّ خَرَجْتُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَنْ هَذَا الَّذِي أَظَهَرْتَنِي عَلَيْهِ ؟ قَالَ: هَذَا عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ. قَالَتْ: فَأَطْلِقْ لَهُ شَيْئًا. فَوَهَبَنِي عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ مَلَكْتُهُ.
وَحَكَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ تَغَضَّبَتْ مَرَّةً عَلَى مُصْعَبٍ فَتَرَضَّاهَا بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَطْلَقَتْهَا هِيَ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي أَصْلَحَتْ

بَيْنَهُمَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ أُهْدِيَتْ لَهُ نَخْلَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، ثِمَارُهَا مِنْ صُنُوفِ الْجَوَاهِرِ الْمُثْمِنَةِ، فَقُوِّمَتْ بِأَلْفِي أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَتْ مِنْ مَتَاعِ الْفُرْسِ فَأَعْطَاهَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ إِذَا كَتَبَ لِأَحَدٍ جَائِزَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ جَعَلَهَا مُصْعَبٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَقَدْ كَانَ مُصْعَبٌ مِنْ أَجْوَدِ النَّاسِ وَأَكْثَرِهِمْ عَطَاءً، لَا يَسْتَكْثِرُ مَا يُعْطِي وَلَوْ كَانَ مَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ ; فَكَانَتْ عَطَايَاهُ لِلْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ وَالْوَضِيعِ وَالشَّرِيفِ مُتَقَارِبَةً، وَكَانَ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ يُبَخَّلُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ مُصْعَبًا غَضِبَ مَرَّةً عَلَى رَجُلٍ فَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَعَزَّ اللَّهُ الْأَمِيرَ، مَا أَقْبَحَ بِمِثْلِي أَنْ يَقُومَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَتَعَلَّقَ بِأَطْرَافِكَ الْحَسَنَةِ، وَبِوَجْهِكَ الَّذِي يُسْتَضَاءُ بِهِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ سَلْ مُصْعَبًا فِيمَ قَتَلَنِي ؟ فَعَفَا عَنْهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعَزَّ اللَّهُ الْأَمِيرَ، إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَجْعَلَ مَا وَهَبْتَ لِي مِنْ حَيَاتِي فِي عَيْشٍ رَخِيٍّ. فَأَطْلَقَ لَهُ مِائَةَ أَلْفٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ:

إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ نِصْفَهَا لِابْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ ; حَيْثُ يَقُولُ فِيكَ:
إِنَّ مُصْعَبًا شِهَابٌ مِنَ اللَّهِ تَجَلَّتْ عَنْ وَجْهِهِ الظَّلْمَاءُ
مُلْكُهُ مُلْكُ عِزَّةٍ لَيْسَ فِيهِ جَبَرُوتٌ مِنْهُ وَلَا كِبْرِيَاءُ
يَتَّقِي اللَّهَ فِي الْأُمُورِ وَقَدْ أَفْ لَحَ مَنْ كَانَ هَمَّهُ الِاتِّقَاءُ
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، قَدْ وَهَبْتَنِي حَيَاةً، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَجْعَلَ مَا قَدْ وَهَبْتَنِي مِنَ الْحَيَاةِ فِي عَيْشٍ رَخِيٍّ وَسِعَةٍ فَافْعَلْ. فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُؤَمِّلٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: بَلَغَ مُصْعَبًا عَنْ عَرِيفِ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ فَهَمَّ بِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، فَقَالَ لَهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اسْتَوْصُوا بِالْأَنْصَارِ خَيَّرًا - أَوْ قَالَ: مَعْرُوفًا - اقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ فَأَلْقَى مُصْعَبٌ نَفْسَهُ عَنْ سَرِيرِهِ وَأَلْصَقَ خَدَّهُ بِالْبِسَاطِ، وَقَالَ: أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى

الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ فَتَرَكَهُ.
وَمِنْ كَلَامِ مُصْعَبٍ فِي التَّوَاضُعِ أَنَّهُ قَالَ: الْعَجَبُ مِنِ ابْنِ آدَمَ كَيْفَ يَتَكَبَّرُ، وَقَدْ جَرَى فِي مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ ؟ !
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ: سُئِلَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُصْعَبٍ فَقَالَ: كَانَ نَبِيلًا رَئِيسًا نَفِيسًا أَنِيسًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ الْمُخْتَارُ قَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ خَمْسَةَ آلَافٍ وَقِيلَ سَبْعَةَ آلَافٍ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَقِيَ ابْنُ عُمَرَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ ابْنُ عُمَرَ ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدِ انْضَرَّ فِي عَيْنَيْهِ فَتَعَرَّفَ لَهُ حَتَّى عَرَفَهُ، قَالَ: أَنْتَ الَّذِي قَتَلَتْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ خَمْسَةَ آلَافٍ مِمَّنْ يُوَحِّدُ اللَّهَ ؟ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُمْ بَايَعُوا الْمُخْتَارَ، فَقَالَ: أَمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مُسْتَكْرَهٌ أَوْ جَاهِلٌ فَيُنْظَرَ حَتَّى يَتُوبَ ؟ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى غَنَمِ الزُّبَيْرِ فَنَحَرَ مِنْهَا خَمْسَةَ آلَافٍ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ أَمَا كَانَ مُسْرِفًا ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: وَهِيَ لَا تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تَعْرِفُهُ كَمَا يَعْرِفُهُ الْآدَمِيُّ وَيَعْبُدُهُ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ مُوَحِّدٌ ؟ ! ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، تَمَتَّعْ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الدُّنْيَا مَا اسْتَطَعْتَ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: عِشْ مَا اسْتَطَعْتَ.

وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ زَافِرِ بْنِ قُتَيْبَةَ عَنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ يَوْمًا لِجُلَسَائِهِ: مَنْ أَشْجَعُ الْعَرَبِ ؟ قَالُوا: شَبِيبٌ، قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ، فُلَانٌ، فُلَانٌ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّ أَشْجَعَ الْعَرَبِ لَرَجُلٌ جَمْعَ بَيْنَ سُكَيْنَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ، وَعَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، وَأَمَةِ الْحَمِيدِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، وَأُمُّهُ رَبَابُ بِنْتُ أُنَيْفٍ الْكَلْبِيُّ، سَيِّدُ ضَاحِيَةِ الْعَرَبِ، وَوَلِيُّ الْعِرَاقَيْنِ خَمْسَ سِنِينَ، فَأَصَابَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَأَلْفَ أَلْفٍ، وَأَلْفَ أَلْفٍ، وَأُعْطِيَ الْأَمَانَ، فَأَبَى، وَمَشَى بِسَيْفِهِ حَتَّى مَاتَ، ذَلِكَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، لَا مَنْ قَطَعَ الْجُسُورَ مَرَّةً هَاهُنَا، وَمَرَّةً هَاهُنَا.
قَالُوا: وَكَانَ مَقْتَلُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي فُلَيْحُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي

كَثِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا وُضِعَ رَأْسُ مُصْعَبٍ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ:
لَقَدْ أَرْدَى الْفَوَارِسَ يَوْمَ عَبْسٍ غُلَامًا غَيْرَ مَنَّاعِ الْمَتَاعِ
وَلَا فَرِحٍ لِخَيْرٍ إِنْ أَتَاهُ وَلَا هَلِعٍ مِنَ الْحَدَثَانِ لَاعِ
وَلَا وَقَّافَةٍ وَالْخَيْلُ تَعْدُو وَلَا خَالٍ كَأُنْبُوبِ الْيَرَاعِ
فَقَالَ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ بِرَأْسِهِ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ رَأَيْتُهُ وَالرُّمْحُ فِي يَدِهِ تَارَةً، وَالسَّيْفُ تَارَةً ; يَفْرِي بِهَذَا، وَيَطْعَنُ بِهَذَا، لَرَأَيْتَ رَجُلًا يَمْلَأُ الْقَلْبَ وَالْعَيْنَ شَجَاعَةً وَإِقْدَامًا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا تَفَرَّقَتْ رِجَالُهُ، وَكَثُرَ مَنْ قَصَدَهُ وَبَقِيَ وَحْدَهُ مَا زَالَ يُنْشِدُ:
وَإِنِّي عَلَى الْمَكْرُوهِ عِنْدَ حُضُورِهِ أُكَذِّبُ نَفْسِي وَالْجُفُونُ لَهُ تَغُضِي
وَمَا ذَاكَ مِنْ ذُلٍّ وَلَكِنْ حَفِيظَةً أَذُبُّ بِهَا عِنْدَ الْمَكَارِمِ عَنْ عِرْضِي
وَإِنِّي لِأَهْلِ الشَّرِّ بِالشَّرِّ مَرْصَدٌ وَإِنِّي لِذِي سِلْمٍ أَذَلُّ مِنَ الْأَرْضِ
فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: كَانَ وَاللَّهِ كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَصَدَقَ، وَلَقَدْ كَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَأَشَدِّهِمْ لِي إِلْفًا وَمَوَدَّةً، وَلَكِنَّ الْمُلْكَ عَقِيمٌ.

وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ غَسَّانَ بْنِ مُضَرَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ قَتَلَ مُصْعَبًا عِنْدَ دَيْرِ الْجَاثَلِيقِ عَلَى شَاطِئِ نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ: دُجَيْلٌ، مِنْ أَرْضِ مَسْكِنَ، وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ، وَكَانَ ابْنُ ظَبْيَانَ فَاتِكًا رَدِيًّا، وَكَانَ يَقُولُ: لَيْتَنِي قَتَلْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ حِينَ سَجَدَ يَوْمَئِذٍ، فَأَكُونُ قَدْ قَتَلْتُ مَلِكَيِ الْعَرَبِ.
قَالَ يَعْقُوبُ: وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ. قُلْتُ: وَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ. وَالَّذِي رَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَكَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي عُمْرِهِ يَوْمَ قُتِلَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ ; أَحَدُهَا خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَالثَّانِي أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَالثَّالِثُ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، أَنَّ امْرَأَتَهُ سُكَيْنَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ كَانَتْ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ، فَلَمَّا قُتِلَ تَطَلَّبَتْهُ فِي الْقَتْلَى حَتَّى عَرَفَتْهُ بِشَامَةٍ فِي فَخِذِهِ.

فَقَالَتْ: نِعْمَ بَعْلُ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ كُنْتَ، أَدْرَكَكَ وَاللَّهِ مَا قَالَ عَنْتَرَةُ:
وَحَلِيلِ غَانِيَةٍ تَرَكْتُ مُجَدَّلًا بِالْقَاعِ لَمْ يَعْهَدْ وَلَمْ يَتَثَلَّمِ
فَهَتَكْتُ بِالرُّمْحِ الطَّوِيلِ إِهَابَهُ لَيْسَ الْكَرِيمُ عَلَى الْقَنَا بِمُحَرَّمِ
قَالَ الزُّبَيْرُ: وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ يَرْثِي مُصْعَبًا:
لَقَدْ أَوْرَثَ الْمِصْرَيْنِ خِزْيًا وَذِلَّةً قَتِيلٌ بِدَيْرِ الْجَاثَلِيقِ مُقِيمُ
فَمَا نَصَحَتْ لِلَّهِ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ وَلَا صَدَقَتْ يَوْمَ اللِّقَاءِ تَمِيمُ
وَلَوْ كَانَ بِكْرِيًّا تَعَطَّفَ حَوْلَهُ كَتَائِبُ يَغْلِي حَمْيُهَا وَيَدُومُ
وَلَكِنَّهُ ضَاعَ الذِّمَامُ وَلَمْ يَكُنْ بِهَا مُضَرِيٌّ يَوْمَ ذَاكَ كَرِيمُ
جَزَى اللَّهُ كُوفِيًّا هُنَاكَ مَلَامَةً وَبَصْرِيَّهُمْ إِنَّ الْمَلُومَ مَلُومُ
وَإِنَّ بَنِي الْعَلَّاتِ أَخْلَوْا ظُهُورَنَا وَنَحْنُ صَرِيحٌ بَيْنَهُمْ وَصَمِيمُ
فَإِنْ نَفْنَ لَا يَبْقَى أُولَئِكَ بَعْدَنَا لِذِي حُرْمَةٍ فِي الْمُسْلِمِينَ حَرِيمُ

وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ يَرْثِي مُصْعَبًا أَيْضًا:
نَعَتِ السَّحَائِبُ وَالْغَمَامُ بِأَسْرِهَا جَسَدًا بِمَسْكِنَ عَارِيَ الْأَوْصَالِ
تُمْسِي عَوَائِذَهُ السِّبَاعُ وَدَارُهُ بِمَنَازِلٍ أَطْلَالُهُنَّ بَوَالِي
رَحَلَ الرِّفَاقُ وَغَادَرُوهُ ثَاوِيًا لِلرِّيحِ بَيْنَ صِبًا وَبَيْنَ شَمَالِ
وَقَدْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ مُصْعَبٍ الْكَلْبِيُّ، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: دَخَلْتُ الْقَصْرَ بِالْكُوفَةِ فَإِذَا رَأَسُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَى تُرْسٍ بَيْنَ يَدَيْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ عَلَى السَّرِيرِ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْقَصْرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحِينٍ فَرَأَيْتُ رَأْسَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ عَلَى تُرْسٍ بَيْنَ يَدَيِ الْمُخْتَارِ، وَالْمُخْتَارُ عَلَى السَّرِيرِ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْقَصْرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحِينٍ فَرَأَيْتُ رَأْسَ الْمُخْتَارِ عَلَى تُرْسٍ بَيْنَ يَدَيْ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُصْعَبٌ عَلَى السَّرِيرِ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْقَصْرَ بَعْدَ حِينٍ فَرَأَيْتُ رَأْسَ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى تُرْسٍ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى السَّرِيرِ، وَقَدْ حَكَاهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
فَصْلٌ ( خُطْبَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي مَقْتَلِ أَخِيهِ مُصْعَبٍ )

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذَكَرَ أَبُو زَيْدٍ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ: لَمَّا انْتَهَى إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَتْلُ أَخِيهِ مُصْعَبٍ، قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، أَلَا وَإِنَّهُ لَمْ يُذِلَّ اللَّهُ مَنْ كَانَ الْحَقُّ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ فَرْدًا وَحْدَهُ، وَلَنْ يُفْلِحَ مَنْ كَانَ وَلَيَّهُ الشَّيْطَانُ وَحِزْبُهُ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ الْأَنَامَ طُرًّا، أَلَا وَإِنَّهُ أَتَانَا مِنَ الْعِرَاقِ خَبَرٌ أَحْزَنَنَا وَأَفْرَحَنَا، أَتَانَا قَتْلُ مُصْعَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَمَّا الَّذِي أَفْرَحَنَا فَعِلْمُنَا أَنَّ قَتْلَهُ لَهُ شَهَادَةٌ، وَأَمَّا الَّذِي أَحْزَنَنَا فَإِنَّ لِفِرَاقِ الْحَمِيمِ لَوْعَةً يَجِدُهَا حَمِيمُهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ بِهِ، ثُمَّ يَرْعَوِي مِنْ بَعْدِهَا، وَذُو الرَّأْيِ جَمِيلُ الصَّبْرِ كَرِيمُ الْعَزَاءِ، وَلَئِنْ أُصِبْتُ بِمُصْعَبٍ فَلَقَدْ أُصِبْتُ بِالزُّبَيْرِ قَبْلَهُ، وَمَا أَنَا مِنْ عُثْمَانَ بِخُلُوِّ مُصِيبَةٍ، وَمَا مُصْعَبٌ إِلَّا عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ، وَعَوْنٌ مِنْ أَعْوَانِي، أَلَا وَإِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ أَهْلُ الْغَدْرِ وَالنِّفَاقِ، أَسْلَمُوهُ وَبَاعُوهُ بِأَقَلِّ الثَّمَنِ، فَإِنْ يُقْتَلْ فَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَمُوتُ عَلَى مَضَاجِعِنَا كَمَا تَمُوتُ بَنُو أَبِي الْعَاصِ ; وَاللَّهِ مَا قُتِلَ رَجُلٌ فِي زَحْفٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا فِي الْإِسْلَامِ، وَمَا نَمُوتُ إِلَّا بِأَطْرَافِ الرِّمَاحِ أَوْ تَحْتَ ظِلِّ السُّيُوفِ، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا عَارِيَةٌ مِنَ الْمَلِكِ الْأَعْلَى الَّذِي لَا يَزُولُ سُلْطَانُهُ وَلَا يَبِيدُ مُلْكُهُ، فَإِنْ تُقْبِلِ الدُّنْيَا لَا آخُذْهَا أَخْذَ الْأَشِرِ الْبَطِرِ، وَإِنْ تُدْبِرْ لَا أَبْكِ عَلَيْهَا بُكَاءَ الْحَزِينِ الْمَهِينِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ
وَاسْمُ الْأَشْتَرِ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ النَّخَعِيُّ، كَانَ أَبُوهُ الْأَشْتَرَ مِنْ كِبَارِ أُمَرَاءِ عَلِيٍّ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلِيٌّ عَلَى خُرَاسَانَ وَهُوَ مِمَّنْ قَامَ عَلَى عُثْمَانَ وَقَتَلَهُ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ هَذَا مِنَ الْأُمَرَاءِ الْمَعْرُوفِينَ بِالشَّجَاعَةِ وَلَهُ شَرَفٌ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ صَارَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَقُتِلَ مَعَهُ هَذِهِ السَّنَةَ كَمَا ذَكَرْنَا.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى الْخُزَاعِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلِيٌّ عَلَى خُرَاسَانَ، وَسَكَنَ الْكُوفَةَ وَوَلِيَهَا مَرَّةً. تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُسَيْلَةَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُرَادِيُّ الصُّنَابِحِيُّ
كَانَ مِنَ الصُّلَحَاءِ، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَكَانَ عَالِمًا فَاضِلًا تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ.

عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ الْمَدَنِيُّ
رَبِيبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وُلِدَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَكَانَ عِنْدَ أُمِّهِ ; أُمِّ سَلَمَةَ. وَلَهُ رِوَايَاتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
سَفِينَةُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
كَانَ عَبْدًا لِأُمِّ سَلَمَةَ فَأَعْتَقَتْهُ وَشَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْدِمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَنَا لَا أَزَالُ أَخْدِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ لَمْ تُعْتِقِينِي مَا عِشْتُ. وَقَدْ كَانَ سَفِينَةُ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلِيفًا، وَبِهِمْ خَلِيطًا، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَنَّ سَفِينَةَ سُئِلَ عَنِ اسْمِهِ لِمَ سُمِّيَ سَفِينَةَ ؟ قَالَ: سِمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفِينَةَ، خَرَجَ مَرَّةً وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ فَثَقُلَ عَلَيْهِمْ مَتَاعُهُمْ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْسُطْ كِسَاءَكَ فَبَسَطْتُهُ فَجَعْلَ فِيهِ مَتَاعَهُمْ ثُمَّ قَالَ لِي: احْمِلْ، مَا أَنْتَ إِلَّا سَفِينَةٌ. قَالَ: فَلَوْ حَمَلْتُ يَوْمَئِذٍ وِقْرَ بَعِيرٍ أَوْ بَعِيرَيْنِ أَوْ خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ مَا ثَقُلَ عَلَيَّ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ سَفِينَةَ قَالَ: رَكِبْتُ مَرَّةً سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ،

فَانْكَسَرَتْ بِنَا فَرَكِبْتُ لَوْحًا مِنْهَا فَطَرَحَنِي الْبَحْرُ إِلَى غَيْضَةٍ فِيهَا الْأَسَدُ، فَجَاءَنِي فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْحَارِثِ، أَنَا سَفِينَةُ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ، وَجَعَلَ يَدْفَعُنِي بِجَنْبِهِ أَوْ بِكَفِّهِ، حَتَّى وَضَعَنِي عَلَى الطَّرِيقِ، ثُمَّ هَمْهَمَ هَمْهَمَةً فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوَدِّعُنِي.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ، عَنْ سَفِينَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ بَيْتَ فَاطِمَةَ فَرَأَى فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ قِرَامًا مَضْرُوبًا، فَرَجَعَ وَلَمْ يَدْخُلْ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ لِعَلِيٍّ: سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا الَّذِي رَدَّهُ ؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: لَيْسَ لِي وَلَا لِنَبِيٍّ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتًا مُزَوِّقًا
عَمْرُو بْنُ أَخْطَبَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَعْرَجُ
غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَمَسَحَ رَأَسَهُ وَقَالَ: اللَّهُمَّ جَمِّلْهُ، فَبَلَغَ مِائَةَ سَنَةٍ وَلَمْ يَبْيَضَّ شَعْرُهُ. تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ.
غُضَيْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنُ زُنَيْمٍ السَّكُونِيُّ
مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، لَهُ

رِوَايَاتٌ عَنِ الصَّحَابَةِ، قِيلَ: هُوَ مِنْ تَابِعِي أَهْلِ الشَّامِ، سَكَنَ حِمْصَ، وَكَانَ يَتَوَلَّى صَلَاةَ الْجُمْعَةِ نِيَابَةً عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ.
يَزِيدُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْجُرَشِيُّ السَّكُونِيُّ
كَانَ عَابِدًا زَاهِدًا صَالِحًا، سَكَنَ الشَّامَ بِقَرْيَةِ زِبْدِينَ، وَقِيلَ: بِقَرْيَةِ جِسْرِينِ، وَكَانَتْ لَهُ دَارٌ دَاخِلَ بَابٍ شَرْقِيٍّ، وَهُوَ مُخْتَلِفٌ فِي صُحْبَتِهِ، وَلَهُ رِوَايَاتٌ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ يَسْتَسْقُونَ بِهِ إِذَا قَحَطُوا، وَقَدِ اسْتَسْقَى بِهِ مُعَاوِيَةُ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانَ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ قَالَ مُعَاوِيَةُ: " قُمْ يَزِيدُ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِخِيَارِنَا وَصُلَحَائِنَا "، فَيَسْتَسْقِي اللَّهَ فَيُسْقَوْنَ. وَكَانَ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ فِي الْجَامِعِ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْقَرْيَةِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ بِالْجَامِعِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ يُضِيءُ لَهُ إِبْهَامُ قَدَمِهِ - وَقِيلَ: أَصَابِعُ رِجْلَيْهِ كُلُّهَا - حَتَّى يَدْخُلَ الْجَامِعَ، فَإِذَا رَجَعَ أَضَاءَتْ لَهُ حَتَّى يَدْخُلَ الْقَرْيَةَ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَمْ يَدَعْ شَجَرَةً فِي قَرْيَةِ زِبْدِينَ إِلَّا صَلَّى عِنْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ يَمْشِي فِي ضَوْءِ إِبْهَامِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ ذَاهِبًا إِلَى صَلَاةِ الْعِشَاءِ بِالْجَامِعِ بِدِمَشْقَ، وَآيِبًا إِلَى قَرْيَتِهِ، وَكَانَ يَشْهَدُ الصَّلَوَاتِ بِالْجَامِعِ بِدِمَشْقَ لَا تَفُوتُهُ بِهِ صَلَاةٌ.
مَاتَ بِقَرْيَةِ زِبْدِينَ أَوْ جِسْرَيْنِ مِنْ غُوطَةِ دِمَشْقَ رَحِمَهُ اللَّهُ.

عَمْرُو بْنُ الْأَسْوَدِ، أَبُو عِيَاضٍ، الْعَنْسِيُّ الْحِمْصِيُّ، مِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ بِالشَّامِ، صَاحِبُ زُهْدٍ وَعِبَادَةٍ وَاجْتِهَادٍ، قَلِيلُ التَّشَيُّعِ، تُوُفِّيَ بِحِمْصَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ
فَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ وَبَيْنَ الْأَزَارِقَةِ مِنَ الْخَوَارِجِ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: سُولَافُ، مَكَثُوا نَحْوًا مِنْ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ مُتَوَاقِفِينَ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ يَطُولُ بَسْطُهَا، وَقَدِ اسْتَقْصَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَقُتِلَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَبَايَعَ النَّاسُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، وَأَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ عَلَى الْأَهْوَازَ وَمَا مَعَهَا، وَشَكَرَ سَعْيَهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثَنَاءً كَثِيرًا، ثُمَّ تَوَاقَعَ النَّاسُ فِي دَوْلَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْأَهْوَازِ، فَكَسَرَ النَّاسُ الْخَوَارِجَ كَسْرَةً عَظِيمَةً، وَهَرَبُوا فِي الْبِلَادِ لَا يَلْوُونَ بَلْ يُوَلْوِلُونَ، وَاتَّبَعَهُمْ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرُ النَّاسِ، وَدَاوُدُ بْنُ قَحْذَمَ لِيَطْرُدُوهُمْ، وَأَرْسَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى أَخِيهِ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ أَنْ يُمِدَّهُمْ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، عَلَيْهِمْ عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ، فَطَرَدُوا الْخَوَارِجَ كُلَّ مَطْرَدٍ، وَلَكِنْ لَقِيَ الْجَيْشُ جُهْدًا عَظِيمًا، وَمَاتَتْ

خُيُولُهُمْ، وَلَمْ يَرْجِعْ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا مُشَاةً إِلَى أَهْلِيهِمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ خُرُوجُ أَبِي فُدَيْكٍ الْحَارِثِيِّ، وَهُوَ مِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَغَلَبَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَقَتَلَ نَجْدَةَ بْنَ عَامِرٍ الْحَارِثِيَّ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ أَخَاهُ أُمَيَّةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَهَزَمَهُمْ أَبُو فُدَيْكٍ، وَأَخَذَ جَارِيَةً لِأُمَيَّةَ، وَاصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ، وَكَتَبَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ بِمَا وَقَعَ، وَاجْتَمَعَ عَلَى خَالِدٍ حَرْبُ أَبِي فُدَيْكٍ وَحَرْبُ الْأَزَارِقَةِ أَصْحَابِ قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ بِالْأَهْوَازِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا بَعْثَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ; لِيُحَاصِرَهُ بِمَكَّةَ، قَالَ: وَكَانَ السَّبَبُ فِي بَعْثِهِ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ لَمَّا أَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى الشَّامِ بَعْدَ قَتْلِهِ مُصْعَبًا وَأَخْذِهِ الْعِرَاقَ، نَدَبَ النَّاسَ إِلَى قِتَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ إِلَى ذَلِكَ، فَقَامَ الْحَجَّاجُ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَا لَهُ. وَقَصَّ الْحَجَّاجُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ مَنَامًا زَعَمَ أَنَّهُ رَآهُ ; قَالَ: رَأَيْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَأَنِّي أَخَذْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَسَلَخْتُهُ، فَابْعَثْ بِي إِلَيْهِ فَإِنِّي قَاتِلُهُ. فَبَعَثَهُ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَكَتَبَ مَعَهُ أَمَانًا لِأَهْلِ مَكَّةَ إِنْ هُمْ أَطَاعُوا.

قَالُوا: فَخَرَجَ الْحَجَّاجُ فِي جُمَادَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَمَعَهُ أَلْفَا فَارِسٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَسَلَكَ طَرِيقَ الْعِرَاقِ، وَلَمْ يَعْرِضْ لِلْمَدِينَةِ حَتَّى نَزَلَ الطَّائِفَ، وَجَعَلَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى عَرَفَةَ، وَيُرْسِلُ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْخُيُولَ فَيَلْتَقِيَانِ، فَتُهْزَمُ خَيْلُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَتَظْفَرُ خَيْلُ الْحَجَّاجِ، ثُمَّ كَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي دُخُولِ الْحَرَمِ، وَمُحَاصِرَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ; فَإِنَّهُ قَدْ كَلَّتْ شَوْكَتُهُ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَمُدَّهُ بِرِجَالٍ أَيْضًا، فَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى طَارِقِ بْنِ عَمْرٍو يَأْمُرُهُ أَنْ يَلْحَقَ بِمَنْ مَعَهُ بِالْحَجَّاجِ، وَكَانَ طَارِقٌ يَتَوَلَّى الْمَدِينَةَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ قَدْ أَمَرَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا بِوَادِي الْقُرَى بِمَنْ مَعَهُ مِنْ جَيْشِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ فِي نَحْوِ خَمْسَةِ آلَافٍ، مِنَ الشَّامِ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَارْتَحَلَ الْحَجَّاجُ مِنَ الطَّائِفِ، فَنَزَلَ بِئْرَ مَيْمُونٍ، وَحَصَرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِالْمَسْجِدِ، فَلَمَّا دَخَلَ ذُو الْحِجَّةِ حَجَّ بِالنَّاسِ الْحُجَّاجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَعَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ السِّلَاحُ، وَهُمْ وُقُوفٌ بِعَرَفَاتٍ، وَكَذَا فِيمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاعِرِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ مَحْصُورٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْحَجِّ هَذِهِ السَّنَةَ، بَلْ نَحَرَ بُدْنًا يَوْمَ النَّحْرِ، وَهَكَذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ كَثِيرٌ مِمَّنْ مَعَهُ مِنَ الْحَجِّ، وَكَذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ كَثِيرٌ مِمَّنْ مَعَ الْحَجَّاجِ وَطَارِقِ بْنِ عَمْرٍو أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ، فَبَقُوا عَلَى إِحْرَامِهِمْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمُ التَّحَلُّلُ الثَّانِي، وَالْحَجَّاجُ وَأَصْحَابُهُ نُزُولٌ بَيْنَ الْحَجُونِ وَبِئْرِ مَيْمُونٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ أَمِيرِ خُرَاسَانَ يَدْعُوهُ إِلَى بَيْعَتِهِ، وَيَقْطَعُهُ خُرَاسَانَ سَبْعَ سِنِينَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ الْكِتَابُ قَالَ لِلرَّسُولِ: بَعَثَكَ أَبُو الذِّبَّانِ ؟ وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكَ، وَلَكِنْ كُلْ كِتَابَهُ. فَأَكَلَهُ، وَبَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى بُكَيْرِ بْنِ وِشَاحٍ نَائِبِ ابْنِ خَازِمٍ عَلَى مَرْوَ يَعِدُهُ بِإِمْرَةِ خُرَاسَانَ إِنْ هُوَ خَلَعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَازِمٍ، فَخَلَعَهُ، فَجَاءَهُ ابْنُ خَازِمٍ فَقَاتَلَهُ فَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ، قَتَلَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: وَكِيعُ بْنُ عَمِيرَةَ، لَكِنْ كَانَ قَدْ سَاعَدَهُ غَيْرُهُ، فَجَلَسَ وَكِيعٌ عَلَى صَدْرِهِ وَفِيهِ رَمَقٌ، فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ وَكِيعٌ يَقُولُ: يَا ثَارَاتِ دُوَيْلَةَ - يَعْنِي أَخَاهُ - وَكَانَ دُوَيْلَةُ قَدْ قَتَلَهُ ابْنُ خَازِمٍ، ثُمَّ إِنَّ ابْنُ خَازِمٍ تَنَخَّمَ فِي وَجْهِ وَكِيعٍ، قَالَ وَكِيعٌ: لَمْ أَرَ أَحَدًا أَكْثَرَ رِيقًا مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَكَانَ أَبُو هُبَيْرَةَ إِذَا ذَكَرَ هَذَا يَقُولُ: هَذِهِ وَاللَّهِ الْبَسَالَةُ. وَقَالَ لَهُ ابْنُ خَازِمٍ: وَيْحَكَ، أَتَقْتُلُنِي بِأَخِيكَ ؟ لَعَنَكَ اللَّهُ، أَتَقْتُلُ كَبْشَ مُضَرَ بِأَخِيكَ الْعِلْجِ وَكَانَ لَا

يُسَاوِي كَفًّا مِنْ تُرَابٍ ؟ أَوْ قَالَ: مِنْ نَوًى. قَالُوا: فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَأَقْبَلَ بُكَيْرُ بْنُ وِشَاحٍ فَأَرَادَ أَخْذَ الرَّأْسِ فَمَنَعَهُ مِنْهُ بِحَيْرُ بْنُ وَرْقَاءَ، فَضَرَبَهُ بُكَيْرُ بْنُ وِشَاحٍ بِعَمُودٍ وَقَيَّدَهُ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّأْسَ، ثُمَّ بَعَثَهُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، وَمَقْتَلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ، فَسُرَّ بِذَلِكَ سُرُورًا كَثِيرًا، وَكَتَبَ إِلَى بُكَيْرِ بْنِ وِشَاحٍ فَأَقَرَّهُ عَلَى نِيَابَةِ خُرَاسَانَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أُخِذَتِ الْمَدِينَةُ مِنْ نُوَّابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَاسْتَنَابَ فِيهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ طَارِقَ بْنَ عَمْرٍو الَّذِي كَانَ بَعَثَهُ مَدَدًا لِلْحَجَّاجِ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ ابْنِ خَازِمٍ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ بْنِ أَسْمَاءَ السُّلَمِيُّ، أَبُو صَالِحٍ الْبَصْرِيُّ، أَمِيرُ خُرَاسَانَ، أَحَدُ الشُّجْعَانِ الْمَذْكُورِينَ، وَالْفُرْسَانِ الْمَشْكُورِينَ. قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو

الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ فِي " تَهْذِيبِهِ ": يُقَالُ: لَهُ صُحْبَةٌ. رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعِمَامَةِ السَّوْدَاءِ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ، لَكِنْ لَمْ يُسَمُّوهُ.
رَوَى عَنْهُ سَعْدُ بْنُ عُثْمَانَ الرَّازِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْأَزْرَقِ. رَوَى أَبُو بِشْرٍ الدُّولَابِيُّ أَنَّهُ قُتِلَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ. وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ بِشَيْءٍ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا فِي التَّهْذِيبِ.
وَقَدْ ذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " الْغَابَةِ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ "، فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمِ بْنِ أَسْمَاءَ بْنِ الصَّلْتِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ سِمَاكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورٍ، أَبُو صَالِحٍ السُّلَمِيُّ، أَمِيرُ خُرَاسَانَ، شُجَاعٌ مَشْهُورٌ، وَبَطَلٌ مَذْكُورٌ، رَوَى عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ الْأَزْرَقِ، وَسَعْدُ بْنُ عُثْمَانَ، قِيلَ: إِنَّ لَهُ صُحْبَةً، وَفَتَحَ سَرْخَسَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى خُرَاسَانَ أَيَّامَ فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَوَّلُ مَا وَلِيَهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، بَعْدَ مَوْتِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَابْنِهِ مُعَاوِيَةَ، وَجَرَى لَهُ فِيهَا حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، حَتَّى تَمَّ أَمْرُهُ بِهَا، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا أَخْبَارَهُ فِي كِتَابِ " الْكَامِلِ فِي التَّارِيخِ "، وَقُتِلَ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ بِخُرَاسَانَ، هَكَذَا قَالَ: إِنَّهُ قُتِلَ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ. وَهَكَذَا حَكَى شَيْخُنَا عَنِ الدُّولَابِيِّ،

وَكَذَا رَأَيْتُ فِي " التَّارِيخِ " لِشَيْخِنَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيِّ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي سِيَاقِ " تَارِيخِهِ " أَنَّهُ قُتِلَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا قُتِلَ بَعْدَ مَقْتَلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بَعَثَ بِرَأْسِ ابْنِ الزُّبَيْرِ إِلَى ابْنِ خَازِمٍ، وَيَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِ وَلَهُ خُرَاسَانُ عَشْرَ سِنِينَ، وَأَنَّ ابْنَ خَازِمٍ لَمَّا رَأَى رَأْسَ ابْنِ الزُّبَيْرِ حَلَفَ لَا يُعْطِيهِ طَاعَةً أَبَدًا، وَدَعَا بِطَسْتٍ فَغَسَلَ رَأْسَ ابْنِ الزُّبَيْرِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَأَطْعَمَ الْكِتَابَ لِلرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّكَ رَسُولٌ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَضَرَبَ عُنُقَهُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُصَيْنٍ، التَّمِيمِيُّ السَّعْدِيُّ، أَبُو بَحْرٍ الْبَصْرِيُّ
ابْنُ أَخِي صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَالْأَحْنَفُ لَقَبٌ لَهُ، وَإِنَّمَا اسْمُهُ الضَّحَّاكُ، وَقِيلَ: صَخْرٌ، أَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرَهُ، وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَهُ.

وَكَانَ سَيِّدًا شَرِيفًا مُطَاعًا مُؤْمِنًا، عَلِيمَ اللِّسَانِ، وَكَانَ يُضْرَبُ بِحِلْمِهِ الْمَثَلُ، وَلَهُ أَخْبَارٌ فِي حِلْمِهِ سَارَتْ بِهَا الرُّكْبَانُ، قَالَ عَنْهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: هُوَ مُؤْمِنٌ عَلِيمُ اللِّسَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَا رَأَيْتُ شَرِيفَ قَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ: هُوَ بَصْرِيٌّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، وَكَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ، وَكَانَ أَعْوَرَ أَحْنَفَ الرِّجْلَيْنِ، دَمِيمًا قَصِيرًا كَوْسَجًا، لَهُ بَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، احْتَبَسَهُ عُمَرُ سَنَةً يَخْتَبِرُهُ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وَاللَّهِ السَّيِّدُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ خَطَبَ عِنْدَ عُمَرَ فَأَعْجَبَهُ مَنْطِقُهُ، قِيلَ: ذَهَبَتْ عَيْنُهُ بِالْجُدَرِيِّ، وَقِيلَ: فِي فَتْحِ سَمَرْقَنْدَ. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: كَانَ الْأَحْنَفُ جَوَادًا حَلِيمًا، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَغْفَرَ لَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا قَلِيلَ الْحَدِيثِ، وَكَانَ كَثِيرَ

الصَّلَاةِ بِاللَّيْلِ، وَكَانَ يُسْرِجُ الْمِصْبَاحَ، وَكَانَ يَضَعُ إِصْبَعَهُ فِيهِ، ثُمَّ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: إِذَا لَمْ تَصْبِرْ عَلَى الْمِصْبَاحِ، فَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى نَارِ جَهَنَّمَ ؟ وَقِيلَ لَهُ: بِأَيِّ شَيْءٍ سَوَّدَكَ قَوْمُكَ ؟ قَالَ: لَوْ عَابَ الْمَاءَ النَّاسُ مَا شَرِبْتُهُ. وَكَانَ الْأَحْنَفُ لَا يَحْسُدُ، وَلَا يَجْهَلُ، وَلَا يَدْفَعُ الْحَقَّ، وَقَالَ: إِنَّ مِنَ السُّؤْدُدِ الصَّبْرَ عَلَى الذُّلِّ، وَكَفَى بِالْحِلْمِ نَاصِرًا. وَقَالَ: مَا نَازَعَنِي أَحَدٌ إِلَّا أَخَذْتُ مِنْ أَمْرِي إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِنْ كَانَ فَوْقِي عَرَفْتُ قَدْرَهُ، وَإِنْ كَانَ دُونِي رَفَعْتُ نَفْسِي عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلِي تَفَضَّلْتُ. وَقَالَ: مَا ذَكَرْتُ أَحَدًا بِسُوءٍ بَعْدَ أَنْ يَقُومَ مِنْ عِنْدِي، وَلَا سَمِعْتُ كَلِمَةً تَسُوءُنِي إِلَّا طَأْطَأَتُ رَأْسِي ; لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا. وَأَغْلَظَ لَهُ رِجْلٌ فِي الْكَلَامِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى نَادِي قَوْمِهِ وَقَفَ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ عِنْدَكَ شَيْءٌ آخَرُ فَقُلْ ; لِئَلَّا يَسْمَعَكَ قَوْمِي فَيُؤْذُوكَ.
وَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَيْهِ يَدْعُوهُ لِنَفْسِهِ، وَيَعِدُهُ بِوِلَايَةِ الشَّامِ، فَقَالَ: يَدْعُونِي ابْنُ الزَّرْقَاءِ إِلَى وِلَايَةِ الشَّامِ، وَاللَّهِ وَدِدْتُ أَنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ جَبَلًا مِنْ نَارٍ. وَكَانَ زِيَادُ بْنُ أَبِيهِ يَقُولُ: قَدْ بَلَغَ الْأَحْنَفُ مِنَ السُّؤْدُدِ وَالشَّرَفِ مَا لَا يَنْفَعُهُ مَعَهُ وِلَايَةٌ، وَلَا يَضُرُّهُ عَزْلٌ، وَإِنَّهُ لَيَفِرُّ مِنَ الشَّرَفِ وَهُوَ يَتْبَعُهُ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ: وَهُوَ الَّذِي افْتَتَحَ مَرْوَ الرُّوذِ، وَكَانَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ فِي

جَيْشِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ - وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ - عَنْ سَبْعِينَ سَنَةٍ. وَقِيلَ: عَنْ أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ.
وَمِنْ كَلَامِهِ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْحِلْمِ مَا هُوَ ؟ فَقَالَ: الذُّلُّ مَعَ الصَّبْرِ. وَكَانَ إِذَا تَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ حِلْمِهِ يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَجِدُ مَا تَجِدُونَ وَلَكِنِّي صَبُورٌ. وَقَالَ: وَجَدْتُ الْحِلْمَ أَنْصَرَ لِي مِنَ الرِّجَالِ. وَقَدِ انْتَهَى إِلَيْهِ الْحِلْمُ وَالسُّؤْدُدُ، وَقَالَ: أَحْيِ مَعْرُوفَكَ بِإِمَاتَةِ ذِكْرِهِ. وَقَالَ: عَجِبْتُ لِمَنْ يَجْرِي فِي مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ كَيْفَ يَتَكَبَّرُ ؟ ! وَقَالَ: مَا أَتَيْتُ بَابَ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا أَنْ أُدْعَى، وَلَا دَخَلْتُ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلَّا أَنْ يُدْخِلَانِي بَيْنَهُمَا. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: بِمَ سُدْتَ قَوْمَكَ ؟ قَالَ: بِتَرْكِي مِنْ أَمَرِكَ مَا لَا يَعْنِينِي، كَمَا عَنَاكَ مِنْ أَمْرِي مَا لَا يَعْنِيكَ. وَأَغْلَظَ لَهُ رِجْلٌ فِي الْكَلَامِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَحَنَفُ، لَئِنْ قُلْتَ لِي وَاحِدَةً لَتَسْمَعَنَّ بَدَلَهَا عَشْرًا. فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنْ قُلْتَ لِي عَشْرًا لَا تَسْمَعُ مِنِّي وَاحِدَةً. وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنْ تُعَذِّبْنِي فَأَنَا أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لِي فَأَنْتَ أَهْلٌ لِذَلِكَ.
وَقَدْ كَانَ زِيَادُ بْنُ أَبِيهِ يُقَرِّبُهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيُدْنِيهِ، فَلَمَّا مَاتَ زِيَادٌ وَوَلِيَ ابْنُهُ عُبَيْدِ اللَّهِ لَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا، فَتَأَخَّرَتْ عِنْدَهُ مَنْزِلَتُهُ ; لِقُبْحِ مَنْظَرِهِ، وَصَارَ يُقَدِّمُ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ دُونَهُ، فَلَمَّا وَفَدَ بِرُؤَسَاءِ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، أَدْخَلَهُمْ

عَلَيْهِ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ عِنْدَهُ، فَكَانَ الْأَحْنَفُ آخِرَ مَنْ أَدْخَلَهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ مُعَاوِيَةُ أَجَلَّهُ وَعَظَّمَهُ، وَأَدْنَاهُ وَكَرَّمَهُ، وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى الْفِرَاشِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ يُحَادِثُهُ دُونَهُمْ، ثُمَّ شَرَعَ الْحَاضِرُونَ فِي الثَّنَاءِ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، وَالْأَحْنَفُ سَاكِتٌ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ ؟ قَالَ: إِنْ تَكَلَّمْتُ خَالَفْتُهُمْ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اشْهَدُوا عَلَيَّ أَنِّي قَدْ عَزَلْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ عَنِ الْعِرَاقِ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: انْظُرُوا لَكُمْ نَائِبًا عَلَيْكُمْ. وَأَجَّلَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَاخْتَلَفُوا بَيْنَهُمُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عُبَيْدَ اللَّهِ، وَلَا طَلَبَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَتَكَلَّمِ الْأَحْنَفُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فِي ذَلِكَ كَلِمَةً وَاحِدَةً مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا بَعْدَ ثَلَاثٍ أَفَاضُوا فِي ذَلِكَ، وَكَثُرَ اللَّغَطُ وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ، وَالْأَحْنَفُ سَاكِتٌ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: تَكَلَّمْ. فَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُوَلِّيَ فِيهَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ فَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مِثْلُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَإِنَّهُ رَجُلٌ حَازِمٌ، وَلَا يَسُدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَسَدَّهُ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ غَيْرَهُ فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِنُوَّابِكَ. فَرَدَّهُ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْوِلَايَةِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ: كَيْفَ جَهِلْتَ مِثْلَ الْأَحْنَفِ ؟ إِنَّهِ عَزَلَكَ وَوَلَّاكَ وَهُوَ سَاكِتٌ. فَعَظُمَتْ مَنْزِلَةُ الْأَحْنَفِ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ زِيَادٍ.
تُوُفِّيَ الْأَحْنَفُ بِالْكُوفَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَمَشَى فِي

جِنَازَتِهِ. ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَوَجَدَهُ غَضْبَانَ عَلَى ابْنِهِ يَزِيدَ، وَأَنَّهُ أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا بِكَلَامٍ، قَالَ: فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى يَزِيدَ بِمَالٍ جَزِيلٍ، وَقُمَاشٍ كَثِيرٍ، فَأَعْطَى يَزِيدُ نِصْفَهُ لِلْأَحْنَفِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ مُجْدَعَةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ الْأَنْصَارِيُّ، الْحَارِثِيُّ الْأَوْسِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، وَأَبُوهُ أَيْضًا صَحَابِيٌّ، رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، وَحَدَّثَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ، وَبَعْضُ الصَّحَابَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ بِالْكُوفَةِ فِي أَيَّامِ مُصْعَبٍ عَلَى الْعِرَاقِ.
عُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ الْقَاضِي
وَهُوَ عُبَيْدَةُ بْنُ عَمْرٍو - وَيُقَالُ: ابْنُ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو - السَّلْمَانِيُّ، الْمُرَادِيُّ، أَبُو عَمْرٍو الْكُوفِيُّ، وَسَلْمَانُ بَطْنٌ مِنْ مُرَادٍ، أَسْلَمَ عُبَيْدَةُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ يُوَازِي شُرَيْحًا فِي الْقَضَاءِ. وَقَالَ ابْنُ

نُمَيْرٍ: كَانَ شُرَيْحٌ إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ أَمْرٌ كَتَبَ إِلَى عُبَيْدَةَ فِيهِ، وَانْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ. وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَقِيلَ: أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ قُتِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ بْنِ صَيْفِيٍّ الْمَخْزُومِيِّ، قَارِئُ أَهْلِ مَكَّةَ، لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَقَرَأَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ.
عَطِيَّةُ بْنُ بُسْرٍ الْمَازِنِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ.
عُبَيْدُ بْنُ نَضْلَةَ، أَبُو مُعَاوِيَةَ، الْخُزَاعِيُّ الْكُوفِيُّ
مُقْرِئُ أَهِلِ الْكُوفَةِ، مَشْهُورٌ بِالْخَيْرِ وَالْعِبَادَةِ، تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ، الْقُرَشِيُّ الْعَامِرِيُّ
أَحَدُ الشُّعَرَاءِ، مَدَحَ

مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَمَّامٍ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّاعِرُ، السَّلُولِيُّ
أَحَدُ الشُّعَرَاءِ الْفُصَحَاءِ، مَدَحَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ أَنْ هَجَاهُ بِقَوْلِهِ:
شِرِبْنَا الْغَيْضَ حَتَّى لَوْ سُقِينَا دِمَاءَ بَنِي أُمَيَّةَ مَا رَوِينَا وَلَوْ جَاءُوا بِرَمْلَةَ أَوْ بِهِنْدٍ
لَبَايَعْنَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَا

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى يَدَيِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ، الْمُبِيرِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى بَنِي أَسَدٍ - وَكَانَ عَالِمًا بِفِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ - قَالَ: حُصِرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَيْلَةَ هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ سِنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَقُتِلَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، فَكَانَ حَصْرُ الْحَجَّاجِ لَهُ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَجَّاجَ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْخَارِجَةِ، وَكَانَ فِي الْحَجِّ ابْنُ عُمَرَ، وَقَدْ كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنْ يَأْتَمَّ بِابْنِ عُمَرَ فِي الْمَنَاسِكِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ".
فَلَمَّا اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ، اسْتَهَلَّتْ وَأَهْلُ الشَّامِ مُحَاصِرُونَ أَهْلَ مَكَّةَ، وَقَدْ

نَصَبَ الْحَجَّاجُ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى مَكَّةَ ; لِيَحْصُرَ أَهْلَهَا، حَتَّى يَخْرُجُوا إِلَى الْأَمَانِ وَالطَّاعَةِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ مَعَ الْحَجَّاجِ خَلْقٌ قَدِمُوا عَلَيْهِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَجَعَلُوا يَرْمُونَ بِالْمَنْجَنِيقِ، فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ مَعَهُ خَمْسُ مَجَانِيقَ، فَأَلَحَّ عَلَيْهَا بِالرَّمْيِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَحَبَسَ عَنْهُمُ الْمِيرَةَ فَجَاعُوا، وَكَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وَجَعَلَتِ الْحِجَارَةُ تَقَعُ فِي الْكَعْبَةِ، وَالْحَجَّاجُ يَصِيحُ بِأَصْحَابِهِ: يَا أَهْلَ الشَّامِ، اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّاعَةِ ! فَكَانُوا يَحْمِلُونَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُمْ آخِذُوهُ فِي هَذِهِ الشِّدَّةِ، فَيَشُدُّ عَلَيْهِمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، حَتَّى يُخْرِجَهُمْ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، ثُمَّ يَكُرُّونَ عَلَيْهِ فَيَشُدُّ عَلَيْهِمْ ; فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا، وَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ جَمَاعَةً مِنْهُمْ وَهُوَ يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْحَوَارِيِّ. وَقِيلَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ: أَلَا تُكَلِّمُهُمْ فِي الصُّلْحِ ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ وَجَدُوكُمْ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ لَذَبَحُوكُمْ جَمِيعًا، وَاللَّهِ لَا أَسْأَلُهُمْ صُلْحًا أَبَدًا.
وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُمْ لَمَّا رُمُوا بِالْمَنْجَنِيقِ، جَاءَتِ الصَّوَاعِقُ وَالْبُرُوقُ

وَالرُّعُودُ، حَتَّى جَعَلَتْ تَعْلُو أَصْوَاتُهَا عَلَى صَوْتِ الْمَنْجَنِيقِ، وَنَزَلَتْ صَاعِقَةٌ فَأَصَابَتْ مِنَ الشَّامِيِّينَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَضَعُفَتْ عِنْدَ ذَلِكَ قُلُوبُهُمْ عَنِ الْمُحَاصَرَةِ، فَلَمْ يَزَلِ الْحَجَّاجُ يُشَجِّعُهُمْ، وَيَقُولُ: إِنِّي خَبِيرٌ بِهَذِهِ الْبِلَادِ، هَذِهِ بُرُوقُ تِهَامَةَ وَرُعُودُهَا وَصَوَاعِقُهَا، وَإِنَّ الْقَوْمَ يُصِيبُهُمْ مِثْلَ الَّذِي يُصِيبُكُمْ. وَجَاءَتْ صَاعِقَةٌ مِنَ الْغَدِ فَقَتَلَتْ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً أَيْضًا، فَجَعَلَ الْحَجَّاجُ يَقُولُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنَّهُمْ يُصَابُونَ مِثْلَكُمْ، وَأَنْتُمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَهُمْ عَلَى الْمُخَالَفَةِ ؟
وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ يَرْتَجِزُونَ وَهُمْ يَرْمُونَ بِالْمَنْجَنِيقِ ; يَقُولُونَ:
خَطَّارَةٌ مِثْلُ الْفَنِيقِ الْمُزْبِدِ نَرْمِي بِهَا عُوَّاذَ هَذَا الْمَسْجِدِ
فَنَزَلَتْ صَاعِقَةٌ عَلَى الْمَنْجَنِيقِ فَأَحْرَقَتْهُ، فَتَوَقَّفَ أَهَّلُ الشَّامِ عَنِ الرَّمْيِ وَالْمُحَاصَرَةِ، فَخَطَبَهُمُ الْحَجَّاجُ فَقَالَ: وَيْحَكُمُ، أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ النَّارَ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَتَأْكُلَ قُرْبَانَهُمْ إِذَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ ؟ فَلَوْلَا أَنَّ عَمَلَكُمْ مَقْبُولٌ مَا نَزَلَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهُ. فَعَادُوا إِلَى الْمُحَاصَرَةِ.
وَمَا زَالَ أَهْلُ مَكَّةَ يَخْرُجُونَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْأَمَانِ، وَيَتْرُكُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، حَتَّى خَرَجَ إِلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، فَأَمَّنَهُمْ، وَقَلَّ أَصْحَابُ ابْنِ الزُّبَيْرِ جِدًّا، حَتَّى خَرَجَ إِلَى الْحَجَّاجِ حَمْزَةُ وَخُبَيْبٌ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَأَخَذَا

لِأَنْفُسِهِمَا أَمَانًا مِنَ الْحَجَّاجِ فَأَمَّنَهُمَا، وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى أُمِّهِ فَشَكَا إِلَيْهَا خِذْلَانَ النَّاسِ لَهُ، وَخُرُوجَهُمْ إِلَى الْحَجَّاجِ حَتَّى أَوْلَادِهِ وَأَهْلِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا الْيَسِيرُ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ صَبْرُ سَاعَةٍ، وَالْقَوْمُ يُعْطُونَنِي مَا شِئْتُ مِنَ الدُّنْيَا، فَمَا رَأْيُكِ ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، أَنْتَ أَعْلَمُ بِنَفْسِكَ ; إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ عَلَى حَقٍّ وَتَدْعُو إِلَى حَقٍّ فَاصْبِرْ عَلَيْهِ، فَقَدْ قُتِلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُكَ، وَلَا تُمَكِّنْ مِنْ رَقَبَتِكَ، يَلْعَبْ بِهَا غِلْمَانُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا أَرَدْتَ الدُّنْيَا فَلَبِئْسَ الْعَبْدَ أَنْتَ ; أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ وَأَهْلَكْتَ مَنْ قُتِلَ مَعَكَ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى حَقٍّ فَمَا وَهَنَ الدِّينُ، وَإِلَى كَمْ خُلُودُكُمْ فِي الدُّنْيَا ؟ الْقَتْلُ أَحْسَنُ. فَدَنَا مِنْهَا، فَقَبَّلَ رَأْسَهَا، وَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ رَأْيِي. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَكَنْتُ إِلَى الدُّنْيَا وَلَا أَحْبَبْتُ الْحَيَاةَ فِيهَا، وَمَا دَعَانِي إِلَى الْخُرُوجِ إِلَّا الْغَضَبُ لِلَّهِ أَنْ تُسْتَحَلَّ حُرْمَتُهُ، وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أَعْلَمَ رَأْيَكِ، فَزِدْتِينِي بَصِيرَةً مَعَ بَصِيرَتِي، فَانْظُرِي يَا أُمَّاهُ، فَإِنِّي مَقْتُولٌ مِنْ يَوْمِي هَذَا، فَلَا يَشْتَدُّ حُزْنُكِ، وَسَلِّمِي لِأَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ ابْنَكِ لَمْ يَتَعَمَّدْ إِتْيَانَ مُنْكَرٍ، وَلَا عَمِلَ بِفَاحِشَةٍ قَطُّ، وَلَمْ يَجُرْ فِي حُكْمِ اللَّهِ، وَلَمْ يَغْدُرْ فِي أَمَانٍ، وَلَمْ يَتَعَمَّدْ ظُلْمَ مُسْلِمٍ وَلَا مُعَاهَدٍ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي ظُلْمٌ عَنْ عَامِلٍ فَرَضِيتُهُ؛ بَلْ أَنْكَرْتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي آثَرُ مِنْ رِضَا رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أَقُولُ هَذَا تَزْكِيَةً لِنَفْسِي، اللَّهُمَّ أَنْتِ أَعْلَمُ بِي مِنِّي وَمِنْ غَيْرِي، وَلَكِنِّي أَقُولُ ذَلِكَ تَعْزِيَةً لِأُمِّي لِتَسْلُوَ عَنِّي. فَقَالَتْ أُمُّهُ: إِنِّي لَأَرْجُو مِنَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ عَزَائِي فِيكَ حَسَنًا إِنْ تَقَدَّمْتَنِي، أَوْ تَقَدَّمْتُكَ فَفِي نَفْسِي، اخْرُجْ يَا بُنَيَّ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرُكَ. فَقَالَ: جَزَاكِ اللَّهُ يَا أُمَّهْ خَيْرًا، فَلَا تَدَعِي الدُّعَاءَ قَبْلُ وَبَعْدُ لِي. فَقَالَتْ: لَا أَدَعَهُ أَبَدًا، فَمَنْ قُتِلَ عَلَى بَاطِلٍ فَلَقَدْ قُتِلْتَ عَلَى

حَقٍّ.
ثُمَّ قَالَتْ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ طُولَ ذَلِكَ الْقِيَامِ فِي اللَّيْلِ الطَّوِيلِ، وَذَلِكَ النَّحِيبِ، وَالظَّمَأِ فِي هَوَاجِرِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، وَبِرَّهُ بِأَبِيهِ وَبِي، اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ سَلَّمْتُهُ لِأَمْرِكَ فِيهِ، وَرَضِيتُ بِمَا قَضَيْتَ، فَقَابِلْنِي فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِثَوَابِ الصَّابِرِينَ الشَّاكِرِينَ، ثُمَّ قَالَتْ لَهُ: ادْنُ مِنِّي أُوَدِّعْكَ. فَدَنَا مِنْهَا فَقَبَّلَتْهُ، ثُمَّ أَخَذَتْهُ إِلَيْهَا فَاحْتَضَنَتْهُ لِتُوَدِّعَهُ، وَاعْتَنَقَهَا لِيُوَدِّعَهَا، وَكَانَتْ قَدْ أَضَرَّتْ فِي آخِرِ عُمْرِهَا، فَوَجَدَتْهُ لَابِسًا دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، مَا هَذَا لِبَاسُ مَنْ يُرِيدُ مَا تُرِيدُ مِنَ الشَّهَادَةِ. فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ، إِنَّمَا لَبِسْتُهُ لِأُطَيِّبَ خَاطِرَكِ، وَأُسَكِّنَ قَلْبَكِ بِهِ. فَقَالَتْ: لَا يَا بُنَيَّ، وَلَكِنِ انْزِعْهُ. فَنَزَعَهُ، وَجَعَلَ يَلْبَسُ بَقِيَّةَ ثِيَابِهِ وَيَتَشَدَّدُ، وَهِيَ تَقُولُ: شَمِّرْ ثِيَابَكَ. وَجَعَلَ يَتَحَفَّظُ مِنْ أَسْفَلِ ثِيَابِهِ ; لِئَلَّا تَبْدُو عَوْرَتَهُ إِذَا قُتِلَ، وَجَعَلَتْ تُذَكِّرُهُ بِأَبِيهِ الزُّبَيْرِ، وَجَدِّهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَجَدَّتِهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَطْلَبِ، وَخَالَتِهِ عَائِشَةَ زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُرَجِّيهِ الْقُدُومَ عَلَيْهِمْ إِذَا هُوَ قُتِلَ شَهِيدًا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ عَهْدِهِ بِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَنْ أَبِيهِ وَأَبِيهَا، ثُمَّ قَالَتْ: امْضِ عَلَى بَصِيرَةٍ. فَوَدَّعَهَا، وَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ:
وَلَسْتُ بِمُبْتَاعِ الْحَيَاةِ بِسُبَّةٍ وَلَا مُرْتَقٍ مِنْ خَشْيَةِ الْمَوْتِ سُلَّمَا

قَالُوا: وَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُنَاكَ خَمْسُمِائَةِ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، فَيَحْمِلُ عَلَيْهِمْ فَيَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ أَحَدٌ، وَهُوَ يَقُولُ:
إِنِّي إِذَا أَعْرِفُ يَوْمِي أَصْبِرْ إِذْ بَعْضُهُمْ يَعْرِفُ ثُمَّ يُنْكِرْ
وَيَقُولُ أَيْضًا:
الْمَوْتُ أَكْرَمُ مِنْ إِعْطَاءِ مَنَقَصَةٍ مَنْ لَمْ يَمُتْ غِبْطَةً فَالْغَايَةُ الْهَرَمُ
وَكَانَتْ أَبْوَابُ الْحَرَمِ قَدْ قَلَّ مَنْ يَحْرُسُهَا مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ لِأَهْلِ حِمْصَ حِصَارُ الْبَابِ الَّذِي يُوَاجَهُ بَابَ الْكَعْبَةِ، وَلِأَهْلِ دِمَشْقَ بَابُ بَنِي شَيْبَةَ، وَلِأَهْلِ الْأُرْدُنِ بَابُ الصَّفَا، وَلِأَهْلِ فِلَسْطِينَ بَابُ بَنِي جُمَحَ، وَلِأَهْلِ قِنَّسْرِينَ بَابُ بَنِي سَهْمٍ، وَعَلَى كُلِّ بَابٍ قَائِدٌ، وَمَعَهُ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ وَطَارِقُ بْنُ عَمْرٍو فِي نَاحِيَةِ الْأَبْطَحِ.
وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَا يَخْرُجُ عَلَى أَهْلِ بَابٍ إِلَّا فَرَّقَهُمْ وَبَدَّدَ شَمْلَهُمْ، وَهُوَ غَيْرُ مُلْبِسٍ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ إِلَى الْأَبْطَحِ، ثُمَّ يَصِيحُ:
لَوْ كَانَ قِرْنِي وَاحِدًا كَفَيْتُهُ
فَيَقُولُ ابْنُ صَفْوَانَ وَأَهْلُ الشَّامِ أَيْضًا: إِي وَاللَّهِ، وَأَلْفُ رَجُلٍ. وَلَقَدْ كَانَ حَجَرُ الْمَنْجَنِيقِ يَقَعُ عَلَى طَرَفِ ثَوْبِهِ فَلَا يَنْزَعِجُ بِذَلِكَ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، فَيُقَاتِلُهُمْ

كَأَنَّهُ أَسَدٌ ضَارٍ، حَتَّى جَعَلَ النَّاسُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ إِقْدَامِهِ وَشَجَاعَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَاتَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُصَلِّي طُولَ لَيْلَتِهِ، ثُمَّ جَلَسَ فَاحْتَبَى بِحَمِيلَةِ سَيْفِهِ، فَأَغْفَى ثُمَّ انْتَبَهَ مَعَ الْفَجْرِ عَلَى عَادَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَذِّنْ يَا سَعْدُ. فَأَذَّنَ عِنْدَ الْمَقَامِ، وَتَوَضَّأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتِي الْفَجْرِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ قَرَأَ سُورَةَ " ن " حَرْفًا حَرْفًا، ثُمَّ سَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا أُرَانِي الْيَوْمَ إِلَّا مَقْتُولًا ; فَإِنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَأَنَّ السَّمَاءَ فُرِجَتْ لِي، فَدَخَلْتُهَا، وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ مَلِلْتُ الْحَيَاةَ، وَجَاوَزَتْ سِنِّي اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً، اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّ لِقَاءَكَ، فَأَحِبَّ لِقَائِي. ثُمَّ قَالَ: اكْشِفُوا وُجُوهَكُمْ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْكُمْ، فَكَشَفُوا عَنْ وُجُوهِهِمْ وَعَلَيْهِمُ الْمَغَافِرُ، فَحَرَّضَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَالصَّبْرِ، ثُمَّ نَهَضَ بِهِمْ، فَحَمَلَ وَحَمَلُوا حَتَّى كَشَفُوهُمْ إِلَى الْحَجُونِ، فَجَاءَتْهُ آجُرَّةٌ فَأَصَابَتْهُ فِي وَجْهِهِ، فَارْتَعَشَ لَهَا، فَلَمَّا وَجَدَ سُخُونَةَ الدَّمِ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ:
وَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدِّمَا
ثُمَّ رَجَعَ، فَجَاءَهُ حَجَرُ مَنْجَنِيقٍ مِنْ وَرَائِهِ فَأَصَابَهُ فِي قَفَاهُ فَوَقَذَهُ، ثُمَّ

وَقْعَ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ انْتَهَضَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ، وَابْتَدَرَهُ النَّاسُ، فَشَدَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَضَرَبَ الرَّجُلَ فَقَطَعَ رِجْلَيْهِ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى مِرْفَقِهِ الْأَيْسَرِ، وَجَعَلَ يَضْرِبُ وَمَا يَقْدِرُ أَنْ يَنْتَهِضَ حَتَّى كَثُرُوا عَلَيْهِ، فَابْتَدَرُوهُ بِالسُّيُوفِ، فَقَتَلُوهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَجَاءُوا إِلَى الْحَجَّاجِ فَأَخْبَرُوهُ، فَخَرَّ سَاجِدًا - قَبَّحَهُ اللَّهُ - ثُمَّ قَامَ هُوَ وَطَارِقُ بْنُ عَمْرٍو حَتَّى وَقَفَا عَلَيْهِ، وَهُوَ صَرِيعٌ، فَقَالَ طَارِقُ: مَا وَلَدَتِ النِّسَاءُ أَذْكَرَ مِنْ هَذَا. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: تَمْدَحُ مَنْ يُخَالِفُ طَاعَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، هُوَ أَعْذَرُ لَنَا ; إِنَّا مُحَاصِرُوهُ وَلَيْسَ هُوَ فِي حِصْنٍ وَلَا خَنْدَقٍ وَلَا مَنَعَةٍ يَنْتَصِفُ مِنَّا، بَلْ يُفَضَّلُ عَلَيْنَا فِي كُلِّ مَوْقِفٍ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الْمَلِكِ صَوَّبَ طَارِقًا.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ ارْتَجَّتْ مَكَّةَ بُكَاءً عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَخَطَبَ الْحَجَّاجُ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ مِنْ خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ حَتَّى رَغِبَ فِي الْخِلَافَةِ، وَنَازَعَهَا أَهْلَهَا، وَأَلْحَدَ فِي الْحَرَمِ، فَأَذَاقَهُ اللَّهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، وَإِنَّ آدَمَ كَانَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ أَشْرَفُ مِنْ مَكَّةَ، فَلَمَّا خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَأَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ، قُومُوا إِلَى صَلَاتِكُمْ يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ.

وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، بَلَغَنِي إِكْبَارُكُمْ وَاسْتِعْظَامُكُمْ قَتْلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ مِنْ خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، حَتَّى رَغِبَ فِي الدُّنْيَا، وَنَازَعَ الْخِلَافَةَ أَهْلَهَا، فَخَلَعَ طَاعَةَ اللَّهِ، وَأَلْحَدَ فِي حَرَمِ اللَّهِ، وَلَوْ كَانَتْ مَكَّةُ شَيْئًا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ لَمَنَعَتْ آدَمَ حُرْمَةُ الْجَنَّةِ، وَقَدْ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمَّا عَصَاهُ أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَآدَمُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ غَيَّرَ كِتَابَ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ لَكَ: كَذَبْتَ ; لَقَلْتُ، وَاللَّهِ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمْ يُغَيِّرْ كِتَابَ اللَّهِ، بَلْ كَانَ قَوَّامًا بِهِ، صَوَّامًا، عَامِلًا بِالْحَقِّ.
وَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِمَا وَقَعَ، وَبَعَثَ بِرَأْسِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَعَ رَأْسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ، وَعُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَمَرَهُمْ إِذَا مَرُّوا بِالْمَدِينَةِ أَنْ يَنْصِبُوا الرُّءُوسَ بِهَا، ثُمَّ يَسِيرُوا بِهَا إِلَى الشَّامِ، فَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ.
ثُمَّ أَمَرَ الْحَجَّاجُ بِجُثَّةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَصُلِبَتْ عَلَى ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ عِنْدَ الْحَجُونِ - يُقَالُ: مُنَكَّسَةً - فَمَا زَالَتْ مَصْلُوبَةً حَتَّى مَرَّ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ يَا أَبَا خُبَيْبٍ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتَ صَوَّامًا قَوَّامًا، ثُمَّ قَالَ: أَمَا آنَ لِهَذَا الرَّاكِبِ أَنْ يَنْزِلَ ؟ فَبَعَثَ الْحَجَّاجُ، فَأُنْزِلَ عَنِ الْجِذْعِ، وَدُفِنَ هُنَاكَ.
وَدَخَلَ الْحَجَّاجُ إِلَى مَكَّةَ، فَأَخَذَ الْبَيْعَةَ مِنْ أَهْلِهَا لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ

عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَلَمْ يَزَلِ الْحَجَّاجُ مُقِيمًا بِمَكَّةَ حَتَّى أَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ عَامَهُ هَذَا أَيْضًا، وَهُوَ عَلَى مَكَّةَ وَالْيَمَامَةِ وَالْيَمَنِ.

وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ، أَبُو بَكْرٍ، وَيُقَالُ لَهُ: أَبُو خُبَيْبٍ، الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ، أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ، هَاجَرَتْ بِهِ - وَهِيَ حَامِلٌ بِهِ مُتِمٌ - فَوَلَدَتْهُ بِقُبَاءَ أَوَّلَ مَقْدِمِهِمِ الْمَدِينَةَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا وَلَدَتْهُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ، وَمُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَغَيْرُهُمَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ; لِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بِمَكَّةَ، قَالَتْ: فَخَرَجْتُ بِهِ، وَأَنَا مُتِمٌّ، فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْتُ فَوَلَدْتُهُ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا دَخَلَ فِي جَوْفِهِ رِيقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: ثُمَّ حَنَّكَهُ، ثُمَّ دَعَا لَهُ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَهُوَ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ، وَرَوَى عَنْ

أَبِيهِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ، وَشَهِدَ الْجَمَلَ مَعَ أَبِيهِ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَحَضَرَ خُطْبَةَ عُمَرَ بِالْجَابِيَّةِ، وَرَوَاهَا عَنْهُ بِطُولِهَا، ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.
وَقَدِمَ دِمَشْقَ لِغَزْوِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، ثُمَّ قَدِمَهَا مَرَّةً أُخْرَى، وَبُويِعَ بِالْخِلَافَةِ أَيَّامَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ غَلَبَ عَلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقَيْنِ وَمِصْرَ وَخُرَاسَانَ وَسَائِرِ بِلَادٍ الشَّامِ إِلَّا دِمَشْقَ، وَتَمَّتِ الْبَيْعَةُ لَهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ النَّاسُ بِخَيْرٍ فِي زَمَانِهِ.
وَثَبَتَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّهَا خَرَجَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرَةً وَهِيَ حُبْلَى بِهِ، فَوَلَدَتْهُ بِقُبَاءَ أَوَّلَ مَقْدِمِهِمِ الْمَدِينَةَ، فَأَتَتْ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَنَّكَهُ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَدَعَا لَهُ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَتِ الْيَهُودُ قَدْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ سَحَرُوا الْمُهَاجِرِينَ ; فَلَا يُولَدُ لَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا وُلِدَ ابْنُ الزُّبَيْرِ كَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَيْشَ الشَّامِ حِينَ كَبَّرُوا عِنْدَ قَتْلِهِ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَلَّذِينِ كَبَّرُوا عِنْدَ مَوْلِدِهِ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَبَّرُوا عِنْدَ قَتْلِهِ. وَأَذَّنَ الصِّدِّيقُ فِي أُذُنَيْهِ حِينَ وُلِدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

وَمَنْ قَالَ: إِنِ الصِّدِّيقَ طَافَ بِهِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ فِي خِرْقَةٍ فَهُوَ وَاهِمٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنَّمَا طَافَ الصِّدِّيقُ بِهِ فِي الْمَدِينَةِ لِيَشْتَهِرَ أَمْرُ مِيلَادِهِ عَلَى خِلَافِ مَا زَعَمَتِ الْيَهُودُ.
وَقَالَ مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ: كَانَ عَارِضَا عَبْدِ اللَّهِ خَفِيفَيْنِ، وَمَا اتَّصَلَتْ لِحْيَتُهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلِّمَ فِي غِلْمَةٍ تَرَعْرَعُوا ; مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ بَايَعْتَهُمْ فَتُصِيبَهُمْ بَرَكَتُكَ، وَيَكُونُ لَهُمْ ذِكْرٌ. فَأُتِيَ بِهِمْ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُمْ تَكَعْكَعُوا، وَاقْتَحَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنَّهُ ابْنُ أَبِيهِ وَبَايَعَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ شَرِبَ مِنْ دَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; كَانَ

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ احْتَجَمَ فِي طَسْتٍ، فَأَعْطَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ لِيُرِيقَهُ فَشَرِبَهُ، فَقَالَ لَهُ:لَا تَمَسُّكَ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، وَوَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ، وَوَيْلٌ لِلنَّاسِ مِنْكَ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، اذْهَبْ بِهَذَا الدَّمِ فَأَهْرِقْهُ حَيْثُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ فَلَمَّا بَعُدَ عَمَدَ إِلَى ذَلِكَ الدَّمِ فَشَرِبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: مَا صَنَعْتَ بِالدَّمِ ؟ قَالَ: عَمَدْتُ إِلَى أَخْفَى مَوْضِعٍ عَلِمْتُ فَجَعَلْتُهُ فِيهِ. قَالَ: فَلَعَلَّكَ شَرِبْتَهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: لَا تَمَسُّكَ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، وَيْلٌ لِلنَّاسِ مِنْكَ، وَوَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ فَكَانَتْ تِلْكَ الْقُوَّةُ الَّتِي بِهِ مِنْ ذَلِكَ الدَّمِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ، ثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، أَنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ كَانَ يَقُولُ: إِنِّي لَأَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ فَارِسُ الْخُلَفَاءِ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: كُنْتُ أَمُرُّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ يُصَلِّي خَلْفَ الْمَقَامِ كَأَنَّهُ خَشَبَةٌ مَنْصُوبَةٌ لَا يَتَحَرَّكُ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِذَا سَجَدَ وَقَعَتِ الْعَصَافِيرُ عَلَى ظَهْرِهِ، تَصْعَدُ وَتَنْزِلُ لَا تَرَاهُ إِلَّا جِذْمَ حَائِطٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَقُومُ

لَيْلَهُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَرْكَعُ لَيْلَهُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَسْجُدُ لَيْلَهُ حَتَّى يُصْبِحَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَكَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَوْمًا فَقَرَأْتُ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ وَالْمَائِدَةَ وَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كُنْتُ إِذَا رَأَيْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يُصَلِّي كَأَنَّهُ كَعْبٌ رَاتِبٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: ثَابِتٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ: تَعَلَّمَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّلَاةَ مَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ عَطَاءٍ، وَعَطَاءٌ مِنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الصِّدِّيقِ، وَ الصِّدِّيقُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: لَوْ رَأَيْتَ ابْنَ الزُّبَيْرِ يُصَلِّي كَأَنَّهُ غُصْنُ شَجَرَةٍ تَصْفِقُهَا الرِّيحُ، وَالْمَنْجَنِيقُ يَقَعُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا. قَالَ سُفْيَانُ: كَأَنَّهُ لَا يُبَالِي. وَحَكَى بَعْضُهُمْ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ حَجَرًا مِنَ الْمَنْجَنِيقِ وَقَعَ عَلَى شُرَّافَةِ الْمَسْجِدِ فَطَارَتْ فِلْقَةٌ مِنْهُ فَمَرَّتْ بَيْنَ لِحْيَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَحَلْقِهِ، فَمَا زَالَ عَنْ مَقَامِهِ، وَلَا عُرِفَ ذَلِكَ فِي صَوْتِهِ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، جَادَ مَا وَصَفْتَ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَوْمًا

لِابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: صِفْ لَنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ جِلْدًا قَطُّ رُكِّبَ عَلَى لَحْمٍ، وَلَا لَحْمًا عَلَى عَصَبٍ، وَلَا عَصَبًا عَلَى عَظْمٍ مِثْلَهُ، وَلَا رَأَيْتُ نَفْسًا رُكِّبَتْ بَيْنَ جَنْبَيْنِ مِثْلَ نَفْسِهِ، وَلَقَدْ مَرَّتْ آجُرَّةٌ مِنْ رَمْيِ الْمَنْجَنِيقِ بَيْنَ لِحْيَتِهِ وَصَدْرِهِ، فَوَاللَّهِ مَا جَشِعَ وَلَا قَطَعَ لَهَا قِرَاءَتَهُ، وَلَا رَكَعَ دُونَ مَا كَانَ يَرْكَعُ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ خَرَجَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَيْهَا، وَلَقَدْ كَانَ يَرْكَعُ فَيَكَادُ يَقَعُ الرَّخَمُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَيَسْجُدُ فَكَأَنَّهُ ثَوْبٌ مَطْرُوحٌ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى ابْنَ الزُّبَيْرِ يَشْرَبُ فِي صَلَاتِهِ، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: كَانَ قَارِئًا لِكِتَابِ اللَّهِ، مُتَّبِعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَانِتًا لِلَّهِ، صَائِمًا فِي الْهَوَاجِرِ مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ، ابْنُ حَوَارِيِّ رَسُولِ اللَّهِ، وَأُمُّهُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، وَخَالَتُهُ عَائِشَةُ حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللَّهِ، زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ، فَلَا يَجْهَلُ حَقَّهُ إِلَّا مَنْ أَعْمَاهُ اللَّهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يَوْمًا يُصَلِّي فَسَقَطَتْ حَيَّةٌ مِنَ السَّقْفِ تَطَوَّقَتْ عَلَى بَطْنِ ابْنِهِ هَاشِمٍ، فَصَرَخَ النِّسْوَةُ، وَانْزَعَجَ أَهْلُ الْمَنْزِلِ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِ تِلْكَ

الْحَيَّةَ، فَقَتَلُوهَا وَسَلِمَ الْوَلَدُ ; فَعَلُوا هَذَا كُلَّهُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَلْتَفِتْ، وَلَا دَرَى بِمَا جَرَى لِابْنِهِ حَتَّى سَلَّمَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ الْحِزَامِيُّ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَنْ لَا أُحْصِي كَثْرَةً مِنْ أَصْحَابِنَا، أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يُوَاصِلُ الصَّوْمَ سَبْعًا ; يَصُومُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَلَا يُفْطِرُ إِلَّا لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ الْأُخْرَى، وَيَصُومُ بِالْمَدِينَةِ وَلَا يُفْطِرُ إِلَّا فِي مَكَّةَ، وَيَصُومُ بِمَكَّةَ فَلَا يُفْطِرُ إِلَّا فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ إِذَا أَفْطَرَ أَوَّلُ مَا يُفْطِرُ عَلَى لَبَنِ لِقْحَةٍ، وَسَمْنٍ، وَصَبِرٍ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَأَمَّا اللَّبَنُ فَيَعْصِمُهُ، وَأَمَّا السَّمْنُ فَيَقْطَعُ عَنْهُ الْعَطَشَ، وَأَمَّا الصَّبِرُ فَيُفَتِّقُ الْأَمْعَاءَ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ، عَنْ رَوْحٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُوَاصِلُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَيُصْبِحُ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ وَهُوَ أَلْيَثُنَا. وَرُوِيَ مِثْلُهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سِوَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي وَسَطِهِ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَا يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَمَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَنْزِعْ ثَوْبَهُ عَنْ ظَهْرِهِ. وَقَالَ لَيْثٌ عَنْ

مُجَاهِدٍ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُطِيقُ مَا يُطِيقُهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْعِبَادَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَلَقَدْ جَاءَ سَيْلٌ مَرَّةً فَطَبَّقَ الْبَيْتَ، فَجَعَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَطُوفُ سِبَاحَةً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَا يُنَازَعُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْعِبَادَةِ، وَالشَّجَاعَةِ، وَالْفَصَاحَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُثْمَانَ جَعَلَهُ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ نَسَخُوا الْمَصَاحِفَ مَعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَذَكَرَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فِي خُطَبَاءِ الْإِسْلَامِ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَابْنِهِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَابْنِهِ، وَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ: رَأَيْتُ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ رِدَاءً يَمَانِيًّا عَدَنِيًّا يُصَلِّي فِيهِ، وَكَانَ صَيِّتًا ; إِذَا خَطَبَ يُجَاوِبُهُ الْجَبَلَانِ أَبُو قُبَيْسٍ، وَزَرُودُ.
وَكَانَ آدَمَ نَحِيفًا، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ، وَكَانَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ السُّجُودِ، كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، مُجْتَهِدًا، شَهْمًا، فَصِيحًا، صَوَّامًا قَوَّامًا، شَدِيدَ الْبَأْسِ، ذَا أَنَفَةٍ، لَهُ نَفْسٌ شَرِيفَةٌ وَهِمَّةٌ عَالِيَةٌ، وَكَانَ خَفِيفَ اللِّحْيَةِ، لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مِنَ الشَّعْرِ إِلَّا قَلِيلًا، وَكَانَتْ لَهُ جُمَّةٌ، وَكَانَ لَهُ لِحْيَةٌ صَفْرَاءُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَهِدَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ قِتَالَ الْبَرْبَرِ ; وَكَانُوا فِي عِشْرِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ، وَالْمُسْلِمُونَ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَأَحَاطُوا بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ،

فَمَا زَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَحْتَالُ حَتَّى رَكِبَ فِي ثَلَاثِينَ فَارِسًا، وَسَارَ نَحْوَ مَلِكِ الْبَرْبَرِ، وَهُوَ مُنْفَرِدٌ وَرَاءَ الْجَيْشِ، وَجَوَارِيهِ يُظَلِّلْنَهُ بِرِيشِ النَّعَامِ، فَسَاقَ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ، وَالنَّاسُ يَظُنُّونَ أَنَّهُ ذَاهِبٌ فِي رِسَالَةٍ إِلَيْهِ، فَلَمَّا فَهِمَهُ الْمَلِكُ وَلَّى مُدْبِرًا، فَلَحِقَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَتَلَهُ، وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَجَعَلَهُ فَوْقَ رُمْحِهِ، وَكَبَّرَ وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ، وَحَمَلُوا عَلَى الْبَرْبَرِ فَهَزَمُوهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَنِمُوا مَغَانِمَ كَثِيرَةً جِدًّا، وَبَعْثَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ بِالْبِشَارَةِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَصَّ عَلَى عُثْمَانَ الْخَبَرَ، وَكَيْفَ جَرَى، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: أَتَسْتَطِيعُ أَنَّ تُؤَدِّيَ هَذَا لِلنَّاسِ فَوْقَ الْمِنْبَرِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَصَعِدَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَوْقَ الْمِنْبَرِ، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَذَكَرَ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ مَا جَرَى. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَبِي الزُّبَيْرُ فِي جُمْلَةِ مِنْ حَضَرَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ كَادَ أَنْ يُرْتَجَ عَلَيَّ فِي الْكَلَامِ مِنْ هَيْبَتِهِ فِي قَلْبِي، فَزَبَرَنِي بِعَيْنِهِ، وَأَشَارَ إِلَيَّ لِيَحْصِبَنِي، فَمَضَيْتُ فِي الْخُطْبَةِ كَمَا كُنْتُ، فَلَمَّا نَزَلْتُ قَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنِي أَسْمَعُ خُطْبَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ سَمِعْتُ خُطْبَتَكَ يَا بُنَيَّ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ يَقُولُ: خَرَجَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، فَنَزَلَ يَبُولُ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا عَلَى الرَّاحِلَةِ شَيْخٌ أَبْيَضُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، فَشَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَتَنَحَّى عَنْهَا، فَرَكِبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رَاحِلَتَهُ وَمَضَى، قَالَ: فَنَادَاهُ: وَاللَّهِ يَابْنَ الزُّبَيْرِ لَوْ دَخَلَ قَلْبَكَ اللَّيْلَةَ مِنِّي شَعْرَةٌ

لَخَبَلْتُكَ. قَالَ: وَمِنْكَ أَنْتَ يَا لَعِينُ يَدْخُلُ قَلْبِي شَيْءٌ ؟ ! وَقَدْ رُوِيَ لِهَذِهِ الْحِكَايَةِ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى جَيِّدَةٍ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا كَانُوا عِنْدَ التَّنَاضِبِ أَبْصَرُوا رَجُلًا عِنْدَ شَجَرَةٍ، فَتَقَدَّمَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ، وَرَدَّ رَدًّا ضَعِيفًا، وَنَزَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ لَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: تَنَحَّ عَنِ الظِّلِّ. فَانْحَازَ مُتَكَارِهًا، قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَجَلَسْتُ، وَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَقَلْتُ: مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ. فَمَا عَدَا أَنْ قَالَهَا حَتَّى قَامَتْ كُلُّ شَعْرَةٍ مِنِّي فَاجْتَذَبْتُهُ، وَقَلْتُ: أَنْتَ رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ وَتَبْدُو لِي هَكَذَا ؟ وَإِذْ لَيْسَ لَهُ سُفْلَةٌ، وَانْكَسَرَ وَنَهَرْتُهُ، وَقُلْتُ: إِلَيَّ تَتَبَدَّى وَأَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَذَهَبَ هَارِبًا، وَجَاءَ أَصْحَابِي، فَقَالُوا: أَيْنَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ عِنْدَكَ ؟ فَقُلْتُ: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَهَرَبَ. قَالَ: فَمَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا سَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَأَخَذْتُ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَشَدَدْتُهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، حَتَّى أَتَيْتُ بِهِمْ أَمَجَ وَمَا يَعْقِلُونَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَإِذَا نِسْوَةٌ يَطُفْنَ بِالْبَيْتِ، فَأَعْجَبْنَنِي، فَلَمَّا قَضَيْنَ طَوَافَهُنَّ خَرَجْنَ، فَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهِنَّ ; لِأَعْلَمَ أَيْنَ مَنْزِلُهُنَّ، فَخَرَجْنَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى أَتَيْنَ الْعَقَبَةَ، ثُمَّ انْحَدَرْنَ حَتَّى أَتَيْنَ

فَجًّا فَدَخَلْنَ فِي خَرِبَةٍ، فَدَخَلْتُ فِي إِثْرِهِنَّ، فَإِذَا مَشْيَخَةٌ جُلُوسٌ فَقَالُوا: مَا جَاءَ بِكَ يَابْنَ الزُّبَيْرِ ؟ فَقُلْتُ لَهُمْ: مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا: الْجِنُّ، وَتِلْكَ النِّسْوَةُ نِسَاؤُنَا، فَمَا تَشْتَهِي يَابْنَ الزُّبَيْرِ ؟ فَقُلْتُ: أَشْتَهِي رُطَبًا، وَمَا بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ مِنْ رُطَبَةٍ، فَأَتَوْنِي بِرُطَبٍ فَأَكَلْتُ، ثُمَّ قَالُوا: احْمِلْ مَا بَقِيَ مَعَكَ، فَجِئْتُ بِهِ الْمَنْزِلَ، فَوَضَعْتُهُ فِي سَفَطٍ، وَوَضَعْتُ السَّفَطَ فِي صُنْدُوقٍ، ثُمَّ وَضَعْتُ رَأْسِي لِأَنَامَ، فَبَيْنَمَا أَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ سَمِعْتُ جَلَبَةً فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَيْنَ وَضَعَهُ ؟ قَالُوا: فِي الصُّنْدُوقِ. فَفَتَحُوهُ، فَإِذَا هُوَ فِي السَّفَطِ دَاخِلَهُ، فَهَمُّوا بِفَتْحِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَأَخَذُوا السَّفَطَ بِمَا فِيهِ، فَذَهَبُوا بِهِ، قَالَ: فَلَمْ آسَفْ عَلَى شَيْءٍ أَسَفِي كَيْفَ لَمْ أَثِبْ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي الْبَيْتِ.
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مِمَّنْ حَاجَفَ عَنْ عُثْمَانَ يَوْمَ الدَّارِ، وَجُرِحَ يَوْمَئِذٍ بِضْعَ عَشْرَةَ جِرَاحَةً، وَكَانَ عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَجُرِحَ يَوْمَئِذٍ تِسْعَ عَشْرَةَ جِرَاحَةً أَيْضًا، وَقَدْ تَبَارَزَ يَوْمَئِذٍ هُوَ وَمَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْأَشْتَرِ فَاتَّحَدَا فَصَرَعَ الْأَشْتَرُ ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنِ الْأَشْتَرُ مِنَ الْقِيَامِ عَنْهُ، بَلِ احْتَضَنَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَجَعَلَ يُنَادِي، وَيَقُولُ:
اقْتُلُونِي وَمَالِكًا وَاقْتُلُوا مَالِكًا مَعِي
فَأَرْسَلَهَا مَثَلًا، ثُمَّ تَفَرَّقَا، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ الْأَشْتَرُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ جُرِحَ يَوْمَئِذٍ

بِضْعًا وَأَرْبَعِينَ جِرَاحَةً، وَلَمْ يُوجَدْ إِلَّا بَيْنَ الْقَتْلَى وَبِهِ رَمَقٌ، وَقَدْ أَعْطَتْ عَائِشَةُ لِمَنْ بَشَّرَهَا أَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَسَجَدَتْ لِلَّهِ شُكْرًا، وَقَدْ كَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا ; لِأَنَّهُ ابْنُ أُخْتِهَا، وَكَانَ عَزِيزًا عَلَيْهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ تَكُنْ عَائِشَةُ تُحِبُّ أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ مِثْلَ حُبِّهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ. وَقَالَ: وَمَا رَأَيْتُ أَبِي وَعَائِشَةَ يَدْعُوَانِ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ مِثْلَ دُعَائِهِمَا لِابْنِ الزُّبَيْرِ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي أَخِي هَارُونُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: أَقْحَمَتِ السَّنَةُ نَابِغَةَ بَنِي جَعْدَةَ، فَدَخَلَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَأَنْشَدَهُ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
حَكَيْتَ لَنَا الصِّدِّيقَ لَمَّا وَلِيتَنَا وَعُثْمَانَ وَالْفَارُوقَ فَارْتَاحَ مُعْدِمُ
وَسَوَّيْتَ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحَقِّ فَاسْتَوَوْا فَعَادَ صَبَاحًا حَالِكُ اللَّيْلِ مُظْلِمُ
أَتَاكَ أَبُو لَيْلَى يَجُوبُ بِهِ الدُّجَا دُجَى اللَّيْلِ جَوَّابُ الْفَلَاةِ عَثَمْثَمُ
لِتَجْبُرَ مِنْهُ جَانِبًا ذَعْذَعَتْ بِهِ صُرُوفُ اللَّيَالِي وَالزَّمَانُ الْمُصَمِّمُ

فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: هَوِّنْ عَلَيْكَ أَبَا لَيْلَى، فَإِنَّ الشِّعْرَ أَهْوَنُ وَسَائِلِكَ عِنْدَنَا، أَمَّا صِفْوَةُ مَالِنَا فَلِآلِ الزُّبَيْرِ، وَأَمَّا عَفْوُهُ فَإِنَّ بَنِي أَسَدٍ يَشْغَلُهَا عَنْكَ وَتَيْمًا، وَلَكِنْ لَكَ فِي مَالِ اللَّهِ حَقَّانِ: حَقٌّ بِرُؤْيَتِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَقٌّ لِشَرِكَتِكَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ فِي فَيْئِهِمْ. ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ دَارَ النَّعَمِ، فَأَعْطَاهُ قَلَائِصَ سَبْعًا، وَجَمَلًا رَحِيلًا، وَأَوْقَرَ لَهُ الرِّكَابَ بُرًّا وَتَمْرًا وَثِيَابًا، فَجَعَلَ النَّابِغَةُ يَسْتَعْجِلُ، وَيَأْكُلُ الْحَبَّ صِرْفًا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: وَيْحَ أَبِي لَيْلَى، لَقَدْ بَلَغَ الْجَهْدُ. فَقَالَ النَّابِغَةُ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:مَا وَلِيَتْ قُرَيْشٌ فَعَدَلَتْ، وَاسْتُرْحِمَتْ فَرَحِمَتْ، وَحَدَّثَتْ فَصَدَقَتْ، وَوَعَدَتْ خَيْرًا فَأَنْجَزَتْ، فَأَنَا وَالنَّبِيُّونَ فُرَّاطُ الْقَاصِفِينَ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ صَاحِبُ كِتَابِ " الْمُجَالَسَةِ ": أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ نَصْرٍ الْأَزْدِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الضَّبِّيُّ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَذِنَ مُعَاوِيَةُ لِلنَّاسِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَاحْتَفَلَ الْمَجْلِسُ، وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ، فَأَجَالَ بَصَرَهُ فِيهِمْ، ثُمَّ قَالَ: أَنْشِدُونِي لِقُدَمَاءِ الْعَرَبِ ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ جَامِعَةٍ، مِنْ أَجْمَعَ مَا قَالَتْهَا الْعَرَبُ. ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا خُبَيْبٍ. فَقَالَ: مَهْيَمْ ؟ قَالَ: أَنْشِدْنِي ذَلِكَ. فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ ; كُلُّ بَيْتٍ بِمِائَةِ أَلْفٍ. قَالَ: نَعَمْ، إِنْ سَاوَتْ. قَالَ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ، وَأَنْتَ وَافٍ كَافٍ. فَأَنْشَدَهُ لِلْأَفْوَهِ الْأَوَدِيِّ:
بَلَوْتُ النَّاسَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ فَلَمْ أَرَ غَيْرَ خَتَّالٍ وَقَالِ
فَقَالَ: صَدَقَ.
وَلَمْ أَرَ فِي الْخُطُوبِ أَشَدَّ وَقْعًا وَكَيْدًا مِنْ مُعَادَاةِ الرِّجَالِ
فَقَالَ: صَدَقَ.

وَذُقْتُ مَرَارَةَ الْأَشْيَاءِ طُرًّا فَمَا شَيْءٌ أَمَرُّ مِنَ السُّؤَالِ
فَقَالَ: صَدَقَ. ثُمَّ قَالَ مُعَاوِيَةُ: هِيهِ يَا أَبَا خُبَيْبٍ. قَالَ: إِلَى هَاهُنَا انْتَهَى. قَالَ: فَدَعَا مُعَاوِيَةُ بِثَلَاثِينَ عَبْدًا، عَلَى عُنُقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَدْرَةٌ، وَهِيَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَمَرُّوا بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ الزُّبَيْرِ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى دَارِهِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي يَزِيدَ النُّمَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ، عَنْ جُوَيْرِيَّةَ بْنِ أَسْمَاءَ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَجَّ تَلَقَّاهُ النَّاسُ، وَتَخَلَّفَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ جَاءَهُ وَقَدْ حَلَقَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَكْثَرَ جِحَرَةَ رَأْسِكَ ؟ فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ ; لَا تَخْرُجْ عَلَيْكَ مِنْهَا حَيَّةٌ فَتَقْتُلَكَ. فَلَمَّا أَفَاضَ مُعَاوِيَةُ طَافَ مَعَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِهِ، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ إِلَى دَارِهِ وَمَنَازِلِهِ بِقُعَيْقِعَانَ، فَذَهَبَ مَعَهُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا خَرَجَا قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: جَاءَ مَعَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى دُورِهِ وَمَنَازِلِهِ فَفَعَلَ مَاذَا ؟ لَا وَاللَّهِ لَا أَدَعُكَ حَتَّى تُعْطِيَنِي مِائَةَ أَلْفٍ. فَأَعْطَاهُ، فَجَاءَ مَرْوَانَ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا رَأَيْتُ مِثْلَكَ ; جَاءَكَ رَجُلٌ قَدْ سَمَّى بَيْتَ مَالِ الدِّيوَانِ، وَبَيْتَ الْخِلَافَةِ، وَبَيْتَ كَذَا وَبَيْتَ كَذَا، فَأَعْطَيْتَهُ مِائَةَ أَلْفٍ. فَقَالَ لَهُ: وَيْلَكَ؛ فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ ؟
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُجَاهِدٍ،

عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: سَأَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مُعَاوِيَةَ شَيْئًا فَمَنَعَهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَجْهَلُ أَنْ أَلْزَمَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ، فَلَا أَشْتُمُ لَكَ عِرْضًا، وَلَا أَقَصِبُ لَكَ حَسَبًا، وَلَكِنِّي أَسْدُلُ عِمَامَتِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ ذِرَاعًا، وَمِنْ خَلْفِي ذِرَاعًا فِي طَرِيقِ أَهْلِ الشَّامِ، وَأَذْكُرُ سِيرَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ، فَيَقُولُ النَّاسُ: مَنْ هَذَا ؟ فَيَقُولُونَ: ابْنُ حَوَارِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ بِنْتِ الصِّدِّيقِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: حَسْبُكَ بِهَذَا شَرًّا. ثُمَّ قَالَ: هَاتِ حَوَائِجَكَ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ثَنَا غَسَّانُ بْنُ مُضَرَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَمَرَ ابْنًا لَهُ صَغِيرًا فَلَطَمَهُ لَطْمَةً دَوَّخَ مِنْهَا رَأْسَهُ، فَلَمَّا أَفَاقَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ لِلصَّبِيِّ: ادْنُ مِنِّي. فَدَنَا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ: الْطِمْ مُعَاوِيَةَ. قَالَ: لَا أَفْعَلُ. قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ أَبِي. فَرَفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَدَهُ، فَلَطَمَ الصَّبِيَّ لَطْمَةً جَعَلَ يَدُورُ مِنْهَا كَمَا تَدُورُ الدُّوَّامَةُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: تَفْعَلُ هَذَا بِغُلَامٍ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ ؟ قَالَ: إِنَّهُ وَاللَّهِ قَدْ عَرَفَ مَا يَضُرُّهُ مِمَّا يَنْفَعُهُ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُحْسِنَ أَدَبَهُ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: لَحِقَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ سَائِرٌ إِلَى الشَّامِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَوَجَدَهُ وَهُوَ يَنْعَسُ عَلَى

رَاحِلَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَتَنْعَسُ وَأَنَا مَعَكَ ؟ أَمَا تَخَافُ مِنِّي أَنْ أَقْتُلَكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ قُتَّالِ الْمُلُوكِ، إِنَّمَا يَصِيدُ كُلُّ طَائِرٍ قَدْرَهُ. فَقَالَ: أَمَا لَقَدْ سِرْتُ تَحْتَ لِوَاءِ أَبِي إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ مَنْ تَعْلَمُ. فَقَالَ: لَا جَرَمَ قَتَلَكُمْ وَاللَّهِ بِشِمَالِهِ. فَقَالَ: أَمَا إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي نُصْرَةِ عُثْمَانَ، ثُمَّ لَمْ يُجْزَ بِهَا. فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ لِبُغْضِ عَلِيٍّ لَا لِنُصْرَةِ عُثْمَانَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنَّا قَدْ أَعْطَيْنَاكَ عَهْدًا، فَنَحْنُ وَافُونَ لَكَ بِهِ مَا عِشْتَ، فَسَيَعْلَمُ مَنْ بَعْدَكَ. فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا أَخَافُكَ إِلَّا عَلَى نَفْسِكَ، وَكَأَنِّي بِكَ قَدْ خُبِطْتَ فِي الْحِبَالَةِ، وَاسْتُحْكِمَتْ عَلَيْكَ الْأُنْشُوطَةُ، فَذَكَرْتَنِي وَأَنْتَ فِيهَا، فَقُلْتُ: لَيْتَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَهَا، لَيْتَنِي وَاللَّهِ لَهَا، أَمَا وَاللَّهِ لَأَحْلُلَنَّكَ رُوَيْدًا، وَلَأُطْلِقَنَّكَ سَرِيعًا، وَلَبِئْسَ الْوَلِيُّ أَنْتَ تِلْكَ السَّاعَةَ. وَحَكَى ابْنُ عُيَيْنَةَ نَحْوَ هَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا مَاتَ، وَجَاءَتْ بَيْعَةُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ انْشَمَرَ مِنْهَا ابْنَ الزُّبَيْرِ وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، فَقَصَدَا مَكَّةَ فَأَقَامَا بِهَا، ثُمَّ خَرَجَ الْحُسَيْنُ إِلَى الْعِرَاقِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ مَقْتَلِهِ بِأَرْضِ كَرْبَلَاءَ مَا تَقَدَّمَ، وَتَفَرَّدَ بِالرِّيَاسَةِ وَالسُّؤْدُدِ

بِمَكَّةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ; وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُنْشِدُ بَعْدَ مَخْرَجِ الْحُسَيْنِ:
يَا لَكِ مِنْ قُنْبَرَةٍ بِمَعْمَرِ خَلَا لَكِ الْجَوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي
وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِي
يُعَرِّضُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ.
وَقِيلَ: إِنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: إِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِسِلْسِلَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَقَيْدٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَجَامِعَةٍ مِنْ فِضَّةٍ، وَحَلَفْتُ لَتَأْتِيَنِي فِي ذَلِكَ، فَأَبِرَّ قَسَمِي، وَلَا تَشُقَّ الْعَصَا. فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهُ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ وَقَالَ:
وَلَا أَلِينُ لِغَيْرِ الْحَقِّ أَسْأَلُهُ حَتَّى يَلِينَ لِضِرْسِ الْمَاضِغِ الْحَجَرُ
فَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَابْنُهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ مِنْ بَعْدِهِ قَرِيبًا، اسْتَفْحَلَ أَمْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ جِدًّا، وَبُويِعَ لَهُ بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ، وَبَايَعَ لَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ بِدِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا، وَلَكِنْ عَارَضَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فِي ذَلِكَ، وَمَا زَالَ حَتَّى قَتَلَهُ وَجَمَاعَةً بِمَرْجِ رَاهِطٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَبَايَعَ لَهُ أَهْلُ الشَّامِ، ثُمَّ دَخَلَ مِصْرَ فَانْتَزَعَهَا مِنْ نُوَّابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ جَهَّزَ السَّرَايَا إِلَى الْعِرَاقِ، وَمَاتَ

وَاسْتَخْلَفَ بَعْدَهُ ابْنَهُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، فَمَا زَالَ حَتَّى قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَخَذَ الْعِرَاقَ مِنْهُ، ثُمَّ بَعَثَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، فَحَاصَرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ، حَتَّى ظَفِرَ بِهِ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ.
وَكَانَتْ وِلَايَةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا كُلِّهَا، وَبَنَى الْكَعْبَةَ فِي أَيَّامِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَدَّ بِنَاءَهَا كَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ، كَمَا أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَسَا الْكَعْبَةَ الْحَرِيرَ، وَكَانَتْ كُسْوَتُهَا قَبْلَ ذَلِكَ الْأَنْطَاعَ وَالْمُسُوحَ.
وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَالِمًا عَابِدًا، مَهِيبًا وَقُورًا، كَثِيرَ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ، شَدِيدَ الْخُشُوعِ، قَوِيَّ السِّيَاسَةِ، قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو حَامِدِ بْنُ جَبَلَةَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: كَانَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ مِائَةُ غُلَامٍ يَتَكَلَّمُ كُلُّ غُلَامٍ مِنْهُمْ بِلُغَةٍ غَيْرِ لُغَةِ الْآخَرِ، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُكَلِّمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِلُغَتِهِ، وَكُنْتَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ قُلْتَ: هَذَا رَجُلٌ لَمْ يُرِدِ اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِ قُلْتَ: هَذَا رَجُلٌ لَمْ يُرِدِ الدُّنْيَا طَرْفَةَ عَيْنٍ.

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى، قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى رَأْسِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِنَ الْمِسْكِ مَا لَوْ كَانَ لِي كَانَ رَأْسَ مَالٍ. وَكَانَ يُطَيِّبُ الْكَعْبَةَ حَتَّى كَانَ يُوجَدُ رِيحُهَا مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعَمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى امْرَأَتِهِ بِنْتِ الْحَسَنِ، فَرَأَى ثَلَاثَةَ مُثُلٍ - يَعْنِي أَفَرِشَةً - فَقَالَ: هَذَا لِي، وَهَذَا لِابْنَةِ الْحَسَنِ، وَهَذَا لِلشَّيْطَانِ. فَأَخْرَجُوهُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَشِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسَاوِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُعَاتِبُ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى الْبُخْلِ وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:لَيْسَ بِالْمُؤْمِنِ مَنْ يَبِيتُ شَبْعَانَ، وَجَارُهُ إِلَى جَنْبِهِ جَائِعٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ الْوَرَّاقُ، ثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةَ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ حِينَ حُصِرَ: إِنَّ عِنْدِي نَجَائِبَ قَدْ أَعْدَدْتُهَا لَكَ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَحَوَّلَ إِلَى

مَكَّةَ، فَيَأْتِيكَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَكَ ؟ قَالَ: لَا، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يُلْحِدُ بِمَكَّةَ كَبْشٌ مِنْ قُرَيْشٍ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِ النَّاسِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مُنْكَرٌ جِدًّا، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَيَعْقُوبُ هَذَا هُوَ الْقُمِّيُّ، وَفِيهِ تَشَيُّعٌ وَضَعْفٌ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقْبَلُ تَفَرُّدُهُ بِهِ، وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَلَيْسَ هُوَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى صِفَاتٍ حَمِيدَةٍ، وَقِيَامُهُ فِي الْإِمَارَةِ إِنَّمَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ هُوَ كَانَ الْأَمْرُ بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ أَرْشَدُ مِنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، حَيْثُ نَازَعَهُ بَعْدَ أَنِ اجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ عَلَيْهِ، وَقَامَتِ الْبَيْعَةُ لَهُ فِي الْآفَاقِ، وَانْتَظَمَ لَهُ الْأَمْرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: أَتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْحِجْرِ، فَقَالَ: يَابْنَ الزُّبَيْرِ، إِيَّاكَ وَالْإِلْحَادَ فِي حَرَمِ اللَّهِ، فَإِنِّي أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يُحِلُّهَا وَيَحُلُّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، لَوْ وُزِنَتْ ذُنُوبُهُ بِذُنُوبِ الثَّقَلَيْنِ لَوَزَنَتْهَا قَالَ: فَانْظُرْ أَنْ لَا

تَكَوُنَهُ يَابْنَ عَمْرٍو، فَإِنَّكَ قَرَأْتَ الْكُتُبَ، وَصَحِبْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ هَذَا وَجِهِي إِلَى الشَّامِ مُجَاهِدًا.
وَهَذَا قَدْ يَكُونُ رَفْعُهُ غَلَطًا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، مِمَّا أَصَابَهُ مِنَ الزَّامِلَتَيْنِ مِنْ عُلُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي صَادِقٍ، عَنْ حَنَشٍ الْكِنَانِيِّ، عَنْ عُلَيْمٍ الْكِنْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: لَيُحْرَقَنَّ هَذَا الْبَيْتُ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مِنْ آلِ الزُّبَيْرِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، عَنِ ابْنِ فُضَيْلٍ، ثَنَا سَالِمُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ قَالَ: قَالَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ:

اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَعْلَمُ مِمَّا عَلَّمْتَنِي أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا إِلَّا قَتِيلًا، يُطَافُ بِرَأْسِهِ فِي الْأَسْوَاقِ.
وَقَدْ رَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا أَفْصَحَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ صَغِيرٌ: السَّيْفُ، فَكَانَ لَا يَضَعُهُ مِنْ فِيهِ. وَكَانَ الزُّبَيْرُ إِذَا سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ يَقُولُ لَهُ: أَمَا وَاللَّهِ لَيَكُونُنَّ لَكَ مِنْهُ يَوْمٌ وَيَوْمٌ وَأَيَّامٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ مَقْتَلِهِ، وَأَنَّ الْحَجَّاجَ صَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ فَوْقَ الثَّنِيَّةِ، وَأَنَّهُ رَبَطَ إِلَى جَنْبِهِ هِرَّةً مَيِّتَةً، فَكَانَ رِيحُ الْمِسْكِ يَغْلِبُ عَلَى رِيحِهَا، وَأَنَّ أُمَّهُ أَرْسَلَتْ إِلَى الْحَجَّاجِ تَقُولُ لَهُ: قَاتَلَكَ اللَّهُ، عَلَامَ تَصْلُبُ وَلَدِي ؟ فَقَالَ: إِنِّي اسْتَبَقْتُ أَنَا وَإِيَّاهُ إِلَى هَذِهِ الْخَشَبَةِ فَسَبَقَنِي إِلَيْهَا. وَأَنَّ أُمَّهُ جَاءَتْ حَتَّى وَقَفَتْ عَلَيْهِ فَدَعَتْ لَهُ طَوِيلًا، وَلَا يَقْطُرُ مِنْ عَيْنِهَا دَمْعَةٌ، ثُمَّ انْصَرَفَتْ، وَكَذَلِكَ وَقَفَ عَلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ فَدَعَا لَهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثَنَاءً كَثِيرًا جِدًّا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي نَافِعُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ، قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ خَرَجَتْ إِلَيْهِ أُمُّهُ حَتَّى وَقَفَتْ عَلَيْهِ، وَهِيَ عَلَى دَابَّةٍ، فَأَقْبَلَ الْحَجَّاجُ فِي أَصْحَابِهِ فَسَأَلَ عَنْهَا فَأُخْبِرَ بِهَا، فَأَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِ

نَصَرَ اللَّهُ الْحَقَّ وَأَظْهَرَهُ ؟ قَالَتْ: رُبَّمَا أُدِيلَ الْبَاطِلُ عَلَى الْحَقِّ، وَإِنَّكَ بَيْنَ فَرْثِهَا وَالْجِيَّةِ. فَقَالَ: إِنَّ ابْنَكِ أَلْحَدَ فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَقَدْ أَذَاقَهُ اللَّهُ ذَلِكَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ; قَطْعَ السُّبُلِ. قَالَتْ: كَذَبْتَ، كَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَدِينَةِ، وَسُرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَنَّكَهُ بِيَدِهِ، وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ حَتَّى ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ فَرَحًا بِهِ، وَقَدْ فَرِحْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ بِمَقْتَلِهِ، فَمَنْ كَانَ فَرِحَ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مِنْكَ وَمِنْ أَصْحَابِكَ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ بَرًّا بِالْوَالِدَيْنِ، صَوَّامًا، قَوَّامًا بِكِتَابِ اللَّهِ، مُعَظِّمًا لِحُرُمِ اللَّهِ، يُبْغِضُ أَنْ يُعْصَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَيَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفٍ كَذَّابَانِ، الْآخِرُ مِنْهُمَا شَرٌّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مُبِيرٌ فَانْكَسَرَ الْحَجَّاجُ وَانْصَرَفَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الْمَلِكِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَلُومُهُ فِي مُخَاطَبَتِهِ أَسْمَاءَ، وَقَالَ: مَا لَكَ وَلِابْنَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ ؟

وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي " صَحِيحِهِ ": ثَنَا عَقَبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ، أَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ، عَنْ أَبِي

نَوْفَلٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى عَقَبَةِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ تَمُرُّ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ، حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنْ كُنْتَ مَا عَلِمْتُ صَوَّامًا قَوَّامًا وَصُولًا لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللَّهِ لَأُمَّةٌ أَنْتَ شَرُّهَا لَأُمَّةُ خَيْرٍ. ثُمَّ نَفَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَبَلَغَ الْحَجَّاجُ وُقُوفُ ابْنِ عُمَرَ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَأُنْزِلَ عَنْ جِذْعِهِ، وَأُلْقِيَ فِي قُبُورِ الْيَهُودِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُمِّهِ أَسْمَاءِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَبَتْ أَنْ تَأْتِيَهُ، فَأَعَادَ عَلَيْهَا الرَّسُولَ: لِتَأْتِيَنِّي أَوْ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكِ مَنْ يَسْحَبُكِ بِقُرُونِكِ. فَأَبَتْ، وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا آتِيهِ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيَّ مَنْ يَسْحَبُنِي بِقُرُونِي. قَالَ: فَقَالَ الْحَجَّاجُ: أَرَوْنِي سِبْتَيَّ. فَأَخَذَ نَعْلَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَتَوَذَّفُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيٍتِينِي صَنَعْتُ بِعَدُوِّ اللَّهِ ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُكَ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ، وَأَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ: يَابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، أَنَا وَاللَّهِ

ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكُنْتُ أَرْفَعُ بِهِ طَعَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَعَامَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَنِطَاقُ الْمَرْأَةِ الَّذِي لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ، أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا، فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ. قَالَ: فَقَامَ عَنْهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا. انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْحَجَّاجَ لَمَّا صَلَبَ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى ثَنِيَّةِ الْحَجُونَ بَعَثَتْ إِلَيْهِ أَسْمَاءُ تَدْعُو عَلَيْهِ، وَطَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ يُدْفَنَ، فَأَبَى عَلَيْهَا، حَتَّى كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُدْفَنَ، فَدُفِنَ بِالْحَجُونِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يُشْتَمُّ مِنْ عِنْدِ قَبْرِهِ رِيحُ الْمِسْكِ.

وَكَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ قَدِمَ مِنَ الشَّامِ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ طَارِقُ بْنُ عَمْرٍو فِي خَمْسَةِ آلَافٍ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ بِسَنَدِهِ أَنَّ الْحَجَّاجَ حَاصَرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَنَّهُ اجْتَمَعَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفًا، وَأَنَّهُ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ لِيَرْمِيَ بِهِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ الَّذِي فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ يُؤْمِّنُ، وَأَنَّهُ أَمَّنَ مَنْ خَرَجَ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَنَادَى فِيهِمْ بِذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالِ أَحَدٍ سِوَى ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَأَنَّهُ خَيَّرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بَيْنَ ثَلَاثٍ، إِمَّا أَنْ يَذْهَبَ فِي الْأَرْضِ حَيْثُ شَاءَ، أَوْ يَبْعَثَهُ إِلَى الشَّامِ مُقَيَّدًا بِالْحَدِيدِ، أَوْ يُقَاتِلَ حَتَّى يَقْتُلَ. فَشَاوَرَ أُمَّهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَتْ عَلَيْهِ بِالثَّالِثِ فَقَطْ، وَيُرْوَى أَنَّهَا اسْتَدْعَتْ بِكَفَنٍ لَهُ

وَبَخَّرَتْهُ وَشَجَّعَتْهُ عَلَى الْقَتْلِ، فَخَرَجَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، فَقَاتَلَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَجَاءَتْهُ آجُرَّةٌ فَفَلَقَتْ رَأْسَهُ فَسَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْهَضَ فَلَمْ يَقْدِرْ، فَاتَّكَأَ عَلَى مَرْفِقِهِ الْأَيْسَرِ وَجَعَلَ يَحْذِمُ بِالسَّيْفِ مَنْ جَاءَهُ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مَنْ أَهَّلِ الشَّامِ، فَضَرَبَهُ فَقَطَعَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ تَكَاثَرُوا عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلُوهُ وَاحْتَزُّوا رَأْسَهُ، وَكَانَ مَقْتَلُهُ قَرِيبًا مِنَ الْحَجُونِ، وَيُقَالُ: بَلْ قُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ صَلَبَهُ الْحَجَّاجُ مُنَكَّسًا عَلَى ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ عِنْدَ الْحَجُونِ، ثُمَّ لَمَّا أَنْزَلَهُ دَفَنَهُ فِي مَقَابِرِ الْيَهُودِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقِيلَ: دُفِنَ بِالْحَجُونِ بِالْمَكَانِ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: إِنَّ وَالِدَتَهُ أَسْمَاءَ غَسَّلَتْهُ بَعْدَمَا تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ، وَخَيَّطَتْهُ وَكَفَّنَتْهُ، وَصَلَّتْ عَلَيْهِ، وَحَمَلَتْهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَدَفَنَتْهُ فِي دَارِ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ زِيدَتْ فِي الْمَسْجِدِ، فَهُوَ مَدْفُونٌ فِي الْمَسْجِدِ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهل التأويل يتعرون أمام قانوني الحق والميزان

    بسم الله الرحمن الرحيم خلاصة قانون الحق = أن الله خلق السماوات والارض وما فيهم وما بينهم وما لأجلهم بقدر قام في وقت محدد وزمن مع...