34//1....البداية والنهاية عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
" الْهِدَايَةَ
"، وَكَانَ فَقِيهًا جَيِّدًا، وَدَرَّسَ بِأَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ بِدِمَشْقَ،
ثُمَّ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِهَا، ثُمَّ خُطِبَ إِلَى قَضَاءِ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، فَبَاشَرَ بِهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، مَحْفُوظَ الْعِرْضِ، لَا
يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ هَدِيَّةً، وَلَا تَأْخُذُهُ فِي الْحُكْمِ لَوْمَةُ
لَائِمٍ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنْ لَمْ يَكُنِ ابْنُ تَيْمِيَةَ شَيْخَ الْإِسْلَامِ
فَمَنْ ؟ وَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: أَتُحِبُّ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ ؟
قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَحْبَبْتَ شَيْئًا مَلِيحًا. تُوُفِّيَ
رَحِمَهُ اللَّهُ يَوْمَ السَّبْتِ رَابِعَ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ،
وَكَانَ قَدْ عَيَّنَ لِمَنْصِبِهِ الْقَاضِيَ بُرْهَانَ الدِّينِ بْنَ عَبْدِ
الْحَقِّ، فَنُفِّذَتْ وَصِيَّتُهُ بِذَلِكَ، وَأُرْسِلَ إِلَيْهِ إِلَى دِمَشْقَ
فَأُحْضِرَ، فَبَاشَرَ الْحُكْمَ بَعْدَهُ وَجَمِيعَ جِهَاتِهِ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْمُقْرِئُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ
أَحْمَدُ ابْنُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ تَقِيِّ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَارَةَ
بْنِ عَبْدِ الْوَلِيِّ بْنِ جُبَارَةَ الْمَقْدِسِيُّ الْمَرْدَاوِيُّ
الْحَنْبَلِيُّ، شَارِحُ " الشَّاطِبِيَّةِ "، وُلِدَ سَنَةَ تِسْعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَعُنِيَ بِفَنِّ
الْقِرَاءَاتِ فَبَرَزَ فِيهِ، وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ، وَقَدْ أَقَامَ
بِمِصْرَ مُدَّةً، وَاشْتَغَلَ بِهَا عَلَى الْقَرَافِيِّ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ،
وَتُوُفِّيَ بِالْقُدْسِ رَابِعَ رَجَبٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، كَانَ يُعَدُّ مِنَ
الصُّلَحَاءِ الْأَخْيَارِ، سَمِعَ عَنْ خَطِيبِ مَرْدَى وَغَيْرِهِ.
ابْنُ الْعَاقُولِيِّ الْبَغْدَادِيُّ، الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ
جَمَالُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَمَّادِ بْنِ ثَابِتٍ الْوَاسِطِيُّ الْعَاقُولِيُّ،
ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ الشَّافِعِيُّ، مُدَرِّسُ الْمُسْتَنْصِرِيَّةِ مُدَّةً
طَوِيلَةً، نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَبَاشَرَ نَظَرَ الْأَوْقَافِ،
وَعُيِّنَ لِقَضَاءِ الْقُضَاةِ فِي وَقْتٍ، وُلِدَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ عَاشِرَ
رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ،
وَبَرَعَ، وَاشْتَغَلَ، وَأَفْتَى مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ إِلَى أَنْ
مَاتَ، وَذَلِكَ مُدَّةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَهَذَا شَيْءٌ غَرِيبٌ جِدًّا،
وَكَانَ قَوِيَّ النَّفْسِ، لَهُ وَجَاهَةٌ فِي الدَّوْلَةِ، فَكَمْ كَشَفَ
كُرْبَةً عَنِ النَّاسِ بِسَعْيِهِ وَقَصْدِهِ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ
رَابِعَ عِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ، وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ
بِدَارِهِ، وَقَدْ كَانَ قَدْ أَوْقَفَهَا عَلَى شَيْخٍ وَعَشَرَةِ صِبْيَانٍ
يُسَمِّعُونَ الْقُرْآنَ وَيَحْفَظُونَهُ، وَأَوْقَفَ عَلَيْهَا أَمْلَاكَهُ
كُلَّهَا، تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ وَرَحِمَهُ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ
بِالْمُسْتَنْصِرِيَّةِ قَاضِي الْقُضَاةِ قُطْبُ الدِّينِ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَالِمُ الْعَابِدُ التَّاجِرُ الْبَارُّ شَمْسُ الدِّينِ
مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُنْتَابٍ السَّلَامِيُّ
الْبَغْدَادِيُّ، أَحَدُ ذَوِي الْيَسَارِ، وَلَهُ بِرٌّ تَامٌّ بِأَهْلِ
الْعِلْمِ، وَلَا سِيَّمَا أَصْحَابِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ، وَقَدْ أَوْقَفَ
كُتُبًا كَثِيرَةً، وَحَجَّ مَرَّاتٍ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ الرَّابِعِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ بَعْدَ وَفَاةِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ
بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَدُفِنَ
بِبَابِ الصَّغِيرِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَأَكْرَمَ
مَثْوَاهُ.
وَفِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ تُوُفِّيَتِ الْوَالِدَةُ مَرْيَمُ بِنْتُ فَرَجِ بْنِ
مُفَرِّجِ بْنِ عَلِيٍّ، مِنْ قَرْيَةٍ كَانَ الْوَالِدُ خَطِيبًا بِهَا - وَهِيَ
مَجِيدَلُ الْقَرْيَةِ - سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَصُلِّيَ عَلَيْهَا
بَعْدَ الْجُمُعَةِ، وَدُفِنَتْ بِالصُّوفِيَّةِ شَرْقِيَّ قَبْرِ الشَّيْخِ
تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْخَلِيفَةُ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمُبَاشِرُونَ فِي الَّتِي
قَبْلَهَا، غَيْرَ أَنَّ قُطْبَ الدِّينِ ابْنَ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ اشْتَغَلَ
بِنَظَرِ الْجَيْشِ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ طُلِبَ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ
كَاتِبُ سِرِّ دِمَشْقَ، وَوَلَدُهُ الصَّدْرُ شِهَابُ الدِّينِ، وَشَرَفُ
الدِّينِ بْنُ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الشِّهَابِ مَحْمُودٍ - إِلَى مِصْرَ عَلَى
الْبَرِيدِ، فَبَاشَرَ الْقَاضِي الصَّدْرُ الْكَبِيرُ مُحْيِي الدِّينِ
الْمَذْكُورُ كِتَابَةَ السِّرِّ بِهَا عِوَضًا عَنْ عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ
الْأَثِيرِ; لِمَرَضٍ اعْتَرَاهُ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ وَلَدُهُ شِهَابُ الدِّينِ،
وَأَقْبَلَ شَرَفُ الدِّينِ بْنُ الشِّهَابِ مَحْمُودٍ إِلَى دِمَشْقَ عَلَى
كِتَابَةِ السِّرِّ عِوَضًا عَنِ ابْنِ فَضْلِ اللَّهِ. وَفِيهِ ذَهَبَ نَاصِرُ الدِّينِ
مُشِدُّ الْأَوْقَافِ نَاظِرًا عَلَى الْقُدْسِ وَالْخَلِيلِ، فَعَمَرَ هُنَاكَ
عِمَارَاتٍ كَثِيرَةً لِمَلِكِ الْأُمَرَاءِ تَنْكِزَ، وَفَتَحَ فِي الْأَقْصَى
شُبَّاكَيْنِ عَنْ يَمِينِ الْمِحْرَابِ وَشِمَالِهِ، وَجَاءَ الْأَمِيرُ نَجْمُ
الدِّينِ دَاوُدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ
بْنِ الزَّيْبَقِ مِنْ شَدِّ الدَّوَاوِينِ بِحِمْصَ إِلَى شَدِّهَا بِدِمَشْقَ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ كَمُلَ تَرْخِيمُ
الْحَائِطِ الْقِبْلِيِّ
مِنْ جَامِعِ دِمَشْقَ،
وَبُسِطَ الْجَامِعُ جَمِيعُهُ، وَصَلَّى النَّاسُ الْجُمُعَةَ بِهِ مِنَ الْغَدِ،
وَفُتِحَ بَابُ الزِّيَادَةِ، وَكَانَ لَهُ أَيَّامًا مُغْلَقًا، وَذَلِكَ فِي
مُبَاشَرَةِ الصَّدْرِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ مَرَاجِلَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ قَدِمَ مِنْ مِصْرَ أَوْلَادُ الْأَمِيرِ شَمْسِ الدِّينِ
قَرَاسُنْقُرَ إِلَى دِمَشْقَ، فَسَكَنُوا فِي دَارِ أَبِيهِمْ دَاخِلَ بَابِ
الْفَرَادِيسِ فِي دِهْلِيزِ الْمُقَدِّمِيَّةِ، وَأُعِيدَتْ عَلَيْهِمْ
أَمْلَاكُهُمُ الْمُخَلَّفَةُ عَنْ أَبِيهِمْ، وَكَانَتْ تَحْتَ الْحَوْطَةِ،
فَلَمَّا مَاتَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ أُفْرِجَ عَنْهَا أَوْ أَكْثَرِهَا.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ آخِرَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ أُنْزِلَ الْأَمِيرُ
جُوبَانُ وَوَلَدُهُ مِنْ قَلْعَةِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَهُمَا
مَيِّتَانِ مُصَبَّرَانِ فِي تَوَابِيتِهِمَا، فَصُلِّيَ عَلَيْهِمَا
بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، ثُمَّ دُفِنَا بِالْبَقِيعِ عَنْ مَرْسُومِ
السُّلْطَانِ، وَكَانَ مُرَادُ جُوبَانَ أَنْ يُدْفَنَ فِي مَدْرَسَتِهِ، فَلَمْ
يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ صُلِّيَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ
عَلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَلَى
الْقَاضِي نَجْمِ الدِّينِ الْبَالِسِيِّ الْمِصْرِيِّ - صَلَاةُ الْغَائِبِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ مُنْتَصَفِ جُمَادَى الْآخِرَةِ دَرَّسَ الْقَاضِي
شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ جَهْبَلٍ بِالْمَدْرَسَةِ الْبَادَرَائِيَّةِ،
عِوَضًا عَنْ شَيْخِنَا بُرْهَانِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ، تُوُفِّيَ إِلَى
رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَخَذَ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ مِنْهُ حِينَ
وَلِيَ الْبَادَرَائِيَّةَ - الْحَافِظُ شَمْسُ الدِّينِ الذَّهَبِيُّ،
وَحَضَرَهَا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ عَشْرَهُ، وَنَزَلَ عَنْ خَطَابَةِ
كَفْرِ بَطْنَى لِلشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ الْمِسَلَّاتِيِّ الْمَالِكِيِّ،
فَخَطَبَ بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَاسِعَ عَشْرِهِ.
وَفِي أَوَاخِرِ هَذَا
الشَّهْرِ قَدِمَ نَائِبُ حَلَبَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُوَنُ إِلَى
دِمَشْقَ قَاصِدًا بَابَ السُّلْطَانِ، فَتَلَقَّاهُ نَائِبُ دِمَشْقَ،
وَأَنْزَلَهُ بِدَارِهِ الَّتِي عِنْدَ جَامِعِهِ، ثُمَّ سَارَ نَحْوَ مِصْرَ،
فَغَابَ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَادَ رَاجِعًا إِلَى نِيَابَةِ
حَلَبَ.
وَفِي عَاشِرِ رَجَبٍ طُلِبَ الصَّاحِبُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ عُمَرَ ابْنِ
الْوَزِيرِ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ السَّلْعُوسِ إِلَى مِصْرَ، فَوَلِيَ نَظَرَ
الدَّوَاوِينِ بِهَا حَتَّى مَاتَ عَنْ قَرِيبٍ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ يَوْمَ السَّبْتِ تَاسِعَ شَوَّالٍ، وَأَمِيرُهُ سَيْفُ
الدِّينِ بُلْطِيٌّ، وَقَاضِيهِ شِهَابُ الدِّينِ الْقَيْمُرِيُّ، وَفِي
الْحُجَّاجِ زَوْجَةُ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ تَنْكِزَ، وَفِي خِدْمَتِهَا
الطَّوَاشِيُّ شِبْلُ الدَّوْلَةِ كَافُورُ، وَصَدْرُ الدِّينِ الْمَالِكِيُّ،
وَصَلَاحُ الدِّينِ ابْنُ أَخِي الصَّاحِبِ تَقِيِّ الدِّينِ تَوْبَةَ، وَأَخُوهُ
شَرَفُ الدِّينِ، وَالشَّيْخُ عَلِيٌّ الْمَغْرِبِيُّ، وَالشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ
الضَّرِيرُ، وَجَمَاعَةٌ.
وَفِي بُكْرَةِ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثَ عَشَرَ شَوَّالٍ جَلَسَ الْقَاضِي ضِيَاءُ
الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمِ بْنِ رَبِيعَةَ لِلْحُكْمِ بِالْعَادِلِيَّةِ
الْكَبِيرَةِ نِيَابَةً عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ الْقُونَوِيِّ، وَعِوَضًا عَنِ
الْفَخْرِ الْمِصْرِيِّ; بِحُكْمِ نُزُولِهِ عَنْ ذَلِكَ وَإِعْرَاضِهِ عَنْهُ
تَاسِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
سَادِسِ ذِي الْقِعْدَةِ بَعْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ صَعِدَ إِلَى مِنْبَرِ
جَامِعِ الْحَاكِمِ بِمِصْرَ شَخْصٌ مِنْ مَمَالِيكِ الْجَاوِلِيِّ يُقَالُ لَهُ:
أَرْضَى، فَادَّعَى أَنَّهُ الْمُهْدِيُّ، وَسَجَعَ سَجَعَاتٍ يَسِيرَةً عَلَى
رَأْيِ الْكُهَّانِ، فَأُنْزِلَ فِي شَرِّ خَيْبَةٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ حُضُورِ
الْخَطِيبِ بِالْجَامِعِ الْمَذْكُورِ.
وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ وَمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ أَوَاخِرِ هَذِهِ
السَّنَةِ وَأَوَائِلِ الْأُخْرَى وُسِّعَتِ الطُّرُقَاتُ وَالْأَسْوَاقُ دَاخِلَ
دِمَشْقَ وَخَارِجَهَا، مِثْلَ سُوقِ السِّلَاحِ وَالرَّصِيفِ، وَالسُّوقِ
الْكَبِيرِ، وَبَابِ الْبَرِيدِ، وَمَسْجِدِ الْقَصَبِ إِلَى الزَّنْجِيلِيَّةِ،
وَخَارِجِ بَابِ الْجَابِيَةِ إِلَى مَسْجِدِ الذِّبَّانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الْأَمَاكِنِ الَّتِي كَانَتْ تَضِيقُ عَنْ سُلُوكِ النَّاسِ، وَذَلِكَ بِأَمْرِ
تَنْكِزَ، وَأَمَرَ بِإِصْلَاحِ الْقَنَوَاتِ، وَاسْتَرَاحَ النَّاسُ مِنْ
تَرْشِيشِ الْمَاءِ عَلَيْهِمْ بِالنَّجَاسَاتِ.
ثُمَّ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ رُسِمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ،
فَقُتِلَ مِنْهُمْ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، ثُمَّ جُمِعُوا خَارِجَ بَابِ
الصَّغِيرِ مِمَّا يَلِي بَابَ كَيْسَانَ فِي الْخَنْدَقِ، وَفُرِّقَ بَيْنَ
الذُّكُورِ مِنْهُمْ وَالْإِنَاثِ; لِيَمُوتُوا سَرِيعًا وَلَا يَتَوَالَدُوا،
وَكَانَتِ الْجِيَفُ وَالْمَيْتَاتُ تُنْقَلُ إِلَيْهِمْ، فَاسْتَرَاحَ النَّاسُ
مِنَ النَّجَاسَةِ مِنَ الْمَاءِ وَالْكِلَابِ، وَتَوَسَّعَتْ لَهُمُ
الطُّرُقَاتُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَانِيَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ حَضَرَ مَشْيَخَةَ
الشُّيُوخِ بِالسُّمَيْسَاطِيَّةِ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ الدِّينِ
الْمَالِكِيُّ بَعْدَ وَفَاةِ قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّافِعِيِّ الْقُونَوِيِّ،
وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بِالْمَشْيَخَةِ بِهَا، وَحَضَرَهُ الْأَعْيَانُ، وَأُعِيدَ
إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ
فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الزَّاهِدُ، مُفْتِي الْمُسْلِمِينَ، نَجْمُ
الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَقِيلِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ
عَقِيلٍ الْبَالِسِيُّ الشَّافِعِيُّ، شَارِحُ " التَّنْبِيهِ "، وُلِدَ
سَنَةَ سِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ بِالْفِقْهِ
وَغَيْرِهِ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ، فَبَرَعَ فِيهَا، وَلَازَمَ ابْنَ دَقِيقِ
الْعِيدِ، وَنَابَ عَنْهُ فِي الْحُكْمِ، وَدَرَّسَ بِالْمُعِزِّيَّةِ،
وَالطَّيْبَرِسِيَّةِ، وَجَامِعِ مِصْرَ، وَكَانَ مَشْهُورًا بِالْفَضِيلَةِ،
وَالدِّيَانَةِ، وَمُلَازَمَةِ الِاشْتِغَالِ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ
رَابِعَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ
حَافِلَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُطْلُوبَكُ الشَّشْنَكِيرُ الرُّومِيُّ، كَانَ مِنْ
أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، وَوَلِيَ الْحُجُوبِيَّةَ فِي وَقْتٍ، وَهُوَ الَّذِي
عَمَرَ الْقَنَاةَ بِالْقُدْسِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ سَابِعَ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ شَمَالِيَّ بَابِ الْفَرَادِيسِ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ
حَسَنَةٌ، وَحَضَرَ جَنَازَتَهُ بِسُوقِ الْخَيْلِ النَّائِبُ وَالْأُمَرَاءُ.
مُحَدِّثُ الْيَمَنِ شَرَفُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ فَقِيهِ زَبِيدَ أَبِي
الْخَيْرِ بْنِ مَنْصُورٍ الشَّمَاخِيُّ الْمَذْحِجِيُّ، رَوَى عَنِ
الْمَكِّيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَبَلَغَتْ شُيُوخُهُ خَمْسَمِائَةٍ أَوْ أَزْيَدَ،
وَكَانَ رُحْلَةَ تِلْكَ الْبِلَادِ وَمُفِيدَهَا الْخَيْرَ، وَكَانَ فَاضِلًا فِي
صِنَاعَةِ الْحَدِيثِ
وَالْفِقْهِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
نَجْمُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسَلَّمِ بْنِ
الْحَسَنِ بْنِ هِلَالِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْأَزْدِيُّ، أَحَدُ رُؤَسَاءِ دِمَشْقَ الْمَشْهُورِينَ، لَهُ بَيْتٌ كَبِيرٌ،
وَنَسَبٌ عَرِيقٌ، وَرِيَاسَةٌ بَاذِخَةٌ، وَكَرَمٌ زَائِدٌ، بَاشَرَ نَظَرَ
الْأَيْتَامِ مُدَّةً، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَحَدَّثَ، وَكَانَتْ لَهُ فَضَائِلُ
وَفَوَائِدُ، وَلَهُ الثَّرْوَةُ الْكَثِيرَةُ. وُلِدَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَمَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ضَحْوَةَ خَامِسِ رَبِيعٍ الْآخِرِ،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الظُّهْرِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَدُفِنَ
بِسَفْحِ قَاسِيُونَ بِتُرْبَةٍ أَعَدَّهَا لِنَفْسِهِ، وَقَبْرٍ أَرْصَدَهُ،
وَكَتَبَ عَلَى قَبْرِهِ: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعًا الْآيَةَ [ الزُّمَرِ: 53 ] وَسَمَّعْنَا عَلَيْهِ "
الْمُوَطَّأَ " وَغَيْرَهُ.
الْأَمِيرُ بَكْتَمُرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَاجِبُ، صَاحِبُ الْحَمَّامِ
الْمَشْهُورِ خَارِجَ بَابِ النَّصْرِ فِي طَرِيقِ مَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ مِنْ
نَاحِيَةِ الْمَيْدَانِ، كَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْقَاهِرَةِ فِي عِشْرِينَ رَبِيعٍ
الْآخِرِ، وَدُفِنَ بِمَدْرَسَتِهِ الَّتِي أَنْشَاهَا إِلَى جَانِبِ دَارِهِ
هُنَاكَ.
الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ عِيسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَرَاجَى بْنِ سُلَيْمَانَ
السُّهْرَوَرْدِيُّ الصُّوفِيُّ الْوَاعِظُ، لَهُ شِعْرٌ وَمَعْرِفَةٌ
بِالْأَلْحَانِ وَالْأَنْغَامِ، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
بُشْرَاكَ يَا سَعْدُ
هَذَا الْحَيُّ قَدْ بَانَا فَحِلَّهَا تَسْتَظِلَّ الْأَيْكَ وَالْبَانَا
مَنَازِلُ مَا وَرَدْنَا طِيبَ مَوْرِدِهَا
حَتَّى شَرِبْنَا كُئُوسَ الْمَوْتِ أَلْوَانًا مِتْنَا غَرَامًا وَشَوْقًا فِي
الْمَسِيرِ فَمُذْ
وَافَى نَسِيمُ اللِّقَا وَالْقُرْبِ أَحْيَانًا
تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ.
شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ بُرْهَانُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ، هُوَ الشَّيْخُ
الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ، شَيْخُ الْمَذْهَبِ وَعَلَمُهُ، وَمُفِيدُ
أَهْلِهِ، شَيْخُ الْإِسْلَامِ، مُفْتِي الْفِرَقِ، بَقِيَّةُ السَّلَفِ،
بُرْهَانُ الدِّينِ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ
تَاجِ الدِّينِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ
الْمُقْرِئِ الْمُفْتِي بُرْهَانِ الدِّينِ أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
سِبَاعِ بْنِ ضِيَاءٍ الْفَزَارِيُّ الْبَدْرِيُّ الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ فِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ،
وَاشْتَغَلَ عَلَى أَبِيهِ، وَأَعَادَ فِي حَلْقَتِهِ، وَبَرَعَ وَسَادَ
أَقْرَانَهُ وَسَائِرَ أَهْلِ زَمَانِهِ فِي دِرَايَةِ الْمَذْهَبِ وَنَقْلِهِ وَتَحْرِيرِهِ،
ثُمَّ كَانَ فِي مَنْصِبِ أَبِيهِ فِي التَّدْرِيسِ بِالْبَادَرَائِيَّةِ،
وَأَشْغَلَ الطَّلَبَةَ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، فَانْتَفَعَ بِهِ
الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الْمَنَاصِبُ الْكِبَارُ فَأَبَاهَا،
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ بَاشَرَ الْخَطَابَةَ بَعْدَ عَمِّهِ الْعَلَّامَةِ شَرَفِ
الدِّينِ مُدَّةً، ثُمَّ تَرَكَهَا وَعَادَ إِلَى الْبَادَرَائِيَّةِ، وَعُرِضَ
عَلَيْهِ
قَضَاءُ الشَّامِ بَعْدَ
ابْنِ صَصْرَى، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ نَائِبُ الشَّامِ بِنَفْسِهِ وَأَعْوَانِهِ
مِنَ الدَّوْلَةِ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَصَمَّمَ وَامْتَنَعَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ،
وَكَانَ مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ، عَارِفًا بِزَمَانِهِ، مُسْتَغْرِقًا
أَوْقَاتَهُ فِي الِاشْتِغَالِ وَالْعِبَادَةِ لَيْلًا وَنَهَارًا، كَثِيرَ
الْمُطَالَعَةِ وَإِسْمَاعِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ سَمَّعْنَا عَلَيْهِ "
صَحِيحَ مُسْلِمٍ "، وَغَيْرَهُ، وَكَانَ يُدَرِّسُ بِالْمَدْرَسَةِ
الْمَذْكُورَةِ، وَلَهُ تَعْلِيقٌ كَبِيرٌ عَلَى " التَّنْبِيهِ "،
فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ مَا لَيْسَ يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، وَلَهُ تَعْلِيقٌ عَلَى
" مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ " فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَهُ
مُصَنَّفَاتٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ كِبَارٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ أَرَ شَافِعِيًّا مِنْ مَشَايِخِنَا مِثْلَهُ.
وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَسَنَ الشَّكْلِ، عَلَيْهِ الْبَهَاءُ، وَالْجَلَالَةُ،
وَالْوَقَارُ، حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، فِيهِ حِدَّةٌ ثُمَّ يَعُودُ قَرِيبًا،
وَكَرَمُهُ زَائِدٌ، وَإِحْسَانُهُ إِلَى الطَّلَبَةِ كَثِيرٌ، وَكَانَ لَا
يَقْتَنِي شَيْئًا، بَلْ يَصْرِفُ مُرَتَّبَهُ وَجَامِكِيَّةَ مَدْرَسَتِهِ فِي
مَصَالِحِهِ، وَقَدْ دَرَّسَ بِالْبَادَرَائِيَّةِ مِنْ سَنَةِ تِسْعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ إِلَى عَامِهِ هَذَا، تُوُفِّيَ بُكْرَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
سَابِعِ جُمَادَى الْأُولَى بِالْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
عَقِبَ الْجُمُعَةِ بِالْجَامِعِ، وَحُمِلَتْ جَنَازَتُهُ عَلَى الرُّءُوسِ
وَأَطْرَافِ الْأَنَامِلِ، وَكَانَتْ حَافِلَةً، وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ
وَعَمِّهِ وَذَوِيهِ بِبَابِ الصَّغِيرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الزَّاهِدُ الْوَرِعُ مَجْدُ الدِّينِ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْحَرَّانِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وُلِدَ
سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ فِي
دِمَشْقَ حِينَ انْتَقَلَ مَعَ أَهْلِهِ إِلَيْهَا سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ،
وَاشْتَغَلَ عَلَى الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ أَبِي عُمَرَ، وَلَازَمَهُ،
وَانْتَفَعَ بِهِ، وَبَرَعَ فِي الْفِقْهِ، وَصِحَّةِ النَّقْلِ، وَكَثْرَةِ
الصَّمْتِ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ، وَلَمْ يَزَلْ مُوَاظِبًا عَلَى جِهَاتِهِ
وَوَظَائِفِهِ، لَا يَنْقَطِعُ عَنْهَا - إِلَّا مِنْ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ - إِلَى
أَنْ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ تَاسِعِ جُمَادَى الْأُولَى، وَدُفِنَ بِبَابِ
الصَّغِيرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي هَذَا الْحِينِ تُوُفِّيَ الصَّاحِبُ شَرَفُ الدِّينِ يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ
الْكَرِيمِ، الَّذِي كَانَ نَاظِرَ الدَّوَاوِينِ بِحَلَبَ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى
نَظَرِهَا بِطَرَابُلُسَ، تُوُفِّيَ بِحَمَاةَ، وَكَانَ مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ
وَأَهْلِ الْخَيْرِ، وَفِيهِ كَرَمٌ وَإِحْسَانٌ، وَهُوَ وَالِدُ الْقَاضِي
نَاصِرِ الدِّينِ كَاتِبِ السِّرِّ بِدِمَشْقَ، وَقَاضِي الْعَسَاكِرِ
الْحَلَبِيَّةِ، وَالشَّيْخُ بِالسُّمَيْسَاطِيَّةِ، وَمُدَرِّسُ الْأَسْدِيَةِ
بِحَلَبَ، وَالنَّاصِرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ بِدِمَشْقَ.
الْقَاضِي مُعِينُ الدِّينِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عَلَمِ الدِّينِ مَسْعُودِ بْنِ
أَبِي الْمَعَالِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ الْحَشِيشِ،
الْكَاتِبُ وَنَاظِرُ الْجَيْشِ بِمِصْرَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، ثُمَّ
بِدِمَشْقَ مُدَّةً طَوِيلَةً، مُسْتَقِلًّا وَمُشَارِكًا لِقُطْبِ الدِّينِ ابْنِ
شَيْخِ
السَّلَامِيَّةِ، وَكَانَ
خَبِيرًا بِدِيوَانِ الْجَيْشِ يَحْفَظُهُ عَلَى ذِهْنِهِ، وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ
جَيِّدَةٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالْأَدَبِ وَالْحِسَابِ، وَلَهُ نَظْمٌ جَيِّدٌ،
وَفِيهِ تَوَدُّدٌ وَتَوَاضُعٌ، تُوُفِّيَ بِمِصْرَ فِي نِصْفِ جُمَادَى
الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ الْفَخْرِ كَاتِبِ الْمَمَالِيكِ.
قَاضِي الْقُضَاةِ وَشَيْخُ الشُّيُوخِ عَلَاءُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يُوسُفَ الْقُونَوِيُّ التِّبْرِيزِيُّ الشَّافِعِيُّ،
وُلِدَ بِمَدِينَةِ قُونِيَّةَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ
تَقْرِيبًا، وَاشْتَغَلَ هُنَاكَ، وَقَدِمَ دِمَشْقَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ،
وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الْفُضَلَاءِ، فَازْدَادَ بِهَا اشْتِغَالًا، وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ، وَتَصَدَّرَ لِلِاشْتِغَالِ بِجَامِعِهَا، وَدَرَّسَ
بِالْإِقْبَالِيَّةِ، ثُمَّ سَافَرَ إِلَى مِصْرَ فَدَرَّسَ بِهَا فِي عِدَّةِ
مَدَارِسَ كِبَارٍ، وَوَلِيَ مَشْيَخَةَ الشُّيُوخِ بِهَا وَبِدِمَشْقَ، وَلَمْ
يَزَلْ يَشْتَغِلُ بِهَا وَيَنْفَعُ الطَّلَبَةَ إِلَى أَنْ قَدِمَ دِمَشْقَ
قَاضِيًا عَلَيْهَا فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي
الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ يُحْرِزُ عُلُومًا كَثِيرَةً، مِنْهَا النَّحْوُ
وَالتَّصْرِيفُ، وَالْأَصْلَانِ، وَالْفِقْهُ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِ
" كَشَّافِ الزَّمَخْشَرِيِّ "، وَفَهْمِ الْحَدِيثِ، وَفِيهِ إِنْصَافٌ
كَثِيرٌ، وَأَوْصَافُ حَسَنَةٌ، وَتَعْظِيمٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَخُرِّجَتْ لَهُ
مَشْيَخَةٌ سَمَّعْنَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ يَتَوَاضَعُ لِشَيْخِنَا الْمِزِّيِّ
كَثِيرًا، تُوُفِّيَ بِبُسْتَانِهِ بِالسَّهْمِ يَوْمَ سَبْتٍ بَعْدَ الْعَصْرِ
رَابِعَ عَشَرَ ذِي الْقِعْدَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ، وَدُفِنَ
بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، سَامَحَهُ اللَّهُ.
الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ لَاجِينُ الْمَنْصُورِيُّ الْحُسَامِيُّ، وَيُعْرَفُ
بِلَاجِينَ
الصَّغِيرِ، وَلِيَ
الْبَرَّ بِدِمَشْقَ مُدَّةً، ثُمَّ نِيَابَةَ غَزَّةَ، ثُمَّ نِيَابَةَ
الْبِيرَةِ وَبِهَا مَاتَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَدُفِنَ هُنَاكَ، وَكَانَ
ابْتَنَى تُرْبَةً لِزَوْجَتِهِ ظَاهِرَ بَابِ شَرْقِيٍّ فَلَمْ يَتَّفِقْ
دَفْنُهُ بِهَا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [ لُقْمَانَ: 34 ].
الصَّاحِبُ عِزُّ الدِّينِ أَبُو يَعْلَى حَمْزَةُ بْنُ مُؤَيَّدِ الدِّينِ أَبِي
الْمَعَالِي أَسْعَدَ بْنِ عِزِّ الدِّينِ أَبِي غَالِبٍ الْمُظَفَّرِ ابْنِ
الْوَزِيرِ مُؤَيَّدِ الدِّينِ أَبِي الْمَعَالِي بْنِ أَسْعَدَ ابْنِ الْعَمِيدِ
أَبِي يَعْلَى بْنِ حَمْزَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ
التَّمِيمِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، ابْنُ الْقَلَانِسِيِّ، أَحَدُ رُؤَسَاءِ دِمَشْقَ الْكِبَارِ،
وُلِدَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ
جَمَاعَةٍ، وَرَوَاهُ، وَسَمَّعْنَا عَلَيْهِ، وَلَهُ رِيَاسَةٌ بَاذِخَةٌ،
وَأَصَالَةٌ كَثِيرَةٌ، وَأَمْلَاكٌ هَائِلَةٌ كَافِيَةٌ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ
مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَزَلْ مَعَهُ صِنَاعَةُ الْوَظَائِفِ إِلَى أَنْ
أُلْزِمَ بِوَكَالَةِ بَيْتِ السُّلْطَانِ، ثُمَّ بِالْوِزَارَةِ فِي سَنَةِ
عَشْرٍ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ عُزِلَ، وَقَدْ صُودِرَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ،
وَكَانَتْ لَهُ مَكَارِمُ عَلَى الْخَوَاصِّ وَالْكِبَارِ، وَلَهُ إِحْسَانٌ إِلَى
الْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَلَمْ يَزَلْ مُعَظَّمًا وَجِيهًا عِنْدَ
الدَّوْلَةِ مِنَ النُّوَّابِ وَالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ، إِلَى
أَنْ تُوُفِّيَ بِبُسْتَانِهِ لَيْلَةَ السَّبْتِ سَادِسَ ذِي الْحِجَّةِ،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ،
وَلَهُ فِي الصَّالِحِيَّةِ رِبَاطٌ حَسَنٌ بِمِئْذَنَةٍ، وَفِيهِ دَارُ حَدِيثٍ،
وَبِرٌّ وَصَدَقَةٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ بِالْأَرْبِعَاءِ، وَالْحُكَّامُ بِالْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ
بِالَّتِي قَبْلَهَا، سِوَى الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ، وَوَلِيَ
مَكَانَهُ فِي رَابِعِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا عَلَمُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي
بَكْرِ بْنِ عِيسَى بْنِ بَدْرَانَ السَّعْدِيُّ الْأَخْنَائِيُّ الشَّافِعِيُّ،
وَقَدِمَ دِمَشْقَ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ صُحْبَةَ نَائِبِ
السَّلْطَنَةِ تَنْكِزَ، وَقَدْ زَارَ الْقُدْسَ، وَحَضَرَ مَعَهُ تَدْرِيسَ
التَّنْكِزِيَّةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا، وَلَمَّا قَدِمَ دِمَشْقَ نَزَلَ
بِالْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ عَلَى الْعَادَةِ، وَدَرَّسَ بِهَا
وَبِالْغَزَّالِيَّةِ، وَاسْتَمَرَّ بِنِيَابَةِ الْمَنْفَلُوطِيِّ، ثُمَّ
اسْتَنَابَ زَيْنَ الدِّينِ بْنَ الْمُرَحِّلِ.
وَفِي صَفَرٍ بَاشَرَ شَرَفُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ الْخَطِيرِ شَدَّ
الْأَوْقَافِ، وَانْفَصَلَ عَنْهَا نَجْمُ الدِّينِ بْنُ الزَّيْبَقِ إِلَى
وِلَايَةِ نَابُلُسَ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ حَكَمَ الشَّيْخُ
زَيْنُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلَمِ الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الشَّيْخِ
زَيْنِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ الْمُرَحِّلِ، نِيَابَةً عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ
عَلَمِ الدِّينِ الْأَخْنَائِيِّ بِالْعَادِلِيَّةِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ
شَرَعَ بِتَرْخِيمِ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنَ الْأُمَوِيِّ لِيُشْبِهَ
الْجَانِبَ الْغَرْبِيِّ، وَشَاوَرَ ابْنُ مَرَاجِلٍ النَّائِبَ وَالْقَاضِيَ
عَلَى جَمْعِ الْفُصُوصِ مِنْ سَائِرِ الْجَامِعِ فِي الْحَائِطِ الْقِبْلِيِّ،
فَرَسَمَا لَهُ بِذَلِكَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
أَقُيِمَتِ الْجُمُعَةُ فِي إِيوَانِ الشَّافِعِيَّةِ بِالْمَدْرَسَةِ
الصَّالِحِيَّةِبِمِصْرَ، وَكَانَ الَّذِي أَنْشَأَ ذَلِكَ الْأَمِيرُ جَمَالُ
الدِّينِ نَائِبُ الْكَرَكِ، بَعْدَ أَنِ اسْتَفْتَى الْعُلَمَاءَ فِي ذَلِكَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِحَلَبَ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ
النَّقِيبِ، عِوَضًا عَنْ فَخْرِ الدِّينِ بْنِ الْبَارِزِيِّ، تُوُفِّيَ،
وَوَلِيَ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْمَجْدِ الْبَعْلَبَكِّيُّ قَضَاءَ طَرَابُلُسَ
عِوَضًا عَنِ ابْنِ النَّقِيبِ.
وَفِي آخِرِ جُمَادَى الْأُولَى بَاشَرَ نِيَابَةَ الْحُكْمِ عَنِ الْأَخْنَائِيِّ
مُحْيِي الدِّينِ بْنُ جَهْبَلٍ عِوَضًا عَنِ الْمَنْفَلُوطِيِّ، تُوُفِّيَ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ وَقَفَ الْأَمِيرُ الْوَزِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ مُغْلَطَايْ
النَّاصِرِيُّ مَدْرَسَةً عَلَى الْحَنَفِيَّةِ، وَفِيهَا صُوفِيَّةٌ أَيْضًا،
وَدَرَّسَ بِهَا الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ التُّرْكُمَانِيِّ، وَسَكَنَهَا
الْفُقَهَاءُ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ زُيِّنَتِ الْبِلَادُ الْمِصْرِيَّةُ وَالشَّامِيَّةُ،
وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِسَبَبِ
عَافِيَةِ السُّلْطَانِ
مِنْ وَقْعَةٍ انْصَدَعَتْ مِنْهَا يَدُهُ، وَخَلَعَ عَلَى الْأُمَرَاءِ
وَالْأَطِبَّاءِ بِمِصْرَ، وَأُطْلِقَتِ الْحُبُوسُ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ قَدِمَ عَلَى السُّلْطَانِ رُسُلٌ مِنَ الْفِرِنْجِ
يَطْلُبُونَ مِنْهُ بَعْضَ بِلَادِ السَّوَاحِلِ، فَقَالَ لَهُمْ: لَوْلَا أَنَّ
الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمْ. ثُمَّ سَيَّرَهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ
خَاسِئِينَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ سَادِسِ رَجَبٍ حَضَرَ الدَّرْسَ الَّذِي أَنْشَأَهُ
الْقَاضِي فَخْرُ الدِّينِ كَاتِبُ الْمَمَالِيكِ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ
بِمِحْرَابِهِمْ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَدَرَّسَ بِهِ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ
ابْنُ قَاضِي الْحِصْنِ، أَخُو قَاضِي الْقُضَاةِ بُرْهَانِ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ
الْحَقِّ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ
وَالْأَعْيَانُ، وَانْصَرَفُوا مِنْ عِنْدِهِ إِلَى عِنْدِ ابْنِ أَخِيهِ صَلَاحِ
الدِّينِ بِالْجَوْهَرِيَّةِ، فَدَرَّسَ بِهَا عِوَضًا عَنْ حَمِيهِ شَمْسِ
الدِّينِ ابْنِ الزَّكِيِّ، نَزَلَ لَهُ عَنْهَا.
وَفِي آخِرِ رَجَبٍ خُطِبَ بِالْجَامِعِ الَّذِي أَنْشَأَهُ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ أَلْمَاسُ الْحَاجِبُ، ظَاهِرَ الْقَاهِرَةِ بِالشَّارِعِ. وَخُطِبَ بِالْجَامِعِ
الَّذِي أَنْشَأَهُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
قُوصُونُ بَيْنَ جَامِعِ
طُولُونَ وَالصَّالِحِيَّةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَادِيَ عَشَرَ رَمَضَانَ،
وَحَضَرَ السُّلْطَانُ وَأَعْيَانُ الْأُمَرَاءِ، وَتَوَلَّى الْخُطْبَةَ
يَوْمَئِذٍ قَاضِي الْقُضَاةِ جَلَالُ الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ الشَّافِعِيُّ،
وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً، وَبَغْلَةً، وَاسْتَقَرَّ فِي خَطَابَتِهِ
فَخْرُ الدِّينِ بْنُ شُكْرٍ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ يَوْمَ السَّبْتِ حَادِيَ عَشَرَ شَوَّالٍ،
وَأَمِيرُهُ سَيْفُ الدِّينِ الْمُوسَاوِيُّ صِهْرُ بِلَبَانَ الْبِيرِيِّ،
وَقَاضِيهِ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ الْمَجْدِ عَبْدِ اللَّهِ مُدَرِّسُ
الْإِقْبَالِيَّةِ، ثُمَّ تَوَلَّى قَضَاءَ الْقُضَاةِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَمِمَّنْ حَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ; رَضِيُّ الدِّينِ الْمِنْطِيقِيُّ
الْحَنَفِيُّ، وَالشَّيْخُ نُورُ الدِّينِ الْأَرْدُبِيلِيُّ شَيْخُ
الْجَارُوخِيَّةِ، وَصَفِيُّ الدِّينِ بْنُ الْحَرِيرِيِّ، وَشَمْسُ الدِّينِ
ابْنُ خَطِيبِ يَبْرُودَ، وَالشَّيْخُ مُحَمَّدٌ النَّيْرَبَانِيُّ، وَغَيْرُهُمْ،
فَلَمَّا قَضَوْا مَنَاسِكَهُمْ رَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الْوَدَاعِ،
فَبَيْنَمَا هُمْ فِي وَقْتِ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ إِذْ سَمِعُوا جَلَبَةَ
الْخَيْلِ مِنْ بَنِي حَسَنٍ وَعَبِيدِهِمْ، يَحْطِمُونَ النَّاسَ وَهُمْ فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَثَارَ إِلَى قِتَالِهِمُ الْأَتْرَاكُ، فَاقْتَتَلُوا،
فَقُتِلَ أَمِيرٌ مِنَ الطَّبْلَخَانَاهْ بِمِصْرَ، يُقَالُ لَهُ: سَيْفُ
الدِّينِ أَلْدَمُرُ
أَمِيرُ جَنْدَارَ، وَابْنُهُ خَلِيلٌ، وَمَمْلُوكٌ لَهُ، وَأَمِيرُ عَشَرَةٍ
يُقَالُ لَهُ: ابْنُ التَّاجِيِّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ،
وَنُهِبَتْ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَوَقَعَتْ خَبْطَةٌ عَظِيمَةٌ فِي النَّاسِ،
وَتَهَارَبُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ بِأَبْيَارِ الزَّاهِرِ، وَمَا كَادُوا
يَصِلُونَ إِلَيْهَا وَمَا أُكْمِلَتِ الْجُمُعَةُ إِلَّا بَعْدَ جَهْدٍ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاجْتَمَعَتِ الْأُمَرَاءُ كُلُّهُمْ
عَلَى الرَّجْعَةِ إِلَى مَكَّةَ ; لِلْأَخْذِ بِالثَّأْرِ مِنْهُمْ، ثُمَّ
كَرُّوا رَاجِعِينَ، وَتَبِعَهُمُ الْعَبِيدُ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى مُخَيَّمِ
الْحَجِيجِ، وَكَادُوا يَنْهَبُونَ النَّاسَ عَامَّةً جَهْرَةً، وَصَارَ أَهْلُ
الْبَيْتِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ،
وَبَنُو الْأَتْرَاكِ هُمُ الَّذِينَ يَنْصُرُونَ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ،
وَيَكُفُّونَ الْأَذِيَّةَ عَنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى: إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [ الْأَنْفَالِ: 34 ].
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ الْأَثِيرِ، كَاتِبُ السِّرِّ بِمِصْرَ، عَلِيُّ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَثِيرِ، الْحَلَبِيُّ الْأَصْلِ
ثُمَّ الْمِصْرِيُّ، كَانَتْ لَهُ حُرْمَةٌ، وَوَجَاهَةٌ، وَأَمْوَالٌ،
وَثَرْوَةٌ، وَمَكَانَةٌ
عِنْدَ السُّلْطَانِ، حَتَّى ضَرَبَهُ الْفَالِجُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، فَانْعَزَلَ
عَنِ الْوَظِيفَةِ، وَبَاشَرَهَا ابْنُ فَضْلِ اللَّهِ فِي حَيَاتِهِ. تُوُفِّيَ
فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ.
الْوَزِيرُ الْعَالِمُ أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلٍ الْأَزْدِيُّ الْغِرْنَاطِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ، مِنْ
بَيْتِ الرِّيَاسَةِ وَالْحِشْمَةِ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، قَدِمَ عَلَيْنَا إِلَى
دِمَشْقَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَهُوَ فِي
الْحَجِّ، سَمِعْتُ بِقِرَاءَتِهِ " صَحِيحَ مُسْلِمٍ " فِي تِسْعَةِ
مَجَالِسَ عَلَى الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ بْنِ الْعَسْقَلَانِيِّ، قِرَاءَةً
صَحِيحَةً، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْقَاهِرَةِ فِي ثَانِي عِشْرِينَ
الْمُحَرَّمِ، وَكَانَتْ لَهُ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ فِي الْفِقْهِ، وَالنَّحْوِ،
وَالتَّارِيخِ، وَالْأُصُولِ، وَكَانَ عَالِيَ الْهِمَّةِ، شَرِيفَ النَّفْسِ،
مُحْتَرَمًا بِبِلَادِهِ جِدًّا، بِحَيْثُ إِنَّهُ يُوَلِّي الْمُلُوكَ
وَيَعْزِلُهُمْ، وَلَمْ يَلِ مُبَاشَرَةً وَلَا أَهْلُ بَيْتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ
يُلَقَّبُ بِالْوَزِيرِ مَجَازًا.
شَيْخُنَا الصَّالِحُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ الْخَاشِعُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ ابْنُ الشَّيْخِ الصَّالِحِ الْعَابِدِ شَرَفِ الدِّينِ
أَبِي الْحَسَنِ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ غَيْلَانَ الْبَعْلَبَكِّيُّ الْحَنْبَلِيُّ،
إِمَامُ مَسْجِدِ السَّلَالِينِ بِدَارِ الْبِطِّيخِ الْعَتِيقَةِ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ وَأَسْمَعَهُ، وَكَانَ يُقْرِئُ الْقُرْآنَ طَرَفَيِ النَّهَارِ،
وَعَلَيْهِ خَتَمْتُ الْقُرْآنَ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشَرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ،
وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْكِبَارِ، وَالْعُبَّادِ الْأَخْيَارِ، تُوُفِّيَ
يَوْمَ السَّبْتِ سَادِسِ صَفَرٍ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ
بِبَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ -
أَعْنِي صَفَرًا - كَانَتْ وَفَاةُ وَالِي الْقَاهِرَةِ قُدَيْدَارُ، وَلَهُ
آثَارٌ غَرِيبَةٌ وَمَشْهُورَةٌ.
بَهَادُرُآصْ، الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ، رَأْسُ مَيْمَنَةِ الشَّامِ، سَيْفُ
الدِّينِ بَهَادُرُآصِ الْمَنْصُورِيُّ، أَكْبَرُ أُمَرَاءِ دِمَشْقَ، وَمِمَّنْ
طَالَ عُمُرُهُ فِي الْحِشْمَةِ وَالثَّرْوَةِ، وَهُوَ مِمَّنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ
الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ
وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ: 14 ].
وَقَدْ كَانَ مُحَبَّبًا إِلَى الْعَامَّةِ، وَلَهُ بِرٌّ وَصَدَقَةٌ وَإِحْسَانٌ،
تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ تَاسِعَ عَشَرَ صَفَرٍ بِدَارِهِ دَاخِلَ بَابِ
تُومَاءَ الْمَشْهُورَةِ، وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْأُمَرَاءُ
جَنَازَتَهُ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ خَارِجَ بَابِ الْجَابِيَةِ، وَهِيَ
مَشْهُورَةٌ أَيْضًا.
الْحَجَّارُ ابْنُ الشِّحْنَةِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الْمُسْنِدُ الْمُعَمَّرُ
الرُّحْلَةُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ
نِعْمَةَ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَيَانٍ الدَّيْرُمَقْرَنِيُّ ثُمَّ
الصَّالِحِيُّ الْحَجَّارُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الشِّحْنَةِ، سَمَّعَ "
الْبُخَارِيَّ " عَلَى الزُّبَيْدِيِّ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
بِقَاسِيُونَ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ سَمَاعُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِمِائَةٍ،
فَفَرِحَ بِذَلِكَ الْمُحَدِّثُونَ وَأَكْثَرُوا السَّمَاعَ عَلَيْهِ، فَقُرِئَ
" الْبُخَارِيُّ " عَلَيْهِ نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ
مَرَّةً، وَغَيْرَهُ، وَسَمَّعْنَا عَلَيْهِ بِدَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ فِي أَيَّامِ الشِّتْوِيَّاتِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِمِائَةِ جُزْءٍ بِالْإِجَازَاتِ وَالسَّمَاعِ، وَسَمَاعُهُ مِنَ الزُّبَيْدِيِّ وَابْنِ اللَّتِّيِّ، وَلَهُ إِجَازَةٌ مِنْ بَغْدَادَ فِيهَا مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ شَيْخًا مِنَ الْعَوَالِي الْمُسْنِدِينِ، وَقَدْ مَكَثَ مُدَّةً مُقَدَّمَ الْحَجَّارِينَ نَحْوًا مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ كَانَ يَخْبِطُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ جَامَكِيَّتُهُ لَمَّا اشْتَغَلَ بِإِسْمَاعِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ سَمَّعَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَلْبَسَهُ الْخِلْعَةَ بِيَدِهِ، وَسَمَّعَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ أُمَمٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَكَانَ شَيْخًا حَسَنًا، بَهِيَّ الْمَنْظَرِ، سَلِيمَ الصَّدْرِ، مُمَتَّعًا بِحَوَاسِّهِ وَقُوَاهُ، فَإِنَّهُ عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ مُحَقِّقًا وَزَادَ عَلَيْهَا; لِأَنَّهُ سَمِعَ " الْبُخَارِيَّ " مِنَ الزُّبَيْدِيِّ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَأَسْمَعَهُ هُوَ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ فِي تَاسِعِ صَفَرٍ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَسَمَّعْنَا عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَدْرَكَ مَوْتَ الْمُعَظَّمِ عِيسَى بْنِ الْعَادِلِ لَمَّا تُوُفِّيَ، وَالنَّاسُ يَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ: مَاتَ الْمُعَظَّمُ، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاةُ الْمُعَظَّمِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ الْحَجَّارُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ خَامِسَ عِشْرِينَ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةٍ لَهُ عِنْدَ زَاوِيَةِ الرُّومِيِّ، بِجِوَارِ جَامِعِ الْأَفْرَمِ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ نَجْمُ
الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو نَصْرٍ
الْمَوْصِلِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الشَّحَّامِ، اشْتَغَلَ بِبَلَدِهِ، ثُمَّ
سَافَرَ وَأَقَامَ بِمَدِينَةِ سَرَايَ مِنْ مَمْلَكَةِ أَزْبَكَ، ثُمَّ قَدِمَ
دِمَشْقَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، فَدَرَّسَ بِالظَّاهِرِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ ثُمَّ بِالْجَارُوخِيَّةِ، وَأُضِيفَ إِلَيْهِ مَشْيَخَةُ
رِبَاطِ الْقَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ عَنْ ذَلِكَ لِزَوْجِ ابْنَتِهِ نُورِ الدِّينِ
الْأَرْدُبِيلِيِّ، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَ يَعْرِفُ طَرَفًا
مِنَ الْفِقْهِ وَالطِّبِّ.
الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الْهُدْمَةُ، أَصْلُهُ كُرْدِيٌّ مِنْ بِلَادِ
الْمَشْرِقِ، فَقَدِمَ الشَّامَ، وَأَقَامَ بَيْنَ الْقُدْسِ وَالْخَلِيلِ، فِي
أَرْضٍ كَانَتْ مَوَاتًا، فَأَحْيَاهَا وَغَرَسَهَا وَزَرَعَ فِيهَا أَنْوَاعًا،
وَكَانَ يُقْصَدُ لِلزِّيَارَةِ، وَيَحْكِي النَّاسُ عَنْهُ كَرَامَاتٍ صَالِحَةٍ،
وَقَدْ بَلَغَ مِائَةَ سَنَةٍ، وَتَزَوَّجَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَرُزِقَ أَوْلَادًا
صَالِحِينَ، تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
السِّتُّ صَاحِبَةُ التُّرْبَةِ بِبَابِ الْخَوَّاصِينَ الْخُونْدَةُ
الْمُعَظَّمَةُ الْمُحَجَّبَةُ الْمُحْتَرَمَةُ، سُتَيْتَةُ بِنْتُ الْأَمِيرِ
سَيْفِ الدِّينِ كُوكَايْ الْمَنْصُورِيِّ، زَوْجَةُ نَائِبِ الشَّامِ تَنْكِزَ،
تُوُفِّيَتْ بِدَارِ الذَّهَبِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهَا بِالْجَامِعِ ثَالِثَ رَجَبٍ،
وَدُفِنَتْ بِالتُّرْبَةِ الَّتِي أَمَرَتْ بِإِنْشَائِهَا عِنْدَ بَابِ
الْخَوَّاصِينَ، وَفِيهَا مَسْجِدٌ، وَإِلَى جَانِبِهَا رِبَاطٌ لِلنِّسَاءِ
وَمَكْتَبٌ
لِلْأَيْتَامِ، وَفِيهَا صَدَقَاتٌ، وَبِرٌّ، وَصِلَاتٌ، وَقُرَّاءٌ عَلَيْهَا،
كُلُّ ذَلِكَ أَمَرَتْ بِهِ، وَكَانَتْ قَدْ حَجَّتْ فِي الْعَامِ الْمَاضِي،
رَحِمَهَا اللَّهُ.
قَاضِي قُضَاةِ طَرَابُلُسَ، شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ مَحْمُودٍ
الْبَعْلَبَكِّيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمَجْدِ الشَّافِعِيِّ، اشْتَغَلَ
بِبَلَدِهِ، وَبَرَعَ فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، وَأَقَامَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً
يُدَرِّسُ بِالْقُوصِيَّةِ بِالْجَامِعِ، وَيَؤُمُّ بِمَدْرَسَةِ أُمِّ
الصَّالِحِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى قَضَاءِ طَرَابُلُسَ، فَأَقَامَ بِهَا
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ تُوُفِّيَ فِي سَادِسِ رَمَضَانَ، وَتَوَلَّاهَا
بَعْدَهُ وَلَدُهُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَهُوَ أَحَدُ الْفُضَلَاءِ الْمَشْهُورِينَ،
وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ بَعْدَهُ حَتَّى عُزِلَ عَنْهَا وَأُخْرِجَ مِنْهَا.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ
أَبِي الْقَاسِمِ الْحُوَّارِيُّ، شَيْخُ طَائِفَتِهِمْ، وَإِلَيْهِ مَرْجِعُ
زَاوِيَتِهِمْ بِحُوَّارَ، كَانَ عِنْدَهُ تَفَقُّهٌ وَزَهَادَةٌ، وَيُزَارُ،
وَلَهُ أَصْحَابٌ يَخْدِمُونَهُ، وَبَلَغَ السَّبْعِينَ سَنَةً، وَخَرَجَ
لِتَوْدِيعِ بَعْضِ أَهْلِهِ إِلَى نَاحِيَةِ الْكَرَكِ مِنْ نَاحِيَةِ الْحِجَازِ
فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ هُنَاكَ، فَمَاتَ فِي أَوَّلِ ذِي الْقِعْدَةِ.
الشَّيْخُ حَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْأَنْصَارِيُّ الضَّرِيرُ، كَانَ
بِفَرْدِ عَيْنٍ أَوَّلًا،
ثُمَّ عَمِيَ جُمْلَةً،
وَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُكْثِرُ التِّلَاوَةَ، ثُمَّ انْقَطَعَ إِلَى
الْمَنَارَةِ الشَّرْقِيَّةِ، وَكَانَ يَحْضُرُ السَّمَاعَاتِ وَيَسْتَمِعُ
وَيَتَوَاجَدُ، وَلِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِيهِ اعْتِقَادٌ عَلَى ذَلِكَ;
لِمُجَاوَرَتِهِ فِي الْجَامِعِ، وَكَثْرَةِ تِلَاوَتِهِ وَصَلَاتِهِ، وَاللَّهُ
يُسَامِحُهُ، تُوُفِّيَ يَوْمَ السَّبْتِ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ بِالْمِئْذَنَةِ الشَّرْقِيَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ،
وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ.
مُحْيِي الدِّينِ أَبُو الثَّنَاءِ مَحْمُودُ ابْنُ الصَّدْرِ شَرَفِ الدِّينِ
بْنِ الْقَلَانِسِيُّ، تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ بِبُسْتَانِهِ، وَدُفِنَ
بِتُرْبَتِهِمْ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَهُوَ جَدُّ الصَّدْرِ جَلَالِ الدِّينِ
بْنِ الْقَلَانِسِيِّ، وَأَخِيهِ عَلَاءِ الدِّينِ، وَهُمْ ثَلَاثَتُهُمْ
رُؤَسَاءُ.
الشَّابُّ الرَّئِيسُ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ الْقَاضِي قُطْبِ الدِّينِ
مُوسَى ابْنِ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ، نَاظِرُ الْجَيْشِ أَبُوهُ، نَشَأَ هَذَا
الشَّابُّ فِي نِعْمَةٍ، وَحِشْمَةٍ، وَتَرَفُّهٍ، وَعِشْرَةٍ، وَاجْتِمَاعٍ
بِالْأَصْحَابِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ السَّبْتِ تَاسِعَ عِشْرِينَ ذِي الْحِجَّةِ،
فَاسْتَرَاحَ مِنْ حِشْمَتِهِ وَعِشْرَتِهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ وَبَالًا عَلَيْهِ،
وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ تُجَاهَ النَّاصِرِيَّةِ بِالسَّفْحِ، وَتَأَسَّفَ
عَلَيْهِ أَبَوَاهُ وَمَعَارِفُهُ، وَأَصْحَابُهُ، سَامَحَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَقَدْ
ذَكَرْنَا مَا كَانَ مِنْ عَبِيدِ مَكَّةَ إِلَى الْحُجَّاجِ، وَأَنَّهُ قُتِلَ
مِنَ الْمِصْرِيِّينَ أَمِيرَانِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ السُّلْطَانَ عَظُمَ
عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَامْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ عَلَى السِّمَاطِ - فِيمَا يُقَالُ -
أَيَّامًا، ثُمَّ جَرَّدَ سِتَّمِائَةِ فَارِسٍ، وَقِيلَ: أَلْفًا، وَالْأَوَّلُ
أَصَحُّ، وَأَرْسَلَ إِلَى الشَّامِ أَنْ يُجَرَّدَ مُقَدَّمٌ آخَرُ، فَجُرِّدَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أُلْجَيْبُغَا الْعَادِلِيُّ، وَخَرَجَ مِنْ دِمَشْقَ
يَوْمَ دَخَلَهَا الرَّكْبُ فِي سَادِسِ عِشْرِينَ الْمُحَرَّمِ، وَأُمِرَ أَنْ
يَسِيرَ إِلَى أَيْلَةَ لِيَجْتَمِعَ مَعَ الْمِصْرِيِّينَ، وَأَنْ يَسِيرُوا
جَمِيعًا إِلَى الْحِجَازِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ تَاسِعِ صَفَرٍ وَصَلَ نَهْرُ السَّاجُورِ إِلَى
مَدِينَةِ حَلَبَ، وَخَرَجَ نَائِبُ حَلَبَ أَرْغُونُ، وَمَعَهُ الْأُمَرَاءُ
مُشَاةً إِلَيْهِ فِي تَهْلِيلٍ وَتَكْبِيرٍ وَتَحْمِيدٍ، يَلْتَقُونَ هَذَا
النَّهْرَ، وَلَمْ يُمَكِّنْ أَحَدًا مِنَ الْمَغَانِي وَلَا غَيْرِهِمْ أَنْ
يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفَرِحَ النَّاسُ بِوُصُولِهِ
إِلَيْهِمْ فَرَحًا شَدِيدًا، وَكَانُوا قَدْ سَعَوْا فِي تَخْلِيصِهِ مِنْ
أَمَاكِنَ بَعِيدَةٍ احْتَاجُوا فِيهَا إِلَى نَقْبِ بَعْضِ الْجِبَالِ، وَفِيهَا
صُخُورٌ ضِخَامٌ صُمٌّ، وَعَقَدُوا لَهُ قَنَاطِرَ عَلَى الْأَوْدِيَةِ، وَمَا
وَصَلَ إِلَّا بَعْدَ جَهْدٍ جَهِيدٍ، وَأَمْرٍ شَدِيدٍ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَحِينَ رَجَعَ نَائِبُ حَلَبَ أَرْغُونُ مَرِضَ
مَرَضًا شَدِيدًا وَمَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي سَابِعَ عَشَرَ
صَفَرٍ وَسَّعَ تَنْكِزُ الطُّرُقَاتِ بِالشَّامِ ظَاهِرَ بَابِ الْجَابِيَةِ،
وَخَرَّبَ كُلَّ مَا يُضَيِّقُ الطُّرُقَاتِ.
وَفِي ثَانِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لَبِسَ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيُّ
خِلْعَةً سَنِيَّةً، لِمُبَاشَرَةِ نَظَرِ دِيوَانِ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ،
وَدِيوَانِ نَظَرِ الْمَارَسْتَانِ، عِوَضًا عَنْ أَمِينِ الدِّينِ بْنِ الْعَسَّالِ،
وَرَجَعَ ابْنُ الْعَسَّالِ إِلَى حِجَابَةِ الدِّيوَانِ الْكَبِيرِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَانِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لَبِسَ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ
الشِّيرَازِيِّ خِلْعَةَ نَظَرِ الْأُمَوِيِّ عِوَضًا عَنِ ابْنِ مَرَاجِلٍ;
عُزِلَ عَنْهُ لَا إِلَى بَدَلٍ، وَبَاشَرَ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْفُوَيْرِهِ
نَظَرَ الْأَسْرَى بَدَلًا عَنِ ابْنِ الشِّيرَازِيِّ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ آخِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لَبِسَ الْقَاضِي شَرَفُ
الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَرَفِ الدِّينِ حَسَنٍ ابْنِ الْحَافِظِ أَبِي
مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الْحَافِظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيُّ -
خِلْعَةَ قَضَاءِ الْحَنَابِلَةِ، عِوَضًا عَنْ عِزِّ الدِّينِ بْنِ التَّقِيِّ
سُلَيْمَانَ، تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَرَكِبَ مِنْ دَارِ السَّعَادَةِ إِلَى
الْجَامِعِ، فَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ تَحْتَ النَّسْرِ بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ
وَالْأَعْيَانِ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى الْجَوْزِيَّةِ فَحَكَمَ بِهَا، ثُمَّ إِلَى
الصَّالِحِيَّةِ وَهُوَ لَابِسٌ الْخِلْعَةَ، وَاسْتَنَابَ يَوْمَئِذٍ ابْنَ
أَخِيهِ التَّقِيَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ.
وَفِي سَلْخِ رَبِيعٍ
الْآخِرِ اجْتَازَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا بِدِمَشْقَ وَهُوَ
ذَاهِبٌ إِلَى بِلَادِ حَلَبَ نَائِبًا عَلَيْهَا، عِوَضًا عَنْ أَرْغُونَ -
تُوُفِّيَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ - وَقَدْ تَلَقَّاهُ النَّاسُ وَالْجَيْشُ.
وَفِي مُسْتَهَلٍّ جُمَادَى الْأُولَى حَضَرَ الْأَمِيرُ الشَّرِيفُ رُمَيْثَةُ
بْنُ أَبِي نُمِيٍّ إِلَى مَكَّةَ، فَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بِإِمْرَةِ مَكَّةَ مِنْ
جِهَةِ السُّلْطَانِ صُحْبَةَ التَّجْرِيدَةِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ، وَبَايَعَهُ
الْأُمَرَاءُ الْمُجَرَّدُونَ مِنْ مِصْرَ وَالشَّامِ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ
كَانَ وَصُولُ التَّجَارِيدِ إِلَى مَكَّةَ فِي سَابِعِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ،
فَأَقَامُوا بِبَابِ الْمُعَلَّى، وَحَصَلَ لَهُمْ خَيْرٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّلَاةِ
وَالطَّوَافِ، وَكَانَتِ الْأَسْعَارُ رَخِيصَةً مَعَهُمْ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ سَادِسِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، خُلِعَ عَلَى الْقَاضِي
عِزِّ الدِّينِ ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرِ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ
بِوِكَالَةِ السُّلْطَانِ، وَنَظَرِ جَامِعِ طُولُونَ، وَنَظَرِ النَّاصِرِيَّةِ،
وَهَنَّأَهُ النَّاسُ - عِوَضًا عَنِ التَّاجِ أَبِي إِسْحَاقَ عَبْدِ
الْوَهَّابِ، تُوُفِّيَ وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ تَوَلَّى
عِمَادُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ الْأَخْنَائِيُّ تَدْرِيسَ
الصَّارِمِيَّةِ وَهُوَ صَغِيرٌ، بَعْدَ وَفَاةِ النَّجْمِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْبَعْلَبَكِّيِّ الشَّافِعِيِّ، وَحَضَرَهَا فِي رَجَبٍ، وَحَضَرَ
عِنْدَهُ النَّاسُ خِدْمَةً لِأَبِيهِ.
وَفِي حَادِي عِشْرِينَ جُمَادَى الْآخِرَةِ رَجَعَتِ التَّجْرِيدَةِ مِنَ
الْحِجَازِ صُحْبَةَ
الْأَمِيرِ سَيْفِ
الدِّينِ أُلْجَيْبُغَا، وَكَانَتْ غَيْبَتُهُمْ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا،
وَأَقَامُوا بِمَكَّةَ شَهْرًا وَاحِدًا وَيَوْمًا وَاحِدًا، وَحَصَلَ لِلْعَرَبِ
مِنْهُمْ رُعْبٌ شَدِيدٌ وَخَوْفٌ أَكِيدٌ، وَعَزَلُوا عَنْ مَكَّةَ عُطَيْفَةَ،
وَوَلَّوْا أَخَاهُ رُمَيْثَةَ، وَصَلَّوْا وَطَافُوا وَاعْتَمَرُوا، وَمِنْهُمْ
مَنْ أَقَامَ هُنَاكَ لِيَحُجَّ.
وَفِي ثَانِي رَجَبٍ خُلِعَ عَلَى ابْنِ أَبِي الطَّيِّبِ بِنَظَرِ دِيوَانِ
بَيْتِ الْمَالِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ السَّابِقِ، تُوُفِّيَ.
وَفِي أَوَائِلِ شَعْبَانَ حَصَلَ بِدِمَشْقَ هَوَاءٌ شَدِيدٌ مُزْعِجٌ، كَسَرَ
كَثِيرًا مِنَ الْأَشْجَارِ وَالْأَغْصَانِ، وَأَلْقَى بَعْضَ الْجُدْرَانِ
وَالْحِيطَانِ، وَسَكَنَ بَعْدَ سَاعَةٍ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
تَاسِعِهِ سَقَطَ بَرَدٌ كِبَارٌ مِقْدَارَ بَيْضِ الْحَمَامِ، وَكَسَرَ بَعْضَ
جَامَاتِ الْحَمَامِ. وَفِي شَهْرِ شَعْبَانَ هَذَا خُطِبَ بِالْمَدْرَسَةِ
الْمُعِزِّيَةِ عَلَى شَاطِئِ النِّيلِ، أَنْشَأَهَا الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
طُقُزْدَمُرَ أَمِيرُ مَجْلِسِ النَّاصِرِيِّ، وَكَانَ الْخَطِيبُ بِهَا عِزَّ
الدِّينِ عَبْدَ الرَّحِيمِ بْنَ الْفُرَاتِ الْحَنَفِيَّ.
وَفِي نِصْفِ رَمَضَانَ قَدِمَ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
سَالِمٍ اللَّخْمِيُّ ابْنُ الْفَاكِهَانِيِّ الْمَالِكِيُّ، نَزَلَ عِنْدَ
الْقَاضِي الشَّافِعِيِّ، وَسَمَّعَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ مُصَنَّفَاتِهِ،
وَخَرَجَ إِلَى الْحَجِّ عَامَئِذٍ مَعَ الشَّامِيِّينَ، وَزَارَ الْقُدْسَ قَبْلَ
وُصُولِهِ إِلَى دِمَشْقَ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ
وُطِّئَ سُوقُ الْخَيْلِ، وَرُكِّبَتْ فِيهِ حَصْبَاءُ كَثِيرَةٌ، وَعَمِلَ فِيهِ
نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ نَفْسٍ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ حَتَّى سَاوَوْهُ
وَأَصْلَحُوهُ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يَكُونُ فِيهِ مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ
وَمُلْقَاتٌ. وَفِيهِ أُصْلِحَ سُوقُ الدَّقِيقِ ظَاهِرَ بَابِ الْجَابِيَةِ إِلَى
الثَّابِتِيَّةِ، وَسُقِفَ عَلَيْهِ السُّقُوفُ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ شَوَّالٍ،
وَأَمِيرُهُ عِزُّ الدِّينِ أَيْبَكُ أَمِيرُ عَلَمَ، وَقَاضِيهِ شِهَابُ الدِّينِ
الظَّاهِرِيُّ. وَمِمَّنْ حَجَّ فِيهِ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ جَهْبَلٍ، وَابْنُ
أَبِي الْيُسْرِ، وَابْنُ جُمْلَةَ، وَالْفَخْرُ الْمِصْرِيُّ، وَالصَّدْرُ
الْمَالِكِيُّ، وَشَرَفُ الدِّينِ الْكَفْرِيُّ الْحَنَفِيُّ، وَالْبَهَاءُ بْنُ
إِمَامِ الْمَشْهَدِ، وَجَلَالُ الدِّينِ الْأَعْيَالِيُّ نَاظِرُ الْأَيْتَامِ،
وَشَمْسُ الدِّينِ الْكُرْدِيُّ، وَفَخْرُ الدِّينِ الْبَعْلَبَكِّيُّ، وَمَجْدُ
الدِّينِ بْنُ أَبِي الْمَجْدِ، وَشَمْسُ الدِّينِ بْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ،
وَشَمْسُ الدِّينِ ابْنُ خَطِيبِ يَبْرُودَ، وَشَرَفُ الدِّينِ قَاسِمٌ
الْعَجْلُونِيُّ، وَتَاجُ الدِّينِ بْنُ الْفَاكِهَانِيِّ، وَالشَّيْخُ عُمَرُ
السَّلَامِيُّ، وَكَاتِبُهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ كَثِيرٍ، وَآخَرُونَ مِنْ سَائِرِ
الْمَذَاهِبِ، حَتَّى كَانَ الشَّيْخُ بَدْرُ الدِّينِ يَقُولُ: اجْتَمَعَ فِي
رَكْبِنَا هَذَا أَرْبَعُمِائَةِ فَقِيهٍ، وَأَرْبَعُ مَدَارِسَ، وَخَانِقَاهْ،
وَدَارُ حَدِيثٍ. وَقَدْ كَانَ مَعَنَا مِنَ الْمُفْتِينَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَفْسًا،
وَكَانَ فِي
الْمِصْرِيِّينَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمْ; قَاضِي الْمَالِكِيَّةِ
تَقِيُّ الدِّينِ الْأَخْنَائِيُّ، وَفَخْرُ الدِّينِ النُّوَيْرِيُّ، وَشَمْسُ
الدِّينِ بْنُ الْحَارِثِيِّ، وَمَجْدُ الدِّينِ الْأَقْصُرَائِيُّ شَيْخُ
الشُّيُوخِ، وَالشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْمُرْشِدِيُّ، وَفِي رَكْبِ الْعِرَاقِ
الشَّيْخُ أَسَدٌ الْمَرَاوِحِيُّ وَكَانَ مِنَ الْمَشَاهِيرِ، وَفِي
الشَّامِيِّينَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْوَاسِطِيُّ صُحْبَةَ ابْنِ
التُّرْكُمَانِيِّ، وَأَمِيرُ الْمِصْرِيِّينَ مُغْلَطَايْ الْجَمَّالِيُّ الَّذِي
كَانَ وَزِيرًا فِي وَقْتٍ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ مَرِيضًا. وَمَرَرْنَا بِعَيْنِ
تَبُوكَ وَقَدْ أُصْلِحَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَصِينَتْ مِنْ دَوْسِ
الْجِمَالِ وَالْجَمَّالِينَ، وَصَارَ مَاؤُهَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ
وَالصَّفَاءِ وَالطِّيبِ، وَكَانَتِ الْوَقْفَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمُطِرْنَا
بِالطَّوَافِ، وَكَانَتْ سَنَةً مُرْخَصَةً آمِنَةً.
وَفِي نِصْفِ ذِي الْحِجَّةِ رَجَعَ تَنْكِزُ مِنْ نَاحِيَةِ قَلْعَةِ جَعْبَرٍ،
وَكَانَ فِي خِدْمَتِهِ أَكْثَرُ الْجَيْشِ الشَّامِيِّ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْمُقَدَّمِينَ
الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وَأَظْهَرَ أُبَّهَةً عَظِيمَةً فِي تِلْكَ النَّوَاحِي.
وَفِي سَادِسِ عِشْرِينَ ذِي الْحِجَّةِ وَصَلَ تَوْقِيعُ الْقَاضِي عَلَاءِ
الدِّينِ بْنِ الْقَلَانِسِيِّ بِجَمِيعِ جِهَاتِ أَخِيهِ جَمَالِ الدِّينِ،
بِحُكْمِ وَفَاتِهِ، مُضَافًا إِلَى جِهَاتِهِ، فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنَ
الْمَنَاصِبِ الْكِبَارِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ مِنَ الرُّؤَسَاءِ فِي
هَذِهِ الْأَعْصَارِ، فَمِنْ ذَلِكَ وَكَالَةُ بَيْتِ الْمَالِ، وَقَضَاءُ
الْعَسْكَرِ، وَكِتَابَةُ الدَّسْتِ، وَوَكَالَةُ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ، وَنَظَرُ
الْمَارَسْتَانِ، وَنَظَرُ الْحَرَمَيْنِ، وَنَظَرُ دِيوَانِ السَّعِيدِ،
وَتَدْرِيسُ الْأَمِينِيَّةِ، وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَالْعَصْرُونِيَّةِ، وَغَيْرُ
ذَلِكَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ
فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
قَاضِي الْقُضَاةِ عِزُّ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ
سُلَيْمَانَ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ ابْنِ الشَّيْخِ أَبِي
عُمَرَ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ عَلَى وَالِدِهِ،
وَاسْتَنَابَهُ فِي أَيَّامِ وِلَايَتِهِ، فَلَمَّا وَلِيَ ابْنُ مُسَلَّمٍ لَزِمَ
بَيْتَهُ يَحْضُرُ دَرْسَ الْجَوْزِيَّةِ وَدَارَ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةَ
بِالْجَبَلِ وَيَأْوِي إِلَى بَيْتِهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُ مُسَلَّمٍ وَلِيَ
قَضَاءَ الْحَنَابِلَةِ بَعْدَهُ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَكَانَ فِيهِ
تَوَاضُعٌ وَتَوَدُّدٌ، وَقَضَاءٌ لِحَوَائِجِ النَّاسِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ تَاسِعَ صَفَرٍ، وَكَانَ يَوْمًا مَطِيرًا، وَمَعَ هَذَا
شَهِدَ النَّاسُ جَنَازَتَهُ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ،
وَوَلِيَ بَعْدَهُ نَائِبُهُ شَرَفُ الدِّينِ بْنُ الْحَافِظِ، وَقَدْ قَارَبَ
الثَّمَانِينَ.
وَفِي نِصْفِ صَفَرٍ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قِجْلِيسُ سَيْفُ
النِّقْمَةِ، وَقَدْ كَانَ سَمَّعَ عَلَى الْحَجَّارِ وَوَزِيرَةَ بِالْقُدْسِ
الشَّرِيفِ.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أُرْغُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الدَّوَدَارُ النَّاصِرِيُّ، وَقَدْ عَمِلَ عَلَى نِيَابَةِ مِصْرَ مُدَّةً
طَوِيلَةً، ثُمَّ غَضِبَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى نِيَابَةِ
حَلَبَ، فَمَكَثَ بِهَا مُدَّةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ بِهَا فِي سَابِعَ عَشَرَ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةٍ
اشْتَرَاهَا بِحَلَبَ
وَقَدْ كَانَ عِنْدَهُ فَهْمٌ وَفِقْهٌ، وَفِيهِ دِيَانَةٌ وَاتِّبَاعٌ
لِلشَّرِيعَةِ، وَقَدْ سَمَّعَ " الْبُخَارِيَّ " عَلَى الْحَجَّارِ،
وَكَتَبَهُ جَمِيعَهُ بِخَطِّهِ، وَأَذِنَ لَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي
الْإِفْتَاءِ، وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ
وَهُوَ بِمِصْرَ، تُوُفِّيَ وَلَمْ يُكْمِلِ الْخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ
يَكْرَهُ اللَّهْوَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَمَّا خَرَجَ يَلْتَقِي نَهْرَ
السَّاجُورِ خَرَجَ فِي ذُلٍّ وَمَسْكَنَةٍ، وَخَرَجَ مَعَهُ الْأُمَرَاءُ
كَذَلِكَ مُشَاةً فِي تَكْبِيرٍ وَتَهْلِيلٍ وَتَحْمِيدٍ، وَمَنَعَ الْمَغَانِيَ
مِنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ فِي ذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْقَاضِي ضِيَاءُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ سَلِيمِ بْنِ رَبِيعَةَ
بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَذْرَعِيُّ الشَّافِعِيُّ، تَنَقَّلَ فِي وِلَايَةِ
الْأَقْضِيَةِ بِمَدَارِسَ كَثِيرَةٍ مُدَّةَ سِتِّينَ سَنَةً، وَحَكَمَ
بِطَرَابُلُسَ، وَنَابُلُسَ، وَعَجْلُونَ، وَحِمْصَ، وَزُرَعَ، وَغَيْرِهَا،
وَحَكَمَ بِدِمَشْقَ نِيَابَةً عَنِ الْقُونَوِيِّ نَحْوًا مِنْ شَهْرٍ، وَكَانَ
عِنْدَهُ فَضِيلَةٌ، وَلَهُ نَظْمٌ كَثِيرٌ، نَظَمَ " التَّنْبِيهَ "
فِي نَحْوِ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفِ بَيْتٍ، وَتَصْحِيحَهُ فِي أَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةِ
بَيْتٍ، وَلَهُ مَدَائِحُ، وَمُوَالِيَا، وَأَزْجَالٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ
كَانَتْ وَفَاتُهُ بِالرَّمْلَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَالِثَ عِشْرِينَ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَهُ عِدَّةُ
أَوْلَادٍ مِنْهُمْ; عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَحَدُ الْفُضَلَاءِ، وَهُوَ مِمَّنْ
جَمَعَ بَيْنَ عِلْمَيِ الشَّرِيعَةِ وَالطَّبِيعَةِ.
أَبُو دَبُّوسٍ عُثْمَانُ
بْنُ سَعِيدٍ الْمَغْرِبِيُّ، تَمَلَّكَ فِي وَقْتٍ بِلَادَ قَابِسَ، ثُمَّ
تَغَلَّبَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فَانْتَزَعُوهَا مِنْهُ، فَقَصَدَ مِصْرَ فَأَقَامَ
بِهَا، وَأُقْطِعَ إِقْطَاعًا، وَكَانَ يَرْكَبُ مَعَ الْجُنْدِ فِي زِيِّ
الْمَغَارِبَةِ مُتَقَلِّدًا سَيْفًا، وَكَانَ حَسَنَ الْهَيْئَةِ، يُوَاظِبُ
عَلَى الْخِدْمَةِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى.
الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ضِيَاءُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ
قُطْبِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْقَادِرِ
السُّنْبَاطِيُّ الشَّافِعِيُّ، مُدَرِّسُ الْحُسَامِيَّةِ، وَنَائِبُ الْحُكْمِ
بِمِصْرَ، وَأَعَادَ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ، وَتَفَقَّهَ عَلَى وَالِدِهِ،
تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَتَوَلَّى الْحُسَامِيَّةَ بَعْدَهُ نَاصِرُ
الدِّينِ التَّبْرِيزِيُّ.
الصَّدْرُ الْكَبِيرُ تَاجُ الدِّينِ الْكَارِمِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
الدَّمَامِينِيِّ، كَانَ مِنْ أَكَابِرِ التُّجَّارِ الْكَارِمِيَّةِ بِمِصْرَ،
تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، يُقَالُ: إِنَّهُ خَلَفَ مِائَةَ أَلْفِ
دِينَارٍ، غَيْرَ الْبَضَائِعِ، وَالْأَثَاثِ، وَالْأَمْلَاكِ.
الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ فَخْرُ الدِّينِ عُثْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
مُصْطَفَى بْنِ سُلَيْمَانَ
بْنِ الْمَارْدِينِيِّ
التُّرْكُمَانِيُّ الْحَنَفِيُّ، شَرَحَ فَخْرُ الدِّينِ هَذَا " الْجَامِعَ
الْكَبِيرَ "، وَأَلْقَاهُ دُرُوسًا فِي مِائَةِ كَرَّاسٍ، تُوُفِّيَ فِي
رَجَبٍ وَلَهُ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً، كَانَ شَيْخًا عَالِمًا فَاضِلًا،
مُوَقَّرًا فَصِيحًا، حَسَنَ الْمُفَاكَهَةِ، وَلَهُ نَظْمٌ حَسَنٌ، وَوَلِيَ
بَعْدَهُ الْمَنْصُورِيَّةَ وَلَدُهُ تَاجُ الدِّينِ.
تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ الْوَزِيرِ شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ
عُثْمَانَ بْنِ السَّلْعُوسِ، كَانَ صَغِيرًا لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ تَحْتَ الْعُقُوبَةِ،
ثُمَّ نَشَأَ فِي الْخَدَمِ، ثُمَّ طَلَبَهُ السُّلْطَانُ فِي آخِرِ وَقْتٍ
فَوَلَّاهُ نَظَرَ الدَّوَاوِينِ بِمِصْرَ، فَبَاشَرَهُ يَوْمًا وَاحِدًا،
وَحَضَرَ بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ يَوْمَ الْخَمِيسِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ
عِنْدِهِ وَقَدِ اضْطَرَبَ حَالُهُ، فَمَا وَصَلَ إِلَى مَنْزِلِهِ إِلَّا فِي
مِحَفَّةٍ، وَمَاتَ بُكْرَةَ يَوْمِ السَّبْتِ سَادِسِ عِشْرِينَ ذِي الْقِعْدَةِ،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَدُفِنَ عِنْدَ وَالِدِهِ
بِالْقَرَافَةِ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً.
جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ شَرَفِ الدِّينِ بْنِ جَمَالِ
الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَتْحِ نَصْرِ اللَّهِ بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ
أَسَدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ
الدِّمَشْقِيُّ، ابْنُ الْقَلَانِسِيِّ، قَاضِي الْعَسَاكِرِ، وَوَكِيلُ بَيْتِ
الْمَالِ، وَمُدَرِّسُ الْأَمِينِيَّةِ وَغَيْرِهَا، حَفِظَ " التَّنْبِيهَ
"، ثُمَّ " الْمُحَرَّرَ " لِلرَّافِعِيِّ، وَكَانَ
يَسْتَحْضِرُهُ، وَاشْتَغَلَ عَلَى الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ،
وَتَقَدَّمَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ
وَالرِّئَاسَةِ، وَبَاشَرَ جِهَاتٍ كِبَارًا، وَدَرَّسَ فِي أَمَاكِنَ، وَتَفَرَّدَ فِي وَقْتِهِ بِالرِّئَاسَةِ فِي الْبَيْتِ، وَالْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَكَانَ فِيهِ تَوَاضُعٌ، وَحُسْنُ سَمْتٍ، وَتَوَدُّدٌ، وَإِحْسَانٌ، وَبِرٌّ بِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفُقَرَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَهُوَ مِمَّنْ أُذِنَ لَهُ فِي الْإِفْتَاءِ، وَكَتَبَ إِنْشَاءَ ذَلِكَ وَأَنَا حَاضِرٌ عَلَى الْبَدِيهَةِ، فَأَفَادَ وَأَجَادَ، وَأَحْسَنَ التَّعْبِيرَ، وَعَظُمَ فِي عَيْنِي، تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ عِشْرِينَ ذِي الْقِعْدَةِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ بِالسَّفْحِ، وَقَدْ سَمَّعَ الْحَدِيثَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَخَرَّجَ لَهُ فَخْرُ الدِّينِ الْبَعْلَبَكِّيُّ مَشْيَخَةً سَمَّعْنَاهَا عَلَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ.
اسْتَهَلَّتْ وَحُكَّامُ الْبِلَادِ هُمْ هُمْ. وَفِي أَوَّلِهَا فُتِحَتِ
الْقَيْسَارِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ مَسْبِكَ الْفُولَاذِ جَوَّا بَابِ الصَّغِيرِ،
حَوَّلَهَا تَنْكِزُ قَيْسَارِيَّةً بِبِرْكَةٍ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ذَكَرَ الدَّرْسَ بِالْأَمِينِيَّةِ
وَالظَّاهِرِيَّةِ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ عِوَضًا عَنْ أَخِيهِ
جَمَالِ الدِّينِ، وَذَكَرَ ابْنُ أَخِيهِ أَمِينُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ
جَمَالِ الدِّينِ الدَّرْسَ بِالْعَصْرُونِيَّةِ، تَرَكَهَا لَهُ عَمُّهُ،
وَحَضَرَ عِنْدَهُمَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ.
وَفِي تَاسِعِ الْمُحَرَّمِ جَاءَ إِلَى حِمْصَ سَيْلٌ عَظِيمٌ غَرِقَ بِسَبَبِهِ
خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَهَلَكَ لِلنَّاسِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ،
وَمِمَّنْ مَاتَ فِيهِ نَحْوُ مِائَتَيِ امْرَأَةٍ بِحَمَّامِ النَّائِبِ، كُنْ
مُجْتَمِعَاتٍ عَلَى عَرُوسٍ أَوْ عَرُوسَيْنِ فَهَلَكْنَ جَمِيعًا.
وَفِي صَفَرٍ أَمَرَ تَنْكِزُ بِبَيَاضِ الْجُدْرَانِ الْمُقَابِلَةِ لِسُوقِ
الْخَيْلِ إِلَى بَابِ الْفَرَادِيسِ، وَأَمَرَ بِتَجْدِيدِ خَانِ الظَّاهِرِ،
فَغَرِمَ عَلَيْهِ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ وَصَلَ
تَابُوتُ لَاجِينَ الصَّغِيرِ مِنَ الْبِيرَةِ، فَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ خَارِجَ
بَابِ شَرْقِيٍّ.
وَفِي تَاسِعِ رَبِيعٍ
الْآخِرِ حَضَرَ الدَّرْسَ بِالْقَيْمَازِيَّةِ عِمَادُ الدِّينِ الطَّرَسُوسِيُّ
الْحَنَفِيُّ، عِوَضًا عَنِ الشَّيْخِ رَضِيِّ الدِّينِ الْمَنْطِيقِيِّ،
تُوُفِّيَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ.
وَفِي أَوَّلِ رَبِيعٍ الْآخِرِ خُلِعَ عَلَى الْمَلِكِ الْأَفْضَلِ عَلَيٍّ ابْنِ
الْمَلِكِ الْمُؤَيِّدِ صَاحِبِ حَمَاةَ، وَوَلَّاهُ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ
النَّاصِرُ مَكَانَ أَبِيهِ بِحُكْمِ وَفَاتِهِ، وَرَكِبَ بِمِصْرَ
بِالْعَصَائِبِ، وَالشَّبَّابَةُ وَالْغَاشِيَةُ أَمَامَهُ. وَفِي نِصْفِ هَذَا
الشَّهْرِ سَافَرَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ "
الْمُخْتَصَرِ "، وَمُدَرِّسُ الرَّوَاحِيَّةِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ عَلَى خَيْلِ الْبَرِيدِ، وَفَارَقَ دِمَشْقَ وَأَهْلَهَا،
وَاسْتَوْطَنَ الْقَاهِرَةَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ تَاسِعِ جُمَادَى الْأُولَى خَطَبَ بِالْجَامِعِ الَّذِي
أَنْشَأَهُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَلْمَلِكُ، وَاسْتَقَرَّ فِيهِ خَطِيبًا -
نُورُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ شَبِيبٍ الْحَنْبَلِيُّ. وَفِيهِ أَرْسَلَ
السُّلْطَانُ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى الصَّعِيدِ، فَأَحَاطُوا عَلَى
نَحْوٍ مِنْ سِتِّمِائَةِ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، فَأُتْلِفُ
بَعْضُهُمْ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ تَوَلَّى شَدَّ الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ نُورُ
الدِّينِ بْنُ الْخَشَّابِ عِوَضًا عَنِ الطَّرْقَشِيِّ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ حَادِيَ عَشَرَ رَجَبٍ خُلِعَ عَلَى قَاضِي الْقُضَاةِ
عَلَاءِ الدِّينِ ابْنَ الشَّيْخِ زَيْنِ الدِّينِ بْنِ الْمُنَجَّا بِقَضَاءِ
الْحَنَابِلَةِ، عِوَضًا عَنْ شَرَفِ الدِّينِ بْنِ الْحَافِظِ، وَقُرِئَ
تَقْلِيدُهُ بِالْجَامِعِ، وَحَضَرَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَفِي الْيَوْمِ
الثَّانِي اسْتَنَابَ بُرْهَانَ الدِّينِ الزُّرَعِيَّ.
وَفِي رَجَبٍ بَاشَرَ
شَمْسُ الدِّينِ مُوسَى بْنُ التَّاجِ أَبِي إِسْحَاقَ نَظَرَ الْجُيُوشِ
بِمِصْرَ، عِوَضًا عَنْ فَخْرِ الدِّينِ كَاتِبِ الْمَمَالِيكِ، تُوُفِّيَ،
وَبَاشَرَ النَّشْوَ مَكَانَهُ فِي نَظَرِ الْخَاصِّ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ
بِطَرْحَةٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي شَعْبَانَ عُزِلَ هُوَ وَأَخُوهُ الْعَلَمُ
نَاظِرُ الدَّوَاوِينِ، وَصُودِرَا، وَضُرِبَا ضَرْبًا شَدِيدًا، وَتَوَلَّى
نَظَرَ الْجَيْشِ الْمَكِينُ بْنُ قَرَوِينَةَ، وَنَظَرَ الدَّوَاوِينِ أَخُوهُ
شَمْسُ الدِّينِ بْنُ قَرَوِينَةَ.
وَفِي شَعْبَانَ كَانَ عُرْسُ آنُوكَ - وَيُقَالُ: اسْمُهُ مُحَمَّدٌ - ابْنِ
السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ عَلَى بِنْتِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
بَكْتَمُرَ السَّاقِيِّ، وَكَانَ جِهَازُهَا بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَذُبِحَ
فِي هَذَا الْعُرْسِ مِنَ الْأَغْنَامِ، وَالدَّجَاجِ، وَالْإِوَزِّ، وَالْخَيْلِ،
وَالْبَقَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَعُمِلَتْ حَلْوَى
بِنَحْوِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفِ قِنْطَارٍ، وَحُمِلَ لَهُ مِنَ الشَّمْعِ
ثَلَاثَةُ آلَافِ قِنْطَارٍ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّحْبِيُّ،
وَكَانَ هَذَا الْعُرْسُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ حَادِيَ عَشَرَ شَعْبَانَ.
وَفِي شَعْبَانَ هَذَا حُوِّلَ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ
مِنْ كِتَابَةِ السِّرِّ بِمِصْرَ إِلَى كِتَابَةِ السِّرِّ بِالشَّامِ، وَنُقِلَ
شَرَفُ بْنُ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الشِّهَابِ مَحْمُودٍ إِلَى كِتَابَةِ السِّرِّ
بِمِصْرَ. وَأُقِيمَتِ الْجُمُعَةُ بِالشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ فِي خَامِسِ
عِشْرِينَ شَعْبَانَ، وَحَضَرَهَا الْقُضَاةُ وَالْأُمَرَاءُ، وَخَطَبَ بِهَا
الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ
عَبْدُ النُّورِ
الْمَغْرِبِيُّ، وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ الْأَمِيرِ حُسَامِ الدِّينِ
الْبَشْمَقْدَارِ الْحَاجِبُ بِالشَّامِ، ثُمَّ خَطَبَ عَنْهُ كَمَالُ الدَّيْنِ
بْنُ الزَّكِيِّ. وَفِيهِ أَمَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِتَبْيِيضِ الْبُيُوتِ
مِنْ سُوقِ الْخَيْلِ إِلَى مَيْدَانِ الْحَصَا، فَفُعِلَ ذَلِكَ.
وَفِيهِ زَادَتِ الْفُرَاتُ زِيَادَةً عَظِيمَةً لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا،
وَاسْتَمَرَّتْ نَحْوًا مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، فَأَتْلَفَتْ بِالرُّحْبَةِ
أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَكَسَرَتِ الْجِسْرَ الَّذِي عِنْدَ دَيْرِ بِشْرٍ،
وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ هُنَاكَ، فَشَرَعُوا فِي إِصْلَاحِ الْجِسْرِ، ثُمَّ
انْكَسَرَ مَرَّةً ثَانِيَةً لَطِيفَةً.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ تَاسِعِ شَوَّالٍ خَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ،
وَأَمِيرُهُ سَيْفُ الدِّينِ أَوْرَانُ، وَقَاضِيهِ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ
الشَّرِيشِيِّ، وَهُوَ قَاضِي حِمْصَ الْآنَ، وَحَجَّ السُّلْطَانُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ وَفِي صُحْبَتِهِ قَاضِي الْقُضَاةِ الْقَزْوِينِيُّ، وَعِزُّ الدِّينِ
بْنُ جَمَاعَةَ، وَمُوَفَّقِ الدِّينِ الْحَنْبَلِيُّ، وَسَبْعُونَ أَمِيرًا.
وَفِي لَيْلَةِ الْخَمِيسِ حَادِي عِشْرِينَ شَوَّالٍ رُسِمَ عَلَى الصَّاحِبِ
شَمْسِ الدِّينِ غِبْرِيَالَ بِالْمَدْرَسَةِ النَّجِيبِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ،
وَصُودِرَ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَأُفْرِجَ عَنْهُ فِي
الْمُحَرَّمِ مِنَ السَّنَةِ الْآتِيَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلْطَانَ الْقَرَامِزِيُّ،
أَحَدُ الْمَشَاهِيرِ بِالْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ، وَمُلَازِمَةِ الْجَامِعِ
الْأُمَوِيِّ، وَكَثْرَةِ التِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ، وَلَهُ أَصْحَابٌ يَجْلِسُونَ
إِلَيْهِ، وَلَهُ مَعَ هَذَا ثَرْوَةٌ وَأَمْلَاكٌ، تُوُفِّيَ فِي مُسْتَهَلِّ
الْمُحَرَّمِ عَنْ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ
الصَّغِيرِ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ، ثُمَّ
تَرَكَ ذَلِكَ وَاشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ إِلَى أَنْ مَاتَ.
الْمَلِكُ الْمُؤَيَّدُ صَاحِبُ حَمَاةَ عِمَادُ الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ ابْنُ
الْمَلِكِ الْأَفْضَلِ نُورِ الدِّينِ عَلِيٍّ ابْنِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ
تَقِيِّ الدِّينِ مَحْمُودٍ ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ نَاصِرِ الدِّينِ
مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ
شَاهِنْشَاهِ بْنِ أَيُّوبَ، كَانَتْ لَهُ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ فِي عُلُومٍ
مُتَعَدِّدَةٍ مِنَ الْفِقْهِ، وَالْهَيْئَةِ، وَالطِّبِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ عَدِيدَةٌ، مِنْهَا تَارِيخٌ حَافِلٌ حَسَنٌ مُخْتَصَرٌ فِي
مُجَلَّدَيْنِ، وَلَهُ الْعُرُوضُ وَالْأَطْوَالُ وَالْكَلَامُ عَلَى الْبُلْدَانِ
فِي مُجَلَّدٍ كَبِيرٍ، وَلَهُ نَظْمُ " الْحَاوِي "، وَغَيْرُ ذَلِكَ،
وَكَانَ يُحِبُّ الْعُلَمَاءَ وَيُشَاكِلُهُمْ، وَيُشَارِكُهُمْ فِي فُنُونٍ
كَثِيرَةٍ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ بَنِي أَيُّوبَ، وَوَلِيَ مُلْكَ حَمَاةَ مِنْ
سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ إِلَى هَذَا الْحِينِ، وَكَانَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ
يُكْرِمُهُ وَيُعَظِّمُهُ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ فِي الْمُلْكِ وَلَدُهُ الْأَفْضَلُ
عَلِيٌّ، تُوُفِّيَ سَحَرَ يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَامِنِ عِشْرِينَ الْمُحَرَّمِ،
وَدُفِنَ ضَحْوَةً عِنْدَ وَالِدَيْهِ بِظَاهِرِ حَمَاةَ.
الْقَاضِي الْإِمَامُ تَاجُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الْكَافِي بْنِ
عَوَضِ بْنِ سِنَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّعْدِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ،
سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَخَرَّجَ لِنَفْسِهِ مُعْجَمًا فِي ثَلَاثِ مُجَلَّدَاتٍ،
وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ الْكَثِيرَ، وَكَتَبَ الْخَطَّ الْجَيِّدَ، وَكَانَ مُتْقِنًا
عَارِفًا بِهَذَا الشَّأْنِ، يُقَالُ: إِنَّهُ كَتَبَ بِخَطِّهِ نَحْوًا مِنْ
خَمْسِمِائَةِ مُجَلَّدٍ، وَقَدْ كَانَ شَافِعِيًّا مُفْتِيًا، وَمَعَ هَذَا نَابَ
فِي وَقْتٍ عَنِ الْقَاضِي الْحَنْبَلِيِّ، وَوَلِيَ مَشْيَخَةَ الْحَدِيثِ
بِالْمَدْرَسَةِ الصَّاحِبِيَّةِ، وَتُوُفِّيَ بِمِصْرَ فِي مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ رَضِيُّ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَنْطِيقِيُّ
الْحَنَفِيُّ، أَصْلُهُ مِنْ آبْ كَرْمٍ مِنْ بِلَادِ قُونِيَةَ، وَأَقَامَ
بِحَمَاةَ ثُمَّ بِدِمَشْقَ، وَدَرَّسَ بِالْقَيْمَازِيَّةِ، وَكَانَ فَاضِلًا فِي
الْمَنْطِقِ وَالْجَدَلِ، وَاشْتَغَلَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فِي ذَلِكَ، وَبَلَغَ
مِنَ الْعُمُرِ سِتًّا وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَحَجَّ سَبْعَ مَرَّاتٍ، تُوُفِّيَ
لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ سَادِسَ عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْأَوَّلٍ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تُوُفِّيَ الْإِمَامُ عَلَاءُ الدِّينِ طَيْبُغَا،
وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِالصَّالِحِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
دُولَاتُ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ أَيْضًا.
قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَافِظِ عَبْدِ
الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ، وَحَصَّلَ، وَكَانَتْ لَهُ
مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ فِي اللُّغَةِ وَالْحَدِيثِ، وَبَاشَرَ نِيَابَةَ ابْنِ
مُسَلَّمٍ مُدَّةً، ثُمَّ وَلِيَ الْقَضَاءَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، ثُمَّ
كَانَتْ وَفَاتُهُ فَجْأَةً فِي مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْأُولَى لَيْلَةَ
الْخَمِيسِ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِتُرْبَةِ الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ.
الشَّيْخُ يَاقُوتٌ الْحَبَشِيُّ الشَّاذِلِيُّ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ، بَلَغَ
الثَّمَانِينَ، وَكَانَ لَهُ أَتْبَاعٌ وَأَصْحَابٌ مِنْهُمْ; شَمْسُ الدِّينِ بْنُ
اللَّبَّانِ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَكَانَ يُعَظِّمُهُ وَيُطْرِيهِ،
وَيَنْسُبُ إِلَيْهِ مُبَالَغَاتٍ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا وَكَذِبِهَا،
تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً جِدًّا.
النَّقِيبُ نَاصِحُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ قَاسِمِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ الدِّمَشْقِيُّ، نَقِيبُ الْمُتَعَمِّمِينَ، تَتَلْمَذَ أَوَّلًا
لِلشِّهَابِ الْمُقْرِئِ ثُمَّ كَانَ بَعْدَهُ فِي الْمَحَافِلِ لِلْعَزَاءِ
وَالْهَنَاءِ، وَكَانَ يَعْرِفُ هَذَا الْفَنَّ جَيِّدًا، وَكَانَ كَثِيرَ
الطَّلَبِ مِنَ النَّاسِ، وَيَطْلُبُهُ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا مَاتَ
وَعَلَيْهِ دُيُونٌ كَثِيرَةٌ، تُوُفِّيَ فِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ.
الْقَاضِي فَخْرُ الدِّينِ كَاتِبُ الْمَمَالِيكِ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ فَضْلِ
اللَّهِ نَاظِرُ
الْجُيُوشِ بِمِصْرَ، أَصْلُهُ
قِبْطِيٌّ، فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَتْ لَهُ أَوْقَافٌ كَثِيرَةٌ،
وَبِرٌّ وَإِحْسَانٌ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَانَ صَدْرًا مُعَظَّمًا، حَصَلَ
لَهُ مِنَ السُّلْطَانِ حَظٌّ وَافِرٌ، وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ، وَإِلَيْهِ
تُنْسَبُ الْفَخْرِيَّةُ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ، تُوُفِّيَ فِي نِصْفِ رَجَبٍ،
وَاحْتِيطَ عَلَى أَمْوَالِهِ وَأَمْلَاكِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أُلْجَايُ الدَّوَدَارُ الْمَلَكِيُّ النَّاصِرِيُّ،
كَانَ فَقِيهًا حَنَفِيًّا فَاضِلًا، كَتَبَ بِخَطِّهِ رَبْعَةً، وَحَصَّلَ
كُتُبًا كَثِيرَةً مُعْتَبَرَةً، وَكَانَ كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِ
الْعِلْمِ، تُوُفِّيَ فِي سَلْخِ رَجَبٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الطَّبِيبُ الْمَاهِرُ الْحَاذِقُ الْفَاضِلُ أَمِينُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ بْنُ
دَاوُدَ بْنِ سُلَيْمَانَ، كَانَ رَئِيسَ الْأَطِبَّاءِ بِدِمَشْقَ،
وَمُدَرِّسَهُمْ مُدَّةً، ثُمَّ عُزِلَ بِجَمَالِ الدِّينِ بْنِ الشِّهَابِ
الْكَحَّالِ مُدَّةً قَبْلِ مَوْتِهِ; لِأَمْرٍ تَغَضَّبَ عَلَيْهِ فِيهِ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ السَّبْتِ سَادِسِ عِشْرِينَ شَوَّالٍ، وَدُفِنَ
بِالْقُبَيْبَاتِ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْمُقْرِئُ شَيْخُ الْقُرَّاءِ بُرْهَانُ
الدِّينِ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
خَلِيلٍ الْجَعْبَرِيُّ ثُمَّ الْخَلِيلِيُّ الشَّافِعِيُّ، صَاحِبُ
الْمُصَنَّفَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي الْقِرَاءَاتِ وَغَيْرِهَا، وُلِدَ سَنَةَ
أَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِقَلْعَةِ جَعْبَرٍ، وَاشْتَغَلَ بِبَغْدَادَ، ثُمَّ
قَدِمَ دِمَشْقَ، وَأَقَامَ بِبَلَدِ الْخَلِيلِ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً
يُقْرِئُ
النَّاسَ، وَشَرَحَ
" الشَّاطِبِيَّةَ "، وَسَمَّعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَتْ لَهُ إِجَازَةٌ
مِنْ يُوسُفَ بْنِ خَلِيلٍ الْحَافِظِ، وَصَنَّفَ فِي الْعَرَبِيَّةِ،
وَالْعَرُوضِ، وَالْقِرَاءَاتِ، نَظْمًا وَنَثْرًا، وَكَانَ مِنَ الْمَشَايِخِ
الْمَشْهُورِينَ بِالْفَضَائِلِ وَالرِّيَاسَةِ، وَالْخَيْرِ، وَالدِّيَانَةِ،
وَالْعِفَّةِ، وَالصِّيَانَةِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَحَدِ خَامِسِ شَهْرِ
رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بِبَلَدِ الْخَلِيلِ تَحْتَ الزَّيْتُونَةِ، وَلَهُ ثِنْتَانِ
وَتِسْعُونَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَاضِي الْقُضَاةِ عَلَمُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ ابْنُ
الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عِيسَى بْنِ بَدْرَانَ بْنِ رَحْمَةَ
الْأَخْنَائِيُّ السَّعْدِيُّ الْمِصْرِيُّ الشَّافِعِيُّ، الْحَاكِمُ بِدِمَشْقَ
وَأَعْمَالِهَا، كَانَ عَفِيفًا نَزِهًا ذَكِيًّا، سَادَّ الْعِبَارَةِ، مُحِبًّا
لِلْفَضَائِلِ، مُعَظِّمًا لِأَهْلِهَا، كَثِيرًا لِإِسْمَاعِ الْحَدِيثِ فِي
الْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَالِثَ عَشَرَ ذِي
الْقِعْدَةِ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ تُجَاهَ تُرْبَةِ
الْعَادِلِ كَتْبُغَا مِنْ نَاحِيَةِ الْجَبَلِ.
قُطْبُ الدِّينِ مُوسَى بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ ابْنِ شَيْخِ
السَّلَامِيَّةِ، نَاظِرُ الْجُيُوشِ الشَّامِيَّةِ، كَانَتْ لَهُ ثَرْوَةٌ
وَأَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَلَهُ فَضْلٌ وَإِفْضَالٌ، وَكَرَمٌ وَإِحْسَانٌ إِلَى
أَهْلِ الْخَيْرِ، وَكَانَ مَقْصِدًا فِي الْمُهِمَّاتِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ ثَانِيَ ذِي الْحِجَّةِ وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ، وَدُفِنَ
بِتُرْبَتِهِ تُجَاهَ النَّاصِرِيَّةِ بِقَاسِيُونَ، وَهُوَ وَالِدُ الشَّيْخِ
الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ عِزِّ الدِّينِ حَمْزَةَ مُدَرِّسِ الْحَنْبَلِيَّةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ بِيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي
الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ قَاضٍ، وَقَاضِي الْحَنَفِيَّةِ
عِمَادُ الدِّينِ الطَّرَسُوسِيُّ، وَقَاضِي الْمَالِكِيَّةِ شَرَفُ الدِّينِ
الْهَمْدَانِيُّ، وَقَاضِي الْحَنَابِلَةِ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ الْمُنَجَّا،
وَكَاتِبُ السِّرِّ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ، وَنَاظِرُ الْجَامِعِ
عِمَادُ الدِّينِ بْنُ الشِّيرَازِيِّ.
وَفِي ثَامِنِ الْمُحَرَّمِ قَدِمَ الْبَشِيرُ بِسَلَامَةِ السُّلْطَانِ مِنَ
الْحِجَازِ، وَاقْتِرَابِ وُصُولِهِ إِلَى الْبِلَادِ، فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ،
وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ، وَأَخْبَرَ الْبَشِيرُ بِوَفَاةِ الْأَمِيرِ سَيْفِ
الدِّينِ بَكْتَمُرَ السَّاقِي وَوَلَدِهِ شِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ وَهُمَا
رَاجِعَانِ فِي الطَّرِيقِ، بَعْدَ أَنْ حَجَّا قَرِيبًا مِنْ مِصْرَ; الْوَلَدُ
أَوَّلًا، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ أَبُوهُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِعُيُونِ الْقَصَبِ،
ثُمَّ نُقِلَا إِلَى تُرْبَتِهِمَا بِالْقَرَافَةِ، وَوُجِدَ لِبَكْتُمَرَ مِنَ
الْأَمْوَالِ، وَالْجَوَاهِرِ، وَاللَّآلِئِ، وَالْقُمَاشِ، وَالْأَمْتِعَةِ،
وَالْحَوَاصِلِ شَيْءٌ كَثِيرٌ لَا يَكَادُ يَنْحَصِرُ وَلَا يَنْضَبِطُ.
وَأُفْرِجُ عَنِ الصَّاحِبِ شَمْسِ الدِّينِ غِبْرِيَالَ فِي الْمُحَرَّمِ،
وَطُلِبَ فِي صَفَرٍ إِلَى مِصْرَ، فَتَوَجَّهَ عَلَى خَيْلِ الْبَرِيدِ،
وَاحْتِيطَ عَلَى أَهْلِهِ بَعْدَ مَسِيرِهِ، وَأُخِذَتْ مِنْهُمْ أَمْوَالٌ
كَثِيرَةٌ لِبَيْتِ الْمَالِ.
وَفِي أَوَاخِرِ صَفَرٍ
قَدِمَ الصَّاحِبُ أَمِينُ الْمَلِكِ عَلَى نَظَرِ الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ
عِوَضًا عَنْ غِبْرِيَالَ. وَبَعْدَهُ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ قَدِمَ الْقَاضِي
فَخْرُ الدِّينِ بْنُ الْحِلِّيِّ عَلَى نَظَرِ الْجَيْشِ بَعْدَ وَفَاةِ قُطْبِ
الدِّينِ ابْنِ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ.
وَفِي نِصْفِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لَبِسَ ابْنُ جُمْلَةَ خِلْعَةَ الْقَضَاءِ
لِلشَّافِعِيَّةِ بِدِمَشْقَ، بِدَارِ السَّعَادَةِ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى الْجَامِعِ
وَهِيَ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ إِلَى الْعَادِلِيَّةِ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بِهَا
بِحَضْرَةِ الْأَعْيَانِ، وَدَرَّسَ بِالْعَادِلِيَّةِ وَالْغَزَّالِيَّةِ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ ثَانِيَ عَشَرَ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ فِي يَوْمِ
الِاثْنَيْنِ رَابِعَ عِشْرِينِهِ حَضَرَ ابْنُ أَخِيهِ جَمَالُ الدِّينِ
مَحْمُودٌ إِعَادَةَ الْقَيْمَرِيَّةِ، نَزَلَ لَهُ عَنْهَا، ثُمَّ اسْتَنَابَهُ
بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ، وَخَرَجَ إِلَى الْعَادِلِيَّةِ فَحَكَمَ بِهَا،
ثُمَّ لَمْ يَسْتَمِرَّ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ عُزِلَ عَنِ النِّيَابَةِ
بِيَوْمِهِ، وَاسْتَنَابَ بَعْدَهُ جَمَالَ الدِّينِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ شَمْسِ
الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْحُسْبَانِيَّ، وَلَهُ هِمَّةٌ، وَعِنْدَهُ
نَزَاهَةٌ وَخِبْرَةٌ بِالْأَحْكَامِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَلِيَ الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ قُرْطَايُ نِيَابَةَ
طَرَابُلُسَ، وَعُزِلَ عَنْهَا طَيْنَالُ إِلَى نِيَابَةِ غَزَّةَ، وَتَوَلَّى
نَائِبُ غَزَّةَ نِيَابَةَ حِمْصَ، وَحَصَلَ لِلَّذِي جَاءَ بِتَقْلِيدِهِمْ
مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْهُمْ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ أُعِيدَ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ
وَوَلَدُهُ إِلَى كِتَابَةِ سِرِّ مِصْرَ، وَرَجَعَ شَرَفُ الدِّينِ بْنُ
الشِّهَابِ مَحْمُودٍ إِلَى كِتَابَةِ سِرِّ الشَّامِ كَمَا كَانَ.
وَفِي مُنْتَصَفِ هَذَا
الشَّهْرِ وَلِيَ نِقَابَةَ الْأَشْرَافِ عِمَادُ الدِّينِ مُوسَى الْحُسَيْنِيُّ
عِوَضًا عَنْ أَخِيهِ شَرَفِ الدِّينِ عَدْنَانَ، تُوُفِّيَ فِي الشَّهْرِ
الْمَاضِي، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ عِنْدَ مَسْجِدِ الذِّبَّانِ، وَفِيهِ دَرَّسَ
الْفَخْرُ الْمِصْرِيُّ بِالدَّوْلَعِيَّةِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ جُمْلَةَ بِحُكْمِ
وِلَايَتِهِ الْقَضَاءَ.
وَفِي خَامِسِ عِشْرِينَ رَجَبٍ دَرَّسَ بِالْبَادَرَائِيَّةِ الْقَاضِي عَلَاءُ
الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ شَرِيفٍ - وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْوَحِيدِ - عِوَضًا عَنِ
ابْنِ جَهْبَلٍ، تُوُفِّيَ فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ
وَالْأَعْيَانُ، وَكُنْتُ إِذْ ذَاكَ بِالْقُدْسِ أَنَا وَالشَّيْخُ شَمْسُ
الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الْهَادِي وَآخَرُونَ. وَفِيهِ رَسَمَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ
النَّاصِرُ بِالْمَنْعِ مِنْ رَمْيِ الْبُنْدُقِ، وَأَنْ لَا تُبَاعَ قِسِيِّهُ
وَلَا تُعْمَلَ; وَذَلِكَ لِإِفْسَادِ رُمَاةِ الْبُنْدُقِ أَوْلَادَ النَّاسِ،
وَأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى مَنْ تَعَانَاهُ اللِّوَاطُ، وَالْفِسْقُ، وَقِلَّةُ
الدِّينِ، وَنُودِيَ بِذَلِكَ فِي الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ.
قَالَ الْبِرْزَالِيُّ: وَفِي نِصْفِ شَعْبَانَ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِتَسْلِيمِ
الْمُنَجِّمِينَ إِلَى وَالِي الْقَاهِرَةِ، فَضُرِبُوا، وَحُبِسُوا، ثُمَّ
نُفُوا; لِإِفْسَادِهِمْ حَالَ النِّسَاءِ، فَمَاتَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ تَحْتَ
الْعُقُوبَةِ; ثَلَاثَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَنَصْرَانِيٌّ. كَتَبَ بِذَلِكَ
إِلَيَّ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّحْبِيُّ.
وَفِي أَوَّلِ رَمَضَانَ وَصَلَ الْبَرِيدُ بِتَوْلِيَةِ الْأَمِيرِ فَخْرِ
الدِّينِ بْنِ الشَّمْسِ لُؤْلُؤٍ وِلَايَةَ الْبَرِّ بِدِمَشْقَ، بَعْدَ وَفَاةِ
شِهَابِ الدِّينِ بْنِ الْمَرْوَانِيِّ، وَوَصَلَ كِتَابٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى
دِمَشْقَ فِي رَمَضَانَ
يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّهُ وَقَعَتْ صَوَاعِقُ بِبِلَادِ الْحِجَازِ، فَقَتَلَتْ
جَمَاعَةً مُتَفَرِّقِينَ فِي أَمَاكِنَ شَتَّى، وَأَمْطَارٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَجَاءَ الْبَرِيدُ فِي رَابِعِ رَمَضَانَ بِتَوْلِيَةِ الْقَاضِي مُحْيِي
الدِّينِ بْنِ جَهْبَلٍ قَضَاءَ طَرَابُلُسَ، فَذَهَبَ إِلَيْهَا، وَدَرَّسَ ابْنُ
الْمَجْدِ عَبْدُ اللَّهِ بِالرَّوَاحِيَّةِ عِوَضًا عَنِ الْأَصْبِهَانِيِّ
بِحُكْمِ إِقَامَتِهِ بِمِصْرَ. وَفِي آخِرِ رَمَضَانَ أُفْرِجَ عَنِ الصَّاحِبِ
عَلَمِ الدِّينِ وَأَخِيهِ شَمْسِ الدِّينِ مُوسَى ابْنَيِ التَّاجِ أَبِي
إِسْحَاقَ، بَعْدَ سَجْنِهِمَا سَنَةً وَنِصْفًا.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ يَوْمَ الْخَمِيسِ عَاشِرَ شَوَّالٍ، وَأَمِيرُهُ
بَدْرُ الدِّينِ بْنُ مَعْبَدٍ، وَقَاضِيهِ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ مَنْصُورٍ
مُدَرِّسُ الْحَنَفِيَّةِ بِالْقُدْسِ بِمَدْرَسَةِ تَنْكِزَ، وَفِي الْحُجَّاجِ
صَدْرُ الدِّينِ الْمَالِكِيُّ، وَشِهَابُ الدِّينِ الظَّهِيرِيُّ، وَمُحْيِي الدِّينِ
بْنُ الْأَعْقَفِ، وَآخَرُونَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ ثَالِثَ عَشْرَهُ دَرَّسَ بِالْأَتَابِكِيَّةِ ابْنُ
جُمْلَةَ عِوَضًا عَنِ ابْنِ جَمِيلٍ، تَوَلَّى قَضَاءَ طَرَابُلُسَ. وَفِي يَوْمِ
الْأَحَدِ عِشْرِينِهِ حَكَمَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ كَامِلٍ
التَّدْمُرِيُّ، الَّذِي كَانَ فِي خَطَابَةِ الْخَلِيلِ بِدِمَشْقَ نِيَابَةً
عَنِ ابْنِ جُمْلَةَ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِدِينِهِ وَفَضِيلَتِهِ.
وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ مَسَكَ تَنْكِزُ دَوَادَارَهُ نَاصِرَ الدِّينِ مُحَمَّدًا،
وَكَانَ عِنْدَهُ بِمَكَانَةٍ عَظِيمَةٍ جِدًّا، وَضَرَبَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ
ضَرْبًا مُبَرِّحًا، وَاسْتَخْلَصَ مِنْهُ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، ثُمَّ حَبَسَهُ
بِالْقَلْعَةِ، ثُمَّ نَفَاهُ إِلَى الْقُدْسِ، وَضَرَبَ جَمَاعَةً مِنْ
أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ مُقَلَّدٍ حَاجِبُ الْعَرَبِ،
وَقَطَعَ لِسَانَهُ مَرَّتَيْنِ، وَمَاتَ، وَتَغَيَّرَتِ الدَّوْلَةُ، وَجَاءَتْ
دَوْلَةٌ أُخْرَى مُقَدَّمُهَا عِنْدَهُ حَمْزَةُ الَّذِي كَانَ سِمِيرَهُ
وَعَشِيرَهُ فِي هَذِهِ
الْمَرَّةِ
الْمُتَأَخِّرَةِ، وَانْزَاحَتِ النِّعْمَةُ عَنِ الدَّوَدَارِ نَاصِرِ الدِّينِ
وَذَوِيهِ وَمَنْ يَلِيهِ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ثَامِنِ عِشْرِينَ ذِي الْقِعْدَةِ رُكِّبَ عَلَى
الْكَعْبَةِ بَابٌ جَدِيدٌ أَرْسَلَهُ السُّلْطَانُ، مُرَصَّعًا مِنَ السَّنْطِ
الْأَحْمَرِ كَأَنَّهُ آبِنُوسٌ، مُرَكَّبٌ عَلَيْهِ صَفَائِحُ مِنْ فِضَّةٍ
زِنَتُهَا خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا وَثَلَاثُمِائَةٍ وَكَسْرٍ، وَقُلِعَ
الْبَابُ الْعَتِيقُ، وَهُوَ مِنْ خَشَبِ السَّاسَمِ، وَعَلَيْهِ صَفَائِحُ
تَسَلَّمَهَا بَنُو شَيْبَةَ، وَكَانَ زِنَتُهَا سِتِّينَ رَطْلًا، فَبَاعُوهَا
كُلُّ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ; لِأَجْلِ التَّبَرُّكِ، وَهَذَا خَطَأٌ، وَهُوَ
رِبًا، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَبِيعُوهَا بِالذَّهَبِ، لِئَلَّا يَحْصُلَ رِبًا
فِي ذَلِكَ، وَتُرِكَ خَشَبُ الْبَابِ الْعَتِيقِ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ، وَعَلَيْهِ
اسْمُ صَاحِبِ الْيَمَنِ فِي الْفَرْدَتَيْنِ، وَاحِدَةٌ عَلَيْهَا: اللَّهُمَّ
يَا وَلِيُّ، يَا عَلِيُّ، اغْفِرْ لِيُوسُفَ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الْعَالِمُ تَقِيُّ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَحْمُودِ
بْنِ مُقْبِلٍ الدَّقُوقِيُّ أَبُو الثَّنَاءِ الْبَغْدَادِيُّ، مُحَدِّثُ
بَغْدَادَ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً، يَقْرَأُ لَهُمُ الْحَدِيثَ، وَقَدْ وَلِيَ
مَشْيَخَةَ الْمُسْتَنْصِرِيَّةِ، وَكَانَ ضَابِطًا مُحَصِّلًا بَارِعًا، وَكَانَ
يَعِظُ وَيَتَكَلَّمُ فِي الْأَعْزِيَةِ وَالْأَهْنِيَةِ، وَكَانَ فَرْدًا فِي
زَمَانِهِ وَبِلَادِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، تُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ
وَلَهُ قَرِيبُ
السَّبْعِينَ سَنَةً، وَشَهِدَ جَنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَلَمْ يُخَلِّفْ دِرْهَمًا وَاحِدًا، وَلَهُ قَصِيدَتَانِ
رَثَى بِهِمَا الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَةَ، كَتَبَ بِهِمَا إِلَى
الشَّيْخِ الْحَافِظِ الْبِرْزَالِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ عِزُّ الْقُضَاةِ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنِيرِ
الْمَالِكِيُّ الْإِسْكَنْدَرِيُّ، أَحَدُ الْفُضَلَاءِ الْمَشْهُورِينَ، لَهُ
تَفْسِيرٌ فِي سِتِّ مُجَلَّدَاتٍ، وَقَصَائِدُ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسَنَةٌ، وَلَهُ فِي " كَانَ وَكَانَ "،
وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ وَرَوَى، تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى عَنْ
ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
ابْنُ جَمَاعَةَ قَاضِي الْقُضَاةِ الْعَالِمُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَدْرُ
الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ ابْنُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الزَّاهِدِ
أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ اللَّهِ بْنِ جَمَاعَةَ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ جَمَاعَةَ بْنِ حَازِمِ بْنِ صَخْرٍ الْكِنَانِيُّ الْحَمَوِيُّ الْأَصْلِ،
وُلِدَ لَيْلَةَ السَّبْتِ رَابِعَ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ بِحَمَاةَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ
فَحَصَّلَ فُنُونًا مُتَعَدِّدَةً، وَتَقَدَّمَ وَسَادَ أَقْرَانَهُ، وَبَاشَرَ
تَدْرِيسَ الْقَيْمَرِيَّةِ، ثُمَّ وَلِيَ الْحُكْمَ وَالْخَطَابَةَ بِالْقُدْسِ
الشَّرِيفِ، ثُمَّ نُقِلَ مِنْهُ إِلَى قَضَاءِ مِصْرَ فِي الْأَيَّامِ
الْأَشْرَفِيَّةِ، مَعَ تَدَارِيسَ كَبَارٍ بِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، ثُمَّ
وَلِيَ قَضَاءَ
الشَّامِ، وَجُمِعَ لَهُ
مَعَهُ الْخَطَابَةُ وَمَشْيَخَةُ الشُّيُوخِ، وَتَدْرِيسُ الْعَادِلِيَّةِ،
وَغَيْرُهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، كُلُّ هَذَا مَعَ الرِّيَاسَةِ، وَالدِّيَانَةِ،
وَالصِّيَانَةِ، وَالْوَرَعِ، وَكَفِّ الْأَذَى، وَلَهُ التَّصَانِيفُ
الْفَائِقَةُ النَّافِعَةُ، وَجَمَعَ خُطُبًا كَانَ يَخْطُبُ بِهَا بِطِيبِ صَوْتٍ
فِيهَا، وَفِي قِرَاءَتِهِ فِي الْمِحْرَابِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى
قَضَاءِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَ وَفَاةِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ
بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ، فَلَمْ يَزَلْ حَاكِمًا بِهَا إِلَى أَنْ أَضَرَّ وَكَبِرَ
وَضَعُفَتْ أَحْوَالُهُ، فَاسْتَقَالَ فَأُقِيلَ، وَتَوَلَّى مَكَانَهُ
الْقَزْوِينِيُّ، وَبَقِيَتْ مَعَهُ بَعْضُ الْجِهَاتِ، وَرُتِّبَتْ لَهُ
الرَّوَاتِبُ الْكَثِيرَةُ الدَّارَّةُ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ
الِاثْنَيْنِ بَعْدَ عَشَاءِ الْآخِرَةِ حَادِيَ عِشْرِينَ جُمَادَى الْأُولَى،
وَقَدْ أَكْمَلَ أَرْبَعًا وَتِسْعِينَ سَنَةً وَشَهْرًا وَأَيَّامًا، وَصُلِّيَ
عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ قَبْلَ الظُّهْرِ بِالْجَامِعِ النَّاصِرِيِّ بِمِصْرَ،
وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً هَائِلَةً، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْفَاضِلُ الزَّاهِدُ مُفْتِي الْمُسْلِمِينَ شِهَابُ
الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحْيِي الدِّينِ يَحْيَى بْنِ تَاجِ
الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ طَاهِرِ بْنِ نَصْرِ اللَّهِ بْنِ جَهْبَلٍ
الْحَلَبِيُّ الْأَصْلِ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ الشَّافِعِيُّ، كَانَ مِنْ أَعْيَانِ
الْفُقَهَاءِ، وُلِدَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ،
وَلَزِمَ الْمَشَايِخَ، وَلَازَمَ الشَّيْخَ الصَّدْرَ بْنَ الْوَكِيلِ، وَدَرَّسَ
بِالصَّلَاحِيَّةِ بِالْقُدْسِ، ثُمَّ تَرَكَهَا وَتَحَوَّلَ إِلَى دِمَشْقَ،
فَبَاشَرَ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ الظَّاهِرِيَّةِ مُدَّةً، ثُمَّ وَلِيَ
مَشْيَخَةَ الْبَادَرَائِيَّةِ فَتَرَكَ الظَّاهِرِيَّةَ وَأَقَامَ فِي تَدْرِيسِ
الْبَادَرَائِيَّةِ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَعْلُومًا مِنْ وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ بَعْدَ الْعَصْرِ تَاسِعَ جُمَادَى
الْآخِرَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ،
وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً.
تَاجُ الدِّينِ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَيُّوبَ، مُغَسِّلُ الْمَوْتَى فِي سَنَةِ سِتِّينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، يُقَالُ: إِنَّهُ غَسَّلَ سِتِّينَ أَلْفِ مَيِّتٍ، وَتُوُفِّيَ
فِي رَجَبٍ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
الشَّيْخُ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الْعَظِيمِ بْنِ السَّقَطِيِّ الشَّافِعِيُّ، كَانَ مُبَاشِرًا شَهَادَةَ
الْخِزَانَةِ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ بَابِ النَّصْرِ بِمِصْرَ، وَجَمَعَ
مَنْسَكًا كَبِيرًا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ شَرَحَ " التَّنْبِيهَ "
أَيْضًا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ.
الْإِمَامُ الْفَاضِلُ مَجْمُوعُ الْفَضَائِلِ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبِكْرِيُّ، نِسْبَةً إِلَى أَبِي بَكْرٍ
الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ لَطِيفَ الْمَعَانِي، نَاسِخًا
مُطْبِقًا، يَكْتُبُ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَ كَرَارِيسَ، وَكَتَبَ " الْبُخَارِيَّ
" ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ، وَيُقَابِلُهُ، وَيُجَلِّدُهُ، وَيَبِيعُ النُّسْخَةَ
مِنْ ذَلِكَ بِأَلْفٍ وَنَحْوِهُ، وَقَدْ جَمَعَ تَارِيخًا فِي ثَلَاثِينَ
مُجَلَّدًا، وَكَانَ يَنْسَخُهُ وَيَبِيعُهُ أَيْضًا بِأَزْيَدَ مِنْ أَلْفٍ،
وَذُكِرَ أَنَّ لَهُ كِتَابًا سَمَّاهُ " مُنْتَهَى الْأَرَبِ فِي عِلْمِ
الْأَدَبِ " فِي ثَلَاثِينَ مُجَلَّدًا أَيْضًا، وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ
نَادِرًا فِي وَقْتِهِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِشْرِينَ رَمَضَانَ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ،
الْعَابِدُ الزَّاهِدُ النَّاسِكُ، الْكَثِيرُ الْحَجِّ، عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ
بْنِ أَحْمَدَ الْوَاسِطِيُّ، الْمَشْهُورُ بِالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، وَكَثْرَةِ
الْعِبَادَةِ وَالتِّلَاوَةِ وَالْحَجِّ، يُقَالُ: إِنَّهُ حَجَّ أَزْيَدَ مِنْ
أَرْبَعِينَ حِجَّةً، وَكَانَتْ عَلَيْهِ مَهَابَةٌ، وَلَدَيْهِ فَضِيلَةٌ،
تُوُفِّيَ وَهُوَ مُحْرِمٌ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ثَامِنَ عِشْرِينَ ذِي
الْقِعْدَةِ وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَوَّاسِ، كَانَ مُبَاشِرًا الشَّدَّ فِي بَعْضِ الْجِهَاتِ
السُّلْطَانِيَّةِ، وَلَهُ دَارٌ حَسَنَةٌ بِالْعُقَيْبَةِ الصَّغِيرَةِ، فَلَمَّا
جَاءَتِ الْوَفَاةُ أَوْصَى أَنْ تُجْعَلَ مَدْرَسَةً، وَوَقَفَ عَلَيْهَا
أَوْقَافًا، وَجَعَلَ تَدْرِيسَهَا لِلشَّيْخِ عِمَادِ الدِّينِ الْكُرْدِيِّ
الشَّافِعِيِّ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ عِشْرِينَ ذِي الْحِجَّةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ بِيَوْمِ الْأَحَدِ، وَحُكَّامُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي
الَّتِي قَبْلَهَا. وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَانِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أُقِيمَتِ
الْجُمْعَةُ بِالْخَاتُونِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَخَطَبَ بِهَا شَمْسُ الدِّينِ
النَّجَّارُ الْمُؤَذِّنُ الْمُؤَقَّتُ بِالْأُمَوِيِّ، وَتَرَكَ خَطَابَةَ
جَامِعِ الْقَابُونِ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ هَذَا الشَّهْرِ سَافَرَ الْأَمِيرُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ
التَّدْمُرِيُّ إِلَى الْقُدْسِ حَاكِمًا بِهِ، وَعُزِلَ عَنْ نِيَابَةِ الْحُكْمِ
بِدِمَشْقَ. وَفِي ثَالِثِهِ قَدِمَ مِنْ مِصْرَ زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ
الرَّحِيمِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرِ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ بِخَطَابَةِ
الْقُدْسِ، فَخُلِعَ عَلَيْهِ مِنْ دِمَشْقَ، ثُمَّ سَافَرَ إِلَيْهَا.
وَفِي آخِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَاشَرَ الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ
بُكْتَاشَ الْحُسَامِيُّ شَدَّ الْأَوْقَافِ، عِوَضًا عَنْ شَرَفِ الدِّينِ
مَحْمُودِ بْنِ الْخَطِيرِيِّ، سَافَرَ بِأَهْلِهِ إِلَى مِصْرَ أَمِيرًا بِهَا
عِنْدَ أَخِيهِ بَدْرِ الدِّينِ مَسْعُودٍ، وَعُزِلَ الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ
بْنُ الْقَلَانِسِيِّ، وَسَائِرُ الدَّوَاوِينِ وَالْمُبَاشِرِينَ الَّذِينَ فِي
بَابِ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ تَنْكِزَ، وَصُودِرُوا بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ،
وَاسْتُدْعِيَ مِنْ غَزَّةَ نَاظِرُهَا جَمَالُ الدِّينِ يُوسُفُ صِهْرُ
السُّنِّيِّ الْمُسْتَوْفِي، فَبَاشَرَ نَظَرَ دِيوَانِ النَّائِبِ، وَنَظَرَ
الْمَارَسْتَانِ النُّورِيِّ أَيْضًا عَلَى الْعَادَةِ.
وَفِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
أَمَرَ تَنْكِزُ بِإِصْلَاحِ بَابِ تُومَا، فَشُرِعَ فِيهِ فَرُفِعَ بَابُهُ
عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَجُدِّدَتْ حِجَارَتُهُ وَحَدِيدُهُ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ.
وَفِي هَذَا الْوَقْتِ حَصَلَ بِدِمَشْقَ سَيْلٌ خَرَّبَ بَعْضَ الْجُدْرَانِ
ثُمَّ تَنَاقَصَ. وَفِي أَوَائِلِ رَبِيعٍ الْآخِرِ قَدِمَ مِنْ مِصْرَ جَمَالُ
الدِّينِ آقُّوشُ نَائِبُ الْكَرَكِ مُجْتَازًا إِلَى طَرَابُلُسَ نَائِبًا،
عِوَضًا عَنِ الْأَمِيرِ شِهَابِ الدِّينِ قَرَطَايَ، تُوُفِّيَ إِلَى رَحْمَةِ
اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى طُلِبَ الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ بْنُ الْمَجْدِ
عَبْدِ اللَّهِ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، فَوَلِيَ وِكَالَةَ بَيْتِ الْمَالِ
عِوَضًا عَنِ ابْنِ الْقَلَانِسِيِّ، وَوَصَلَ تَقْلِيدُهُ مِنْ مِصْرَ بِذَلِكَ،
وَهَنَّأَهُ النَّاسُ. وَفِيهِ طُلِبَ الْأَمِيرُ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ
الزَّيْبَقِ مِنْ وِلَايَةِ نَابُلُسَ، فَوَلِيَ شَدَّ الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ،
وَقَدْ شَغَرَ مَنْصِبُهُ شُهُورًا بَعْدَ ابْنِ الْخَشَّابِ.
وَفِي رَمَضَانَ خَطَبَ الشَّيْخُ بَدْرُ الدِّينِ أَبُو الْيُسْرِ بْنُ
الصَّائِغِ بِالْقُدْسِ عِوَضًا عَنْ زَيْنِ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ ;
لِإِعْرَاضِهِ عَنْهَا، وَاخْتِيَارِهِ الْعَوْدَ إِلَى بَلَدِهِ.
قَضِيَّةُ الْقَاضِي ابْنِ جُمْلَةَ
لَمَّا كَانَ فِي الْعَشْرِ الْأُخَرِ مِنْ رَمَضَانَ وَقَعَ بَيْنَ الْقَاضِي
ابْنِ جُمْلَةَ وَبَيْنَ الشَّيْخِ الظَّهِيرِ شَيْخِ مَلَكِ الْأُمَرَاءِ -
وَكَانَ هُوَ السَّفِيرُ فِي تَوْلِيَةِ ابْنِ جُمْلَةَ الْقَضَاءَ - فَوَقَعَ
بَيْنَهُمَا مُنَافَسَةٌ
وَمُحَاقَقَةٌ فِي أُمُورٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّوَدَارِ الْمُتَقَدِّمِ
ذِكْرُهُ نَاصِرِ الدِّينِ، فَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى خِلَافِ مَا
حَلَفَ الْآخَرُ عَلَيْهِ، وَتَفَاصَلَا مِنْ دَارِ السَّعَادَةِ فِي الْمَسْجِدِ،
فَلَمَّا رَجَعَ الْقَاضِي إِلَى مَنْزِلِهِ بِالْعَادِلِيَّةِ أَرْسَلَ إِلَى
الشَّيْخِ الظَّهِيرِ لِيَحْكُمَ فِيهِ بِمَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَذَلِكَ عَنْ
مَرْسُومِ النَّائِبِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ خَدِيعَةً فِي الْبَاطِنِ وَإِظْهَارًا
لِنُصْرَةِ الْقَاضِي عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ، فَبَدَرَ بِهِ الْقَاضِي بَادِيَ
الرَّأْيِ فَعَزَّرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَتَسَلَّمَهُ
أَعْوَانُ ابْنِ جُمْلَةَ، فَطَافُوا بِهِ الْبَلَدَ عَلَى حِمَارٍ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ عِشْرِينَ رَمَضَانَ، وَضَرَبُوهُ ضَرْبًا عَنِيفًا،
وَنَادَوْا عَلَيْهِ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ يَكْذِبُ وَيَفْتَاتُ عَلَى الشَّرْعِ،
فَتَأَلَّمَ النَّاسُ لَهُ; لِكَوْنِهِ فِي الصِّيَامِ وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ
مِنْ رَمَضَانَ، وَيَوْمِ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ صَائِمٌ،
فَيُقَالُ: إِنَّهُ ضُرِبَ يَوْمَئِذٍ أَلْفَيْنِ وَمِائَةً وَإِحْدَى وَسَبْعِينَ
دِرَّةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَمَا أَمْسَى حَتَّى اسْتُفْتِيَ عَلَى الْقَاضِي الْمَذْكُورِ وَدَارُوا عَلَى
الْمَشَايِخِ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَنْ مَرْسُومِ النَّائِبِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
تَاسِعِ عِشْرِينَ رَمَضَانَ عَقَدَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ
بِدَارِ السَّعَادَةِ مَجْلِسًا حَافِلًا بِالْقُضَاةِ وَأَعْيَانِ الْمُفْتِينَ
مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ، وَأُحْضِرَ ابْنُ جُمْلَةَ قَاضِي الْقُضَاةِ
الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَجْلِسُ قَدِ احْتَفَلَ بِأَهْلِهِ، وَلَمْ يَأْذَنُوا
لِابْنِ جُمْلَةَ فِي الْجُلُوسِ، بَلْ قَامَ قَائِمًا ثُمَّ أُجْلِسَ بَعْدَ
سَاعَةٍ فِي طَرَفِ الْحَلَقَةِ إِلَى جَانِبِ الْمِحَفَّةِ الَّتِي فِيهَا
الشَّيْخُ الظَّهِيرُ، وَادَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ بَقِيَّةِ الْقُضَاةِ أَنَّهُ
حَكَمَ فِيهِ لِنَفْسِهِ، وَاعْتَدَى عَلَيْهِ فِي الْعُقُوبَةِ، وَأَفَاضَ
الْحَاضِرُونَ فِي ذَلِكَ، وَانْتَشَرَ
الْكَلَامُ، وَفَهِمُوا
مِنْ نَفْسِ النَّائِبِ الْحَطَّ عَلَى ابْنِ جُمْلَةَ، وَالْمِيلَ عَنْهُ بَعْدَ
أَنْ كَانَ إِلَيْهِ، فَمَا انْفَصَلَ الْمَجْلِسُ حَتَّى حَكَمَ الْقَاضِي شَرَفُ
الدِّينِ الْمَالِكِيُّ بِفِسْقِهِ وَعَزْلِهِ وَسَجْنِهِ، فَانْفَضَّ الْمَجْلِسُ
عَلَى ذَلِكَ، وَرُسِمَ عَلَى ابْنِ جُمْلَةَ بِالْعَذْرَاوِيَّةِ، ثُمَّ نُقِلَ
إِلَى الْقَلْعَةِ جَزَاءً وِفَاقًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَكَانَ لَهُ
فِي الْقَضَاءِ سَنَةٌ وَنِصْفٌ إِلَّا أَيَّامًا، وَكَانَ يُبَاشِرُ الْأَحْكَامَ
جَيِّدًا، وَكَذَا الْأَوْقَافَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ، وَفِيهِ نَزَاهَةٌ
وَتَمْيِيزُ الْأَوْقَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَفِيهِ صَرَامَةٌ
وَشَهَامَةٌ وَإِقْدَامٌ، لَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَتَعَدَّى
فِيهَا، فَآلَ أَمْرُهُ إِلَى هَذَا.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ عَاشِرَ شَوَّالٍ، وَأَمِيرُهْ
أُلْجَيْبُغَا، وَقَاضِيهِ مَجْدُ الدِّينِ بْنُ حَيَّانَ الْمِصْرِيُّ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ دَرَّسَ بِالْإِقْبَالِيَّةِ
الْحَنَفِيَّةِ نَجْمُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ عِمَادِ الدِّينِ
الطَّرَسُوسِيُّ الْحَنَفِيِّ عِوَضًا عَنْ شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ
عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَصْبَهَانِيِّ بْنِ الْعَجَمِيِّ الْحَبَطِيِّ،
وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْحَنْبَلِيِّ، وَكَانَ فَاضِلًا دَيِّنًا مُتَقَشِّفًا،
كَثِيرَ الْوَسْوَسَةِ فِي الْمَاءِ جِدًّا، وَأَمَّا الْمُدَرِّسُ مَكَانَهُ
وَهُوَ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ الْحَنَفِيِّ، فَإِنَّهُ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ
سَنَةً، وَهُوَ فِي النَّبَاهَةِ، وَالْفَهْمِ، وَحُسْنِ الِاشْتِغَالِ،
وَالشَّكْلِ، وَالْوَقَارِ، بِحَيْثُ غَبَطَ الْحَاضِرُونَ كُلُّهُمْ أَبَاهُ
عَلَى ذَلِكَ; وَلِهَذَا آلَ أَمْرُهُ أَنْ تَوَلَّى قَضَاءَ الْقُضَاةِ فِي
حَيَاةِ أَبِيهِ، نَزَلَ لَهُ عَنْهُ، وَحُمِدَتْ سِيرَتُهُ وَأَحْكَامُهُ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أُثْبِتَ مَحْضَرٌ فِي حَقِّ الصَّاحِبِ شَمْسِ الدِّينِ
غِبْرِيَالَ الْمُتَوَفَّى هَذِهِ السَّنَةَ - أَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِي أَمْلَاكًا
مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَيُوقِفُهَا، وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ
الْمُلَّاكِ لِنَفْسِهِ،
وَشَهِدَ بِذَلِكَ كَمَالُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ أَخِيهِ عِمَادُ
الدِّينِ، وَعَلَاءُ الدِّينِ الْقَلَانِسِيُّ، وَابْنُ خَالِهِ عِمَادُ الدِّينِ
الْقَلَانِسِيُّ، وَعِزُّ الدِّينِ بْنُ الْمُنَجَّا، وَتَقِيُّ الدِّينِ بْنُ
مَرَاجِلٍ، وَجَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْفُوَيْرِهِ، وَأُثْبِتَ عَلَى الْقَاضِي
بُرْهَانِ الدِّينِ الزُّرَعِيِّ الْحَنْبَلِيِّ، وَنَفَّذَهُ بَقِيَّةُ
الْقُضَاةِ، وَامْتَنَعَ الْمُحْتَسِبُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ مِنَ
الشَّهَادَةِ، فَرُسِمَ عَلَيْهِ بِالْعَذْرَاوِيَّةِ قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، ثُمَّ
أُفْرِجَ عَنْهُ، وَعُزِلَ عَنِ الْحِسْبَةِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى نَظَرِ
الْخِزَانَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ ثَامِنِ عِشْرِينَ ذِي الْقِعْدَةِ حُمِلَتْ خِلْعَةُ
الْقَضَاءِ إِلَى الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ بْنِ الْمَجْدِ وَكِيلِ بَيْتِ
الْمَالِ يَوْمَئِذٍ، فَلَبِسَهَا، وَرَكِبَ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، وَقُرِئَ
تَقْلِيدُهُ بِحَضْرَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ وَالْقُضَاةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى
مَدْرَسَتِهِ الْإِقْبَالِيَّةِ، فَقُرِئَ بِهَا أَيْضًا، وَحَكَمَ بَيْنَ
خَصْمَيْنِ، وَكَتَبَ عَلَى أَوْرَاقِ السَّائِلِينَ، وَدَرَّسَ
بِالْعَادِلِيَّةِ، وَالْغَزَّالِيَّةِ، وَالْأَتَابِكِيَّةِ، مَعَ تَدْرِيسِ
الْإِقْبَالِيَّةِ، وَذَلِكَ عِوَضًا عَنِ ابْنِ جُمْلَةَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ رَابِعِ الْحِجَّةِ حَضَرَ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ
مُهَنَّا بْنُ عِيسَى، وَفِي صُحْبَتِهِ صَاحِبُ حَمَاةَ الْأَفْضَلُ بْنُ
الْمُؤَيَّدِ، فَتَلَقَّاهُمَا تَنْكِزُ وَأَكْرَمَهُمَا، وَصَلَّيَا الْجُمُعَةَ
عِنْدَ النَّائِبِ، ثُمَّ تَوَجَّهَا إِلَى مِصْرَ، فَتَلَقَّاهُمَا أَعْيَانُ
الْأُمَرَاءِ، وَأَكْرَمَ السُّلْطَانُ مُهَنَّا بْنَ عِيسَى، وَأَطْلَقَ لَهُ
أَمْوَالًا جَزِيلَةً كَثِيرَةً مِنَ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْقُمَاشِ،
وَأَقْطَعُهُ عِدَّةَ قُرَى، وَرَسَمَ لَهُ بِالْعَوْدِ إِلَى أَهْلِهِ، فَفَرِحَ
النَّاسُ بِذَلِكَ. قَالُوا: وَكَانَ
جَمِيعُ مَا أَنْعَمَ
عَلَيْهِ السُّلْطَانُ بِهِ قِيمَةَ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ
وَعَلَى أَصْحَابِهِ مِائَةٌ وَسَبْعُونَ خِلْعَةً.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ سَادِسِ الْحِجَّةِ حَضَرَ دَرْسَ الرَّوَاحِيَّةِ
الْفَخْرُ الْمِصْرِيُّ عِوَضًا عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنِ الْمَجْدِ، وَحَضَرَ
عِنْدَهُ الْقُضَاةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَعْيَانُ الْفُضَلَاءِ.
وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ خُلِعَ عَلَى نَجْمِ الدِّينِ بْنِ أَبِي الطَّيِّبِ
بِوَكَالَةِ بَيْتِ الْمَالِ، عِوَضًا عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنِ الْمَجْدِ،
وَعَلَى الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ مُنَجَّا بِنَظَرِ الْجَامِعِ، وَعَلَى
عِمَادِ الدِّينِ بْنِ الشِّيرَازِيِّ بِالْحِسْبَةِ عِوَضًا عَنْ عِزِّ الدِّينِ
بْنِ الْقَلَانِسِيِّ، وَخَرَجَ الثَّلَاثَةُ مِنْ دَارِ السَّعَادَةِ
بِالطَّرَحَاتِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الْأَجَلُّ التَّاجِرُ الصَّدُوقُ بَدْرُ الدِّينِ لُؤْلُؤُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ، عَتِيقُ النَّقِيبِ شُجَاعِ الدِّينِ إِدْرِيسَ، وَكَانَ رَجُلًا حَسَنًا
يَتَّجِرُ فِي الْجَوْخِ، مَاتَ فَجْأَةً عَصْرَ يَوْمِ الْخَمِيسِ خَامِسَ
الْمُحَرَّمِ، وَخَلَّفَ أَوْلَادًا وَثَرْوَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ،
وَلَهُ بِرٌّ وَصَدَقَةٌ وَمَعْرُوفٌ، وَسَبَّعَ بِمَسْجِدِ ابْنِ هِشَامٍ.
الصَّدْرُ أَمِينُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ فَخْرِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ أَبِي
الْعَيْشِ الْأَنْصَارِيُّ الدِّمَشْقِيُّ،
بَانِي الْمَسْجِدِ
الْمَشْهُورِ بِهِ بِالرَّبْوَةِ، عَلَى حَافَّةِ بَرَدَى، وَالطَّهَارَةِ
الْحِجَارَةِ إِلَى جَانِبِهِ، وَالسُّوقِ الَّذِي هُنَاكَ، وَلَهُ بِجَامِعِ
النَّيْرَبِ مِيعَادٌ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ،
وَسَمِعَ " الْبُخَارِيَّ "، وَحَدَّثَ بِهِ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ
التُّجَّارِ ذَوِي الْيَسَارِ، تُوُفِّيَ بُكْرَةَ الْجُمُعَةِ سَادِسَ
الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِقَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْخَطِيبُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ عِمَادُ الدِّينِ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ
الْخَطِيبِ ظَهِيِرُ الدِّينِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ يَحْيَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْقُرَشِيُّ
الزُهْرِيُّ النَّابُلُسِيُّ، خَطِيبُ الْقُدْسِ، وَقَاضِي نَابُلُسَ مُدَّةً
طَوِيلَةً، ثُمَّ جُمِعَ لَهُ بَيْنَ خَطَابَةِ الْقُدْسِ وَقَضَائِهَا، وَلَهُ
اشْتِغَالٌ، وَفِيهِ فَضِيلَةٌ، وَشَرَحَ " صَحِيحَ مُسْلِمٍ " فِي
مُجَلَّدَاتٍ، وَكَانَ سَرِيعَ الْحِفْظِ، سَرِيعَ الْكِتَابَةِ، تُوُفِّيَ
لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ عَاشِرَ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ بِمَامِلَّا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الصَّدْرُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادٍ، التَّاجِرُ
بِقَيْسَارِيَّةَ الشُّرْبِ، كَتَبَ الْمَنْسُوبَ، وَانْتَفَعَ بِهِ النَّاسُ،
وَوَلِيَ سَمْسَرَةَ التُّجَّارِ; لِأَمَانَتِهِ، وَدِيَانَتِهِ، وَكَانَتْ لَهُ
مَعْرِفَةٌ وَمُطَالَعَةٌ فِي الْكُتُبِ، تُوُفِّيَ تَاسِعَ صَفَرٍ عَنْ نَحْوِ
سِتِّينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
جَمَالُ الدِّينِ قَاضِي
الْقُضَاةِ الزُّرَعِيُّ، هُوَ أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ ابْنُ الْخَطِيبِ
مَجْدِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ سَالِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ الْأَذْرَعِيُّ
الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِأَذْرِعَاتٍ،
وَاشْتَغَلَ بِدِمَشْقَ فَحَصَّلَ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ بِزُرَعَ مُدَّةً،
فَعُرِفَ بِالزُّرَعِيِّ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَذْرِعَاتٍ، وَأَصْلُهُ
مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ نَابَ بِدِمَشْقَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مِصْرَ،
فَنَابَ فِي الْحُكْمِ بِهَا، ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ بِهَا
نَحْوًا مِنْ سَنَةٍ، ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ الشَّامِ مُدَّةً مَعَ مَشْيَخَةِ
الشُّيُوخِ نَحْوًا مِنْ سَنَةٍ أَيْضًا، ثُمَّ عُزِلَ وَبَقِيَ عَلَى مَشْيَخَةِ
الشُّيُوخِ مَعَ تَدْرِيسِ الْأَتَابِكِيَّةِ مُدَّةً، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى
مِصْرَ فَوَلِيَ بِهَا التَّدْرِيسَ وَقَضَاءَ الْعَسْكَرِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ بِهَا
يَوْمَ الْأَحَدِ سَادِسَ صَفَرٍ، وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَقَدْ خَرَّجَ لَهُ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ مَشْيَخَةً،
سَمَّعْنَاهَا عَلَيْهِ وَهُوَ بِدِمَشْقَ عَنِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَيْخًا.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الزَّاهِدُ زَيْنُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ عُبَيْدَانَ الْبَعْلَبَكِّيُّ
الْحَنْبَلِيُّ، أَحَدُ فُضَلَاءِ الْحَنَابِلَةِ، وَمَنْ صَنَّفَ فِي الْحَدِيثِ،
وَالْفِقْهِ، وَالتَّصَوُّفِ، وَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَانَ
فَاضِلًا لَهُ أَعْمَالٌ كَثِيرَةٌ،
وَقَدْ وَقَعَتْ لَهُ
كَائِنَةٌ فِي أَيَّامِ الظَّاهِرِ، أَنَّهُ أُصِيبَ فِي عَقْلِهِ أَوْ زَوَالِ
فِكْرِهِ، أَوْ قَدْ عَمِلَ عَلَى الرِّيَاضَةِ فَاحْتَرَقَ بَاطِنُهُ مِنَ
الْجُوعِ، فَرَأَى خَيَالَاتٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، فَاعْتَقَدَ أَنَّهَا أَمْرٌ
خَارِجِيٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ خَيَالٌ فِكْرِيٌّ فَاسِدٌ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
نِصْفِ صَفَرٍ بِبَعْلَبَكَّ، وَدُفِنَ بِبَابِ سَطْحَا، وَلَمْ يُكْمِلِ
السِّتِّينَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِدِمَشْقَ صَلَاةُ الْغَائِبِ، وَعَلَى
الْقَاضِي الزُّرَعِيِّ مَعًا.
الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ قَرَطَايُ، نَائِبُ طَرَابُلُسَ، لَهُ أَوْقَافٌ
وَصَدَقَاتٌ، وَبِرٌّ، وَصِلَاتٌ، تُوُفِّيَ بِطَرَابُلُسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
ثَامِنَ عَشَرَ صَفَرٍ، وَدُفِنَ هُنَاكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْعِرْدِيُّ
الْمُؤَقِّتُ، كَانَ فَاضِلًا فِي صِنَاعَةِ الْمِيقَاتِ وَعِلْمِ
الْأَصْطُرْلَابِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ، بَارِعًا فِي ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا
يُنْتَفَعُ بِهِ; لِسُوءِ أَخْلَاقِهِ وَشَرَاسَتِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ ضَعُفَ
بَصَرُهُ، فَسَقَطَ مِنْ قَيْسَارِيَّةَ بِحِسْيٍ، فَمَاتَ عَشِيَّةَ السَّبْتِ
عَاشِرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ.
الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ بَلَبَانُ طُرْنَا بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّاصِرِيِّ، كَانَ مِنَ
الْمُقَدَّمِينَ بِدِمَشْقَ، وَجَرَتْ لَهُ فُصُولٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، ثُمَّ
تُوُفِّيَ بِدَارِهِ عِنْدَ مِئْذَنَةِ فَيْرُوزٍ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ حَادِيَ
عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةٍ اتَّخَذَهَا إِلَى جَانِبِ
دَارِهِ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا مُقْرِئِينَ، وَرَتَّبَ عِنْدَهَا مَسْجِدًا
بِإِمَامٍ وَمُؤَذِّنٍ.
شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قَاضِي حَرَّانَ،
نَاظِرُ الْأَوْقَافِ بِدِمَشْقَ، مَاتَ اللَّيْلَةَ الَّتِي مَاتَ فِيهَا الَّذِي
قَبْلَهُ، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ، وَتَوَلَّى مَكَانَهُ عِمَادُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ ذُو الْفُنُونِ تَاجُ الدِّينِ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اللَّخْمِيُّ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ،
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْفَاكِهَانِيِّ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ بِالْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ
الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَبَرَعَ، وَتَقَدَّمَ فِي مَعْرِفَةِ النَّحْوِ وَغَيْرِهِ،
وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي أَشْيَاءَ مُتَفَرِّقَةٍ، قَدِمَ دِمَشْقَ فِي سَنَةِ
إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ فِي أَيَّامِ الْأَخْنَائِيِّ، فَأَنْزَلَهُ
بِالْعَادِلِيَّةِ، وَسَمَّعْنَا
عَلَيْهِ وَمَعَهُ،
وَحَجَّ مِنْ دِمَشْقَ عَامَئِذٍ، وَسُمِّعَ عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقِ، وَرَجَعَ
إِلَى بِلَادِهِ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ سَابِعَ جُمَادَى الْأُولَى،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِدِمَشْقَ حِينَ بَلَغَهُمْ خَبَرُ مَوْتِهِ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ أَمِينُ الدِّينِ أَيْمَنُ بْنُ
مُحَمَّدٍ، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّ اسْمَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
مُحَمَّدٍ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ نَفَسًا، كُلُّهُمُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَقَدْ
جَاوَرَ بِالْمَدِينَةِ مُدَّةَ سِنِينَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ
ثَامِنَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
بِدِمَشْقَ صَلَاةُ الْغَائِبِ.
الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ الْقِبَابِيُّ الْحَمَوِيُّ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى اللَّخْمِيُّ - الْقِبَابُ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى أُشْمُونِ
الرُّمَّانِ - أَقَامَ بِحَمَاةَ فِي زَاوِيَةٍ يُزَارُ وَيُلْتَمَسُ دُعَاؤُهُ،
كَانَ عَابِدًا وَرِعًا زَاهِدًا، أَمَّارًا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَّاءً عَنِ الْمُنْكَرِ،
حَسَنَ الطَّرِيقَةِ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ بِهَا آخِرَ نَهَارِ الِاثْنَيْنِ
رَابِعَ عَشَرَ رَجَبٍ عَنْ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ
حَافِلَةً هَائِلَةً جِدًّا، وَدُفِنَ شَمَالِيَّ حَمَاةَ، كَانَ عِنْدَهُ
فَضِيلَةٌ، وَاشْتَغَلَ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَلَهُ
كَلَامٌ حَسَنٌ يُؤْثَرُ عَنْهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ فَتْحُ الدِّينِ بْنُ سَيِّدِ النَّاسِ، الْحَافِظُ الْعَلَّامَةُ الْبَارِعُ فَتْحُ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدٌ ابْنُ الْإِمَامِ أَبِي عَمْرٍو مُحَمَّدٍ ابْنِ الْإِمَامِ الْحَافِظِ الْخَطِيبِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ الرَّبَعِيُّ الْيَعْمُرِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الْإِشْبِيلِيُّ ثُمَّ الْمِصْرِيُّ، وُلِدَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِالْقَاهِرَةِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَأَجَازَ لَهُ الرِّوَايَةَ عَنْهُمْ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَدَخَلَ دِمَشْقَ سَنَةَ تِسْعِينَ، وَسَمِعَ مِنْ أَصْحَابِ الْكِنْدِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ، فَبَرَعَ وَسَادَ أَقْرَانَهُ فِي عُلُومٍ شَتَّى مِنَ الْحَدِيثِ، وَالْفِقْهِ، وَالنَّحْوِ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ، وَعِلْمِ السِّيَرِ، وَالتَّوَارِيخِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفُنُونِ، وَقَدْ جَمَعَ سِيرَةً حَسَنَةً فِي مُجَلَّدَيْنِ، وَشَرَحَ قِطْعَةً صَالِحَةً مِنْ أَوَّلِ " جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ " رَأَيْتُ مِنْهَا مُجَلَّدًا بِخَطِّهِ الْحَسَنِ، وَقَدْ حُرِّرَ وَحُبِّرَ، وَأَفَادَ وَأَجَادَ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْ بَعْضِ الِانْتِقَادِ، وَلَهُ الشِّعْرُ الرَّائِقُ الْفَائِقُ، وَالنَّثْرُ الْمُوَافِقُ، وَالْبَلَاغَةُ التَّامَّةُ، وَحُسْنُ التَّرْصِيفِ وَالتَّصْنِيفِ، وَجَوْدَةُ الْبَدِيهَةِ، وَحُسْنُ
الطَّوِيَّةِ، وَلَهُ
الْعَقِيدَةُ السَّلَفِيَّةُ الْمَوْضُوعَةُ عَلَى الْآيِ وَالْأَخْبَارِ
وَالْآثَارِ، وَالِاقْتِفَاءِ بِالْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ، وَيُذْكَرُ عَنْهُ
سُوءُ أَدَبٍ فِي أَشْيَاءَ أُخَرَ، اللَّهُ يَتَوَلَّاهُ فِيهَا، وَلَهُ
مَدَائِحُ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِسَانٌ،
وَكَانَ شَيْخَ الْحَدِيثِ بِالظَّاهِرِيَّةِ بِمِصْرَ، وَخَطِيبَ جَامِعِ
الْخَنْدَقِ، وَلَمْ يَكُنْ بِمِصْرَ فِي مَجْمُوعِهِ مِثْلُهُ فِي حِفْظِ
الْأَسَانِيدِ، وَالْمُتُونِ، وَالْعِلَلِ، وَالْفِقْهِ، وَالْمُلَحِ،
وَالْأَشْعَارِ، وَالْحِكَايَاتِ، تُوُفِّيَ فَجْأَةً يَوْمَ السَّبْتِ حَادِيَ
عَشَرَ شَعْبَانَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ
حَافِلَةً، وَدُفِنَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَمْزَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَجَعَلَ
الْجَنَّةَ مَثْوَاهُ.
الْقَاضِي مَجْدُ الدِّينِ حَرَمِيُّ بْنُ قَاسِمِ بْنِ يُوسُفَ الْعَامِرِيُّ
الْفَاقُوسِيُّ الشَّافِعِيُّ، وَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ، وَمُدَرِّسُ
الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، كَانَتْ لَهُ هِمَّةٌ وَنَهْضَةٌ، وَعَلَتْ سِنُّهُ
وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَحْفَظُ وَيَشْتَغِلُ، وَيُلْقِي الدُّرُوسَ مِنْ حِفْظِهِ
إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ ثَانِيَ ذِي الْحِجَّةِ، وَوَلِيَ تَدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ
بَعْدَهُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْقَمَّاحِ، وَالْمَدْرَسَةِ الْقُطْبِيَّةِ
بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ عَقِيلٍ، وَوَلِيَ الْوِكَالَةَ نَجْمُ الدِّينِ
الْإِسْعِرْدِيُّ الْمُحْتَسِبُ، وَهُوَ كَانَ وَكِيلَ بَيْتِ الظَّاهِرِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَحُكَّامُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا،
وَنَاظِرُ الْجَامِعِ عِزُّ الدِّينِ بْنُ الْمُنَجَّا، وَالْمُحْتَسِبُ عِمَادُ
الدِّينِ بْنُ الشِّيرَازِيِّ، وَغَيْرُهُمْ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ يَوْمَ الْخَمِيسِ حَضَرَ الدَّرْسَ بِأُمِّ
الصَّالِحِ الشَّيْخُ الصَّالِحُ شَمْسُ الدِّينِ ابْنُ خَطِيبِ يَبْرُودَ عِوَضًا
عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ شِهَابِ الدِّينِ بْنِ الْمَجْدِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ
الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ.
وَفِي سَادِسِ الْمُحَرَّمِ رَجَعَ مُهَنَّا بْنُ عِيسَى مِنْ عِنْدِ
السُّلْطَانِ، فَتَلَقَّاهُ النَّائِبُ وَالْجَيْشُ، وَعَادَ إِلَى أَهْلِهِ فِي
عِزٍّ وَعَافِيَةٍ.
وَفِيهِ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِعِمَارَةِ جَامِعِ الْقَلْعَةِ وَتَوْسِيعِهِ،
وَعِمَارَةِ جَامِعِ مِصْرَ الْعَتِيقِ.
وَقَدِمَ إِلَى دِمَشْقَ الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَمَالِ
الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عِمَادِ الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ تَاجِ الدِّينِ بْنِ
الْأَثِيرِ كَاتِبَ سِرٍّ بِهَا، عِوَضًا عَنْ شَرَفِ بْنِ الشِّهَابِ مَحْمُودٍ.
وَوَقَعَ فِي هَذَا الشَّهْرِ وَالَّذِي بَعْدَهُ مَوْتٌ كَثِيرٌ فِي
النَّاسِ بِالْخَانُوقِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مُسِكَ الْأَمِيرُ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ الزَّيْبَقِ
مُشِدُّ الدَّوَاوِينِ، وَصُودِرَ، وَبِيعَتْ خُيُولُهُ وَحَوَاصِلُهُ،
وَتَوَلَّاهُ بَعْدَهُ سَيْفُ الدِّينِ تَمُرٌ مَمْلُوكُ بَكْتَمُرَ الْحَاجِبِ،
وَهُوَ مُشِدُّ الزَّكَاةِ.
وَفِيهِ كَمَلَتْ عِمَارَةُ حَمَّامِ الْأَمِيرِ شَمْسِ الدِّينِ حَمْزَةَ الَّذِي
كَانَ قَدْ تَمَكَّنَ عِنْدَ تَنْكِزَ بَعْدَ نَاصِرِ الدِّينِ الدَّوَادَارِ،
ثُمَّ وَقَعَتِ الشَّنَاعَةُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ظُلْمِهِ فِي عِمَارَةِ هَذَا
الْحَمَّامِ، فَقَابَلَهُ النَّائِبُ عَلَى ذَلِكَ، وَانْتَصَفَ لِلنَّاسِ مِنْهُ،
وَضَرَبَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرَمَاهُ بِالْبُنْدُقِ بِيَدِهِ فِي وَجْهِهِ
وَسَائِرِ جَسَدِهِ، ثُمَّ أَوْدَعَهُ الْقَلْعَةَ، ثُمَّ نَقَلَهُ إِلَى بُحَيْرَةِ
طَبَرِيَّةَ فَغَرَّقَهُ فِيهَا.
وَعُزِلَ الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ نَائِبُ الْكَرَكِ عَنْ نِيَابَةِ
طَرَابُلُسَ حَسَبَ سُؤَالِهِ فِي ذَلِكَ، وَرَاحَ إِلَيْهَا طَيْنَالُ، وَقَدِمَ
نَائِبُ الْكَرَكِ إِلَى دِمَشْقَ، وَقَدْ رُسِمَ لَهُ بِالْإِقَامَةِ فِي
صَرْخَدَ، فَلَمَّا تَلَقَّاهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْجَيْشُ نَزَلَ بِدَارِ
السَّعَادَةِ، وَأَخَذَ سَيْفَهُ بِهَا، وَنُقِلَ إِلَى الْقَلْعَةِ، ثُمَّ نُقِلَ
إِلَى صَفَدَ، ثُمَّ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، ثُمَّ كَانَ آخِرُ الْعَهْدِ
بِهِ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى احْتِيطَ عَلَى دَارِ الْأَمِيرِ 7 بَكْتَمُرَ
الْحَاجِبِ الْحُسَامِيِّ بِالْقَاهِرَةِ، وَنُبِشَتْ، وَأُخِذَ مِنْهَا شَيْءٌ
كَثِيرٌ جِدًّا، وَكَانَ جَدُّ أَوْلَادِهِ نَائِبَ الْكَرَكِ الْمَذْكُورَ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ
تَاسِعِ جُمَادَى الْآخِرَةِ بَاشَرَ حُسَامُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ ابْنُ
الْأَمِيرِ عِزِّ الدِّينِ أَيْبَكَ النَّجِيبِيُّ شَدَّ الْأَوْقَافِ، عِوَضًا
عَنِ ابْنِ بَكْتَاشَ، اعْتُقِلَ، وَخُلِعَ عَلَى الْمُتَوَلِّي، وَهَنَّأَهُ
النَّاسُ.
وَفِي مُنْتَصَفِ هَذَا الشَّهْرِ عُلِّقَ السِّتْرُ الْجَدِيدُ عَلَى خِزَانَةِ
الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ، وَهُوَ مِنْ خَزٍّ، طُولُهُ ثَمَانِيَةُ أَذْرُعٍ،
وَعَرْضُهُ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَنِصْفٌ، غُرِمَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ
وَخَمْسُمِائَةٍ، وَعُمِلَ فِي مُدَّةِ سَنَةٍ وَنِصْفٍ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ يَوْمَ الْخَمِيسِ تَاسِعَ شَوَّالٍ، وَأَمِيرُهُ
عَلَاءُ الدِّينِ الْمُرْسِيُّ، وَقَاضِيهِ شِهَابُ الدِّينِ الظَّاهِرِيُّ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ رَجَعَ جَيْشُ حَلَبَ إِلَيْهَا، وَكَانُوا عَشَرَةَ آلَافٍ
سِوَى مَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ التُّرْكُمَانِ، وَكَانُوا فِي بِلَادِ أَذَنَةَ،
وَطَرَسُوسَ، وَآيَاسَ، وَقَدْ خَرَّبُوا وَقَتَلُوا وَسَبَوْا وَأَسَرُوا خَلْقًا
كَثِيرًا، وَلَمْ يُعْدَمْ مِنْهُمْ سِوَى رَجُلٍ وَاحِدٍ غَرِقَ بِنَهْرِ
جَاهَانَ، وَلَكِنْ قَتَلَ الْكُفَّارُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
نَحْوًا مِنْ أَلْفَيْ رَجُلٍ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ - مِنَ التُّجَّارِ
وَغَيْرِهِمْ - فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهِ وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِحَمَاةَ، احْتَرَقَتْ مِنْهُ أَسْوَاقٌ
كَثِيرَةٌ وَأَمْلَاكٌ وَأَوْقَافٌ، وَهَلَكَتْ أَمْوَالٌ لَا تُحْصَرُ،
وَكَذَلِكَ احْتَرَقَ أَكْثَرُ مَدِينَةِ أَنْطَاكِيَّةَ، فَتَأَلَّمَ
الْمُسْلِمُونَ لِذَلِكَ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ
خُرِّبَ الْمَسْجِدُ الَّذِي كَانَ فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ بَيْنَ بَابِ النَّصْرِ
وَبَابِ الْجَابِيَةِ، عَنْ حُكْمِ الْقُضَاةِ بِأَمْرِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ،
وَبُنِيَ غَرْبِيَّهُ مَسْجِدٌ حَسَنُ الشَّكْلِ، أَحْسَنُ وَأَنْفَعُ مِنَ
الْأَوَّلِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْمُعَمَّرُ رَئِيسُ الْمُؤَذِّنِينَ بِجَامِعِ دِمَشْقَ،
بُرْهَانُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْوَانِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ وَرَوَى، وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ وَالشَّكْلِ، مُحَبَّبًا إِلَى
الْعَوَامِّ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ سَادِسَ صَفَرٍ، وَدُفِنَ بِبَابِ
الصَّغِيرِ، وَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ فِي الرِّيَاسَةِ وَلَدُهُ أَمِينُ الدِّينِ
مُحَمَّدٌ الْوَانِيُّ، الْمُحَدِّثُ الْمُفِيدُ، وَتُوُفِّيَ بَعْدَهُ بِبِضْعٍ
وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
الْكَاتِبُ الْمُطْبِقُ الْمُجَوِّدُ الْمُحَرِّرُ، بَهَاءُ الدِّينِ مَحْمُودُ
بْنُ خَطِيبِ بَعْلَبَكَّ مُحْيِي الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ
عَبْدِ الْوَهَّابِ السُّلَمِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَاعْتَنَى بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ فَبَرَعَ فِيهَا، وَتَقَدَّمَ
عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ قَاطِبَةً فِي النَّسْخِ وَبَقِيَّةِ الْأَقْلَامِ،
وَكَانَ حَسَنَ الشَّكْلِ، طَيِّبَ الْأَخْلَاقِ، طَيِّبَ الصَّوْتِ،
حَسَنَ التَّوَدُّدِ،
تُوُفِّيَ فِي سَلْخِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ الشَّيْخِ أَبِي
عُمَرَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَلَاءُ الدِّينِ السِّنْجَارِيُّ - وَاقِفُ دَارِ الْقُرْآنِ عِنْدَ بَابِ
النَّاطْفَانِيِّينَ شَمَالِيَّ الْأُمَوِيِّ بِدِمَشْقَ - عَلِيُّ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ مَحْمُودٍ، كَانَ أَحَدَ التُّجَّارِ الصُّدُقِ الْأَخْيَارِ
ذَوِي الْيَسَارِ، الْمُسَارِعِينَ إِلَى الْخَيْرَاتِ، تُوُفِّيَ بِالْقَاهِرَةِ
لَيْلَةَ الْخَمِيسِ ثَالِثَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ
الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الْحَرِيرِيِّ.
الْعَدْلُ نَجْمُ الدِّينِ التَّاجِرُ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرَّحْبِيُّ، بَانِي التُّرْبَةِ الْمَشْهُورَةِ
بِالْمِزَّةِ، وَقَدْ جَعَلَ فِيهَا مَسْجِدًا، وَأَوْقَفَ عَلَيْهَا أَوْقَافًا
دَارَّةً، وَصَدَقَاتٍ هُنَاكَ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، عَدْلٌ
مَرْضِيٌّ عِنْدَ جَمِيعِ الْحُكَّامِ، وَتَرَكَ أَوْلَادًا وَأَمْوَالًا جَمَّةً،
وَدَارًا هَائِلَةً، وَبَسَاتِينَ بِالْمِزَّةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ عِشْرِينَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ
الْمَذْكُورَةِ بِالْمِزَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ قُطْبُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ
الْكَرِيمِ بْنُ عَبْدِ النُّورِ بْنِ مُنِيرِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْحَقِّ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ النُّورِ،
الْحَلَبِيُّ الْأَصْلِ، ثُمَّ الْمِصْرِيُّ، أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْمُحَدِّثِينَ
بِهَا، وَالْقَائِمِينَ بِحِفْظِ الْحَدِيثِ، وَرِوَايَتِهِ، وَتَدْوِينِهِ،
وَشَرْحِهِ، وَالْكَلَامِ عَلَيْهِ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ
وَسِتِّمِائَةٍ بِحَلَبَ،
وَقَرَأَ الْقُرْآنَ
بِالرِّوَايَاتِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَقَرَأَ " الشَّاطِبِيَّةَ " وَ
" الْأَلْفِيَّةَ "، وَبَرَعَ فِي فَنِّ الْحَدِيثِ، وَكَانَ حَنَفِيَّ
الْمَذْهَبِ، وَكَتَبَ كَثِيرًا، وَصَنَّفَ شَرْحًا لِأَكْثَرِ "
الْبُخَارِيِّ "، وَجَمَعَ تَارِيخًا لِمِصْرَ، وَلَمْ يُكْمِلْهُمَا،
وَتَكَلَّمَ عَلَى السِّيرَةِ الَّتِي جَمَعَهَا الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ،
وَخَرَّجَ لِنَفْسِهِ أَرْبَعِينَ حَدِيثًا مُتَبَايِنَةَ الْإِسْنَادِ، وَكَانَ
حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، مُطَّرِحًا لِلْكُلْفَةِ، طَاهِرَ اللِّسَانِ، كَثِيرَ
الْمُطَالَعَةِ وَالِاشْتِغَالَ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَحَدِ سَلْخَ
رَجَبٍ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ مُسْتَهَلِّ شَعْبَانَ عِنْدَ خَالِهِ نَصْرٍ
الْمَنْبِجِيِّ، وَخَلَّفَ تِسْعَةَ أَوْلَادٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْقَاضِي الْإِمَامُ زَيْنُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْكَافِي بْنُ
عَلِيِّ بْنِ تَمَّامِ بْنِ يُوسُفَ السُّبْكِيُّ، قَاضِي الْمَحَلَّةِ، وَوَالِدُ
الْعَلَّامَةِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ الشَّافِعِيِّ،
سَمِعَ مِنِ ابْنِ الْأَنْمَاطِيِّ، وَابْنِ خَطِيبِ الْمِزَّةِ، وَحَدَّثَ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي تَاسِعِ شَعْبَانَ، وَتَبِعَتْهُ زَوْجَتُهُ نَاصِرِيَّةُ
بِنْتُ الْقَاضِي جَمَالِ الدِّينِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحُسَيْنِ السُّبْكِيِّ،
وَدُفِنَتْ بِالْقَرَافَةِ، وَقَدْ سَمِعَتْ مِنِ ابْنِ الصَّابُونِيِّ شَيْئًا
مِنْ " سُنَنِ النَّسَائِيِّ "، وَكَذَلِكَ ابْنَتُهَا مُحَمَّدِيَّةُ،
وَقَدْ تُوُفِّيَتْ قَبْلَهَا.
تَاجُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْمِصْرِيُّ،
وَيُعْرَفُ بِكَاتِبِ
قَطْلُوبَكَ، وَهُوَ
وَالِدُ الْعَلَّامَةِ فَخْرِ الدِّينِ شَيْخِ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَمُدَرِّسِهِمْ
فِي عِدَّةِ مَدَارِسَ، وَوَالِدُهُ هَذَا لَمْ يَزَلْ فِي الْخِدْمَةِ
وَالْكِتَابَةِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ عِنْدَهُ بِالْعَادِلِيَّةِ الصَّغِيرَةِ
لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ ثَالِثَ عِشْرِينَ شَعْبَانَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ
الْغَدِ بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ عَبْدُ الْكَافِي، وَيُعْرَفُ بِعُبَيْدِ بْنِ أَبِي
الرِّجَالِ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ سُلْطَانَ بْنِ خَلِيفَةَ الْمَنِينِيِّ،
وَيُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي الْأَزْرَقِ، مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بَقَرِيَّةٍ مِنْ بِلَادِ بِعْلَبَكَّ، ثُمَّ
أَقَامَ بِقَرْيَةِ مَنِينَ، وَكَانَ مَشْهُورًا بِالصَّلَاحِ، وَقُرِئَ عَلَيْهِ
شَيْءٌ مِنَ الْحَدِيثِ، وَجَاوَزَ التِّسْعِينَ.
الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَقِّ بْنِ شَعْبَانَ بْنِ عَلِيٍّ
الْأَنْصَارِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالشَّيَّاخِ، لَهُ زَاوِيَةٌ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ
بِالْوَادِي الشَّمَالِيِّ، مَشْهُورَةٌ بِهِ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَ التِّسْعِينَ،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَأَسْمَعُهُ، كَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْأُمُورِ، وَعِنْدَهُ
بَعْضُ مُكَاشَفَةٍ، وَهُوَ رَجُلٌ حَسَنٌ، تُوُفِّيَ أَوَاخِرَ شَوَّالٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ.
الْأَمِيرُ سُلْطَانُ الْعَرَبِ حُسَامُ الدِّينِ مُهَنَّا بْنُ عِيسَى بْنِ
مُهَنَّا، أَمِيرُ الْعَرَبِ بِالشَّامِ، وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مِنْ
سُلَالَةِ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ الْبَرْمَكِيِّ، مِنْ ذُرِّيَّةِ
الْوَلَدِ الَّذِي جَاءَ مِنَ الْعَبَّاسَةِ أُخْتِ الرَّشِيدِ، فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَ كَبِيرَ
الْقَدْرِ، مُحْتَرَمًا عِنْدَ الْمُلُوكِ كُلِّهِمْ بِالشَّامِ وَمِصْرَ
وَالْعِرَاقِ، وَكَانَ دَيِّنًا خَيِّرًا، مُتَحَرِّيًا لِلْحَقِّ، وَخَلَّفَ
أَوْلَادًا وَوَرَثَةً وَأَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَقَدْ بَلَغَ سِنًّا عَالِيَةً،
وَكَانَ يُحِبُّ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَةَ حُبًّا زَائِدًا،
هُوَ وَذُرِّيَّتُهُ وَعَرَبُهُ، وَلَهُ عِنْدَهُمْ مَنْزِلَةٌ وَحُرْمَةٌ
وَإِكْرَامٌ، يَسْمَعُونَ قَوْلَهُ وَيَمْتَثِلُونَهُ، وَهُوَ الَّذِي نَهَاهُمْ
أَنْ يُغِيرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَعَرَّفَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ،
وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفٌ جَلِيلٌ، وَكَانَ وَفَاةُ مُهَنَّا هَذَا بِبِلَادِ
سَلَمِيَّةَ فِي ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْقِعْدَةِ، وَدُفِنَ هُنَاكَ، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الزَّاهِدُ فَضْلُ بْنُ عِيسَى بْنِ قِنْدِيلٍ
الْعَجْلُونِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، الْمُقِيمُ بِالْمِسْمَارِيَّةِ، أَصْلُهُ مِنْ
بِلَادِ خَيْرَانَ، كَانَ مُتَقَلِّلًا مِنَ الدُّنْيَا، يَلْبَسُ ثِيَابًا
طِوَالًا، وَعِمَامَةً هَائِلَةً وَهِيَ بِأَرْخَصِ الْأَثْمَانِ، وَكَانَ
يَعْرِفُ تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا، وَيُقْصَدُ لِذَلِكَ، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ مِنْ
أَحَدٍ شَيْئًا، وَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ وَظَائِفُ بِجَوَامِكَ كَثِيرَةٍ
وَأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، وَيَرْضَى بِالرَّغِيدِ الْهَنِيِّ
مِنَ الْعَيْشِ الْحَسَنِ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَلَهُ
نَحْوُ تِسْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنْ قَبْرِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ
ابْنِ تَيْمِيَةَ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً جِدًّا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ بِيَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي
الَّتِي قَبْلَهَا، وَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهَا رَكِبَ تَنْكِزُ إِلَى قَلْعَةِ
جَعْبَرَ، وَمَعَهُ الْجَيْشُ وَالْمَجَانِيقُ، فَغَابُوا شَهْرًا وَخَمْسَةَ
أَيَّامٍ ثُمَّ عَادُوا سَالِمِينَ.
وَفِي ثَامِنِ صَفَرٍ فُتِحَتِ الْخَانَقَاهْ الَّتِي أَنْشَأَهَا سَيْفُ الدِّينِ
قُوصُونُ النَّاصِرِيُّ خَارِجَ بَابِ الْقَرَافَةِ، وَتَوَلَّى مَشْيَخَتَهَا
الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الْأَصْبِهَانِيُّ الْمُتَكَلِّمُ.
وَفِي عَاشِرِ صَفَرٍ خَرَجَ ابْنُ جُمْلَةَ مِنَ السِّجْنِ بِالْقَلْعَةِ.
وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِمَوْتِ مَلِكِ التَّتَارِ بُو سَعِيدِ بْنِ خَرْبَنْدَا
بْنِ أَرْغُونَ بْنِ أَبْغَا بْنِ هُولَاكُو بْنِ تُولَى بْنِ جَنْكِزْخَانَ فِي
يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَانِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ بِدَارِ السَّلْطَنَةِ
بِقُرَّابَاغَ، وَهُوَ مَنْزِلُهُمْ فِي الشِّتَاءِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى
تُرْبَتِهِ بِمَدِينَتِهِ الَّتِي
أَنْشَأَهَا قَرِيبًا
مِنَ السُّلْطَانِيَّةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا أَبُوهُ، وَقَدْ كَانَ مِنْ خِيَارِ
مُلُوكِ التَّتَارِ، وَأَحْسَنِهِمْ طَرِيقَةً، وَأَثْبَتِهِمْ عَلَى السُّنَّةِ،
وَأُقَوَمِهِمْ بِهَا، وَقَدْ عَزَّ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي زَمَانِهِ، وَذَلَّتِ
الرَّافِضَةُ - بِخِلَافِ دَوْلَةِ أَبِيهِ - ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لَمْ يَقُمْ
لِلتَّتَارِ قَائِمَةٌ، بَلِ اخْتَلَفُوا فَتَفَرَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ إِلَى
زَمَانِنَا هَذَا، وَكَانَ الْقَائِمُ مِنْ بَعْدِهِ بِالْأَمْرِ أَرْبَا كَاوُونَ
مِنْ ذُرِّيَّةِ أَبْغَا، وَلَمْ يَسْتَمِرَّ لَهُ الْأَمْرُ إِلَّا قَلِيلًا.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ عَاشِرِ جُمَادَى الْأُولَى دَرَّسَ
بِالنَّاصِرِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ الشَّيْخُ نُورُ الدِّينِ الْأَرْدُبِيلِيُّ
عِوَضًا عَنْ كَمَالِ الدَّيْنِ بْنِ الشِّيرَازِيِّ، تُوُفِّيَ، وَحَضَرَ
عِنْدَهُ الْقُضَاةُ، وَفِيهِ دَرَّسَ بِالظَّاهِرِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُقْرِئُ سَيْفُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ الْحَرِيرِيُّ
عِوَضًا عَنْ نُورِ الدِّينِ الْأَرْدُبِيلِيِّ; تَرَكَهَا لَمَّا حَصَلَتْ لَهُ
النَّاصِرِيَّةُ الْجَوَّانِيَّةُ.
وَبَعْدَهُ بِيَوْمٍ دَرَّسَ بِالنَّجِيبِيَّةِ كَاتِبُهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ
كَثِيرٍ عِوَضًا عَنِ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ ابْنِ قَاضِي الزَّبَدَانِيِّ;
تَرَكَهَا حِينَ تَعَيَّنَ لَهُ تَدْرِيسُ الظَّاهِرِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ،
وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَكَانَ دَرْسًا حَافِلًا أَثْنَى
عَلَيْهِ الْحَاضِرُونَ، وَتَعَجَّبُوا مِنْ جَمْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ، وَكَانَ
ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ [ فَاطِرٍ: 28 ]. وَانْسَاقَ الْكَلَامُ إِلَى مَسْأَلَةِ رِبَا
الْفَضْلِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ رَابِعَ عَشَرَهُ ذَكَرَ الدَّرْسَ بِالظَّاهِرِيَّةِ
الْمَذْكُورَةِ ابْنُ قَاضِي الزَّبَدَانِيُّ، عِوَضًا عَنْ عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ
الْقَلَانِسِيِّ ; تُوُفِّيَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ،
وَكَانَ يَوْمًا مَطِيرًا.
وَفِي أَوَّلِ جُمَادَى
الْآخِرَةِ وَقَعَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَاشْتَدَّ ذَلِكَ إِلَى
شَهْرِ شَعْبَانَ.
وَتَوَجَّهَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي رَجَبٍ إِلَى مَكَّةَ نَحْوًا مِنْ أَلْفَيْنِ
وَخَمْسِمِائَةٍ، مِنْهُمْ; عِزُّ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ، وَفَخْرُ الدِّينِ
النُّوَيْرِيُّ، وَحُسَيْنٌ السَّلَامِيُّ، وَأَبُو الْفَتْحِ السَّلَامِيُّ،
وَخَلْقٌ كَثِيرٌ.
وَفِي رَجَبٍ كَمَلَتْ عِمَارَةُ جِسْرِ بَابِ الْفَرَجِ، وَعُمِلَ عَلَيْهِ
بَاشُورَةٌ، وَرُسِمَ بِاسْتِمْرَارِ فَتْحِهِ إِلَى بَعْدِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ
كَبَقِيَّةِ الْأَبْوَابِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُغْلَقُ مِنَ الْمَغْرِبِ.
وَفِي سَلْخِ رَجَبٍ أُقُيِمَتِ الْجُمُعَةُ بِالْجَامِعِ الَّذِي أَنْشَاهُ
نَجْمُ الدِّينِ بْنُ خَيْلَخَانَ تُجَاهَ بَابِ كَيْسَانَ مِنَ الْقِبْلَةِ،
وَخَطَبَ فِيهِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ قَيِّمِ
الْجَوْزِيَّةِ.
وَفِي ثَانِي شَعْبَانَ بَاشَرَ كِتَابَةَ السِّرِّ بِدِمَشْقَ الْقَاضِي عَلَمُ
الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ قُطْبِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ مُفَضَّلٍ، عِوَضًا عَنْ
جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الْأَثِيرِ، عُزِلَ وَرَاحَ إِلَى مِصْرَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعِ رَمَضَانَ ذَكَرَ الدَّرْسَ
بِالْأَمِينِيَّةِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ بَهَاءُ
الدِّينِ ابْنُ إِمَامِ
الْمَشْهَدِ، عِوَضًا عَنْ عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ الْقَلَانِسِيِّ. وَفِي
الْعِشْرِينَ مِنْهُ خُلِعَ عَلَى الصَّدْرِ نَجْمِ الدِّينِ بْنِ أَبِي
الطَّيِّبِ بِنَظَرِ الْخِزَانَةِ مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ وِكَالَةِ
بَيْتِ الْمَالِ بَعْدَ وَفَاةِ ابْنِ الْقَلَانِسِيِّ بِشُهُورٍ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ شَوَّالٍ،
وَأَمِيرُهُ قَطْلُودَمُرُ الْخَلِيلِيُّ.
وَمِمَّنْ حَجَّ فِيهِ; قَاضِي طَرَابُلُسَ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ جَهْبَلٍ،
وَالْفَخْرُ الْمِصْرِيُّ، وَابْنُ قَاضِي الزَّبَدَانِيُّ، وَابْنُ الْعِزِّ
الْحَنَفِيُّ، وَابْنُ غَانِمٍ، وَالسَّخَاوِيُّ، وَابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ،
وَنَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الرَّبْوَةِ الْحَنَفِيُّ.
وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِوَقْعَةٍ جَرَتْ بَيْنَ التَّتَارِ فِي نِصْفِ رَمَضَانَ
قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَانْتَصَرَ عَلِيُّ بَاشَا وَسُلْطَانُهُ
الَّذِي كَانَ قَدْ أَقَامَهُ - وَهُوَ مُوسَى كَاوُونُ - عَلَى أَرْبَاكَاوُونَ
وَأَصْحَابُهُ، فَقُتِلَ هُوَ وَوَزِيرُهُ ابْنُ رَشِيدِ الدَّوْلَةِ، وَجَرَتْ
خُطُوبٌ طَوِيلَةٌ، وَضُرِبَتِ الْبَشَائِرُ بِدِمَشْقَ.
وَفِي رَابِعِ ذِي الْقِعْدَةِ خُلِعَ عَلَى نَاظِرِ الْجَامِعِ الشَّيْخِ عِزِّ
الدِّينِ بْنِ الْمُنَجَّا; بِسَبَبِ إِكْمَالِهِ الْبَطَائِنَ فِي الرِّوَاقِ
الشَّمَالِيِّ وَالْغَرْبِيِّ وَالشَّرْقِيِّ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ لَهُ
بَطَائِنُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعِ ذِي الْحِجَّةِ ذَكَرَ الدَّرْسَ
بِالشِّبْلِيَّةِ الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ عِمَادِ
الدِّينِ الطَّرَسُوسِيُّ الْحَنَفِيُّ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشَرَةَ سَنَةً،
وَحَضَرَ
عِنْدَهُ الْقُضَاةُ
وَالْأَعْيَانُ، وَشَكَرُوا مِنْ فَضِيلَتِهِ وَنَبَاهَتِهِ، وَفَرِحُوا لِأَبِيهِ
بِهِ.
وَفِيهَا عُزِلَ ابْنُ النَّقِيبِ عَنْ قَضَاءِ حَلَبَ، وَوَلِيَهَا ابْنُ خَطِيبِ
جِبْرِينَ، وَوَلِيَ الْحِسْبَةَ بِالْقَاهِرَةِ ضِيَاءُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ
أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ابْنِ خَطِيبِ بَيْتِ الْآبَارِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ
السُّلْطَانُ.
وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ رَسَمَ السُّلْطَانُ بِاعْتِقَالِ الْخَلِيفَةِ
الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ وَأَهْلِهِ، وَأَنْ يُمْنَعُوا مِنَ الِاجْتِمَاعِ،
فَآلَ أَمْرُهُمْ كَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ الظَّاهِرِ وَالْمَنْصُورِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
السُّلْطَانُ بُو سَعِيدِ بْنُ خَرْبَنْدَا، وَكَانَ آخِرَ مَنِ اجْتَمَعَ شَمْلُ
التَّتَارِ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا مِنْ بَعْدِهِ.
الشَّيْخُ الْمُعَمَّرُ الرُّحْلَةُ، الْبَنْدَنِيجِيُّ شَمْسُ الدِّينِ عَلِيُّ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَمْدُودِ بْنِ عِيسَى الْبَنْدَنِيجِيُّ الصُّوفِيُّ، قَدِمَ
عَلَيْنَا مِنْ بَغْدَادَ شَيْخًا كَبِيرًا رَاوِيًا لِأَشْيَاءَ كَثِيرَةً،
مِنْهَا; " صَحِيحُ مُسْلِمٍ "، وَ " التِّرْمِذِيُّ "،
وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَعِنْدَهُ فَوَائِدُ، وُلِدَ
سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَ وَالِدُهُ مُحَدِّثًا، فَأَسْمَعَهُ
أَشْيَاءَ كَثِيرَةً عَلَى مَشَايِخَ عِدَّةٍ، وَكَانَ مَوْتُهُ بِدِمَشْقَ فِي
سَابِعِ الْمُحَرَّمِ.
قَاضِي قُضَاةِ بَغْدَادَ قُطْبُ الدِّينِ أَبُو الْفَضَائِلِ مُحَمَّدُ بْنُ
عُمَرَ بْنِ الْفَضْلِ التِّبْرِيزِيُّ الشَّافِعِيُّ، الْمَعْرُوفُ
بِالْأَخَوَيْنِ، سَمِعَ شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ، وَاشْتَغَلَ بِالْفِقْهِ،
وَالْأُصُولِ، وَالْمَنْطِقِ، وَالْعَرَبِيَّةِ، وَالْمَعَانِي، وَالْبَيَانِ،
وَكَانَ بَارِعًا فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، وَدَرَّسَ بِالْمُسْتَنْصِرِيَّةِ بَعْدَ
الْعَاقُولِيِّ، وَفِي مَدَارِسَ كِبَارٍ، وَكَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ، كَثِيرَ
الْحُنُوِّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، مُتَوَاضِعًا، يَكْتُبُ حَسَنًا
أَيْضًا، تُوُفِّيَ فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةٍ لَهُ عِنْدَ
دَارِهِ بِبَغْدَادَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْأَمِيرُ صَارِمُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ
بْنِ أَبِي الزَّهْرِ، الْمَعْرُوفُ بِالْغَزَّالِ، كَانَتْ لَهُ مُطَالَعَةٌ،
وَعِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ التَّارِيخِ، وَيُحَاضِرُ جَيِّدًا، وَلَمَّا تُوُفِّيَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقْتَ الصَّلَاةِ السَّادِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنَ
الْمُحَرَّمِ دُفِنَ بِتُرْبَةٍ لَهُ عِنْدَ حَمَّامِ الْعَدِيمِ.
الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ مُغْلَطَايْ الْخَازِنُ، نَائِبُ الْقَلْعَةِ،
وَصَاحِبُ التُّرْبَةِ تُجَاهَ الْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ مِنَ الْغَرْبِ، كَانَ
رَجُلًا جَيِّدًا، لَهُ أَوْقَافٌ وَبِرٌّ وَصَدَقَاتٌ، تُوُفِّيَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ
بُكْرَةَ عَاشِرِ صَفَرٍ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ الْمَذْكُورَةِ.
الْقَاضِي كَمَالُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ
الشِّيرَازِيِّ الدِّمَشْقِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ سَبْعِينَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ،
وَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ، وَالشَّيْخِ زَيْنِ
الدِّينِ الْفَارِقِيِّ، وَحَفِظَ " مُخْتَصَرَ الْمُزَنِيِّ "،
وَدَرَّسَ فِي وَقْتٍ بِالْبَادَرَائِيَّةِ، وَفِي وَقْتٍ آخَرَ بِالشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ، ثُمَّ وَلِيَ تَدْرِيسَ النَّاصِرِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ
مُدَّةَ سِنِينَ إِلَى حِينِ وَفَاتِهِ، وَكَانَ صَدْرًا كَبِيرًا، ذُكِرَ
لِقَضَاءِ قُضَاةِ دِمَشْقَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَكَانَ حَسَنَ الْمُبَاشَرَةِ
وَالشَّكْلِ، تُوُفِّيَ فِي ثَالِثِ صَفَرٍ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ بِسَفْحِ
قَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ ابْنُ الْمَلِكِ الْمَسْعُودِ جَلَالِ
الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
الْعَادِلِ، كَانَ شَيْخًا مُسِنًّا قَدِ اعْتَنَى بِ " صَحِيحِ
الْبُخَارِيِّ " يَخْتَصِرُهُ، وَلَهُ فَهْمٌ جَيِّدٌ، وَلَدَيْهِ فَضِيلَةٌ،
وَكَانَ يَسْكُنُ الْمِزَّةَ، وَبِهَا تُوُفِّيَ لَيْلَةَ السَّبْتِ خَامِسَ
عِشْرِينَ صَفَرٍ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ
بِالْمِزَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ شَرَفِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْقَلَانِسِيِّ، قَاضِي الْعَسْكَرِ، وَوَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ، وَمُوَقِّعُ
الدَّسْتِ، وَمُدَرِّسُ الْأَمِينِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَلَهُ غَيْرُ ذَلِكَ
مِنَ الْمَنَاصِبِ، ثُمَّ سُلِبَهَا كُلَّهَا سِوَى التَّدْرِيسِ،
وَبَقِيَ مَعْزُولًا
إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ بُكْرَةَ السَّبْتِ خَامِسِ عِشْرِينَ صَفَرٍ، وَدُفِنَ
بِتُرْبَتِهِمْ.
عِزُّ الدِّينِ أَحْمَدُ ابْنُ الشَّيْخِ زَيْنِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ
بْنِ مَحْمُودٍ الْعُقَيْلِيُّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْقَلَانِسِيِّ، مُحْتَسِبُ
دِمَشْقَ، وَنَاظِرُ الْخِزَانَةِ، كَانَ مَحْمُودَ الْمُبَاشَرَةِ، ثُمَّ عُزِلَ
عَنِ الْحِسْبَةِ، وَاسْتَمَرَّ بِالْخِزَانَةِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ تَاسِعَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ.
الشَّيْخُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْمَجْدِ بْنِ شَرَفِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَحْمَدَ
الْحِمْصِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ، مُؤَذِّنَ الرَّبْوَةِ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ
سَنَةً، وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ وَتَعَالِيقُ، وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مِمَّا
يُنْكَرُ أَمْرُهَا، وَكَانَ مَحْلُولًا فِي دِينِهِ، تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى
الْأُولَى أَيْضًا.
الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ بَرْقٍ، مُتَوَلِّي دِمَشْقَ، شَهِدَ
جَنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، تُوُفِّيَ فِي ثَانِي شَعْبَانَ، وَدُفِنَ
بِالصَّالِحِيَّةِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ النَّاسُ.
الْأَمِيرُ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ الشَّمْسِ لُؤْلُؤٍ، مُتَوَلِّي الْبَرِّ، كَانَ
مَشْكُورًا أَيْضًا، تُوُفِّيَ رَابِعَ رَمَضَانَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا،
تُوُفِّيَ بِبُسْتَانِهِ بِبَيْتِ لَهْيَا، وَدُفِنَ
بِتُرْبَتِهِ هُنَاكَ،
وَتَرَكَ ذَرِّيَّةً كَثِيرَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عِمَادُ الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ شَرَفِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْوَزِيرِ
فَتْحِ الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ خَالِدِ بْنِ
نَصْرِ بْنِ صَغِيرِ بْنِ الْقَيْسَرَانِيِّ، أَحَدُ كُتَّابِ الدَّسْتِ، وَكَانَ
مِنْ خِيَارِ النَّاسِ، مُحِبًّا لِلْفُقَرَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَفِيهِ
مُرُوءَةٌ كَثِيرَةٌ، وَكَتَبَ بِمِصْرَ، ثُمَّ صَارَ إِلَى حَلَبَ كَاتِبَ
سِرِّهَا، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى دِمَشْقَ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ
لَيْلَةَ الْأَحَدِ ثَالِثَ عَشَرَ ذِي الْقِعْدَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ
الْغَدِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ عَنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ
سَنَةً، وَقَدْ سَمِعَ شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ عَلَى الْأَبَرْقُوهِيِّ
وَغَيْرِهِ.
وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ تُوُفِّيَ شِهَابُ الدِّينِ ابْنُ الْقِدِّيسَةِ
الْمُحَدِّثُ، بِطَرِيقِ الْحِجَازِ الشَّرِيفِ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ تُوُفِّيَ الشَّمْسُ مُحَمَّدٌ الْمُؤَذِّنُ، الْمَعْرُوفُ
بِالنَّجَّارِ، وَيُعْرَفُ بِالْبَتِّيِّ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ وَيُنْشِدُ فِي
الْمَحَافِلِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَالْخَلِيفَةُ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ قَدِ
اعْتَقَلَهُ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ، وَمَنَعَهُ مِنَ الِاجْتِمَاعِ
بِالنَّاسِ، وَنَائِبُ الشَّامِ تَنْكِزُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّاصِرِيُّ،
وَالْقُضَاةُ وَالْمُبَاشِرُونَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا،
سِوَى كَاتِبِ السِّرِّ، فَإِنَّهُ عَلَمُ الدِّينِ بْنُ الْقُطْبِ، وَوَالِي
الْبَرِّ الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ قَطْلُوبَكَ بْنِ شَشْنَكِيرَ، وَوَالِي
الْمَدِينَةِ حُسَامُ الدِّينِ طُرُنْطَايُ الْجُوكَنْدَارِيُّ.
وَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهَا يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ
عَلِيَّ بَاشَا كُسِرَ جَيْشُهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قُتِلَ.
وَوَصَلَتْ كُتُبُ الْحُجَّاجِ فِي الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ
تَصِفُ مَشَقَّةً كَثِيرَةً حَصَلَتْ لِلْحُجَّاجِ; مِنْ مَوْتِ الْجِمَالِ،
وَإِلْقَاءِ الْأَحْمَالِ، وَمَشْيِ كَثِيرٍ مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ
حَالٍ.
وَفِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ قَدِمَ إِلَى دِمَشْقَ الْقَاضِي حُسَامُ الدِّينِ
حَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْغُورِيُّ قَاضِي بَغْدَادَ، وَالْوَزِيرُ نَجْمُ
الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شِرْوَانَ الْكُرْدِيُّ، وَشَرَفُ الدِّينِ
عُثْمَانُ بْنُ حَسَنٍ الْبَلَدِيُّ، فَأَقَامُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ
تَوَجَّهُوا إِلَى مِصْرَ، فَحَصَلَ لَهُمْ قَبُولٌ تَامٌّ مِنَ السُّلْطَانِ،
فَاسْتَقْضَى الْأَوَّلَ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي،
وَاسْتَوْزَرَ
الثَّانِيَ، وَأَمَّرَ الثَّالِثَ.
وَفِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ أُحْضِرَ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ ابْنُ الشَّيْخِ
شِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ اللَّبَّانِ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ - إِلَى
مَجْلِسِ الْحُكْمِ الْجَلَالِيِّ، وَحَضَرَ مَعَهُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ فَضْلِ
اللَّهِ، وَمَجْدُ الدِّينِ الْأَقْصُرَائِيُّ شَيْخُ الشُّيُوخِ، وَشَمْسُ
الدِّينِ الْأَصْبِهَانِيُّ، فَادُّعِيَ عَلَيْهِ بِأَشْيَاءَ مُنْكَرَةٍ مِنَ
الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَالْغُلُوِّ فِي الْقَرْمَطَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ،
فَأَقَرَّ بِبَعْضِهَا، فَحُكِمَ بِحَقْنِ دَمِهِ، ثُمَّ تُوُسِّطَ فِي أَمْرِهِ،
وَأُبْقِيَتْ عَلَيْهِ جِهَاتُهُ، وَمُنِعَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى النَّاسِ، وَقَامَ
فِي صَفِّهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَعْيَانِ.
وَفِي صَفَرٍ احْتَرَقَ بِقَصْرِ حَجَّاجٍ حَرِيقٌ عَظِيمٌ، أَتْلَفَ دُورًا
وَدَكَاكِينَ عَدِيدَةً.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وُلِدَ لِلسُّلْطَانِ وَلَدٌ، فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ،
وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ أَيَّامًا. وَفِي مُنْتَصَفِ رَبِيعٍ الْآخِرِ أُمِّرَ
الْأَمِيرُ صَارِمُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ الْحَاجِبُ السَّاكِنُ تُجَاهَ جَامِعِ
كَرِيمِ الدِّينِ طَبْلَخَانَاهْ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ الشَّيْخِ
تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَهُ مَقَاصِدُ حَسَنَةٌ
صَالِحَةٌ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ رَجُلٌ جَيِّدٌ. وَأُفْرِجُ عَنِ الْخَلِيفَةِ
الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ، وَأُطْلِقَ مِنَ الْبُرْجِ فِي حَادِي عِشْرِينَ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَلَزِمَ بَيْتَهُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ عِشْرِينَ جُمَادَى الْآخِرَةِ أُقِيمَتِ الْجُمُعَةُ
فِي جَامِعَيْنِ بِمِصْرَ، أَحَدِهِمَا أَنْشَأَهُ الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ
أَيْدَمُرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَطِيرِيُّ، مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ
بِاثْنَيْ عَشَرَ
يَوْمًا، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْآخَرِ أَنْشَأَتْهُ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا:
السِّتُّ حَدَقُ - دَادَةُ السُّلْطَانِ النَّاصِرِ - عِنْدَ قَنْطَرَةِ
السِّبَاعِ.
وَفِي شَعْبَانَ سَافَرَ الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ شَرَفِ بْنِ
مَنْصُورٍ النَّائِبُ فِي الْحُكْمِ بِدِمَشْقَ إِلَى قَضَاءِ طَرَابُلُسَ، وَنَابَ
بَعْدَهُ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ النَّقِيبِ الْبَعْلَبَكِّيُّ.
وَفِيهِ خُلِعَ عَلَى الْقَاضِي عِزِّ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ بِوِكَالَةِ بَيْتِ
الْمَالِ بِمِصْرَ، وَعَلَى ضِيَاءِ الدِّينِ ابْنِ خَطِيبِ بَيْتِ الْآبَارِ
بِالْحِسْبَةِ بِالْقَاهِرَةِ، مَعَ مَا بِيَدِهِ مِنْ نَظَرِ الْأَوْقَافِ
وَغَيْرِهِ. وَفِيهِ أُمِّرَ الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ نَاظِرُ الْقُدْسِ
بِطَبْلَخَانَاهْ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْقُدْسِ.
وَفِي عَاشِرِ رَمَضَانَ قَدِمَتْ مِنْ مِصْرَ مُقَدَّمَتَانِ أَلْفَانِ إِلَى دِمَشْقَ،
سَائِرَتَانِ إِلَى بِلَادِ سِيسٍ، وَفِيهِمْ عَلَاءُ الدِّينِ، فَاجْتَمَعَ بِهِ
أَهْلُ الْعِلْمِ، وَهُوَ مِنْ أَفَاضِلِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي
الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ عَاشِرَ شَوَّالٍ،
وَأَمِيرُهُ بِهَادِرُ قَبْجَقُ، وَقَاضِيهِ مُحْيِي الدِّينِ الطَّرَابُلُسِيُّ
مُدَرِّسُ الْحِمْصِيَّةِ، وَفِي الرَّكْبِ تَقِيُّ الدِّينِ شَيْخُ الشُّيُوخِ،
وَعِمَادُ الدِّينِ بْنُ الشِّيرَازِيِّ، وَنَجْمُ الدِّينِ الطَّرَسُوسِيُّ،
وَجَمَالُ الدِّينِ الْمَرْدَاوِيُّ، وَصَاحِبُهُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مُفْلِحٍ،
وَالصَّدْرُ الْمَالِكِيُّ، وَالشَّرَفُ بْنُ الْقَيْسَرَانِيِّ، وَالشَّيْخُ
خَالِدٌ الْمُقِيمُ عِنْدَ دَارِ الطُّعْمِ، وَجَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشِّهَابِ
مَحْمُودٍ.
وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ
وَصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ الْجَيْشَ تَسَلَّمُوا مِنْ بِلَادِ سِيسٍ سَبْعَ
قِلَاعٍ، وَحَصَلَ لَهُمْ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَفَرِحَ
الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ.
وَفِيهِ كَانَتْ وَقْعَةٌ هَائِلَةٌ بَيْنَ التَّتَارِ، انْتَصَرَ فِيهَا
الشَّيْخُ حَسَنٌ وَذَوُوهُ.
وَفِي التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ نَفَى السُّلْطَانُ الْمَلِكُ
النَّاصِرُ مُحَمَّدُ بْنُ قَلَاوُونَ الْخَلِيفَةَ وَأَهْلَهُ وَذَوِيهِ -
وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ مِائَةِ نَفْسٍ - إِلَى بِلَادِ قُوصَ، وَرَتَّبَ لَهُمْ
هُنَاكَ مَا يَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ غَانِمٍ، أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَمَائِلَ بْنِ عَلِيٍّ الْمَقْدِسِيُّ، أَحَدُ الْكُتَّابِ
الْمَشْهُورِينَ بِالْفَضَائِلِ، وَحُسْنِ التَّرَسُّلِ، وَكَثْرَةِ الْأَدَبِ
وَالْأَشْعَارِ، وَالْمُرُوءَةِ التَّامَّةِ، مَوْلِدُهُ سِنَةَ إِحْدَى
وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَحَفِظَ
الْقُرْآنَ، وَ " التَّنْبِيهَ "، وَبَاشَرَ الْجِهَاتِ، وَقَصَدَهُ
النَّاسُ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّاتِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَى
الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، تُوُفِّيَ مَرْجِعَهُ فِي الْحَجِّ فِي مَنْزِلَةِ تَبُوكَ
يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَالِثَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ هُنَاكَ، رَحِمَهُ
اللَّهُ، ثُمَّ تَبِعَهُ أَخُوهُ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ،
وَكَانَ أَصْغَرَ
مِنْهُ سِنًّا بِسَنَةٍ،
وَكَانَ فَاضِلًا أَيْضًا، بَارِعًا، كَثِيرَ الدِّيَانَةِ.
الشَّرَفُ مَحْمُودٌ الْحَرِيرِيُّ، الْمُؤَذِّنُ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ،
بَنَى حَمَّامًا بِالنَّيْرَبِ، وَمَاتَ فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ ابْنُ الشَّيْخِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِعْضَادِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ مَاجِدِ بْنِ مَالِكٍ
الْجَعْبَرِيُّ ثُمَّ الْمِصْرِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
بِقَلْعَةِ جَعْبَرَ، وَسَمِعَ " صَحِيحَ مُسْلِمٍ " وَغَيْرَهُ،
وَكَانَ يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ وَيَعِظُهُمْ، وَيَسْتَحْضِرُ أَشْيَاءَ
كَثِيرَةً مِنَ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ، كَانَ فِيهِ صَلَاحٌ وَعِبَادَةٌ، تُوُفِّيَ
فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ بِزَاوِيَتِهِمْ
عِنْدَ وَالِدِهِ خَارِجَ بَابِ النَّصْرِ.
الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الْحَقِّ الْحَنَفِيُّ، أَحْمَدُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ بْنِ قَاضِي الْحِصْنِ،
وَيُعْرَفُ بِابْنِ عَبْدِ الْحَقِّ الْحَنَفِيِّ، شَيْخُ الْمَذْهَبِ وَمُدَرِّسُ
الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ بَارِعًا فَاضِلًا دَيِّنًا، تُوُفِّيَ فِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ نِعْمَةَ
الْمَقْدِسِيُّ
النَّابُلُسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَابِدُ، شَيْخُ
الْحَنَابِلَةِ بِهَا، وَمُفْتِيهِمْ مِنْ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، تُوُفِّيَ فِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ مُحِبُّ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ الْمُحِبِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ
مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ مَنْصُورٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ،
وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ، وَكَتَبَ الطِّبَاقَ، وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ، وَكَانَتْ
لَهُ مَجَالِسُ وَعْظٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ
وَغَيْرِهِ، وَلَهُ صَوْتٌ طَيِّبٌ بِالْقِرَاءَةِ جِدًّا، وَعَلَيْهِ رُوحٌ
وَسَكِينَةٌ وَوَقَارٌ، وَكَانَتْ مَوَاعِيدُهُ مُفِيدَةً يَنْتَفِعُ بِهَا
النَّاسُ، وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ
يُحِبُّهُ وَيُحِبُّ قِرَاءَتَهُ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ سَابِعَ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ، وَشَهِدَ
النَّاسُ لَهُ بِالْخَيْرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَبَلَغَ خَمْسًا
وَخَمْسِينَ سَنَةً.
الْمُحَدِّثُ الْبَارِعُ الْمُحَصِّلُ الْمُفِيدُ الْمُخَرِّجُ الْمَجِيدُ،
نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ طُغْرِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْرَفِيُّ
أَبُوهُ، الْخَوَارِزْمِيُّ الْأَصْلِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ،
وَكَانَ سَرِيعَ الْقِرَاءَةِ، قَرَأَ الْكُتُبَ الْكِبَارَ وَالصِّغَارَ،
وَجَمَعَ وَخَرَّجَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَانَ
بَارِعًا فِي هَذَا
الشَّأْنِ، رَحَلَ فَأَدْرَكَتْهُ مَنِيَّتُهُ بِحَمَاةَ يَوْمَ السَّبْتِ ثَانِيَ
عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِمَقَابِرِ طَيْبَةَ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَابِدُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَفِيفِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ
يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ نِعْمَةَ الْمَقْدِسِيُّ النَّابُلُسِيُّ
الْحَنْبَلِيُّ، إِمَامُ مَسْجِدِ الْحَنَابِلَةِ بِهَا، وُلِدَ سَنَةَ تِسْعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ،
حَسَنَ الصَّوْتِ، عَلَيْهِ الْبَهَاءُ وَالْوَقَارُ وَحُسْنُ الشَّكْلِ
وَالسَّمْتِ، قَرَأْتُ عَلَيْهِ عَامَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ -
مَرْجِعَنَا مِنَ الْقُدْسِ الشَّرِيفِ - كَثِيرًا مِنَ الْأَجْزَاءِ
وَالْفَوَائِدِ، وَهُوَ وَالِدُ صَاحِبِنَا الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ يُوسُفَ
أَحَدِ مُفْتِي الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَالْمَشْهُورِينَ بِالْخَيْرِ
وَالصَّلَاحِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَانِيَ عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْآخِرِ،
وَدُفِنَ هُنَاكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمَجْدِ إِبْرَاهِيمَ
الْمُرْشِدِيُّ، الْمُقِيمُ بِمُنْيَةِ مُرْشِدٍ، يَقْصِدُهُ النَّاسُ
لِلزِّيَارَةِ، وَيُضِيفُ النَّاسَ عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ، وَيُنْفِقُ
نَفَقَاتٍ كَثِيرَةً جِدًّا، وَلَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا فِيمَا
يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةِ
دُهْرُوطَ، وَأَقَامَ بِالْقَاهِرَةِ مُدَّةً، وَاشْتَغَلَ بِهَا، وَيُقَالُ:
إِنَّهُ قَرَأَ " التَّنْبِيهَ " فِي الْفِقْهِ، ثُمَّ انْقَطَعَ
بِمُنْيَةِ مُرْشِدٍ، وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ فِي
النَّاسِ، وَحَجَّ
مَرَّاتٍ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ الْقَاهِرَةَ يَزْدَحِمُ عَلَيْهِ النَّاسُ، ثُمَّ
كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَامِنَ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بِزَاوِيَتِهِ،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْقَاهِرَةِ وَدِمَشْقَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ.
الْأَمِيرُ أَسَدُ الدِّينِ عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ الْمُغِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
ابْنِ الْمَلِكِ الْمُعَظَّمِ عِيسَى بْنِ الْعَادِلِ، وُلِدَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ
وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَأَسْمَعَ، وَكَانَ يَأْتِي
كُلَّ سَنَةٍ مِنْ مِصْرَ إِلَى دِمَشْقَ، وَيُكْرِمُ أَهْلَ الْحَدِيثِ، وَلَمْ
يَبْقَ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ بَنِي أَيُّوبَ أَعْلَى سَنًّا مِنْهُ، تُوُفِّيَ
بِالرَّمْلَةِ فِي سَلْخِ رَمَضَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْفَاضِلُ حُسَيْنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حُسَيْنٍ
الْجَاكِيُّ الْحِكْرِيُّ، إِمَامُ مَسْجِدٍ هُنَاكَ، وَمُذَكِّرُ النَّاسِ فِي
كُلِّ جُمُعَةٍ، وَلَدَيْهِ فَضَائِلُ، وَفِي كَلَامِهِ نَفْعٌ كَثِيرٌ، إِلَى
أَنْ تُوُفِّيَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ، وَلَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَ
جَنَازَتِهِ بِدِيَارِ مِصْرَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ بِيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ، وَالْخَلِيفَةُ الْمُسْتَكْفِي مَنْفِيٌّ
بِبِلَادِ قُوصَ وَمَعَهُ أَهْلُهُ وَذَوُوهُ وَمَنْ يَلُوذُ بِهِ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ
الْمَلِكُ النَّاصِرُ مُحَمَّدٌ ابْنُ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ، وَلَا نَائِبَ
بِدِيَارِ مِصْرَ وَلَا وَزِيرَ، وَنَائِبُهُ بِدِمَشْقَ تَنْكِزُ، وَقُضَاةُ
الْبِلَادِ وَنُوَّابُهَا وَمُبَاشِرُوهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي
قَبْلَهَا.
وَفِي ثَالِثِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ رَسَمَ السُّلْطَانُ بِتَسْفِيرِ عَلِيٍّ
وَمُحَمَّدٍ ابْنَيْ دَاوُدَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ الْعَاضِدِ آخَرِ
خُلَفَاءِ الْفَاطِمِيِّينَ إِلَى الْفَيُّومِ يُقِيمُونَ بِهِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَانِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ عُزِلَ الْقَاضِي
عَلَمُ الدِّينِ بْنُ الْقُطْبِ مِنْ كِتَابَةِ السِّرِّ، وَضُرِبَ وَصُودِرَ،
وَنُكِبَ بِسَبَبِهِ الْقَاضِي فَخْرُ الدِّينِ الْمِصْرِيُّ، وَعُزِلَ عَنْ
مَدْرَسَتِهِ الدَّوْلَعِيَّةِ، وَأَخَذَهَا ابْنُ جُمْلَةَ، وَالْعَادِلِيَّةِ
الصَّغِيرَةِ، وَبَاشَرَهَا ابْنُ النَّقِيبِ، وَرُسِمَ عَلَيْهِ
بِالْعَذْرَاوِيَّةِ مِائَةُ يَوْمٍ، وَأُخِذَ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ.
وَفِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ ثَالِثِ عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَعْدَ
الْمَغْرِبِ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ بِمِصْرَ وَأَعْقَبَهَا رَعْدٌ وَبَرْقٌ
وَبَرَدٌ بِقَدْرِ الْجَوْزِ وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يُشَاهِدُوا مِثْلَهُ مِنْ
أَعْصَارٍ مُتَطَاوِلَةٍ بِتِلْكَ الْبِلَادِ.
وَفِي عَاشِرِ جُمَادَى
الْأُولَى اسْتَهَلَّ الْغَيْثُ بِمَكَّةَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَلَمَّا
انْتَصَفَ اللَّيْلُ جَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ هَائِلٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ مِنْ دَهْرٍ
طَوِيلٍ، فَخَرَّبَ دُورًا كَثِيرَةً نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ أَوْ أَكْثَرَ،
وَغَرَّقَ جَمَاعَةً، وَكَسَرَ أَبْوَابَ الْمَسْجِدِ، وَدَخَلَ الْكَعْبَةَ،
وَارْتَفَعَ فِيهَا نَحْوًا مِنْ ذِرَاعٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَجَرَى أَمْرٌ عَظِيمٌ،
حَكَاهُ الشَّيْخُ عَفِيفُ الدِّينِ الْمَطَرِيُّ.
وَفِي سَابِعِ عِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى عُزِلَ الْقَاضِي جَلَالُ
الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ عَنْ قَضَاءِ مِصْرَ، وَاتَّفَقَ وَصُولُ خَبَرِ مَوْتِ
قَاضِي الشَّامِ ابْنِ الْمَجْدِ بَعْدَ أَنْ عُزِلَ بِيَسِيرٍ، فَوَلَّاهُ
السُّلْطَانُ قَضَاءَ الشَّامِ، فَسَارَ إِلَيْهَا رَاجِعًا عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ،
ثُمَّ عَزَلَ السُّلْطَانُ بُرْهَانَ الدِّينِ بْنَ عَبْدِ الْحَقِّ قَاضِيَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَعَزَلَ قَاضِيَ الْحَنَابِلَةِ تَقِيَّ الدِّينِ، وَرَسَمَ
عَلَى وَلَدِهِ صَدْرِ الدِّينِ بِأَدَاءِ دُيُونِ النَّاسِ إِلَيْهِمْ، وَكَانَتْ
قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ تَاسِعَ
عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ بَعْدَ سَفَرِ جَلَالِ الدِّينِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ طَلَبَ
السُّلْطَانُ أَعْيَانَ الْفُقَهَاءِ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ، فَسَأَلَهُمْ عَمَّنْ
يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ بِمِصْرَ، فَوَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَى الْقَاضِي عِزِّ
الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ، فَوَلَّاهُ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ، وَوَلَّى
قَضَاءَ الْحَنَفِيَّةِ لِحُسَامِ الدِّينِ حَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغُورِيِّ
الْبَغْدَادِيِّ قَاضِي بَغْدَادَ، وَخَرَجَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ إِلَى
الْمَدْرَسَةِ الصَّالِحِيَّةِ، وَعَلَيْهِمَا الْخُلَعُ، وَنَزَلَ عِزُّ الدِّينِ
بْنُ جَمَاعَةَ عَنْ دَارِ الْحَدِيثِ الْكَامِلِيَّةِ لِصَاحِبِهِ الشَّيْخِ
عِمَادِ الدِّينِ الدِّمْيَاطِيِّ، فَدَرَّسَ فِيهَا، وَأَوْرَدَ حَدِيثَ:إِنَّمَا
الْأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ
بِسَنَدِهِ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ، وَعَزَلَ نُوَّابَ الْحُكْمِ، وَاسْتَمَرَّ
بِالْمُنَاوِيِّ الَّذِي أَشَارَ بِتَوْلِيَتِهِ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَامِسِ عِشْرِينَ مِنْهُ وَلِيَ قَضَاءَ الْحَنَابِلَةِ
الْإِمَامُ الْعَالِمُ مُوَفَّقُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَقْدِسِيُّ، عِوَضًا عَنِ الْمَعْزُولِ،
وَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْقُضَاةِ سِوَى الْأَخْنَائِيِّ الْمَالِكِيِّ.
وَفِي رَمَضَانَ فُتِحَتِ الصَّبَّابِيَّةُ الَّتِي أَنْشَأَهَا شَمْسُ الدِّينِ
بْنُ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ الصَّبَّابِ التَّاجِرُ دَارَ قُرْآنٍ وَدَارَ
حَدِيثٍ، وَقَدْ كَانَتْ خَرِبَةً شَنِيعَةً قَبْلَ ذَلِكَ.
وَفِي رَمَضَانَ بَاشَرَ عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيٌّ ابْنُ الْقَاضِي مُحْيِي
الدِّينِ بْنِ فَضْلِ اللَّهِ كِتَابَةَ السِّرِّ بِمِصْرَ، بَعْدَ وَفَاةِ
أَبِيهِ، كَمَا سَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَخِيهِ بَدْرِ
الدِّينِ، وَرُسِمَ لَهُمَا أَنْ يَحْضُرَا مَجْلِسَ السُّلْطَانِ، وَذَهَبَ
أَخُوهُ شِهَابُ الدِّينِ إِلَى الْحَجِّ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ سَقَطَ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ مِصْرَ بَرَدٌ
كَالْبَيْضِ وَكَالرُّمَّانِ، فَأَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا. ذَكَرَ ذَلِكَ
الْبِرْزَالِيُّ، وَنَقَلَهُ مِنْ كِتَابِ الشِّهَابِ الدِّمْيَاطِيِّ.
وَفِي ثَالِثِ عِشْرِينَ رَمَضَانَ دَرَّسَ بِالْقُبَّةِ الْمَنْصُورِيَّةِ
بِمَشْيَخَةِ الْحَدِيثِ شِهَابُ الدِّينِ الْعَسْجَدِيُّ، عِوَضًا عَنْ زَيْنِ
الدِّينِ الْكَتَّانِيِّ، تُوُفِّيَ، فَأَوْرَدَ حَدِيثًا مِنْ
" مُسْنَدِ
الشَّافِعِيِّ " بِرِوَايَتِهِ عَنِ الْجَاوِلِيِّ بِسَنَدِهِ، ثُمَّ صُرِفَ
عَنْهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ بِالشَّيْخِ أَثِيرِ الدِّينِ أَبِي حَيَّانَ، فَسَاقَ
حَدِيثًا عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَدَعَا لِلسُّلْطَانِ، وَحَضَرَ
الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَكَانَ مَجْلِسًا حَافِلًا.
وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ حَضَرَ تَدْرِيسَ الشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ قَاضِي
الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ النَّقِيبِ، عِوَضًا عَنِ الْقَاضِي جَمَالِ
الدِّينِ بْنِ جُمْلَةَ، تُوُفِّيَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ
وَالْأَعْيَانِ.
وَفِي ثَانِي ذِي الْحِجَّةِ دَرَّسَ بِالْعَادِلِيَّةِ الصَّغِيرَةِ تَاجُ
الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ جَلَالِ الدِّينِ
الْقَزْوِينِيِّ، عِوَضًا عَنِ ابْنِ النَّقِيبِ بِحُكْمِ وِلَايَتِهِ
الشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ دَرَّسَ صَدْرُ الدِّينِ ابْنُ الْقَاضِي جَلَالِ الدِّينِ
بِالْأَتَابَكِيَّةِ، وَأَخُوهُمَا الْخَطِيبُ بَدْرُ الدِّينِ بِالْغَزَّالِيَّةِ
وَالْعَادِلِيَّةِ نِيَابَةً عَنْ أَبِيهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ بَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ فَخْرِ الدِّينِ عِيسَى
بْنِ التُّرْكُمَانِ بَانِي جَامِعِ الْمِقْيَاسِ بِدِيَارِ مِصْرَ فِي أَيَّامِ
وِزَارَتِهِ بِهَا، ثُمَّ عُزِلَ عَنْهَا أَمِيرًا إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ رَجَعَ
إِلَى مِصْرَ فَتُوُفِّيَ بِهَا فِي خَامِسِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَدُفِنَ
بِالْحُسَيْنِيَّةِ، وَكَانَ مَشْكُورًا.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ
الْعَالِمُ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ الْبُرْهَانِ، شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ
بِحَلَبَ، شَارِحُ " الْجَامِعِ الْكَبِيرِ "، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا
مُنْقَطِعًا عَنِ النَّاسِ، وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَكَانَتْ لَهُ
مَعْرِفَةٌ بِالْقُرْآنِ، وَالْقِرَاءَاتِ، وَالْعَرَبِيَّةِ، وَمُشَارَكَاتٍ فِي
عُلُومٍ أُخَرَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَاضِي الْقُضَاةِ شِهَابُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَجْدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الزُّرْزَارِيُّ الْإِرْبِلِيُّ الْأَصْلِ، ثُمَّ
الدِّمَشْقِيُّ الشَّافِعِيُّ، قَاضِي قُضَاةِ الشَّافِعِيَّةِ بِدِمَشْقَ، وُلِدَ
سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ، وَبَرَعَ، وَحَصَّلَ،
وَأَفْتَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، وَدَرَّسَ بِالْإِقْبَالِيَّةِ، ثُمَّ
الرَّوَاحِيَّةِ، وَتُرْبَةِ أُمِّ الصَّالِحِ، وَوَلِيَ وِكَالَةَ بَيْتِ الْمَالِ،
ثُمَّ صَارَ قَاضِيَ قُضَاةِ الشَّامِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي مُسْتَهَلٍّ
جُمَادَى الْأُولَى بِالْمَدْرَسَةِ الْعَادِلِيَّةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ
الصَّغِيرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ زَيْنُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الشَّيْخِ زَيْنِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ مَكِّيِّ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ
الْمُرَحَّلِ، مُدَرِّسُ الشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ وَالْعَذْرَاوِيَّةِ
بِدِمَشْقَ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ بِمَشْهَدِ الْحُسَيْنِ، وَكَانَ فَاضِلًا
بَارِعًا، فَقِيهًا أُصُولِيًّا
مُنَاظِرًا، حَسَنَ
الشَّكْلِ، طَيِّبَ الْأَخْلَاقِ، حَسَنَ التَّدْرِيسِ، دَيِّنًا صَيِّنًا،
وَنَابَ فِي وَقْتٍ عَنِ الْأَخْنَائِيِّ فِي الْحُكْمِ، فَحُمِدَتْ سِيرَتُهُ،
تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ تَاسِعَ عَشَرَ رَجَبٍ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ
عِنْدَ مَسْجِدِ الذِّبَّانِ فِي تُرْبَةٍ لَهُمْ هُنَاكَ، وَحَضَرَ جَنَازَتَهُ
خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَالْقَاضِي جَلَالُ الدِّينِ، وَكَانَ قَدِمَ مِنْ مِصْرَ لَهُ
يَوْمَانِ، وَقَدِمَ بَعْدَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَقِّ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ هُوَ
وَأَهْلُهُ وَأَوْلَادُهُ، وَبَاشَرَ بَعْدَهُ تَدْرِيسَ الشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ ابْنُ جُمْلَةَ، تُوُفِّيَ بَعْدَهُ بِشُهُورٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ
الْخَمِيسِ رَابِعَ عَشَرَ ذِي الْقِعْدَةِ; وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ فِي تَارِيخِ
الشَّيْخِ عَلَمِ الدِّينِ الْبِرْزَالِيِّ.
تُوُفِّيَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ
أَبُو الْمَحَاسِنِ يُوسُفُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جُمْلَةَ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ
تَمَّامِ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ يُوسُفَ الصَّالِحِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمَحَجِّيُّ
وَالِدِهِ - بِالْمَدْرَسَةِ الْمَسْرُورِيَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ عُقَيْبَ
الظُّهْرِ يَوْمَ الْخَمِيسِ رَابِعَ عَشَرَ ذِي الْقِعْدَةِ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ
قَاسِيُونَ، وَمَوْلِدُهُ فِي أَوَائِلِ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ مِنِ ابْنِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَحَدَّثَ،
وَكَانَ رَجُلًا فَاضِلًا فِي فُنُونٍ، اشْتَغَلَ، وَحَصَّلَ، وَأَفْتَى،
وَأَعَادَ، وَدَرَّسَ، وَلَهُ فَضَائِلُ جَمَّةٌ وَمَبَاحِثُ
وَفَوَائِدُ، وَهِمَّةٌ
عَالِيَةٌ، وَحُرْمَةٌ وَافِرَةٌ، وَفِيهِ تَوَدُّدٌ وَإِحْسَانٌ وَقَضَاءٌ
لِلْحُقُوقِ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ نِيَابَةً وَاسْتِقْلَالًا،
وَدَرَّسَ بِمَدَارِسَ كِبَارٍ، وَمَاتَ وَهُوَ مُدَرِّسُ الشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ، وَحَضَرَ جَنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَعْيَانِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ الدِّينِ
أَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ نَجْمِ الدِّينِ عَبْدِ
الرَّحِيمِ ابْنِ الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ أَبِي الطَّاهِرِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
هِبَةِ اللَّهِ بْنِ الْمُسَلِّمِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ الْجُهَنِيُّ الْحَمَوِيُّ،
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبَارِزِيِّ، قَاضِي الْقُضَاةِ بِحَمَاةَ، صَاحِبُ
التَّصَانِيفِ الْكَثِيرَةِ الْمُفِيدَةِ فِي الْفُنُونِ الْعَدِيدَةِ، وُلِدَ فِي
خَامِسِ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ
الْكَثِيرَ، وَحَصَّلَ فُنُونًا كَثِيرَةً، وَصَنَّفَ كُتُبًا كَثِيرَةً جَمَّةً،
وَكَانَ حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، كَرِيمَ الْمُحَاضَرَةِ، حَسَنَ الِاعْتِقَادِ فِي
الصَّالِحِينَ، وَكَانَ مُعَظَّمًا عِنْدَ النَّاسِ، وَأَذِنَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ
الطَّلَبَةِ فِي الْإِفْتَاءِ، وَعَمِيَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَهُوَ يَحْكُمُ مَعَ
ذَلِكَ مُدَّةً، ثُمَّ نَزَلَ عَنِ الْمَنْصِبِ لِحَفِيدِهِ نَجْمِ الدِّينِ
عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَقْطَعُ نَظَرَهُ
عَنِ الْمَنْصِبِ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي
الْقِعْدَةِ بَعْدَ أَنْ صَلَّى الْعَشَاءَ وَالْوَتْرَ، فَلَمْ تَفُتْهُ
فَرِيضَةٌ وَلَا نَافِلَةٌ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ، وَدُفِنَ
بِعَقَبَةِ بَعْرِينَ،
وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَلَاثٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ كَاتِبُ السِّرِّ، هُوَ أَبُو
الْمَعَالِي يَحْيَى بْنُ فَضْلِ اللَّهِ بْنِ الْمُجَلِّي بْنِ دَعْجَانَ بْنِ
خَلَفٍ الْعَدَوِيُّ الْعُمَرِيُّ، وُلِدَ فِي حَادِيَ عَشَرَ شَوَّالٍ سَنَةَ
خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِالْكَرَكَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ
وَأَسْمَعَهُ، وَكَانَ صَدْرًا كَبِيرًا مُعَظَّمًا فِي الدَّوْلَةِ فِي حَيَاةِ
أَخِيهِ شَرَفِ الدِّينِ وَبَعْدَهُ، وَكَتَبَ السِّرَّ بِالشَّامِ وَبِمِصْرَ،
تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ تَاسِعَ رَمَضَانَ بِمِصْرَ، وَدُفِنَ مِنَ
الْغَدِ بِالْقَرَافَةِ، وَتَوَلَّى الْمَنْصِبَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ الْقَاضِي
عَلَاءُ الدِّينِ، وَهُوَ أَصْغَرُ أَوْلَادِهِ الثَّلَاثَةِ الْمُعَيَّنِينَ
بِهَذَا الْمَنْصِبِ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ زَيْنُ الدِّينِ بْنُ الْكَتَّانِيِّ، شَيْخُ
الشَّافِعِيَّةِ بِمِصْرَ، وَهُوَ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ أَبِي الْحَرَمِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يُونُسَ الدِّمَشْقِيُّ الْأَصْلِ، وُلِدَ بِالْقَاهِرَةِ
فِي حُدُودِ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ
بِدِمَشْقَ، ثُمَّ رَحَلَ
إِلَى مِصْرَ وَاسْتَوْطَنَهَا، وَتَوَلَّى بِهَا بَعْضَ الْأَقْضِيَةِ
بِالْحُكْرِ، ثُمَّ نَابَ عَنِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ،
فَحُمِدَتْ سِيرَتُهُ، وَدَرَّسَ بِمَدَارِسَ كِبَارٍ، وَوَلِيَ مَشْيَخَةَ دَارِ
حَدِيثٍ بِالْقُبَّةِ الْمَنْصُورِيَّةِ، وَكَانَ بَارِعًا فَاضِلًا، عِنْدَهُ
فَوَائِدُ جَمَّةٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ سَيِّئَ الْأَخْلَاقِ،
مُنْقَبِضًا عَنِ النَّاسِ، لَمْ يَتَزَوَّجْ قَطُّ، وَكَانَ حَسَنَ الشَّكْلِ،
بَهِيَّ الْمَنْظَرِ، يَأْكُلُ الطَّيِّبَاتِ، وَيَلْبَسُ اللَّيِّنَ مِنَ
الثِّيَابِ، وَلَهُ فَوَائِدُ وَزَوَائِدُ عَلَى " الرَّوْضَةِ "
وَغَيْرِهَا، وَكَانَ فِيهِ اسْتِهْتَارٌ بِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ، فَاللَّهُ
يُسَامِحُهُ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ نِصْفَ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ
بِالْقَرَافَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ رُكْنُ الدِّينِ بْنُ الْقَوْبَعِ، أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يُوسُفَ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَلِيلِ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ
الْجَعْفَرِيُّ التُّونِسِيُّ الْمَالِكِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْقَوْبَعِ،
كَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْفُضَلَاءِ وِسَادَةِ الْأَذْكِيَاءِ، وَمِمَّنْ جَمَعَ
الْفُنُونَ الْكَثِيرَةَ، وَالْعُلُومَ الْغَزِيرَةَ الدِّينِيَّةَ الشَّرْعِيَّةَ
وَالطِّبِّيَّةَ، وَكَانَ مُدَرِّسًا بِالْمَنْكُوتَمُرِيَّةِ وَ لَهُ وَظِيفَةٌ
فِي الْمَارَسْتَانِ
الْمَنْصُورِيِّ، وَبِهَا
تُوُفِّيَ فِي بُكْرَةِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَنْ أَرْبَعِ
سِنِينَ، وَتَرَكَ مَالًا وَأَثَاثًا كَثِيرًا وَرِثَهُ بَيْتُ الْمَالِ.
قُلْتُ: فَهَذَا آخِرُ مَا أَرَّخَهُ شَيْخُنَا الْحَافِظُ عَلَمُ الدِّينِ
الْبِرْزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي ذَيَّلَ بِهِ عَلَى " تَارِيخِ
الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ أَبِي شَامَةَ "، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاةُ
الْبِرْزَالِيِّ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِمَنْزِلَةِ خُلَيْصٍ،
وَقَدْ ذَيَّلْتُ عَلَى " تَارِيخِهِ " رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى
زَمَانِنَا هَذَا، وَكَانَ فَرَاغِي مِنَ الِانْتِقَاءِ مِنْ تَارِيخِهِ فِي
يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى
وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، أَحْسَنَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا، آمِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَسُلْطَانُ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ - بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ وَمَا وَالَاهَا، وَالدِّيَارِ الشَّامِيَّةِ وَمَا وَالَاهَا،
وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ - الْمَلِكُ النَّاصِرُ مُحَمَّدٌ ابْنُ الْمَلِكِ
الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، وَلَا نَائِبَ لَهُ وَلَا وَزِيرَ أَيْضًا بِمِصْرَ،
وَقُضَاةُ مِصْرَ; أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَاضِي الْقُضَاةِ عِزُّ الدِّينِ ابْنُ
قَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَمَاعَةَ،
وَأَمَّا الْحَنَفِيُّ فَقَاضِي الْقُضَاةِ حُسَامُ الدِّينِ الْغُورِيُّ حَسَنُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَمَّا الْمَالِكِيُّ فَتَقِيُّ الدِّينِ الْأَخْنَائِيُّ،
وَأَمَّا الْحَنْبَلِيُّ فَمُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ نَجَا الْمَقْدِسِيُّ، وَنَائِبُ
الشَّامِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ تَنْكِزُ، وَقُضَاتُهُ; جَلَالُ الدِّينِ
الْقَزْوِينِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمَعْزُولُ عَنِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَالْحَنَفِيُّ عِمَادُ الدِّينِ الطَّرَسُوسِيُّ، وَالْمَالِكِيُّ شَرَفُ
الدِّينِ الْهَمْدَانِيُّ، وَالْحَنْبَلِيُّ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ الْمُنَجَّا
التَّنُوخِيُّ.
وَمِمَّا حَدَثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِكْمَالُ دَارِ الْحَدِيثِ
السُّكَّرِيَّةِ، وَبَاشَرَ مَشْيَخَةَ الْحَدِيثِ بِهَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ
الْحَافِظُ مُؤَرِّخُ الْإِسْلَامِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الذَّهَبِيُّ،
وَقَرَّرَ فِيهَا ثَلَاثُونَ مُحَدِّثًا لِكُلٍّ مِنْهُمْ جِرَايَةٌ
وَجَامَكِيَّةٌ، كُلُّ شَهْرٍ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفُ رَطْلِ خُبْزٍ،
وَقُرِّرَ لِلشَّيْخِ ثَلَاثُونَ وَرَطْلُ خُبْزٍ، وَقُرِّرَ فِيهَا ثَلَاثُونَ
نَفَرًا
يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ،
لِكُلِّ عَشَرَةٍ شَيْخٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقُرَّاءِ نَظِيرُ مَا
لِلْمُحَدِّثِينَ، وَرُتِّبَ لَهَا إِمَامٌ وَقَارِئُ حَدِيثٍ وَنُوَّابٌ،
وَلِقَارِئِ الْحَدِيثِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا وَثَمَانِ أَوَاقٍ خُبْزٍ، وَجَاءَتْ
فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فِي شَكَالَتِهَا وَبِنَائِهَا، وَهِيَ تُجَاهَ دَارِ
الذَّهَبِ الَّتِي أَنْشَأَهَا الْوَاقِفُ الْأَمِيرُ تَنْكِزُ، وَوَقَفَ
عَلَيْهَا عِدَّةَ أَمَاكِنَ مِنْهَا: سُوقُ الْقَشَّاشِينَ بِبَابِ الْفَرَجِ،
طُولُهُ عِشْرُونَ ذِرَاعًا شَرْقًا وَغَرْبًا، سَمَّاهُ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ،
وَبَنْدَرُ زَبْدِينَ، وَحَمَّامٌ بِحِمْصَ وَهُوَ الْحَمَّامُ الْقَدِيمُ،
وَوَقَفَ عَلَيْهَا حِصَصًا فِي قَرَايَا أُخَرَ، وَلَكِنَّهُ تَغَلَّبَ عَلَى مَا
عَدَا الْقَشَّاشِينَ، وَبَنْدَرَ زَبْدِينَ، وَحَمَّامَ حِمْصَ.
وَفِيهَا قَدِمَ الْقَاضِي تَقِيُّ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْكَافِي
السُّبْكِيُّ الشَّافِعِيُّ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ حَاكِمًا عَلَى
دِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا، وَفَرِحَ النَّاسُ بِهِ، وَدَخَلَ النَّاسُ يُسَلِّمُونَ
عَلَيْهِ; لِعِلْمِهِ وَدِيَانَتِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَنَزَلَ بِالْعَادِلِيَّةِ
الْكَبِيرَةِ عَلَى عَادَةِ مَنْ تَقَدَّمَهُ، وَدَرَّسَ بِالْغَزَّالِيَّةِ
وَالْأَتَابَكِيَّةِ، وَاسْتَنَابَ ابْنَ عَمِّهِ الْقَاضِيَ بَهَاءَ الدِّينِ
أَبَا الْبَقَاءِ، ثُمَّ اسْتَنَابَ ابْنَ عَمِّهِ أَبَا الْفَتْحِ. وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ
الشَّامَ بَعْدَ وَفَاةِ قَاضِي الْقُضَاةِ جَلَالِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَزْوِينِيِّ الشَّافِعِيِّ، عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ
فِي الْوَفَيَاتِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ
فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ
وَسَبْعِمِائَةٍ:
الْعَلَّامَةُ قَاضِي الْقُضَاةِ فَخْرُ الدِّينِ عُثْمَانُ بْنُ الزَّيْنِ
عَلِيِّ بْنِ عُثْمَانَ الْحَلَبِيُّ، ابْنُ خَطِيبِ جِبْرِينَ الشَّافِعِيُّ،
وَلِيَ قَضَاءَ حَلَبَ مُدَّةً، وَكَانَ إِمَامًا عَلَّامَةً، صَنَّفَ "
شَرْحَ مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ " فِي الْفِقْهِ، وَ " شَرْحَ
الْبَدِيعِ " لِابْنِ السَّاعَاتِيِّ، وَلَهُ فَوَائِدُ غَزِيرَةٌ
وَمُصَنَّفَاتٌ جَلِيلَةٌ، تَوَلَّى حَلَبَ بَعْدَ عَزْلِ الشَّيْخِ ابْنِ
النَّقِيبِ، ثُمَّ طَلَبَهُ السُّلْطَانُ فَمَاتَ هُوَ وَوَلَدُهُ الْكَمَالُ،
وَلَهُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
قَاضِي الْقُضَاةِ جَلَالُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْقَزْوِينِيُّ الشَّافِعِيُّ، قَدِمَ هُوَ وَأَخُوهُ أَيَّامَ التَّتَرِ مِنْ
بِلَادِهِمْ إِلَى دِمَشْقَ - وَهُمَا فَاضِلَانِ - بَعْدَ التِّسْعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، فَدَّرَسَ إِمَامُ الدِّينِ فِي تُرْبَةِ أُمِّ الصَّالِحِ،
وَأَعَادَ جَلَالَ الدِّينِ بِالْبَادَرَائِيَّةِ عِنْدَ الشَّيْخِ بُرْهَانِ
الدِّينِ ابْنِ الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ شَيْخِ الشَّافِعِيَّةِ، ثُمَّ
تَنَقَّلَتْ بِهِمَا الْأَحْوَالُ إِلَى أَنْ وَلِيَ إِمَامُ الدِّينِ قَضَاءَ
الشَّافِعِيَّةِ بِدِمَشْقَ ; انْتُزِعَ لَهُ مِنْ يَدِ الْقَاضِي بَدْرِ الدِّينِ
بْنِ جَمَاعَةَ، ثُمَّ هَرَبَ سَنَةَ قَازَانَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَعَ
النَّاسِ فَمَاتَ هُنَالِكَ، وَأُعِيدَ ابْنُ جَمَاعَةَ إِلَى الْقَضَاءِ،
وَخَلَتْ خَطَابَةُ الْبَلَدِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِمِائَةٍ، فَوَلِيَهَا
جَلَالُ الدِّينِ الْمَذْكُورُ، ثُمَّ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ سَنَةَ خَمْسٍ
وَعِشْرِينَ مَعَ الْخَطَابَةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، بَعْدَ
أَنَّ عَجَزَ قَاضِي
الْقُضَاةِ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ بِسَبَبِ الضَّرَرِ فِي عَيْنَيْهِ،
فَلَمَّا كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ تَغَضَّبَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ
الْمَلِكُ النَّاصِرُ بِسَبَبِ أُمُورٍ يَطُولُ شَرْحُهَا، وَنَفَاهُ إِلَى
الشَّامِ، وَاتَّفَقَ مَوْتُ قَاضِي الْقُضَاةِ شِهَابِ الدِّينِ بْنِ الْمَجْدِ
عَبْدِ اللَّهِ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَوَلَّاهُ السُّلْطَانُ قَضَاءَ الشَّامِ
عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ، فَاسْتَنَابَ وَلَدَهُ بَدْرَ الدِّينِ عَلَى نِيَابَةِ
الْقَضَاءِ، الَّذِي هُوَ خَطِيبُ دِمَشْقَ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
أَوَائِلِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ، وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ
طُولَى فِي الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ، وَيُفْتِي كَثِيرًا، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ
فِي الْمَعَانِي، وَمُصَنَّفٌ مَشْهُورٌ اخْتَصَرَ فِيهِ " الْمِفْتَاحَ
" لِلسَّكَّاكِيِّ، وَكَانَ مَجْمُوعَ الْفَضَائِلِ، مَاتَ وَكَانَ عُمُرُهُ
قَرِيبًا مِنَ السَّبْعِينَ أَوْ جَاوَزَهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا رَابِعَ الْحِجَّةِ يَوْمَ الْأَحَدِ: الشَّيْخُ
الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْحَافِظُ عَلَمُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْبِرْزَالِيِّ، مُؤَرِّخُ الشَّامِ الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ
سَنَةَ وَفَاةِ الشَّيْخِ أَبِي شَامَةَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ،
وَقَدْ كَتَبَ تَارِيخًا ذَيَّلَ بِهِ عَلَى الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ، مِنْ
حِينِ وَفَاتِهِ وَمَوْلِدِ الْبِرْزَالِيِّ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَغُسِّلَ وَكُفِّنَ، وَلَمْ تُسْتَرْ رَأْسُهُ،
وَحَمَلَهُ النَّاسُ عَلَى نَعْشِهِ وَهُمْ يُلَبُّونَ حَوْلَهُ، وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا، سَمِعَ
الْكَثِيرَ مِنْ أَزِيدَ مِنْ أَلْفِ شَيْخٍ، وَخَرَّجَ لَهُ الْمُحَدِّثُ شَمْسُ
الدِّينِ بْنُ سَعْدٍ مَشْيَخَةً لَمْ يُكْمِلْهَا، وَقَرَأَ شَيْئًا كَثِيرًا،
وَأَسْمَعَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَانَ لَهُ خَطٌّ حَسَنٌ، وَخُلُقٌ حَسَنٌ، وَهُوَ
مَشْكُورٌ عِنْدَ الْقُضَاةِ وَمَشَايِخِ أَهْلِ الْعِلْمِ، سَمِعْتُ
الْعَلَّامَةَ ابْنَ تَيْمِيَةَ يَقُولُ: نَقْلُ الْبِرْزَالِيِّ نَقْرٌ فِي
حَجَرٍ. وَكَانَ أَصْحَابُهُ مِنْ كُلِّ الطَّوَائِفِ يُحِبُّونَهُ وَيُكْرِمُونَهُ،
وَكَانَ لَهُ أَوْلَادٌ مَاتُوا قَبْلَهُ، وَكَتَبَتِ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ "
الْبُخَارِيَّ " فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ مُجَلَّدًا، فَقَابَلَهُ لَهَا،
وَكَانَ يَقْرَأُ فِيهِ عَلَى الْحَافِظِ الْمِزِّيِّ تَحْتَ الْقُبَّةِ، حَتَّى
صَارَتْ نُسْخَتُهَا أَصْلًا مُعْتَمَدًا يَكْتُبُ مِنْهَا النَّاسُ، وَكَانَ
شَيْخَ حَدِيثٍ بِالنُّورِيَّةِ - وَفِيهَا وَقَفَ كُتُبَهُ - وَبِدَارِ
الْحَدِيثِ النَّفِيسِيَّةِ، وَبِدَارِ الْحَدِيثِ الْقُوصِيَّةِ، وَكَانَ قَارِئَ
الْحَدِيثِ بِدَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ عَلَى الْمِزِّيِّ، وَمَنْ
قَبْلَهُ كَابْنِ الشَّرِيشِيِّ، وَكَانَ يُعِيدُ فِي الْجَامِعِ وَغَيْرِهِ
وَعَلَى كَرَاسِيِّ الْحَدِيثِ، وَكَانَ مُتَوَاضِعًا مُحَبَّبًا إِلَى النَّاسِ،
مُتَوَدِّدًا إِلَيْهِمْ. تُوُفِّيَ عَنْ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْمُؤَرِّخُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْجَزَرِيُّ، جَمَعَ
تَارِيخًا حَافِلًا كَتَبَ فِيهِ أَشْيَاءَ يَسْتَفِيدُ مِنْهَا الْحَافِظُ;
كَالْمِزِّيِّ، وَالذَّهَبِيِّ، وَالْبِرْزَالِيِّ، يَكْتُبُونَ عَنْهُ
وَيَعْتَمِدُونَ عَلَى نَقْلِهِ، وَكَانَ شَيْخًا قَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ
وَثَقُلَ سَمْعُهُ وَضَعُفَ خَطُّهُ، وَهُوَ وَالِدُ الشَّيْخِ نَاصِرِ الدِّينِ
مُحَمَّدٍ وَأَخُوهُ مَجْدُ الدِّينِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
أَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ،
وَوُلَاتُهُ وَقُضَاتُهُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، إِلَّا
الشَّافِعِيَّ بِالشَّامِ فَتُوُفِّيَ الْقَزْوِينِيُّ، وَتَوَلَّى الْعَلَّامَةُ
السُّبْكِيُّ.
وَمِمَّا وَقَعَ مِنَ الْحَوَادِثِ الْعَظِيمَةِ الْهَائِلَةِ أَنَّ جَمَاعَةً
مِنْ رُءُوسِ النَّصَارَى اجْتَمَعُوا فِي كَنِيسَتِهِمْ، وَجَمَعُوا مِنْ
بَيْنِهِمْ مَالًا جَزِيلًا، فَدَفَعُوهُ إِلَى رَاهِبَيْنِ قَدِمَا عَلَيْهَا
مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، يُحْسِنَانِ صَنْعَةَ النِّفْطِ، اسْمُ أَحَدِهِمَا
مِيلَانِيُّ، وَالْآخَرُ عَازِرُ، فَعَمِلَا كَعْكًا مِنْ نِفْطٍ، وَتَلَطَّفَا
حَتَّى عَمِلَاهُ لَا يَظْهَرُ تَأْثِيرُهُ إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ
وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَوَضَعَا فِي شُقُوقِ دَكَاكِينِ التُّجَّارِ فِي سُوقِ
الرِّجَالِ عِنْدَ الدَّهْشَةِ فِي عِدَّةِ دَكَاكِينٍ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ،
بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ أَحَدٌ بِهِمَا، وَهُمَا فِي زِيِّ الْمُسْلِمِينَ،
فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ لَمْ يَشْعُرِ النَّاسُ إِلَّا وَالنَّارُ
قَدْ عَمِلَتْ فِي تِلْكَ الدَّكَاكِينِ حَتَّى تَعَلَّقَتْ فِي دَرَابْزِينَاتِ
الْمِئْذَنَةِ الشَّرْقِيَّةِ الْمُتَّجِهَةِ لِلسُّوقِ الْمَذْكُورِ،
وَاحْتَرَقَتِ الدَّرَابْزِينَاتُ، وَجَاءَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ تَنْكِزُ
وَالْأُمَرَاءُ أُمَرَاءُ الْأُلُوفِ،
وَصَعِدُوا الْمَنَارَةَ
وَهِيَ تَشْتَعِلُ نَارًا، وَاحْتَرَسُوا عَنِ الْجَامِعِ فَلَمْ يَنَلْهُ شَيْءٌ
مِنَ الْحَرِيقِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَأَمَّا الْمِئْذَنَةُ
فَإِنَّهَا تَفَجَّرَتْ أَحْجَارُهَا، وَاحْتَرَقَتِ السِّقَالَاتُ الَّتِي بَدَلُ
السَّلَالِمِ، فَهُدِّمَتْ وَأُعِيدَ بِنَاؤُهَا بِحِجَارَةٍ جُدُدٍ، وَهِيَ
الْمَنَارَةُ الشَّرْقِيَّةُ الَّتِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَنْزِلُ
عَلَيْهَا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي نُزُولِ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْبَلَدُ مُحَاصَرٌ بِالدَّجَّالِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّصَارَى بَعْدَ لَيَالٍ عَمَدُوا إِلَى نَاحِيَةِ
الْجَامِعِ مِنَ الْغَرْبِ إِلَى الْقَيْسَارِيَّةِ الَّتِي يُعْمَلُ فِيهَا
سِلَاحُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَقْوَاسِ، فَأَلْقَوْا فِيهَا النِّفْطَ،
فَاحْتَرَقَتِ الْقَيْسَارِيَّةُ بِكَمَالِهَا وَبِمَا فِيهَا مِنَ الْأَقْوَاسِ
وَالْعُدَدِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَتَطَايَرَ شَرَرُ
النَّارِ إِلَى مَا حَوْلَ الْقَيْسَارِيَّةِ مِنَ الدُّورِ وَالْمَسَاكِنِ
وَالْمَدَارِسِ، وَاحْتَرَقَ جَانِبٌ مِنَ الْمَدْرَسَةِ الْأَمِينِيَّةِ إِلَى
جَانِبِ الْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَا كَانَ مَقْصُودُهُمْ إِلَّا وَصُولَ
النَّارِ إِلَى مَعْبَدِ الْمُسْلِمِينَ، فَحَالَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا
يَرُومُونَ، وَجَاءَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْأُمَرَاءُ وَحَالُوا بَيْنَ
الْحَرِيقِ وَالْمَسْجِدِ، جَزَاهُمُ اللَّهُ خَيْرًا.
وَلِمَا تَحَقَّقَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ أَنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِهِمْ، أَمَرَ
بِمَسْكِ رُءُوسِ النَّصَارَى، فَأَمْسَكَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ
رَجُلًا، فَأُخَذُوا بِالْمُصَادَرَاتِ، وَالضَّرْبِ، وَالْعُقُوبَاتِ،
وَأَنْوَاعِ الْمَثُلَاتِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ صَلَبَ مِنْهُمْ أَزِيدَ مِنْ
عَشَرَةٍ عَلَى الْجِمَالِ، وَطَافَ بِهِمْ فِي أَرْجَاءِ الْبِلَادِ، وَجَعَلُوا
يَتَمَاوَتُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، ثُمَّ أُحْرِقُوا بِالنَّارِ حَتَّى
صَارُوا رَمَادًا، لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
سَبَبُ مَسْكِ تَنْكِزَ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ الرَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
جَاءَ الْأَمِيرُ طَشْتَمُرَ مِنْ صَفَدَ مُسْرِعًا، وَرَكِبَ جَيْشَ دِمَشْقَ
مُلَبَّسًا، وَدَخَلَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ مِنْ قَصْرِهِ مُسْرِعًا إِلَى دَارِ
السَّعَادَةِ، وَجَاءَ الْجَيْشُ فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ النَّصْرِ، وَكَانَ
أَرَادَ أَنْ يَلْبَسَ وَيُقَاتِلَ، فَعَذَلُوهُ فِي ذَلِكَ، وَقَالُوا:
الْمَصْلَحَةُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى السُّلْطَانِ سَامِعًا مُطِيعًا، فَخَرَجَ
بِلَا سِلَاحٍ، فَلَمَّا بَرَزَ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، الْتَفَّ عَلَيْهِ
الْفَخْرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَخَذُوهُ وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى نَاحِيَةِ
الْكُسْوَةِ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ قُبَّةِ يَلْبُغَا نَزَلُوا وَقَيَّدُوهُ
وَحَظَايَاهُ مِنْ قَصْرِهِ، ثُمَّ رَكِبَ الْبَرِيدَ وَهُوَ مُقَيَّدٌ، وَسَارُوا
بِهِ إِلَى السُّلْطَانِ، فَلَمَّا وَصَلَ أَمَرَ بِمَسِيرِهِ إِلَى
الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَسَأَلُوا عَنْ وَدَائِعِهِ فَأَقَرَّ بِبَعْضٍ، ثُمَّ
عُوقِبَ حَتَّى أَقَرَّ بِالْبَاقِي، ثُمَّ قَتَلُوهُ وَدَفَنُوهُ
بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، ثُمَّ نَقَلُوهُ إِلَى تُرْبَتِهِ بِدِمَشْقَ، رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَقَدْ جَاوَزَ السِّتِّينَ، وَكَانَ عَادِلًا مَهِيبًا، عَفِيفَ
الْفَرْجِ وَالْيَدِ، وَالنَّاسُ فِي أَيَّامِهِ فِي غَايَةِ الرُّخْصِ
وَالْأَمْنِ وَالصِّيَانَةِ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ، وَبَلَّ بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ.
وَلَهُ أَوْقَافٌ كَثِيرَةٌ; مِنْ ذَلِكَ مَرَسْتَانُ بِصَفَدَ، وَجَامِعٌ
بِنَابُلُسَ وَعَجْلُونَ، وَجَامِعٌ بِدِمَشْقَ، وَدَارُ حَدِيثٍ بِالْقُدْسِ
وَدِمَشْقَ، وَمَدْرَسَةٌ وَخَانَقَاهْ بِالْقُدْسِ، وَرِبَاطٌ وَسُوقٌ مَوْقُوفٌ
عَلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَفَتَحَ شُبَّاكًا فِي الْمَسْجِدِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ
فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ
ابْنُ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَلِيٍّ
الْحَسَنِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي عَلِيٍّ ابْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ، الْبَغْدَادِيُّ
الْأَصْلِ، الْمِصْرِيُّ الْمَوْلِدِ، مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، أَوْ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَقَرَأَ وَاشْتَغَلَ قَلِيلًا،
وَعَهِدَ إِلَيْهِ أَبُوهُ بِالْأَمْرِ، وَخُطِبَ لَهُ عِنْدَ وَفَاةِ وَالِدِهِ
سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِمِائَةٍ، وَفَوَّضَ جَمِيعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ
الْحَلِّ وَالْعَقْدِ إِلَى السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ، وَسَارَ إِلَى
غَزْوِ التَّتَرِ، فَشَهِدَ مَصَافَّ شَقْحَبَ، وَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي شَعْبَانَ
سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَهُوَ رَاكِبٌ مَعَ السُّلْطَانِ، وَجَمِيعُ
كُبَرَاءِ الْجَيْشِ مُشَاةٌ، وَلَمَّا أَعْرَضَ السُّلْطَانُ عَنِ الْأَمْرِ
وَانْعَزَلَ بِالْكَرَكِ، الْتَمَسَ الْأُمَرَاءُ مِنَ الْمُسْتَكْفِي أَنْ
يُسَلْطِنَ مَنْ يَنْهَضُ بِالْمُلْكِ، فَقَلَّدَ الْمَلِكَ الْمُظَفَّرَ رُكْنَ
الدِّينِ بِيبَرْسَ الْجَاشْنَكِيرَ، وَعَقَدَ لَهُ اللِّوَاءَ، وَأَلْبَسُهُ
خِلْعَةَ السَّلْطَنَةِ، ثُمَّ عَادَ النَّاصِرُ إِلَى مِصْرَ، وَعَزَّرَ
الْخَلِيفَةَ فِي فِعْلِهِ، ثُمَّ غَضِبَ عَلَيْهِ وَسَيَّرَهُ إِلَى قُوصَ،
فَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِقُوصَ فِي مُسْتَهَلِّ شَعْبَانَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ بِيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ وَسُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ الْمَلِكُ
النَّاصِرُ مُحَمَّدٌ ابْنُ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، وَقُضَاتُهُ
بِمِصْرَ هَمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَيْسَ فِي دِمَشْقَ
نَائِبُ سَلْطَنَةٍ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَسُدُّ الْأُمُورَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ طَشْتَمُرُ الْمُلَقَّبُ بِالْحِمَّصِ الْأَخْضَرِ، الَّذِي جَاءَ
بِالْقَبْضِ عَلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ تَنْكِزَ، ثُمَّ جَاءَهُ
الْمَرْسُومُ بِالرُّجُوعِ إِلَى صَفَدَ، فَرَكِبَ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ
وَتَوَجَّهَ إِلَى بَلَدِهِ، وَحَوَاصِلُ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ تَنْكِزَ
تَحْتَ الْحَوْطَةِ كَمَا هِيَ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ السَّبْتِ رَابِعِ الْمُحَرَّمِ مِنَ السَّنَةِ
الْمَذْكُورَةِ قَدِمَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ خَمْسَةُ أُمَرَاءٍ;
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَشْتَكُ النَّاصِرِيُّ، وَمَعَهُ بَرَسْبُغَا
الْحَاجِبُ، وَطَاشَارُ الدَّوِيدَارُ، وَبَيْغَرَا، وَبُكَّا، فَنَزَلَ بَشْتَكُ
بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ وَالْمَيَادِينِ، وَلَيْسَ مَعَهُ مِنْ مَمَالِيكِهِ
إِلَّا الْقَلِيلُ، وَإِنَّمَا جَاءَ لِتَجْدِيدِ الْبَيْعَةِ لِلسُّلْطَانِ
لَمَّا تَوَهَّمُوا مِنْ مُمَالَأَةِ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ لِنَائِبِ الشَّامِ
الْمُنْفَصِلِ، وَلِلْحَوْطَةِ عَلَى حَوَاصِلِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
تَنْكِزَ الْمُنْفَصِلِ عَنْ نِيَابَةِ الشَّامِ وَتَجْهِيزِهَا لِلدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَادِسِهِ دَخَلَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ
الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا إِلَى
دِمَشْقَ نَائِبًا،
فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ وَبَشْتَكُ وَالْأُمَرَاءُ الْمِصْرِيُّونَ، وَنَزَلُوا
إِلَى عَتَبَتِهِ فَقَبَّلُوا الْعَتَبَةَ الشَّرِيفَةَ، وَرَجَعُوا مَعَهُ إِلَى
دَارِ السَّعَادَةِ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَالِثَ عَشَرَهُ مُسِكَ مِنَ الْأُمَرَاءِ
الْمُقَدَّمَيْنِ أَمِيرَانِ كَبِيرَانِ; أُلْجَيْبُغَا الْعَادِلِيُّ،
وَطَيْبُغَا حَاجِّي، وَرُفِعَا إِلَى الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَاحْتِيطَ
عَلَى حَوَاصِلِهِمَا.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ تَحَمَّلُوا بَيْتَ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ سَيْفِ
الدِّينِ تَنْكِزَ وَأَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ خَامِسَ عَشَرَهُ رَكِبَ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا، وَمَعَهُ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ بَشْتَكُ النَّاصِرِيُّ، وَالْحَاجُّ أَرُقْطَايُ، وَسَيْفُ
الدِّينِ قُطْلُوبُغَا الْفَخْرِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ
الْمُقَدَّمِينَ، وَاجْتَمَعُوا بِسُوقِ الْخَيْلِ، وَاسْتَدْعَوْا بِمَمْلُوكَيِ
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ تَنْكِزَ; وَهُمَا جَنْغَايُ وَطَغَايُ، فَأُمِرَ
بِتَوْسِيطِهِمَا، فَوُسِّطَا، وَعُلِّقَا عَلَى الْخَشَبِ، وَنُودِيَ
عَلَيْهِمَا: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَخَامَرَ عَلَى السُّلْطَانِ النَّاصِرِ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ
كَانَتْ وَفَاةُ الْأَمِيرِ سَيْفِ
الدِّينِ تَنْكِزَ
نَائِبِ الشَّامِ بِقَلْعَةِ إِسْكَنْدَرِيَّةَ; قِيلَ: مَخْنُوقًا. وَقِيلَ:
مَسْمُومًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ
عَلَيْهِ كَثِيرًا، وَطَالَ حُزْنُهُمْ عَلَيْهِ، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ
يَتَذَكَّرُونَ مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الْهَيْبَةِ، وَالصِّيَانَةِ، وَالْغَيْرَةِ
عَلَى حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ وَمَحَارِمِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ إِقَامَتِهِ عَلَى
ذَوِي الْجَاهَاتِ وَغَيْرِهِمْ، وَيَشْتَدُّ تَأَسُّفُهُمْ عَلَيْهِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
وَقَدْ أَخْبَرَ الْقَاضِي أَمِينُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيُّ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - شَيْخَنَا الْحَافِظَ الْعَلَّامَةَ عِمَادَ الدِّينِ بْنَ كَثِيرٍ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ تَنْكِزَ مُسِكَ يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ، وَدَخَلَ مِصْرَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَدَخَلَ
الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَتِهَا فِي
الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، بِالْقُرْبِ مِنْ قَبْرِ
الْقَبَّارِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ جَنَازَةٌ جَيِّدَةٌ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَابِعِ شَهْرِ صَفَرٍ قَدِمَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
طَشْتَمُرُ الَّذِي مَسَكَ تَنْكِزَ إِلَى دِمَشْقَ فَنَزَلَ بِوَطْأَةِ بُرْزَةَ
بِجَيْشِهِ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى حَلَبَ الْمَحْرُوسَةِ نَائِبًا
بِهَا عِوَضًا عَنْ أُلْطُنْبُغَا الْمُنْفَصِلِ عَنْهَا.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَالِثَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ نُودِيَ فِي
الْبَلَدِ بِجِنَازَةِ الشَّيْخِ الصَّالِحِ الْعَابِدِ النَّاسِكِ الْقُدْوَةِ
الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ تَمَّامٍ، تُوُفِّيَ
بِالصَّالِحِيَّةِ،
فَذَهَبَ النَّاسُ إِلَى جَنَازَتِهِ إِلَى الْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ،
وَاجْتَمَعَ النَّاسُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، فَضَاقَ الْجَامِعُ الْمَذْكُورُ عَنْ
أَنْ يَسَعَهُمْ، وَصَلَّى النَّاسُ فِي الطُّرُقَاتِ وَأَرْجَاءِ
الصَّالِحِيَّةِ، وَكَانَ الْجَمْعُ كَثِيرًا جِدًّا لَمْ يَشْهَدِ النَّاسُ
جِنَازَةً بَعْدَ جِنَازَةِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ
مِثْلَهَا; لِكَثْرَةِ مَنْ حَضَرَهَا مِنَ النَّاسِ رِجَالًا وَنِسَاءً،
وَفِيهِمُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ وَالْأُمَرَاءُ وَجُمْهُورُ النَّاسِ،
يُقَارِبُونَ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَانْتَظَرَ النَّاسُ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ،
فَاشْتَغَلَ بِكِتَابٍ وَرَدَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَصُلِّيَ
عَلَى الشَّيْخِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِالْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ، وَدُفِنَ
عِنْدَ أَخِيهِ فِي تُرْبَةٍ بَيْنَ تُرْبَةِ الْمُوَفَّقِ وَبَيْنَ تُرْبَةِ
الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَإِيَّانَا.
وَفِي أَوَّلِ شَهْرِ جُمَادَى الْأُولَى تُوُفِّيَتِ الشَّيْخَةُ الْعَابِدَةُ
الصَّالِحَةُ الْعَالِمَةُ قَارِئَةُ الْقُرْآنِ، أُمُّ فَاطِمَةَ عَائِشَةُ
بِنْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ صِدِّيقٍ، زَوْجَةُ شَيْخِنَا الْحَافِظِ جَمَالِ
الدِّينِ الْمِزِّيِّ عَشِيَّةَ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ مُسْتَهَلِّ هَذَا
الشَّهْرِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهَا بِالْجَامِعِ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ،
وَدُفِنَتْ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ غَرْبِيِّ قَبْرِ الشَّيْخِ تَقِيِّ
الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، كَانَتْ عَدِيمَةَ النَّظِيرِ فِي
نِسَاءِ زَمَانِهَا; لِكَثْرَةِ عِبَادَتِهَا، وَتِلَاوَتِهَا، وَإِقْرَائِهَا
الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ بِفَصَاحَةٍ وَبَلَاغَةٍ، وَأَدَاءٍ صَحِيحٍ يَعْجِزُ
كَثِيرٌ مِنَ الرِّجَالِ عَنْ تَجْوِيدِهِ، وَخَتَّمَتْ نِسَاءً كَثِيرًا،
وَقَرَأَ عَلَيْهَا مِنَ النِّسَاءِ خَلْقٌ وَانْتَفَعْنَ بِهَا وَبِصَلَاحِهَا
وَدِينِهَا وَزُهْدِهَا فِي الدُّنْيَا، وَتُقَلُّلِهَا مِنْهَا مَعَ طُولِ
الْعُمُرِ، بَلَغَتْ ثَمَانِينَ سَنَةً، أَنْفَقَتْهَا فِي طَاعَةِ رَبِّهَا
صَلَاةً وَتِلَاوَةً، وَكَانَ الشَّيْخُ مُحْسِنًا إِلَيْهَا مُطِيعًا، لَا
يَكَادُ يُخَالِفُهَا; لِحُبِّهِ لَهَا طَبْعًا وَشَرْعًا، فَرَحِمَهَا اللَّهُ
وَقَدَّسَ رُوحَهَا، وَنَوَّرَ مَضْجَعَهَا بِالرَّحْمَةِ، آمِينَ.
وَفِي يَوْمِ
الْأَرْبِعَاءِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ دَرَّسَ بِمَدْرَسَةِ الشَّيْخِ
أَبِي عُمَرَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْهَادِي الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، فِي
التَّدْرِيسِ الْبَكْتَمُرِيِّ، عِوَضًا عَنِ الْقَاضِي بُرْهَانِ الدِّينِ
الزُّرَعِيِّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْمَقَادِسَةُ وَكِبَارُ الْحَنَابِلَةِ، وَلَمْ
يَتَمَكَّنْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنَ الْحُضُورِ; لِكَثْرَةِ الْمَطَرِ
وَالْوَحْلِ يَوْمَئِذٍ.
وَتَكَامَلَ عِمَارَةُ الْمَنَارَةِ الشَّرْقِيَّةِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ فِي
الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَاسْتَحْسَنَ النَّاسُ بِنَاءَهَا
وَإِتْقَانَهَا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُبْنَ فِي الْإِسْلَامِ
مَنَارَةٌ مِثْلَهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَوَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي
غَالِبِ ظُنُونِهِمْ أَنَّهَا الْمَنَارَةُ الْبَيْضَاءُ الشَّرْقِيَّةُ الَّتِي
ذُكِرَتْ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ فِي نُزُولِ عِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ فِي شَرْقِيِّ دِمَشْقَ، فَلَعَلَّ
لَفْظَ الْحَدِيثِ انْقَلَبَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى
الْمَنَارَةِ الشَّرْقِيَّةِ بِدِمَشْقَ، وَهَذِهِ الْمَنَارَةُ مَشْهُورَةٌ
بِالشَّرْقِيَّةِ لِمُقَابَلَتِهَا أُخْتَهَا الْغَرْبِيَّةَ، وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَلْخَ شَهْرِ شَوَّالٍ عُقِدَ مَجْلِسٌ فِي دَارِ
الْعَدْلِ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَحَضَرْتُهُ يَوْمَئِذٍ، وَاجْتَمَعَ الْقُضَاةُ
وَالْأَعْيَانُ عَلَى الْعَادَةِ، وَأُحْضِرَ يَوْمَئِذٍ عُثْمَانُ الدُّوكَالِيُّ
- قَبَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَادُّعِيَ عَلَيْهِ بِعَظَائِمَ مِنَ الْقَوْلِ
لَمْ يُؤْثَرْ مِثْلُهَا عَنِ الْحَلَّاجِ، وَلَا عَنِ ابْنِ أَبِي الْعَزَاقِرِ
الشَّلْمَغَانِيِّ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِدَعْوَى
الْإِلَهِيَّةِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَأَشْيَاءَ أُخَرَ مِنَ التَّنْقِيصِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَمُخَالَطَتِهِ أَرْبَابَ الرَّيْبِ مِنَ الْبَاجُرْبَقِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الِاتِّحَادِيَّةِ عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ، وَوَقَعَ مِنْهُ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ إِسَاءَةِ الْأَدَبِ عَلَى الْقَاضِي الْحَنْبَلِيِّ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ تَكْفِيرُهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، فَادَّعَى أَنَّ لَهُ دَوَافِعَ وَقَوَادِحَ فِي بَعْضِ الشُّهُودِ، فَرُدَّ إِلَى السِّجْنِ مُقَيَّدًا مَغْلُولًا مَقْبُوحًا، أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُ بِقُوَّتِهِ وَتَأْيِيدِهِ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ أُحْضِرَ عُثْمَانُ الدُّوكَالِيُّ الْمَذْكُورُ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، وَأُقِيمَ بَيْنَ يَدَيْ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ، وَسُئِلَ عَنِ الْقَوَادِحِ فِي الشُّهُودِ فَعَجَزَ فَلَمْ يَقْدِرْ، وَعَجَزَ عَنْ ذَلِكَ، فَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، فَسُئِلَ الْقَاضِي الْمَالِكِيُّ الْحُكْمَ عَلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى رَسُولِهِ، ثُمَّ حَكَمَ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ وَإِنْ تَابَ، فَأُخِذَ الْمَذْكُورُ فَضُرِبَتْ رَقَبَتُهُ بِدِمَشْقَ بِسُوقِ الْخَيْلِ، وَنُودِيَ عَلَيْهِ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ يَكُونُ عَلَى مَذْهَبِ الِاتِّحَادِيَّةِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا بِدَارِ السَّعَادَةِ، حَضَرَ يَوْمَئِذٍ خَلْقٌ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْمَشَايِخِ، وَحَضَرَ شَيْخُنَا جَمَالُ الدِّينِ الْمِزِّيُّ الْحَافِظُ، وَشَيْخُنَا الْحَافِظُ شَمْسُ الدِّينِ الذَّهَبِيُّ، وَتَكَلَّمَا، وَحَرَّضَا فِي الْقَضِيَّةِ جِدًّا، وَشَهِدَا بِزَنْدَقَةِ الْمَذْكُورِ بِالِاسْتِفَاضَةِ، وَكَذَا الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ أَخُو الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ تَيْمِيَةَ، وَخَرَجَ الْقُضَاةُ الثَّلَاثَةُ; الْمَالِكِيُّ، وَالْحَنَفِيُّ، وَالْحَنْبَلِيُّ، وَهُمْ نَفَّذُوا حُكْمَهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَحَضَرُوا قَتْلَ الْمَذْكُورِ، وَكُنْتُ مُبَاشِرًا لِجَمِيعِ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
الثَّانِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ أُفْرِجَ عَنِ الْأَمِيرَيْنِ
الْمُعْتَقَلَيْنِ بِالْقَلْعَةِ; وَهُمَا طَيْبُغَا حَاجِّي، وَأُلْجَيْبُغَا، وَكَذَلِكَ
أُفْرِجَ عَنْ خَزَانْدَارِيَّةِ تَنْكِزَ الَّذِينَ تَأَخَّرُوا بِالْقَلْعَةِ،
وَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ.
ذِكْرُ وَفَاةِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمْدِ بْنِ قَلَاوُونَ
فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
قَدِمَ إِلَى دِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُطْلُوبُغَا الْفَخْرِيُّ،
فَخَرَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَعَامَّةُ الْأُمَرَاءِ لِتَلَقِّيهِ، وَكَانَ
قُدُومُهُ عَلَى خَيْلِ الْبَرِيدِ، فَأَخْبَرَ بِوَفَاةِ السُّلْطَانِ الْمَلَكِ
النَّاصِرِ - كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ آخِرَهُ - وَأَنَّهُ
صُلِّيَ عَلَيْهِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَدُفِنَ مَعَ أَبِيهِ
الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ عَلَى وَلَدِهِ آنُوكَ، وَكَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ أَخَذَ
الْعَهْدَ لِابْنِهِ سَيْفِ الدِّينِ أَبِي بَكْرٍ وَلَقَّبَهُ بِالْمَلِكِ
الْمَنْصُورِ، فَلَمَّا دُفِنَ السُّلْطَانُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ حَضَرَهُ مِنَ
الْأُمَرَاءِ قَلِيلٌ، وَكَانَ قَدْ وُلِّيَ عَلَيْهِ الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ
الْجَاوِلِيُّ، وَرَجُلٌ آخَرُ مَنْسُوبٌ إِلَى الصَّلَاحِ يُقَالُ لَهُ: الشَّيْخُ
عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْجَعْبَرِيُّ، وَشَخْصٌ آخَرُ مِنَ
الْجَبَابِرِيَّةِ، وَدُفِنَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَمْ يَحْضُرْ
وَلَدُهُ وَلِيُّ
عَهْدِهِ دَفْنَهُ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْقَلْعَةِ لَيْلَتَئِذٍ عَنْ مَشُورَةِ
الْأُمَرَاءِ; لِئَلَّا يَتَخَبَّطَ النَّاسُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْقَاضِي عِزُّ
الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ إِمَامًا، وَالْجَاوِلِيُّ، وَأَيْدُغْمُشُ أَمِيرُ
آخُورَ، وَالْقَاضِي بَهَاءُ الدِّينِ أَبُو حَامِدٍ ابْنِ قَاضِي دِمَشْقَ
السُّبْكِيِّ، وَجَلَسَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ سَيْفُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ
أَبُو الْمَعَالِي أَبُو بَكْرٍ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْخَمِيسِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ بَايَعَهُ الْجَيْشُ الْمِصْرِيُّ،
وَقَدِمَ الْفَخْرِيُّ لِأَخْذِ الْبَيْعَةِ مِنَ الشَّامِيِّينَ، وَنَزَلَ
بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، وَبَايَعَ النَّاسُ لِلْمَلِكِ الْمَنْصُورِ ابْنِ
النَّاصِرِ ابْنِ الْمَنْصُورِ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِالْقَلْعَةِ
الْمَنْصُورَةِ بِدِمَشْقَ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْخَمِيسِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ
مِنْهُ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِالْمَلِكِ الْجَدِيدِ، وَتَرَحَّمُوا عَلَى
الْمَلِكِ، وَدَعَوْا لَهُ، وَتَأَسَّفُوا عَلَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ بِيَوْمِ الْأَحَدِ، وَسُلْطَانُ الْإِسْلَامِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ وَمَا وَالَاهَا الْمَلِكُ
الْمَنْصُورُ سَيْفُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ
النَّاصِرِ نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ ابْنِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ
سَيْفِ الدِّينِ قَلَاوُونَ الصَّالِحِيُّ، وَنَائِبُ الشَّامِ الْأَمِيرُ عَلَاءُ
الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا، وَقُضَاةُ الشَّامِ وَمِصْرَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي
الَّتِي قَبْلَهَا، وَكَذَا الْمُبَاشِرُونَ سِوَى الْوُلَاةِ.
شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ: وِلَايَةُ الْخَلِيفَةِ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ
اللَّهِ: وَفِي هَذَا الْيَوْمِ بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
أَبُو الْقَاسِمِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ أَبِي الرَّبِيعِ
سُلَيْمَانَ الْعَبَّاسِيُّ، وَلَبِسَ السَّوَادَ، وَجَلَسَ مَعَ الْمَلِكِ
الْمَنْصُورِ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ، وَأَلْبَسُهُ خِلْعَةً سَوْدَاءَ
أَيْضًا، فَجَلَسَا وَعَلَيْهِمَا السَّوَادُ، وَخَطَبَ الْخَلِيفَةُ يَوْمَئِذٍ
خُطْبَةً بَلِيغَةً فَصِيحَةً مُشْتَمِلَةً عَلَى أَشْيَاءَ مِنَ الْمَوَاعِظِ،
وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَخَلَعَ يَوْمَئِذٍ
عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَعْيَانِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا،
وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ هَذَا قَدْ عَهِدَ إِلَيْهِ أَبُوهُ بِالْخِلَافَةِ،
وَلَكِنْ لَمْ يُمَكِّنْهُ النَّاصِرُ مِنْ ذَلِكَ، وَوَلَّى أَبَا إِسْحَاقَ
إِبْرَاهِيمَ ابْنَ أَخِي أَبِي الرَّبِيعِ، وَلَقَّبَهُ الْوَاثِقَ بِاللَّهِ،
وَخُطِبَ لَهُ بِالْقَاهِرَةِ جُمْعَةً وَاحِدَةً، فَعَزَلَهُ الْمَنْصُورُ،
وَقَرَّرَ أَبَا الْقَاسِمِ هَذَا، وَأَمْضَى الْعَهْدَ، وَلَقَّبَهُ الْمُسْتَنْصِرَ
بِاللَّهِ، كَمَا ذَكَرْنَا.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ
ثَامِنِ الْمُحَرَّمِ مُسِكَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَشْتَكُ النَّاصِرِيُّ
آخِرَ النَّهَارِ، وَكَانَ قَدْ كُتِبَ تَقْلِيدُهُ بِنِيَابَةِ الشَّامِ وَخُلِعَ
عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَبَرَزَ ثَقَلُهُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ
لِيُوَدِّعَهُ، فَرَحَّبَ بِهِ، وَأَجْلَسَهُ، وَأَحْضَرَ طَعَامًا وَأَكَلًا،
وَتَأَسَّفَ السُّلْطَانُ عَلَى فِرَاقِهِ، وَقَالَ: تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنِي
وَحْدِي ؟ ثُمَّ قَامَ لِتَوْدِيعِهِ، وَذَهَبَ بَشْتَكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
ثَمَانِيَ خُطُوَاتٍ أَوْ نَحْوَهَا، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ،
فَقَطَعَ أَحَدُهُمْ سَيْفَهُ مِنْ سَوْطِهِ بِسِكِّينٍ، وَوَضَعَ الْآخَرُ يَدَهُ
عَلَى فَمِهِ، وَكَتَّفَهُ الْآخَرُ، وَقَيَّدُوهُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ،
ثُمَّ غُيِّبَ فَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ إِلَى أَيْنَ صَارَ، ثُمَّ قَالُوا
لِمَمَالِيكِهِ: اذْهَبُوا أَنْتُمْ فَائْتُوا بِمَرْكُوبِ الْأَمِيرِ غَدًا،
فَهُوَ بَائِتٌ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَأَصْبَحَ السُّلْطَانُ، وَجَلَسَ عَلَى
سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ، وَأَمَرَ بِمَسْكِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَتِسْعَةٍ
مِنَ الْكِبَارِ، وَاحْتَاطُوا عَلَى حَوَاصِلِهِ، وَأَمْوَالِهِ، وَأَمْلَاكِهِ،
فَيُقَالُ: إِنَّهُ وُجِدَ عِنْدَهُ مِنَ الذَّهَبِ أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ
وَسَبْعُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفَاةُ شَيْخِنَا الْحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِزِّيِّ: تَمَرَّضَ أَيَّامًا
يَسِيرَةً مَرَضًا لَا يَشْغَلُهُ عَنْ شُهُودِ الْجَمَاعَةِ، وَحُضُورِ
الدُّرُوسِ، وَإِسْمَاعِ الْحَدِيثِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ حَادِيَ
عَشَرَ صَفَرٍ أَسْمَعَ الْحَدِيثَ إِلَى قَرِيبِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ دَخَلَ
مَنْزِلَهُ لِيَتَوَضَّأَ وَيَذْهَبَ لِلصَّلَاةِ، فَاعْتَرَضَهُ فِي بَاطِنِهِ
مَغَصٌ عَظِيمٌ، ظَنَنَّا أَنَّهُ قُولَنْجُ، وَمَا كَانَ إِلَّا طَاعُونًا،
فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى حُضُورِ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الصَّلَاةِ
أُخْبِرْتُ بِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ
فَإِذَا هُوَ يَرْتَعِدُ رِعْدَةً
شَدِيدَةً مِنْ قُوَّةِ الْأَلَمِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ حَالِهِ فَجَعَلَ يُكَرِّرُ: الْحَمْدُ اللَّهِ، ثُمَّ أَخْبَرَنِي بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْمَغَصِ الشَّدِيدِ، وَصَلَّى الظُّهْرَ بِنَفْسِهِ، وَدَخَلَ إِلَى الطَّهَارَةِ، وَتَوَضَّأَ عَلَى حَافَّةِ الْبِرْكَةِ وَهُوَ فِي قُوَّةِ الْوَجَعِ، ثُمَّ اتَّصَلَ بِهِ هَذَا الْحَالُ إِلَى الْغَدِ مِنْ يَوْمِ السَّبْتِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الظُّهْرِ لَمْ أَكُنْ حَاضِرَهُ إِذْ ذَاكَ، لَكِنْ أَخْبَرَتْنِي ابْنَتُهُ زَيْنَبُ زَوْجَتِي أَنَّهُ لَمَّا أَذَّنَ الظُّهْرُ تَغَيَّرَ ذِهْنُهُ قَلِيلًا، فَقَالَتْ: يَا أَبَتِ، أَذَّنَ الظُّهْرُ، فَذَكَرَ اللَّهَ، وَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ أُصَلِّيَ. فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى، ثُمَّ اضْطَجَعَ فَجَعَلَ يَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ حَتَّى جَعَلَ لَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ، ثُمَّ قُبِضَتْ رُوحُهُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَوْمَ السَّبْتِ ثَانِيَ عَشَرَ صَفَرٍ، فَلَمْ يُمْكِنْ تَجْهِيزُهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ يَوْمَ الْأَحَدِ ثَالِثَ عَشَرَ صَفَرٍ، غُسِّلَ صَبِيحَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَكُفِّنَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَحَضَرَ الْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ، وَخَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَخُرِجَ بِجَنَازَتِهِ مِنْ بَابِ النَّصْرِ، وَخَرَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا وَمَعَهُ دِيوَانُ السُّلْطَانِ، وَالصَّاحِبُ، وَكَاتِبُ السِّرِّ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَصَلَّوْا عَلَيْهِ خَارِجَ بَابِ النَّصْرِ، أَمَّهُمْ عَلَيْهِ الْقَاضِي تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ إِلَى مَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ، فَدُفِنَ هُنَاكَ إِلَى جَانِبِ زَوْجَتِهِ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ الْحَافِظَةِ لِكِتَابِ اللَّهِ، عَائِشَةَ بِنْتِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ صِدِّيقٍ، غَرْبِيَّ قَبْرِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ، وَقَدْ تَرْجَمْتُهُ فِي أَوَّلِ شَرْحِ " الْبُخَارِيِّ ".
كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ
جِدًّا
قَدِمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الثَّلَاثِينَ مِنْ صَفَرٍ أَمِيرٌ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَمَعَهُ الْأَمْرُ بِالْبَيْعَةِ لِلْمَلِكِ الْأَشْرَفِ عَلَاءِ
الدِّينِ كُجُكَ ابْنِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ، وَذَلِكَ بَعْدَ عَزْلِ
أَخِيهِ الْمَنْصُورِ; لِمَا صَدَرَ عَنْهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي ذُكِرَ
أَنَّهُ تَعَاطَاهَا مِنْ شُرْبِ الْمُسْكِرِ، وَغِشْيَانِ الْمُنْكَرَاتِ،
وَتَعَاطِي مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَمُعَاشَرَةِ الْخَاصِّكِيَّةِ مِنَ
الْمُرْدَانِ وَغَيْرِهِمْ، فَتَمَالَأَ عَلَى خَلْعِهِ كِبَارُ الْأُمَرَاءِ
لَمَّا رَأَوُا الْأَمْرَ تَفَاقَمَ إِلَى الْفَسَادِ الْعَرِيضِ، فَأَحْضَرُوا
الْخَلِيفَةَ الْحَاكِمَ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الرَّبِيعِ سُلَيْمَانَ،
فَأُثْبِتَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا نُسِبَ إِلَى الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ الْمَذْكُورِ
مِنَ الْأُمُورِ، فَحِينَئِذٍ خَلَعَهُ، وَخَلَعَهُ الْأُمَرَاءُ الْكِبَارُ
وَغَيْرُهُمْ، وَاسْتَبْدَلُوا مَكَانَهُ أَخَاهُ هَذَا الْمَذْكُورَ،
وَسَيَّرُوهُ إِذْ ذَاكَ إِلَى قُوصَ مُضَيَّقًا عَلَيْهِ وَمَعَهُ إِخْوَةٌ لَهُ
ثَلَاثَةٌ - وَقِيلَ أَكْثَرُ - وَأَجْلَسُوا الْمَلِكَ الْأَشْرَفَ هَذَا عَلَى
السَّرِيرِ، وَنَابَ لَهُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُوصُونُ النَّاصِرِيُّ،
وَاسْتَمَرَّتِ الْأُمُورُ عَلَى السَّدَادِ، وَجَاءَتِ الْبَيْعَةُ إِلَى
الشَّامِ، فَبَايَعَهُ الْأُمَرَاءُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الْمَذْكُورِ، وَضُرِبَتِ
الْبَشَائِرُ عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ مُسْتَهَلَّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَخُطِبَ لَهُ
بِدِمَشْقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِحَضْرَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ وَالْقُضَاةِ
وَالْأَعْيَانِ وَالْأُمَرَاءِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ حَضَرَ الدَّرْسَ
بِدَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ
السُّبْكِيُّ، عِوَضًا عَنْ شَيْخِنَا الْحَافِظِ جَمَالِ الدِّينِ
الْمِزِّيِّ،
وَمَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ النُّورِيَّةِ عِوَضًا عَنِ ابْنِهِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
وَفِي شَهْرِ جُمَادَى الْأُولَى اشْتُهِرَ أَنَّ نَائِبَ حَلَبَ الْأَمِيرَ
سَيْفَ الدِّينِ طَشْتَمُرَ الْمُلَقَّبَ بِالْحِمَّصِ الْأَخْضَرِ قَائِمٌ فِي
نُصْرَةِ ابْنِ السُّلْطَانِ الْأَمِيرِ أَحْمَدَ الَّذِي بِالْكَرَكِ، وَأَنَّهُ
يَسْتَخْدِمُ لِذَلِكَ وَيَجْمَعُ الْجُمُوعَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي
الْعَشْرِ الثَّانِي مِنْهُ وَصَلَتِ الْجُيُوشُ صُحْبَةَ الْأَمِيرِ سَيْفِ
الدِّينِ قُطْلُوبُغَا الْفَخْرِيِّ إِلَى الْكَرَكِ فِي طَلَبِ ابْنِ
السُّلْطَانِ الْأَمِيرِ أَحْمَدَ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ كَثُرَ الْكَلَامُ فِي أَمْرِ الْأَمِيرِ أَحْمَدَ بْنِ
النَّاصِرِ الَّذِي بِالْكَرَكِ; بِسَبَبِ مُحَاصَرَةِ الْجَيْشِ الَّذِي صُحْبَةُ
الْفَخْرِيِّ لَهُ، وَاشْتَهَرَ أَنَّ نَائِبَ حَلَبَ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ
طَشْتَمُرَ الْمُلَقَّبَ بِالْحِمَّصِ الْأَخْضَرِ قَائِمٌ بِجَنْبِ أَوْلَادِ
السُّلْطَانِ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى
الصَّعِيدِ، وَفِي الْقِيَامِ بِالْمُدَافَعَةِ عَنِ الْأَمِيرِ أَحْمَدَ،
لِيَصْرِفَ عَنْهُ الْجَيْشَ، وَتَرَكَ حِصَارَهُ وَعَزَمَ بِالذَّهَابِ إِلَى
الْكَرَكِ لِنُصْرَةِ أَحْمَدَ ابْنِ أُسْتَاذِهِ، وَتَهَيَّأَ لَهُ نَائِبُ
الشَّامِ بِدِمَشْقَ، وَنَادَى فِي الْجَيْشِ لِمُلْتَقَاهُ وَمُدَافَعَتِهِ
عَمَّا يُرِيدُ مِنْ إِقَامَةِ الْفِتْنَةِ وَشَقِّ الْعَصَا، وَاهْتَمَّ
الْجُنْدُ لِذَلِكَ، وَتَأَهَّبُوا وَاسْتَعَدُّوا، وَلَحِقَهُمْ فِي ذَلِكَ
كُلْفَةٌ كَثِيرَةٌ، وَانْزَعَجَ النَّاسُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَتَخَوَّفُوا أَنْ
تَكُونَ فِتْنَةً، وَحَسِبُوا إِنْ وَقَعَ قِتَالٌ بَيْنِهِمْ أَنْ تَقُومَ
الْعَشِيرَاتُ فِي الْجِبَالِ وَحَوْرَانَ، وَتَتَعَطَّلَ مَصَالِحُ الزِّرَاعَاتِ
وَغَيْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَدِمَ مِنْ حَلَبَ حَاجِبُ السُّلْطَانِ فِي
الرَّسْلِيَّةِ إِلَى نَائِبِ دِمَشْقَ الْأَمِيرِ عَلَاءِ الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا
وَمَعَهُ مُشَافَهَةٌ فَاسْتَمَعَ لَهَا، فَبَعَثَ مَعَهُ صَاحِبَ الْمَيْسَرَةِ
أَيَّانَ السَّاقِيَ، فَذَهَبَا إِلَى حَلَبَ ثُمَّ
رَجَعَا فِي أَوَاخِرِ
جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَتَوَجَّهَا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَاشْتَهَرَ
أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَافَقَ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ
رُجُوعِ أَوْلَادِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ إِلَى مِصْرَ مَا عَدَا الْمَنْصُورَ،
وَأَنْ يُخَلَّى عَنْ مُحَاصَرَةِ الْكَرَكِ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى تُوُفِّيَ مُظَفَّرُ الدِّينِ
مُوسَى بْنُ مُهَنَّا مَلِكُ الْعَرَبِ، وَدُفِنَ بِتَدْمُرَ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَةِ عِنْدَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ تُوُفِّيَ الْخَطِيبُ بَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ ابْنُ الْقَاضِي
جَلَالِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ، بِدَارِ الْخَطَابَةِ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ كَمَا قَدَّمْنَا، فَخَطَبَ جُمْعَةً وَاحِدَةً،
وَصَلَّى بِالنَّاسِ إِلَى لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، ثُمَّ مَرِضَ،
فَخَطَبَ عَنْهُ أَخُوهُ تَاجُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ عَلَى الْعَادَةِ
ثَلَاثَ جُمَعٍ وَهُوَ مَرِيضٌ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ يَوْمَئِذٍ، وَتَأَسَّفَ
النَّاسُ عَلَيْهِ; لِحُسْنِ شَكْلِهِ، وَصَبَاحَةِ وَجْهِهِ، وَحُسْنِ
مُلْتَقَاهُ، وَتَوَاضُعِهِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ
الظُّهْرَ، فَتَأَخَّرَ تَجْهِيزُهُ إِلَى الْعَصْرِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ
بِالْجَامِعِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ، وَخَرَجَ بِهِ
النَّاسُ إِلَى الصُّوفِيَّةِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً جِدًّا، فَدُفِنَ
عِنْدَ أَبِيهِ بِالتُّرْبَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا الْخَطِيبُ بَدْرُ الدِّينِ
هُنَاكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ خَامِسِ الشَّهْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ خَرَجَ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا هُوَ وَجَمِيعُ
الْجَيْشِ قَاصِدِينَ الْبِلَادَ الْحَلَبِيَّةَ; لِلْقَبْضِ عَلَى نَائِبِ حَلَبَ
الْأَمِيرِ سَيْفِ
الدِّينِ طَشْتَمُرَ; لِأَجْلِ مَا أَظْهَرَ مِنَ الْقِيَامِ مَعَ ابْنِ
السُّلْطَانِ الْأَمِيرِ أَحْمَدَ الَّذِي فِي الْكَرَكِ، وَخَرَجَ النَّاسُ فِي
يَوْمٍ شَدِيدِ الْمَطَرِ كَثِيرِ الْوَحْلِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا
عَصِيبًا، أَحْسَنَ اللَّهُ الْعَاقِبَةَ.
وَأَمَرَ الْقَاضِي تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ الْخَطِيبَ وَالْمُؤَذِّنِينَ
بِزِيَادَةِ أَذْكَارٍ عَلَى الَّذِي كَانَ سَنَّهُ فِيهِمُ الْخَطِيبُ بَدْرُ
الدِّينِ، مِنَ التَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّهْلِيلِ الْكَثِيرِ ثَلَاثًا
وَثَلَاثِينَ، فَزَادَهُمُ السُّبْكِيُّ قَبْلَ ذَلِكَ:أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ
الْعَظِيمَ - ثَلَاثًا - اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ،
تَبَارَكَتْ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.
كَمَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ ". وَبَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ
وَالْمَغْرِبِ - بَعْدَ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ -: اللَّهُمَّ
أَجِرْنَا مِنَ النَّارِ سَبْعًا،أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ
شَرِّ مَا خَلَقَ ثَلَاثًا، وَكَانُوا قَبْلَ تِلْكَ السَّنَوَاتِ قَدْ زَادُوا
بَعْدَ التَّأْذِينِ الْآيَةَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَالتَّسْلِيمَ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْتَدِئُ الرَّئِيسُ مُنْفَرِدًا
ثُمَّ يُعِيدُ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ بِطَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ، وَصَارَ ذَلِكَ
سَبَبًا لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِي صَحْنِ الْجَامِعِ لِاسْتِمَاعِ ذَلِكَ،
وَكُلَّمَا كَانَ الْمُبْتَدِئُ حَسَنَ الصَّوْتِ كَانَتِ الْجَمَاعَةُ أَكْثَرَ
اجْتِمَاعًا، وَلَكِنْ طَالَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْفَصْلُ، وَتَأَخَّرَتِ الصَّلَاةُ
عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا.
كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ
جِدًّا
وَفِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ عَشِيَّةَ السَّبْتِ نَزَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
قُطْلُوبُغَا الْفَخْرِيُّ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ، بَيْنَ الْجُسُورَةِ وَمَيْدَانِ
الْحَصَا، بِالْأَطْلَابِ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهُ مِنَ الْبِلَادِ
الْمِصْرِيَّةِ لِمُحَاصَرَةِ الْكَرَكِ ; لِلْقَبْضِ عَلَى ابْنِ السُّلْطَانِ
الْأَمِيرِ أَحْمَدَ بْنِ النَّاصِرِ، فَمَكَثُوا عَلَى الثَّنِيَّةِ مُحَاصِرِينَ
مُضَيِّقِينَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ تَوَجَّهَ نَائِبُ الشَّامِ إِلَى حَلَبَ،
وَمَضَتْ هَذِهِ الْأَيَّامُ الْمَذْكُورَةُ، فَمَا دَرَى النَّاسُ إِلَّا وَقَدْ
جَاءَ الْفَخْرِيُّ وَجُمُوعُهُ، وَقَدْ بَايَعُوا الْأَمِيرَ أَحْمَدَ،
وَسَمَّوْهُ النَّاصِرَ ابْنَ النَّاصِرِ، وَخَلَعُوا بَيْعَةَ أَخِيهِ الْمَلِكِ
الْأَشْرَفِ عَلَاءِ الدِّينِ كُجُكَ، وَاعْتَلُّوا بِصِغَرِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّ
أَتَابَكَهُ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ قُوصُونَ النَّاصِرِيَّ قَدْ عَدَى عَلَى
ابْنَيِ السُّلْطَانِ فَقَتَلَهُمَا خَنْقًا بِبِلَادِ الصَّعِيدِ، وَجَهَّزَ
إِلَيْهِمَا مَنْ تَوَلَّى ذَلِكَ، وَهُمَا الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ أَبُو بَكْرٍ،
وَرَمَضَانُ، فَتَنَكَّرَ الْأَمِيرُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، قَالُوا: هَذَا يُرِيدُ
أَنَّ يَجْتَاحَ هَذَا الْبَيْتَ لِيَتَمَكَّنَ هُوَ مِنْ أَخْذِ الْمَمْلَكَةِ.
فَحَمُوا لِذَلِكَ، وَبَايَعُوا ابْنَ أُسْتَاذِهِمْ، وَجَدُّوا فِي الذَّهَابِ
خَلْفَ الْجَيْشِ لِيَكُونُوا عَوْنًا لِلْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ طَشْتَمُرَ
نَائِبِ حَلَبَ وَمَنْ مَعَهُ، وَقَدْ كَتَبُوا إِلَى الْأُمَرَاءِ
يَسْتَمِيلُونَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَلَمَّا نَزَلُوا بِظَاهِرِ دِمَشْقَ خَرَجَ
إِلَيْهِمْ مَنْ بِدِمَشْقَ مِنَ الْأَكَابِرِ، وَالْقُضَاةِ، وَالْمُبَاشِرِينَ،
مِثْلُ: وَالِي الْبَرِّ، وَوَالِي الْمَدِينَةِ، وَالْمَهْمَنْدَارِ،
وَغَيْرُهُمْ، فَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ خَرَجَ أَهْلُ دِمَشْقَ عَنْ بَكْرَةِ
أَبِيهِمْ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي
قُدُومِ السَّلَاطِينِ وَدُخُولِ الْحُجَّاجِ، بَلْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَخَرَجَ الْقُضَاةُ، وَالصَّاحِبُ، وَالْأَعْيَانُ، وَالْوُلَاةُ، وَغَيْرُهُمْ، وَدَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُطْلُوبُغَا فِي دَسْتِ نِيَابَةِ السَّلْطَنَةِ الَّتِي فَوَّضَهَا إِلَيْهِ الْمَلِكُ النَّاصِرُ الْجَدِيدُ، وَعَنْ يَمِينِهِ الشَّافِعِيُّ، وَعَنْ شَمَالِهِ الْحَنَفِيُّ عَلَى الْعَادَةِ، وَالْجَيْشُ كُلُّهُ مُحْدِقٌ بِهِ فِي الْحَدِيدِ. وَالنُّقَّارَاتُ، وَالْبُوقَاتُ، وَالشَّبَّابَةُ السُّلْطَانِيَّةُ، وَالسَّنَاجِقُ الْخَلِيفَتِيَّةُ وَالسُّلْطَانِيَّةُ تَخْفِقُ، وَالنَّاسُ فِي الدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ لِلْفَخْرِيِّ، وَهُمْ فِي غَايَةِ الِاسْتِبْشَارِ وَالْفَرَحِ، وَرُبَّمَا نَالَ بَعْضُ جَهَلَةِ النَّاسِ مِنَ النَّائِبِ الْآخَرِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَى حَلَبَ، وَدَخَلَتِ الْأَطْلَابُ بَعْدَهُ عَلَى تَرْتِيبِهِمْ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، فَنَزَلَ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ قَرِيبًا مِنْ خَانِ لَاجِينَ، وَبَعَثَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَرَسَمَ عَلَى الْقُضَاةِ وَالصَّاحِبِ، وَأَخَذَ مِنْ أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَغَيْرِهَا خَمْسَمِائَةِ أَلْفٍ، وَعَوَّضَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِقَرْيَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ سِجِلَّاتٍ، وَاسْتَخْدَمَ جُنْدًا، وَانْضَافَ إِلَيْهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ تَخَلَّفُوا بِدِمَشْقَ جَمَاعَةٌ; مِنْهُمْ تَمُرُ السَّاقِي مُقَدَّمٌ، وَابْنُ قَرَاسُنْقُرَ، وَابْنُ الْكَامِلِ، وَابْنُ الْمُعَظَّمِ، وَابْنُ الْبَلَدِيِّ وَغَيْرُهُمْ، وَبَايَعَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَعَ مُبَاشِرِي دِمَشْقَ لِلْمَلِكِ النَّاصِرِ ابْنِ النَّاصِرِ، وَأَقَامَ الْفَخْرِيُّ عَلَى خَانِ لَاجِينَ، وَخَرَجَ الْمُتَعَيِّشُونَ بِالصَّنَائِعِ إِلَى عِنْدِهِمْ، وَضُرِبَتِ الْبَشَائِرُ بِالْقَلْعَةِ صَبِيحَةَ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَادِسَ عَشَرَ الشَّهْرِ، وَنُودِيَ بِالْبَلَدِ: إِنَّ سُلْطَانَكُمُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ أَحْمَدُ بْنُ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ، وَنَائِبَكُمْ سَيْفُ الدِّينِ قُطْلُوبُغَا الْفَخْرِيُّ، وَفَرِحَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِذَلِكَ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ نَائِبُ صَفَدَ، وَبَايَعَهُ نَائِبُ بَعْلَبَكَّ، وَاسْتَخْدَمُوا لَهُ رِجَالًا
وَجُنْدًا، وَرَجَعَ
إِلَيْهِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ سَنْجَرُ الْجُمَقْدَارُ رَأْسُ
الْمَيْمَنَةِ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ قَدْ تَأَخَّرَ فِي السَّفَرِ عَنْ نَائِبِ
دِمَشْقَ عَلَاءِ الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا; بِسَبَبِ مَرَضٍ عَرَضَ لَهُ، فَلَمَّا
قَدِمَ الْفَخْرِيُّ رَجَعَ إِلَيْهِ وَبَايَعَ النَّاصِرَ ابْنَ النَّاصِرِ،
ثُمَّ كَاتَبَ نَائِبَ حَمَاةَ طُقُزْدَمُرَ - الَّذِي نَابَ بِمِصْرَ لِلْمَلِكِ
الْمَنْصُورِ - فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدِمَ عَلَى الْعَسْكَرِ يَوْمَ
السَّبْتِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ فِي تَجَمُّلٍ
عَظِيمٍ، وَخَزَائِنَ كَثِيرَةٍ، وَثَقَلٍ هَائِلٍ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَحَدِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ
الْمَذْكُورِ كَسَفَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ الظُّهْرِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى
الْآخِرَةِ قَدِمَ نَائِبُ غَزَّةَ الْأَمِيرُ آقْ سُنْقُرُ فِي جَيْشٍ، وَهُوَ
قَرِيبٌ مِنْ أَلْفَيْنِ، فَدَخَلُوا دِمَشْقَ وَقْتَ الْفَجْرِ، وَغَدَوْا إِلَى
مُعَسْكَرِ الْفَخْرِيِّ، فَانْضَافُوا إِلَيْهِمْ، فَفَرِحُوا بِهِمْ كَثِيرًا،
وَصَارَ فِي قَرِيبٍ مِنْ خَمْسَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ أَوْ يَزِيدُونَ.
اسْتَهَلَّ شَهْرُ رَجَبٍ، الْفَرْدُ وَالْجَمَاعَةُ مِنْ أَكَابِرِ التُّجَّارِ
مَطْلُوبُونَ بِسَبَبِ أَمْوَالٍ طَلَبَهَا مِنْهُمُ الْفَخْرِيُّ; يُقَوِّي بِهَا
جَيْشَهُ الَّذِي مَعَهُ، وَمَبْلَغُ الْمَالِ الَّذِي أَرَادَهُ مِنْهُمْ أَلْفُ
أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمَعَهُ مَرْسُومُ النَّاصِرِ ابْنِ النَّاصِرِ بِبَيْعِ
أَمْلَاكِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ قُوصُونَ أَتَابَكِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ
عَلَاءِ الدِّينِ كُجُكَ بْنِ النَّاصِرِ الَّتِي بِالشَّامِ; بِسَبَبِ إِبَائِهِ
عَنْ مُبَايَعَةِ أَحْمَدَ بْنِ النَّاصِرِ، فَأَشَارَ عَلَى الْفَخْرِيِّ مَنْ
أَشَارَ بِأَنْ يُبَاعَ لِلتُّجَّارِ شَيْءٌ مِنْ أَمْلَاكِ الْخَاصِّ، وَيُجْعَلَ
مَالُ قُوصُونَ مِنَ الْخَاصِّ، فَرَسَمَ
بِذَلِكَ، وَأَنْ يُبَاعَ لِلتُّجَّارِ قَرْيَةُ دُومَةَ، قُوِّمَتْ بِأَلْفِ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ أَلْفٍ، ثُمَّ لَطَفَ اللَّهُ وَأُفْرِجَ عَنْهُمْ بَعْدَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، وَتَعَوَّضُوا عَنْ ذَلِكَ بِحَوَاصِلِ قُوصُونَ، وَاسْتَمَرَّ الْفَخْرِيُّ بِمَنْ مَعَهُ وَمَنْ أُضِيفَ إِلَيْهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَجْنَادِ مُقِيمِينَ بِثَنِيَّةِ الْعُقَابِ، وَاسْتَخْدَمَ مِنْ رِجَالِ الْبِقَاعِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ رَامٍ، وَأَمِيرُهُمْ يَحْفَظُ أَفْوَاهَ الطُّرُقِ، وَأَزِفَ قُدُومُ الْأَمِيرِعَلَاءِ الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا بِمَنْ مَعَهُ مِنْ عَسَاكِرِ دِمَشْقَ، وَجُمْهُورُ الْحَلَبِيِّينَ، وَطَائِفَةٌ مِنَ الطَّرَابُلُسِيِّينَ، وَتَأَهَّبَ هَؤُلَاءِ لَهُمْ. فَلَمَّا كَانَ الْحَادِي مِنْ هَذَا الشَّهْرِ اشْتُهِرَ أَنَّ أُلْطُنْبُغَا وَصَلَ إِلَى الْقَسْطَلِ وَبَعَثَ طَلَائِعَهُ، فَالْتَقَتْ بِطَلَائِعِ الْفَخْرِيِّ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَأَرْسَلَ الْفَخْرِيُّ إِلَى الْقُضَاةِ وَنُوَّابِهِمْ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ فَخَرَجُوا، وَرَجَعَ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَلَمَّا وَصَلُوا أَمْرَهُمْ بِالسَّعْيِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُلْطُنْبُغَا فِي الصُّلْحِ، وَأَنْ يُوَافِقَ الْفَخْرِيَّ فِي أَمْرِهِ، وَأَنْ يُبَايِعَ النَّاصِرَ ابْنَ النَّاصِرِ، فَأَبَى ذَلِكَ، فَرَدَّهُمْ إِلَيْهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ رَابِعَ عَشَرَهُ عِنْدَ الْعَصْرِ جَاءَ بَرِيدٌ إِلَى مُتَوَلِّي الْبَلَدِ عِنْدَ الْعَصْرِ مِنْ جِهَةِ الْفَخْرِيِّ يَأْمُرُهُ بِغَلْقِ أَبْوَابِ الْبَلَدِ، فَغُلِّقَتِ الْأَبْوَابُ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَسَاكِرَ تَوَجَّهُوا وَتَوَاقَفُوا لِلْقِتَالِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَذَلِكَ أَنَّ أُلْطُنْبُغَا لَمَّا عَلِمَ أَنَّ جَمَاعَةَ قُطْلُوبُغَا عَلَى ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ، دَارَ الدَّوْرَةَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمُعَيْصِرَةِ، وَجَاءَ بِالْجُيُوشِ مِنْ هُنَالِكَ، فَاسْتَدَارَ لَهُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُطْلُوبُغَا الْفَخْرِيُّ بِجَمَاعَتِهِ إِلَى نَاحِيَتِهِ، وَوَقَفَ لَهُ فِي طَرِيقِهِ، وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُصُولِ إِلَى الْبَلَدِ، وَانْزَعَجَ النَّاسُ انْزِعَاجًا عَظِيمًا،
وَغُلِّقَتِ الْقَيَاسِرُ
وَالْأَسْوَاقُ، وَخَافَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَنْ يَكُونَ نَهْبًا،
فَرَكِبَ مُتَوَلِّي الْبَلَدِ الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ بَكْتَاشَ
وَمَعَهُ أَوْلَادُهُ وَنُوَّابُهُ وَالرَّجَّالَةُ، فَسَارَ فِي الْبَلَدِ،
وَسَكَّنَ النَّاسَ، وَدَعَوْا لَهُ، فَلَمَّا كَانَ قُرَيْبُ الْمَغْرِبِ فَتَحَ
لَهُمْ بَابَ الْجَابِيَةِ لِيَدْخُلَ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَدَخَلَ
مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، فَجَرَتْ فِي الْبَابِ - عَلَى مَا قِيلَ -
زَحْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَتَسَخَّطَ الْجُنْدُ عَلَى النَّاسِ فِي هَذِهِ
اللَّيْلَةِ، وَاتُّفِقَ أَنَّهَا لَيْلَةُ الْمِيلَادِ، وَبَاتَ الْمُسْلِمُونَ
مَهْمُومِينَ بِسَبَبِ الْعَسْكَرِ وَاخْتِلَافِهِمْ، فَأَصْبَحَتْ أَبْوَابُ
الْبَلَدِ مُغْلَقَةً فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سِوَى بَابِ الْجَابِيَةِ، وَالْأَمْرُ
عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ عَشِيَّةُ هَذَا الْيَوْمِ تَقَارَبَ
الْجَيْشَانِ، وَاجْتَمَعَ أُلْطُنْبُغَا وَأُمَرَاؤُهُ، وَاتَّفَقَ أُمَرَاءُ
دِمَشْقَ أَوْ جُمْهُورُهُمُ الَّذِينَ هُمْ مَعَهُ عَلَى أَنْ لَا يُقَاتِلُوا
مُسْلِمًا، وَلَا يَسُلُّوا فِي وَجْهِ الْفَخْرِيِّ وَأَصْحَابِهِ سَيْفًا،
وَكَانَ قُضَاةُ الشَّامِ قَدْ ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِرَارًا لِلصُّلْحِ فَيَأْبَى
عَلَيْهِمْ إِلَّا الِاسْتِمْرَارَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ
عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عَجِيبَةٌ مِنْ عَجَائِبِ الدَّهْرِ
فَبَاتَ النَّاسُ مُتَقَابِلِينَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَلَيْسَ بَيْنَ
الْجَيْشَيْنِ إِلَّا مِقْدَارُ مِيلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَكَانَتْ لَيْلَةً
مَطِيرَةً، فَمَا أَصْبَحَ الصُّبْحُ إِلَّا وَقَدْ ذَهَبَ مِنْ جَمَاعَةِ
أُلْطُنْبُغَا إِلَى الْفَخْرِيِّ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَجْنَادِ الْحَلْقَةِ
وَمِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَعْيَانِ، وَطَلَعَتِ
الشَّمْسُ وَارْتَفَعَتْ قَلِيلًا، فَنَفَّذَ أُلْطُنْبُغَا الْقُضَاةَ وَبَعْضَ الْأُمَرَاءِ إِلَى الْفَخْرِيِّ يَتَهَدَّدُهُ وَيَتَوَعَّدُهُ وَيُقَوِّي نَفْسَهُ عَلَيْهِ، فَمَا سَارُوا عَنْهُ قَلِيلًا حَتَّى سَاقَتِ الْعَسَاكِرُ مِنَ الْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ وَمِنَ الْقَلْبِ وَمِنْ كُلِّ جَانِبٍ مُقْفِرِينَ إِلَى الْفَخْرِيِّ، وَذَلِكَ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ، وَقِلَّةِ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَطْعِمَةِ، وَعَلَفِ الدَّوَابِّ، وَكَثْرَةِ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْكَلَفِ، فَرَأَوْا أَنَّ هَذَا حَالٌ يَطُولُ عَلَيْهِمْ، وَمَقَتُوا أَمْرَهُمْ غَايَةَ الْمَقْتِ، وَتَطَايَبَتْ قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ أُولَئِكَ مَعَ أَهْلِ الْبَلَدِ عَلَى كَرَاهَتِهِ، لِقُوَّةِ نَفْسِهِ فِيمَا لَا يُجْدِي عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَبَايَعُوا عَلَى الْمُخَامَرَةِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى حَاشِيَتِهِ فِي أَقَلِّ مِنْ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمَّا رَأَى الْحَالَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ كَرَّ رَاجِعًا هَارِبًا مِنْ حَيْثُ جَاءَ، وَصُحْبَتُهُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرُقْطَايُ نَائِبُ طَرَابُلُسَ وَأَمِيرَانِ آخَرَانِ، وَالْتَقَتِ الْعَسَاكِرُ وَالْأُمَرَاءُ، وَجَاءَتِ الْبِشَارَةُ إِلَى دِمَشْقَ قَبْلَ الظُّهْرِ، فَفَرِحَ النَّاسُ فَرَحًا شَدِيدًا جِدًّا; الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ، حَتَّى مَنْ لَا نَوْبَةَ لَهُ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِ مَنْ هَرَبَ، وَجَلَسَ الْفَخْرِيُّ هُنَالِكَ بَقِيَّةَ الْيَوْمِ يُحَلِّفُ الْأُمَرَاءَ عَلَى أَمْرِهِ الَّذِي جَاءَ لَهُ، فَحَلَفُوا لَهُ، وَدَخَلَ دِمَشْقَ عَشِيَّةَ يَوْمِ الْخَمِيسِ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَحُرْمَةٍ وَافِرَةٍ، فَنَزَلَ الْقَصْرَ الْأَبْلَقَ، وَنَزَلَ الْأَمِيرُ طُقُزْدَمُرُ بِالْمَيْدَانِ الْكَبِيرِ، وَنَزَلَ قُمَارِيُّ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَأَخْرَجُوا الْمُوسَاوِيَّ الَّذِي كَانَ مُعْتَقَلًا بِالْقَلْعَةِ، وَجَعَلُوهُ مُشِدًّا عَلَى حَوْطَاتِ حَوَاصِلِ أُلْطُنْبُغَا، وَكَانَ قَدْ تَغَضَّبَ الْفَخْرِيُّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ; مِنْهُمُ الْأَمِيرُ
حُسَامُ الدِّينِ الْبَشْمَقْدَارُ
أَمِيرُ حَاجِبٍ; بِسَبَبِ أَنَّهُ صَاحِبٌ لِعَلَاءِ الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا،
فَلَّمَا وَقَعَ مَا وَقَعَ هَرَبَ فِيمَنْ هَرَبَ، وَلَكِنْ لَمْ يَأْتِ
الْفَخْرِيَّ، بَلْ دَخَلَ الْبَلَدَ فَتَوَسَّطَ فِي الْأَمْرِ، لَمْ يَذْهَبْ
مَعَ ذَاكَ وَلَا جَاءَ مَعَ هَذَا، ثُمَّ إِنَّهُ اسْتَدْرَكَ مَا فَاتَهُ
فَرَجَعَ مِنَ الْبَادِ إِلَى الْفَخْرِيِّ، وَقِيلَ: بَلْ رَسَمَ عَلَيْهِ حِينَ
جَاءُوا وَهُوَ مَهْمُومٌ جِدًّا، ثُمَّ إِنَّهُ أُعْطِيَ مِنْدِيلَ الْأَمَانِ.
وَكَانَ مَعَهُمْ كَاتِبُ السِّرِّ الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ بْنُ فَضْلِ
اللَّهِ، ثُمَّ أُفْرِجَ عَنْهُمْ، وَمِنْهُمُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
حَفْطِيَّةُ، كَانَ شَدِيدَ الْحَنَقِ عَلَيْهِ، فَأَطْلَقَهُ مِنْ يَوْمِهِ
وَأَعَادَهُ إِلَى الْحُجُوبِيَّةِ، وَأَظْهَرَ مَكَارِمَ أَخْلَاقٍ عَظِيمَةٍ، وَرِيَاسَةٍ
كَبِيرَةٍ، وَكَانَ لِلْقَاضِي عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ الْمُنَجَّا قَاضِي قُضَاةِ
الْحَنَابِلَةِ فِي هَذِهِ الْكَائِنَةِ سَعْيٌ مَشْكُورٌ، وَمُرَاجَعَةٌ
كَبِيرَةٌ لِلْأَمِيرِ عَلَاءِ الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا، حَتَّى خِيفَ عَلَيْهِ
مِنْهُ، وَخَاطَرَ بِنَفْسِهِ مَعَهُ، فَأَنْجَحَ اللَّهُ مَقْصِدَهُ وَسَلَّمَهُ
مِنْهُ، وَكَبَتَ عَدُّوَهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ قُلِّدَ قَضَاءَ
الْعَسَاكِرِ الْمَنْصُورَةِ الشَّيْخُ نُورُ الدِّينِ بْنُ الصَّائِغِ، عِوَضًا
عَنِ الْقَاضِي الْحَنَفِيِّ الَّذِي كَانَ مَعَ النَّائِبِ الْمُنْفَصِلِ;
وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ نَقَمُوا عَلَيْهِ إِفْتَاءَهُ أُلْطُنْبُغَا بِقِتَالِ
الْفَخْرِيِّ، وَفَرِحَ بِوِلَايَتِهِ أَصْحَابُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ
تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ أَخَصِّ مَنْ صَحِبَهُ
قَدِيمًا، وَأَخَذَ عَنْهُ فَوَائِدَ كَثِيرَةً وَعُلُومًا.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَلْخِ رَجَبٍ آخِرِ النَّهَارِ قَدِمَ الْأَمِيرُ
قُمَارِيُّ مِنْ عِنْدِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ ابْنِ النَّاصِرِ مِنَ الْكَرَكِ،
وَأَخْبَرَهُ بِمَا جَرَى مِنْ أَمْرِهِمْ وَأَمْرِ أُلْطُنْبُغَا، فَفَرِحَ
بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَ
قُمَارِيُّ بِقُدُومِ السُّلْطَانِ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَاسْتَعَدُّوا
لَهُ بِآلَاتِ الْمَمْلَكَةِ، وَكَثُرَتْ مُطَالَبَتُهُ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ
وَالذِّمَّةِ بِالْجِزْيَةِ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ رَكِبَ الْفَخْرِيُّ فِي دَسْتِ
النِّيَابَةِ بِالْمَوْكِبِ الْمَنْصُورِ - وَهُوَ أَوَّلُ رُكُوبِهِ فِيهِ -
وَإِلَى جَانِبِهِ قُمَارِيُّ، وَعَلَى قُمَارِيِّ خِلْعَةٌ هَائِلَةٌ، وَكَثُرَ
دُعَاءُ النَّاسِ لِلْفَخْرِيِّ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَفِي
هَذَا الْيَوْمِ خَرَجَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُقَدَّمِينَ الْأُلُوفِ إِلَى
الْكَرَكِ بِإِخْبَارِ ابْنِ السُّلْطَانِ بِمَا جَرَى، مِنْهُمْ طُقُزْدَمُرُ،
وَأَقْبُغَا عَبْدُ الْوَاحِدِ - وَهُوَ السَّاقِي - وَمَنْكَلِي بُغَا،
وَغَيْرُهُمْ. وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَالِثِهِ اسْتَدْعَى الْفَخْرِيُّ
الْقَاضِيَ الشَّافِعِيَّ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فِي إِحْضَارِ الْكُتُبِ
الْمُعْتَقَلَةِ فِي سَلَّةِ الْحُكْمِ الَّتِي كَانَتْ أُخِذَتْ مِنْ عِنْدِ
الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنَ
الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ فِي أَيَّامِ جَلَالِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ،
فَأَحْضَرَهَا الْقَاضِي بَعْدَ جَهْدٍ وَمُدَافَعَةٍ، وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ
مِنْهُ، فَقَبَضَهَا مِنْهُ الْفَخْرِيُّ بِالْقَصْرِ، وَأَذِنَ لَهُ فِي
الِانْصِرَافِ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ مُتَغَضِّبٌ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا هَمَّ
بِعَزْلِهِ لِمُمَانَعَتِهِ إِيَّاهَا، وَرُبَّمَا قَالَ قَائِلٌ: هَذِهِ فِيهَا
كَلَامٌ يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ الزِّيَارَةِ، فَقَالَ الْفَخْرِيُّ: كَانَ
الشَّيْخُ أَعْلَمَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مِنْكُمْ. وَاسْتَبْشَرَ الْفَخْرِيُّ
بِإِحْضَارِهَا إِلَيْهِ، فَاسْتَدْعَى بِأَخِي الشَّيْخِ زَيْنِ الدِّينِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، وَبِالشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ
- وَكَانَ لَهُ سَعْيٌ مَشْكُورٌ فِيهَا - فَهَنَّأَهُمَا بِإِحْضَارِهِ
الْكُتُبَ، وَبَيَّتَ الْكُتُبَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي خِزَانَتِهِ
لِلتَّبَرُّكِ، وَصَلَّى بِهِ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ أَخُو الشَّيْخِ صَلَاةَ
الْمَغْرِبِ بِالْقَصْرِ، وَأَكْرَمَهُ الْفَخْرِيُّ إِكْرَامًا زَائِدًا;
لِمَحَبَّتِهِ الشَّيْخَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ
رَابِعِهِ دَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِالْقَلْعَةِ وَفِي بَابِ الْمَيْدَانِ;
لِقُدُومِ بَشِيرٍ بِالْقَبْضِ عَلَى قُوصُونَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَاجْتَمَعَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَاسْتَبْشَرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِذَلِكَ،
وَأَقْبَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى الْكَرَكِ لِطَاعَةِ النَّاصِرِ
ابْنِ النَّاصِرِ، وَاجْتَمَعُوا مَعَ الْأُمَرَاءِ الشَّامِيِّينَ عِنْدَ
الْكَرَكِ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنَّ يَنْزِلَ إِلَيْهِمْ فَأَبَى، وَتَوَهَّمَ
أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كُلَّهَا مَكِيدَةٌ لِيَقْبِضُوهُ وَيُسَلِّمُوهُ إِلَى
قُوصُونَ، وَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ، وَرَدَّهُمْ إِلَى
دِمَشْقَ. وَفِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا أَخَذَ
الْفَخْرِيُّ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التُّجَّارِ بِالْأَسْوَاقِ وَغَيْرِهَا زَكَاةَ
أَمْوَالِهِمْ سَنَةً، فَتَحَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ
وَسَبْعَةِ آلَافٍ، وَصُودِرَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِقَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ زِيَادَةً
عَلَى الْجِزْيَةِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهُمْ عَنْ ثَلَاثِ سِنِينَ سَلَفًا
وَتَعْجِيلًا، ثُمَّ نُودِيَ فِي الْبَلَدِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الْحَادِيَ
وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ مُنَادَاةٌ صَادِرَةٌ مِنَ الْفَخْرِيِّ بِرَفْعِ
الظُّلَامَاتِ وَالطَّلَبَاتِ، وَإِسْقَاطِ مَا تَبَقَّى مِنَ الزَّكَاةِ
وَالْمُصَادَرَةِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ احْتَاطُوا عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُشَاةِ
الْمُكْثِرِينَ لِيَشْتَرُوا مِنْهُمْ بَعْضَ أَمْلَاكِ الْخَاصِّ، وَالْبُرْهَانُ
بْنُ بِشَارَةَ الْحَنَفِيُّ تَحْتَ الْمُصَادَرَةِ وَالْعُقُوبَةِ عَلَى طَلَبِ
الْمَالِ الَّذِي وَجَدَهُ فِي طُمَيْرَةٍ وَجَدَهَا فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ
دَخَلَ الْأُمَرَاءُ السِّتَّةُ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ الْكَرَكِ لِطَلَبِ
السُّلْطَانِ أَنْ إِلَى دِمَشْقَ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ،
وَوَعَدَهُمْ وَقْتًا آخَرَ فَرَجَعُوا، وَخَرَجَ الْفَخْرِيُّ لِتَلَقِّيهِمْ،
فَاجْتَمَعُوا قِبْلِيَّ جَامِعِ الْقُبَيْبَاتِ الْكَرِيمِيِّ، وَدَخَلُوا
كُلُّهُمْ إِلَى دِمَشْقَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ الْأُمَرَاءِ
وَالْجُنْدِ، وَعَلَيْهِمْ خَمْدَةٌ لِعَدَمِ قُدُومِ السُّلْطَانِ، أَيَّدَهُ
اللَّهُ. وَفِي يَوْمِ
الْأَحَدِ قَدِمَ
الْبَرِيدُ خَلْفَ قُمَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ يَطْلُبُهُمْ إِلَى
الْكَرَكِ، وَاشْتَهَرَ أَنَّ السُّلْطَانَ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَأْمُرُهُ بِالنُّزُولِ مِنَ
الْكَرَكِ وَقُبُولِ الْمَمْلَكَةِ، فَانْشَرَحَ النَّاسُ لِذَلِكَ.
وَتُوُفِّيَ الشَّيْخُ عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمَيْهِينِيِّ الْبَسْطِيِّ
يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ التَّاسِعَ وَالْعِشْرِينَ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا،
كَثِيرَ التِّلَاوَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَحُضُورِ مَجَالِسِ
الذِّكْرِ وَالْحَدِيثِ، لَهُ هِمَّةٌ وَصَوْلَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ
الْمُتَشَبِّهِينَ بِالصَّالِحِينَ وَلَيْسُوا مِنْهُمْ، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ
الشَّيْخِ فَخْرِ الدِّينِ بْنِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ
عَنِ ابْنِ الْبُخَارِيِّ " مُخْتَصَرَ الْمَشْيَخَةِ "، وَلَازَمَ
مَجَالِسَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وَانْتَفَعَ بِهِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ.
وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُعَظَّمِ - أَوَّلِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ - كَانَ قَدْ
نُودِيَ فِي الْجَيْشِ: آنَ الرَّحِيلُ لِمُلْتَقَى السُّلْطَانِ فِي سَابِعِ
الشَّهْرِ. ثُمَّ تَأَخَّرَ ذَلِكَ إِلَى بَعْدِ الْعَشْرِ، ثُمَّ جَاءَ كِتَابٌ
مِنَ السُّلْطَانِ بِتَأَخُّرِ ذَلِكَ إِلَى بَعْدِ الْعِيدِ. وَقَدِمَ فِي
عَاشِرِ الشَّهْرِ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ تَقِيِّ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ، وَمَعَهُ
وِلَايَةٌ مِنَ السُّلْطَانِ النَّاصِرِ ابْنِ النَّاصِرِ بِنَظَرِ
الْبِيمَارَسْتَانِ النُّورِيِّ وَمَشْيَخَةِ الرَّبْوَةِ، وَرُتِّبَ عَلَى
الْجِهَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ قَبْلَهُ الْقَاضِي شِهَابُ
الدِّينِ بْنُ الْبَارِزَيِّ بِقَضَاءِ حِمْصَ مِنَ السُّلْطَانِ - أَيَّدَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ حَيْثُ تَكَلَّمَ السُّلْطَانُ فِي
الْمَمْلَكَةِ، وَبَاشَرَ، وَأَمَّرَ، وَوَلَّى، وَوَقَّعَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثَ عَشَرَهُ دَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
طَشْتَمُرُ الْمُلَقَّبُ بِالْحِمَّصِ الْأَخْضَرِ مِنَ الْبِلَادِ الْحَلَبِيَّةِ
إِلَى دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ، وَتَلَقَّاهُ
الْفَخْرِيُّ
وَالْأُمَرَاءُ وَالْجَيْشُ بِكَمَالِهِ، وَدَخَلَ فِي أُبَّهَةٍ حَسَنَةٍ،
وَدَعَا لَهُ النَّاسُ، وَفَرِحُوا بِقُدُومِهِ بَعْدَ شَتَاتِهِ فِي الْبِلَادِ
وَهَرَبِهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ أُلْطُنْبُغَا حِينَ قَصَدَهُ إِلَى حَلَبَ، كَمَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ رَابِعَ عَشَرَهُ خَرَجَتِ الْجُيُوشُ مِنْ دِمَشْقَ
قَاصِدِينَ إِلَى غَزَّةَ لِنَظْرَةِ السُّلْطَانِ حِينَ يَخْرُجُ مِنَ الْكَرَكِ
السَّعِيدِ، فَخَرَجَ يَوْمَئِذٍ مُقَدَّمَانِ; طُقُزْدَمُرُ، وَأَقْبُغَا عَبْدُ
الْوَاحِدِ، فَبَرَزَا إِلَى الْكُسْوَةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ خَرَجَ
الْفَخْرِيُّ وَمَعَهُ طَشْتَمُرُ وَجُمْهُورُ الْأُمَرَاءِ، وَلَمْ يَقُمْ
بَعْدَهُ بِدِمَشْقَ إِلَّا مَنِ احْتِيجَ لِمَقَامِهِمْ لِمُهِمَّاتِ
الْمَمْلَكَةِ، وَخَرَجَ مَعَهُ بِالْقُضَاةِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَاضِي
الْعَسَاكِرِ، وَالْمُوَقِّعِينَ، وَالصَّاحِبِ، وَكَاتِبِ الْجَيْشِ، وَخَلْقٍ
كَثِيرٍ.
وَتُوُفِّيَ الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ أَحْمَدُ الْمُلَقَّبُ
بِالْعَصِيدَةِ لَيْلَةَ الْأَحَدِ الرَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ تَنْكِزَ، وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ قَرِيبًا مِنْ
قَبْرِ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ الْمِزِّيِّ - تَغَمَّدَهُمَا اللَّهُ
بِرَحْمَتِهِ - وَكَانَ فِيهِ صَلَاحٌ كَثِيرٌ، وَمُوَاظَبَةٌ عَلَى الصَّلَاةِ
فِي جَمَاعَةٍ، وَأَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ، مَشْهُورًا عِنْدَ
النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ يُكْثِرُ مِنْ خِدْمَةِ الْمَرْضَى
بِالْمَارَسْتَانِ وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ إِيثَارٌ وَقَنَاعَةٌ وَتَزَهُّدٌ كَثِيرٌ،
وَلَهُ أَحْوَالٌ مَشْهُورَةٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا.
وَاشْتَهَرَ فِي أَوَاخِرِ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ أَنَّ السُّلْطَانَ الْمَلِكَ
النَّاصِرَ شِهَابَ الدِّينِ أَحْمَدَ خَرَجَ مِنَ الْكَرَكَ الْمَحْرُوسِ
صُحْبَةَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعَرَبِ وَالْأَتْرَاكِ قَاصِدًا إِلَى
الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، ثُمَّ تَحَرَّرَ خُرُوجُهُ مِنْهَا فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ
ثَامِنَ عَشَرَ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ، فَدَخَلَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ
بَعْدَ أَيَّامٍ، هَذَا وَالْجَيْشُ صَامِدُونَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ
دُخُولُهُ مِصْرَ حَثُّوا فِي السَّيْرِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَبَعَثَ يَسْتَحِثُّهُمْ أَيْضًا، وَاشْتَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَجْلِسْ عَلَى
سَرِيرِ الْمُلْكِ حَتَّى يَقْدَمَ الْأُمَرَاءُ الشَّامِيُّونَ صُحْبَةَ
نَائِبِهِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ قُطْلُوبُغَا الْفَخْرِيِّ; وَلِهَذَا لَمْ
تَدُقَّ الْبَشَائِرُ بِالْقِلَاعِ الشَّامِيَّةِ وَلَا غَيْرِهَا فِيمَا
بَلَغَنَا. وَجَاءَتِ الْكُتُبُ وَالْأَخْبَارُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
بِأَنَّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ عَاشِرَ شَوَّالٍ كَانَ إِجْلَاسُ السُّلْطَانِ
الْمَلِكِ النَّاصِرِ شِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ،
صَعِدَ هُوَ وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبُو الْعَبَّاسِ
أَحْمَدُ بْنُ الْمُسْتَكْفِي فَوْقَ الْمِنْبَرِ، وَهُمَا لَابِسَانِ السَّوَادَ،
وَالْقُضَاةُ تَحْتَهُمَا عَلَى دَرَجِ الْمِنْبَرِ بِحَسَبِ مَنَازِلِهِمْ،
فَخَطَبَ الْخَلِيفَةُ، وَخَلَعَ الْأَشْرَفَ كُجُكَ، وَوَلَّى هَذَا النَّاصِرَ،
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَاشْتَهَى وِلَايَتَهُ لِطَشْتَمُرَ نِيَابَةَ
مِصْرَ، وَالْفَخْرِيِّ دِمَشْقَ، وَأَيْدُغْمُشَ حَلَبَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ،
وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِدِمَشْقَ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ الْحَادِيَ
وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ، وَاسْتَمَرَّتْ إِلَى يَوْمِ
الِاثْنَيْنِ مُسْتَهَلِّ ذِي الْقِعْدَةِ، وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ يَوْمَ الْأَحَدِ
ثَالِثَ عِشْرِينَ مِنْهُ، وَاحْتَفَلَ النَّاسُ بِالزِّينَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْمَذْكُورِ دَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
أَلْمَلَكُ - أَحَدُ رُءُوسِ الْمَشُورَةِ بِمِصْرَ - إِلَى دِمَشْقَ فِي طَلَبِ
نِيَابَةِ حَمَاةَ، حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَرَدَ الْبَرِيدُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
فَأَخْبَرَ أَنَّ طَشْتَمُرَ الْحِمَّصَ
الْأَخْضَرَ مُسِكَ،
فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ هَذِهِ الْكَائِنَةِ كَثِيرًا، فَخَرَجَ مَنْ
بِدِمَشْقَ مِنْ أَعْيَانِ الْأُمَرَاءِ إِلَى الْحَاجِّ أَلْمَلَكَ، وَقَدْ
خَيَّمَ بِوَطْأَةِ بُرْزَةَ، فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، وَأَمَّرُوهُ عَنْ
مَرْسُومِ السُّلْطَانِ أَنْ يَنُوبَ بِدِمَشْقَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَرْسُومُ
بِمَا يَعْتَمِدُونَهُ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ، وَرَكِبَ فِي الْمَوْكِبِ يَوْمَ
السَّبْتِ السَّادِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، وَأَمَّا الْفَخْرِيُّ فَإِنَّهُ
لَمَّا تَنَسَّمَ هَذَا الْخَبَرَ وَتَحَقَّقَهُ وَهُوَ بِالزَّعْقَةِ، فَرَّ فِي
طَائِفَةٍ مِنْ مَمَالِيكِهِ قَرِيبٍ مِنْ سِتِّينَ أَوْ أَكْثَرَ، فَاخْتَرَقَ وَسَاقَ
سَوْقًا حَثِيثًا، وَجَاءَهُ الطَّلَبُ مِنْ وَرَائِهِ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ فِي نَحْوٍ مِنْ أَلْفِ فَارِسٍ صُحْبَةَ الْأَمِيرَيْنِ
أُلْطُنْبُغَا الْمَارْدَانِيِّ وَيَلْبُغَا الْيَحْيَاوِيِّ، فَفَاتَهُمَا
وَسَبَقَ، وَاعْتَرَضَ لَهُ نَائِبُ غَزَّةَ فِي جُنْدِهِ فَلَمْ يَقْدِرْ
عَلَيْهِ، فَسَلَّطُوا عَلَيْهِ الْعَشِيرَاتِ يَنْهَبُونَهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا
عَلَيْهِ إِلَّا فِي شَيْءٍ يَسِيرٍ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا، وَقَصْدَ نَحْوَ
صَاحِبِهِ - فِيمَا يَزْعُمُ - الْأَمِيرِ عَلَاءِ الدِّينِ أَيْدُغْمُشَ نَائِبِ
حَلَبَ، رَاجِيًا مِنْهُ أَنْ يَنْصُرَهُ وَأَنْ يُوَافِقَهُ عَلَى مَا قَامَ
بِنَفْسِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ أَكْرَمَهُ، وَأَنْزَلَهُ، وَبَاتَ
عِنْدَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَبَضَ عَلَيْهِ وَقَيَّدَهُ، وَرَدَّهُ عَلَى
الْبَرِيدِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمَعَهُ التَّرَاسِيمُ مِنَ
الْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ سَلْخُ ذِي الْقِعْدَةِ خَرَجَ السُّلْطَانُ
الْمَلِكُ النَّاصِرُ شِهَابُ
الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ
النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَنْصُورِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي
طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ قَاصِدًا إِلَى الْكَرَكِ الْمَحْرُوسِ، وَمَعَهُ
أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ، وَحَوَاصِلُ وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ، فَدَخَلَهَا فِي يَوْمِ
الثُّلَاثَاءِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَصُحْبَتَهُ طَشْتَمُرُ فِي مِحَفَّةٍ مُمَرَّضًا،
وَالْفَخْرِيُّ مُقَيَّدًا، فَاعْتُقِلَا بِالْكَرَكِ الْمَحْرُوسِ، وَطَلَبَ
السُّلْطَانُ آلَاتٍ مِنْ أَخْشَابٍ وَنَحْوِهَا، وَحَدَّادِينَ، وَصُنَّاعًا
وَنَحْوَهُمَا; لِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتٍ بِالْكَرَكِ، وَطَلَبَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً
مِنْ دِمَشْقَ الْمَحْرُوسِ، فَحُمِلَتْ إِلَيْهِ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْأَمِيرَ رُكْنَ الدِّينِ بِيبَرْسَ الْأَحْمَدِيَّ،
النَّائِبَ بِصَفَدَ الْمَحْرُوسَةِ - رَكِبَ فِي مَمَالِيكِهِ وَخَدَمِهِ وَمَنْ
أَطَاعَهُ، وَخَرَجَ مِنْهَا فَارًّا بِنَفْسِهِ مِنَ الْقَبْضِ عَلَيْهِ،
وَذَكَرَ أَنَّ نَائِبَ غَزَّةَ قَصَدَهُ لِيَقْبِضَ عَلَيْهِ بِمَرْسُومِ
السُّلْطَانِ وَرَدَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَرَكِ، فَهَرَبَ الْأَحْمَدِيُّ بِسَبَبِ
ذَلِكَ، وَلَمَّا وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى دِمَشْقَ وَلَيْسَ بِهَا نَائِبٌ،
انْزَعَجَ الْأُمَرَاءُ لِذَلِكَ، وَاجْتَمَعُوا بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَضَرَبُوا
فِي ذَلِكَ مَشُورَةً، ثُمَّ جَرَّدُوا إِلَى نَاحِيَةِ بِعْلَبَكَّ أَمِيرًا
لِيَصُدُّوهُ عَنِ الذَّهَابِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ
مِنْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ فِي نَوَاحِي الْكُسْوَةِ،
وَلَا مَانِعَ مِنْ خَلَاصِهِ، فَرَكِبُوا كُلُّهُمْ، وَنَادَى الْمُنَادِي: مَنْ
تَأَخَّرَ مِنَ الْجُنْدِ عَنْ هَذَا النَّفِيرِ شُنِقَ ! فَاسْتَوْثَقُوا فِي الْخُرُوجِ،
وَقَصَدُوا نَاحِيَةَ الْكُسْوَةِ، وَبَعَثُوا الرُّسُلَ إِلَيْهِ، فَذَكَرَ
اعْتِذَارًا فِي خُرُوجِهِ، وَتَخَلَّصَ مِنْهُمْ، وَذَهَبَ يَوْمَهُ ذَلِكَ،
وَرَجَعُوا وَقَدْ كَانُوا مُلْبِسِينَ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مِنَ
الْأَزْوَادِ مَا يَكْفِيهِمْ سِوَى يَوْمِهِمْ ذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ
الثُّلَاثَاءِ رَكِبَ الْأُمَرَاءُ فِي طَلَبِهِ مِنْ نَاحِيَةِ ثَنِيَّةِ
الْعُقَابِ، فَرَجَعُوا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَهُوَ فِي صُحْبَتِهِمْ،
وَنَزَلَ فِي الْقُصُورِ
الَّتِي بَنَاهَا تَنْكِزُ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي طَرِيقِ دَارَيَّا، فَأَقَامَ بِهَا، وَأَجْرَوْا
عَلَيْهِ مُرَتَّبًا كَامِلًا مِنَ الشَّعِيرِ وَالْغَنَمِ وَمَا يَحْتَاجُ
إِلَيْهِ مِثْلُهُ، وَمَعَهُ مَمَالِيكُهُ وَخَدَمُهُ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
الثُّلَاثَاءِ سَادِسُ الْمُحَرَّمِ، وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ
فَقُرِئَ عَلَى الْأُمَرَاءِ بِدَارِ السَّعَادَةِ يَتَضَمَّنُ إِكْرَامَهُ
وَاحْتِرَامَهُ وَالصَّفْحَ عَنْهُ; لِتَقَدُّمِ خَدَمِهِ عَلَى السُّلْطَانِ
الْمَلِكِ النَّاصِرِ وَابْنِهِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعُ الْمُحَرَّمِ وَرَدَ الْبَرِيدُ
مِنَ الْكَرَكِ إِلَى الْأَمِيرِ رُكْنِ الدِّينِ بِيبَرْسَ الْحَاجِبِ نَائِبِ
الْغَيْبَةِ وَالْحَاجِبِ أَلِلْمِشَ بِالْقَبْضِ عَلَى الْأَحْمَدِيِّ، فَرَكِبَ
الْجَيْشَ مُلْبِسِينَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَأَوْكَبُوا بِسُوقِ الْخَيْلِ،
وَرَاسَلُوهُ - وَقَدْ رَكِبَ فِي مَمَالِيكِهِ بِالْعُدَدِ وَأَظْهَرَ
الِامْتِنَاعَ - فَكَانَ جَوَابُهُ أَنْ لَا أَسْمَعَ وَلَا أُطِيعَ إِلَّا لِمَنْ
هُوَ مَلِكُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَأَمَّا مَنْ هُوَ مُقِيمٌ بِالْكَرَكِ
وَيَصْدُرُ عَنْهُ مَا يُقَالُ عَنْهُ مِنَ الْأَفَاعِيلِ الَّتِي قَدْ سَارَتْ
بِهَا الرُّكْبَانُ، فَلَا. فَلَمَّا بَلَغَ الْأُمَرَاءَ هَذَا تَوَقَّفُوا فِي
أَمْرِهِ، وَسَكَنُوا، وَرَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَرَجَعَ هُوَ إِلَى
قَصْرِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السُّنَّةُ الْمُبَارَكَةُ وَسُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ
الْمَلِكُ النَّاصِرُ أَحْمَدُ ابْنُ نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ
الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، وَهُوَ مُقِيمٌ بِالْكَرَكِ، قَدْ حَازَ الْحَوَاصِلَ
السُّلْطَانِيَّةَ مِنْ قَلْعَةِ الْجَبَلِ إِلَى قَلْعَةِ الْكَرَكِ، وَنَائِبُهُ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ آقْ سُنْقُرُ
السَّلَارِيُّ الَّذِي كَانَ نَائِبًا بِغَزَّةَ، وَقُضَاةُ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، سِوَى الْقَاضِي
الْحَنَفِيِّ. وَأَمَّا دِمَشْقُ فَلَيْسَ لَهَا نَائِبٌ إِلَى حِينِئِذٍ، غَيْرَ
أَنَّ الْأَمِيرَ رُكْنَ الدِّينِ بِيبَرْسَ الْحَاجِبَ كَانَ اسْتَنَابَهُ
الْفَخْرِيُّ بِدِمَشْقَ نَائِبَ غَيْبَةٍ، فَهُوَ الَّذِي يَسُدُّ الْأُمُورَ
مَعَ الْحَاجِبِ أَلِلْمِشَ، وَتَمُرَ الْمَهْمَنْدَارِ، وَالْأَمِيرِ سَيْفِ
الدِّينِ الْمُلَقَّبِ بِحَلَاوَةَ - وَالِي الْبَرِّ - وَالْأَمِيرِ نَاصِرِ
الدِّينِ بْنِ بَكْتَاشَ مُتَوَلِّي الْبَلَدِ، هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ
يَسُدُّونَ الْأَشْغَالَ وَالْأُمُورَ السُّلْطَانِيَّةَ، وَالْقُضَاةُ هُمُ
الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ فِي السَّنَةِ الْخَالِيَةِ، وَخَطِيبُ الْبَلَدِ تَاجُ
الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ الْقَاضِي جَلَالِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ،
وَكَاتِبُ السِّرِّ الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ.
وَاسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْأَمِيرُ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ الْأَحْمَدِيُّ نَازِلٌ بِقَصْرِ تَنْكِزَ بِطَرِيقِ دَارَيَّا، وَكُتُبُ السُّلْطَانِ وَارِدَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَيْهِ وَالْقَبْضِ، وَأَنَّ يُمْسَكَ وَيُرْسَلَ إِلَى الْكَرَكِ، هَذَا وَالْأُمَرَاءُ يَتَوَانَوْنَ فِي أَمْرِهِ وَيُسَوِّفُونَ الْمَرَاسِيمَ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ، وَحِينًا بَعْدَ حِينٍ، وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَحْمَدِيَّ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَمَتَى مَسَكَهُ تَطَرَّقَ إِلَى غَيْرِهِ، مَعَ أَنَّ السُّلْطَانَ يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ أَحْوَالٌ لَا تُرْضِيهِمْ مِنَ اللَّعِبِ وَالِاجْتِمَاعِ مَعَ الْأَرَاذِلِ وَالْأَطْرَافِ بِبَلَدِ الْكَرَكِ، مَعَ قَتْلِهِ الْفَخْرِيَّ وَطَشْتَمُرَ قَتْلًا فَظِيعًا، وَسَلْبِهِ أَهْلَهُمَا، وَسَلْبِهِ لِمَا عَلَى الْحَرِيمِ مِنَ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ، وَإِخْرَاجِهِمْ فِي أَسْوَأِ حَالٍ مِنَ الْكَرَكِ، وَتَقْرِيبِهِ النَّصَارَى وَحُضُورِهِمْ عِنْدَهُ، فَحَمَلَ الْأُمَرَاءَ هَذِهِ الصِّفَاتُ عَلَى أَنْ بَعَثُوا أَحَدَهُمْ يَكْشِفُ أَمْرَهُ، فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، وَرَجَعَ هَارِبًا خَائِفًا، فَلَمَّا رَجَعَ وَأَخْبَرَ الْأُمَرَاءَ بِذَلِكَ انْزَعَجُوا وَتَشَوَّشُوا كَثِيرًا، وَاجْتَمَعُوا بِسُوقِ الْخَيْلِ مِرَارًا، وَضَرَبُوا مَشُورَةً بَيْنِهِمْ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَخْلَعُوهُ، فَكَتَبُوا إِلَى الْمِصْرِيِّينَ بِذَلِكَ، وَأَعْلَمُوا نَائِبَ حَلَبَ أَيْدُغْمُشَ وَنُوَّابَ الْبِلَادِ، وَبَقَوْا مُتَوَهِّمِينَ مِنْ هَذَا الْحَالِ كَثِيرًا وَمُتَرَدِّدِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَانِعُ فِي الظَّاهِرِ وَلَيْسَ مَعَهُمْ فِي الْبَاطِنِ، وَقَالُوا: لَا سَمْعَ لَهُ وَلَا طَاعَةَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَيَجْلِسَ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ. وَجَاءَ كِتَابُهُ إِلَيْهِمْ يَعِيبُهُمْ وَيُعَنِّفُهُمْ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يُفِدْ، وَرَكِبَ الْأَحْمَدِيُّ فِي الْمَوْكِبِ وَرَكِبُوا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، وَرَاحُوا إِلَيْهِ إِلَى الْقَصْرِ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَخَدَمُوهُ، وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَعَظُمَ الْخُطَبُ، وَحَمَلُوا هُمُومًا عَظِيمَةً خَوْفًا مِنْ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَيُلَفَّ عَلَيْهِ الْمِصْرِيُّونَ، فَيُتْلِفَ الشَّامِيِّينَ، فَحَمَلَ النَّاسُ هَمَّهُمْ، فَاللَّهُ هُوَ الْمَسْئُولُ أَنْ يُحْسِنَ الْعَاقِبَةَ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
الْأَحَدِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ وَرَدَ مُقَدَّمُ
الْبَرِيدِيَّةِ وَمَعَهُ كُتُبُ الْمِصْرِيِّينَ بِأَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُمْ
خَبَرُ الشَّامِيِّينَ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَمْرِ السُّلْطَانِ أَضْعَافُ مَا
حَصَلَ عِنْدَ الشَّامِيِّينَ، فَبَادَرُوا إِلَى مَا كَانُوا عَزَمُوا عَلَيْهِ،
وَلَكِنْ تَرَدَّدُوا خَوْفًا مِنَ الشَّامِيِّينَ أَنْ يُخَالِفُوهُمْ فِيهِ
وَيَتَقَدَّمُوا فِي صُحْبَةِ السُّلْطَانِ لِقِتَالِهِمْ، فَلَمَّا اطْمَأَنُّوا
مِنْ جِهَةِ الشَّامِيِّينَ صَمَّمُوا عَلَى عَزْمِهِمْ، فَخَلَعُوا النَّاصِرَ
أَحْمَدَ وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ أَخَاهُ الْمَلِكَ الصَّالِحَ إِسْمَاعِيلَ ابْنَ
النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَنْصُورِ، جَعَلَهُ اللَّهُ مُبَارَكًا عَلَى
الْمُسْلِمِينَ، وَأَجْلَسُوهُ عَلَى السَّرِيرِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ
الْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ الْمَذْكُورِ، وَجَاءَ كِتَابُهُ مُسَلِّمًا عَلَى
أُمَرَاءَ الشَّامِ وَمُقَدَّمِيهِ، وَجَاءَتْ كُتُبُ الْأُمَرَاءِ عَلَى
الْأُمَرَاءِ بِالسَّلَامِ وَالْأَخْبَارِ بِذَلِكَ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ
وَأُمَرَاءُ الشَّامِ وَالْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا،
وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ يَوْمَئِذٍ، وَرُسِمَ
بِتَزْيِينِ الْبَلَدِ، فَزَيَّنَ النَّاسُ صَبِيحَةَ الثُّلَاثَاءِ السَّابِعَ
وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ. وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ سَلْخُ الْمُحَرَّمِ
خُطِبَ بِدِمَشْقَ لِلْمَلِكِ الصَّالِحِ عِمَادِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ النَّاصِرِ بْنِ الْمَنْصُورِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَادِسِ صَفَرٍ دَرَّسَ بِالصَّدْرِيَّةِ صَاحِبُنَا
الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ
أَيُّوبَ الزُّرَعِيُّ إِمَامُ الْجَوْزِيَّةِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الشَّيْخُ عِزُّ
الدِّينِ بْنُ الْمُنَجَّا - الَّذِي نَزَلَ لَهُ عَنْهَا - وَجَمَاعَةٌ مِنَ
الْفُضَلَاءِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ دَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ طُقُزْدَمُرُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى دِمَشْقَ ذَاهِبًا
إِلَى نِيَابَةِ حَلَبَ الْمَحْرُوسَةِ، فَنَزَلَ بِالْقَابُونِ.
وَفِي يَوْمِ
الثُّلَاثَاءِ ثَامِنَ عَشَرَ صَفَرٍ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ
الْعَامِلُ الزَّاهِدُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ الْمُقْرِئُ
الْمَالِكِيُّ، إِمَامُ الْمَالِكِيَّةِ، هُوَ وَأَخُوهُ أَبُو عَمْرٍو،
بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ بِمِحْرَابِ الصَّحَابَةِ، تُوُفِّيَ بِبُسْتَانٍ
بِقُبَّةِ الْمُسَجِّفِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْمُصَلَّى، وَدُفِنَ عِنْدَ
أَبِيهِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ، وَحَضَرَ
جَنَازَتَهُ الْأَعْيَانُ، وَالْفُقَهَاءُ، وَالْقُضَاةُ، وَكَانَ رَجُلًا
صَالِحًا مُجْمَعًا عَلَى دِيَانَتِهِ وَجَلَالَتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ دَخَلَ الْأَمِيرُ أَيْدُغْمُشُ
نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِدِمَشْقَ، وَدَخَلَ إِلَيْهَا مِنْ نَاحِيَةِ الْقَابُونِ
قَادِمًا مِنْ حَلَبَ، وَتَلَقَّاهُ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ، وَعَلَيْهِ خِلْعَةُ
النِّيَابَةِ، وَاحْتَفَلَ النَّاسُ لَهُ، وَأَشْعَلُوا الشُّمُوعَ، وَخَرَجَ
أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَدْعُونَ لَهُ وَمَعَهُمُ الشُّمُوعُ،
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَصَلَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْمَقْصُورَةِ مِنَ
الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَمَعَهُ الْأُمَرَاءُ وَالْقُضَاةُ، وَقُرِئَ
تَقْلِيدُهُ هُنَاكَ عَلَى السُّدَّةِ وَعَلَيْهِ خِلْعَتَهُ، وَمَعَهُ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ مَلِكْتَمُرُ السَّرْجَوَانِيُّ، وَعَلَيْهِ خِلْعَةٌ أَيْضًا.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ دَخَلَ
الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ الْجَاوِلِيُّ دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةَ ذَاهِبًا إِلَى
نِيَابَةِ حَمَاةَ الْمَحْرُوسَةِ، وَتَلَقَّاهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ
وَالْأُمَرَاءُ إِلَى مَسْجِدِ الْقَدَمِ، وَرَاحَ فَنَزَلَ بِالْقَابُونِ،
وَخَرَجَ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ إِلَيْهِ، وَسُمِّعَ عَلَيْهِ مِنْ "
مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ " فَإِنَّهُ يَرْوِيهِ، وَلَهُ فِيهِ عَمَلٌ،
وَرَتَّبَهُ تَرْتِيبًا حَسَنًا رَأَيْتُهُ، وَشَرَحَهُ أَيْضًا، وَلَهُ أَوْقَافٌ
عَلَى الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ عُقِدَ مَجْلِسٌ
بَعْدَ الصَّلَاةِ بِالشُّبَّاكِ
الْكَمَالِيِّ مِنْ
مَشْهَدِ عُثْمَانَ بِسَبَبِ الْقَاضِي فَخْرِ الدِّينِ الْمِصْرِيِّ، وَصَدْرِ
الدِّينِ عَبْدِ الْكَرِيِمِ ابْنِ الْقَاضِي جَلَالِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ;
بِسَبَبِ الْعَادِلِيَّةِ الصَّغِيرَةِ، فَاتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى أَنْ نَزَلَ
صَدْرُ الدِّينِ عَنْ تَدْرِيسِهَا، وَنَزَلَ الْقَاضِي فَخْرُ الدِّينِ عَنْ
مِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَلَى الْجَامِعِ. وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ سَلْخِ الشَّهْرِ
الْمَذْكُورِ حَضَرَ الْقَاضِي فَخْرُ الدِّينِ الْمِصْرِيُّ، وَدَرَّسَ
بِالْعَادِلِيَّةِ الصَّغِيرَةِ، وَحَضَرَ النَّاسُ عِنْدَهُ عَلَى الْعَادَةِ،
وَأَخَذَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا [
يُوسُفَ: 65 ].
وَفِي أَوَاخِرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ جَاءَ الْمَرْسُومُ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ بِأَنْ تَخْرُجَ تَجْرِيدَةٌ مِنْ دِمَشْقَ بِصُحْبَةِ الْأَمِيرِ
حُسَامِ الدِّينِ الْبَشْمَقْدَارِ لِحِصَارِ الْكَرَكِ الَّذِي تَحَصَّنَ فِيهِ
ابْنُ السُّلْطَانِ أَحْمَدُ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ
الَّتِي أَخَذَهَا مِنَ الْخَزَائِنِ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ، وَبَرَزَ
الْمَنْجَنِيقُ مِنَ الْقَلْعَةِ إِلَى قِبْلِيِّ جَامِعِ الْقُبَيْبَاتِ،
فَنُصِبَ هُنَاكَ، وَخَرَجَ النَّاسُ لِلتَّفَرُّجِ عَلَيْهِ وَرُمِيَ بِهِ،
وَمِنْ نِيَّتِهِمْ أَنْ يَسْتَصْحِبُوهُ مَعَهُمْ لِلْحِصَارِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي رَبِيعٍ الْآخِرِ قَدِمَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ
الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا الْمَارِدَانِيُّ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى
خَيْلِ الْبَرِيدِ ذَاهِبًا إِلَى حَمَاةَ نَائِبًا عَلَيْهَا، وَرُسِمَ بِعَوْدِ
الْجَاوِلِيِّ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى قَاعِدَتِهِ وَعَادَتِهِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ عَاشِرِهِ دَخَلَ إِلَى دِمَشْقَ الْأَمِيرَانِ
الْكَبِيرَانِ; رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ الْأَحْمَدِيُّ مِنْ طَرَابُلُسَ،
وَعَلَمُ الدِّينِ الْجَاوِلِيُّ مِنْ حَمَاةَ - سَحَرًا، وَحَضَرَا الْمَوْكِبَ،
وَوَقَفَا مُكْتَنِفِينَ لِنَائِبِ السَّلْطَنَةِ، الْأَحْمَدِيُّ عَنْ يَمِينِهِ،
وَالْجَاوِلِيُّ عَنْ يَسَارِهِ، وَنَزَلَا ظَاهِرَ الْبَلَدِ، ثُمَّ بَعْدَ
أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ تَوَجَّهَ الْأَحْمَدِيُّ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
عَلَى عَادَتِهِ
وَقَاعِدَتِهِ رَأْسِ مَشُورَةٍ، وَتَوَجَّهَ الْجَاوِلِيُّ إِلَى غَزَّةَ
الْمَحْرُوسَةَ نَائِبًا عَلَيْهَا، وَكَانَ الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ مَسْعُودُ
بْنُ الْخَطِيرِ عَلَى إِمْرَةِ طَبْلَخَانَاهْ بِدِمَشْقَ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَالِثِهِ خَرَجَتِ التَّجْرِيدَةُ مِنْ دِمَشْقَ سَحَرًا
إِلَى مَدِينَةِ الْكَرَكِ، وَالْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ صُبْحٍ وَالِي
الْوُلَاةِ بِحَوْرَانَ مُشِدُّ الْمَجَانِيقِ، وَخَرَجَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ بِهَادِرُ الشَّمْسِ الْمُلَقَّبُ بِحَلَاوَةَ وَالِي الْبَرِّ
بِدِمَشْقَ إِلَى وِلَايَةِ الْوُلَاةِ بِحَوْرَانَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَامِنَ عَشَرَهُ وَقَعَ بَيْنَ النَّائِبِ وَالْقَاضِي
الشَّافِعِيِّ بِسَبَبِ كِتَابٍ وَرَدَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِيهِ
الْوَصَاةُ بِالْقَاضِي السُّبْكِيِّ الْمَذْكُورِ، وَمَعَهُ التَّوْقِيعُ
بِالْخَطَابَةِ لَهُ، مُضَافًا إِلَى الْقَضَاءِ وَخِلْعَةً مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ النَّائِبُ لِأَجْلِ أَوْلَادِ الْجَلَالِ; لِأَنَّهُمْ
عِنْدَهُمْ عَائِلَةٌ كَثِيرَةٌ وَهُمْ فُقَرَاءُ، وَقَدْ نَهَاهُ عَنِ السَّعْيِ
فِي ذَلِكَ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ أَنْ لَا يُصَلِّيَ عِنْدَهُ فِي
الشُّبَّاكِ الْكَمَالِيِّ، فَنَهَضَ مِنْ هُنَاكَ وَصَلَّى فِي الْغَزَّالِيَّةِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ الْعِشْرِينَ مِنْهُ دَخَلَ دِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ أُرُنْبُغَا زَوْجُ ابْنَةِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ
مُجْتَازًا ذَاهِبًا إِلَى طَرَابُلُسَ نَائِبًا بِهَا - فِي تَجَمُّلٍ
وَأُبَّهَةٍ، وَنَجَائِبَ وَجَنَائِبَ كَثِيرَةٍ، وَعِدَّةٍ وَسَرْكٍ كَامِلٍ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ
الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ دَخَلَ الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ
الْخَطِيرِ مَعْزُولًا عَنْ نِيَابَةِ غَزَّةَ الْمَحْرُوسَةِ، فَأَصْبَحَ يَوْمَ
الْخَمِيسِ فَرَكِبَ فِي الْمَوْكِبِ وَسُيِّرَ مَعَ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ،
وَنَزَلَ فِي دَارِهِ، وَرَاحَ النَّاسُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى صَبِيحَةِ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ثَالِثَ عَشَرَ
زُيِّنَتِ الْبَلَدُ لِعَافِيَةِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ لِمَرَضٍ
أَصَابَهُ، ثُمَّ شُفِيَ مِنْهُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ السَّادِسَ عَشَرَهُ قَبْلَ الْعَصْرِ وَرَدَ الْبَرِيدُ
مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِطَلَبِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ
السُّبْكِيِّ إِلَيْهَا حَاكِمًا بِهَا، فَذَهَبَ النَّاسُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ
وَلِتَوْدِيعِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أَرْجَفَ النَّاسُ بِهِ كَثِيرًا،
وَاشْتَهَرَ أَنَّهُ سَيَنْعَقِدُ لَهُ مَجْلِسٌ لِلدَّعْوَى عَلَيْهِ بِمَا
دَفَعَهُ مِنْ مَالِ الْأَيْتَامِ إِلَى أُلْطُنْبُغَا وَإِلَى الْفَخْرِيِّ،
وَكُتِبَتْ فَتْوَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي تَغْرِيمِهِ، وَدَارُوا بِهَا عَلَى
الْمُفْتِينَ، فَلَمْ يَكْتُبْ لَهُمْ أَحَدٌ فِيهَا غَيْرَ الْقَاضِي جَلَالِ
الدِّينِ بْنِ حُسَامِ الدِّينِ الْحَنَفِيِّ، رَأَيْتُ خَطَّهُ عَلَيْهَا
وَحْدَهُ يَوْمَئِذٍ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَسُئِلْتُ فِي الْإِفْتَاءِ عَلَيْهَا
فَامْتَنَعْتُ; لِمَا فِيهَا مِنَ التَّشْوِيشِ عَلَى الْحُكَّامِ، وَفِي أَوَّلِ
مَرْسُومِ نَائِبِ السُّلْطَانِ أَنْ يَتَأَمَّلَ الْمُفْتُونَ هَذَا السُّؤَالَ
وَيُفْتُوا بِمَا يَقْتَضِيهِ حُكْمُ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، وَكَانُوا لَهُ فِي
نِيَّةٍ عَجِيبَةٍ، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِطَلَبِهِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، فَسَارَ إِلَيْهَا صُحْبَةَ الْبَرِيدِ لَيْلَةَ الْأَحَدِ،
وَخَرَجَ الْكُبَرَاءُ وَالْأَعْيَانُ لِتَوْدِيعِهِ وَفِي خِدْمَتِهِ.
اسْتَهَلَّ جُمَادَى الْآخِرَةُ وَالتَّجْرِيدَةُ عَمَّالَةٌ إِلَى الْكَرَكِ،
وَالْجَيْشُ الْمُجَرَّدُونَ مِنَ الْحَلْقَةِ قَرِيبٌ مِنْ أَلْفٍ أَوْ
يَزِيدُونَ، وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ رَابِعُهُ بَعْدَ الظُّهْرِ
مَاتَ الْأَمِيرُ
عَلَاءُ الدِّينِ أَيْدُغْمُشُ
نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِالشَّامِ الْمَحْرُوسِ فَجْأَةً فِي دَارٍ وَحْدَهُ،
بِدَارِ السَّعَادَةِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَكَشَفُوا أَمْرَهُ، وَأُحْصِرُوا،
وَخَشُوا أَنْ يَكُونَ اعْتَرَاهُ سَكْتَةٌ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ شُفِيَ، فَاللَّهُ
أَعْلَمُ، فَانْتَظَرُوا بِهِ إِلَى الْغَدِ احْتِيَاطًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ
النَّاسُ اجْتَمِعُوا لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَصُلِّيَ عَلَيْهِ خَارِجَ بَابِ
النَّصْرِ حَيْثُ يُصَلَّى عَلَى الْجَنَائِزِ، وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى نَحْوِ
الْقِبْلَةِ، وَرَامَ بَعْضُ أَهْلِهِ أَنْ يُدْفَنَ فِي تُرْبَةِ غِبْرِيَالَ
إِلَى جَانِبِ جَامِعِ الْقُبَيْبَاتِ، فَلَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ، فَدُفِنَ
قِبْلِيَّ الْجَامِعِ عَلَى حَافَّةِ الطَّرِيقِ، وَلَمْ يَتَهَيَّأْ دَفْنُهُ
إِلَى بَعْدِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِئِذٍ، وَعَمِلُوا عِنْدَهُ خَتْمَةً لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ وَسَامَحَهُ.
وَاشْتَهَرَ فِي أَوَائِلِ هَذَا الشَّهْرِ أَنَّ الْحِصَارَ عَمَّالٌ عَلَى
الْكَرَكِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْكَرَكِ خَرَجَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، فَقُتِلَ
مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقُتِلَ مِنَ الْجَيْشِ وَاحِدٌ فِي الْحِصَارِ،
فَنَزَلَ الْقَاضِي وَجَمَاعَةٌ وَمَعَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْجَوْهَرِ، وَتَرَاضَوْا
عَلَى أَنْ يُسَلِّمُوا الْبَلَدَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَهْلُ الْحِصْنِ
تَحَصَّنُوا، وَنَصَبُوا الْمَجَانِيقَ، وَاسْتَعَدُّوا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ
أَيَّامٍ رَمَوْا مَنْجَنِيقَ الْجَيْشِ فَكَسَرُوا السَّهْمَ الَّذِي لَهُ،
وَعَجَزُوا عَنْ نَقْلِهِ، فَحَرَقُوهُ بِرَأْيِ أُمَرَاءَ الْمُقَدَّمِينَ،
وَجَرَتْ أُمُورٌ فَظِيعَةٌ، فَاللَّهُ يُحْسِنُ الْعَاقِبَةَ.
ثُمَّ وَقَعَتْ فِي أَوَاخِرِ هَذَا الشَّهْرِ بَيْنَ الْجَيْشِ وَأَهْلِ
الْكَرَكِ وَقْعَةٌ أُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ رِجَالِ الْكَرَكِ
خَرَجُوا إِلَى الْجَيْشِ وَرَمَوْهُمْ بِالنُّشَّابِ، فَخَرَجَ الْجَيْشُ لَهُمْ
مِنَ الْخِيَامِ، وَرَجَعُوا مُشَاةً مُلْبِسِينَ بِالسِّلَاحِ، فَقَتَلُوا
مِنْأَهْلِ الْكَرَكِ جَمَاعَةً مِنَ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ، وَجُرِحَ مِنَ
الْعَسْكَرِ خَلْقٌ، وَقُتِلَ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ، وَأُسِرَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ أَبُو بَكْرِ بْنُ بَهَادُرَآصْ، وَقُتِلَ أَمِيرُ الْعَرَبِ، وَأُسِرَ
آخَرُونَ فَاعْتُقِلُوا
بِالْكَرَكِ، وَجَرَتْ
أُمُورٌ مُنْكَرَةٌ، ثُمَّ بَعْدَهَا تَعَرَّضَ الْعَسْكَرُ رَاجِعِينَ إِلَى
بِلَادِهِمْ لَمْ يَنَالُوا مُرَادَهُمْ مِنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ دَقَّهُمُ
الْبَرْدُ الشَّدِيدُ وَقِلَّةُ الزَّادِ، وَحَاصَرُوا أُولَئِكَ شَدِيدًا بِلَا
فَائِدَةٍ، فَإِنَّ الْبَلَدَ بَرِيدٌ مُتَطَاوَلَةٌ وَمَجَانِيقُ، وَيَشُقُّ
عَلَى الْجَيْشِ الْإِقَامَةُ هُنَاكَ فِي زَمَانِ كَوَانِينَ، وَالْمَنْجَنِيقُ
الَّذِي حَمَلُوهُ مَعَهُمْ كُسِرَ، فَرَجَعُوا لِيَتَأَهَّبُوا لِذَلِكَ.
وَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ
قَدِمَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى الْبَرِيدِ الْقَاضِي بَدْرُ
الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ كَاتِبًا عَلَى السِّرِّ عِوَضًا عَنْ أَخِيهِ
الْقَاضِي شِهَابِ الدِّينِ، وَمَعَهُ كِتَابٌ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى حَوَاصِلِ
أَخِيهِ شِهَابِ الدِّينِ، وَعَلَى حَوَاصِلِ الْقَاضِي عِمَادِ الدِّينِ بْنِ
الشِّيرَازِيِّ الْمُحْتَسِبِ، فَاحْتِيطَ عَلَى أَمْوَالِهِمَا، وَأُخْرِجَ مَنْ
فِي دِيَارِهِمَا مِنَ الْحُرَمِ، وَضُرِبَتِ الْأَخْشَابُ عَلَى الْأَبْوَابِ،
وَرُسِمَ عَلَى الْمُحْتَسِبِ بِالْعَذْرَاوِيَّةِ، فَسَأَلَ أَنْ يُحَوَّلَ إِلَى
دَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ فَحُوِّلَ إِلَيْهَا، وَأَمَّا الْقَاضِي
شِهَابُ الدِّينِ، فَكَانَ قَدْ خَرَجَ لِيَلْتَقِيَ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ
طُقُزْدَمُرَ الْحَمَوِيَّ الَّذِي جَاءَ تَقْلِيدُهُ بِنِيَابَةِ الشَّامِ
بِدِمَشْقَ وَكَانَ بِحَلَبَ، وَجَاءَ هَذَا الْأَمْرُ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ
الطَّرِيقِ، فَرُسِمَ بِرَجْعَتِهِ لِيُصَادَرَ هُوَ وَالْمُحْتَسِبُ، وَلَمْ
يَدْرِ النَّاسُ مَا ذَنْبُهُمَا.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ ثَامِنِ شَهْرِ رَجَبٍ آخِرِ النَّهَارِ رَجَعَ قَاضِي
الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ إِلَى دِمَشْقَ عَلَى الْقَضَاءِ،
وَمَعَهُ تَقْلِيدٌ بِالْخَطَابَةِ أَيْضًا، وَذَهَبَ النَّاسُ إِلَيْهِ
لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَدَخَلَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
طُقُزْدَمُرُ الْحَمَوِيُّ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ بَعْدَ الْعَصْرِ الْخَامِسَ
عَشَرَ مِنْ حَلَبَ، فَتَلَقَّاهُ الْأُمَرَاءُ إِلَى طَرِيقِ الْقَابُونِ،
وَدَعَا لَهُ النَّاسُ دُعَاءً كَثِيرًا، وَأَحَبُّوهُ لِبُغْضِهِمُ النَّائِبَ
الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ،
وَهُوَ عَلَاءُ الدِّينِ
أَيْدُغْمُشُ، سَامَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَنَزَلَ بِدَارِ السَّعَادَةِ،
وَحَضَرَ الْمَوْكِبَ صَبِيحَةَ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَاجْتَمَعَ طَائِفَةٌ مِنَ
الْعَامَّةِ وَسَأَلُوهُ أَنْ لَا يُغَيِّرَ عَلَيْهِمْ خَطِيبَهُمْ تَاجَ
الدِّينِ عَبْدَ الرَّحِيمِ بْنَ جَلَالِ الدِّينِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ،
بَلْ عَمِلَ عَلَى تَقْلِيدِ الْقَاضِي تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ
الْخَطَابَةَ، وَلَبِسَ الْخِلْعَةَ، وَأَكْثَرَ الْعَوَامُّ لَمَّا سَمِعُوا
بِذَلِكَ الْكَلَامَ وَالْغَوْغَاءَ، وَصَارُوا يَجْتَمِعُونَ حِلَقًا حِلَقًا
بَعْدَ الصَّلَوَاتِ وَيُكْثِرُونَ الْفَرَحَ فِي ذَلِكَ لَمَّا مُنِعَ ابْنُ
الْجَلَالِ، وَلَكِنْ بَقِيَ هَذَا لَمْ يُبَاشِرِ السُّبْكِيُّ فِي الْمِحْرَابِ،
وَاشْتَهَرَ عَنِ الْعَوَامِّ كَلَامٌ كَثِيرٌ، وَتَوَعَّدُوا السُّبْكِيَّ
بِالسَّفَاهَةِ عَلَيْهِ إِنْ خَطَبَ، وَضَاقَ بِذَلِكَ ذَرْعًا، وَنُهُوا عَنْ
ذَلِكَ فَلَمْ يَنْتَهُوا، وَقِيلَ لَهُمْ وَلِكَثِيرٍ مِنْهُمْ: الْوَاجِبُ
عَلَيْكُمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِأُولِي الْأَمْرِ، وَلَوْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ
عَبْدٌ حَبَشِيٌّ. فَلَمْ يَرْعَوُوا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ
الْعِشْرِينَ مِنْهُ اشْتُهِرَ بَيْنَ الْعَامَّةِ بِأَنَّ الْقَاضِيَ نَزَلَ عَنِ
الْخَطَابَةِ لِابْنِ الْجَلَالِ، فَفَرِحَ الْعَوَامُّ بِذَلِكَ، وَحَشَدُوا فِي
الْجَامِعِ، وَجَاءَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ إِلَى الْمَقْصُورَةِ وَالْأُمَرَاءُ
مَعَهُ، وَخَطَبَ ابْنُ الْجَلَالِ عَلَى الْعَادَةِ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ
وَأَكْثَرُوا مِنَ الْكَلَامِ وَالْهَرْجِ، وَلَمَّا سَلَّمَ عَلَيْهِمُ
الْخَطِيبُ حِينَ صَعِدَ، رَدُّوا عَلَيْهِ رَدًّا بَلِيغًا، وَتَكَلَّفُوا فِي
ذَلِكَ وَأَظْهَرُوا بِغْضَةَ الْقَاضِي السُّبْكِيِّ، وَتَجَاهَرُوا بِذَلِكَ،
وَأَسْمَعُوهُ كَلَامًا كَثِيرًا، وَلَمَّا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ قُرِئَ تَقْلِيدُ
النِّيَابَةِ عَلَى السُّدَّةِ، وَخَرَجَ النَّاسُ فَرْحَى بِخَطِيبِهِمْ
لِكَوْنِهِ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِمْ، وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ يُسَلِّمُونَ
وَيَدْعُونَ لَهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثِ شَعْبَانَ دَرَّسَ الْقَاضِي بُرْهَانُ
الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الْحَقِّ بِالْمَدْرَسَةِ الْعَذْرَاوِيَّةِ بِمَرْسُومٍ
سُلْطَانِيٍّ بِتَوْلِيَتِهِ، وَعُزِلَ الْقَحْفَازِيُّ، وَعُقِدَ لَهُمَا مَجْلِسٌ
يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ بِدَارِ الْعَدْلِ، فَرَجَحَ جَانِبُ الْقَاضِي بُرْهَانِ
الدِّينِ لِحَاجَتِهِ وَكَوْنِهِ لَا وَظِيفَةَ لَهُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
خَامِسِهِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ الصَّالِحُ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ
الْجَزَرِيِّ أَحَدُ الْمُسْنِدِينَ الْمُكْثِرِينَ الصَّالِحِينَ، مَاتَ عَنْ
خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَصُلِّيَ عَلَيْهِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ بِالْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ، وَدُفِنَ بِالرَّوْضَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْهُ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ
الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ الصَّالِحُ الشَّيْخُ شَمْسُ
الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَزِيرِ خَطِيبُ الْجَامِعِ الْكَرِيمِيِّ
بِالْقُبَيْبَاتِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الظُّهْرِ يَوْمَئِذٍ بِالْجَامِعِ
الْمَذْكُورِ، وَدُفِنَ قِبْلِيَّ الْجَامِعِ الْمَذْكُورِ، إِلَى جَانِبِ
الطَّرِيقِ مِنَ الشَّرْقِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَاشْتَهَرَ فِي أَوَائِلِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّ مَوْلُودًا وُلِدَ لَهُ
رَأْسَانِ وَأَرْبَعُ أَيْدٍ، وَأُحْضِرَ إِلَى بَيْنِ يَدَيْ نَائِبِ
السَّلْطَنَةِ، وَذَهَبَ النَّاسُ لِلنَّظَرِ إِلَيْهِ فِي مَحَلَّةٍ ظَاهِرِ
بَابِ الْفَرَادِيسِ، يُقَالُ لَهَا: حِكْرُ الْوَزِيرِ، وَكُنْتُ فِي مَنْ ذَهَبَ
إِلَيْهِ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَالِثَ الشَّهْرِ
الْمَذْكُورِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَأَحْضَرَهُ أَبُوهُ، وَاسْمُ أَبِيهِ:
سَعَادَةُ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَبَلِ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا
هُمَا وَلَدَانِ مُسْتَقِلَّانِ، فَكُلٌّ قَدِ اشْتَبَكَتْ أَفْخَاذُهُمَا
بَعْضُهُمَا بِبَعْضٍ، وَرُكِّبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَدَخَلَ فِي الْآخَرِ،
وَالْتَحَمَتْ فَصَارَتْ جُثَّةً وَاحِدَةً، وَهُمَا مَيِّتَانِ، فَقَالُوا:
أَحَدُهُمَا ذَكَرٌ وَالْآخَرُ أُنْثَى، وَهُمَا مَيِّتَانِ حَالَ رُؤْيَتِي
إِلَيْهِمَا، وَقَالُوا: إِنَّهُ تَأَخَّرَ مَوْتُ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ
بِيَوْمَيْنِ أَوْ نَحْوِهِمَا. وَكُتِبَ بِذَلِكَ مَحْضَرَ جَمَاعَةٍ مِنَ
الشُّهُودِ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ
احْتِيطَ عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ; وَهُمْ أَبْنَاءُ الْكَامِلِ،
صَلَاحُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ - أَمِيرُ طَبْلَخَانَاهْ - وَغَيَّاثُ الدِّينِ
مُحَمَّدٌ أَمِيرُ عَشَرَةٍ، وَعَلَاءُ الدِّينِ عَلِيٌّ، وَابْنُ أَيْبَكَ
الطَّوِيلُ - طَبْلَخَانَاهْ أَيْضًا، وَصَلَاحُ الدِّينِ خَلِيلُ بْنُ بَلَبَانَ
طُرْنَا - طَبْلَخَانَاهْ أَيْضًا; وَذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُمُ اتُّهِمُوا عَلَى
مُمَالَأَةِ الْمَلِكِ أَحْمَدَ بْنِ النَّاصِرِ الَّذِي فِي الْكَرَكِ
وَمُكَاتَبَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِمْ، فَقُيِّدُوا وَحُمِلُوا إِلَى
الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ مِنْ بَابِ السِّرِّ مُقَابِلَ بَابِ دَارِ
السَّعَادَةِ - الثَّلَاثَةُ الطَّبْلَخَانَاهْ - وَالْغَيَّاثُ مِنْ بَابِهَا
الْكَبِيرِ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمْ فِي الْأَمَاكِنِ.
وَخَرَجَ الْمَحْمَلُ يَوْمَ الْخَمِيسِ خَامِسَ عَشَرَهُ، وَلَبِسَ الْخَطِيبُ
ابْنُ الْجَلَالِ خِلْعَةَ اسْتِقْرَارِ الْخَطَابَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ،
وَرَكِبَ بِهَا مَعَ الْقُضَاةِ عَلَى عَادَةِ الْخُطَبَاءِ.
وَفِي أَوَاخِرِ هَذَا الشَّهْرِ نُصِبَ الْمَنْجَنِيقُ الْكَبِيرُ عَلَى بَابِ
الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ، وَطُولُ أَكْتَافِهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا،
وَطُولُ سَهْمِهِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَخَرَجَ النَّاسُ لِلْفُرْجَةِ
عَلَيْهِ، وَرُمِيَ بِهِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ
حَجَرًا زِنَتُهُ سِتُّونَ رَطْلًا، فَبَلَغَ إِلَى مُقَابَلَةِ الْقَصْرِ مِنَ
الْمَيْدَانِ الْكَبِيرِ، وَذَكَرَ مُعَلِّمُ الْمَجَانِيقِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي
حُصُونِ الْإِسْلَامِ مِثْلُهُ، وَأَنَّهُ عَمَلَهُ الْحَاجُّ مُحَمَّدٌ الصَّالِحِيُّ
لِيَكُونَ بِالْكَرَكِ، فَقَدَّرَ اللَّهُ أَنَّهُ خَرَجَ لِيُحَاصَرَ بِهِ
الْكَرَكُ، فَاللَّهُ يُحْسِنُ الْعَاقِبَةَ.
وَفِي أَوَاخِرِهِ أَيْضًا مُسِكَ أَرْبَعَةُ أُمَرَاءَ وَهُمْ; أَقْبُغَا عَبْدُ
الْوَاحِدِ الَّذِي كَانَ مُبَاشِرًا الْأُسْتَادَارِيَّةَ لِلْمَلِكِ النَّاصِرِ
الْكَبِيرِ، فَصُودِرَ فِي أَيَّامِ ابْنِهِ الْمَنْصُورِ، وَأُخْرِجَ إِلَى
الشَّامِ فَنَابَ بِحِمْصَ، فَسَارَ سِيرَةً غَيْرَ مَرْضِيَّةٍ، وَذَمَّهُ
النَّاسُ، وَعُزِلَ عَنْهَا، وَأُعْطِيَ تَقْدِمَةَ
أَلْفٍ بِدِمَشْقَ،
وَجُعِلَ رَأْسَ الْمَيْمَنَةِ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ اتُّهِمَ
بِمُمَالَأَةِ السُّلْطَانِ أَحْمَدَ بْنِ النَّاصِرِ الَّذِي بِالْكَرَكِ،
فَمُسِكَ، وَحُمِلَ إِلَى الْقَلْعَةِ وَمَعَهُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
بِلَوُ، وَالْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ حَطِيَّةُ الَّذِي كَانَ مُبَاشِرًا
الْحَجُوبِيَّةَ فِي أَيَّامِ أُلْطُنْبُغَا، وَالْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
سَلَامِشُ، وَكُلُّهُمْ بِطَبْلَخَانَاهْ، فَرُفِعُوا إِلَى الْقَلْعَةِ
الْمَنْصُورَةِ، فَاللَّهُ يُحْسِنُ الْعَاقِبَةَ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ خَرَجَ قَضَاءُ حِمْصَ عَنْ نِيَابَةِ دِمَشْقَ بِمَرْسُومٍ
سُلْطَانِيٍّ مُجَدَّدٍ لِلْقَاضِي شِهَابِ الدِّينِ الْبَارِزِيِّ، وَذَلِكَ
بَعْدَ مُنَاقَشَةٍ كَثِيرَةٍ وَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَاضِي الْقُضَاةِ
تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ، وَانْتَصَرَ لَهُ بَعْضُ الدَّوْلَةِ،
وَاسْتَخْرَجَ لَهُ الْمَرْسُومَ الْمَذْكُورَ. وَفِيهِ أَيْضًا أُفْرِدَ قَضَاءُ
الْقُدْسِ الشَّرِيفِ أَيْضًا بِاسْمِ الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ بْنِ سَالِمٍ
الَّذِي كَانَ مُبَاشِرَهَا مُدَّةً طَوِيلَةً قَبْلَ ذَلِكَ نِيَابَةً، ثُمَّ
عُزِلَ عَنْهَا وَبَقِيَ مُقِيمًا بِبَلَدِهِ غَزَّةَ، ثُمَّ أُعِيدَ إِلَيْهَا
مُسْتَقِلًّا بِهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ رَجَعَ الْقَاضِي
شِهَابُ الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمَعَهُ
تَوْقِيعٌ بِالْمُرَتَّبِ الَّذِي كَانَ لَهُ أَوَّلًا; كُلُّ شَهْرٍ أَلْفُ
دِرْهَمٍ، وَأَقَامَ بِعِمَارَتِهِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بِسَفْحِ قَاسِيُونَ
شَرْقِيَّ الصَّالِحِيَّةِ بِقُرْبِ حَمَّامِ النَّحَاسِ.
وَفِي صَبِيحَةِ مُسْتَهَلِّ ذِي الْقِعْدَةِ خَرَجَ الْمَنْجَنِيقُ قَاصِدًا
إِلَى الْكَرَكِ عَلَى الْجِمَالِ وَالْعَجَلِ، وَصُحْبَتَهُ الْأَمِيرُ صَارِمُ
الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ الْمُسَبَّقِيُّ أَمِيرُ حَاجِبٍ كَانَ فِي الدَّوْلَةِ
السُّكَّرِيَّةِ، وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِ، يَحُوطُهُ وَيَحْفَظُهُ،
وَيَتَوَلَّى تَسْيِيرَهُ بِطَلَبِهِ
وَأَصْحَابِهِ،
وَتَجَهَّزَ الْجَيْشُ لِلذَّهَابِ إِلَى الْكَرَكِ، وَتَأَهَّبُوا أَتَمَّ
الْجِهَازِ، وَبَرَزَتْ أَثْقَالُهُمْ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَضُرِبَتِ
الْخِيَامُ، فَاللَّهُ يُحْسِنُ الْعَاقِبَةَ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ رَابِعِهِ تُوُفِّيَ الطَّوَاشِيُّ شِبْلُ الدَّوْلَةِ
كَافُورٌ السُّكَّرِيُّ، وَدُفِنَ صَبِيحَةَ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ خَامِسَهُ
بِتُرْبَتِهِ الَّتِي أَنْشَاهَا قَدِيمًا ظَاهِرَ بَابِ الْجَابِيَةِ، تُجَاهَ
تُرْبَةِ الطَّوَاشِيِّ ظَهِيرِ الدِّينِ الْخَازِنِ بِالْقَلْعَةِ - كَانَ -
قُبَيْلَ مَسْجِدِ الذِّبَّانِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ قَدِيمًا لِلصَّاحِبِ
تَقِيِّ الدِّينِ تَوْبَةَ التِّكْرِيتِيِّ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ تَنْكِزُ بَعْدَ
مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ مِنِ ابْنَيْ أَخِيهِ; صَلَاحِ الدِّينِ، وَشَرَفِ الدِّينِ -
بِمَبْلَغٍ جَيِّدٍ، وَعَوَّضَهُمَا إِقْطَاعًا زِيَادَةً عَلَى مَا كَانَ
بِأَيْدِيهِمَا; وَذَلِكَ رَغْبَةً فِي أَمْوَالِهِ الَّتِي حَصَّلَهَا مِنْ
أَبْوَابِ السَّلْطَنَةِ، وَقَدْ تَغَضَّبَ عَلَيْهِ أُسْتَاذُهُ تَنْكِزُ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي وَقْتٍ، وَصُودِرَ، وَجَرَتْ عَلَيْهِ فُصُولٌ، ثُمَّ
سَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَمَّا مَاتَ تَرَكَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً وَأَوْقَافًا،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَخَرَجَتِ التَّجْرِيدَةُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ سَادِسَهُ، وَالْمُقَدَّمُ
عَلَيْهَا الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْخَطِيرِ، وَمَعَهُ مُقَدَّمٌ آخَرُ
وَهُوَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ قَرَاسُنْقُرَ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ سَلْخِ هَذَا الشَّهْرِ تُوُفِّيَ الشَّابُّ الْحَسَنُ
شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ فَرَجٍ، الْمُؤَذِّنُ بِمِئْذَنَةِ الْعَرُوسِ،
وَكَانَ شَهِيرًا بِحُسْنِ الصَّوْتِ، ذَا حُظْوَةٍ عَظِيمَةٍ عِنْدَ أَهْلِ
الْبَلَدِ، وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا فِي النَّفْسِ وَزِيَادَةٍ، فِي حُسْنِ
الصَّوْتِ الرَّخِيمِ الْمُطْرِبِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرَّاءِ وَلَا فِي
الْمُؤَذِّنِينَ قَرِيبٌ مِنْهُ وَلَا مَنْ يُدَانِيهِ فِي وَقْتِهِ، وَكَانَ فِي
آخِرِ وَقْتِهِ عَلَى طَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ، وَانْقِطَاعٍ
عَنِ النَّاسِ،
وَإِقْبَالٍ عَلَى شَأْنِ نَفْسِهِ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الظُّهْرِ يَوْمَئِذٍ، وَدُفِنَ عِنْدَ أَخِيهِ
بِمَقْبَرَةِ الصُّوفِيَّةِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ خَامِسِ ذِي الْحِجَّةِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ بَدْرُ
الدِّينِ بْنُ بَصْخَانَ، شَيْخُ الْقُرَّاءِ السَّبْعِ فِي الْبَلَدِ، الشَّهِيرُ
بِذَلِكَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ بَعْدَ الظُّهْرِ يَوْمَئِذٍ
بِمَقَابِرِ بَابِ الْفَرَادِيسِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ تَاسِعِهِ - وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ - حَضَرَ الْإِقْرَاءَ
بِتُرْبَةِ أُمِّ الصَّالِحِ عِوَضًا عَنِ الشَّيْخِ بَدْرِ الدِّينِ بْنِ
بَصْخَانَ الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ النَّقِيبِ
الْبَعْلَبَكِّيُّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُضَلَاءِ وَبَعْضُ
الْقُضَاةِ، وَكَانَ حُضُورُهُ بَغْتَةً، وَكَانَ مُتَمَرِّضًا، فَأَلْقَى شَيْئًا
مِنَ الْقِرَاءَاتِ وَالْإِعْرَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ [ آلِ
عِمْرَانَ: 178 ].
وَفِي أَوَاخِرِ هَذَا الشَّهْرِ غَلَا السِّعْرُ جِدًّا، وَقَلَّ الْخُبْزُ،
وَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى الْأَفْرَانِ زَحْمَةً عَظِيمَةً، وَبِيعَ خُبْزُ
الشَّعِيرِ الْمَخْلُوطِ بِالزُّوَانِ وَالنُّقَارَةِ، وَبَلَغَتِ الْغِرَارَةُ
مِائَةً وَسِتَّةً وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا، وَتَقَلَّصَ السِّعْرُ جِدًّا حَتَّى
بِيعَ الْخُبْزُ كُلُّ رَطْلٍ بِدِرْهَمٍ، وَفَوْقَ ذَلِكَ بِيَسِيرٍ وَدُونَهُ،
بِحَسَبِ طِيبِهِ وَرَدَاءَتِهِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،
وَكَثُرَ السُّؤَالُ وَجَاعَ الْعِيَالُ، وَضَعُفَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ
وَالْأَحْوَالِ، وَلَكِنَّ لُطْفَ اللَّهِ عَظِيمٌ، فَإِنَّ النَّاسَ مُتَرَقِّبُونَ مَغَلًّا هَائِلًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ مِنْ مُدَّةِ سِنِينَ عَدِيدَةٍ، وَقَدِ اقْتَرَبَ أَوَانُهُ، وَشَرَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْبِلَادِ فِي حَصَادِ الشَّعِيرِ وَبَعْضِ الْقَمْحِ، مَعَ كَثْرَةِ الْفُولِ وَبَوَادِرِ التُّوتِ، فَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَطَفَ اللَّهُ بِعِبَادِهِ، وَهُوَ الْحَاكِمُ الْمُتَصَرِّفُ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ
عِمَادُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ إِسْمَاعِيلُ ابْنُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ نَاصِرِ
الدِّينِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ سَيْفِ الدِّينِ قَلَاوُونَ
الصَّالِحِيُّ، وَنَائِبُهُ بِدِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طُقُزْدَمُرُ
الْحَمَوِيُّ، وَقُضَاتُهُ بِهَا هُمُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ، وَكَذَلِكَ
الصَّاحِبُ، وَالْخَطِيبُ، وَنَاظِرُ الْجَامِعِ وَالْخِزَانَةِ، وَشَدُّ
الْأَوْقَافِ، وَوِلَايَةُ الْمَدِينَةِ.
وَاسْتَهَلَّتْ وَالْجُيُوشُ الْمِصْرِيَّةُ وَالشَّامِيَّةُ مُحِيطَةٌ بِحِصْنِ
الْكَرَكِ يُحَاصِرُونَهُ، وَيُبَالِغُونَ فِي أَمْرِهِ، وَالْمَنْجَنِيقُ
مَنْصُوبٌ، وَأَنْوَاعُ آلَاتِ الْحِصَارِ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ رُسِمَ بِتَجْرِيدَةٍ
مِنْ مِصْرَ وَالشَّامِ أَيْضًا تَخْرُجُ إِلَيْهَا. وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ
عَاشِرِ صَفَرٍ دَخَلَتِ التَّجْرِيدَةُ مِنَ الْكَرَكِ إِلَى دِمَشْقَ،
وَاسْتَمَرَّتِ التَّجْرِيدَةُ الْجَدِيدَةُ عَلَى الْكَرَكِ ; أَلْفَانِ مِنْ
مِصْرَ وَأَلْفَانِ مِنَ الشَّامِ، وَالْمَنْجَنِيقُ مَنْقُوضٌ مَوْضُوعٌ عِنْدَ
الْجَيْشِ خَارِجَ الْكَرَكِ، وَالْأُمُورُ مُتَوَقِّفَةٌ، وَبَرَدَ الْحِصَارُ
بَعْدَ رُجُوعِ الْأَحْمَدِيِّ إِلَى مِصْرَ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَانِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تُوُفِّيَ السَّيِّدُ
الشَّرِيفُ عِمَادُ الدِّينِ
الْخَشَّابُ بِالْكُوشَكِ
فِي دَرْبِ السِّيرْجِيِّ جِوَارَ الْمَدْرَسَةِ الْعِزِّيَّةِ، وَصُلِّيَ
عَلَيْهِ ضُحًى بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ
الصَّغِيرِ، وَكَانَ رَجُلًا شَهْمًا، كَثِيرَ الْعِبَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ
لِلسُّنَّةِ وَأَهْلِهَا، مِمَّنْ وَاظَبَ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ
تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَانْتَفَعَ بِهِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ
أَنْصَارِهِ وَأَعْوَانِهِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ،
وَهُوَ الَّذِي بَعَثَهُ إِلَى صَيْدَنَايَا مَعَ بَعْضِ الْقِسِّيسِينَ،
فَلَوَّثَ يَدَهُ بِالْعَذِرَةِ وَضَرَبَ اللَّحْمَةَ الَّتِي يُعَظِّمُونَهَا
هُنَاكَ، وَأَهَانَهَا غَايَةَ الْإِهَانَةِ لِقُوَّةِ إِيمَانِهِ وَشَجَاعَتِهِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَابِعِهِ اجْتَمَعَ الصَّاحِبُ، وَمُشِدُّ
الدَّوَاوِينِ، وَوَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ، وَمُشِدُّ الْأَوْقَافِ، وَمُبَاشِرُو
الْجَامِعِ، وَمَعَهُمُ الْعَمَّالُونَ بِالنَّوْلِ وَالْمَعَاوِلِ; يَحْفُرُونَ
إِلَى جَانِبِ السَّارِيَةِ عِنْدَ بَابِ مَشْهَدِ عَلِيٍّ تَحْتَ تِلْكَ
الصَّخْرَةِ الَّتِي كَانَ