2/25. ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا دَخَلَ الْمَأْمُونُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ،
وَظَفِرَ بِعُبْدُوسٍ الْفِهْرِيِّ، فَأَمَرَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، ثُمَّ كَرَّ
رَاجِعًا إِلَى الشَّامِ. وَفِيهَا رَكِبَ الْمَأْمُونُ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ
أَيْضًا، فَحَاصَرَ لُؤْلُؤَةَ مِائَةَ يَوْمٍ، ثُمَّ ارْتَحَلَ عَنْهَا
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى حِصَارِهَا عُجَيْفًا، فَخَدَعَتْهُ الرُّومُ فَأَسَرُوهُ،
فَأَقَامَ فِي أَيْدِيهِمْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ انْفَلَتَ مِنْ
أَيْدِيهِمْ، وَاسْتَمَرَّ مُحَاصِرًا لَهُمْ، فَجَاءَ مَلِكُ الرُّومِ بِنَفْسِهِ
فَأَحَاطَ بِجَيْشِهِ مِنْ وَرَائِهِ، فَبَلَغَ الْمَأْمُونَ فَسَارَ إِلَيْهِ،
فَلَمَّا أَحَسَّ تَوْفِيلُ بِقُدُومِهِ انْصَرَفَ هَارِبًا مِنْ وَجْهِهِ،
وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْوَزِيرَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الصَّنْغَلُ. فَسَأَلَهُ الْأَمَانَ
وَالْمُصَالَحَةَ وَالْمُهَادَنَةَ، لَكِنَّهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ
إِلَى الْمَأْمُونِ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْمَأْمُونُ كِتَابًا بَلِيغًا مَضْمُونُهُ
التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ، وَإِنِّي إِنَّمَا أَقْبَلُ مِنْكَ الدُّخُولَ فِي
الْحَنِيفِيَّةِ وَإِلَّا فَالسَّيْفُ وَالْقَتْلُ، وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ
اتَّبَعَ الْهُدَى.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ
عَلِيٍّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ: حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، وَسُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَمُوسَى بْنُ دَاوُدَ الضَّبِّيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ
فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى مِنْهَا وَجَّهَ الْمَأْمُونُ ابْنَهُ
الْعَبَّاسَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ لِبِنَاءِ الطُّوَانَةِ، وَتَجْدِيدِ
عِمَارَتِهَا، وَبَعَثَ إِلَى سَائِرِ الْأَقَالِيمِ وَالْآفَاقِ فِي تَجْهِيزِ
الْفَعَلَةِ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ إِلَيْهَا؛ مِنْ مِصْرَ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا مِيلًا فِي مِيلٍ، وَأَنْ
يَجْعَلَ سُورَهَا ثَلَاثَةَ فَرَاسِخَ، وَأَنْ يَجْعَلَ لَهَا ثَلَاثَةَ
أَبْوَابٍ عِنْدَ كُلِّ بَابٍ حِصْنٌ.
ذِكْرُ أَوَّلِ الْمِحْنَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ الْمَأْمُونُ إِلَى نَائِبِهِ بِبَغْدَادَ إِسْحَاقَ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ يَأْمُرُهُ أَنْ يَمْتَحِنَ الْقُضَاةَ
وَالْمُحَدِّثِينَ بِالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَأَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ
جَمَاعَةً مِنْهُمْ إِلَى الرَّقَّةِ وَنُسْخَةَ كِتَابِ الْمَأْمُونِ إِلَى
نَائِبِهِ مُطَوَّلَةٌ، قَدْ سَرَدَهَا ابْنُ
جَرِيرٍ وَمَضْمُونُهُا الِاحْتِجَاجُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ
وَلَيْسَ بِقَدِيمٍ، وَعِنْدَهُ أَنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَهَذَا
أَمْرٌ لَا يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَلَا
الْمُحَدِّثِينَ، فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَقُومُ بِهِ
الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ لَا يَقُولُونَ بِأَنَّ فِعْلَهُ تَعَالَى
الْقَائِمَ بِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ - بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ - مَخْلُوقٌ، بَلْ
يَقُولُونَ: هُوَ مُحْدَثٌ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ. بَلْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ
تَعَالَى الْقَائِمُ بِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ، وَمَا كَانَ قَائِمًا بِذَاتِهِ
لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ
ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [ الْأَنْبِيَاءِ: 2 ] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ
خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا
لِآدَمَ [ الْأَعْرَافِ: 11 ] فَالْأَمْرُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ صَدَرَ مِنْهُ
تَعَالَى بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ، فَالْكَلَامُ الْقَائِمُ بِالذَّاتِ لَيْسَ
مَخْلُوقًا، وَهَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَقَدْ صَنَّفَ الْبُخَارِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - كِتَابًا فِي هَذَا الْمَعْنَى سَمَّاهُ " " خَلْقُ
أَفْعَالِ الْعِبَادِ " ".
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ كِتَابَ الْمَأْمُونِ لَمَّا وَرَدَ بَغْدَادَ قُرِئَ عَلَى
النَّاسِ، وَقَدْ عَيَّنَ الْمَأْمُونُ جَمَاعَةً مِنَ الْمُحَدِّثِينَ
لِيُحْضِرَهُمْ إِلَيْهِ، وَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتِبُ الْوَاقِدِيِّ،
وَأَبُو مُسْلِمٍ مُسْتَمْلِي يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ،
وَأَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ دَاوُدَ،
وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الدَّوْرَقِيُّ. فَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى الْمَأْمُونِ إِلَى الرَّقَّةِ
فَامْتَحَنَهُمْ بِالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ
وَأَظْهَرُوا مُوَافَقَتَهُ، وَهُمْ كَارِهُونَ، فَرَدَّهُمْ إِلَى بَغْدَادَ
وَأَمَرَ بِإِشْهَارِ أَمْرِهِمْ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فَفَعَلَ إِسْحَاقُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ ذَلِكَ، وَأَحْضَرَ خَلْقًا مِنْ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ
وَالْفُقَهَاءِ، وَالْقُضَاةِ وَأَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهِمْ، فَدَعَاهُمُ
الى ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ الْمَأْمُونِ وَذَكَرَ لَهُمْ مُوَافَقَةَ أُولَئِكَ
الْمُحَدِّثِينَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَجَابُوا بِمِثْلِ جَوَابِ أُولَئِكَ
مُوَافَقَةً لَهُمْ، وَوَقَعَتْ بَيْنَ النَّاسِ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
ثُمَّ كَتَبَ الْمَأْمُونُ كِتَابًا ثَانِيًا إِلَى إِسْحَاقَ يَسْتَدِلُّ فِيهِ
عَلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ بِشُبَهٍ مِنَ الدَّلَائِلِ لَا تَحْقِيقَ
تَحْتَهَا، وَلَا حَاصِلَ لَهَا بَلْ هِيَ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَأَوْرَدَ
مِنَ الْقُرْآنِ آيَاتٍ هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا لَهُ وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ
جَرِيرٍ بِطُولِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، وَأَنْ
يَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ وَإِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَأَحْضَرَ
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمَاعَةً مِنَ الْأَئِمَّةِ؛ وَهُمْ أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ، وَقُتَيْبَةُ، وَأَبُو حَسَّانَ الزِّيَادِيُّ، وَبِشْرُ بْنُ
الْوَلِيدِ الْكِنْدِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي مُقَاتِلٍ، وَسَعْدَوَيْهِ
الْوَاسِطِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ،
وَابْنُ الْهَرْشِ، وَابْنُ عُلَيَّةَ الْأَكْبَرُ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ
الْحَمِيدِ الْعُمَرِيُّ، وَشَيْخٌ آخَرُ مِنْ سُلَالَةِ عُمَرَ
كَانَ قَاضِيًا عَلَى الرَّقَّةِ وَأَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، وَأَبُو مَعْمَرٍ الْقَطِيعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ الْجُنْدَيْسَابُورِيُّ الْمَضْرُوبُ، وَابْنُ الْفَرُّخَانِ، وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَابْنُ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ، وَأَبُو الْعَوَّامِ الْبَزَّازُ، وَأَبُو شُجَاعٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ الْمَأْمُونِ فَلَمَّا فَهِمُوهُ قَالَ لِبِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ ؟ فَقَالَ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ. قَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ، وَإِنَّمَا أَسْأَلُكَ أَهُوَ مَخْلُوقٌ ؟ قَالَ: لَيْسَ بِخَالِقٍ. قَالَ: وَلَا عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ. فَقَالَ: مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا. وَصَمَّمَ عَلَى ذَلِكَ. فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَحَدًا فَرْدًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ وَلَا بَعْدَهُ شَيْءٌ وَلَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي وَلَا وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ لِلْكَاتِبِ: اكْتُبْ بِمَا قَالَ. فَكَتَبَ، ثُمَّ امْتَحَنَهُمْ رَجُلًا رَجُلًا، فَأَكْثَرُهُمُ امْتَنَعَ مِنَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَكَانَ إِذَا امْتَنَعَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَمْتَحِنُهُ بِمَا فِي الرُّقْعَةِ الَّتِي وَافَقَ عَلَيْهَا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيُّ، مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي وَلَا وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَيَقُولُ: نَعَمْ. كَمَا قَالَ بِشْرٌ.
وَلَمَّا انْتَهَتِ النَّوْبَةُ إِلَى امْتِحَانِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ،
فَقَالَ لَهُ: أَتَقُولُ إِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ ؟ فَقَالَ: الْقُرْآنُ
كَلَامُ اللَّهِ، لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا. فَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي هَذِهِ
الرُّقْعَةِ ؟ فَقَالَ: أَقُولُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ [ الشُّورَى: 11 ] فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّهُ
يَقُولُ سَمِيعٌ بِأُذُنٍ بَصِيرٌ بِعَيْنٍ. فَقَالَ لَهُ إِسْحَاقُ: مَا أَرَدْتَ
بِقَوْلِكَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ مِنْهَا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ
مِنْهَا، وَهُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَلَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ. فَكَتَبَ
جَوَابَاتِ الْقَوْمِ رَجُلًا رَجُلًا، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى الْمَأْمُونِ.
فَصْلٌ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ نَائِبَ بَغْدَادَ
لَمَّا امْتَحَنَ الْجَمَاعَةَ فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَنَفَى
التَّشْبِيهَ، فَأَجَابُوا كُلُّهُمْ إِلَى نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ، وَأَمَّا
الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ وَقَالُوا كُلُّهُمْ:
الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَلَا أَزِيدُ عَلَى
هَذَا حَرْفًا أَبَدًا وَقَرَأَ فِي نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ قَوْلَهُ تَعَالَى
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [ الشُّورَى: 11 ]
فَقَالُوا: مَا أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ مِنْهَا
مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْهَا، وَكَانَ مِنَ الْحَاضِرِينَ مَنْ أَجَابَ إِلَى
الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ مُصَانَعَةً مُكْرَهًا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا
يَعْزِلُونَ مَنْ لَا يُجِيبُ عَنْ وَظَائِفِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ رِزْقٌ عَلَى
بَيْتِ الْمَالِ قُطِعَ، وَإِنْ كَانَ مُفْتِيًا مُنِعَ مِنَ الْإِفْتَاءِ، وَإِنْ
كَانَ شَيْخَ حَدِيثٍ رُدِعَ عَنِ الْإِسْمَاعِ وَالْأَدَاءِ، وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ
صَمَّاءُ وَمِحْنَةٌ شَنْعَاءُ وَدَاهِيَةٌ دَهْيَاءُ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ
إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
فَصْلٌ
وَأَمَرَ النَّائِبُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكَاتِبَ، فَكَتَبَ عَنْ كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَوَابَهُ بِعَيْنِهِ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى الْمَأْمُونِ فَجَاءَ
الْجَوَابُ بِمَدْحِ النَّائِبِ عَلَى مَا فَعَلَ، وَالرَّدِّ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ،
فَرَدَّ مَا قَالَ فِي كِتَابٍ أَرْسَلَهُ، وَأَمَرَ نَائِبَهُ أَنْ
يَمْتَحِنَهُمْ أَيْضًا، فَمَنْ أَجَابَ مِنْهُمْ شُهِرَ أَمْرُهُ فِي النَّاسِ،
وَمَنْ لَمْ يُجِبْ مِنْهُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَابْعَثْ بِهِ
إِلَى عَسْكَرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مُقَيَّدًا، مُحْتَفَظًا بِهِ حَتَّى
يَصِلَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَرَى فِيهِ رَأْيَهُ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ
أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ. فَعَقَدَ الْأَمِيرُ
بِبَغْدَادَ مَجْلِسًا آخَرَ، وَأَحْضَرَ أُولَئِكَ وَفِيهِمْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
الْمَهْدِيِّ وَكَانَ صَاحِبًا لِبِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيِّ، وَقَدْ
نَصَّ الْمَأْمُونُ عَلَى قَتْلِهِمَا إِنْ لَمْ يُجِيبَا عَلَى الْفَوْرِ،
فَلَمَّا امْتَحَنَهُمْ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثَانِيًا بَعْدَ قِرَاءَةِ
كِتَابِ الْخَلِيفَةِ أَجَابُوا كُلُّهُمْ مُكْرَهِينَ مُتَأَوِّلِينَ قَوْلَهُ
تَعَالَى إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [ النَّحْلِ:
106 ] إِلَّا أَرْبَعَةً؛ وَهُمْ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
نُوحٍ، وَالْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ سَجَّادَةُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
الْقَوَارِيرِيُّ. فَقَيَّدَهُمْ وَأَرْصَدَهُمْ لِيَبْعَثَ بِهِمْ إِلَى
الْمَأْمُونِ ثُمَّ اسْتَدْعَى بِهِمْ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَامْتَحَنَهُمْ،
فَأَجَابَ سَجَّادَةُ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ
وَأَطْلَقَهُ، ثُمَّ امْتَحَنَهُمْ فِي
الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَأَجَابَ الْقَوَارِيرِيُّ إِلَى ذَلِكَ، فَأَطْلَقَ
قَيْدَهُ أَيْضًا وَأَطْلَقَهُ، وَأَصَرَّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمُحَمَّدُ
بْنُ نُوحٍ الْجُنْدَيْسَابُورِيُّ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ ذَلِكَ فَأَكَّدَ
قُيُودَهُمَا وَجَمَعَهُمَا فِي الْحَدِيدِ، وَبَعَثَ بِهِمَا إِلَى الْخَلِيفَةِ
وَهُوَ بِطَرَسُوسَ، وَكَتَبَ مَعَهُمَا كِتَابًا بِإِرْسَالِهِمَا إِلَيْهِ،
فَسَارَا مُقَيَّدَيْنِ فِي مَحَارَةٍ عَلَى جَمَلٍ مُتَعَادِلِينَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا، وَجَعَلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا
يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَأْمُونِ وَأَنْ لَا يَرَيَاهُ وَلَا
يَرَاهُمَا.
وَجَاءَ كِتَابُ الْمَأْمُونِ إِلَى نَائِبِهِ؛ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ
الْقَوْمَ إِنَّمَا أَجَابُوا مُكْرَهِينَ، مُتَأَوِّلِينَ قَوْلَهُ تَعَالَى
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَقَدْ أَخْطَئُوا فِي
ذَلِكَ خَطَأً كَبِيرًا فَأَرْسِلْهُمْ كُلَّهُمْ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
فَاسْتَدْعَاهُمْ إِسْحَاقُ وَأَلْزَمَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى طَرَسُوسَ
فَسَارُوا إِلَيْهَا، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ بَلَغَهُمْ مَوْتُ
الْمَأْمُونِ فَرُدُّوا إِلَى الرَّقَّةِ ثُمَّ أُذِنَ لَهُمْ فِي الرُّجُوعِ
إِلَى بَغْدَادَ. وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَابْنُ نُوحٍ قَدْ سَبَقَا
النَّاسَ، وَلَكِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا بِهِ حَتَّى مَاتَ، وَاسْتَجَابَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ دُعَاءَ عَبْدِهِ وَوَلِيِّهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ،
رَحِمَهُ اللَّهُ، فَلَمْ يَجْتَمِعُوا بِالْمَأْمُونِ، وَرُدُّوا إِلَى بَغْدَادَ
وَسَيَأْتِي تَمَامُ مَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ الْفَظِيعِ فِي أَوَّلِ وِلَايَةِ
الْمُعْتَصِمِ بْنِ الرَّشِيدِ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ فِي سَنَةِ إِحْدَى
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ الْمَأْمُونِ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ الْمَأْمُونُ بْنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْمَهْدِيِّ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ
الْعَبَّاسِيُّ، أَبُو جَعْفَرٍ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ
اسْمُهَا مَرَاجِلُ الْبَاذَغِيسِيَّةُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ لَيْلَةَ تُوُفِّيَ عَمُّهُ الْهَادِي،
وَوَلِيَ أَبُوهُ هَارُونُ الرَّشِيدُ وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ كَمَا
تَقَدَّمَ
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرٍ: رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ، وَهُشَيْمِ بْنِ بِشْرٍ،
وَأَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ، وَيُوسُفَ بْنِ عَطِيَّةَ، وَعَبَّادِ بْنِ
الْعَوَّامِ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، وَحَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْأَعْوَرِ.
وَرَوَى عَنْهُ أَبُو حُذَيْفَةَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ وَهُوَ أَسَنُّ مِنْهُ
وَيَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ الْقَاضِي، وَابْنُهُ الْفَضْلُ بْنُ الْمَأْمُونِ،
وَمَعْمَرُ بْنُ شَبِيبٍ، وَأَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي
عُثْمَانَ الطَّيَالِسِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ الْحَارِثِ الشِّيعِيُّ،
وَالْيَزِيدِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ مَسْعَدَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرِ بْنِ
الْحُسَيْنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ السُّلَمِيُّ، وَدِعْبِلُ بْنُ عَلِيٍّ
الْخُزَاعِيُّ.
قَالَ: وَقَدِمَ دِمَشْقَ دُفَعَاتٍ، وَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً.
ثُمَّ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ،
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَوْصِلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ
الْمَأْمُونَ فِي الشَّمَّاسِيَّةِ، وَقَدْ أَجْرَى الْحَلْبَةَ، فَجَعَلَ
يَنْظُرُ إِلَى كَثْرَةِ النَّاسِ، فَقَالَ لِيَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ: أَمَا تَرَى
كَثْرَةَ النَّاسِ ؟ ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ
ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ فَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ
لِعِيَالِهِ
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الْمَيَانَجِيِّ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ
الْمَالِكِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ الْقَاضِي، عَنِ الْمَأْمُونِ عَنْ
هُشَيْمٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ.
وَمِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ الطَّيَالِسِيِّ أَنَّهُ صَلَّى
الْعَصْرَ يَوْمَ عَرَفَةَ خَلْفَ الْمَأْمُونِ بِالرُّصَافَةِ، فَلَمَّا سَلَّمَ
كَبَّرَ النَّاسُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: لَا يَا غَوْغَاءُ، لَا يَا غَوْغَاءُ، عَدَا
سُنَّةِ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا كَانَ
الْغَدُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَكَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ: أَنْبَأَ هُشَيْمُ بْنُ
بَشِيرٍ، ثنا ابْنُ شُبْرُمَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ
عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ
لِأَهْلِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَ فَقَدْ أَصَابَ السُّنَّةَ
اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ
بُكْرَةً وَأَصِيلًا، اللَّهُمَّ أَصْلِحْنِي، وَاسْتَصْلِحْنِي، وَأَصْلِحْ عَلَى
يَدَيَّ.
تَوَلَّى الْمَأْمُونُ الْخِلَافَةَ فِي الْمُحَرَّمِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْهُ
بَعْدَ مَقْتَلِ أَخِيهِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَاسْتَمَرَّ فِي
الْخِلَافَةِ عِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ. وَقَدْ كَانَ فِيهِ تَشَيُّعٌ
وَاعْتِزَالٌ، وَجَهْلٌ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ بَايَعَ فِي سَنَةِ
إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ لَعَلِيٍّ الرِّضَا
بْنِ مُوسَى الْكَاظِمِ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ بْنِ
عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ بْنِ الْحُسَيْنِ الشَّهِيدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، وَخَلَعَ السَّوَادَ وَلَبِسَ الْخُضْرَةَ كَمَا قَدَّمْنَا،
فَأَعْظَمَ ذَلِكَ الْعَبَّاسِيُّونَ مِنَ الْبَغَادِدَةِ، وَغَيْرِهِمْ،
وَخَلَعُوا الْمَأْمُونُ وَوَلَّوْا عَلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ
كَمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ ظَفِرَ الْمَأْمُونُ بِهِمْ، وَاسْتَقَامَ أَمْرُهُ فِي
الْخِلَافَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ عَلِيٍّ الرِّضَا بِطُوسَ، وَعَفَا عَنْ
عَمِّهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي
مَوْضِعِهِ.
أَمَّا كَوْنُهُ عَلَى مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ؛ فَإِنَّهُ اجْتَمَعَ بِجَمَاعَةٍ؛
مِنْهُمْ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيُّ، فَأَخَذَ عَنْهُمْ هَذَا الْمَذْهَبَ
الْبَاطِلَ، وَكَانَ يُحِبُّ الْعِلْمَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَصِيرَةٌ نَافِذَةٌ
فِيهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الدَّاخِلُ، وَرَاجَ عِنْدَهُ
الْبَاطِلُ، وَدَعَا إِلَيْهِ وَحَمَلَ النَّاسَ قَهْرًا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ
فِي آخِرِ أَيَّامِهِ وَانْقِضَاءِ دَوْلَتِهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: كَانَ الْمَأْمُونُ أَبْيَضَ
رَبْعَةً حَسَنَ الْوَجْهِ، قَدْ وَخَطَهُ الشَّيْبُ تَعْلُوهُ صُفْرَةٌ، أَعْيَنَ
طَوِيلَ اللِّحْيَةِ رَقِيقَهَا، ضَيِّقَ الْجَبِينِ، عَلَى خَدِّهِ خَالٌ.
أُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ يُقَالُ لَهَا: مَرَاجِلُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبَّادٍ، قَالَ: لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ غَيْرُ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَالْمَأْمُونِ.
وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا. قَالُوا: كَانَ يَتْلُو فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثَلَاثًا
وَثَلَاثِينَ خَتْمَةً.
وَجَلَسَ يَوْمًا لِإِمْلَاءِ الْحَدِيثِ، فَاجْتَمَعَ حَوْلَهُ الْقَاضِي يَحْيَى
بْنُ أَكْثَمَ وَجَمَاعَةٌ، فَأَمْلَى عَلَيْهِمْ مِنْ حِفْظِهِ ثَلَاثِينَ
حَدِيثًا، وَكَانَتْ لَهُ بَصِيرَةٌ بِعُلُومٍ مُتَعَدِّدَةٍ؛ مِنْ فِقْهٍ،
وَطِبٍّ، وَشِعْرٍ، وَفَرَائِضَ، وَكَلَامٍ، وَنَحْوٍ، وَعَرَبِيَّةٍ،
وَغَرِيبٍ، وَعِلْمِ النُّجُومِ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ الزِّيجُ
الْمَأْمُونِيُّ، وَقَدِ اخْتَبَرَ مِقْدَارَ الدَّرَجَةِ فِي وَطْأَةِ سِنْجَارَ
فَاخْتَلَفَ عَمَلُهُ وَعَمَلُ الْأَوَائِلِ مِنَ الْقُدَمَاءِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الْمَأْمُونَ جَلَسَ يَوْمًا لِلنَّاسِ، وَفِي
مَجْلِسِهِ الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ تَتَظَلَّمُ
إِلَيْهِ، فَذَكَرَتْ أَنَّ أَخَاهَا تُوُفِّيَ، وَتَرَكَ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ،
فَلَمْ يَحْصُلْ لَهَا سِوَى دِينَارٍ وَاحِدٍ. فَقَالَ لَهَا عَلَى الْبَدِيهَةِ:
قَدْ وَصَلَ إِلَيْكِ حَقُّكِ، كَأَنَّ أَخَاكِ قَدْ تَرَكَ بِنْتَيْنِ، وَأُمَّا،
وَزَوْجَةً، وَاثْنَيْ عَشَرَ أَخًا، وَأُخْتًا وَهِيَ أَنْتِ. قَالَتْ: نَعَمْ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ
أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ مِائَةُ دِينَارٍ، وَلِلزَّوْجَةِ
الثُّمُنُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا، يَبْقَى خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ
دِينَارًا؛ لِكُلِّ أَخٍ دِينَارَانِ، وَلَكِ دِينَارٌ. فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ
فِطْنَتِهِ وَسُرْعَةِ جَوَابِهِ. وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَدَخَلَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ عَلَى الْمَأْمُونِ وَقَدْ قَالَ فِيهِ بَيْتًا مِنَ
الشِّعْرِ يَرَاهُ
عَظِيمًا، فَلَمَّا أَنْشَدَهُ إِيَّاهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ هَذَا الْبَيْتُ
مَوْقِعًا طَائِلًا، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَقِيَهُ شَاعِرٌ آخَرُ، فَقَالَ:
أَلَا أُعَجَّبُكَ ؟ أَنْشَدْتُ الْمَأْمُونَ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفَعْ
بِهِ رَأْسًا. فَقَالَ: وَمَا هُوَ ؟ قَالَ: قُلْتُ فِيهِ:
أَضْحَى إِمَامُ الْهُدَى الْمَأْمُونُ مُشْتَغِلًا بِالدِّينِ وَالنَّاسُ
بِالدُّنْيَا مَشَاغِيلُ
فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الشَّاعِرُ الْآخَرُ: مَا زِدْتَ عَلَى أَنْ جَعَلْتَهُ
عَجُوزًا فِي مِحْرَابِهَا، فَهَلَّا قُلْتَ كَمَا قَالَ جَرِيرٌ فِي عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ الْوَلِيدِ:
فَلَا هُوَ فِي الدُّنْيَا مُضَيِّعٌ نَصِيبَهُ وَلَا عَرَضُ الدُّنْيَا عَنِ
الدِّينِ شَاغِلُهُ
وَقَالَ الْمَأْمُونُ يَوْمًا لِبَعْضِ جُلَسَائِهِ: بَيْتَانِ لِاثْنَيْنِ مَا
لَحِقَهُمَا أَحَدٌ؛ قَوْلُ أَبِي نُوَاسٍ:
إِذَا اخْتَبَرَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ لَهُ عَنْ عَدُوٍّ فِي لِبَاسِ
صَدِيقِ
وَقَوْلُ شُرَيْحٍ
تَهُونُ عَلَى الدُّنْيَا الْمَلَامَةُ إِنَّهُ حَرِيصٌ عَلَى اسْتِصْلَاحِهَا
مَنْ يَلُومُهَا
قَالَ الْمَأْمُونُ: وَقَدْ أَلْجَأَنِي الزِّحَامُ يَوْمًا وَأَنَا فِي
الْمَوْكِبِ حَتَّى خَالَطْتُ
السُّوقَةَ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا فِي دُكَّانٍ عَلَيْهِ أَثْوَابٌ خَلِقَةٌ،
فَنَظَرَ إِلَيَّ نَظَرَ مَنْ يَرْحَمُنِي أَوْ يَتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِي،
فَقَالَ:
أَرَى كُلَّ مَغْرُورٍ تُمَنِّيهِ نَفْسُهُ إِذَا مَا مَضَى عَامٌ سَلَامَةَ
قَابِلِ
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ سَمِعْتُ الْمَأْمُونَ يَوْمَ عِيدٍ خَطَبَ
النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: عِبَادَ اللَّهِ، عَظُمَ أَمْرُ
الدَّارَيْنِ، وَارْتَفَعَ جَزَاءُ الْعَامِلِينَ، وَطَالَتْ مُدَّةُ
الْفَرِيقَيْنِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَلْجِدُّ لَا اللَّعِبُ، وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ
لَا الْكَذِبُ، وَمَا هُوَ إِلَّا الْمَوْتُ، وَالْبَعْثُ وَالْحِسَابُ،
وَالْفَصْلُ وَالصِّرَاطُ، ثُمَّ الْعِقَابُ وَالثَّوَابُ، فَمَنْ نَجَا
يَوْمَئِذٍ فَقَدْ فَازَ، وَمَنْ هَوَى يَوْمَئِذٍ فَقَدْ خَابَ، الْخَيْرُ
كُلُّهُ فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ فِي النَّارِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ قَالَ: دَخَلْتُ
عَلَى الْمَأْمُونِ فَقَالَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا نَضْرُ ؟ قُلْتُ: بِخَيْرٍ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: مَا الْإِرْجَاءُ ؟ فَقُلْتُ: دِينٌ يُوَافِقُ
الْمُلُوكَ، يُصِيبُونَ بِهِ مِنْ دُنْيَاهُمْ، وَيَنْقُصُونَ مِنْ دِينِهِمْ.
قَالَ: صَدَقْتَ. ثُمَّ قَالَ: يَا نَضْرُ، أَتَدْرِي مَا قُلْتُ فِي صَبِيحَةِ
هَذَا الْيَوْمِ ؟ قُلْتُ:
أَنَّى لِي بِعِلْمِ الْغَيْبِ ؟ فَقَالَ: قُلْتُ:
أَصْبَحَ دِينِي الَّذِي أَدِينُ بِهِ وَلَسْتُ مِنْهُ الْغَدَاةَ مُعْتَذِرَا
حُبُّ عَلِيٍّ بَعْدَ النَّبِيِّ وَلَا أَشْتِمُ صِدِّيقًا وَلَا عُمَرَا
ثُمَّ ابْنُ عَفَّانَ فِي الْجِنَانِ مَعَ الْ أَبْرَارِ ذَلِكَ الْقَتِيلُ
مُصْطَبِرَا
لَا وَلَا أَشْتِمُ الزُّبَيْرَ وَلَا طَلْحَةَ إِنْ قَالَ قَائِلٌ غَدَرَا
وَعَائِشَ الْأُمُّ لَسْتُ أَشْتِمُهَا مَنْ يَفْتَرِيهَا فَنَحْنُ مِنْهُ بَرَا
وَهَذَا الْمَذْهَبُ ثَانِي مَرَاتِبِ التَّشَيُّعِ، وَفِيهِ تَفْضِيلُ عَلِيٍّ
عَلَى عُثْمَانَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ: مَنْ فَضَّلَ
عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ،
يَعْنِي فِي اجْتِهَادِهِمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى تَقْدِيمِ
عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ بَعْدَ مَقْتَلِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَبَعْدَ ذَلِكَ سِتَّ عَشْرَةَ مَرْتَبَةً فِي التَّشَيُّعِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ
صَاحِبُ كِتَابِ " " الْبَلَاغِ الْأَكْبَرِ وَالنَّامُوسِ الْأَعْظَمِ
" " تَنْتَهِي إِلَى أَكْفَرِ الْكُفْرِ.
وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
لَا أُوتَى بِأَحَدٍ فَضَّلَنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إِلَّا
جَلَدْتُهُ جَلْدَ الْمُفْتَرِي. وَتَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: خَيْرُ
النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ،
ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عَثْمَانُ.
فَقَدْ خَالَفَ الْمَأْمُونُ بْنُ الرَّشِيدِ فِي مَذْهَبِهِ الصَّحَابَةَ
كُلَّهُمْ، حَتَّى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ
أَضَافَ الْمَأْمُونُ إِلَى بِدْعَتِهِ هَذِهِ الَّتِي أَزْرَى فِيهَا عَلَى
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ، الْبِدْعَةَ
الْأُخْرَى، وَالطَّامَّةَ الْعُظْمَى، وَهِيَ الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ مَعَ
مَا فِيهِ مِنَ الِانْهِمَاكِ عَلَى تَعَاطِي الْمُسْكِرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الْأَفْعَالِ الَّتِي تَعَدَّدَ فِيهَا الْمُنْكَرُ، وَلَكِنْ كَانَ فِيهِ
شَهَامَةٌ عَظِيمَةٌ، وَقُوَّةٌ جَسِيمَةٌ وَلَهُ هِمَّةٌ فِي الْقِتَالِ،
وَحِصَارِ الْأَعْدَاءِ، وَمُصَابَرَةِ الرُّومِ، وَحَصْرِهِمْ فِي بُلْدَانِهِمْ،
وَقَتْلِ فُرْسَانِهِمْ، وَأَسْرِ ذَرَارِيهِمْ وَوِلْدَانِهِمْ. وَكَانَ يَقُولُ:
كَانَ مُعَاوِيَةُ بِعَمْرِهِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بِحَجَّاجِهِ، وَأَنَا
بِنَفْسِي.
وَكَانَ يَقْصِدُ الْعَدْلَ، وَيَتَوَلَّى بِنَفْسِهِ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ
وَالْفَصْلَ؛ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ فَتَظَلَّمَتْ عَلَى ابْنِهِ
الْعَبَّاسِ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِهِ، فَأَمَرَ الْحَاجِبَ
فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ فَأَجْلَسَهُ مَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَادَّعَتْ
عَلَيْهِ أَنَّهُ أَخَذَ ضَيْعَةً لَهَا وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، فَتَنَاظَرَا
سَاعَةً فَجَعَلَ صَوْتُهُا يَعْلُو عَلَى صَوْتِهِ فَزَجَرَهَا بَعْضُ
الْحَاضِرِينَ، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: اسْكُتْ فَإِنَّ الْحَقَّ أَنْطَقَهَا،
وَالْبَاطِلَ أَسْكَتَهُ. ثُمَّ حَكَمَ لَهَا بِحَقِّهَا وَأَغْرَمَ لَهَا
وَلَدَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَكَتَبَ إِلَى بَعْضِ الْأُمَرَاءِ: لَيْسَ
مِنَ الْمُرُوءَةِ أَنْ يَكُونَ آنِيَتُكَ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَغَرِيمُكَ
عَارٍ، وَجَارُكَ طَاوٍ.
وَوَقَفَ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: وَاللَّهِ
لَأَقْتُلَنَّكَ. فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، تَأَنَّ عَلَيَّ
فَإِنَّ الرِّفْقَ نِصْفُ الْعَفْوِ. فَقَالَ: وَيْلَكَ وَيْحَكَ! قَدْ حَلَفْتُ
لَأَقْتُلَنَّكَ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْ تَلْقَ اللَّهَ
حَانِثًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَلْقَاهُ قَاتِلًا. فَعَفَا عَنْهُ. وَكَانَ يَقُولُ:
لَيْتَ أَهْلَ الْجَرَائِمِ يَعْرِفُونَ أَنَّ مَذْهَبِي الْعَفْوُ، حَتَّى يَذْهَبَ
الْخَوْفُ عَنْهُمْ وَيَدْخُلَ السُّرُورُ إِلَى قُلُوبِهِمْ، وَرَكِبَ يَوْمًا
فِي حَرَّاقَةٍ فَسَمِعَ مَلَّاحًا يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: تَرَوْنَ هَذَا
الْمَأْمُونُ يَنْبُلُ فِي عَيْنِي، وَقَدْ قَتَلَ أَخَاهُ الْأَمِينَ ؟ يَقُولُ
ذَلِكَ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِمَكَانِ الْمَأْمُونِ فَجَعَلَ الْمَأْمُونُ
يَتَبَسَّمُ وَيَقُولُ: كَيْفَ تَرَوْنَ الْحِيلَةَ حَتَّى أَنْبُلَ فِي عَيْنِ
هَذَا الرَّجُلِ الْجَلِيلِ ؟
وَحَضَرَ عِنْدَ الْمَأْمُونِ هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ لِيَتَغَدَّى عِنْدَهُ،
فَلَمَّا رُفِعَتِ الْمَائِدَةُ جَعَلَ هُدْبَةُ يَلْتَقِطُ مَا تَنَاثَرَ
مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: أَمَا شَبِعْتَ يَا شَيْخُ ؟ فَقَالَ بَلَى،
وَلَكِنْ حَدَّثَنِي حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ أَكَلَ مَا تَحْتَ
مَائِدَتِهِ أَمِنَ مِنَ الْفَقْرِ قَالَ: فَأَمَرَ لَهُ الْمَأْمُونُ بِأَلْفِ
دِينَارٍ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الْمَأْمُونَ قَالَ يَوْمًا لِمُحَمَّدِ بْنِ
عَبَّادِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُهَلَّبِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، قَدْ
أَعْطَيْتُكَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَأَلْفَ أَلْفٍ، وَأَلْفَ أَلْفٍ، وَأَنَّ عَلَيْكَ
دَيْنًا. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مَنْعَ الْمَوْجُودِ سُوءُ
ظَنٍّ بِالْمَعْبُودِ. فَقَالَ: أَحْسَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَعْطُوهُ
أَلْفَ أَلْفٍ وَأَلْفَ أَلْفٍ.
وَلَمَّا أَرَادَ الْمَأْمُونُ أَنْ يَدْخُلَ بِبُورَانَ بِنْتِ الْحَسَنِ بْنِ
سَهْلٍ، جَعَلَ النَّاسُ يُهْدُونَ لِأَبِيهَا الْأَشْيَاءَ النَّفِيسَةَ، وَكَانَ
مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَعْتَزُّ بِهِ رَجُلٌ مِنَ الْأُدَبَاءِ، فَأَهْدَى إِلَيْهِ
مِزْوَدًا فِيهِ مِلْحٌ طَيِّبٌ، وَمِزْوَدًا فِيهِ أُشْنَانٌ جَيِّدٌ، وَكَتَبَ
إِلَيْهِ: إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ تُطْوَى صَحِيفَةُ أَهْلِ الْبِرِّ وَلَا أُذْكَرُ
فِيهَا فَوَجَّهْتُ إِلَيْكَ بِالْمُبْتَدَأِ بِهِ، لِيُمْنِهِ، وَبَرَكَتِهِ،
وَبِالْمَخْتُومِ بِهِ، لِطِيبِهِ وَنَظَافَتِهِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ:
بِضَاعَتِي تَقْصُرُ عَنْ هِمَّتِي وَهِمَّتِي تَقْصُرُ عَنْ مَالِي
فَالْمِلْحُ وَالْأُشْنَانُ يَا سَيِّدِي أَحْسَنُ مَا يُهْدِيهِ أَمْثَالِي
قَالَ: فَدَخَلَ بِهِمَا الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ عَلَى الْمَأْمُونِ
فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِالْمُزْوَدَيْنِ فَفُرِّغَا، وَمُلِئَا
دَنَانِيرَ، وَبَعَثَ بِهِمَا إِلَى ذَلِكَ الْأَدِيبِ.
وَوُلِدَ لِلْمَأْمُونِ ابْنُهُ جَعْفَرٌ فَدَخَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ
يُهَنِّئُونَهُ بِصُنُوفِ التَّهَانِي، وَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ، فَقَالَ
لَهُ يُهَنِّئُهُ بِوَلَدِهِ:
مَدَّ لَكَ اللَّهُ الْحَيَاةَ مَدًّا حَتَّى تَرَى ابْنَكَ هَذَا جَدَّا
ثُمَّ يُفَدِّي مِثْلَ مَا تَفَدَّى كَأَنَّهُ أَنْتَ إِذَا تَبَدَّى
أَشْبَهُ مِنْكَ قَامَةً وَقَدًّا مُؤْزَرًا بِمَجْدِهِ مُرَدَّا
قَالَ: فَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَقَدِمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ بِدِمَشْقَ مَالٌ جَزِيلٌ بَعْدَ مَا كَانَ قَدْ
أَفْلَسَ وَشَكَى إِلَى أَخِيهِ الْمُعْتَصِمِ ذَلِكَ، فَوَرَدَتْ عَلَيْهِ
خَزَائِنُ مِنْ خُرَاسَانَ وَبِهَا ثَلَاثُونَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَخَرَجَ
يَسْتَعْرِضُهَا وَقَدْ زُيِّنَتِ الْجِمَالُ وَالْأَحْمَالُ وَمَعَهُ يَحْيَى
بْنُ أَكْثَمَ الْقَاضِي، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْبَلَدَ، قَالَ: لَيْسَ مِنَ
الْمُرُوءَةِ أَنْ نَحُوزَ نَحْنُ هَذَا كُلَّهُ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ. ثُمَّ
فَرَّقَ مِنْهُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَرِجْلُهُ فِي
الرِّكَابِ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ فَرَسِهِ.
وَمِنْ لَطِيفِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
لِسَانِي كَتُومٌ لِأَسْرَارِكُمْ وَدَمْعِي نَمُومٌ لِسِرِّي مُذِيعْ
فَلَوْلَا دُمُوعِي كَتَمْتُ الْهَوَى وَلَوْلَا الْهَوَى لَمْ تَكُنْ لِي
دُمُوعْ
وَقَدْ بَعَثَ خَادِمًا لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي لِيَأْتِيَهُ بِجَارِيَةٍ،
فَأَطَالَ الْخَادِمُ عِنْدَهَا الْمُكْثَ، وَتَمَنَّعَتِ الْجَارِيَةُ مِنَ
الْمَجِيءِ إِلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ إِلَيْهَا الْمَأْمُونُ بِنَفْسِهِ،
فَأَنْشَأَ الْمَأْمُونُ يَقُولُ:
بَعَثْتُكَ مُشْتَاقًا فَفُزْتُ بِنَظْرَةٍ وَأَغْفَلْتَنِي حَتَّى أَسَأْتُ بِكَ
الظَّنَّا
وَنَاجَيْتُ مَنْ أَهْوَى وَكُنْتُ مُقَرَّبًا فَيَا لَيْتَ شِعْرِي عَنْ
دُنُوِّكَ مَا أَغْنَى
وَرَدَّدْتَ طَرْفًا فِي مَحَاسِنِ وَجْهِهَا وَمَتَّعْتَ بِاسْتِسْمَاعِ
نَغَمَتِهَا أُذُنَا
أَرَى أَثَرًا فِي صَحْنِ خَدِّكَ لَمْ يَكُنْ لَقَدْ سَرَقَتْ عَيْنَاكَ مِنْ
حُسْنِهَا حُسْنَا
وَلَمَّا ابْتَدَعَ الْمَأْمُونُ مَا ابْتَدَعَ مِنَ التَّشَيُّعِ
وَالِاعْتِزَالِ، فَرِحَ بِذَلِكَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ وَكَانَ بِشْرٌ هَذَا
شَيْخَ الْمَأْمُونِ فَأَنْشَأَ الْمَرِيسِيُّ يَقُولُ:
قَدْ قَالَ مَأْمُونُنُا وَسَيِّدُنَا قَوْلًا لَهُ فِي الْكِتَابِ تَصْدِيقُ
إِنَّ عَلِيًّا أَعْنِي أَبَا حَسَنٍ أَفْضَلُ مَنْ أَرْقَلَتْ بِهِ النُّوقُ
بَعْدَ نَبِيِّ الْهُدَى وَإِنَّ لَنَا أَعْمَالَنَا وَالْقُرْآنُ مَخْلُوقُ
فَأَجَابَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَقَالَ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا قَوْلٌ وَلَا عَمَلُ لِمَنْ يَقُولُ كَلَامُ اللَّهِ
مَخْلُوقُ
مَا قَالَ ذَاكَ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا النَّبِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ
صِدِّيقُ
وَلَمْ يَقُلْ ذَاكَ إِلَّا كُلُّ مُبْتَدِعٍ عَلَى الْإِلَهِ وَعِنْدَ اللَّهِ
زِنْدِيقُ
عَمْدًا أَرَادَ بِهِ إِمْحَاقَ دِينِكُمْ لِأَنَّ دِينَهُمْ وَاللَّهِ مَمْحُوقُ
أَصَحُّ يَا قَوْمُ عَقْلًا مِنْ خَلِيفَتِكُمْ يُمْسِي وَيُصْبُحُ فِي
الْأَغْلَالِ مَوْثُوقُ
وَقَدْ سَأَلَ بِشْرٌ مِنَ الْمَأْمُونِ أَنْ يَطْلُبَ قَائِلَ هَذَا
فَيُؤَدِّبَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: وَيْحَكَ! لَوْ كَانَ فَقِيهًا
لَأَدَّبْتُهُ وَلَكِنَّهُ شَاعِرٌ فَلَسْتُ أَعْرِضُ لَهُ.
وَلَمَّا تَجَهَّزَ الْمَأْمُونُ لِلْغَزْوِ فِي آخِرِ سَفْرَةٍ سَافَرَهَا إِلَى
طَرَسُوسَ اسْتَدْعَى بِجَارِيَةٍ كَانَ يُحِبُّهَا، وَقَدِ اشْتَرَاهَا فِي آخِرِ
عُمُرِهِ، فَضَمَّهَا إِلَيْهِ، فَبَكَتِ الْجَارِيَةُ وَقَالَتْ: قَتَلْتَنِي يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِسَفَرِكَ هَذَا، ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ:
سَأَدْعُو دَعْوَةَ الْمُضْطَرِّ رَبًّا يُثِيبُ عَلَى الدُّعَاءِ وَيَسْتَجِيبُ
لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكْفِيَكَ حَرْبًا وَيَجْمَعَنَا كَمَا تَهْوَى
الْقُلُوبُ
فَضَمَّهَا إِلَيْهِ وَأَنْشَأَ يَقُولُ مُتَمَثِّلًا:
فَيَا حُسْنَهَا إِذْ يَغْسِلُ الدَّمْعُ كُحْلَهَا وَإِذْ هِيَ تَذْرِي الدَّمْعَ
مِنْهَا الْأَنَامِلُ
صَبِيحَةَ قَالَتْ فِي الْعِتَابِ قَتَلْتَنِي وَقَتْلِي بِمَا قَالَتْ هُنَاكَ
تُحَاوِلُ
ثُمَّ أَمَرَ مَسْرُورًا الْخَادِمَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا وَالِاحْتِفَاظِ
عَلَيْهَا حَتَّى يَرْجِعَ، ثُمَّ قَالَ: نَحْنُ كَمَا قَالَ الْأَخْطَلُ:
قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ دُونَ النِّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ
بِأَطْهَارِ
ثُمَّ وَدَّعَهَا وَسَارَ فَمَرِضَتِ الْجَارِيَةُ فِي غَيْبَتِهِ هَذِهِ، وَمَاتَ
الْمَأْمُونُ أَيْضًا، فَلَمَّا جَاءَ نَعْيُهُ إِلَيْهَا تَنَفَّسَتِ
الصُّعَدَاءَ وَحَضَرَتْهَا الْوَفَاةُ، وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ وَهِيَ فِي
السِّيَاقِ:
إِنَّ الزَّمَانَ سَقَانَا مِنْ مَرَارَتِهِ بَعْدَ الْحَلَاوَةِ أَنْفَاسًا
فَأَرْوَانَا
أَبْدَى لَنَا تَارَةً مِنْهُ فَأَضْحَكَنَا ثُمَّ انْثَنَى تَارَةً أُخْرَى
فَأَبْكَانَا
إِنَّا إِلَى اللَّهِ فِيمَا لَا يَزَالُ بِنَا مِنَ الْقَضَاءِ وَمِنْ تَلْوِينِ
دُنْيَانَا
دُنْيَا تَرَاهَا تُرِينَا مِنْ تَصَرُّفِهَا مَا لَا يَدُومُ مُصَافَاةً
وَأَحْزَانَا
وَنَحْنُ فِيهَا كَأَنَّا لَا يُزَايِلُنَا لِلْعَيْشِ أَحْيَاؤُنَا يَبْكُونَ
مَوْتَانَا
وَكَانَتْ وَفَاةُ الْمَأْمُونِ بِطَرَسُوسَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ وَقْتَ
الظُّهْرِ وَقِيلَ: بَعْدَ الْعَصْرِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ
رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ
نَحْوٌ مِنْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ
عِشْرِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا وَصَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ الْمُعْتَصِمُ؛ وَهُوَ
وَلِيُّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، وَدُفِنَ بِطَرَسُوسَ فِي دَارِ خَاقَانَ
الْخَادِمِ. وَقِيلَ: كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ. وَقِيلَ: يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ:
إِنَّهُ مَاتَ خَارِجَ طَرَسُوسَ بِأَرْبَعِ مَرَاحِلَ، فَحُمِلَ إِلَيْهَا
فَدُفِنَ بِهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ نُقِلَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَذَنَةَ فِي
رَمَضَانَ فَدُفِنَ بِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْمَخْزُومِيُّ:
مَا رَأَيْتُ النُّجُومَ أَغْنَتْ عَنِ الْمَأْ مُونِ فِي عِزِّ مُلْكِهِ
الْمَأْسُوسِ
خَلَّفُوهُ بِعَرْصَتَيْ طَرَسُوسَ مِثْلَ مَا خَلَّفُوا أَبَاهُ بِطُوسِ
وَقَدْ كَانَ أَوْصَى إِلَى أَخِيهِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُعْتَصِمِ، وَكَتَبَ
وَصِيَّتَهُ بِحَضْرَةِ ابْنِهِ الْعَبَّاسِ، وَجَمَاعَةِ الْقُضَاةِ
وَالْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْكُتَّابِ، وَفِيهَا الْقَوْلُ بِخَلْقِ
الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَتُبْ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى أَدْرَكَهُ أَجَلُهُ وَانْقَضَى
عَمَلُهُ، وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ،
وَأَوْصَى أَنْ يُكَبِّرَ عَلَيْهِ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ خَمْسًا، وَأَوْصَى
أَخَاهُ أَبَا إِسْحَاقَ الْمُعْتَصِمَ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ مَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ أَخُوهُ
الْمَأْمُونُ فِي الْقُرْآنِ، وَأَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَوْصَاهُ
بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَحْمَدَ بْنِ
أَبِي دَاوُدَ الْقَاضِي، وَقَالَ: شَاوِرْهُ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا وَلَا
تُفَارِقْهُ، وَحَذَّرَهُ مِنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ وَنَهَاهُ عَنْهُ وَذَمَّهُ،
وَقَالَ: خَانَنِي وَنَفَّرَ النَّاسَ عَنِّي، فَفَارَقْتُهُ غَيْرَ رَاضٍ عَنْهُ،
ثُمَّ أَوْصَاهُ بِالْعَلَوِيِّينَ خَيْرًا؛ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ،
وَيَتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَأَنْ يُوَاصِلَهُمْ بِصِلَاتِهِمْ فِي كُلِّ
سَنَةٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ لِلْمَأْمُونِ تَرْجَمَةً حَافِلَةً، أَوْرَدَ فِيهَا
أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لَمْ يَذْكُرْهَا الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مَعَ كَثْرَةِ مَا
يُورِدُهُ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.
خِلَافَةُ الْمُعْتَصِمِ بِاللَّهِ أَبِي إِسْحَاقَ
مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ مَاتَ أَخُوهُ الْمَأْمُونُ بِطَرَسُوسَ
يَوْمَ الْخَمِيسِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ
وَمِائَتَيْنِ وَكَانَ إِذْ ذَاكَ مَرِيضًا، وَهُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَى أَخِيهِ
الْمَأْمُونِ وَقَدْ شَغَبَ بَعْضُ الْجُنْدِ فَأَرَادُوا أَنْ يُوَلُّوا
الْعَبَّاسَ بْنَ الْمَأْمُونِ فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ لَهُمْ:
مَا هَذَا الْحُبُّ الْبَارِدُ ؟ أَنَا قَدْ بَايَعْتُ عَمِّي الْمُعْتَصِمَ.
فَسَكَنَ النَّاسُ وَخَمَدَتِ الْفِتْنَةُ، وَرَكِبَ الْبُرُدُ بِالْبَيْعَةِ
لِلْمُعْتَصِمِ إِلَى الْآفَاقِ، وَبِالتَّعْزِيَةِ بِالْمَأْمُونِ. فَأَمَرَ
الْمُعْتَصِمُ بِهَدْمِ مَا كَانَ بَنَاهُ الْمَأْمُونُ فِي مَدِينَةِ طَوَانَةَ
وَأَمَرَ بِإِبْطَالِ ذَلِكَ، وَنَقْلِ مَا كَانَ حَوَّلَ إِلَيْهَا مِنَ
السِّلَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَذِنَ لِلْفَعَلَةِ بِالِانْصِرَافِ إِلَى
بُلْدَانِهِمْ وَأَقَالِيمِهِمْ، ثُمَّ رَكِبَ الْمُعْتَصِمُ فِي الْجُنُودِ
قَاصِدًا بَغْدَادَ وَصُحْبَتُهُ الْعَبَّاسُ بْنُ الْمَأْمُونِ فَدَخَلَهَا
يَوْمَ السَّبْتِ مُسْتَهَلَّ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ
وَتَجَمُّلٍ تَامٍّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ هَمَذَانَ
وَأَصْبَهَانَ وَمَاسَبَذَانَ، وَمِهْرَجَانَ فِي دِينِ الْخُرَّمِيَّةِ،
فَتَجَمَّعَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ فَجَهَّزَ إِلَيْهِمِ الْمُعْتَصِمُ جُيُوشًا
كَثِيرَةً، آخِرُ مَنْ جَهَّزَ إِلَيْهِمْ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
مُصْعَبٍ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ، وَعَقَدَ لَهُ عَلَى الْجِبَالِ فَخَرَجَ مِنْ
بَغْدَادَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَقُرِئَ كِتَابُهُ بِالْفَتْحِ يَوْمَ
التَّرْوِيَةِ، وَأَنَّهُ قَهَرَ الْخُرَّمِيَّةَ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا
كَثِيرًا، وَهَرَبَ بَقِيَّتُهُمْ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ. وَعَلَى يَدَيْهِ جَرَتْ فِتْنَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ وَضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ
أَحْمَدَ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ
وَمِائَتَيْنِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَالِحُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ
وَضَحَّى أَهْلُ مَكَّةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَهْلُ بَغْدَادَ ضَحَّوْا يَوْمَ
السَّبْتِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ:
بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ.
وَهُوَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْمَرِيسِيُّ
الْمُتَكَلِّمُ شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَحَدُ مَنْ أَضَلَّ الْمَأْمُونَ
وَقَدْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ يَنْظُرُ أَوَّلًا فِي شَيْءٍ مِنَ الْفِقْهِ،
وَأَخَذَ عَنِ الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْهُ، وَعَنْ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ غَلَبَ
عَلَيْهِ عِلْمُ الْكَلَامِ، وَقَدْ نَهَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ تَعَلُّمِهِ
وَتَعَاطِيهِ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَأَنْ يَلْقَى
اللَّهَ الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا عَدَا الشِّرْكَ بِاللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ
مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِعِلْمِ الْكَلَامِ. وَقَدِ اجْتَمَعَ بِشْرٌ
بِالشَّافِعِيِّ عِنْدَمَا قَدِمَ الشَّافِعِيُّ بَغْدَادَ.
وَقَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: جَرَّدَ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ،
وَحُكِيَ عَنْهُ أَقْوَالٌ شَنِيعَةٌ، وَكَانَ مُرْجِئِيًّا، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ
الْمَرِيسِيَّةُ مِنَ الْمُرْجِئَةِ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ السُّجُودَ
لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْسَ بِكُفْرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَامَةُ الْكُفْرِ،
وَكَانَ يُنَاظِرُ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ، وَكَانَ لَا يُحْسِنُ النَّحْوَ،
وَكَانَ يَلْحَنُ لَحْنًا فَاحِشًا، وَيُقَالُ: إِنَّ أَبَاهُ كَانَ يَهُودِيًّا
صَبَّاغًا بِالْكُوفَةِ. وَكَانَ يَسْكُنُ دَرْبَ الْمَرِيسِ بِبَغْدَادَ، وَالْمَرِيسُ
عِنْدَهُمْ هُوَ الْخُبْزُ الرُّقَاقُ يُمْرَسُ بِالسَّمْنِ وَالتَّمْرِ. قَالَ:
وَمَرِيسُ نَاحِيَةٌ بِبِلَادِ النُّوبَةِ تَهُبُّ عَلَيْهَا فِي الشِّتَاءِ رِيحٌ
بَارِدَةٌ. قُلْتُ: ثُمَّ رَاجَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ عِنْدَ الْمَأْمُونِ
وَحَظِيَ
عِنْدَهُ، وَقُدِّمَ فِي حَضْرَتِهِ، وَنَفَقَ سُوقُهُ الْكَاسِدُ،
وَاسْتُجِيدَ ذِهْنُهُ الْبَارِدُ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذَا الْعَامِ أَوِ الَّذِي قَبْلَهُ
فِي قَوْلٍ - صَلَّى عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ يُقَالُ لَهُ: عُبَيْدٌ
الشُّونِيزِيُّ. فَلَامَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَلَا
تَسْمَعُونَ كَيْفَ دَعَوْتُ لَهُ فِي صَلَاتِي ؟ قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنَّ
عَبْدَكَ هَذَا كَانَ يُنْكِرُ عَذَابَ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ فَأَذِقْهُ مِنْ
عَذَابِ الْقَبْرِ، وَكَانَ يُنْكِرُ شَفَاعَةَ نَبِيِّكَ فَلَا تَجْعَلْهُ مِنْ
أَهْلِهَا، وَكَانَ يُنْكِرُ رُؤْيَتَكَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَاحْجُبْ
وَجْهَكَ الْكَرِيمَ عَنْهُ. فَقَالُوا لَهُ: أَصَبْتَ. وَهَذَا الَّذِي نَطَقَ
بِهِ بَعْضُ السَّلَفِ حَيْثُ قَالُوا: مَنْ كَذَّبَ بِكَرَامَةٍ لَمْ يَنَلْهَا.
وَفِي هَذَا الْعَامِ تُوُفِّيَ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ التِّنِّيسِيُّ.
وَأَبُو مُسْهِرٍ عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ مُسْهِرٍ الْغَسَّانِيُّ الدِّمَشْقِيُّ.
وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَابْلُتِّيُّ.
وَأَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامِ بْنِ أَيُّوبَ الْحِمْيَرِيُّ
الْمَعَافِرِيُّ.
رَاوِي
السِّيرَةِ عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ إِسْحَاقَ مُصَنِّفِهَا، وَإِنَّمَا تُنْسَبُ إِلَيْهِ فَيُقَالُ: سِيرَةُ
ابْنِ هِشَامٍ لِأَنَّهُ هَذَّبَهَا وَزَادَ فِيهَا وَنَقَصَ مِنْهَا، وَحَرَّرَ
أَمَاكِنَ، وَاسْتَدْرَكَ أَشْيَاءَ.
وَكَانَ إِمَامًا فِي اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ، وَكَانَ مُقِيمًا بِمِصْرَ، وَقَدِ
اجْتَمَعَ بِهِ الشَّافِعِيُّ حِينَ وَرَدَهَا، وَتَنَاشَدَا مِنْ أَشْعَارِ
الْعَرَبِ شَيْئًا كَثِيرًا.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، قَالَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي " " تَارِيخِ مِصْرَ
" ". وَزَعَمَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ
عَشْرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا ظَهَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالطَّالَقَانِ مِنْ خُرَاسَانَ
يَدْعُو إِلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ،
وَقَاتَلَهُ قُوَّادُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً، ثُمَّ
ظَهَرُوا عَلَيْهِ وَهَرَبَ فَأُخِذَ ثُمَّ بُعِثَ بِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
طَاهِرٍ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فِي الْمُنْتَصَفِ
مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَمَرَ بِهِ فَحُبِسَ فِي مَكَانٍ
ضَيِّقٍ طُولُهُ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ فِي ذِرَاعَيْنِ، فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثًا،
ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى أَوْسَعَ مِنْهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُ مَنْ يَخْدُمُهُ،
فَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا هُنَالِكَ إِلَى لَيْلَةِ عِيدِ الْفِطْرِ، فَاشْتَغَلَ
النَّاسُ بِالْعِيدِ فَدُلِّيَ لَهُ حَبْلٌ مِنْ كُوَّةٍ كَانَ يَأْتِيهِ
الضَّوْءُ مِنْهَا فَذَهَبَ فَلَمْ يُدْرَ كَيْفَ ذَهَبَ، وَإِلَى أَيْنَ صَارَ
مِنَ الْأَرْضِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ جُمَادَى
الْأُولَى دَخَلَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى بَغْدَادَ رَاجِعًا مِنْ
قِتَالِ الْخُرَّمِيَّةِ، وَمَعَهُ الْأَسْرَى مِنْهُمْ، وَقَدْ قَتَلَ فِي
حَرْبِهِ هَذَا مِنْ الْخُرَّمِيَّةِ مِائَةَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ مِنْهُمْ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا بَعَثَ الْمُعْتَصِمُ عُجَيْفًا فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ لِقِتَالِ الزُّطِّ
الَّذِينَ عَاثُوا فِي بِلَادِ
الْبَصْرَةِ وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ وَنَهَبُوا الْغَلَّاتِ، فَمَكَثَ فِي
قِتَالِهِمْ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَقَهَرَهُمْ وَقَمَعَ شَرَّهُمْ، وَأَبَادَ
خَضْرَاءَهُمْ، وَكَانَ الْقَائِمَ بِأَمْرِهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ
بْنُ عُثْمَانَ، وَمَعَهُ آخَرُ يُقَالُ لَهُ: سَمْلَقٌ، وَهُوَ دَاهِيَتُهُمْ،
وَشَيْطَانُهُمْ، فَأَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ شَرِّهِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ، شَيْخُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ.
صَاحِبُ " " الْمُسْنَدِ " "، وَتِلْمِيذُ الْإِمَامِ
الشَّافِعِيِّ.
وَعَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ.
وَأَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ.
شَيْخُ الْبُخَارِيِّ.
وَأَبُو غَسَّانَ النَّهْدِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ
الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ دَخَلَ عُجَيْفٌ فِي السُّفُنِ إِلَى بَغْدَادَ وَمَعَهُ
مِنْ الزُّطِّ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا قَدْ جَاءُوا بِالْأَمَانِ إِلَى
الْخَلِيفَةِ فَأُنْزِلُوا فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ ثُمَّ نَفَاهُمُ
الْخَلِيفَةُ إِلَى عَيْنِ زُرْبَةَ فَأَغَارَتْ الرُّومُ عَلَيْهِمْ
فَاجْتَاحُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَكَانَ آخِرَ
الْعَهْدِ بِهِمْ.
وَفِيهَا عَقَدَ الْمُعْتَصِمُ لِلْأَفْشِينِ وَاسْمُهُ حَيْدَرُ بْنُ كَاوَسَ
عَلَى جَيْشٍ عَظِيمٍ لِقِتَالِ بَابَكَ الْخُرَّمِيَّ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَكَانَ
قَدِ اسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ جِدًّا، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ جِدًّا، وَانْتَشَرَتْ
أَتْبَاعُهُ فِي بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ وَمَا وَالَاهَا، وَكَانَ أَوَّلُ
ظُهُورِهِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ زِنْدِيقًا كَبِيرًا
وَشَيْطَانًا رَجِيمًا، فَسَارَ الْأَفْشِينُ وَقَدْ أَحْكَمَ صِنَاعَةَ الْحَرْبِ
فِي الْأَرْصَادِ وَعِمَارَةِ الْحُصُونِ وَإِيصَالِ الْمَدَدِ، وَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ الْمُعْتَصِمُ بِاللَّهِ
مَعَ بُغَا الْكَبِيرِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً نَفَقَةً لِمَنْ مَعَهُ مِنَ
الْجُنْدِ وَالْأَتْبَاعِ وَقَدِ اتَّقَعَ، فَالْتَقَى هُوَ وَبَابَكَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ فَاقْتَتَلَا قِتَالًا عَظِيمًا، فَقَتَلَ الْأَفْشِينُ مِنْ أَصْحَابِ
بَابَكَ خَلْقًا كَثِيرًا أَزْيَدَ مِنْ أَلْفٍ وَهَرَبَ هُوَ إِلَى مَدِينَتِهِ
فَأَوَى إِلَيْهَا مَكْسُورًا وَكَانَ هَذَا أَوَّلَ مَا تَضَعْضَعَ مِنْ أَمْرِ
بَابَكَ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا،
وَقَدِ اسْتَقْصَاهَا الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْمُعْتَصِمُ مِنْ بَغْدَادَ فَنَزَلَ الْقَاطُولَ
فَأَقَامَ بِهَا.
وَفِيهَا غَضِبَ الْمُعْتَصِمُ عَلَى الْفَضْلِ بْنِ مَرْوَانَ بَعْدَ
الْمَكَانَةِ الْعَظِيمَةِ وَعَزَلَهُ عَنِ الْوَزَرَاةِ وَحَبَسَهُ وَأَخَذَ
أَمْوَالَهُ، وَجَعَلَ مَكَانَهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
الزَّيَّاتِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَالِحُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَمِيرُ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ.
وَعَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ.
وَقَالُونُ.
أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْقُرَّاءِ.
وَأَبُو حُذَيْفَةَ النَّهْدِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ هَائِلَةٌ بَيْنَ بُغَا الْكَبِيرِ وَبَابَكَ
الْخُرَّمِيِّ، فَهَزَمَ بَابَكُ بُغَا وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِهِ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ثُمَّ اقْتَتَلَ الْأَفْشِينُ
وَبَابَكَ، فَهَزَمَهُ أَفْشِينُ وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِهِ بَعْدَ
حُرُوبٍ طَوِيلَةٍ، قَدِ اسْتَقْصَاهَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي
تَارِيخِهِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا نَائِبُ مَكَّةَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ عِيسَى
بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ
الْقَعْنَبِيُّ.
وَعَبْدَانُ، وَهِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَجَّهَ الْمُعْتَصِمُ جَيْشًا كَثِيفًا مَدَدًا لِلْأَفْشِينِ عَلَى
مُحَارَبَةِ الْخُرَّمِيَّةِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ
دِرْهَمٍ نَفَقَةً لِلْجُنْدِ وَالْأَتْبَاعِ. وَفِيهَا اقْتَتَلَ الْأَفْشِينُ
والْخُرَّمِيَّةُ قِتَالًا عَظِيمًا، وَافْتَتَحَ الْأَفْشِينُ الْبَذَّ مَدِينَةَ
بَابَكَ وَاسْتَبَاحَ مَا فِيهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَذَلِكَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ بَعْدَ مُحَاصَرَةٍ
وَحُرُوبٍ هَائِلَةٍ وَقِتَالٍ شَدِيدٍ وَجُهْدٍ جَهِيدٍ، وَقَدْ أَطَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ بَسْطَهُ جِدًّا. وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُ افْتَتَحَ الْبَلَدَ
وَأَخَذَ جَمِيعَ مَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ مِمَّا قَدَرَ
عَلَيْهِ.
ذِكْرُ مَسْكِ بَابَكَ الْخُرَّمِيِّ وَأَسْرِهِ وَقَتْلِهِ
لَمَّا احْتَوَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى بَلَدِهِ الْمُسَمَّى بِالْبَذِّ، وَهِيَ
دَارُ مُلْكِهِ وَمَقَرُّ سُلْطَانِهِ، هَرَبَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهِ
وَوَلَدِهِ وَمَعَهُ أُمُّهُ وَامْرَأَتُهُ، فَانْفَرَدَ فِي شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ
مِنْ خَدَمِهِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ طَعَامٌ، فَاجْتَازَ بِحَرَّاثٍ فَبَعَثَ
غُلَامَهُ إِلَيْهِ وَمَعَهُ ذَهَبٌ فَقَالَ: أَعْطِهِ الذَّهَبَ وَخُذْ مَا
مَعَهُ مِنَ الْخُبْزِ. فَنَظَرَ شَرِيكٌ الْحَرَّاثِ إِلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ
وَهُوَ يَأْخُذُ مِنْهُ الْخُبْزَ، فَظَنَّ أَنَّهُ قَدِ اغْتَصَبَهُ مِنْهُ،
فَذَهَبَ إِلَى حِصْنٍ هُنَاكَ فِيهِ نَائِبٌ لِلْخَلِيفَةِ يُقَالُ لَهُ: سَهْلُ
بْنُ سُنْبَاطٍ لِيَسْتَعْدِيَ عَلَى ذَلِكَ الْغُلَامِ، فَرَكِبَ بِنَفْسِهِ
وَجَاءَ فَوَجَدَ الْغُلَامَ فَقَالَ: مَا خَبَرُكَ ؟ فَقَالَ: لَا شَيْءَ
وَإِنَّمَا أَعْطَيْتُهُ دَنَانِيرَ، وَأَخَذْتُ مِنْهُ هَذَا الْخُبْزَ. فَقَالَ:
وَمَنْ أَنْتَ ؟ فَأَرَادَ أَنْ يُعَمِّيَ عَلَيْهِ الْخَبَرَ، فَأَلَحَّ
عَلَيْهِ، فَقَالَ: مِنْ غِلْمَانِ بَابَكَ. فَقَالَ: وَأَيْنَ هُوَ ؟ فَقَالَ:
هَاهُوَ ذَا جَالِسٌ يُرِيدُ الْغَدَاءَ، فَسَارَ إِلَيْهِ سَهْلُ بْنُ سُنْبَاطٍ،
فَلَمَّا رَآهُ تَرَجَّلَ وَجَاءَهُ فَقَبَّلَ يَدَهُ وَقَالَ: يَا سَيِّدِي
أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَدْخُلَ بِلَادَ الرُّومِ، فَقَالَ: إِلَى
عِنْدِ مَنْ تَذْهَبُ أَحْرَزُ مِنْ حِصْنِي وَأَنَا غُلَامُكَ وَفِي خِدْمَتِكَ ؟
وَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى خَدَعَهُ وَأَخَذَهُ مَعَهُ إِلَى الْحِصْنِ،
فَأَنْزَلَهُ عِنْدَهُ وَأَجْرَى عَلَيْهِ النَّفَقَاتِ الْكَثِيرَةَ وَالتُّحَفَ
وَغَيْرَ ذَلِكَ وَكَتَبَ إِلَى الْأَفْشِينِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ أَمِيرَيْنِ لِقَبْضِهِ فَنَزَلَا قَرِيبًا مِنَ الْحِصْنِ وَكَتَبَا
إِلَى ابْنِ سُنْبَاطٍ فَقَالَ: أَقِيمَا مَكَانَكُمَا حَتَّى يَأْتِيَكُمَا
أَمْرِي. ثُمَّ قَالَ لِبَابَكَ: إِنَّكَ قَدْ
حَصَلَ لَكَ غَمٌّ وَضِيقٌ مِنْ هَذَا الْحِصْنِ وَقَدْ عَزَمْتُ عَلَى الْخُرُوجِ الْيَوْمَ إِلَى الصَّيْدِ وَمَعَنَا بُزَاةٌ وَكِلَابٌ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَخْرُجَ مَعَنَا لِتَنْشَرِحَ. قَالَ: نَعَمْ. فَخَرَجُوا وَبَعَثَ ابْنُ سُنْبَاطٍ إِلَى الْأَمِيرَيْنِ أَنْ كُونَا بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا وَفِي وَقْتِ كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّهَارِ، فَلَمَّا كَانُوا بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَقْبَلَ الْأَمِيرَانِ بِمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْجُنُودِ فَأَحَاطُوا بِبَابَكَ وَبِابْنِ سُنْبَاطٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُ جَاءُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: تَرَجَّلْ عَنْ دَابَّتِكَ. فَقَالَ: وَمَنْ أَنْتُمَا ؟ فَذَكَرَا أَنَّهُمَا مِنْ عِنْدِ الْأَفْشِينِ فَتَرَجَّلَ حِينَئِذٍ عَنْ دَابَّتِهِ وَعَلَيْهِ دُرَّاعَةٌ بَيْضَاءُ وَعِمَامَةٌ بَيْضَاءُ وَخُفٌّ قَصِيرٌ وَفِي يَدِهِ بَازٌ فَنَظَرَ إِلَى ابْنِ سُنْبَاطٍ، فَقَالَ: قَبَّحَكَ اللَّهُ، فَهَلَّا طَلَبْتَ مِنِّي مِنَ الْمَالِ مَا شِئْتَ، فَكُنْتُ أَعْطَيْتُكَ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْطِيكَ هَؤُلَاءِ. ثُمَّ أَرْكَبُوهُ وَأَخَذُوهُ مَعَهُمَا إِلَى الْأَفْشِينِ فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنْ بِلَادِ الْأَفْشِينِ خَرَجَ فَتَلَقَّاهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَصْطَفُّوا صَفَّيْنِ وَأَنْ يَتَرَجَّلَ بَابَكَ فَيَدْخُلَ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ مَاشٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا جِدًّا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. ثُمَّ احْتَفَظَ بِهِ وَهُوَ فِي السِّجْنِ عِنْدَهُ ثُمَّ كَتَبَ الْأَفْشِينُ إِلَى الْمُعْتَصِمِ يُخْبِرُهُ بِأَنَّ بَابَكَ فِي أَسْرِهِ وَقَدِ اسْتَحْضَرَ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ أَيْضًا فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُعْتَصِمُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَقْدَمَ بِهِمَا عَلَيْهِ إِلَى بَغْدَادَ
فَتَجَهَّزَ بِهِمَا إِلَى بَغْدَادَ فِي تَمَامِ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ.
وَعُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ.
وَمُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ.
وَيَحْيَى بْنُ صَالِحٍ الْوُحَاظِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَالِثِ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ الْأَفْشِينُ
عَلَى الْمُعْتَصِمِ سَامَرَّاءَ وَمَعَهُ بَابَكُ الْخُرَّمِيُّ وَأَخُوهُ عَبْدُ
اللَّهِ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ أَمَرَ الْمُعْتَصِمُ ابْنَهُ هَارُونَ
الْوَاثِقَ أَنْ يَتَلَقَّى الْأَفْشِينَ وَكَانَتْ أَخْبَارُهُ تَفِدُ إِلَى
الْمُعْتَصِمِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ شِدَّةِ اعْتِنَاءِ الْمُعْتَصِمِ بِأَمْرِ
بَابَكَ، وَقَدْ رَكِبَ الْمُعْتَصِمُ قَبْلَ وُصُولِ بَابَكَ بِيَوْمَيْنِ عَلَى
الْبَرِيدِ حَتَّى دَخَلَ إِلَى بَابَكَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ
ثُمَّ رَجَعَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ دُخُولِهِ عَلَيْهِ تَأَهَّبَ الْمُعْتَصِمُ
وَاصْطَفَّ النَّاسُ سِمَاطَيْنِ، وَأَمَرَ بَابَكَ أَنْ يَرْكَبَ عَلَى فِيلٍ
لِيَشْتَهِرَ أَمْرُهُ وَيَعْرِفُوهُ، وَعَلَيْهِ قَبَاءُ دِيبَاجٍ وَقَلَنْسُوَةُ
سَمُّورٍ مُدَوَّرَةٌ، وَقَدْ هُيِّئَ الْفِيلُ، وَخُضِّبَتْ أَطْرَافُهُ،
وَأُلْبِسَ مِنَ الْحَرِيرِ وَالْأَمْتِعَةِ الَّتِي تَلِيقُ بِهِ كَثِيرًا،
وَقَدْ قَالَ فِيهِ بَعْضُهُمْ:
قَدْ خُضِّبَ الْفِيلُ كَعَادَاتِهِ يَحْمِلُ شَيْطَانَ خُرَاسَانَ وَالْفِيلُ
لَا تُخَضَّبُ أَعْضَاؤُهُ
إِلَّا لِذِي شَأْنٍ مِنَ الشَّانِ
وَلَمَّا أُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعْتَصِمِ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدَيْهِ
وَرِجْلَيْهِ وَحَزِّ رَأْسِهِ، وَشِقِّ بَطْنِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِحَمْلِ رَأْسِهِ
إِلَى خُرَاسَانَ وَصَلْبِ جُثَّتِهِ عَلَى خَشَبَةٍ بِسَامَرَّا، وَكَانَ بَابَكُ
قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي لَيْلَةٍ أَسْفَرَ صَبَاحُهَا عَنْ قَتْلِهِ، وَهِيَ
لَيْلَةُ الْخَمِيسِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ. وَكَانَ هَذَا الْمَلْعُونُ قَدْ قَتَلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي
مُدَّةِ ظُهُورِهِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَهِيَ عِشْرُونَ سَنَةً مِائَتَيْ أَلْفٍ
وَخَمْسَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ إِنْسَانٍ قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ
وَأَسَرَ خَلْقًا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنِ اسْتَنْقَذَهُ
الْأَفْشِينُ مِنْ أَسْرِهِ نَحْوٌ مِنْ سَبْعَةِ آلَافٍ وَسِتِّمِائَةِ
إِنْسَانٍ، وَأَسَرَ مِنْ أَوْلَادِهِ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَمِنْ
حَلَائِلِهِ وَحَلَائِلِ أَوْلَادِهِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ امْرَأَةً مِنَ
الْخَوَاتِينِ، وَقَدْ كَانَ أَصْلُ بَابَكَ ابْنَ جَارِيَةٍ زَرِيَّةِ الشَّكْلِ
جِدًّا، فَآلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى مَا آلَ بِهِ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَرَاحَ اللَّهُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهِ بَعْدَمَا افْتَتَنَ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَجَمٌّ
غَفِيرٌ مِنَ الطَّغَامِ
وَلَمَّا قَتَلَهُ الْمُعْتَصِمُ تَوَّجَ الْأَفْشِينَ وَقَلَّدَهُ وِشَاحَيْنِ
مِنْ جَوْهَرٍ، وَأَطْلَقَ لَهُ عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَتَبَ لَهُ
بِوِلَايَةِ السِّنْدِ وَأَمَرَ الشُّعَرَاءَ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ
فَيَمْدَحُوهُ
عَلَى مَا فَعَلَ مِنَ الْخَيْرِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى تَخْرِيبِهِ
بَلَدَ بَابَكَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْبَذُّ وَتَرْكِهِ إِيَّاهَا يَبَابًا
خَرَابًا، فَقَالُوا فِي ذَلِكَ فَأَحْسَنُوا، وَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ أَبُو
تَمَامٍ الطَّائِيُّ، وَقَدْ أَوْرَدَ قَصِيدَتَهُ بِتَمَامِهَا الْإِمَامُ أَبُو
جَعْفَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي " " تَارِيخِهِ " "، وَهِيَ
قَوْلُهُ:
بَذَّ الْجِلَادُ فَهُوَ دَفِينُ مَا إِنْ بِهِ إِلَّا الْوُحُوشَ قَطِينُ
لَمْ يُقْرَ هَذَا السَّيْفُ هَذَا الصَّبْرَ فِي هَيْجَاءَ إِلَّا عَزَّ هَذَا
الدِّينُ
قَدْ كَانَ عُذْرَةَ سُؤْدَدٍ فَافْتَضَّهَا بِالسَّيْفِ فَحْلُ الْمَشرِقِ
الْأَفْشِينُ فَأَعَادَهَا تَعْوِي الثَّعَالِبُ وَسْطَهَا
وَلَقَدْ تُرَى بِالْأَمْسِ وَهِيَ عَرِينُ هَطَلَتْ عَلَيْهَا مِنْ جَمَاجِمِ
أَهْلِهَا
دِيَمٌ أَمَارَتْهَا طُلًى وَشُئُونُ كَانَتْ مِنَ الْمُهْجَاتِ قَبْلَ ذَاكَ
مَفَازَةً
عَسِرًا فَأَمْسَتْ وَهِيَ مِنْهُ مَعِينُ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
أَوْقَعَ مَلِكُ الرُّومِ تَوْفِيلُ بْنُ مِيخَائِيلَ لَعَنَهُ اللَّهُ بِأَهْلِ
مَلَطْيَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَا وَالَاهَا مَلْحَمَةً عَظِيمَةً قَتَلَ
فِيهَا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَسَرَ مَا لَا
يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَكَانَ مِنْ
جُمْلَةِ مَنْ أَسَرَ أَلْفَ امْرَأَةٍ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ، وَمَثَّلَ بِمَنْ وَقَعَ فِي أَسْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَطَّعَ آذَانَهُمْ وَآنَافَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، قَبَّحَهُ اللَّهُ. وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ بَابَكَ لَعَنَهُ اللَّهُ لَمَّا أُحِيطَ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فِي مَدِينَتِهِ الْبَذِّ وَاسْتَوْسَقَتِ الْجُنُودُ حَوْلَهُ، كَتَبَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ مِلْكَ الْعَرَبِ قَدْ جَهَّزَ إِلَيَّ جُمْهُورَ جَيْشِهِ وَلَمْ يُبْقِ فِي أَطْرَافِ بِلَادِهِ مَنْ يَحْفَظُهَا، فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْغَنِيمَةَ فَانْهَضْ سَرِيعًا إِلَى مَا حَوْلَكَ مِنْ بِلَادِهِ فَخُذْهَا، فَإِنَّكَ لَا تَجِدُ أَحَدًا يُمَانِعُكَ عَنْهَا، فَرَكِبَ تَوْفِيلُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - فِي مِائَةِ أَلْفٍ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ الْمُحَمِّرَةُ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ خَرَجُوا فِي الْجِبَالِ وَقَاتَلَهُمْ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمْ، وَتَحَصَّنُوا بِتِلْكَ الْجِبَالِ فَلَمَّا قَدِمَ مَلِكُ الرُّومِ صَارُوا مَعَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَوَصَلُوا إِلَى زِبَطْرَةَ فَقَتَلُوا مِنْ رِجَالِهَا خَلْقًا كَثِيرًا وَأَسَرُوا مِنْ حَرِيمِهَا أُمَّةً كَثِيرَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُعْتَصِمَ فَانْزَعَجَ لِذَلِكَ جِدًّا، وَصَرَخَ فِي قَصْرِهِ بِالنَّفِيرِ، وَنَهَضَ مِنْ فَوْرِهِ، فَأَمَرَ بِتَعْبِئَةِ الْجُيُوشِ، وَاسْتَدْعَى بِالْقَاضِي، وَالْعُدُولِ، فَأَشْهَدَهُمْ أَنَّ مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الضِّيَاعِ ثُلُثُهُ صَدَقَةٌ، وَثُلُثُهُ لِوَلَدِهِ، وَثُلُثُهُ لِمَوَالِيهِ.
وَخَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ فَعَسْكَرَ غَرْبَيْ دِجْلَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ
لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَوَجَّهَ بَيْنَ يَدَيْهِ
عُجَيْفًا، وَطَائِفَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ وَمَعَهُمْ خَلْقٌ مِنَ الْجَيْشِ
إِعَانَةً لِأَهْلِ زِبَطْرَةَ فَأَسْرَعُوا السَّيْرَ، فَوَجَدُوا مَلِكَ
الرُّومِ قَدْ فَعَلَ مَا فَعَلَ وَانْشَمَرَ إِلَى بِلَادِهِ رَاجِعًا،
وَتَفَارَطَ الْحَالُ وَلَمْ يُمْكِنِ الِاسْتِدْرَاكُ فِيهِ، وَرَجَعُوا إِلَى
الْخَلِيفَةِ لِإِعْلَامِهِ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ، فَقَالَ لِلْأُمَرَاءِ:
أَيُّ بِلَادِ الرُّومِ أَمْنَعُ ؟ قَالُوا: عَمُّورِيَةُ لَمْ يَعْرِضْ لَهَا
أَحَدٌ مُنْذُ كَانَ الْإِسْلَامُ، وَهِيَ أَشْرَفُ عِنْدَهُمْ مِنَ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ.
ذِكْرُ فَتْحِ عَمُّورِيَةَ عَلَى يَدِ الْمُعْتَصِمِ
لَمَّا تَفَرَّغَ الْمُعْتَصِمُ مِنْ شَأْنِ بَابَكَ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَتَلَهُ
وَأَخَذَ بِلَادَهُ، اسْتَدْعَى بِالْجُيُوشِ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ، وَتُجَهَّزَ
جِهَازًا لَمْ يَتَجَهَّزْهُ أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَأَخَذَ
مَعَهُ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ وَالْأَحْمَالِ وَالْجِمَالِ وَالْقِرَبِ
وَالدَّوَابِّ وَالنِّفْطِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ شَيْئًا لَمْ يُسْمَعْ
بِمِثْلِهِ، وَسَارَ إِلَيْهَا، فِي جَحَافِلَ كَالْجِبَالِ، وَبَعَثَ
الْأَفْشِينُ خَيْذَرَ بْنَ كَاوَسَ مِنْ نَاحِيَةِ سَرُوجَ وَعَبَّأَ
الْخَلِيفَةُ جَيْشَهُ تَعْبِئَةً لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، وَقَدَّمَ بَيْنَ
يَدَيْهِ الْأُمَرَاءَ الْمَعْرُوفِينَ بِالْحَرْبِ، فَانْتَهَى فِي سَيْرِهِ
إِلَى نَهْرِ اللَّمِسِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ طَرَسُوسَ وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ
الْمُبَارَكَةِ.
وَقَدْ رَكِبَ مَلِكُ الرُّومِ فِي جَيْشِهِ، فَقَصَدَ نَحْوَ الْمُعْتَصِمِ،
فَتَقَارَبَا حَتَّى كَانَ بَيْنَ الْجَيْشَيْنِ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعَةِ
فَرَاسِخَ، وَدَخَلَ الْأَفْشِينُ بِلَادَ الرُّومِ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى،
فَجَاءَ مِنْ وَرَاءِ مَلِكِ الرُّومِ، فَحَارَ فِي أَمْرِهِ وَضَاقَ ذَرْعُهُ
بِسَبَبِ ذَلِكَ؛ إِنْ هُوَ نَاجَزَ الْخَلِيفَةَ جَاءَهُ الْأَفْشِينُ مِنْ
خَلْفِهِ، فَالْتَقَيَا عَلَيْهِ فَيَهْلَكُ، وَإِنْ سَارَ إِلَى أَحَدِهِمَا،
وَتَرَكَ الْآخَرَ أَخَذَهُ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ اقْتَرَبَ مِنْهُ الْأَفْشِينُ
فَسَارَ إِلَيْهِ مَلِكُ الرُّومِ فِي شِرْذِمَةٍ مِنَ الْجَيْشِ، وَاسْتَخْلَفَ
عَلَى بَقِيَّتِهِ قَرِيبًا لَهُ، فَالْتَقَى هُوَ وَالْأَفْشِينُ فِي يَوْمِ
الْخَمِيسِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَثَبَتَ
الْأَفْشِينُ فِي ثَانِي الْحَالِ، وَقَتَلَ مِنَ الرُّومِ خَلْقًا، وَجُرِحَ
آخَرِينَ، وَتَفَلَّتَ فِئَةُ مَلِكِ الرُّومِ، وَبَلَغَهُ أَنَّ بَقِيَّةَ
الْجَيْشِ قَدْ شَرَدُوا عَنْ قَرَابَتِهِ وَذَهَبُوا عَنْهُ وَتَفَرَّقُوا
عَلَيْهِ، فَأَسْرَعَ الْأَوْبَةَ، فَإِذَا نِظَامُ الْجَيْشِ قَدِ انْحَلَّ،
فَغَضِبَ عَلَى قَرَابَتِهِ وَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ
كُلِّهِ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، فَسَرَّهُ ذَلِكَ جِدًّا، فَرَكِبَ مِنْ
فَوْرِهِ وَجَاءَ إِلَى أَنْقِرَةَ وَوَافَاهُ الْأَفْشِينُ بِمَنْ مَعَهُ إِلَى هُنَالِكَ، فَوَجَدُوا أَهْلَهَا قَدْ هَرَبُوا مِنْهَا وَتَفَرَّقُوا عَنْهَا فَتَقْوَّوْا مِنْهَا بِطَعَامٍ وَعُلُوفَةٍ كَثِيرَةٍ، ثُمَّ فَرَّقَ الْمُعْتَصِمُ جَيْشَهُ ثَلَاثَ فِرَقٍ؛ فَالْمَيْمَنَةُ عَلَيْهَا الْأَفْشِينُ وَالْمَيْسَرَةُ عَلَيْهَا أَشْنَاسُ وَالْمُعْتَصِمُ فِي الْقَلْبِ، وَبَيْنَ كُلِّ عَسْكَرَيْنِ فَرْسَخَانِ، وَأَمَرَ كُلَّ أَمِيرٍ مِنَ الْأَفْشِينِ وَأَشْنَاسَ أَنْ يَجْعَلَ لِجَيْشِهِ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً وَقَلْبًا وَمُقَدِّمَةً وَسَاقَةً، وَأَنَّهُمْ مَهْمَا مَرُّوا عَلَيْهِ مِنَ الْقُرَى حَرَّقُوا، وَخَرَّبُوا، وَأَسَرُوا، وَغَنِمُوا، وَسَارَ بِهِمْ كَذَلِكَ قَاصِدًا إِلَى عَمُّورِيَةَ وَكَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَنْقِرَةَ سَبْعُ مَرَاحِلَ، فَأَوَّلُ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهَا مِنَ الْجُيُوشِ أَشْنَاسُ أَمِيرُ الْمَيْسَرَةِ ضَحْوَةَ يَوْمِ الْخَمِيسِ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَدَارَ حَوْلَهَا دَوْرَةً، ثُمَّ نَزَلَ عَلَى مِيلَيْنِ مِنْهَا، ثُمَّ قَدِمَ الْمُعْتَصِمُ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَهُ، فَدَارَ حَوْلَهَا دَوْرَةً، ثُمَّ نَزَلَ قَرِيبًا مِنْهَا، ثُمَّ قَدِمَ الْأَفْشِينُ يَوْمَ السَّبْتِ فَدَارَ حَوْلَهَا دَوْرَةً ثُمَّ نَزَلَ قَرِيبًا مِنْهَا وَقَدْ تَحَصَّنَ أَهْلُهَا، وَمَلَئُوا أَبْرَاجَهَا بِالرِّجَالِ وَالسِّلَاحِ، وَهِيَ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ كَبِيرَةٌ جِدًّا ذَاتُ سُورٍ مَنِيعٍ، وَأَبْرَاجٍ عَالِيَةٍ كَبِيرَةٍ، وَقَسَّمَ الْمُعْتَصِمُ الْأَبْرَاجَ عَلَى الْأُمَرَاءِ، فَنَزَلَ كُلُّ أَمِيرٍ تُجَاهَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَقْطَعُهُ، وَعَيَّنَهُ لَهُ، وَنَزَلَ الْمُعْتَصِمُ قُبَالَهُ بِمَكَانٍ هُنَاكَ قَدْ أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ بَعْضُ مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْأُسَرَاءِ، وَكَانَ قَدْ تَنَصَّرَ عِنْدَهُمْ، وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا رَأَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُسْلِمِينَ مَعَهُ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَخَرَجَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَأَسْلَمَ وَأَعْلَمَهُ بِمَكَانٍ فِي السُّورِ كَانَ قَدْ هَدَمَهُ السَّيْلُ وَبُنِيَ بِنَاءً فَاسِدًا بِلَا أَسَاسٍ، فَنَصبَ الْمُعْتَصِمُ الْمَجَانِيقَ حَوْلَ عَمُّورِيَةَ فَكَانَ أَوَّلُ مَوْضِعٍ انْهَدَمَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الَّذِي نَصَحَ فِيهِ ذَلِكَ الْأَسِيرُ، فَبَادَرَ أَهْلُ الْبَلَدِ، فَسَدُّوهُ بِالْخَشَبِ الْكِبَارِ الْمُتَلَاصِقَةِ، فَأَلَحَّ عَلَيْهَا الْمَنْجَنِيقُ فَكَسَرَهَا فَجَعَلُوا فَوْقَهَا الْبَرَادِعُ؛ لِيَرُدُّوا حِدَّةَ الْحَجَرِ، فَلَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهَا الْمَنْجَنِيقُ لَمْ تُغْنِ شَيْئًا، وَانْهَدَمَ السُّورُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ، وَتَفَسَّخَ، فَكَتَبَ نَائِبُ الْبَلَدِ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَبَعَثَ ذَلِكَ مَعَ غُلَامَيْنِ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَلَمَّا اجْتَازُوا بِالْجَيْشِ فِي طَرِيقِهِمْ أَنْكَرُوا أَمْرَهُمَا، فَسَأَلُوهُمَا مِمَّنْ أَنْتُمَا ؟ فَقَالَا: مِنْ أَصْحَابِ فُلَانٍ، لِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَحُمِلَا إِلَى الْمُعْتَصِمِ فَقَرَّرَهُمَا، فَإِذَا مَعَهُمَا كِتَابُ يَاطَسَ نَائِبِ عَمُّورِيَةَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يُعْلِمُهُ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْحِصَارِ، وَأَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ أَبْوَابِ الْبَلَدِ بِمَنْ مَعَهُ بَغْتَةً فَيُنَاجِزُ الْمُسْلِمِينَ كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا
كَانَ. فَلَمَّا وَقَفَ الْمُعْتَصِمُ عَلَى ذَلِكَ أَمَرَ بِالْغُلَامَيْنِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِمَا، وَأَنْ يُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدُرَّةٍ، فَأَسْلَمَا مِنْ فَوْرِهِمَا، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يُطَافَ بِهِمَا حَوْلَ الْبَلَدِ، وَعَلَيْهِمَا الْخُلَعُ، وَأَنْ يُوقَفَا تَحْتَ الْحِصْنِ الَّذِي فِيهِ يَاطَسُ، فَيُنْثَرَ عَلَيْهِمَا الدَّرَاهِمُ وَالْخُلَعُ، وَمَعَهُمَا الْكِتَابُ الَّذِي كَتَبَ بِهِ يَاطَسُ مَعَهُمَا إِلَى مَلِكِ الرُّومِ، فَجَعَلَتْ الرُّومُ تَلْعَنُهُمَا وَتَسُبُّهُمَا. ثُمَّ أَمَرَ الْمُعْتَصِمُ عِنْدَ ذَلِكَ بِتَجْدِيدِ الْحَرَسِ وَالِاحْتِفَاظِ فِيهِ مِنْ خُرُوجِ الرُّومِ بَغْتَةً، فَضَاقَتْ الرُّومُ ذَرْعًا بِذَلِكَ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْحِصَارِ، وَقَدْ أَعَدَّ الْمُعْتَصِمُ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ الْكَثِيرَةَ وَالدَّبَّابَاتِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ. وَلَمَّا رَأَى الْمُعْتَصِمُ عُمْقَ خَنْدَقِهَا، وَارْتِفَاعَ سُورِهَا عَمِلَ الْمَجَانِيقَ فِي مُقَاوَمَةِ سُورِهَا، وَكَانَ قَدْ غَنِمَ فِي الطَّرِيقِ غَنَمًا كَثِيرًا جِدًّا فَفَرَّقَهَا فِي النَّاسِ، وَقَالَ: لِيَأْكُلِ الرَّجُلُ الرَّأْسَ، وَلْيَجِىءْ بِمِلْءِ جِلْدِهِ تُرَابًا فَيَطْرَحُهُ فِي الْخَنْدَقِ. فَفَعَلَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَتَسَاوَى الْخَنْدَقُ بِوَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ كَثْرَةِ مَا طُرِحَ فِيهِ مِنَ الْأَغْنَامِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالتُّرَابِ، فَوُضِعَ فَوْقَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ طَرِيقًا مُمَهَّدًا، وَأَمَرَ بِالدَّبَّابَاتِ أَنْ تُوضَعَ فَوْقَهُ، فَلَمْ يُحْوِجِ اللَّهُ إِلَى ذَلِكَ، وَبَيْنَمَا النَّاسُ فِي الْحَرَسِ إِذْ هَدَمَ الْمَنْجَنِيقُ ذَلِكَ
الْمَوْضِعَ الْمَعِيبَ مِنَ السُّورِ، فَلَمَّا سَقَطَ مَا بَيْنَ
الْبُرْجَيْنِ سَمِعَ النَّاسُ هَدَّةً عَظِيمَةً، فَظَنَّهَا مَنْ لَمْ يَرَهَا
أَنَّ الرُّومَ قَدْ خَرَجُوا عَلَى النَّاسِ بَغْتَةً، فَبَعَثَ الْمُعْتَصِمُ
مَنْ يُنَادِي فِي النَّاسِ: إِنَّمَا ذَلِكَ سُقُوطُ السُّورِ، فَفَرِحَ
الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا لَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَتَّسِعُ أَنْ
يَدْخُلَ مِنْهُ الْجَيْشُ لِضِيقِهِ عَنْهُمْ، فَأَمَرَ الْمُعْتَصِمُ
بِالْمَجَانِيقِ الْمُتَفَرِّقَةِ فَجُمِعَتْ هُنَالِكَ وَنُصِبَتْ حَوْلَ ذَلِكَ
الْمَوْضِعِ الَّذِي سَقَطَ، لِيُضْرَبَ بِهَا مَا حَوْلَهُ لِيَتَّسِعَ لِدُخُولِ
الْخَيْلِ وَالرِّجَالِ. وَقَوِيَ الْحِصَارُ هُنَالِكَ جِدًّا، وَقَدْ وَكَّلَتِ
الرُّومُ لِكُلِّ بُرْجٍ مِنْ أَبْرَاجِ السُّورِ أَمِيرًا يَحْفَظُهُ، وَاتَّفَقَ
أَنَّ ذَلِكَ الْأَمِيرَ الَّذِي انْهَدَمَ مَا عِنْدَهُ مِنَ السُّورِ ضَعُفَ
عَنْ مُقَاوَمَةِ مَا يَلْقَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَذَهَبَ إِلَى يَاطَسَ،
فَسَأَلَهُ النَّجْدَةَ، فَامْتَنَعَ أَحَدٌ مِنَ الرُّومِ أَنْ يُنْجِدَهُ،
وَقَالُوا: لَا نَتْرُكُ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنْ حِفْظِ أَمَاكِنِنَا الَّتِي
عُيِّنَتْ لَنَا.
فَلَمَّا يَئِسَ مِنْهُمْ خَرَجَ إِلَى الْمُعْتَصِمِ لِيَجْتَمِعَ بِهِ، فَلَمَّا
وَصَلَ إِلَيْهِ أَمَرَ الْمُعْتَصِمُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَدْخُلُوا الْبَلَدَ
مِنْ تِلْكَ الثَّغْرَةِ الَّتِي قَدِ انْهَدَمَتْ وَخَلَتْ مِنْ
الْمُقَاتِلَةِ، فَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ نَحْوَهَا، فَجَعَلَتِ الرُّومُ يُشِيرُونَ إِلَيْهِمْ لَا تَحْيَوْا، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى دِفَاعِهِمْ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ تَكَاثَرُوا عَلَيْهِمْ وَدَخَلُوا الْبَلَدَ قَهْرًا وَتَتَابَعَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهَا يُكَبِّرُونَ، وَتَفَرَّقَتِ الرُّومُ عَنْ أَمَاكِنِهَا، فَجَعَلُوا يَقْتُلُونَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ حَيْثُ وَجَدُوهُمْ وَأَيْنَ ثَقِفُوهُمْ، وَقَدْ حَصَرُوهُمْ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ هَائِلَةٍ، فَفَتَحُوهَا قَسْرًا وَقَتَلُوا مَنْ فِيهَا قَهْرًا، وَأَحْرَقُوا عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَنِيسَةِ فَأُحْرِقُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا مَوْضِعٌ مُحَصَّنٌ سِوَى الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ النَّائِبُ وَهُوَ يَاطَسُ، فِي حِصْنٍ مَنِيعٍ، فَرَكِبَ الْمُعْتَصِمُ فَرَسَهُ وَجَاءَ حَتَّى وَقَفَ بِحِذَاءِ الْحِصْنِ الَّذِي فِيهِ يَاطَسُ، فَنَادَاهُ الْمُنَادِي: وَيْحَكَ يَا يَاطَسُ، هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَاقِفٌ تُجَاهَكَ. فَقَالَ: لَيْسَ يَاطَسُ هَاهُنَا. مَرَّتَيْنِ. فَغَضِبَ الْمُعْتَصِمُ مِنْ ذَلِكَ وَوَلَّى، فَنَادَى يَاطَسُ: هَذَا يَاطَسُ، هَذَا يَاطَسُ. فَرَجَعَ الْخَلِيفَةُ وَنَصَبَ السَّلَالِمَ عَلَى الْحِصْنِ، وَطَلَعَتِ الرُّسُلُ إِلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ: وَيْحَكَ، انْزِلْ عَلَى حُكْمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَتَمَنَّعَ، ثُمَّ نَزَلَ مُتَقَلِّدًا سَيْفًا، فَوَضَعَ السَّيْفَ مِنْ
عُنُقِهِ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ حَتَّى أُوْقِفَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعْتَصِمِ،
فَضَرَبَهُ بِالسَّوْطِ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى
مَضْرِبِ الْخَلِيفَةِ، فَمَشَى مُهَانًا إِلَى الْوِطَاقِ الَّذِي فِيهِ
الْخَلِيفَةُ نَازِلٌ، فَأُوثِقَ هُنَاكَ، وَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ
عَمُّورِيَةَ أَمْوَالًا عَظِيمَةً وَغَنَائِمَ لَا تُحَدُّ وَلَا تُوَصَفُ،
فَحَمَلُوا مَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ، وَأَمَرَ الْمُعْتَصِمُ بِإِحْرَاقِ مَا بَقِيَ
مِنْ ذَلِكَ، وَبِإِحْرَاقِ مَا هُنَالِكَ مِنَ الْمَجَانِيقِ وَالدَّبَّابَاتِ
وَآلَاتِ الْحَرْبِ؛ لِئَلَّا يَتَقَوَّى بِهَا الرُّومُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ حَرْبِ
الْمُسْلِمِينَ، وَانْصَرَفَ رَاجِعًا عَنْهَا إِلَى نَاحِيَةِ طَرَسُوسَ فِي أَوَاخِرِ
شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَتْ إِقَامَتُهُ عَلَى عَمُّورِيَةَ
خَمْسَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا.
ذِكْرُ مَقْتَلِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْمَأْمُونِ
كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْمَأْمُونِ مَعَ عَمِّهِ الْمُعْتَصِمِ فِي غَزَاةِ
عَمُّورِيَةَ وَكَانَ عُجَيْفُ بْنُ عَنْبَسَةَ قَدْ نَدَّمَهُ إِذْ لَمْ يَأْخُذِ
الْخِلَافَةَ بَعْدَ أَبِيهِ الْمَأْمُونِ حِينَ مَاتَ بِطَرَسُوسَ، وَلَامَهُ
عَلَى مُبَايَعَتِهِ عَمَّهُ الْمُعْتَصِمَ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَجَابَهُ
إِلَى الْفَتْكِ بِعَمِّهِ الْمُعْتَصِمِ، وَأَخَذَ الْبَيْعَةَ مِنَ الْأُمَرَاءِ
لَهُ، وَجَهَّزَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: الْحَارِثُ السَّمَرْقَنْدِيُّ، وَكَانَ
نَدِيمًا لِلْعَبَّاسِ، فَأَخَذَ لَهُ الْبَيْعَةَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ
الْأُمَرَاءِ فِي الْبَاطِنِ، وَاسْتَوْثَقَ مِنْهُمْ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ
يَلِي مَتَى مَا فَتَكَ بِعَمِّهِ، فَلْيَقْتُلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْ
يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِ الْمُعْتَصِمِ؛ كَالْأَفْشِينِ
وَأَشْنَاسَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكِبَارِ، فَلَمَّا كَانُوا بِدَرْبِ الرُّومِ
وَهُمْ قَاصِدُونَ إِلَى أَنْقِرَةَ وَمِنْهَا إِلَى عَمُّورِيَةَ أَشَارَ
عُجَيْفٌ
عَلَى الْعَبَّاسِ أَنْ يَقْتُلَ عَمَّهُ فِي هَذَا الْمَضِيقِ، وَيَأْخُذَ لَهُ الْبَيْعَةَ، وَيَرْجِعَ إِلَى بَغْدَادَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُعَطِّلَ عَلَى النَّاسِ هَذِهِ الْغَزْوَةَ. فَلَمَّا فَتَحُوا عَمُّورِيَةَ وَاشْتَغَلَ النَّاسُ بِالْمَغَانِمِ أَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْتِكَ، فَوَعَدَهُ مَضِيقَ الدَّرْبِ إِذَا رَجَعُوا، فَلَمَّا رَجَعُوا فَطِنَ الْمُعْتَصِمُ بِالْخَبَرِ، فَأَمَرَ بِالِاحْتِفَاظِ وَقُوَّةِ الْحَرَسِ، وَأَخَذَ بِالْحَزْمِ وَاجْتَهَدَ فِي الْعَزْمِ، وَاسْتَدْعَى بِالْحَارِثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ، فَاسْتَقَرَّهُ فَأَقَرَّ لَهُ بِجَلِيَّةِ الْأَمْرِ، وَأَنَّهُ أَخَذَ الْبَيْعَةَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ الْمَأْمُونِ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ أَسْمَاهُمْ لَهُ، فَاسْتَكْثَرَهُمُ الْمُعْتَصِمُ، وَاسْتَدْعَى بِابْنِ أَخِيهِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْمَأْمُونِ فَقَيَّدَهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَأَهَانَهُ، ثُمَّ أَظْهَرَ لَهُ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْهُ وَعَفَا عَنْهُ، فَأَرْسَلَهُ مِنَ الْقَيْدِ وَأَطْلَقَ سَرَاحَهُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ اسْتَدْعَاهُ إِلَى حَضْرَتِهِ فِي مَجْلِسِ شَرَابِهِ، وَاسْتَخْلَاهُ حَتَّى سَقَاهُ وَاسْتَحْكَاهُ عَنِ الَّذِي كَانَ قَدْ دَبَّرَهُ مِنَ الْأَمْرِ، فَشَرَحَ لَهُ الْقَضِيَّةَ وَأَنْهَى لَهُ الْقِصَّةَ، فَإِذَا الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَ الْحَارِثُ السَّمَرْقَنْدِيُّ، فَلَمَّا أَصْبَحَ اسْتَدْعَى بِالْحَارِثِ، فَأَخْلَاهُ وَسَأَلَهُ عَنِ الْقَضِيَّةِ ثَانِيًا، فَذَكَرَهَا لَهُ كَمَا ذَكَرَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، إِنِّي كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ أَجِدْ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا بِصِدْقِكَ إِيَّايَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ. ثُمَّ أَمَرَ الْمُعْتَصِمُ حِينَئِذٍ بِابْنِ أَخِيهِ الْعَبَّاسِ، فَقُيِّدَ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْأَفْشِينِ وَأَمَرَ بِعُجَيْفٍ وَبَقِيَّةِ مَنْ ذَكَرَ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَاحْتِيطَ عَلَيْهِمْ وَأُحِيطَ بِهِمْ، ثُمَّ أَخَذَ فِي أَنْوَاعِ النِّقْمَاتِ يَقْتَرِحُهَا لَهُمْ، فَقَتَلَ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ بِنَوْعٍ مِنَ الْقِتْلَاتِ، وَمَاتَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْمَأْمُونِ بِمَنْبِجَ فَدُفِنَ هُنَاكَ، وَكَانَ سَبَبَ
مَوْتِهِ أَنَّهُ جَاعَ جُوعًا شَدِيدًا، ثُمَّ جِيءَ بِأَكْلٍ كَثِيرٍ،
فَأَكَلَ وَطَلَبَ الْمَاءَ، فَمُنِعَ مِنْهُ حَتَّى مَاتَ، وَأَمَرَ
الْمُعْتَصِمُ بِلَعْنِهِ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَسَمَّاهُ اللَّعِينَ، وَقَتَلَ
جَمَاعَةً مِنْ وَلَدِ الْمَأْمُونِ أَيْضًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ، وَفُتِحَتْ
فِيهَا عَمُّورِيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَتُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بَابَكُ الْخُرَّمِيُّ قُتِلَ وَصُلِبَ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ مَبْسُوطًا.
وَخَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، كَاتِبُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ
وَمُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْعَوَقِيُّ، وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ آمُلِ طَبَرِسْتَانَ يُقَالُ لَهُ: مَازَيَارُ بْنُ
قَارَنَ بْنِ وِنْدَاهُرْمُزَ، وَكَانَ لَا يَرْضَى أَنْ يَدْفَعَ الْخَرَاجَ
إِلَى نَائِبِ خُرَاسَانَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ، بَلْ
يَبْعَثُهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ لِيَقْبِضَهُ مِنْهُ، فَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ مَنْ
يَتَلَقَّى الْحِمْلَ إِلَى بَعْضِ الْبِلَادِ فَيَقْبِضُهُ مِنْهُ ثُمَّ يَدْفَعُهُ
إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ ثُمَّ تَوَثَّبَ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ،
وَأَظْهَرَ الْمُخَالَفَةَ لِلْمُعْتَصِمِ. وَقَدْ كَانَ الْمَازَيَارُ هَذَا
مِمَّنْ يُكَاتِبُ بَابَكَ الْخُرَّمِيَّ وَيَعِدُهُ بِالنَّصْرِ. وَيُقَالُ:
إِنَّ الَّذِي قَوَّى رَأْسَ الْمَازَيَارِ هُوَ الْأَفْشِينُ؛ لِيُعْجِزَ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ فَيُوَلِّيهِ الْمُعْتَصِمُ بِلَادَ خُرَاسَانَ مَكَانَهُ.
فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمُعْتَصِمُ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ أَخَا
إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ
طَوِيلَةٌ اسْتَقْصَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَكَانَ آخِرَ ذَلِكَ أَنْ أُسِرَ
الْمَازَيَارُ وَحُمِلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فَاسْتَقَرَّهُ عَنِ
الْكُتُبِ الَّتِي بَعَثَهَا
إِلَيْهِ الْأَفْشِينُ فَأَقَرَّ بِهَا، فَأَرْسَلَهُ نَحْوَ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ وَمَعَهُ مِنْ أَمْوَالِهِ الَّتِي اصْطُفِيَتْ أَشْيَاءُ
كَثِيرَةٌ جِدًّا؛ مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ وَالثِّيَابِ، فَلَمَّا أُوْقِفَ
بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ سَأَلَهُ عَنْ كُتُبِ الْأَفْشِينِ إِلَيْهِ
فَأَنْكَرَهَا فَأَمَرَ بِهِ، فَضُرِبَ بِالسِّيَاطِ حَتَّى مَاتَ وَصُلِبَ إِلَى
جَانِبِ بَابَكَ الْخُرَّمِيِّ عَلَى جِسْرِ بَغْدَادَ وَقُتِلَ عُيُونُ
أَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ الْحَسَنُ بْنُ الْأَفْشِينِ بِأُتْرُجَّةَ
بِنْتِ أَشْنَاسَ، وَدَخَلَ بِهَا فِي قَصْرِ الْمُعْتَصِمِ بِسَامَرَّا فِي
جُمَادَى، وَكَانَ عُرْسًا عَظِيمًا، وَلِيَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
الْمُعْتَصِمُ بِنَفْسِهِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُخَضِّبُونَ لِحَى
الْعَامَّةِ بِالْغَالِيَةِ.
وَفِيهَا خَرَجَ مَنْكَجُورُ الْأُشْرُوسَنِيُّ قُرَابَةَ الْأَفْشِينِ بِأَرْضِ
أَذْرَبِيجَانَ وَخَلَعَ الطَّاعَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَفْشِينَ كَانَ قَدِ
اسْتَنَابَهُ عَلَى بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ حِينَ فَرَغَ مِنْ أَمْرِ بَابَكَ،
فَظَفِرَ مَنْكَجُورُ بِمَالٍ عَظِيمٍ مَخْزُونٍ لِبَابَكَ فِي بَعْضِ
الْبُلْدَانِ، فَاحْتَجَبَهُ لِنَفْسِهِ وَأَخْفَاهُ عَنِ الْخَلِيفَةِ وَظَهَرَ
عَلَى ذَلِكَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
وَكَاتَبَ الْخَلِيفَةَ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ مَنْكَجُورُ
يُكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ، وَهَمَّ بِهِ لِيَقْتُلَهُ فَامْتَنَعَ مِنْهُ
بِأَهْلِ أَرْدَبِيلَ فَلَمَّا تَحَقَّقَ الْخَلِيفَةُ كَذِبَ مَنْكَجُورَ بَعَثَ
إِلَيْهِ بُغَا الْكَبِيرَ فَحَارَبَهُ وَأَخَذَهُ بِالْأَمَانِ، وَجَاءَ بِهِ
إِلَى الْخَلِيفَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ يَاطَسُ الرُّومِيُّ الَّذِي كَانَ نَائِبًا عَلَى
عَمُّورِيَةَ حِينَ فَتَحَهَا الْمُعْتَصِمُ وَنَزَلَ مِنْ حِصْنِهِ عَلَى حُكْمِ
الْمُعْتَصِمِ، فَأَخَذَهُ مَعَهُ أَسِيرًا، فَاعْتَقَلَهُ بِسَامَرَّا حَتَّى
تُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ بْنِ
الْمَنْصُورِ، عَمُّ الْمُعْتَصِمِ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ شَكْلَةَ، وَقَدْ كَانَ
أَسْوَدَ اللَّوْنِ، ضَخْمًا فَصِيحًا فَاضِلًا، قَالَ ابْنُ مَاكُولَا: وَكَانَ
يُقَالُ لَهُ: التِّنِّينُ يَعْنِي لِسَوَادِهِ وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ
عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ تَرْجَمَةً حَافِلَةً، وَذَكَرَ أَنَّهُ وَلِيَ إِمْرَةَ
دِمَشْقَ نِيَابَةً عَنْ أَخِيهِ الرَّشِيدِ مُدَّةَ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ عُزِلَ
عَنْهَا، ثُمَّ أُعِيدَ إِلَيْهَا الثَّانِيَةَ، وَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعَ
سِنِينَ، وَذَكَرَ مِنْ عَدْلِهِ وَصَرَامَتِهِ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، وَأَنَّهُ
أَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى
دِمَشْقَ وَكَانَ قَدْ بَايَعَهُ أَهْلُ بَغْدَادَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ
الْمَأْمُونِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ
وَمِائَتَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ قَاتَلَهُ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ
نَائِبُ بَغْدَادَ فَهَزَمَهُ إِبْرَاهِيمُ فَقَصَدَهُ حُمَيْدٌ الطُّوسِيُّ
فَهَزَمَ إِبْرَاهِيمَ، وَاخْتَفَى إِبْرَاهِيمُ بِبَغْدَادَ حِينَ قَدِمَهَا
الْمَأْمُونُ مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ ظَفِرَ بِهِ الْمَأْمُونُ سَنَةَ عَشْرٍ،
فَعَفَا عَنْهُ وَأَكْرَمَهُ وَاسْتَمَرَّ بِهِ فِي مَنْزِلَتِهِ الَّتِي كَانَ
عَلَيْهَا قَبْلَ ذَلِكَ.
وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَتِهِ عَلَى بَغْدَادَ وَمُعَامَلَتِهَا سَنَةً وَأَحَدَ
عَشَرَ شَهْرًا وَاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ بَدْءُ اخْتِفَائِهِ فِي
أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ
اخْتِفَائِهِ سِتَّ سِنِينَ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَكَانَ الظَّفَرُ
بِهِ فِي ثَالِثَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ،
وَقَدْ جَرَتْ لَهُ فِي اخْتِفَائِهِ هَذَا أُمُورٌ عَجِيبَةٌ يَطُولُ بَسْطُهَا.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ
وَافِرَ الْفَضْلِ، غَزِيرَ الْأَدَبِ، وَاسِعَ النَّفْسِ، سَخِيَّ الْكَفِّ،
وَكَانَ مَعْرُوفَا بِصِنْعَةِ الْغِنَاءِ، حَاذِقًا بِهَا، وَذَكَرَ الْخَطِيبُ
أَنَّهُ قَلَّ الْمَالُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ فِي أَيَّامِ
خِلَافَتِهِ بِبَغْدَادَ فَأَلَحَّ الْأَعْرَابُ عَلَيْهِ فِي أُعْطِيَاتِهِمْ،
فَجَعَلَ يُسَوِّفُ بِهِمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُهُ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا
مَالَ عِنْدَهُ الْيَوْمَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلْيَخْرُجِ الْخَلِيفَةُ
إِلَيْنَا، فَلْيُغَنِّ لِأَهْلِ هَذَا الْجَانِبِ ثَلَاثَةَ أَصْوَاتٍ،
وَلِلْجَانِبِ الْآخَرِ ثَلَاثَةَ أَصْوَاتٍ. فَقَالَ فِي ذَلِكَ دِعْبِلُ بْنُ
عَلِيٍّ شَاعِرُ الْمَأْمُونِ يَذُمُّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ فِي ذَلِكَ:
يَا مَعْشَرَ الْأَعْرَابِ لَا تَقْنَطُوا خُذُوا عَطَايَاكُمْ وَلَا
تَسْخَطُوا فَسَوْفَ يُعْطِيكُمْ حُنَيْنِيَّةً
لَا تَدْخُلُ الْكِيسَ وَلَا تُرْبَطُ وَالْمَعْبَدِيَّاتُ لِقُوَّادِكُمْ
وَمَا بِهَذَا أَحَدٌ يُغْبَطُ فَهَكَذَا يَرْزُقُ أَصْحَابَهُ
خَلِيفَةٌ مُصْحَفُهُ الْبَرْبَطُ
وَكَتَبَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ الْمَأْمُونِ حِينَ
طَالَ عَلَيْهِ الِاخْتِفَاءُ: وَلِيُّ الثَّأْرِ مُحَكَّمٌ فِي الْقِصَاصِ،
وَالْعَفْوُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
فَوْقَ كُلِّ ذِي عَفْوٍ، كَمَا جَعَلَ كُلَّ ذِي ذَنْبٍ دُونَهُ فَإِنْ عَفَا
فَبِفَضْلِهِ، وَإِنْ عَاقَبَ فَبِحَقِّهِ.
فَوَقَّعَ الْمَأْمُونُ فِي جَوَابِ ذَلِكَ: الْقُدْرَةُ تُذْهِبُ الْحَفِيظَةَ،
وَكَفَى بِالنَّدَمِ إِنَابَةً، وَعَفْوُ اللَّهِ أَوْسَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
وَلَمَّا دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ أَنْشَأَ يَقُولُ:
إِنْ أَكُنْ مُذْنِبًا فَحَظِّيَ أَخْطَأْ تُ فَدَعْ عَنْكَ كَثْرَةَ التَّأْنِيبْ
قُلْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِبَنِي يعَ قُوبَ لَمَّا أَتَوْهُ لَا تَثْرِيبْ
فَقَالَ الْمَأْمُونُ: لَا تَثْرِيبَ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ لَمَّا
وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَأْمُونِ
شَرَعَ يُؤَنِّبُهُ عَلَى مَا فَعَلَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
حَضَرْتَ أَبِي وَهُوَ جَدُّكَ وَقَدْ أُتِيَ بِرَجُلٍ ذَنْبُهُ أَعْظَمُ مِنْ
ذَنْبِي، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤَخِّرَ قَتْلَ هَذَا الرَّجُلِ حَتَّى
أُحَدِّثَكَ حَدِيثًا. فَقَالَ: قُلْ. فَقَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ مِنْ بُطْنَانِ
الْعَرْشِ: أَلَا لِيَقُمِ الْعَافُونَ مِنَ الْخُلَفَاءِ إِلَى أَكْرَمِ
الْجَزَاءِ، فَلَا يَقُومُ إِلَّا مَنْ عَفَا فَقَالَ الْمَأْمُونُ: قَدْ قَبِلْتُ
هَذَا الْحَدِيثَ بِقَبُولِهِ، وَعَفَوْتُ عَنْكَ يَا عَمِّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي
سَنَةِ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ زِيَادَةً عَلَى هَذَا. وَقَدْ كَانَتْ أَشْعَارُهُ
جَيِّدَةً بَلِيغَةً، سَامَحَهُ اللَّهُ، وَقَدْ سَاقَ مِنْ ذَلِكَ الْحَافِظُ
ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " أَشْيَاءَ حَسَنَةً كَثِيرَةً.
كَانَ مَوْلِدُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ هَذَا فِي مُسْتَهَلِّ ذِي
الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ
سَنَةً.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ أَيْضًا: سَعِيدُ
بْنُ أَبِي مَرْيَمَ الْمِصْرِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو مَعْمَرٍ
الْمُقْعَدُ.
وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ الْأَخْبَارِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ
هَذَا الشَّأْنِ فِي زَمَانِهِ، وَعَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، شَيْخُ الْبُخَارِيِّ،
وَقَدْ تَزَوَّجَ هَذَا الرَّجُلَ أَلْفَ امْرَأَةٍ.
وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ
اللُّغَةِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ وَأَيَّامِ
النَّاسِ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْمَشْهُورَةُ الْمُنْتَشِرَةُ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ، حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ كَتَبَ كِتَابَهُ فِي
الْغَرِيبِ بِيَدِهِ. وَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ
رَتَّبَ لَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَجْرَاهَا عَلَى
ذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّ ابْنَ طَاهِرٍ اسْتَحْسَنَهُ، وَقَالَ: مَا
يَنْبَغِي لِعَقْلٍ بَعَثَ صَاحِبَهُ عَلَى تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ أَنْ
يُحْوَجَ صَاحِبُهُ إِلَى طَلَبِ الْمَعَاشِ. وَأَجْرَى لَهُ عَشَرَةَ آلَافِ
دِرْهَمٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبٍ الْمِسْعَرِيُّ:
سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدٍ يَقُولُ: مَكَثْتُ فِي تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ
أَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَقَالَ هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ الرَّقِّيُّ: مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
بِهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ؛
بِالشَّافِعِيِّ تَفَقَّهَ فِي الْحَدِيثِ، وَبِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ثَبَتَ
فِي الْمِحْنَةِ، وَبِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ نَفَى الْكَذِبَ عَنِ الْحَدِيثِ،
وَبِأَبِي عُبَيْدٍ، فَسَّرَ غَرِيبَ الْحَدِيثِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاقْتَحَمَ
النَّاسُ فِي الْخَطَأِ.
وَذَكَرَ ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِطَرَسُوسَ
ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَذَكَرَ لَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالِاجْتِهَادِ فِي
الْعِبَادَةِ شَيْئًا كَثِيرًا.
وَقَدْ رَوَى الْعَرَبِيَّةَ عَلَى أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَالْأَصْمَعِيِّ
وَأَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَابْنِ الْأَعْرَابِيِّ، وَالْفَرَّاءِ،
وَالْكِسَائِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: نَحْنُ نَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَهُوَ لَا
يَحْتَاجُ إِلَيْنَا.
وَقَدِمَ بَغْدَادَ وَسَمِعَ النَّاسُ مِنْهُ مِنْ تَصَانِيفِهِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: كَانَ كَأَنَّهُ جَبَلٌ نُفِخَ فِيهِ رُوحٌ
يُحْسِنُ كُلَّ شَيْءٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ الْقَاضِي: كَانَ أَبُو عُبَيْدٍ فَاضِلًا دَيِّنًا
رَبَّانِيًّا عَالِمًا
مُتَفَنِّنًا فِي أَصْنَافِ عُلُومِ الْإِسْلَامِ؛ مِنَ الْقُرْآنِ
وَالْفِقْهِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَخْبَارِ، حَسَنَ الرِّوَايَةِ، صَحِيحَ
النَّقْلِ، لَا أَعْلَمُ أَحَدًا طَعَنَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ
وَكُتُبِهِ.
وَلَهُ كِتَابُ " الْأَمْوَالِ "، وَكِتَابُ " فَضَائِلِ
الْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ " وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنْتَفَعِ
بِهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَالَهُ الْبُخَارِيُّ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي
قَبْلَهَا بِمَكَّةَ، وَقِيلَ: بِالْمَدِينَةِ، وَلَهُ سَبْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً،
رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: جَاوَزَ السَّبْعِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ أَبُو الْجَمَاهِرِ الدِّمَشْقِيُّ الْكَفْرَسُوسِيُّ،
أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ أَبُو النُّعْمَانِ
السَّدُوسِيُّ، الْمُلَقَّبُ بِعَارِمٍ، شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
عِيسَى بْنِ الطَّبَّاعِ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ الْجُرْجُسِيُّ
الْحِمْصِيُّ، شَيْخُهَا فِي زَمَانِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا دَخَلَ بُغَا الْكَبِيرُ وَمَعَهُ مَنْكَجُورُ، قَدْ أَعْطَى الطَّاعَةَ
بِالْأَمَانِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمُعْتَصِمُ جَعْفَرَ بْنَ دِينَارٍ عَنْ نِيَابَةِ الْيَمَنِ،
وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَوَلَّى الْيَمَنَ إِيتَاخَ.
وَفِيهَا وَجَّهَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ بِالْمَازَيَارِ، فَدَخَلَ
بَغْدَادَ عَلَى بَغْلٍ بِإِكَافٍ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ،
فَضَرَبَهُ الْمُعْتَصِمُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَرْبَعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَوْطًا
ثُمَّ سُقِيَ الْمَاءَ حَتَّى مَاتَ، وَأَمَرَ بِصَلْبِهِ إِلَى جَنْبِ بَابَكَ
الْخُرَّمِيَّ وَأَقَرَّ فِي ضَرْبِهِ أَنَّ الْأَفْشِينَ كَانَ يُكَاتِبُهُ
وَيُحَسِّنُ لَهُ خَلْعَ الطَّاعَةِ، فَغَضِبَ الْمُعْتَصِمُ عَلَى الْأَفْشِينِ
وَأَمَرَ بِسَجْنِهِ، فَبُنِيَ لَهُ مَكَانٌ كَالْمَنَارَةِ مِنْ دَارِ
الْخِلَافَةِ يُسَمَّى الْكَوَّةَ، إِنَّمَا يَسَعُهُ فَقَطْ، وَذَلِكَ حِينَ
تَحَقَّقَ الْخَلِيفَةُ أَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ مُخَالَفَتَهُ وَالْخُرُوجَ
عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ يَعْزِمُ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى بِلَادِ الْخَزَرِ
لِيَسْتَجِيشَ بِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَعَاجَلَهُ الْخَلِيفَةُ بِالْقَبْضِ
عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَعَقَدَ لَهُ الْمُعْتَصِمُ مَجْلِسًا فِيهِ
قَاضِيهِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُوَادَ الْمُعْتَزِلِيُّ، وَوَزِيرُهُ مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الزَّيَّاتِ،
وَنَائِبُهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ، فَاتُّهِمَ الْأَفْشِينُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ بِأَشْيَاءَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى دِينِ أَجْدَادِهِ مِنَ الْفُرْسِ؛ مِنْهَا أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَتِنٍ، فَاعْتَذَرَ أَنَّهُ يَخَافُ أَلَمَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُنَاظِرُهُ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ: فَأَنْتَ تُطَاعِنُ بِالرِّمَاحِ فِي الْحُرُوبِ وَلَا تَخَافُ مِنْ طَعْنِهَا، وَتَخَافُ مِنْ قَطْعِ قُلْفَةٍ بِبَدَنِكَ ؟ ! وَمِنْهَا أَنَّهُ ضَرَبَ رَجُلَيْنِ إِمَامًا وَمُؤَذِّنًا، كُلَّ وَاحِدٍ أَلْفَ سَوْطٍ؛ لِأَنَّهُمَا هَدَمَا بَيْتَ أَصْنَامٍ فَاتَّخَذَاهُ مَسْجِدًا، وَأَنَّهُ عِنْدَهُ كِتَابُ " كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ " وَفِيهِ الْكُفْرُ، وَهُوَ مُحَلَّى بِالْجَوَاهِرِ، وَالذَّهَبِ، فَاعْتَذَرَ أَنَّهُ وَرِثَهُ مِنْ آبَائِهِ، وَاتُّهِمَ بِأَنَّ الْأَعَاجِمَ يُكَاتِبُونَهُ فَتَقُولُ: إِلَى إِلَهِ الْآلِهَةِ مِنْ عَبِيدِهِ، وَأَنَّهُ يُقِرُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَجَعَلَ يَعْتَذِرُ بِأَنَّهُ أَجْرَاهُمْ عَلَى مَا كَانُوا يُكَاتِبُونَ بِهِ آبَاءَهُ وَأَجْدَادَهُ وَخَافَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِتَرْكِ ذَلِكَ فَيَتَّضِعَ عِنْدَهُمْ. فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: وَيْحَكَ، فَمَاذَا أَبْقَيْتَ لِفِرْعَوْنَ حِينَ قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ؟ وَأَنَّهُ كَانَ يُكَاتِبُ الْمَازَيَارَ بِأَنْ يَخْرُجَ عَنِ الطَّاعَةِ، وَأَنَّهُ فِي ضِيقٍ حَتَّى يَنْصُرَ دِينَ الْمَجُوسِ الَّذِي كَانَ قَدِيمًا، وَيُظْهِرَهُ عَلَى دِينِ الْعَرَبِ وَالْمَغَارِبَةِ وَالْأَتْرَاكِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَسْتَطِيبُ الْمُنْخَنِقَةَ عَلَى الْمَذْبُوحَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي كُلِّ يَوْمِ أَرْبِعَاءَ يَسْتَدْعِي بِشَاةٍ سَوْدَاءَ، فَيَضْرِبُهَا بِالسَّيْفِ نِصْفَيْنِ، وَيَمْشِي بَيْنَهُمَا ثُمَّ يَأْكُلُهُمَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ الْمُعْتَصِمُ بُغَا الْكَبِيرَ أَنْ يَسْجُنَهُ مُهَانًا ذَلِيلًا، فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنِّي كُنْتُ أَتَوَقَّعُ مِنْكُمْ ذَلِكَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ الْحَسَنَ بْنَ
الْأَفْشِينِ وَزَوْجَتَهُ أُتْرُجَّةَ بِنْتَ أَشْنَاسَ إِلَى سَامَرَّا. وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ.
وَسَعْدَوَيْهِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ الْبِيكَنْدِيُّ، شَيْخُ الْبُخَارِيِّ.
وَأَبُو عُمَرَ الْجَرْمِيُّ.
وَأَبُو عُمَرَ الْحَوْضِيُّ.
وَأَبُو دُلَفٍ الْعِجْلِيُّ التَّمِيمِيُّ الْأَمِيرُ.
أَحَدُ الْأَجْوَادِ.
وَسَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ الْأَوْسَطُ الْبَلْخِيُّ
ثُمَّ الْبَصْرِيُّ
النَّحْوِيُّ.
أَخَذَ النَّحْوَ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَصَنَّفَ كُتُبًا كَثِيرَةً؛ مِنْهَا كِتَابٌ
فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَكِتَابُ " الْأَوْسَطِ " فِي النَّحْوِ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَهُ كِتَابٌ فِي الْعَرُوضِ زَادَ فِيهِ بَحْرَ الْخَبَبِ
عَلَى الْخَلِيلِ.
وَسُمِّيَ الْأَخْفَشُ لِصِغَرِ عَيْنَيْهِ وَضَعْفِ بَصَرِهِ، وَكَانَ أَيْضًا
أَجْلَعَ، وَهُوَ الَّذِي لَا تَنْضَمُّ شَفَتَاهُ عَلَى أَسْنَانِهِ، كَانَ أَوَّلًا
يُقَالُ لَهُ: الْأَخْفَشُ الصَّغِيرُ. بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَخْفَشِ
الْكَبِيرِ أَبِي الْخَطَّابِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ
الْهَجَرِيِّ، شَيْخِ سِيبَوَيْهِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، فَلَمَّا ظَهَرَ عَلِيُّ
بْنُ سُلَيْمَانَ وَلُقِّبَ بِالْأَخْفَشِ أَيْضًا صَارَ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ
هُوَ الْأَوْسَطُ، وَالْهَجَرِيُّ الْأَكْبَرُ، وَعَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ
الْأَصْغَرُ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ.
الْجَرْمِيُّ النَّحْوِيُّ
وَهُوَ صَالِحُ بْنُ إِسْحَاقَ الْبَصْرِيُّ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَنَاظَرَ بِهَا
الْفَرَّاءَ وَكَانَ قَدْ أَخَذَ
النَّحْوَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَأَبِي زَيْدٍ، وَالْأَصْمَعِيِّ، وَصَنَّفَ كُتُبًا مِنْهَا: " الْفَرْخُ " يَعْنِي فَرْخَ " كِتَابِ سِيبَوَيْهِ " " وَكَانَ فَقِيهًا فَاضِلًا نَحْوِيًّا بَارِعًا عَالِمًا بِاللُّغَةِ حَافِظًا لَهَا، دَيِّنًا وَرِعًا، حَسَنَ الْمَذْهَبِ، صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ، وَرَوَى الْحَدِيثَ. قَالَهُ كُلَّهُ ابْنُ خِلِّكَانَ، وَرَوَى عَنْهُ الْمُبَرِّدُ وَذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي " " تَارِيخِ أَصْبَهَانَ " ".
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي شَعْبَانَ مِنْهَا تُوُفِّيَ الْأَفْشِينُ فِي الْحَبْسِ، فَأَمَرَ بِهِ
الْمُعْتَصِمُ، فَصُلِبَ، ثُمَّ أُحْرِقَ، وَذُرِّيَ رَمَادُهُ فِي دِجْلَةَ،
وَاحْتِيطَ عَلَى أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، فَوَجَدُوا فِيهَا أَصْنَامًا
مُكَلَّلَةً بِذَهَبٍ وَجَوَاهِرَ، وَكُتُبًا فِي فَضْلِ دِينِ الْمَجُوسِ،
وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةً كَانَ يُتَّهَمُ بِهَا، تَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِ
وَزَنْدَقَتِهِ، وَيَتَحَقَّقُ بِسَبَبِهَا مَا ذُكِرَ عَنْهُ مِنَ الِانْتِمَاءِ
إِلَى دِينِ آبَائِهِ الْمَجُوسِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنْ سَادَاتِ الْمُحَدِّثِينَ:
إِسْحَاقُ الْفَرَوِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ،
وَسُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ، وَغَسَّانُ بْنُ الرَّبِيعِ،
وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، شَيْخُ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ.
وَأَبُو دُلَفٍ الْعِجْلِيُّ الْقَاسِمُ بْنُ عِيسَى بْنِ إِدْرِيسَ بْنِ مَعْقِلِ
بْنِ عُمَيْرِ بْنِ شَيْخِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ خُزَاعِيِّ بْنِ عَبْدِ
الْعُزَّى بْنِ دُلَفِ بْنِ جُشَمِ بْنِ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عِجْلِ بْنِ
لُجَيْمٍ، الْأَمِيرُ أَبُو دُلَفٍ الْعِجْلِيُّ أَحَدُ قُوَّادِ الْمَأْمُونِ
وَالْمُعْتَصِمِ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا
صَاحِبُ كِتَابِ " الْإِكْمَالِ ".
وَكَانَ الْقَاضِي جَلَالُ الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ خَطِيبُ دِمَشْقَ يَزْعُمُ
أَنَّهُ مِنْ سُلَالَتِهِ، وَيَذْكُرُ نَسَبَهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو دُلَفٍ
هَذَا كِرِيمًا جَوَادًا مِعْطَاءً مُمَدَّحًا، قَدْ قَصَدَهُ الشُّعَرَاءُ مَنْ
كُلِّ أَوْبٍ، وَكَانَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَغْشَاهُ
وَيَسْتَمْنِحُ نَدَاهُ، وَكَانَتْ لَدَيْهِ فَضِيلَةٌ فِي الْأَدَبِ وَالْغِنَاءِ،
وَصَنَّفَ كُتُبًا؛ مِنْهَا
" سِيَاسَةُ الْمُلُوكِ "، وَمِنْهَا فِي " الصَّيْدِ
وَالْبُزَاةِ "، وَفِي " السِّلَاحِ "، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا
أَحْسَنَ مَا قَالَ فِيهِ بَكْرُ بْنُ النَّطَّاحِ الشَّاعِرُ:
يَا طَالَبًا لِلْكِيمْيَاءِ وَعِلْمِهِ مَدْحُ ابْنُ عِيسَى الْكِيمْيَاءُ
الْأَعْظَمُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا دِرْهَمٌ
وَمَدَحْتَهُ لَأَتَاكَ ذَاكَ الدِّرْهَمُ
فَيُقَالُ: إِنَّهُ أَعْطَاهُ عَلَى ذَلِكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ. وَكَانَ
شُجَاعًا فَاتِكًا، وَمِعْطَاءً لَا يَمَلُّ مِنَ الْعَطَاءِ، وَكَانَ يَسْتَدِينُ
عَلَى ذِمَّتِهِ وَيُعْطِي، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ شَرَعَ فِي بِنَاءِ مَدِينَةِ
الْكَرَجِ، فَمَاتَ وَلَمْ يُتِمَّهَا، فَأَتَمَّهَا أَبُو دُلَفٍ هَذَا، وَكَانَ
فِيهِ تَشَيُّعٌ، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مُغَالِيًا فِي التَّشَيُّعِ،
فَهُوَ وَلَدُ زِنَا. فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ دُلَفٌ: لَسْتُ عَلَى مَذْهَبِكُ يَا
أَبَهْ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ وَطِئْتُ أُمَّكَ قَبْلَ أَنْ أَسْتَبْرِئَهَا،
فَهَذَا مِنْ ذَاكَ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّ وَلَدَهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ
بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ أَنَّ آتِيًا أَتَاهُ، فَقَالَ: أَجِبِ الْأَمِيرَ. قَالَ:
فَقُمْتُ مَعَهُ فَأَدْخَلَنِي دَارًا وَحْشَةً وَعْرَةً سَوْدَاءَ الْحِيطَانِ
مُقَلَّعَةَ السُّقُوفِ، وَالْأَبْوَابِ، وَأَصْعَدَنِي فِي دَرَجٍ مِنْهَا ثُمَّ
أَدْخَلَنِي غُرْفَةً فِي حِيطَانِهَا أَثَرُ النِّيرَانِ، وَفِي أَرْضِهَا أَثَرُ
الرَّمَادِ، وَإِذَا بِأَبِي فِيهَا وَهُوَ عُرْيَانٌ وَاضِعٌ رَأْسَهُ بَيْنَ
رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ لِي كَالْمُسْتَفْهِمِ: دُلَفٌ ؟ فَقُلْتُ: دُلَفٌ.
فَأَنْشَأَ
يَقُولُ:
أَبْلِغَنْ أَهْلَنَا وَلَا تُخْفِ عَنْهُمْ مَا لَقِينَا فِي الْبَرْزَخِ
الْخَنَّاقِ
قَدْ سُئِلْنَا عَنْ كُلِّ مَا قَدْ فَعَلْنَا فَارْحَمُوا وَحْشَتِي وَمَا قَدْ
أُلَاقِي
ثُمَّ قَالَ: أَفَهِمْتَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. ثُمَّ:
فَلَوْ أَنَّا إِذَا مِتْنَا تُرِكْنَا لَكَانَ الْمَوْتُ رَاحَةَ كُلِّ حَيِّ
وَلَكِنَّا إِذَا مِتْنَا بُعِثْنَا وَنُسْأَلُ بَعْدَهُ عَنْ كُلِّ شَيِّ
ثُمَّ قَالَ: أَفَهِمْتَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. وَانْتَبَهْتُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْغَوْرِ بِالشَّامِ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو
حَرْبٍ الْمُبَرْقَعُ الْيَمَانِيُّ. فَخَلَعَ الطَّاعَةَ، وَدَعَا إِلَى
نَفْسِهِ، وَكَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْجُنْدِ أَرَادَ أَنْ
يَنْزِلَ فِي مَنْزِلِهِ وَذَلِكَ فِي غَيْبَةِ أَبِي حَرْبٍ، فَمَانَعَتْهُ
الْمَرْأَةُ، فَضَرَبَهَا الْجُنْدِيُّ فِي يَدِهَا فَأَثَّرَتِ الضَّرْبَةُ فِي
مِعْصَمِهَا، فَلَمَّا جَاءَ بَعْلُهَا أَبُو حَرْبٍ أَخْبَرَتْهُ، فَذَهَبَ إِلَى
الْجُنْدِيِّ وَهُوَ غَافِلٌ فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ تَحَصَّنَ فِي رُءُوسِ
الْجِبَالِ وَهُوَ مُبَرْقَعٌ، فَإِذَا جَاءَهُ أَحَدٌ دَعَاهُ إِلَى الْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَذُمُّ مِنَ السُّلْطَانِ،
فَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْحَرَّاثِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالُوا: هَذَا
هُوَ السُّفْيَانِيُّ الْمَذْكُورُ أَنَّهُ يَمْلِكُ الشَّامَ. وَاسْتَفْحَلَ
أَمْرُهُ جِدًّا، وَاتَّبَعَهُ نَحْوٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَنَفَّذَ
إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَصِمُ وَهُوَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ جَيْشًا نَحْوًا
مِنْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ الْأَمِيرُ وَجَدَ أُمَّةً كَثِيرَةً قَدِ
اجْتَمَعُوا حَوْلَهُ فَخَشِيَ أَنْ يُنَاجِزَهُ،
وَالْحَالَةُ هَذِهِ فَانْتَظَرَ حَتَّى جَاءَ وَقْتُ حَرْثِ الْأَرَاضِي،
فَتَصَرَّمَ عَنْهُ النَّاسُ إِلَى أَرَاضِيهِمْ، وَبَقِيَ فِي شِرْذِمَةٍ
قَلِيلَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَنَاهَضَهُ، فَأَسَرَهُ جَيْشُ الْخَلِيفَةِ
وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَحَمَلَهُ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ وَهُوَ رَجَاءُ
بْنُ أَيُّوبَ حَتَّى قَدِمَ بِهِ عَلَى الْمُعْتَصِمِ، فَلَامَهُ الْمُعْتَصِمُ
فِي تَأَخُّرِهِ عَنْ مُنَاجَزَتِهِ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الشَّامَ فَاعْتَذَرَ
بِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَلَمْ يَزَلْ
يُطَاوِلُهُ حَتَّى أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُ. فَشَكَرَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ
ذَكَرَ قِصَّتَهُ مَبْسُوطَةً الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنَ
الْكُنَى.
ذِكْرُ وَفَاةِ الْمُعْتَصِمِ
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِسَاعَتَيْنِ مَضَتَا مِنْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَفَاةُ أَبِي إِسْحَاقَ
مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ بِاللَّهِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ الْمَهْدِيِّ
بْنِ الْمَنْصُورِ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَصِمِ
هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، أَبُو إِسْحَاقَ مُحَمَّدٌ الْمُعْتَصِمُ ابْنُ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدِ ابْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدٍ بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ
اللَّهِ الْمَنْصُورِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْعَبَّاسِ، يُقَالُ لَهُ: الْمُثَمَّنُ. لِوُجُوهٍ؛ مِنْهَا أَنَّهُ ثَامِنُ
وَلَدِ الْعَبَّاسِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ ثَامِنُ الْخُلَفَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ،
وَمِنْهَا أَنَّهُ فَتَحَ ثَمَانِيَ فُتُوحَاتٍ؛ بِلَادَ بَابَكَ عَلَى يَدِ
الْأَفْشِينِ وَعَمُّورِيَةَ بِنَفْسِهِ، وَالزُّطَّ بِعُجَيْفٍ، وَبَحْرَ
الْبَصْرَةِ وَقَلْعَةَ الْأَجْرَافِ، وَأَعْرَابَ دِيَارِ رَبِيعَةَ،
وَالشَّارَكَ، وَفَتَحَ مِصْرَ بَعْدَ عِصْيَانِهَا، وَقَتَلَ ثَمَانِيَةَ
أَعْدَاءٍ: بَابَكَ، وَمَازَايَارَ، وَيَاطَسَ الرُّومِيَّ، وَالْأَفْشِينَ،
وَعُجَيْفًا، وَقَارَنَ، وَقَائِدَ الرَّافِضَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ أَقَامَ فِي
الْخِلَافَةِ ثَمَانِيَ سِنِينَ، وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ.
وَقِيلَ: وَيَوْمَيْنِ. وَأَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ فِي
شَعْبَانَ، وَهُوَ الشَّهْرُ الثَّامِنُ، وَأَنَّهُ تُوُفِّيَ وَلَهُ مِنْ
الْعُمُرِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَمِنْهَا أَنَّهُ خَلَّفَ
ثَمَانِيَةَ بَنِينَ وَثَمَانِيَ بَنَاتٍ، وَمِنْهَا أَنَّهُ دَخَلَ بَغْدَادَ مِنَ
الشَّامِ وَهُوَ خَلِيفَةٌ فِي مُسْتَهَلِّ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ،
وَمِائَتَيْنِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ مِنَ السَّنَةِ، بَعْدَ
مَوْتِ أَخِيهِ الْمَأْمُونِ بِطَرَسُوسَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالُوا: وَكَانَ أُمِّيًّا لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ
أَنَّهُ كَانَ يَتَرَدَّدُ مَعَهُ إِلَى الْكُتَّابِ غُلَامٌ، فَمَاتَ الْغُلَامُ،
فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ الرَّشِيدُ: مَا فَعَلَ غُلَامُكَ ؟ قَالَ: مَاتَ
وَاسْتَرَاحَ مِنَ الْكُتَّابِ. فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ الرَّشِيدُ: وَقَدْ بَلَغَ
مِنْكَ كَرَاهَةُ الْكُتَّابِ إِلَى أَنْ تَجْعَلَ الْمَوْتَ رَاحَةً مِنْهُ ؟
وَاللَّهِ يَا بُنَيَّ لَا تَذْهَبُ إِلَى الْكُتَّابِ بَعْدَهَا. فَتَرَكُوهُ
فَكَانَ أُمِّيًّا، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ يَكْتُبُ كِتَابَةً ضَعِيفَةً.
وَقَدْ أَسْنَدَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ آبَائِهِ
حَدِيثَيْنِ مُنْكَرَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا فِي ذَمِّ بَنِي أُمَيَّةَ، وَمَدْحِ بَنِي
الْعَبَّاسِ مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَالثَّانِي فِي النَّهْيِ عَنِ الْحِجَامَةِ
يَوْمَ الْخَمِيسِ.
وَذَكَرَ بِسَنَدِهِ عَنِ الْمُعْتَصِمِ أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ كَتَبَ إِلَيْهِ
كِتَابًا يَتَهَدَّدُهُ فِيهِ،
فَقَالَ لِلْكَاتِبِ: اكْتُبْ: قَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ، وَسَمِعْتُ
خِطَابَكَ، وَالْجَوَابُ مَا تَرَى لَا مَا تَسْمَعُ، " وَسَيَعْلَمُ
الْكَافِرُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ".
قَالَ الْخَطِيبُ: غَزَا الْمُعْتَصِمُ بِلَادَ الرُّومِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ
وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَأَنْكَى نِكَايَةً عَظِيمَةً فِي الْعَدُوِّ،
وَنَصَبَ عَلَى عَمُّورِيَةَ الْمَجَانِيقَ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا حَتَّى فَتَحَهَا
وَدَخَلَهَا فَقَتَلَ فِيهَا ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَسَبَى مِثْلَهُمْ، وَكَانَ فِي
سَبْيِهِ سِتُّونَ بِطْرِيقًا، وَطَرَحَ النَّارَ فِي عَمُّورِيَةَ مِنْ سَائِرِ
نَوَاحِيهَا فَأَحْرَقَهَا وَجَاءَ بِبَابِهَا إِلَى الْعِرَاقِ وَهُوَ بَاقٍ
حَتَّى الْآنَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَحَدِ أَبْوَابِ دَارِ الْخِلَافَةِ مِمَّا يَلِي
الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ فِي الْقَصْرِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دَاوُدَ الْقَاضِي، أَنَّهُ قَالَ: رُبَّمَا
أَخْرَجَ الْمُعْتَصِمُ سَاعِدَهُ إِلَيَّ، وَقَالَ لِي: عَضَّ يَا أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ بِكُلِّ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ. فَأَقُولُ: إِنَّهُ لَا تَطِيبُ نَفْسِي
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَيَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَضُرُّنِي. فَأَكْدُمُ
بِكُلِّ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ فَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي يَدِهِ.
قَالَ: وَمَرَّ يَوْمًا فِي خِلَافَةِ أَخِيهِ بِمُخَيَّمِ الْجُنْدِ، فَإِذَا
امْرَأَةٌ تَقُولُ: ابْنِي ابْنِي.
فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ ؟ فَقَالَتْ: ابْنِي أَخَذَهُ صَاحِبُ هَذِهِ
الْخَيْمَةِ. فَجَاءَ إِلَيْهِ الْمُعْتَصِمُ، فَقَالَ لَهُ: أَطْلِقْ هَذَا
الصَّبِيَّ. فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ، فَقَبَضَ عَلَى جَسَدِهِ بِيَدِهِ، فَسُمِعَ
صَوْتُ عِظَامِهِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ فَسَقَطَ مَيِّتًا،
وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِ الصَّبِيِّ إِلَى أُمِّهِ
وَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ كَانَ شَهْمًا فِي أَيَّامِهِ وَلَهُ هِمَّةٌ
عَالِيَةٌ، وَمَهَابَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَتْ هِمَّتُهُ
فِي الْحَرْبِ، لَا فِي الْبِنَاءِ، وَلَا فِي غَيْرِهِ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: تَصَدَّقَ الْمُعْتَصِمُ عَلَى
يَدَيَّ، وَوَهَبَ مَا قَيمَتُهُ مِائَةُ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: كَانَ الْمُعْتَصِمُ إِذَا غَضِبَ لَا يُبَالِي مَنْ قَتَلَ وَلَا مَا
فَعَلَ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَوْصِلِيُّ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى
الْمُعْتَصِمِ وَعِنْدَهُ قَيْنَةٌ لَهُ تُغَنِّيهِ، فَقَالَ لِي: كَيْفَ تَرَاهَا
؟ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَرَاهَا تَقْهَرُهُ بِحِذْقٍ،
وَتَخْتُلُهُ بِرِفْقٍ، وَلَا تَخْرُجُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا إِلَى أَحْسَنَ مِنْهُ،
وَفِي صَوْتِهَا قِطَعُ شُذُورٍ أَحْسَنُ مِنْ نَظْمِ الدُّرِّ عَلَى
النُّحُورِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَصِفَتُكَ لَهَا أَحْسَنُ مِنْهَا وَمِنْ
غِنَائِهَا. ثُمَّ قَالَ لِابْنِهِ هَارُونَ الْوَاثِقِ، وَلِيِّ عَهْدِهِ مِنْ
بَعْدِهِ: اسْمَعْ هَذَا الْكَلَامَ.
وَقَدِ اسْتَخْدَمَ الْمُعْتَصِمُ مِنَ الْأَتْرَاكِ خَلْقًا عَظِيمًا كَانَ لَهُ
مِنَ الْمَمَالِيكِ التُّرْكِ قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَتَمَّ لَهُ مِنْ
آلَاتِ الْحَرْبِ وَالدَّوَابِّ مَا لَمْ يَتَّفِقْ لِغَيْرِهِ. وَلَمَّا
حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَعَلَ يَقُولُ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا
أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [ الْأَنْعَامِ: 44 ] وَقَالَ:
لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ عُمْرِي قَصِيرٌ مَا فَعَلْتُ مَا فَعَلْتُ، وَقَالَ: إِنِّي
أُخِذْتُ مِنْ بَيْنِ هَذَا الْخَلْقِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: ذَهَبَتِ الْحِيَلُ،
لَيْسَتْ حِيلَةٌ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَخَافُكَ
مِنْ قِبَلِي، وَلَا أَخَافُكَ مِنْ قِبَلِكَ، وَأَرْجُوكَ مِنْ قِبَلِكَ، وَلَا
أَرْجُوكَ مِنْ قِبَلِي.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِسُرَّ مَنْ رَأَى فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ضَحًى لِتِسْعَ
عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ
مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ سَبْعٍ
وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِعَشَرٍ
خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَوَلِيَ الْخِلَافَةَ فِي
رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. وَكَانَ الْمُعْتَصِمُ أَبْيَضَ،
أَصْهَبَ اللِّحْيَةِ طَوِيلَهَا، مَرْبُوعًا، وَمُشْرَبَ اللَّوْنِ، أُمُّهُ
أُمُّ وَلَدٍ اسْمُهَا مَارِدَةُ وَهُوَ أَحَدُ أَوْلَادٍ سِتَّةٍ مِنْ أَوْلَادِ
الرَّشِيدِ، كُلٌّ مِنْهُمُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ؛ وَهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ
الْمُعْتَصِمُ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْأَمِينُ، وَأَبُو عِيسَى، وَأَبُو
أَحْمَدَ، وَأَبُو يَعْقُوبَ، وَأَبُو أَيُّوبَ، قَالَهُ هِشَامُ بْنُ
الْكَلْبِيِّ، وَقَدْ قَامَ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ هَارُونُ
الْوَاثِقُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ وَزِيرَهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ الزَّيَّاتِ رَثَاهُ فَقَالَ:
قَدْ قُلْتُ إِذْ غَيَّبُوكَ وَاصْطَفَقَتْ عَلَيْكَ أَيْدِي التُّرَابِ
وَالطِّينِ اذْهَبْ فَنِعْمَ الْحَفِيظُ كُنْتَ عَلَى الدُّ
نْيَا وَنِعْمَ الظَّهِيرُ لِلدِّينِ لَا جَبَرَ اللَّهُ أُمَّةً فَقَدَتْ
مِثْلَكَ إِلَّا بِمِثْلِ هَارُونِ
وَقَالَ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي الْجَنُوبِ وَهُوَ ابْنُ أَبِي حَفْصَةَ:
أَبُو إِسْحَاقَ مَاتَ ضُحًى فَمِتْنَا وَأَمْسَيْنَا بِهَارُونَ حَيِينَا
لَئِنْ جَاءَ الْخَمِيسُ بِمَا كَرِهْنَا لَقَدْ جَاءَ الْخَمِيسُ بِمَا هَوِينَا
خِلَافَةُ الْوَاثِقِ هَارُونَ بْنِ الْمُعْتَصِمِ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ قَبْلَ أَنْ مَاتَ أَبُوهُ الْمُعْتَصِمُ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، أَعَنِي سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَيُكَنَّى بِأَبِي
جَعْفَرٍ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ رُومِيَّةٌ، يُقَالُ لَهَا: قَرَاطِيسُ. وَقَدْ
خَرَجَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَاصِدَةً الْحَجَّ، فَمَاتَتْ بِالْحِيرَةِ،
وَدُفِنَتْ بِالْكُوفَةِ فِي دَارِ دَاوُدَ بْنِ عِيسَى، وَذَلِكَ لِأَرْبَعٍ
خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ الَّذِي أَقَامَ
لِلنَّاسِ الْحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَعْفَرُ بْنُ الْمُعْتَصِمِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْمَشَاهِيرِ:
مَلِكُ الرُّومِ تَوْفِيلُ بْنُ مِيخَائِيلَ.
وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً فَمَلَكَتْ بَعْدَهُ
امْرَأَتُهُ تُدُورَةُ، وَكَانَ ابْنُهَا مِيخَائِيلُ بْنُ تَوْفِيلَ صَغِيرًا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
بِشْرٌ الْحَافِي.
الزَّاهِدُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَطَاءِ بْنِ هِلَالِ بْنِ مَاهَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيُّ أَبُو
نَصْرٍ الزَّاهِدُ الْمَعْرُوفُ بِالْحَافِي نَزِيلُ بَغْدَادَ.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ وَكَانَ اسْمُ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بَعْبُورَ،
أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قُلْتُ: وَكَانَ مَوْلِدُهُ
بِبَغْدَادَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَسَمِعَ بِهَا شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ
حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَابْنِ مَهْدِيٍّ،
وَمَالِكٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَغَيْرِهِمْ.
وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ؛ مِنْهُمْ أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَسَرِيٌّ
السَّقَطِيُّ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: سَمِعَ بِشْرٌ كَثِيرًا، ثُمَّ اشْتَغَلَ
بِالْعِبَادَةِ، وَاعْتَزَلَ النَّاسَ وَلَمْ يُحَدِّثْ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ
غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي عِبَادَتِهِ وَزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ
وَنُسُكِهِ وَتَقَشُّفِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَوْمَ بَلَغَهُ مَوْتُهُ: لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِيرٌ
إِلَّا عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ، وَلَوْ تَزَوَّجَ لَكَانَ قَدْ تَمَّ
أَمْرُهُ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ مَا أَخْرَجَتْ بَغْدَادُ أَتَمَّ
عَقْلًا، وَلَا أَحْفَظَ لِلِسَانِهِ مِنْهُ، مَا عُرِفَ لَهُ غِيبَةٌ لِمُسْلِمٍ،
وَكَانَ فِي كُلِّ شَعْرَةٍ مِنْهُ عَقْلٌ، وَلَوْ قُسِّمَ عَقْلُهُ عَلَى أَهْلِ
بَغْدَادَ لَصَارُوا عُقَلَاءَ، وَمَا نَقَصَ مِنْ عَقْلِهِ شَيْءٌ.
وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ: أَنَّ بِشْرًا كَانَ شَاطِرًا فِي بَدْءِ أَمْرِهِ،
وَأَنَّ سَبَبَ تَوْبَتِهِ أَنَّهُ وَجَدَ رُقْعَةً فِيهَا اسْمُ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ فِي أَتُونِ حَمَّامٍ فَرَفَعَهَا وَرَفَعَ طَرَفَهُ إِلَى السَّمَاءِ
وَقَالَ: سَيِّدِي اسْمُكَ هَاهُنَا مُلْقًى يُدَاسُ! ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى عَطَّارٍ
فَاشْتَرَى بِدِرْهَمٍ غَالِيَةً وَضَمَّخَ تِلْكَ الرُّقْعَةَ مِنْهَا،
وَوَضَعَهَا حَيْثُ لَا تُنَالُ فَأَحْيَا اللَّهُ قَلْبَهُ، وَأَلْهَمَهُ
رُشْدَهُ، وَصَارَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ.
وَمِنْ كَلَامِهِ: مَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا فَلْيَتَهَيَّأْ لِلذُّلِّ. وَكَانَ
بِشْرٌ يَأْكُلُ الْخُبْزَ وَحْدَهُ فَقِيلَ لَهُ: بِمَاذَا تَأْتَدِمُ ؟ فَقَالَ:
أَذْكُرُ الْعَافِيَةَ فَأَجْعَلُهَا أُدْمًا. وَكَانَ لَا يَلْبَسُ نَعْلًا بَلْ
يَمْشِي حَافِيًا، طَرَقَ يَوْمًا بَابًا، فَقِيلَ: مَنْ ؟ فَقَالَ بِشْرٌ
الْحَافِي فَقَالَتْ جَارِيَةٌ صَغِيرَةٌ: أَمَا وَجَدَ هَذَا دَانِقَيْنِ
يَشْتَرِي بِهِمَا نَعْلًا وَيَسْتَرِيحُ مِنْ هَذَا الِاسْمِ. قَالُوا: وَكَانَ
سَبَبُ تَرْكِهِ النَّعْلَ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى حَذَّاءٍ، فَطَلَبَ مِنْهُ
شِرَاكًا لِنَعْلِهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَكْثَرَ كُلْفَتَكُمْ عَلَى النَّاسِ !
فَطَرَحَ النَّعْلَ مِنْ يَدِهِ، وَخَلَعَ الْأُخْرَى مِنْ رِجْلِهِ وَحَلَفَ لَا
يَلْبَسُ نَعْلًا أَبَدًا.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ. وَقِيلَ فِي
رَمَضَانَ
بِبَغْدَادَ. وَقِيلَ: بِمَرْوَ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سِتٍّ وَعِشْرِينَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحِينَ مَاتَ اجْتَمَعَ فِي جِنَازَتِهِ أَهْلُ بَغْدَادَ عَنْ بَكْرَةِ
أَبِيهِمْ، فَأُخْرِجَ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ فِي
قَبْرِهِ إِلَّا بَعْدَ الْعَتَمَةِ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ،
وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ يَصِيحُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ فِي الْجِنَازَةِ:
هَذَا وَاللَّهِ شَرَفُ الدُّنْيَا قَبْلَ شَرَفِ الْآخِرَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ
الْجِنَّ كَانَتْ تَنُوحُ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ الَّذِي كَانَ يَسْكُنُ فِيهِ،
وَأَنَّهُ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ
؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي، وَلِكُلِّ مَنْ شَهِدَ جِنَازَتِي، وَلِكُلِّ مَنْ
أَحَبَّنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَخَوَاتٌ ثَلَاثٌ؛
وَهُنَّ مَخَّةُ، وَمُضْغَةُ، وَزُبْدَةُ، وَكُلُّهُنَّ عَابِدَاتٌ زَاهِدَاتٌ
مِثْلَهُ، وَأَشَدُّ وَرَعًا أَيْضًا. ذَهَبَتْ إِحْدَاهُنَّ فَاسْتَأْذَنَتْ
عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالَتْ: إِنِّي رُبَّمَا
طَفِئَ السِّرَاجُ وَأَنَا أَغْزِلُ، فَإِذَا كَانَ ضَوْءُ الْقَمَرِ غَزَلْتُ
فِيهِ فَعَلَيَّ
عِنْدَ الْبَيْعِ أَنْ أُمَيِّزَ هَذَا مِنْ هَذَا ؟ فَقَالَ لَهَا: إِنْ
كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَأَعْلِمِي بِهِ الْمُشْتَرِي، وَقَالَتْ لَهُ مَرَّةً
إِحْدَاهُنَّ: رُبَّمَا تَمُرُّ بِنَا مَشَاعِلُ بَنِي طَاهِرٍ فِي اللَّيْلِ
وَنَحْنُ نَغْزِلُ فَنَغْزِلُ الطَّاقَ وَالطَّاقَيْنِ وَالطَّاقَاتِ،
فَخَلِّصْنِي مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ الْغَزْلِ
كُلِّهِ لِمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهَا مِنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ.
وَسَأَلَتْهُ عَنْ أَنِينِ الْمَرِيضِ أَفِيهِ شَكْوَى ؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا
هُوَ شَكْوَى إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ خَرَجَتْ. فَقَالَ لِابْنِهِ
عَبْدِ اللَّهِ: يَا بُنَيَّ اذْهَبْ خَلْفَهَا فَاعْلَمْ لِي مَنْ هَذِهِ
الْمَرْأَةُ ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَذَهَبْتُ وَرَاءَهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ
دَخَلَتْ دَارَ بِشْرٍ الْحَافِي وَإِذَا هِيَ أُخْتُهُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَيْضًا عَنْ زُبْدَةَ قَالَتْ: جَاءَ
لَيْلَةً أَخِي بِشْرٌ، فَدَخَلَ بِرِجْلِهِ فِي الدَّارِ، وَبَقِيَتِ الْأُخْرَى
خَارِجَ الدَّارِ، فَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ لَيْلَتَهُ حَتَّى أَصْبَحَ، فَقِيلَ
لَهُ: فِيمَ تَفَكَّرْتَ لَيْلَتَكَ ؟ قَالَ: تَفَكَّرْتُ فِي بِشْرٍ
النَّصْرَانِيِّ، وَبِشْرٍ الْيَهُودِيِّ، وَبِشْرٍ الْمَجُوسِيِّ، وَفِي نَفْسِي
وَاسْمِي بِشْرٌ فَقُلْتُ: مَا الَّذِي سَبَقَ مِنْكَ حَتَّى خَصَّكَ
بِالْإِسْلَامِ مِنْ بَيْنِهِمْ ؟ فَتَفَكَّرْتُ فِي تَفَضُّلِهِ
عَلَيَّ، وَحَمِدْتُهُ عَلَى أَنْ جَعَلَنِي مِنْ خَاصَّتِهِ، وَأَلْبَسَنِي
لِبَاسَ أَحْبَابِهِ.
وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فَأَطْنَبَ وَأَطْيَبَ وَأَطَالَ
مِنْ غَيْرِ مَلَالٍ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَشْعَارًا حَسَنَةً،
وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
تَعَافُ الْقَذَى فِي الْمَاءِ لَا تَسْتَطِيعُهُ وَتَكْرَعُ مِنْ حَوْضِ
الذُّنُوبِ فَتَشْرَبُ وَتُؤْثِرُ مِنْ أَكْلِ الطَّعَامِ أَلَذَّهُ
وَلَا تَذْكُرُ الْمُخْتَارَ مِنْ أَيْنَ يَكْسِبُ وَتَرْقُدُ يَا مِسْكِينُ
فَوْقَ نَمَارِقٍ
وَفِي حَشْوِهَا نَارٌ عَلَيْكَ تَلَهَّبُ فَحَتَّى مَتَى لَا تَسْتَفِيقُ
جَهَالَةً
وَأَنْتَ ابْنُ سَبْعِينَ بِدِينِكَ تَلْعَبُ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ الْيَرْبُوعِيُّ.
وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْبَجَلِيُّ.
وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ.
صَاحِبُ السُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِي
مِثْلِهَا إِلَّا الْقَلِيلُ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ الدُّولَابِيُّ.
وَلَهُ سُنَنٌ أَيْضًا.
وَأَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ.
وَأَبُو الْهُذَيْلِ الْعَلَّافُ الْمُتَكَلِّمُ الْمُعْتَزِلِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي رَمَضَانَ مِنْهَا خَلَعَ الْخَلِيفَةُ الْوَاثِقُ عَلَى أَشْنَاسَ الْأَمِيرِ
وَتَوَجَّهَ وَأَلْبَسَهُ وِشَاحَيْنِ مِنْ جَوْهَرٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الْأَمِيرُ.
وَغَلَا السِّعْرُ عَلَى النَّاسِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ جِدًّا، وَأَصَابَهُمْ
حَرٌّ شَدِيدٌ، وَهُمْ بِعَرَفَةَ ثُمَّ بَرْدٌ شَدِيدٌ، وَمَطَرٌ عَظِيمٌ فِي
سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَنَزَلَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ بِمِنًى مَطَرٌ لَمْ يُرَ
مِثْلُهُ، وَسَقَطَتْ قِطْعَةٌ مِنَ الْجَبَلِ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ
فَقَتَلَتْ جَمَاعَةً مِنَ الْحُجَّاجِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ فِي مَنْزِلِ
إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَوْصِلِيِّ، وَحَبِيبُ بْنُ أَوْسٍ الطَّائِيُّ
أَبُو تَمَّامٍ الشَّاعِرُ.
قُلْتُ: أُمَّا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ أَحَدُ
أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ، وَإِمَامُ الْأَخْبَارِيِّينَ فِي زَمَانِهِ،
فَتَقَدَّمَ ذِكْرُ وَفَاتِهِ قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ الشَّاعِرُ: صَاحِبُ الْحَمَاسَةِ الَّتِي
جَمَعَهَا فِي
فَصْلِ الشِّتَاءِ بِهَمَذَانَ فِي دَارِ وَزِيرِهَا، فَهُوَ حَبِيبُ بْنُ
أَوْسِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الْأَشَجِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ مُرَيْنَا
بْنِ سَهْمِ بْنِ خِلْجَانَ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ دَفَّافَةَ بْنِ مُرِّ بْنِ
سَعْدِ بْنِ كَاهِلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
طَيِّئٍ، وَهُوَ جُلْهُمَةُ بْنُ أُدَدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ عَرِيبِ بْنِ
زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ
أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ الشَّاعِرُ الْأَدِيبُ الْمَشْهُورُ.
وَنَقَلَ الْخَطِيبُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الصُّولِيِّ أَنَّهُ حَكَى عَنْ
بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَبُو تَمَّامٍ حَبِيبُ بْنُ تَدْرُسَ
النَّصْرَانِيِّ، فَسَمَّاهُ أَبُو تَمَّامٍ أَوْسًا بَدَلَ تَدْرُسَ. قَالَ ابْنُ
خِلِّكَانَ وَأَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةِ جَاسِمٍ مِنْ عَمَلِ الْجَيْدُورِ
بِالْقُرْبِ
مِنْ طَبَرِيَّةَ وَكَانَ بِدِمَشْقَ يَعْمَلُ عِنْدَ حَائِكٍ ثُمَّ سَارَ
إِلَى مِصْرَ فِي شَبِيبَتِهِ، وَابْنُ خِلِّكَانَ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ "
" تَارِيخِ الْحَافِظِ ابْنِ عَسَاكِرَ " "، وَقَدْ تَرْجَمَ أَبَا
تَمَّامٍ تَرْجَمَةً حَسَنَةً. وَقَالَ الْخَطِيبُ، الْبَغْدَادِيُّ وَهُوَ
شَامِيُّ الْأَصْلِ، وَكَانَ بِمِصْرَ فِي حَدَاثَتِهِ يَسْقِي الْمَاءَ فِي
الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ ثُمَّ جَالَسَ الْأُدَبَاءَ فَأَخَذَ عَنْهُمْ وَتَعَلَّمَ
مِنْهُمْ، وَكَانَ فَطِنًا فَهْمًا، وَكَانَ يُحِبُّ الشِّعْرَ، فَلَمْ يَزَلْ
يُعَانِيهِ حَتَّى قَالَ الشِّعْرَ فَأَجَادَ، وَشَاعَ ذِكْرُهُ، وَسَارَ شِعْرُهُ
وَبَلَغَ الْمُعْتَصِمَ خَبَرُهُ فَحَمَلَهُ إِلَيْهِ وَهُوَ بِسُرَّ مَنْ رَأَى
فَعَمِلَ فِيهِ قَصَائِدَ، فَأَجَازَهُ الْمُعْتَصِمُ وَقَدَّمَهُ عَلَى شُعَرَاءِ
وَقْتِهِ، فَقَدِمَ بَغْدَادَ فَجَالَسَ الْأُدَبَاءَ، وَعَاشَرَ الْعُلَمَاءَ،
وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالظُّرْفِ وَحُسْنِ الْأَخْلَاقِ وَكَرَمِ النَّفْسِ، وَقَدْ
رَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ وَغَيْرُهُ أَخْبَارًا مُسْنَدَةً.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: كَانَ يَحْفَظُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ أَلْفَ
أُرْجُوزَةٍ لِلْعَرَبِ غَيْرَ الْقَصَائِدِ وَالْمَقَاطِيعِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَكَانَ يُقَالُ: فِي طَيِّئٍ ثَلَاثَةٌ: حَاتِمٌ فِي كَرَمِهِ، وَدَاوُدُ
الطَّائِيُّ فِي زُهْدِهِ، وَأَبُو تَمَّامٍ فِي شِعْرِهِ، قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ
الشُّعَرَاءُ فِي زَمَانِهِ جَمَاعَةً؛ فَمِنْ مَشَاهِيرِهِمْ أَبُو الشِّيصِ
وَدِعْبِلُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ أَبِي قَيْسٍ، وَقَدْ كَانَ أَبُو تَمَّامٍ مِنْ
خِيَارِهِمْ دِينًا وَأَدَبًا وَأَخْلَاقًا. وَمِنْ رَقِيقِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
يَا حَلِيفَ النَّدَى وَيَا تَوْءَمَ الْجُو دِ وَيَا خَيْرَ مَنْ حَبَوْتُ
الْقَرِيضَا لَيْتَ حُمَّاكَ بِي وَكَانَ لَكَ الْأَجْ
رُ فَلَا تَشْتَكِي وَكُنْتُ الْمَرِيضَا
وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطِيبُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ أَنَّ
أَبَا تَمَّامٍ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَذَا
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ
إِحْدَى وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَوْصِلِ، وَبُنِيَتْ عَلَى قَبْرِهِ قُبَّةٌ، وَحَكَى
الصُّولِيُّ عَنِ الْوَزِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الزَّيَّاتِ
أَنَّهُ قَالَ يَرْثِيهِ:
نَبَأٌ أَتَى مِنْ أَعْظَمِ الْأَنْبَاءِ لَمَّا أَلَمَّ مُقَلْقَلَ الْأَحْشَاءِ
قَالُوا حَبِيبٌ قَدْ ثَوَى فَأَجَبْتُهُمْ نَاشَدْتُكُمْ لَا تَجْعَلُوهُ
الطَّائِي
وَقَالَ غَيْرُهُ:
فُجِعَ الْقَرِيضُ بِخَاتَمِ الشُّعَرَاءِ وَغَدِيرُ رَوْضَتِهَا حَبِيبٌ
الطَّائِي
مَاتَا مَعًا فَتَجَاوَرَا فِي حُفْرَةٍ وَكَذَاكَ كَانَا قَبْلُ فِي الْأَحْيَاءِ
وَقَدْ جَمَعَ الصُّولِيُّ شِعْرَ أَبِي تَمَّامٍ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ وَقَدِ امْتَدَحَ أَحْمَدَ بْنَ الْمُعْتَصِمِ -
وَيُقَالُ: ابْنَ الْمَأْمُونِ - بِقَصِيدَتِهِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
إِقْدَامُ عَمْرٍو فِي سَمَاحَةِ حَاتِمٍ فِي حِلْمِ أَحْنَفَ فِي ذَكَاءِ إِيَاسِ
فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: أَتَقُولُ هَذَا لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ،
وَهُوَ أَكْبَرُ قَدْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ. فَأَطْرَقَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ:
لَا تُنْكِرُوا ضَرْبِي لَهُ مَنْ دُونَهُ مَثَلًا شَرُودًا فِي النَّدَى
وَالْبَاسِ
فَاللَّهُ قَدْ ضَرَبَ الْأَقَلَّ لِنُورِهِ مَثَلًا مِنَ الْمِشْكَاةِ وَالنِّبْرَاسِ
فَلَمَّا أَخَذُوا مِنْهُ الْقَصِيدَةَ لَمْ يَجِدُوا فِيهَا هَذَيْنَ
الْبَيْتَيْنِ، وَإِنَّمَا قَالَهُمَا ارْتِجَالًا. قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَعِيشُ
هَذَا بَعْدَ هَذَا إِلَّا قَلِيلًا. فَكَانَ كَذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ
زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ امْتَدَحَ بِهَا بَعْضَ
الْخُلَفَاءِ، فَأَقْطَعَهُ الْمَوْصِلَ فَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا،
وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ، وَلَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ لَهِجَ بِهِ
بَعْضُ النَّاسِ كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ الْحَافِظُ
ابْنُ عَسَاكِرَ أَشْيَاءَ مُسْتَطْرَفَةً مِنْ شِعْرِهِ الرَّائِقِ وَنَظْمِهِ
الْفَائِقِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَلَوْ كَانَتِ الْأَرْزَاقُ تَجْرِي عَلَى الْحِجَا هَلَكْنَ إِذًا مِنْ
جَهْلِهِنَّ الْبَهَائِمُ
وَلَمْ يَجْتَمِعْ شَرْقٌ وَغَرْبٌ لِقَاصِدٍ وَلَا الْمَجْدُ فِي كَفِّ امْرِئٍ
وَالدَّرَاهِمُ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
وَمَا أَنَا بِالْغَيْرَانِ مِنْ دُونِ عِرْسِهِ إِذَا أَنَا لَمْ أُصْبِحْ
غَيُورًا عَلَى الْعِلْمِ
طَبِيبُ فُؤَادِي مُذْ ثَلَاثِينَ حِجَّةً وَمُذْهِبُ هَمِّي وَالْمُفَرِّجُ لِلْغَمِّ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، وَالْعَيْشِيُّ، وَأَبُو الْجَهْمِ، وَمُسَدَّدٌ،
وَدَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو الضَّبِّيُّ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ
الْحِمَّانِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ الْوَاثِقُ بِاللَّهِ بِضَرْبِ الدَّوَّاوِينِ،
وَاسْتِخْلَاصِ الْأَمْوَالِ مِنْهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ ضُرِبَ أَلْفَ سَوْطٍ،
وَمِنْهُمْ مَنْ أُخِذَ مِنْهُ أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَدُونَ ذَلِكَ، وَجَاهَرَ
الْوَزِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لِسَائِرِ وُلَاةِ الشُّرَطِ
بِالْعَدَاوَةِ فَكُشِفُوا، وَحُبِسُوا، وَلَقُوا جَهْدًا عَظِيمًا وَجَلَسَ
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ لِلنَّظَرِ فِي أَمْرِهِمْ، وَأُقِيمُوا لِلنَّاسِ،
وَافْتُضِحُوا فَضِيحَةً بَلِيغَةً، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْوَاثِقَ
جَلَسَ لَيْلَةً فِي دَارِ الْخِلَافَةِ فَسُمِرَ عِنْدَهُ، فَقَالَ: هَلْ
مِنْكُمْ أَحَدٌ يَعْرِفُ سَبَبَ عُقُوبَةِ جَدِّي الرَّشِيدِ لِلْبَرَامِكَةِ ؟
فَقَالَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَ سَبَبَ
ذَلِكَ أَنَّ الرَّشِيدَ عُرِضَتْ عَلَيْهِ جَارِيَةٌ، فَأَعْجَبَهُ جَمَالُهَا،
فَسَاوَمَ سَيِّدَهَا فِيهَا، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي
أَقْسَمْتُ بِكُلِّ يَمِينٍ أَنْ لَا
أَبِيعَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ
بِهَا، وَبَعَثَ إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ الْوَزِيرِ لِيَبْعَثَ بِهَا إِلَيْهِ
مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَاعْتَلَّ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِنْدَهُ فَأَرْسَلَ
الرَّشِيدُ يُؤَنِّبُهُ، وَيَقُولُ: أَلَيْسَ فِي بَيْتِ مَالِي مِائَةُ أَلْفِ
دِينَارٍ ؟ ! وَأَلَحَّ فِي طَلَبِهَا، فَقَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ:
أَرْسِلُوهَا إِلَيْهِ دَرَاهِمَ لِيَسْتَكْثِرَ ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ يَرُدُّ
الْجَارِيَةَ. فَبَعَثُوا بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ دَرَاهِمَ، وَوَضَعُوهَا فِي
طَرِيقِ الرَّشِيدِ، وَهُوَ خَارِجٌ إِلَى الصَّلَاةِ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِهَا
رَأَى كَوْمًا مِنْ دَرَاهِمَ. فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: ثَمَنُ
الْجَارِيَةِ. فَاسْتَكْثَرَ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِخَزْنِهَا عِنْدَ بَعْضِ خَدَمِهِ
فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، وَأَعْجَبَهُ جَمْعُ الْمَالِ فِي حَوَاصِلِهِ، ثُمَّ
شَرَعَ فِي تَتَبُّعِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَإِذَا الْبَرَامِكَةُ قَدِ
اسْتَهْلَكُوهُ، فَجَعَلَ يَهُمُّ بِأَخْذِهِمْ تَارَةً وَيُحْجِمُ أُخْرَى،
حَتَّى كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي سَمَرَ عِنْدِهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو
الْعُودِ. فَأَطْلَقَ لَهُ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَذَهَبَ إِلَى الْوَزِيرِ
يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، فَمَاطَلَهُ بِهَا مُدَّةً طَوِيلَةً،
فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي فِي السَّمَرِ عَرَّضَ أَبُو الْعُودِ فِي
ذَلِكَ لِلرَّشِيدِ بِقَوْلِ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
وَعَدَتْ هِنْدٌ وَمَا كَادَتْ تَعِدْ لَيْتَ هِنْدًا أَنْجَزَتْنَا مَا تَعِدْ
وَاسْتَبَدَّتْ مَرَّةً وَاحِدَةً
إِنَّمَا الْعَاجِزُ مَنْ لَا يَسْتَبِدْ
فَجَعَلَ الرَّشِيدُ يُكَرِّرُ قَوْلَهُ:
إِنَّمَا الْعَاجِزُ مَنْ لَا يَسْتَبِدْ
وَيُعْجِبُهُ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ دَخَلَ عَلَيْهِ يَحْيَى بْنُ
خَالِدٍ، فَأَنْشَدَهُ الرَّشِيدُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ، وَهُوَ
يَسْتَحْسِنُهُمَا فَفَهِمَ ذَلِكَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ، وَخَافَ، وَسَأَلَ عَنْ
مَنْ أَنْشَدَ ذَلِكَ لِلرَّشِيدِ ؟ فَقِيلَ لَهُ: أَبُو الْعُودِ. فَبَعَثَ
إِلَيْهِ فَأَنْجَزَ لَهُ الثَّلَاثِينَ أَلْفًا، وَأَعْطَاهُ مِنْ عِنْدِهِ
عِشْرِينَ أَلْفًا، وَكَذَلِكَ وَلَدَاهُ الْفَضْلُ، وَجَعْفَرٌ، فَمَا كَانَ عَنْ
قَرِيبٍ حَتَّى أَخَذَ الرَّشِيدُ الْبَرَامِكَةَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ
وَأَمْرِهِمْ مَا كَانَ.
فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْوَاثِقُ أَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَجَعَلَ يُكَرِّرُ قَوْلَ
الشَّاعِرِ:
إِنَّمَا الْعَاجِزُ مَنْ لَا يَسْتَبِدْ
ثُمَّ بَطَشَ بِالْكُتَّابِ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا
عَظِيمَةً جِدًّا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ، وَهُوَ أَمِيرُ
الْحَجِيجِ فِي السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ الْبَزَّارُ.
أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْقُرَّاءِ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيُّ.
وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ.
أَحَدُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْجَهْمِيَّةِ،
وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْمَشْهُورَةُ فِي الْفِتَنِ وَغَيْرِهَا.
وَدِينَارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ النُّسْخَةُ الْمَكْذُوبَةُ عَنْهُ أَوْ مِنْهُ، وَهِيَ
عَالِيَةُ الْإِسْنَادِ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي جُمَادَى مِنْهَا خَرَجَتْ بَنُو سُلَيْمٍ حَوْلَ الْمَدِينَةِ
النَّبَوِيَّةِ، فَعَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَأَخَافُوا السُّبُلَ،
وَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَهَزَمُوا أَهْلَهَا، وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى
مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَتِلْكَ الْمَنَاهِلِ وَالْقُرَى فَبَعَثَ
إِلَيْهِمُ الْوَاثِقُ بُغَا الْكَبِيرَ أَبَا مُوسَى التُّرْكِيَّ فِي جَيْشٍ،
فَقَاتَلَهُمْ فِي شَعْبَانَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَمْسِينَ فَارِسًا، وَأَسَرَ
مِثْلَهُمْ، وَانْهَزَمَ بَقِيَّتُهُمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْأَمَانِ، وَأَنْ
يَكُونُوا عَلَى حُكْمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ
خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَدَخَلَ بِهِمُ الْمَدِينَةَ وَسَجَنَ رُءُوسَهُمْ فِي دَارِ
يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَخَرَجَ إِلَى الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَشَهِدَ
مَعَهُ الْمَوْسِمَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ، نَائِبُ
الْعِرَاقِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الْمُتَقَدِّمُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ نَائِبُ خُرَاسَانَ وَمَا وَالَاهَا
مِنَ الْبُلْدَانِ،
وَكَانَ خَرَاجُ مَا تَحْتَ يَدِهِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ أَلْفِ
دِرْهَمٍ. فَوَلَّى الْخَلِيفَةُ ابْنَهُ طَاهِرًا، وَكَانَتْ وَفَاةُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ الْأَمِيرِ بَعْدَ مَوْتِ أَشْنَاسَ التُّرْكِيِّ بِتِسْعَةِ
أَيَّامٍ، يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَعِشْرِينَ بِمَرْوَ، وَقِيلَ: بِنَيْسَابُورَ. وَكَانَ كَرِيمًا جَوَادًا
مُمَدَّحًا، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ أَوْرَدَ لَهُ مِنْهُ. قَالَ: وَقَدْ وَلِيَ
نِيَابَةَ مِصْرَ بَعْدَ الْعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ.
وَذَكَرَ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْمَغْرِبِيِّ أَنَّ الْبِطِّيخَ
الْعَبْدَاللَّاوِيَّ الَّذِي بِمِصْرَ مَنْسُوبٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
طَاهِرٍ هَذَا. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ إِمَّا أَنَّهُ كَانَ
يَسْتَطِيبُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ زَرَعَهُ هُنَاكَ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَمِنْ جَيِّدِ شِعْرِهِ:
اغْتَفِرْ زَلَّتِي لِتُحْرِزَ فَضْلَ الشُّ كْرِ مِنِّي وَلَا يَفُوتُكَ أَجْرِي
لَا تَكِلْنِي إِلَى التَّوَسُّلِ بِالْعُذْ
رِ لَعَلِّي أَنْ لَا أَقُومَ بِعُذْرِي
وَمِنْ شَعْرِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ:
نَحْنُ قَوْمٌ تُلِينُنَا الْحَدَقُ النُّجْ لُ عَلَى أَنَّنَا نُلِينُ
الْحَدِيدَا
طَوْعَ أَيْدِي الظِّبَاءِ تَقْتَادُنَا الْعِي نُ وَنَقْتَادُ بِالطِّعَانِ
الْأُسُودَا
نَمْلِكُ الصِّيدَ ثُمَّ تَمْلِكُنَا الْبِي ضُ الْمَصُونَاتُ أَعْيُنًا
وَخُدُودَا
تَتَّقِي سُخْطَنَا الْأُسُودُ وَنَخْشَى سَخَطَ الْخِشْفِ حِينَ يُبْدِي
الصُّدُودَا
فَتَرَانَا يَوْمَ الْكَرِيهَةِ أَحْرَا رًا وَفِي السِّلْمِ لِلْغَوَانِي
عَبِيدَا
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَكَانَ خُزَاعِيًّا مِنْ مَوَالِي طَلْحَةَ
الطَّلْحَاتِ الْخُزَاعِيِّ.
وَقَدْ كَانَ أَبُو تَمَّامٍ يَمْدَحُهُ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ مَرَّةً فَاعْتَاقَهُ
الثَّلْجُ بِهَمَذَانَ، فَصَنَّفَ كِتَابَ الْحَمَاسَةِ عِنْدَ بَعْضِ
رُؤَسَائِهَا.
وَرَوَى لَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَلَمَّا وَلَّاهُ الْمَأْمُونُ
نِيَابَةَ بِلَادِ الشَّامِ وَدِيَارَ مِصْرَ صَارَ إِلَيْهَا، وَقَدْ رَسَمَ لَهُ
بِمَا فِي دِيَارِ مِصْرَ مِنَ الْحَوَاصِلِ، فَحَمَلَ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي
أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ ثَلَاثَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَفَرَّقَهَا كُلَّهَا
فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ لَمَّا وَاجَهَ مِصْرَ نَظَرَ إِلَيْهَا
فَاحْتَقَرَهَا، وَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ، مَا كَانَ أَخَسَّهُ
وَأَضْعَفَ هِمَّتَهُ حِينَ مَلَكَ هَذِهِ الْقَرْيَةَ، وَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ
الْأَعْلَى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ الْجَوْهَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتِبُ
الْوَاقِدِيِّ وَلَهُ كِتَابُ " الطَّبَقَاتِ " وَغَيْرُهُ مِنَ
الْمُصَنَّفَاتِ، وَسَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَقَعَتْ مُفَادَاةٌ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا
بِأَيْدِي الرُّومِ عَلَى يَدَيِ الْأَمِيرِ خَاقَانَ الْخَادِمِ، وَذَلِكَ فِي
الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ عِدَّةُ الْأُسَارَى الَّذِينَ
اسْتُنْقِذُوا مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَثَلَاثَمِائَةٍ
وَاثْنَيْنِ وَسِتِّينَ أَسِيرًا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ الْخُزَاعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ وَهُوَ أَحْمَدُ
بْنُ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيُّ وَجَدُّهُ مَالِكُ بْنُ
الْهَيْثَمِ مِنْ أَكْبَرِ الدُّعَاةِ فِي النَّاسِ إِلَى دَوْلَةِ بَنِي
الْعَبَّاسِ، وَكَانَتْ لَهُ وَجَاهَةٌ وَرِيَاسَةٌ، وَكَانَ أَبُوهُ نَصْرُ بْنُ
مَالِكٍ يَغْشَاهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ بَايَعَهُ الْعَامَّةُ فِي سَنَةِ
إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ عَلَى الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ
حِينَ كَثُرَتِ الدُّعَّارُ وَالشُّطَّارُ فِي أَرْجَاءِ بَغْدَادَ فِي زَمَانِ
غَيْبَةِ الْمَأْمُونِ عَنْ بَغْدَادَ كَمَا قَدَّمْنَا بَسْطَ ذَلِكَ، وَبِهِ
تُعْرَفُ سُوَيْقَةُ نَصْرٍ بِبَغْدَادَ.
وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ هَذَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّيَانَةِ
وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالِاجْتِهَادِ
فِي الْخَيْرِ، وَمِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ السُّنَّةِ الْآمِرِينَ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ مِمَّنْ يَدْعُو إِلَى
الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ،
وَكَانَ هَارُونُ الْوَاثِقُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ
الْقُرْآنِ، يَدْعُو إِلَيْهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، سِرًّا وَجِهَارًا ;
اعْتِمَادًا عَلَى مَا كَانَ أَبُوهُ الْمُعْتَصِمُ وَعَمُّهُ الْمَأْمُونُ
عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وَلَا حُجَّةٍ وَلَا
بَيَانٍ، وَلَا سُنَّةٍ وَلَا قُرْآنٍ، فَقَامَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ هَذَا
يَدْعُو إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ
الْمُنْكَرِ، وَالْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ
مَخْلُوقٍ، فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ دَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا، فَاجْتَمَعَ
عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ وَالْتَفَّ عَلَيْهِ مِنَ الْأُلُوفِ
أَعْدَادٌ، وَانْتَصَبَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ هَذَا رَجُلَانِ
وَهُمَا أَبُو هَارُونَ السَّرَّاجُ يَدْعُو أَهْلَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ،
وَطَالِبٌ يَدْعُو أَهْلَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ.
وَلَمَّا كَانَ شَهْرُ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ انْتَظَمَتِ الْبَيْعَةُ
لِأَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ الْخُزَاعِيِّ فِي السِّرِّ عَلَى الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَانِ
لِبِدْعَتِهِ، وَدَعْوَتِهِ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ. فَتَوَاعَدُوا
عَلَى أَنَّهُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ شَهْرِ شَعْبَانَ وَهِيَ
لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ يُضْرَبُ طَبْلٌ فِي اللَّيْلِ، فَيَجْتَمِعُ النَّاسُ
الَّذِينَ بَايَعُوا فِي مَكَانٍ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَأَنْفَقَ طَالِبٌ وَأَبُو
هَارُونَ فِي أَصْحَابِهِ دِينَارًا دِينَارًا، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ
أَعْطَوْهُ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي أَشْرَسَ، وَكَانَا يَتَعَاطَيَانِ الشَّرَابَ
فَلَمَّا
كَانَتْ لَيْلَةُ الْخَمِيسِ شَرِبَا فِي قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، وَاعْتَقَدَا أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْوَعْدِ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَهُ بِلَيْلَةٍ، فَقَامَا يَضْرِبَانِ عَلَى طَبْلٍ فِي اللَّيْلِ ; لِيَجْتَمِعَ إِلَيْهِمَا النَّاسُ، فَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ وَانْخَرَمَ النِّظَامُ، وَسَمِعَ الْحَرَسُ فِي اللَّيْلِ، فَأَعْلَمُوا نَائِبَ السَّلْطَنَةِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ نَائِبُ أَخِيهِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ; لِغَيْبَتِهِ عَنْ بَغْدَادَ فَأَصْبَحَ النَّاسُ مُتَخَبِّطِينَ، وَاجْتَهَدَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ عَلَى إِحْضَارِ ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ فَأُحْضِرَا فَعَاقَبَهُمَا، فَأَقَرَّا عَلَى أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ فِي الْحَالِ فَطَلَبَهُ، وَأَخَذَ خَادِمًا لَهُ فَاسْتَقَرَّهُ، فَأَقَرَّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الرَّجُلَانِ، فَجَمَعَ جَمَاعَةً مِنْ رُءُوسٍ أَصْحَابِ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ مَعَهُ، وَأَرْسَلَ بِهِمْ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، وَذَلِكَ آخَرَ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فَأُحْضِرَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ، وَحَضَرَ الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ الْمُعْتَزِلِيُّ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ عَتَبٌ، فَلَمَّا أُوقِفَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ الْوَاثِقِ لَمْ يُعَاتِبْهُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَانَ مِنْهُ فِي أَمْرِ مُبَايَعَةِ الْعَامَّةِ لَهُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَأَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ ؟ فَقَالَ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ. قَالَ: أَمَخْلُوقٌ هُوَ ؟ قَالَ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ. وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ قَدِ
اسْتَقْتَلَ، وَحَضَرَ وَقَدْ تَحَنَّطَ وَتَنَوَّرَ، فَقَالَ لَهُ
الْوَاثِقُ: فَمَا تَقُولُ فِي رَبِّكَ، أَتَرَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ وَالْأَخْبَارُ بِذَلِكَ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [
الْقِيَامَةِ: 22، 23 ] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا
الْقَمَرَ لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَنَحْنُ عَلَى الْخَبَرِ. زَادَ
الْخَطِيبُ فِي إِيرَادِهِ: قَالَ الْوَاثِقُ: وَيْحَكَ، أَيُرَى كَمَا يُرَى
الْمَحْدُودُ الْمُتَجَسِّمُ ؟ وَيَحْوِيهِ مَكَانٌ وَيَحْصُرُهُ النَّاظِرُ ؟
أَنَا أَكْفُرُ بِرَبٍّ هَذِهِ صِفَتُهُ.
قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْخَلِيفَةُ الْوَاثِقُ لَا يَرِدُ، وَلَا
يَلْزَمُ، وَلَا يُرَدُّ بِهِ مِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ الصَّحِيحِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الْخُزَاعِيُّ لِلْوَاثِقِ: وَحَدَّثَنِي
سُفْيَانُ بِحَدِيثٍ يَرْفَعُهُإِنَّ قَلْبَ ابْنِ آدَمَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ
أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
يَقُولُ:يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ فَقَالَ لَهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: وَيْلَكَ، انْظُرْ مَا تَقُولُ. فَقَالَ: أَنْتَ أَمَرْتَنِي بِذَلِكَ. فَأَشْفَقَ إِسْحَاقُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: أَنَا أَمَرْتُكَ بِذَلِكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَنْتَ أَمَرْتَنِي أَنْ أَنْصَحَ لَهُ. فَقَالَ الْوَاثِقُ لِمَنْ حَوْلَهُ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ فَأَكْثَرُوا الْقَوْلَ فِيهِ ; فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ وَكَانَ قَاضِيًا عَلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ فَعُزِلَ وَكَانَ مُوَادًّا لِأَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ قَبْلَ ذَلِكَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هُوَ حَلَالُ الدَّمِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَرْمَنِيُّ صَاحِبُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادٍ: اسْقِنِي دَمَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ الْوَاثِقُ: يَأْتِي عَلَى مَا تُرِيدُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هُوَ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ، لَعَلَّ بِهِ عَاهَةً أَوْ نَقْصَ عَقْلٍ. فَقَالَ الْوَاثِقُ: إِذَا رَأَيْتُمُونِي قُمْتُ إِلَيْهِ فَلَا يَقُومَنَّ أَحَدٌ مَعِي، فَإِنِّي أَحْتَسِبُ خُطَايَ. ثُمَّ نَهَضَ إِلَيْهِ بِالصَّمْصَامَةِ وَقَدْ كَانَتْ سَيْفًالِعَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الزُّبَيْدِيِّ أُهْدِيَتْ لِمُوسَى الْهَادِي فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ، وَكَانَتْ صَفِيحَةً مَوْصُولَةً فِي أَسْفَلِهَا، مَسْمُورَةً بِثَلَاثَةِ مَسَامِيرَ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ ضَرَبَهُ بِهَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَهُوَ مَرْبُوطٌ بِحَبْلٍ قَدْ أُوقِفَ عَلَى نِطْعٍ ثُمَّ ضَرَبَهُ أُخْرَى عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ طَعَنَهُ بِالصَّمْصَامَةِ فِي بَطْنِهِ فَسَقَطَ رَحِمَهُ اللَّهُ صَرِيعًا عَلَى النِّطْعِ مَيِّتًا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
ثُمَّ انْتَضَى سِيمَا الدِّمَشْقِيُّ سَيْفَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَحَزَّ
رَأْسَهُ، وَحُمِلَ مُعْتَرِضًا حَتَّى أُتِيَ بِهِ الْحَظِيرَةَ الَّتِي فِيهَا
بَابَكُ الْخُرَّمِيُّ فَصُلِبَ فِيهَا، وَفِي رِجْلَيْهِ زَوْجُ قُيُودٍ،
وَعَلَيْهِ سَرَاوِيلُ، وَقَمِيصٌ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى بَغْدَادَ فَنُصِبَ
فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ أَيَّامًا، وَفِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ أَيَّامًا،
وَعِنْدَهُ الْحَرَسُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَفِي أُذُنِهِ رُقْعَةٌ
مَكْتُوبٌ فِيهَا: هَذَا رَأْسُ الْكَافِرِ الْمُشْرِكِ الضَّالِّ أَحْمَدَ بْنِ
نَصْرٍ، مِمَّنْ قُتِلَ عَلَى يَدَيْ عَبْدِ اللَّهِ هَارُونَ الْإِمَامِ
الْوَاثِقِ بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنْ أَقَامَ عَلَيْهِ
الْحُجَّةَ فِي خَلْقِ الْقُرْآنِ، وَنَفْيِ التَّشْبِيهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ
التَّوْبَةَ، وَمَكَّنَهُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ فَأَبَى إِلَّا
الْمُعَانَدَةَ وَالتَّصْرِيحَ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَجَّلَهُ إِلَى
نَارِهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ بِالْكُفْرِ، فَاسْتَحَلَّ بِذَلِكَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ دَمَهُ وَلَعَنَهُ.
ثُمَّ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْوَاثِقُ بِتَتَبُّعِ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ، فَأَخَذَ
مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا، فَأُودِعُوا فِي السُّجُونِ
وَسُمُّوا الظَّلَمَةَ، وَمُنِعُوا أَنْ يَزُورَهُمْ أَحَدٌ وَقُيِّدُوا
بِالْحَدِيدِ، وَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْأَرْزَاقِ الَّتِي كَانَتْ
تَجْرِي عَلَى الْمَحْبُوسِينَ، وَهَذَا ظُلْمٌ عَظِيمٌ. هَذَا مُلَخَّصُ مَا
قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ هَذَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَكَابِرِ
الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ وَمِمَّنْ كَانَ قَائِمًا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ،
وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَهُشَيْمِ بْنِ بَشِيرٍ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ مُصَنَّفَاتُهُ
كُلُّهَا،
وَسَمِعَ مِنَ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَحَادِيثَ جَيِّدَةً، وَلَمْ
يُحَدِّثْ بِكَثِيرٍ مِنْ حَدِيثِهِ.
وَحَدَّثَ عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، وَأَخُوهُ يَعْقُوبُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَذَكَرَهُ يَوْمًا فَتَرَحَّمَ
عَلَيْهِ، وَقَالَ: قَدْ خَتَمَ اللَّهُ لَهُ بِالشَّهَادَةِ، وَقَدْ كَانَ لَا
يُحَدِّثُ ; يَقُولُ: لَسْتُ أَهْلَ ذَاكَ. وَأَحْسَنَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ
الثَّنَاءَ عَلَيْهِ.
وَذِكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَوْمًا فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ،
مَا كَانَ أَسَخَاهُ لَقَدْ جَادَ بِنَفْسِهِ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّائِغُ: بَصُرَ عَيْنَايَ وَإِلَّا
فَعَمِيَتَا، وَسَمِعَتْ أُذُنَايَ وَإِلَّا فَصُمَّتَا أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ
الْخُزَاعِيَّ حَيْثُ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، يَقُولُ رَأْسُهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ.
وَقَدْ سَمِعَهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَرَأْسُهُ مَصْلُوبٌ يَقْرَأُ عَلَى الْجِذْعِ
الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا
يُفْتَنُونَ [ الْعَنْكَبُوتِ: 1، 2 ] قَالَ: فَاقْشَعَرَّ جِلْدِي. وَرَآهُ
بَعْضُهُمْ فِي النَّوْمِ فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ ؟
فَقَالَ: مَا كَانَتْ إِلَّا غَفْوَةً حَتَّى لَقِيتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
فَضَحِكَ إِلَيَّ.
وَرَأَى بَعْضُ النَّاسِ فِي الْمَنَامِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَقَدْ مَرُّوا عَلَى الْجِذْعِ
الَّذِي عَلَيْهِ رَأْسُ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ، فَلَمَّا حَاذَوْهُ أَعْرَضَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ عَنْهُ،
فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ أَعْرَضْتَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ
؟ فَقَالَ: اسْتِحْيَاءً مِنْهُ حِينَ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي.
وَلَمْ يَزَلْ رَأْسُ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ مَنْصُوبًا بِبَغْدَادَ مِنْ يَوْمِ
الْخَمِيسِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ -
أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ - إِلَى بَعْدِ عِيدِ
الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَتَيْنِ، فَجُمِعَ بَيْنَ رَأْسِهِ وَجُثَّتِهِ وَدُفِنَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ
مِنْ بَغْدَادَ بِالْمَقْبَرَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْمَالِكِيَّةِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَذَلِكَ بِأَمْرِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ الَّذِي وَلِيَ
الْخِلَافَةَ بَعْدَ أَخِيهِ الْوَاثِقِ بِاللَّهِ وَقَدْ دَخَلَ عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ صَاحِبُ كِتَابِ " الْحَيْدَةِ "
عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ مِنْ خِيَارِ
الْخُلَفَاءِ ; لِأَنَّهُ أَحْسَنَ الصَّنِيعَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ، بِخِلَافِ
أَخِيهِ الْوَاثِقِ، وَأَبِيهِ الْمُعْتَصِمِ، وَعَمِّهِ الْمَأْمُونِ فَإِنَّهُمْ
أَسَاءُوا إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَرَّبُوا
أَهْلَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَأَمَرَهُ
أَنْ يُنْزِلَ جُثَّةَ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ، وَيَدْفِنَهُ فَفَعَلَ، وَقَدْ كَانَ
الْمُتَوَكِّلُ يُكْرِمُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ إِكْرَامًا زَائِدًا
جِدًّا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيَّ قَالَ لِلْمُتَوَكِّلِ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا رُئِيَ أَعْجَبُ مِنْ أَمْرِ الْوَاثِقِ ; قَتَلَ
أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ وَكَانَ لِسَانُهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ إِلَى أَنْ دُفِنَ.
فَوَجَدَ الْمُتَوَكِّلُ مِنْ ذَلِكَ، وَسَاءَهُ مَا سَمِعَ فِي أَخِيهِ
الْوَاثِقِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ الزَّيَّاتِ، قَالَ لَهُ الْمُتَوَكِّلُ: فِي قَلْبِي مِنْ قَتْلِ أَحْمَدَ
بْنِ نَصْرٍ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَحْرَقَنِي اللَّهُ
بِالنَّارِ إِنْ قَتَلَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْوَاثِقُ إِلَّا كَافِرًا.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ هَرْثَمَةُ فَقَالَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، قَطَّعَنِي اللَّهُ إِرْبًا إِرْبًا إِنْ قَتَلَهُ الْوَاثِقُ
إِلَّا كَافِرًا. وَدَخَلَ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ،
فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: ضَرَبَنِي اللَّهُ بِالْفَالِجِ إِنْ
قَتَلَهُ الْوَاثِقُ إِلَّا كَافِرًا. قَالَ الْمُتَوَكِّلُ: فَأَمَّا ابْنُ
الزَّيَّاتِ فَأَنَا أَحْرَقْتُهُ بِالنَّارِ، وَأَمَّا هَرْثَمَةُ فَإِنَّهُ
هَرَبَ وَتَبَدَّى فَاجْتَازَ بِقَبِيلَةِ خُزَاعَةَ فَعَرَفَهُ رَجُلٌ مِنَ
الْحَيِّ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ، هَذَا الَّذِي قَتَلَ ابْنَ عَمِّكُمْ
أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ فَقَطِّعُوهُ. فَقَطَّعُوهُ إِرْبًا إِرْبًا، وَأَمَّا
ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ فَقَدْ سَجَنَهُ اللَّهُ فِي جِلْدِهِ يَعْنِي
بِالْفَالِجِ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ،
وَصُودِرَ مِنْ صُلْبِ مَالِهِ بِمَالٍ جَزِيلٍ جِدًّا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ
ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ " الْمَسَائِلِ " عَنْ أَحْمَدَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ قَالَ: سَأَلْتُ
سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ: الْقُلُوبُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعَ
اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ يَضْحَكُ مِمَّنْ يَذْكُرُهُ فِي الْأَسْوَاقِ ".
فَقَالَ: ارْوُوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ الْوَاثِقُ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْحَجِّ،
وَاسْتَعَدَّ لِذَلِكَ، فَذُكِرَ لَهُ أَنَّ الْمَاءَ بِالطَّرِيقِ قَلِيلٌ،
فَتَرَكَ الْحَجَّ عَامَئِذٍ.
وَفِيهَا تَوَلَّى جَعْفَرُ بْنُ دِينَارٍ نِيَابَةَ الْيَمَنِ، فَسَارَ إِلَيْهَا
فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ فَارِسٍ.
وَفِيهَا عَدَا قَوْمٌ مِنَ الْعَامَّةِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ فَأَخَذُوا مِنْهُ
شَيْئًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَأُخِذُوا، وَسُجِنُوا.
وَفِيهَا ظَهَرَ خَارِجِيٌّ بِبِلَادِ رَبِيعَةَ، فَقَاتَلَهُ نَائِبُ الْمَوْصِلِ
فَكَسَرَهُ، وَانْهَزَمَ بَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ.
وَفِيهَا قَدِمَ وَصِيفٌ الْخَادِمُ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأَكْرَادِ نَحْوًا
مِنْ خَمْسِمِائَةٍ فِي الْقُيُودِ، كَانُوا قَدْ أَفْسَدُوا فِي الطُّرُقَاتِ
وَقَطَعُوهَا، فَأَطْلَقَ الْخَلِيفَةُ لِوَصِيفٍ الْخَادِمِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ
أَلْفَ دِينَارٍ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ خَاقَانُ الْخَادِمُ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، وَقَدْ
تَمَّ الصُّلْحُ وَالْمُفَادَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّومِ، وَقَدِمَ مَعَهُ
جَمَاعَةٌ مِنْ رُءُوسِ أَهْلِ الثُّغُورِ فَأَمَرَ الْوَاثِقُ بِامْتِحَانِهِمْ
فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ،
فَأَجَابُوا إِلَّا أَرْبَعَةً، فَأَمَرَ الْوَاثِقُ بِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ إِنْ
لَمْ يُجِيبُوا بِمِثْلِ مَا أَجَابَ بِهِ بَقِيَّتُهُمْ. وَأَمَرَ الْوَاثِقُ
أَيْضًا بِامْتِحَانِ الْأُسَارَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فُودِيَ عَنْهُمْ
بِذَلِكَ، فَمَنْ أَجَابَ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَأَنَّ اللَّهَ
لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فُودِيَ، وَإِلَّا تُرِكَ فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ،
وَهَذِهِ بِدْعَةٌ صَلْعَاءُ شَنْعَاءُ عَمْيَاءُ صَمَّاءُ لَا مُسْتَنَدَ لَهَا
مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا عَقْلٍ صَحِيحٍ، بَلِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ
وَالْعَقْلُ الصَّحِيحُ بِخِلَافِهَا، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ،
وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَكَانَ وُقُوعُ الْمُفَادَاةِ عِنْدَ نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ: اللَّامِسُ. عِنْدَ
سَلُوقِيَةَ بِالْقُرْبِ مِنْ طَرَسُوسَ بَدَلُ كُلِّ مُسْلِمٍ أَوْ مُسْلِمَةٍ
فِي أَيْدِي الرُّومِ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ ذِمِّيَّةٍ كَانَ تَحْتَ عَقْدِ
الْمُسْلِمِينَ - أَسِيرٌ مِنَ الرُّومِ كَانَ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ
لَمْ يُسْلِمْ،
فَنَصَبُوا جِسْرَيْنِ عَلَى النَّهْرِ فَإِذَا أَرْسَلَ الرُّومُ رَجُلًا
أَوِ امْرَأَةً فِي جِسْرِهِمْ فَانْتَهَى إِلَى الْمُسْلِمِينَ كَبَّرَ وَكَبَّرَ
الْمُسْلِمُونَ. وَيُرْسِلُ الْمُسْلِمُونَ أَسِيرًا مِنَ الرُّومِ عَلَى
جِسْرِهِمْ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَيْهِمْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ يُشْبِهُ
التَّكْبِيرَ أَيْضًا، وَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ،
بَدَلُ كُلِّ نَفْسِ نَفْسٌ، ثُمَّ بَقِيَ مَعَ خَاقَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّومِ
الْأُسَارَى، فَأَطْلَقَهُمْ لِلرُّومِ ; لِيَكُونَ لَهُ الْفَضْلُ عَلَيْهِمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ،
أَخُو طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ بِطَبَرِسْتَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. وَفِيهَا
مَاتَ الْخَطَّابُ بْنُ وَجْهِ الْفُلْسِ، وَفِيهَا مَاتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
بْنُ الْأَعْرَابِيِّ الرَّاوِيَةُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ
خَلَتْ مِنْ شَعْبَانَ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَفِيهَا مَاتَتْ أُمُّ
أَبِيهَا بِنْتُ مُوسَى أُخْتُ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا، وَفِيهَا مَاتَ
مُخَارِقٌ الْمُغَنِّي، وَأَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ حَاتِمٍ رَاوِيَةُ
الْأَصْمَعِيِّ، وَعَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
سَعْدَانَ النَّحْوِيُّ.
قُلْتُ: وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ أَيْضًا:
أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الْخُزَاعِيُّ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ
عَرْعَرَةَ. وَأُمَيَّةُ بْنُ بِسِطَامٍ وَأَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ الشَّاعِرُ فِي قَوْلٍ، وَالْمَشْهُورُ مَا تَقَدَّمَ، وَكَامِلُ بْنُ طَلْحَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ الْجُمَحِيُّ، وَأَخُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ أَخُو حَجَّاجٍ، وَهَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَالْبُوَيْطِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ مَاتَ فِي السِّجْنِ مُقَيَّدًا حَتَّى يَقُولَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، رَاوِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا عَاثَتْ قَبِيلَةٌ يُقَالُ لَهَا: بَنُو نُمَيْرٍ بِالْيَمَامَةِ فِي
الْأَرْضِ فَسَادًا، فَكَتَبَ الْوَاثِقُ إِلَى بُغَا الْكَبِيرِ وَهُوَ مُقِيمٌ
بِأَرْضِ الْحِجَازِ، فَحَارَبَهُمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَأَسَرَ
مِنْهُمْ آخَرِينَ، وَهَزَمَ بَقِيَّتَهُمْ، ثُمَّ الْتَقَى مَعَ بَنِي تَمِيمٍ
وَهُوَ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ وَهُمْ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ
حُرُوبٌ طَوِيلَةٌ، ثُمَّ كَانَ الظَّفَرُ لَهُ عَلَيْهِمْ آخِرًا، وَذَلِكَ فِي
النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى
بَغْدَادَ وَمَعَهُ مِنْ أَعْيَانِ رُءُوسِ الْعَرَبِ فِي الْأَسْرِ وَالْقُيُودِ،
وَقَدْ قَتَلَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ فِي الْوَقَائِعِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا مَا
يُنَيِّفُ عَلَى أَلْفَيْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَنُمَيْرٍ، وَكِلَابٍ،
وَمُرَّةَ، وَفَزَارَةَ، وَثَعْلَبَةَ، وَطَيِّئٍ، وَتَمِيمٍ، وَغَيْرِهِمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَصَابَ الْحَجِيجَ فِي الرُّجُوعِ عَطَشٌ شَدِيدٌ حَتَّى
بِيعَتِ الشَّرْبَةُ بِالدَّنَانِيرِ الْكَثِيرَةِ، وَمَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ
الْعَطَشِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْوَاثِقُ بِتَرْكِ جِبَايَةِ أَعْشَارِ سُفُنِ الْبَحْرِ.
وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ أَبِي جَعْفَرٍ هَارُونَ الْوَاثِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَهْدِيِّ بْنِ أَبِي
جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَبْدِ اللَّهِ ذِي الدَّوَانِيقِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْإِمَامِ بْنِ عَلِيٍّ السَّجَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بْنِ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيِّ الْعَبَّاسِيِّ
كَانَ هَلَاكُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِعِلَّةِ
الِاسْتِسْقَاءِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى حُضُورِ الْعِيدِ عَامَئِذٍ فَاسْتَنَابَ
فِي الصَّلَاةِ بِالنَّاسِ قَاضِيَهُ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُوَادٍ الْإِيَادِيَّ
الْمُعْتَزِلِيَّ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ قَوِيَ بِهِ الِاسْتِسْقَاءُ فَأُقْعِدَ فِي تَنُّورٍ قَدْ
أُحْمِيَ لَهُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ إِجْلَاسُهُ فِيهِ ; لِيَسْكُنَ وَجَعُهُ،
فَلَانَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ بَعْضَ الشَّيْءِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَمَرَ بِأَنْ
يُحْمَى أَكْثَرَ مِنَ الْعَادَةِ فَأُجْلِسَ فِيهِ ثُمَّ أُخْرِجَ فَوُضِعَ فِي
مِحَفَّةٍ فَحُمِلَ فِيهَا وَحَوْلَهُ أُمَرَاؤُهُ، وَوُزَرَاؤُهُ وَقَاضِيهِ،
فَمَاتَ وَهُوَ مَحْمُولٌ فِيهَا فَمَا شَعَرُوا حَتَّى سَقَطَ جَبِينُهُ عَلَى
الْمِحَفَّةِ وَهُوَ مَيِّتٌ فَغَمَّضَ الْقَاضِي عَيْنَيْهِ بَعْدَ
ذَلِكَ وَهُوَ الَّذِي وَلِيَ غَسْلَهُ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ، وَدَفَنَهُ فِي قَصْرِ الْهَادِي، وَكَانَ أَبْيَضَ اللَّوْنِ مُشْرَبًا حُمْرَةً، جَمِيلًا رَبْعَةً حَسَنَ الْجِسْمِ، قَاتِمَ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، فِيهَا نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ بِطْرِيقِ مَكَّةَ فَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ خَمْسَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً. وَكَانَ قَدْ جَمَعَ أَصْحَابَ النُّجُومِ فِي زَمَانِهِ حِينَ اشْتَدَّتْ عِلَّتُهُ ; لِيَنْظُرُوا فِي مَوْلِدِهِ وَمَا تَقْتَضِيهِ صِنَاعَةُ النُّجُومِ كَمْ تَدُومُ أَيَّامُ دَوْلَتِهِ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنْ رُءُوسِهِمْ جَمَاعَةٌ ; مِنْهُمُ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ وَالْفَضْلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ نَوْبَخْتَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْخُوَارِزْمِيُّ الْمَجُوسِيُّ الْقُطْرُبُّلِيُّ، وَسَنَدٌ صَاحِبُ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمِ، وَعَامَّةُ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي النُّجُومِ، فَنَظَرُوا فِي مَوْلِدِهِ، وَمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ أَجْمَعُوا أَنَّهُ يَعِيشُ دَهْرًا طَوِيلًا، وَقَدَرُوا لَهُ خَمْسِينَ سَنَةً مُسْتَقْبَلَةً فَلَمْ يَلْبَثْ
بَعْدَ قَوْلِهِمْ إِلَّا عَشَرَةَ أَيَّامٍ حَتَّى مَاتَ. ذَكَرَهُ
الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَذَكَرَ الْحُسَيْنُ بْنُ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ شَهِدَ
الْوَاثِقَ بَعْدَ أَنْ مَاتَ الْمُعْتَصِمُ بِأَيَّامٍ، وَقَدْ قَعَدَ مَجْلِسًا
كَانَ أَوَّلَ مَجْلِسٍ قَعَدَهُ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا غُنِّيَ بِهِ فِي ذَلِكَ
الْمَجْلِسِ أَنْ تَغَنَّتْ شَارِيَةُ، جَارِيَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ:
مَا دَرَى الْحَامِلُونَ يَوْمَ اسْتَقَلُّوا نَعْشَهُ لِلثَّوَاءِ أَمْ لِلِقَاءِ
فَلْيَقُلْ فِيكَ بَاكِيَاتُكَ مَا شِئْ
نَ صَبَاحًا وَعِنْدَ كُلِّ مَسَاءِ
قَالَ: فَبَكَى وَبَكَيْنَا حَتَّى شَغَلَنَا الْبُكَاءُ عَنْ جَمِيعِ مَا كُنَّا
فِيهِ، ثُمَّ انْدَفَعَ بَعْضُهُمْ يُغَنِّي:
وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعًا أَيُّهَا
الرَّجُلُ
فَازْدَادَ وَاللَّهِ بُكَاؤُهُ، وَقَالَ: مَا سَمِعْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ
تَعْزِيَةً بِأَبٍّ وَنَعْيَ
نَفْسٍ. ثُمَّ ارْفَضَّ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ دِعْبَلَ بْنَ عَلِيٍّ الشَّاعِرَ
لَمَّا تَوَلَّى الْوَاثِقُ عَمَدَ إِلَى طُومَارٍ، فَكَتَبَ فِيهِ أَبْيَاتَ
شِعْرٍ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى الْحَاجِبِ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: أَقْرِئْ
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ السَّلَامَ، وَقُلْ: هَذِهِ أَبْيَاتٌ امْتَدَحَكَ بِهَا
دِعْبَلٌ. فَلَمَّا فَضَّهَا الْوَاثِقُ إِذَا فِيهَا:
الْحَمْدُ لِلَّهِ لَا صَبْرٌ وَلَا جَلَدُ وَلَا عَزَاءٌ إِذَا أَهْلُ الْهَوَى
رَقَدُوا
خَلِيفَةٌ مَاتَ لَمْ يَحْزَنْ لَهُ أَحَدٌ وَآخَرُ قَامَ لَمْ يَفْرَحْ بِهِ
أَحَدُ
فَمَرَّ هَذَا وَمَرَّ الشُّؤْمُ يَتْبَعُهُ وَقَامَ هَذَا فَقَامَ الْوَيْلُ
وَالنَّكَدُ
قَالَ: فَتَطَلَّبَهُ الْخَلِيفَةُ بِكُلِّ مَا يُمْكِنُهُ، فَلَمْ يَقْدِرْ
عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ الْوَاثِقُ. وَرَوَى أَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا اسْتَخْلَفَ
الْوَاثِقُ ابْنَ أَبِي دُؤَادٍ عَلَى الصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ فَرَجَعَ
إِلَيْهِ قَالَ: كَيْفَ كَانَ عِيدُكُمْ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؟ قَالَ: كُنَّا
فِي نَهَارٍ لَا شَمْسَ فِيهِ. فَضَحِكَ وَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَنَا
مُؤَيَّدٌ بِكَ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى الْوَاثِقِ،
وَحَمَلَهُ عَلَى التَّشْدِيدِ فِي الْمِحْنَةِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى الْقَوْلِ
بِخَلْقِ الْقُرْآنِ. قَالَ: وَيُقَالُ: إِنَّ
الْوَاثِقَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
الْحَسَنِ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ، حَدَّثَنِي حَامِدُ
بْنُ الْعَبَّاسِ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الْمُهْتَدِي أَنَّ الْوَاثِقَ مَاتَ، وَقَدْ
تَابَ مِنَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.
وَرَوَى أَنَّ الْوَاثِقَ دَخَلَ عَلَيْهِ يَوْمًا مُؤَدِّبُهُ فَأَكْرَمَهُ
إِكْرَامًا كَثِيرًا فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذَا أَوَّلُ مَنْ فَتَقَ
لِسَانِي بِذِكْرِ اللَّهِ، وَأَدْنَانِي مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
وَكَتَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
جَذَبْتُ دَوَاعِي النَّفْسِ عَنْ طَلَبِ الْغِنَى وَقُلْتُ لَهَا عِفِّي عَنِ
الطَّلَبِ النَّزْرِ
فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِكَفِّهِ مَدَارُ رَحَا الْأَرْزَاقِ دَائِبَةً
تَجْرِي
فَوَقَّعَ لَهُ فِي رُقْعَتِهِ: جَذَبَتْكَ نَفْسُكَ عَنِ امْتِهَانِهَا،
وَدَعَتْكَ إِلَى صَوْنِهَا، فَخُذْ مَا طَلَبْتَهُ هَنِيئًا. وَأَجْزَلَ لَهُ
الْعَطَاءَ.
وَمِنْ شَعْرِهِ قَوْلُهُ:
هِيَ الْمَقَادِيرُ تَجْرِي فِي أَعِنَّتِهَا فَاصْبِرْ فَلَيْسَ لَهَا صَبْرٌ
عَلَى حَالِ
وَمِنْ شِعْرِ الْوَاثِقِ قَوْلُهُ:
تَنَحَّ عَنِ الْقَبِيحِ وَلَا تُرِدْهُ وَمَنْ أَوْلَيْتَهُ حُسْنًا فَزِدْهُ
سَتُكْفَى مِنْ عَدُوِّكَ كُلَّ كَيْدٍ إِذَا كَادَ الْعَدُوُّ وَلَمْ تَكِدْهُ
وَقَالَ الْقَاضِي يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ مَا أَحْسَنَ أَحَدٌ مِنْ خُلَفَاءِ
بَنِي الْعَبَّاسِ إِلَى آلِ أَبِي طَالِبٍ مَا أَحْسَنَ إِلَيْهِمُ الْوَاثِقُ،
مَا مَاتَ وَفِيهِمْ فَقِيرٌ. وَلَمَّا احْتُضِرَ الْوَاثِقُ جَعَلَ يُرَدِّدُ
هَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ:
الْمَوْتُ فِيهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ مُشْتَرِكٌ لَا سُوقَةٌ مِنْهُمْ يَبْقَى وَلَا
مَلِكُ
مَا ضَرَّ أَهْلَ قَلِيلٍ فِي تَفَاقُرِهِمْ وَلَيْسَ يُغْنِي عَنِ الْأَمْلَاكِ
مَا مَلَكُوا
ثُمَّ أَمَرَ بِالْبُسُطِ فَطُوِيَتْ ثُمَّ أَلْصَقَ خَدَّهُ بِالْأَرْضِ،
وَجَعَلَ يَقُولُ: يَا مَنْ لَا يَزُولُ مُلْكُهُ ارْحَمْ مَنْ قَدْ زَالَ
مُلْكُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا احْتُضِرَ الْوَاثِقُ وَنَحْنُ حَوْلُهُ
غُشِيَ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: انْظُرُوا هَلْ قَضَى نَحْبَهُ ؟
قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْ بَيْنِهِمْ إِلَيْهِ لِأَنْظُرَ هَلْ هَدَأَ نَفَسُهُ،
فَأَفَاقَ فَلَحَظَ إِلَيَّ بِعَيْنِهِ فَرَجَعْتُ الْقَهْقَرَى ; خَوْفًا مِنْهُ،
فَتَعَلَّقَتْ قَائِمَةُ سَيْفِي بِشَيْءٍ فَكِدْتُ أَنْ أَهْلِكَ، فَمَا كَانَ
عَنْ
قَرِيبٍ حَتَّى مَاتَ، وَأُغْلِقَ عَلَيْهِ الْبَابُ الَّذِي هُوَ فِيهِ
وَبَقِيَ فِيهِ وَحْدَهُ، وَاشْتَغَلُوا عَنْ تَجْهِيزِهِ بِالْبَيْعَةِ لِأَخِيهِ
جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ وَجَلَسْتُ أَنَا أَحْرُسُ الْبَابَ فَسَمِعْتُ حَرَكَةً
مِنْ دَاخِلِ الْبَيْتِ، فَدَخَلْتُ فَإِذَا جُرَذٌ قَدْ أَكَلَ عَيْنَهُ الَّتِي
لَحَظَ إِلَيَّ بِهَا، وَمَا كَانَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ إِلَّا الْيَسِيرُ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِسُرَّ مَنْ رَأَى الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا فِي الْقَصْرِ
الْهَارُونِيِّ، فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ عَنْ
سِتٍّ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَكَانَتْ
مُدَّةُ خِلَافَتِهِ خَمْسَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ،
وَقِيلَ: خَمْسَ سِنِينَ وَشَهْرَيْنِ وَأَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَصَلَّى
عَلَيْهِ أَخُوهُ جَعْفَرٌ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
خِلَافَةُ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بِاللَّهِ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَخِيهِ هَارُونَ الْوَاثِقِ، وَكَانَتْ
بَيْعَتُهُ وَقْتَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ
مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَتِ الْأَتْرَاكُ قَدْ عَزَمُوا
عَلَى تَوْلِيَةِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْوَاثِقِ، فَاسْتَصْغَرُوهُ فَتَرَكُوهُ،
وَعَدَلُوا إِلَى جَعْفَرٍ هَذَا، وَكَانَ عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ سِتًّا وَعِشْرِينَ
سَنَةً، وَكَانَ الَّذِي أَلْبَسَهُ خِلْعَةَ الْخِلَافَةِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي
دُؤَادٍ الْقَاضِي، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ،
وَبَايَعَهُ الْخَاصَّةُ، ثُمَّ الْعَامَّةُ، وَكَانُوا قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى
تَسْمِيَتِهِ بِالْمُنْتَصِرِ بِاللَّهِ إِلَى صَبِيحَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ،
فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ: قَدْ رَأَيْتُ أَنْ يُلَقَّبَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ. فَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ،
وَكَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ، وَأَمَرَ بِعَطَاءِ الشَّاكِرِيَّةِ مِنَ الْجُنْدِ
ثَمَانِيَةَ شُهُورٍ، وَلِلْمَغَارِبَةِ أَرْبَعَةَ شُهُورٍ، وَلِغَيْرِهِمْ
ثَلَاثَةَ شُهُورٍ، وَاسْتَبْشَرَ النَّاسُ بِهِ.
وَقَدْ كَانَ الْمُتَوَكِّلُ رَأَى فِي مَنَامِهِ فِي حَيَاةِ أَخِيهِ هَارُونَ
الْوَاثِقِ كَأَنَّ شَيْئًا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَكْتُوبٌ فِيهِ:
جَعْفَرٌ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ فَعَبَرَهَا فَقِيلَ لَهُ: هِيَ
الْخِلَافَةُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ أَخَاهُ الْوَاثِقَ فَسَجَنَهُ حِينًا، ثُمَّ
أَرْسَلَهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ أَمِيرُ مَكَّةَ
شَرَّفَهَا اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ: الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، وَعَمْرُو بْنُ
مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعِ صَفَرٍ مِنْهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ
الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ بِالْقَبْضِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ الزَّيَّاتِ وَزِيرِ الْوَاثِقِ، وَكَانَ الْمُتَوَكِّلُ يُبْغِضُهُ
لِأُمُورٍ ; مِنْهَا أَنَّ أَخَاهُ الْوَاثِقَ تَغَضَّبَ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ
الْأَوْقَاتِ وَكَانَ ابْنُ الزَّيَّاتِ يَزِيدُ الْوَاثِقَ غَضَبًا عَلَى
أَخِيهِ، فَبَقِيَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ، ثُمَّ كَانَ الَّذِي اسْتَرْضَى
الْوَاثِقَ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ فَحَظِيَ لِذَلِكَ عِنْدَهُ فِي
أَيَّامِ مُلْكِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الزَّيَّاتِ كَانَ قَدْ أَشَارَ
بِخِلَافَةِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْوَاثِقِ بَعْدَ أَبِيهِ، وَلَفَّ عَلَيْهِ
النَّاسَ، وَجَعْفَرٌ الْمُتَوَكِّلُ فِي جَنْبِ دَارِ الْخِلَافَةِ، فَلَمْ
يَتِمَّ الْأَمْرُ إِلَّا لِجَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ عَلَى رَغْمِ
أَنْفِ ابْنِ الزَّيَّاتِ فَلِهَذَا أَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ سَرِيعًا
فَطَلَبَهُ، فَرَكِبَ بَعْدَ غَدَائِهِ يَظُنُّ أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعَثَ
إِلَيْهِ، فَأَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ إِلَى دَارِ إِيتَاخَ أَمِيرِ الشُّرْطَةِ
فَاحْتِيطَ عَلَيْهِ وَقُيِّدَ، وَبَعَثُوا فِي الْحَالِ إِلَى دَارِهِ فَأُخِذَ
جَمِيعُ مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَاللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ
وَالْحَوَاصِلِ وَالْجَوَارِي وَالْأَثَاثِ، وَوَجَدُوا فِي مَجْلِسِهِ
الْخَاصِّ بِهِ آلَاتِ الشَّرَابِ، وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَى حَوَاصِلِهِ
وَضِيَاعِهِ بِسَائِرِ الْأَمَاكِنِ، فَاحْتِيطَ عَلَيْهَا، وَأُمِرَ بِهِ أَنْ
يُعَذَّبَ ; فَمُنِعَ مِنَ الطَّعَامِ، وَجَعَلُوا يُسَاهِرُونَهُ، كُلَّمَا
أَرَادَ الرُّقَادَ نُخِسَ بِالْحَدِيدِ، ثُمَّ وُضِعَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي
تَنُّورٍ مِنْ خَشَبٍ فِيهِ مَسَامِيرُ قَائِمَةٌ فِي أَسْفَلِهِ فَأُقِيمَ
عَلَيْهَا وَوُكِّلَ بِهِ مَنْ يَمْنَعُهُ مِنَ الرُّقَادِ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ
أَيَّامًا حَتَّى مَاتَ وَهُوَ كَذَلِكَ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ أُخْرِجَ مِنَ التَّنُّورِ وَفِيهِ رَمَقٌ فَضُرِبَ عَلَى
بَطْنِهِ ثُمَّ عَلَى ظَهْرِهِ حَتَّى مَاتَ وَهُوَ تَحْتَ الضَّرْبِ. وَيُقَالُ:
إِنَّهُ أُحْرِقَ ثُمَّ دُفِعَتْ جُثَّتُهُ إِلَى أَوْلَادِهِ فَدَفَنُوهُ،
فَنَبَشَتْ عَلَيْهِ الْكِلَابُ فَأَكَلَتْ لَحْمَهُ وَجِلْدَهُ، سَامَحَهُ
اللَّهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لِإِحْدَى عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
مِنْهَا.
وَكَانَ قِيمَةُ مَا وُجِدَ لَهُ مِنَ الْحَوَاصِلِ نَحْوًا مِنْ تِسْعِينَ أَلْفَ
أَلْفِ دِينَارٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ سَأَلَهُ عَنْ قَتْلِ
أَخِيهِ الْوَاثِقِ أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ الْخُزَاعِيَّ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، أَحْرَقَنِي اللَّهُ بِالنَّارِ إِنْ كَانَ الْوَاثِقُ قَتَلَهُ
يَوْمَ قَتَلَهُ إِلَّا
وَهُوَ كَافِرٌ. قَالَ الْمُتَوَكِّلُ: فَأَنَا أَحْرَقْتُهُ بِالنَّارِ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا فُلِجَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ الْقَاضِي
الْمُعْتَزِلِيُّ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ
وَهُوَ كَذَلِكَ، كَمَا دَعَا عَلَى نَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ غَضِبَ
الْمُتَوَكِّلُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْكُتَّابِ وَالْعُمَّالِ، وَأَخَذَ
مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا.
وَفِيهَا وَلَّى الْمُتَوَكِّلُ ابْنَهُ مُحَمَّدًا الْمُنْتَصِرَ الْحِجَازَ
وَالْيَمَنَ وَعَقَدَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا.
وَفِيهَا عَمَدَ مَلِكُ الرُّومِ مِيخَائِيلُ بْنُ تَوْفِيلَ إِلَى أُمِّهِ
تَدُورَةَ فَأَقَامَهَا بِالشَّمْسِ وَأَلْزَمَهَا الدَّيْرَ، وَقَتَلَ الرَّجُلَ
الَّذِي اتَّهَمَهَا بِهِ، وَكَانَ مُلْكُهَا سِتَّ سِنِينَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ أَمِيرُ مَكَّةَ
حَرَسَهَا اللَّهُ وَشَرَّفَهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ السَّامِيُّ. وَحِبَّانُ بْنُ مُوسَى
الْمَرْوَزِيُّ، وَسُلَيْمَانُ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيُّ، وَسَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَمَاعَةَ الْقَاضِي، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ الدِّمَشْقِيُّ، صَاحِبُ " الْمَغَازِي "، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْمَقَابِرِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَأُسْتَاذُ أَهْلِ صِنَاعَةِ الْحَدِيثِ فِي زَمَانِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ الْبُعَيْثِ بْنِ الْجَلِيسِ عَنِ الطَّاعَةِ فِي
بِلَادِهِ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ وَأَظْهَرَ أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ قَدْ مَاتَ،
وَالْتَفَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الرَّسَاتِيقِ، وَلَجَأَ إِلَى
مَدِينَةِ مَرَنْدَ فَحَصَّنَهَا، وَجَاءَتْهُ الْبُعُوثُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ،
وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُتَوَكِّلُ جُيُوشًا يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا،
فَنَصَبُوا عَلَى بَلَدِهِ الْمَجَانِيقَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَحَاصَرُوهُ
مُحَاصِرَةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَقَاتَلَهُمْ مُقَاتَلَةً هَائِلَةً، وَصَبَرَ
هُوَ وَأَصْحَابُهُ صَبْرًا بَلِيغًا، وَقَدِمَ بُغَا الشَّرَابِيُّ
لِمُحَاصَرَتِهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَسَرَهُ، وَاسْتَبَاحَ أَمْوَالَهُ
وَحَرَمَهُ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ، وَأَسَرَ سَائِرَهُمْ،
وَانْحَسَمَتْ مَادَّةُ ابْنِ الْبُعَيْثِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَفِي جُمَادَى
الْأُولَى مِنْهَا خَرَجَ الْمُتَوَكِّلُ إِلَى الْمَدَائِنِ.
وَفِيهَا حَجَّ إِيتَاخُ أَحَدُ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ، وَهُوَ وَالِي مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ وَالْمَوْسِمِ، وَدُعِيَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَقَدْ كَانَ
إِيتَاخُ هَذَا غُلَامًا خَزَرِيًّا،
طَبَّاخًا لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: سَلَّامٌ الْأَبْرَشُ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ
الْمُعْتَصِمُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، فَرَفَعَ مَنْزِلَتَهُ،
وَحَظِيَ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ الْوَاثِقُ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ، ضَمَّ إِلَيْهِ
أَعْمَالًا كَثِيرَةً، وَكَذَلِكَ عَامَلَهُ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ أَيْضًا
وَذَلِكَ لِرُجْلَةِ إِيتَاخَ وَشَهَامَتِهِ وَنَهْضَتِهِ، وَلَمَّا كَانَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ شَرِبَ لَيْلَةً مَعَ الْمُتَوَكِّلِ فَعَرْبَدَ عَلَيْهِ
الْمُتَوَكِّلُ فَهَمَّ إِيتَاخُ بِقَتْلِهِ، فَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ اعْتَذَرَ
الْمُتَوَكِّلُ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ أَبِي وَأَنْتَ رَبَّيْتَنِي ثُمَّ
دَسَّ إِلَيْهِ مَنْ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَسْتَأْذِنَ لِلْحَجِّ،
فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ، وَأَمَّرَهُ عَلَى كُلِّ بَلْدَةٍ يَحِلُّ بِهَا،
وَخَرَجَ الْقُوَّادُ فِي خِدْمَتِهِ إِلَى طَرِيقِ الْحَجِّ حِينَ خَرَجَ،
وَوَلَّى الْمُتَوَكِّلُ الْحِجَابَةَ لِوَصِيفٍ الْخَادِمِ عِوَضًا عَنْ
إِيتَاخَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ أَمِيرُ مَكَّةَ وَهُوَ أَمِيرُ
الْحَجِيجِ مِنْ سِنِينَ مُتَقَدِّمَةٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ
الشَّاذَكُونِيُّ، أَحَدُ
الْحُفَّاظِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ، وَأَبُو رَبِيعٍ الزَّهْرَانِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَدِينِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِي صِنَاعَةِ الْحَدِيثِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، وَالْمُعَافَى الرُّسْعَنِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ رَاوِي الْمُوَطَّأِ لِلْمَغَارِبَةِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا كَانَ هَلَاكُ إِيتَاخَ فِي السِّجْنِ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ رَجَعَ مِنَ الْحَجِّ فَتَلَقَّتْهُ هَدَايَا الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا
اقْتَرَبَ يُرِيدُ دُخُولَ سَامَرَّاءَ الَّتِي فِيهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
بَعَثَ إِلَيْهِ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ نَائِبُ بَغْدَادَ عَنْ أَمْرِ
الْخَلِيفَةِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهَا ; لِيَتَلَقَّاهُ وُجُوهُ النَّاسِ، وَبَنِي
هَاشِمٍ فَدَخَلَهَا فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ إِسْحَاقُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى ابْنَيْهِ مُظَفَّرٍ وَمَنْصُورٍ وَكَاتِبَيْهِ سُلَيْمَانَ
بْنِ وَهْبٍ وَقُدَامَةَ بْنِ زِيَادٍ النَّصْرَانِيِّ فَأَسْلَمَ تَحْتَ
الْعُقُوبَةِ، وَكَانَ هَلَاكُ إِيتَاخَ بِالْعَطَشِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَكَلَ
أَكْلًا كَثِيرًا بَعْدَ جُوعٍ شَدِيدٍ، ثُمَّ اسْتَقَى الْمَاءَ فَلَمْ يُسْقَ
حَتَّى مَاتَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
مِنْهَا. وَمَكَثَ وَلَدَاهُ فِي السِّجْنِ مُدَّةَ خِلَافَةِ الْمُتَوَكِّلِ،
فَلَمَّا وَلِي الْمُنْتَصِرُ وَلَدُ الْمُتَوَكِّلِ أَخْرَجَهُمَا.
وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا قَدِمَ بُغَا سَامَرَّا وَمَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ
الْبُعَيْثِ وَأَخَوَاهُ صَقْرٌ وَخَالِدٌ، وَنَائِبُهُ الْعَلَاءُ، وَمَعَهُمْ
مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ نَحْوٌ مَنْ مِائَةٍ وَثَمَانِينَ إِنْسَانًا،
فَأُدْخِلُوا عَلَى الْجِمَالِ لِيَرَاهُمُ النَّاسُ، فَلَمَّا أُوقِفَ ابْنُ
الْبُعَيْثِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُتَوَكِّلِ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَأُحْضِرَ
السَّيْفُ وَالنِّطْعُ فَجَاءَ السَّيَّافُونَ فَوَقَفُوا حَوْلَهُ، فَقَالَ لَهُ
الْمُتَوَكِّلُ: وَيْلَكَ، مَا دَعَاكَ إِلَى مَا فَعَلْتَ ؟ فَقَالَ: الشِّقْوَةُ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
وَأَنْتَ الْحَبْلُ الْمَمْدُودُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَإِنَّ
لِي فِيكَ لَظَنَّيْنِ، أَسْبَقُهُمَا إِلَى قَلْبِي أَوْلَاهُمَا بِكَ ; وَهُوَ
الْعَفْوُ. ثُمَّ انْدَفَعَ يَقُولُ بَدِيهَةً:
أَبَى النَّاسُ إِلَّا أَنَّكَ الْيَوْمَ قَاتِلِي إِمَامَ الْهُدَى وَالصَّفْحُ
بِالْمَرْءِ أَجْمَلُ وَهَلْ أَنَا إِلَّا جُبْلَةٌ مِنْ خَطِيَّةٍ
وَعَفْوُكَ مِنْ نُورِ النُّبُوَّةِ يُجْبَلُ فَإِنَّكَ خَيْرُ السَّابِقِينَ
إِلَى الْعُلَا
وَلَا شَكَّ أَنَّ خَيْرَ الْفَعَالَيْنِ تَفْعَلُ
فَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ: إِنَّ مَعَهُ لَأَدَبًا. ثُمَّ عَفَا عَنْهُ، وَيُقَالُ:
بَلْ شَفَعَ فِيهِ الْمُعْتَزُّ ابْنُ الْمُتَوَكِّلِ، فَشَفَّعَهُ فِيهِ.
وَيُقَالُ: بَلْ أَوْدِعَ فِي السِّجْنِ فِي قُيُودٍ ثَقِيلَةٍ، فَلَمْ يَزَلْ
فِيهِ حَتَّى هَرَبَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ حِينَ هَرَبَ:
كَمْ قَدْ قَضَيْتُ أُمُورًا كَانَ أَهْمَلَهَا غَيْرِي وَقَدْ أَخَذَ
الْإِفْلَاسُ بِالْكَظَمِ
لَا تَعْذِلِينِي فِيمَا لَيْسَ يَنْفَعُنِي إِلَيْكِ عَنِّي جَرَى الْمِقْدَارُ
بِالْقَلَمِ
سَأُتْلِفُ الْمَالَ فِي عُسْرٍ وَفِي يُسْرٍ إِنَّ الْجَوَادَ الَّذِي يُعْطِي
عَلَى الْعَدَمِ
وَفِيهَا أَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ أَهْلَ الذِّمَّةِ أَنْ
يَتَمَيَّزُوا عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ وَعَمَائِمِهِمْ
وَثِيَابِهِمْ، وَأَنْ يَتَطَيْلَسُوا بِالْمَصْبُوغِ بِالْعَسَلِيِّ، وَأَنْ
يَكُونَ عَلَى غِلْمَانِهِمْ رِقَاعٌ - مُخَالِفَةٌ لِلَوْنِ ثِيَابِهِمْ مِنْ
خَلْفِهِمْ وَمِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، وَأَنْ يُلْزَمُوا
بِالزَّنَانِيرِ الْخَاصِرَةِ لِثِيَابِهِمْ كَزَنَانِيرِ الْفَلَّاحِينَ
الْيَوْمَ، وَأَنْ يَحْمِلُوا فِي رِقَابِهِمْ كُرَاتٍ مِنْ خَشَبٍ كَثِيرَةً،
وَأَنْ لَا يَرْكَبُوا خَيْلًا، وَلْتَكُنْ رُكُبُهُمْ مِنْ خَشَبٍ إِلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُذِلَّةِ لَهُمُ الْمُهِينَةِ لِنُفُوسِهِمْ، وَأَنْ
لَا يُسْتَعْمَلُوا فِي شَيْءٍ مِنَ الدَّوَاوِينِ الَّتِي يَكُونُ لَهُمْ فِيهَا
حُكْمٌ عَلَى مُسْلِمٍ، وَأَمَرَ بِتَخْرِيبِ كَنَائِسِهِمُ الْمُحْدَثَةِ، وَبِتَضْيِيقِ
مَنَازِلِهِمُ الْمُتَّسِعَةِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهَا الْعُشْرُ، وَأَنْ يَعْمَلُوا
مَا كَانَ مُتَّسِعًا كَبِيرًا مَسْجِدًا، وَأَمَرَ بِتَسْوِيَةِ قُبُورِهِمْ
بِالْأَرْضِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى سَائِرِ الْأَقَالِيمِ وَالْآفَاقِ، وَإِلَى
كُلِّ بَلَدٍ وَرُسْتَاقٍ.
وَفِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مَحْمُودُ بْنُ الْفَرَجِ
النَّيْسَابُورِيُّ. وَهُوَ مِمَّنْ كَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَى خَشَبَةِ بَابَكَ
الْخُرَّمِيِّ وَهُوَ مَصْلُوبٌ، فَيَقْعُدُ قَرِيبًا مِنْهُ، وَذَلِكَ بِقُرْبِ
دَارِ الْخِلَافَةِ مِنْ سُرَّ مَنْ رَأَى، فَادَّعَى أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَّهُ
ذُو الْقَرْنَيْنِ، وَقَدِ اتَّبَعَهُ عَلَى هَذِهِ الضَّلَالَةِ، وَوَافَقَهُ فِي
هَذِهِ الْجَهَالَةِ جَمَاعَةٌ قَلِيلُونَ، وَهُمْ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا،
وَقَدْ نَظَمَ لَهُمْ كَلَامًا فِي مُصْحَفٍ لَهُ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - زَعَمَ
لَعَنَهُ اللَّهُ أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَاءَهُ بِهِ مِنَ
اللَّهِ فَأُخِذَ فَرُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ
بَيْنَ يَدَيْهِ بِالسِّيَاطِ ; فَاعْتَرَفَ بِمَا نُسِبَ إِلَيْهِ، وَمَا هُوَ
مُعَوِّلٌ عَلَيْهِ، وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ مِنْ ذَلِكَ، وَالرُّجُوعَ عَنْهُ
فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَتْبَاعِهِ أَنْ يَصْفَعَهُ عَشْرَ
صَفَعَاتٍ فَفَعَلُوا، فَعَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ لَعْنَةُ رَبِّ الْأَرْضِ
وَالسَّمَاوَاتِ، ثُمَّ اتَّفَقَ مَوْتُهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِثَلَاثٍ
خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ الْمُبَارَكَةِ أَخَذَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ
الْعَهْدَ مِنْ بَعْدِهِ لِأَوْلَادِهِ الثَّلَاثَةِ وَهُمْ: مُحَمَّدٌ
الْمُنْتَصِرُ، ثُمَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُعْتَزُّ وَاسْمُهُ مُحَمَّدٌ،
وَقِيلَ: الزُّبَيْرُ، ثُمَّ لِإِبْرَاهِيمَ وَسَمَّاهُ الْمُؤَيَّدَ بِاللَّهِ،
وَلَمْ يَلِ هَذَا الْخِلَافَةَ. وَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ طَائِفَةً مِنَ
الْبِلَادِ يَكُونُ نَائِبًا عَلَيْهَا وَنُوَّابُهُ فِيهَا، وَيَضْرِبُ لَهُ
السَّكَّةُ بِهَا، وَقَدْ عَيَّنَ ابْنُ جَرِيرٍ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
مِنَ الْبُلْدَانِ وَالْأَقَالِيمِ وَالرَّسَاتِيقِ، وَعَقَدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ لِوَاءَيْنِ، لِوَاءً أَسْوَدَ لِلْعَهْدِ، وَلِوَاءً أَبْيَضَ
لِلْعَمَالَةِ، وَكَتَبَ بَيْنَهُمْ كِتَابًا بِالرِّضَا مِنْهُمْ بِمُبَايَعَةِ
الْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِيهَا فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ هَذَا مِنْهَا تَغَيَّرَ مَاءُ دِجْلَةَ إِلَى
الصُّفْرَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ صَارَ فِي لَوْنِ مَاءِ الْمُدُودِ
فَفَزِعَ النَّاسُ لِذَلِكَ.
وَفِيهَا أَتَى الْمُتَوَكِّلُ بِيَحْيَى بْنِ عُمَرَ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ بَعْضِ النَّوَاحِي،
وَكَانَ قَدِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنَ الشِّيعَةِ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ
فَضُرِبَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ مِقْرَعَةً ثُمَّ حُبِسَ فِي الْمُطْبِقِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ صَاحِبُ
الْجِسْرِ يَعْنِي نَائِبَ بَغْدَادَ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ
مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَصُيِّرَ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ مَكَانَهُ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ
خَمْسُ خِلَعٍ، وَقُلِّدَ سَيْفًا.
قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ لَهُ فِي نِيَابَةِ بَغْدَادَ وَالْعِرَاقِ مِنْ زَمَنِ
الْمَأْمُونِ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الدُّعَاةِ تَبَعًا لِسَادَتِهِ وَكُبَرَائِهِ،
إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَاهَانَ الْمَوْصِلِيُّ النَّدِيمُ، الْأَدِيبُ
ابْنُ الْأَدِيبِ، النَّادِرُ الشَّكْلُ فِي وَقْتِهِ الْمَجْمُوعُ الْفَضَائِلِ
مِنْ كُلِّ فَنٍّ يَعْرِفُهُ أَبْنَاءُ عَصْرِهِ، مِنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ
وَالْجَدَلِ وَالْكَلَامِ وَاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ، وَإِنَّمَا اشْتُهِرَ بِالْغِنَاءِ
; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الدُّنْيَا نَظِيرٌ فِيهِ.
قَالَ الْمُعْتَصِمُ: إِنَّ إِسْحَاقَ إِذَا غَنَّى يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّهُ
قَدْ زِيدَ فِي مُلْكِي. وَقَالَ الْمَأْمُونُ لَوْلَا اشْتِهَارُهُ بِالْغِنَاءِ
لَوَلَّيْتُهُ الْقَضَاءَ ; لِمَا أَعْلَمُهُ مِنْ عِفَّتِهِ وَنَزَاهَتِهِ
وَأَمَانَتِهِ.
وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، وَدِيوَانٌ كَبِيرٌ. وَكَانَتْ عِنْدَهُ كُتُبٌ
كَثِيرَةٌ مِنْ كُلِّ فَنٍّ.
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ وَقِيلَ: فِي الَّتِي
بَعْدَهَا.
وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ تَرْجَمَةً حَافِلَةً، وَذَكَرَ
عَنْهُ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، وَأَشْعَارًا بَدِيعَةً رَائِقَةً، وَحِكَايَاتٍ
مُدْهِشَةً يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهَا. فَمِنْ غَرِيبِ ذَلِكَ أَنَّهُ غَنَّى
يَوْمًا لِيَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ فَوَقَّعَ لَهُ بِأَلْفِ أَلْفٍ،
وَوَقَّعَ لَهُ ابْنُهُ جَعْفَرٌ بِمِثْلِهَا، وَابْنُهُ الْفَضْلُ بِمِثْلِهَا
فِي حِكَايَةٍ طَوِيلَةٍ.
قُلْتُ: وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، وَشَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَحَدُ الْأَعْلَامِ
وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَصَاحِبُ " الْمُصَنَّفِ " الَّذِي لَمْ
يُصَنِّفْ أَحَدٌ مِثْلَهُ قَطُّ، لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا أَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ بِهَدْمِ قَبْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ وَمَا حَوْلَهُ مِنَ الْمَنَازِلِ وَالدُّورِ، وَنُودِيَ فِي
النَّاسِ: مَنْ وُجِدَ هَاهُنَا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ رُفِعَ إِلَى
الْمُطْبِقِ. فَلَمْ يَبْقَ هُنَاكَ بَشَرٌ، وَاتَّخَذَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ
مَزْرَعَةً تُحْرَثُ وَتُسْتَغَلُّ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدٌ الْمُنْتَصِرُ ابْنُ الْمُتَوَكِّلِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ: مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ، سَمَّهُ ابْنُ
أَخِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ هَذَا مِنَ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ الْوَزِيرُ، وَالِدُ بُورَانَ زَوْجَةِ
الْمَأْمُونِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَكَانَ مِنْ سَرَاةِ النَّاسِ
وَرُؤَسَائِهِمْ. وَيُقَالُ: إِنَّ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ تُوُفِّيَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْمَرْوَزِيُّ
فَجْأَةً، فَوَلِيَ ابْنُهُ يُوسُفُ مَكَانَهُ عَلَى نِيَابَةِ أَرْمِينِيَّةَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَيْضًا: إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ،
وَمُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ، وَهُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ
الْقَيْسِيُّ، وَأَبُو الصَّلْتِ الْهَرَوِيُّ، أَحَدُ الضُّعَفَاءِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا قَبَضَ يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ نَائِبُ أَرْمِينِيَّةَ عَلَى
الْبِطْرِيقِ الْكَبِيرِ بِهَا وَبَعَثَهُ إِلَى نَائِبِ الْخَلِيفَةِ، وَاتَّفَقَ
بَعْدَ بَعْثِهِ إِيَّاهُ أَنْ سَقَطَ ثَلْجٌ عَظِيمٌ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ،
فَتَحَزَّبَ أَهْلُ ذَلِكَ الْبِطْرِيقِ، وَجَاءُوا فَحَاصَرُوا الْبَلَدَ الَّتِي
بِهَا يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ ; لِيُقَاتِلَهُمْ،
فَقَتَلُوهُ وَطَائِفَةً كَبِيرَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَعَهُ،
وَهَلَكَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الثَّلْجِ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ، وَلَمَّا
بَلَغَ الْمُتَوَكِّلَ مَا وَقَعَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ ; أَرْسَلَ
إِلَى أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ بُغَا الْكَبِيرَ مِنْ جَيْشٍ كَثِيفٍ جِدًّا،
فَقَتَلَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ مِمَّنْ حَاصَرَ الْمَدِينَةَ وَقَتَلَ
الْأَمِيرَ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَأَسَرَ مِنْهُمْ طَائِفَةً
كَبِيرَةً، ثُمَّ سَارَ إِلَى بِلَادِ الْبَاقِ مِنْ كُورَةِ الْبَسْفُرْجَانَ،
وَسَلَكَ إِلَى مُدُنٍ كَثِيرَةٍ كِبَارٍ، وَمَهَّدَ الْمَمَالِكَ، وَوَطَّدَ
الْبِلَادَ وَالنَّوَاحِيَ.
وَفِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ غَضِبَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ
أَبِي دُؤَادٍ الْقَاضِي الْمُعْتَزِلِيِّ، وَكَانَ عَلَى الْمَظَالِمِ فَعَزَلَهُ
عَنْهَا، وَاسْتَدْعَى بِيَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ فَوَلَّاهُ قَضَاءَ
الْقُضَاةِ وَالْمَظَالِمِ أَيْضًا.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى ضِيَاعِ
ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ، وَأَخَذَ ابْنَهُ أَبَا الْوَلِيدِ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ
بْنِ أَبِي دُؤَادٍ، فَحَبَسَهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ
رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَأَمَرَ بِمُصَادَرَتِهِ فَحَمَلَ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ
وَعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ مَا يُقَوَّمُ
بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ صُولِحَ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ
دِرْهَمٍ وَكَانَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ قَدْ أَصَابَهُ الْفَالِجُ كَمَا ذَكَرْنَا
ثُمَّ نَفَى أَهْلَهُ مِنْ سَامَرَّا إِلَى بَغْدَادَ مُهَانِينَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فَقَالَ فِي ذَلِكَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ:
لَوْ كُنْتَ فِي الرَّأْيِ مَنْسُوبًا إِلَى رَشَدٍ وَكَانَ عَزْمُكَ عَزْمًا
فِيهِ تَوْفِيقُ لَكَانَ فِي الْفِقْهِ شُغْلٌ لَوْ قَنِعْتَ بِهِ
عَنْ أَنْ تَقُولَ كِتَابُ اللَّهِ مَخْلُوقُ مَاذَا عَلَيْكَ وَأَصْلُ الدِّينِ
يَجْمَعُهُمْ
مَا كَانَ فِي الْفَرْعِ لَوْلَا الْجَهْلُ وَالْمُوْقُ
وَفِي عِيدِ الْفِطْرِ مِنْهَا أَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ بِإِنْزَالِ جُثَّةِ
أَحْمَدَ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيِّ، وَالْجَمْعِ
بَيْنَ رَأْسِهِ وَجَسَدِهِ، وَأَنْ يُسَلَّمَ إِلَى أَوْلِيَائِهِ، فَفَرِحَ
النَّاسُ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَاجْتَمَعَ مِنَ الْعَامَّةِ فِي
جِنَازَتِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ جِدًّا، وَجَعَلُوا يَتَمَسَّحُونَ بِهَا،
وَبِأَعْوَادِ نَعْشِهِ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، ثُمَّ أَتَوْا إِلَى
الْجِذْعِ الَّذِي صُلِبَ عَلَيْهِ فَجَعَلُوا يَتَمَسَّحُونَ بِهِ، وَأَرْهَجَ
الْعَامَّةُ فِي ذَلِكَ فَرَحًا وَسُرُورًا،
فَكَتَبَ الْمُتَوَكِّلُ إِلَى نَائِبِهِ يَأْمُرُهُ بِرَدْعِهِمْ عَنْ
تَعَاطِي مِثْلِ ذَلِكَ وَعَنِ الْمُغَالَاةِ فِي الْبَشَرِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى
الْآفَاقِ بِالْمَنْعِ مِنَ الْكَلَامِ، فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَالْكَفِّ
عَنِ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَأَظْهَرَ إِكْرَامَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ وَاسْتَدْعَاهُ مِنْ بَغْدَادَ إِلَيْهِ، فَاجْتَمَعَ بِهِ
فَأَكْرَمَهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ سَنِيَّةٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، وَخَلَعَ
عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً مِنْ مَلَابِسِهِ، فَاسْتَحْيَا مِنْهُ أَحْمَدُ كَثِيرًا،
فَلَبِسَهَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ نَازِلًا فِيهِ، ثُمَّ نَزَعَهَا
نَزْعًا عَنِيفًا وَهُوَ يَبْكِي، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَجَعَلَ الْمُتَوَكِّلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يُرْسِلُ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامِهِ
الْخَاصِّ يَظُنُّ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهُ، وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَا
يَأْكُلُ لَهُمْ طَعَامًا، بَلْ كَانَ صَائِمًا مُوَاصِلًا يَطْوِي تِلْكَ
الْأَيَّامَ كُلَّهَا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ شَيْءٌ يَرْتَضِي
أَكْلَهُ، وَلَكِنْ كَانَ ابْنَاهُ صَالِحٌ وَعَبْدُ اللَّهِ يَقْبَلَانِ تِلْكَ الْجَوَائِزَ،
وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ أَسْرَعُوا
الْأَوْبَةَ إِلَى بَغْدَادَ لَخُشِيَ عَلَى أَحْمَدَ أَنْ يَمُوتَ جُوعًا.
وَارْتَفَعَ شَأْنُ السُّنَّةِ جِدًّا فِي أَيَّامِ الْمُتَوَكِّلِ عَفَا اللَّهُ
عَنْهُ وَكَانَ لَا يُوَلِّي أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ مَشُورَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ، وَكَانَتْ وِلَايَةُ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ
مَوْضِعَ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ عَنْ مَشُورَتِهِ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ يَحْيَى
بْنُ أَكْثَمَ هَذَا مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَعُلَمَاءِ النَّاسِ، وَمِنَ
الْمُعَظِّمِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَاتِّبَاعِ
الْأَثَرِ، وَكَانَ قَدْ وَلَّى مِنْ جِهَتِهِ حَيَّانَ بْنَ بِشْرٍ قَضَاءَ
الشَّرْقِيَّةِ، وَسَوَّارَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيَّ قَضَاءَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَكِلَاهُمَا
كَانَ أَعْوَرَ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ:
رَأَيْتُ مِنَ الْكَبَائِرِ قَاضِيَيْنِ هُمَا أُحْدُوثَةٌ فِي الْخَافِقَيْنِ
هُمَا اقْتَسَمَا الْعَمَى نِصْفَيْنِ قَدًّا كَمَا اقْتَسَمَا قَضَاءَ الْجَانِبَيْنِ
وَتَحْسَبُ مِنْهُمَا مَنْ هَزَّ رَأْسًا لِيَنْظُرَ فِي مَوَارِيثٍ وَدَيْنِ
كَأَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ عَلَيْهِ دَنًّا فَتَحْتَ بُزَالَهُ مِنْ فَرْدِ عَيْنِ
هُمَا فَأْلُ الزَّمَانِ بِهُلْكِ يَحْيَى إِذِ افْتَتَحَ الْقَضَاءَ
بِأَعْوَرَيْنِ
وَغَزَا الصَّائِفَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْأَرْمِنِيُّ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ جَعْفَرِ ابْنِ أَبِي
جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، أَمِيرُ الْحِجَازِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ وَعَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ،
وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ الْفُضَيْلُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْجَحْدَرِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا حَاصَرَ بُغَا مَدِينَةَ تَفْلِيسَ وَعَلَى
مُقَدِّمَتِهِ زَيْرَكُ التُّرْكِيُّ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ صَاحِبُ تَفْلِيسَ
إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ فَقَاتَلَهُ، فَأُسِرَ إِسْحَاقُ، فَأَمَرَ بُغَا
بِضَرْبِ عُنُقِهِ وَصَلْبِهِ، وَأَمَرَ بِإِلْقَاءِ النَّارِ فِي النِّفْطِ إِلَى
نَحْوِ الْمَدِينَةِ وَكَانَ أَكْثَرُ بِنَائِهَا مِنْ خَشَبِ الصَّنَوْبَرِ،
فَأَحْرَقَ أَكْثَرَهَا، وَأَحْرَقَ مِنْ أَهْلِهَا نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ
إِنْسَانٍ، وَطَفِئَتِ النَّارُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ ; لِأَنَّ نَارَ الصَّنَوْبَرِ
لَا بَقَاءَ لَهَا، وَدَخَلَ الْجُنْدُ فَأَسَرُوا مَنْ بَقِيَ مَنْ أَهْلِهَا،
وَاسْتَلَبُوهُمْ حَتَّى اسْتَلَبُوا الْمَوْتَى. ثُمَّ سَارَ بُغَا إِلَى مُدُنٍ
أُخْرَى مِمَّنْ كَانَ يُمَالِئُ أَهْلُهَا مَعَ مَنْ قَتَلَ نَائِبَ
أَرْمِينِيَّةَ يُوسُفَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، أَخْذًا بِثَأْرِهِ
وَعُقُوبَةً لِمَنْ تَجَرَّأَ عَلَيْهِ.
وَفِيهَا جَاءَتِ الْفِرِنْجُ فِي نَحْوٍ مَنْ ثَلَاثِمِائَةِ مَرْكَبٍ،
قَاصِدِينَ دِيَارَ مِصْرَ مِنْ نَاحِيَةِ دِمْيَاطَ فَدَخَلُوهَا فَجْأَةً
فَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَحَرَقُوا الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ
وَالْمِنْبَرَ، وَأَسَرُوا مِنَ النِّسَاءِ نَحْوًا مِنْ سِتِّمِائَةِ امْرَأَةٍ ;
مِنَ الْمُسْلِمَاتِ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَالْبَاقِيَاتُ مِنْ
نِسَاءِ الْقِبْطِ، وَأَخَذُوا مِنَ الْأَسْلِحَةِ وَالْأَمْتِعَةِ
وَالْمَغَانِمَ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، وَفَرَّ النَّاسُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ
جِهَةٍ فَكَانَ مَنْ غَرِقَ فِي بُحَيْرَةِ تِنِّيسَ أَكْثَرَ مِمَّنْ أَسَرُوهُ،
ثُمَّ رَجَعُوا عَلَى حَمِيَّةٍ، وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ أَحَدٌ حَتَّى رَجَعُوا
بِلَادَهُمْ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا الصَّائِفَةَ عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْأَرْمِنِيُّ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ أَحَدُ الْأَعْلَامِ وَعُلَمَاءِ
الْإِسْلَامِ وَالْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْأَنَامِ. وَبِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ، الْفَقِيهُ
الْحَنَفِيُّ، وَطَالُوتُ بْنُ عَبَّادٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ
الرَّيَّانِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ
الْبُرْجُلَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّرِىِّ الْعَسْقَلَانِيُّ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا زَادَ الْمُتَوَكِّلُ فِي التَّغْلِيظِ عَلَى أَهْلِ
الذِّمَّةِ فِي التَّمَيُّزِ فِي اللِّبَاسِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَكَّدَ
الْأَمْرَ بِتَخْرِيبِ الْكَنَائِسِ الْمُحْدَثَةِ فِي الْإِسْلَامِ.
وَفِيهَا نَفَى الْمُتَوَكِّلُ عَلِيَّ بْنَ الْجَهْمِ إِلَى خُرَاسَانَ.
وَفِيهَا اتَّفَقَ شَعَانِينُ النَّصَارَى وَيَوْمُ النَّيْرُوزِ فِي يَوْمٍ
وَاحِدٍ وَهُوَ يَوْمُ الْأَحَدِ لِعِشْرِينَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي
الْقَعْدَةِ، وَزَعَمَتِ النَّصَارَى أَنَّ هَذَا لَمْ يَتَّفِقْ مِثْلُهُ فِي
الْإِسْلَامِ إِلَّا فِي هَذَا الْعَامِ.
وَغَزَا الصَّائِفَةَ عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْمَذْكُورُ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ
عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالِي مَكَّةَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْوَلِيدِ مُحَمَّدٌ ابْنُ
الْقَاضِي أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادٍ
الْإِيَادِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ.
قُلْتُ: وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ وَصَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ مُؤَذِّنُ أَهْلِ دِمَشْقَ
وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ أَحَدُ الْمَشَاهِيرِ،
وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ صَاحِبُ " التَّفْسِيرِ "، "
وَالْمُسْنَدِ " الْمَشْهُورِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ،
وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، وَوَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ.
وَأَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَنْطَاكِيُّ، أَبُو عَلِيٍّ الْوَاعِظُ الزَّاهِدُ
أَحَدُ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق