الأحد، 1 أغسطس 2021

11 البداية والنهاية عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي

   11       البداية والنهاية  عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

.....= فلَمْ أُطِقْ ذَاكَ وَعَلِمْتُ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنِّي.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي وَالِدِي إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: إِنَّا لَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ، إِذْ نَظَرْتُ إِلَى مِثْلِ الْبِجَادِ الْأَسْوَدِ يَهْوِي مِنَ السَّمَاءِ حَتَّى وَقَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ، فَإِذَا نَمْلٌ مَنْثُورٌ قَدْ مَلَأَ الْوَادِي، فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا هَزِيمَةُ الْقَوْمِ، فَمَا كُنَّا نَشُكُّ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِهِ. وَزَادَ: فَقَالَ خَدِيجُ بْنُ الْعَوْجَاءِ النَّصْرِيُّ - يَعْنِي فِي ذَلِكَ -:
وَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ حُنَيْنٍ وَمَائِهِ رَأَيْنَا سَوَادًا مُنْكَرَ اللَّوْنِ أَخْصَفَا
بِمَلْمُومَةٍ شَهْبَاءَ لَوْ قَذَفُوا بِهَا شَمَارِيخَ مِنْ عَرْوَى إِذًا عَادَ صَفْصَفَا
وَلَوْ أَنَّ قَوْمِي طَاوَعَتْنِي سَرَاتُهُمْ إِذًا مَا لَقِينَا الْعَارِضَ الْمُتَكَشِّفَا
إِذًا مَا لَقِينَا جُنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ ثَمَانِينَ أَلْفًا وَاسْتَمَدُّوا بِخِنْدِفَا
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ شِعْرِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ رَئِيسِ هَوَازِنَ يَوْمَ

الْقِتَالِ وَهُوَ فِي حَوْمَةِ الْوَغَى يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:
أَقْدِمْ مُحَاجُ إِنَّهُ يَوْمٌ نُكُرْ مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ يَحْمِي وَيَكُرْ
إِذَا أُضِيعَ الصَّفُّ يَوْمًا وَالدُّبُرْ ثُمَّ احْزَأَلَّتْ زُمَرٌ بَعْدَ زُمَرْ
كَتَائِبُ يَكِلُّ فِيهِنَّ الْبَصَرْ قَدْ أَطْعُنُ الطَّعْنَةَ تَقْذِي بِالسُّبُرْ
حِينَ يُذَمُّ الْمُسْتَكِينُ الْمُنْجَحِرْ وَأَطْعُنُ النَّجْلَاءَ تَعْوِي وَتَهِرْ
لَهَا مِنَ الْجَوْفِ رَشَاشٌ مُنْهَمِرْ تَفْهَقُ تَارَاتٍ وَحِينًا تَنْفَجِرْ
وَثَعْلَبُ الْعَامِلِ فِيهَا مُنْكَسِرْ يَا زَيْنُ يَابْنَ هَمْهَمٍ أَيْنَ تَفِرْ
قَدْ نَفِدَ الضِّرْسُ وَقَدْ طَالَ الْعُمُرْ قَدْ عَلِمَ الْبِيضُ الطَّوِيلَاتُ الْخُمُرْ
أَنِّي فِي أَمْثَالِهَا غَيْرُ غَمِرْ إِذْ تَخْرُجُ الْحَاضِنُ مِنْ تَحْتِ السُّتُرْ
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ أَنْشَدَ مِنْ شِعْرِ مَالِكٍ

أَيْضًا حِينَ وَلَّى أَصْحَابُهُ مُنْهَزِمِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ، وَقِيلَ هِيَ لِغَيْرِهِ:
اذْكُرْ مَسِيرَهُمُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمُ وَمَالِكٌ فَوْقَهُ الرَّايَاتُ تَخْتَفِقُ
وَمَالِكٌ مَالِكٌ مَا فَوْقَهُ أَحَدٌ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَيْهِ التَّاجُ يَأْتَلِقُ
حَتَّى لَقُوا النَّاسَ حِينَ الْبَأْسِ يَقْدُمُهُمْ عَلَيْهِمُ الْبَيْضُ وَالْأَبْدَانُ وَالدَّرَقُ
فَضَارَبُوا النَّاسَ حَتَّى لَمْ يَرَوْا أَحَدًا حَوْلَ النَّبِيِّ وَحَتَّى جَنَّهُ الْغَسَقُ
حَتَّى تَنَزَّلَ جِبْرِيلُ بِنَصْرِهِمُ فَالْقَوْمُ مُنْهَزِمٌ مِنَّا وَمُعْتَلِقُ
مِنَّا وَلَوْ غَيْرُ جِبْرِيلَ يُقَاتِلُنَا لَمَنَّعَتْنَا إِذًا أَسْيَافُنَا الْغُلُقُ
وَقَدْ وَفَى عُمَرُ الْفَارُوقُ إِذْ هَزَمُوا بِطَعْنَةٍ بَلَّ مِنْهَا سَرْجَهُ الْعُلُقُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا هَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمْكَنَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

مِنْهُمْ، قَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ:
قَدْ غَلَبَتْ خَيْلُ اللَّهِ خَيْلَ اللَّاتِ وَاللَّهُ أَحَقُّ بِالثَّبَاتْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَقَدْ أَنْشَدَنِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الرِّوَايَةِ لِلشِّعْرِ:
غَلَبَتْ خَيْلُ اللَّهِ خَيْلَ اللَّاتْ وَخَيْلُهُ أَحَقُّ بِالثَّبَاتْ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَفَلَمَّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ اسْتَحَرَّ الْقَتْلُ مِنْ ثَقِيفٍ فِي بَنِي مَالِكٍ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا تَحْتَ رَايَتِهِمْ، وَكَانَتْ مَعَ ذِي الْخِمَارِ، فَلَمَّا قُتِلَ أَخَذَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبٍ فَقَاتَلَ بِهَا حَتَّى قُتِلَ، فَأَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا بَلَغَهُ قَتْلُهُ قَالَ: " أَبْعَدَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَبْغُضُ قُرَيْشًا ".
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَتَبَةَ أَنَّهُ قُتِلَ مَعَ عُثْمَانَ هَذَا غُلَامٌ لَهُ نَصْرَانِيٌّ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لِيَسْلُبَهُ، فَإِذَا هُوَ أَغْرَلُ، فَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّ ثَقِيفًا غُرْلٌ. قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ الثَّقَفِيُّ: فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَذْهَبَ عَنَّا فِي الْعَرَبِ، فَقُلْتُ: لَا تَقُلْ كَذَلِكَ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، إِنَّمَا هُوَ غُلَامٌ لَنَا نَصْرَانِيٌّ. ثُمَّ جَعَلْتُ أَكْشِفُ لَهُ الْقَتْلَى فَأَقُولُ لَهُ: أَلَا تَرَاهُمْ مُخْتَتِنِينَ كَمَا تَرَى؟
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ رَايَةُ الْأَحْلَافِ مَعَ قَارِبِ بْنِ الْأَسْوَدِ فَلَمَّا انْهَزَمَ

النَّاسُ أَسْنَدَ رَايَتَهُ إِلَى شَجَرَةٍ، وَهَرَبَ هُوَ وَبَنُو عَمِّهِ وَقَوْمُهُ، فَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ الْأَحْلَافِ غَيْرُ رَجُلَيْنِ; رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِيَرَةَ يُقَالُ لَهُ: وَهْبٌ. وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي كُبَّةَ يُقَالُ لَهُ: الْجُلَاحُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَلَغَهُ قَتْلُ الْجُلَاحِ: " قُتِلَ الْيَوْمَ سَيِّدُ شَبَابِ ثَقِيفٍ، إِلَّا مَا كَانَ مِنِ ابْنِ هُنَيْدَةَ " يَعْنِي الْحَارِثَ بْنَ أُوَيْسٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ يَذْكُرُ قَارِبَ بْنَ الْأَسْوَدِ وَفِرَارَهُ مِنْ بَنِي أَبِيهِ، وَذَا الْخِمَارِ وَحَبْسَهُ نَفْسَهُ وَقَوْمَهُ لِلْمَوْتِ:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ غَيْلَانَ عَنِّي وَسَوْفَ إِخَالُ يَأْتِيهِ الْخَبِيرُ
وَعُرْوَةَ إِنَّمَا أُهْدِي جَوَابًا وَقَوْلًا غَيْرَ قَوْلِكَمَا يَسِيرُ
بِأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدٌ رَسُولٌ لِرَبٍّ لَا يَضِلُّ وَلَا يَجُورُ
وَجَدْنَاهُ نَبِيًّا مِثْلَ مُوسَى فَكُلُّ فَتًى يُخَايِرُهُ مَخِيرُ
وَبِئْسَ الْأَمْرُ أَمْرُ بَنِي قُسِيٍّ بِوَجٍّ إِذْ تُقُسِّمَتِ الْأُمُورُ
أَضَاعُوا أَمْرَهُمْ وَلِكُلِّ قَوْمٍ أَمِيرٌ وَالدَّوَائِرُ قَدْ تَدُورُ
فَجِئْنَا أُسْدَ غَابَاتٍ إِلَيْهِمْ جُنُودُ اللَّهِ ضَاحِيَةً تَسِيرُ
نَؤُمُّ الْجَمْعَ جَمْعَ بَنِي قَسِيٍّ عَلَى حَنَقٍ نَكَادُ لَهُ نَطِيرُ

وَأُقْسِمُ لَوْ هُمُ مَكَثُوا لَسِرْنَا إِلَيْهِمْ بِالْجُنُودِ وَلَمْ يَغُورُوا
فَكُنَّا أُسْدَ لِيَّةَ ثُمَّ حَتَّى أَبَحْنَاهَا وَأَسْلَمَتِ النُّصُورُ
وَيَوْمٌ كَانَ قَبْلُ لَدَى حُنَيْنٍ فَأَقْلَعَ وَالدِّمَاءُ بِهِ تَمُورُ
مِنَ الْأَيَّامِ لَمْ تَسْمَعْ كَيَوْمٍ وَلَمْ يَسْمَعْ بِهِ قَوْمٌ ذُكُورُ
قَتَلْنَا فِي الْغُبَارِ بَنِي حُطَيْطٍ عَلَى رَايَاتِهَا وَالْخَيْلُ زُورٌ
وَلَمْ يَكُ ذُو الْخِمَارِ رَئِيسَ قَوْمٍ لَهُمْ عَقْلٌ يُعَاقِبُ أَوْ نَكِيرُ
أَقَامَ بِهِمْ عَلَى سَنَنِ الْمَنَايَا وَقَدْ بَانَتْ لِمُبْصِرِهَا الْأُمُورُ
فَأَفْلَتَ مَنْ نَجَا مِنْهُمْ جَرِيضًا وَقُتِّلَ مِنْهُمُ بَشَرٌ كَثِيرٌ
وَلَا يُغْنِي الْأُمُورَ أَخُو التَّوَانِي وَلَا الْغَلِقُ الصُّرَيِّرَةُ الْحَصُورُ
أَحَانَهُمْ وَحَانَ وَمَلَّكُوهُ أُمُورَهُمُ وَأَفْلَتَتِ الصُّقُورُ
بَنُو عَوْفٍ تَمِيحُ بِهِمْ جِيَادٌ أُهِينَ لَهَا الْفَصَافِصُ وَالشَّعِيرُ

فَلَوْلَا قَارِبٌ وَبَنُو أَبِيهِ تُقُسِّمَتِ الْمَزَارِعُ وَالْقُصُورُ
وَلَكِنَّ الرِّيَاسَةَ عُمِّمُوهَا عَلَى يُمْنٍ أَشَارَ بِهِ الْمُشِيرُ
أَطَاعُوا قَارِبًا وَلَهُمْ جُدُودٌ وَأَحْلَامٌ إِلَى عِزٍّ تَصِيرُ
فَإِنْ يُهْدَوْا إِلَى الْإِسْلَامِ يُلْفَوْا أُنُوفَ النَّاسِ مَا سَمَرَ السَّمِيرُ
فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا فَهُمُ أَذَانٌ بِحَرْبِ اللَّهِ لَيْسَ لَهُمُ نَصِيرُ
كَمَا حَكَّتْ بَنُو سَعْدٍ وَحَرْبٍ بِرَهْطِ بَنِي غَزِيَّةَ عَنْقَفِيرُ
كَأَنَّ بَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ إِلَى الْإِسْلَامِ ضَائِنَةٌ تَخُورُ
فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمُ وَقَدْ بَرَأَتْ مِنَ الْإِحَنِ الصُّدُورُ
كَأَنَّ الْقَوْمَ إِذْ جَاءُوا إِلَيْنَا مِنَ الْبَغْضَاءِ بَعْدَ السِّلْمِ عُورُ

فَصْلٌ ( هَزِيمَةُ هَوَازِنَ ).
وَلَمَّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ وَقَفَ مَلِكُهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ عَلَى ثَنِيَّةٍ مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: قِفُوا حَتَّى تَجُوزَ ضُعَفَاؤُكُمْ وَتَلْحَقَ أُخْرَاكُمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَلَغَنِي أَنَّ خَيْلًا طَلَعَتْ وَمَالَكٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الثَّنِيَّةِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: نَرَى قَوْمًا وَاضِعِي رِمَاحِهِمْ بَيْنَ آذَانِ خَيْلِهِمْ، طَوِيلَةً بِوَادُّهُمْ. فَقَالَ: هَؤُلَاءِ بَنُو سُلَيْمٍ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ. فَلَمَّا أَقْبَلُوا سَلَكُوا بَطْنَ الْوَادِي، ثُمَّ طَلَعَتْ خَيْلٌ أُخْرَى تَتْبَعُهَا، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: نَرَى قَوْمًا عَارِضِي رِمَاحِهِمْ أَغْفَالًا عَلَى خَيْلِهِمْ. فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ. فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى أَصْلِ الثَّنِيَّةِ سَلَكُوا طَرِيقَ بَنِي سُلَيْمٍ، ثُمَّ طَلَعَ فَارِسٌ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ فَقَالُوا: نَرَى فَارِسًا طَوِيلَ الْبَادِّ، وَاضِعًا رُمْحَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، عَاصِبًا رَأْسَهُ بِمُلَاءَةٍ حَمْرَاءَ. قَالَ: هَذَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَأُقْسِمُ بِاللَّاتِ لِيُخَالِطَنَّكُمْ فَاثْبُتُوا لَهُ. فَلَمَّا انْتَهَى الزُّبَيْرُ إِلَى أَصْلِ الثَّنِيَّةِ أَبْصَرَ الْقَوْمَ فَصَمَدَ لَهُمْ، فَلَمْ يَزَلْ يُطَاعِنُهُمْ حَتَّى أَزَاحَهُمْ عَنْهَا.

فَصْلٌ ( أَمْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَمْعِ الْغَنَائِمِ ).
وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَنَائِمِ فَجُمِعَتْ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ، وَأَمَرَ أَنْ تُسَاقَ إِلَى الْجِعْرَانَةِ فَتُحْبَسَ هُنَاكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْغَنَائِمِ مَسْعُودَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ.

فَصْلٌ ( مُرُورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي قَتَلَهَا خَالِدٌ ).
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ يَوْمَئِذٍ بِامْرَأَةٍ قَتَلَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالنَّاسُ مُتَقَصِّفُونَ عَلَيْهَا، فَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: " أَدْرِكْ خَالِدًا فَقُلْ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَاكَ أَنْ تَقْتُلَ وَلِيدًا أَوِ امْرَأَةً أَوْ عَسِيفًا " هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مُنْقَطِعًا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو ثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ حَدَّثَنِي الْمُرَقَّعُ بْنُ صَيْفِيٍّ عَنْ جَدِّهِ رَبَاحِ

بْنِ رَبِيعٍ أَخِي حَنْظَلَةَ الْكَاتِبِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَمَرَّ رَبَاحٌ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ مِمَّا أَصَابَتِ الْمُقَدِّمَةُ، فَوَقَفُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ خَلْقِهَا حَتَّى لَحِقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَانْفَرَجُوا عَنْهَا، فَوَقَفَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ ". فَقَالَ لِأَحَدِهِمْ: " الْحَقْ خَالِدًا فَقُلْ لَهُ: لَا تَقْتُلَنَّ ذَرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا ". وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْمُرَقَّعِ بْنِ صَيْفِيٍّ بِهِ نَحْوَهُ.

( سَرِيَّةُ أَوْطَاسٍ ).
وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ هَوَازِنَ لَمَّا انْهَزَمَتْ ذَهَبَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ، فِيهِمُ الرَّئِيسُ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ فَلَجَئُوا إِلَى الطَّائِفِ فَتَحَصَّنُوا بِهَا، وَسَارَتْ فِرْقَةٌ فَعَسْكَرُوا بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: أَوَطَاسٌ. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِمْ أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ فَقَاتَلُوهُمْ فَغَلَبُوهُمْ، ثُمَّ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، فَحَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَتَوْا الطَّائِفَ وَمَعَهُمْ

مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ وَعَسْكَرَ بَعْضُهُمْ بِأَوْطَاسٍ، وَتَوَجَّهَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ نَخْلَةَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَنْ تَوَجَّهَ نَحْوَ نَخْلَةَ إِلَّا بَنُو غَيْرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ، وَتَبِعَتْ خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَلَكَ فِي نَخْلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَلَمْ تَتْبَعْ مَنْ سَلَكَ الثَّنَايَا. قَالَ: فَأَدْرَكَ رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعِ بْنِ أُهْبَانَ السُّلَمِيُّ - وَيُعْرَفُ بِابْنِ الدُّغُنَّةِ وَهِيَ أُمُّهُ - دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ فَأَخَذَ بِخِطَامِ جَمَلِهِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ امْرَأَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ فِي شِجَارٍ لَهُ، فَإِذَا بِرَجُلٍ، فَأَنَاخَ بِهِ، فَإِذَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَإِذَا دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ وَلَا يَعْرِفُهُ الْغُلَامُ، فَقَالَ لَهُ دُرَيْدٌ: مَاذَا تُرِيدُ بِي؟ قَالَ أَقْتُلُكَ. قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعٍ السُّلَمِيُّ. ثُمَّ ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ، فَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا، قَالَ: بِئْسَ مَا سَلَّحَتْكَ أُمُّكَ، خُذْ سَيْفِي هَذَا مِنْ مُؤَخَّرِ رَحْلِي فِي الشِّجَارِ، ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ، وَارْفَعْ عَنِ الْعِظَامِ وَاخْفِضْ عَنِ الدِّمَاغِ، فَإِنِّي كَذَلِكَ كُنْتُ أَضْرِبُ الرِّجَالَ، ثُمَّ إِذَا أَتَيْتَ أُمَّكَ فَأَخْبِرْهَا أَنَّكَ قَتَلْتَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ فَرُبَّ - وَاللَّهِ - يَوْمٍ مَنَعْتُ فِيهِ نِسَاءَكَ. فَزَعَمَ بَنُو سُلَيْمٍ أَنَّ رَبِيعَةَ قَالَ: لَمَّا ضَرَبْتُهُ فَوَقَعَ تَكَشَّفَ، فَإِذَا عِجَانُهُ وَبُطُونُ فَخِذَيْهِ مِثْلُ الْقَرَاطِيسِ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ أَعْرَاءً. فَلَمَّا رَجَعَ رَبِيعَةُ إِلَى أُمِّهِ أَخْبَرَهَا بِقَتْلِهِ إِيَّاهُ، فَقَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْتَقَ أُمَّهَاتٍ لَكَ ثَلَاثًا. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَا رَثَتْ بِهِ عَمْرَةُ بِنْتُ دُرَيْدٍ أَبَاهَا، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهَا:

قَالُوا قَتَلْنَا دُرَيْدًا قُلْتُ قَدْ صَدَقُوا فَظَلَّ دَمْعِي عَلَى السِّرْبَالِ مُنْحَدِرُ لَوْلَا الَّذِي قَهَرَ الْأَقْوَامَ كُلَّهُمُ
رَأَتْ سُلَيْمٌ وَكَعْبٌ كَيْفَ تَأْتَمِرُ إِذَنْ لَصَبَّحَهُمْ غِبًّا وَظَاهِرَةً
حُيْثُ اسْتَقَرَّتْ نَوَاهُمْ جَحْفَلٌ ذَفِرُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارِ مَنْ تَوَجَّهَ قِبَلَ أَوْطَاسٍ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيَّ فَأَدْرَكَ مِنَ النَّاسِ بَعْضَ مَنِ انْهَزَمَ، فَنَاوَشُوهُ الْقِتَالَ، فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فَقُتِلَ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ فَقَاتَلَهُمْ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَهَزَمَهُمُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ دُرَيْدٍ هُوَ الَّذِي رَمَى أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيَّ بِسَهْمٍ، فَأَصَابَ رُكْبَتَهُ فَقَتَلَهُ وَقَالَ:
إِنْ تَسْأَلُوا عَنِّي فَإِنِّي سَلَمَهْ ابْنُ سَمَادِيرَ لِمَنْ تَوَسَّمَهْ
أَضْرِبُ بِالسَّيْفِ رُءُوسَ الْمُسْلِمَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَحَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ وَحَدِيثِهِ، أَنَّ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيَّ لَقِيَ يَوْمَ أَوْطَاسٍ عَشَرَةَ إِخْوَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمْ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِ. فَقَتَلَهُ

أَبُو عَامِرٍ ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ آخَرُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِ. فَقَتَلَهُ أَبُو عَامِرٍ ثُمَّ جَعَلُوا يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ ذَلِكَ، حَتَّى قَتَلَ تِسْعَةً، وَبَقِيَ الْعَاشِرُ، فَحَمَلَ عَلَى أَبِي عَامِرٍ وَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: اللَّهُمَّ لَا تَشْهَدْ عَلَيَّ. فَكَفَّ عَنْهُ أَبُو عَامِرٍ فَأَفْلَتَ، فَأَسْلَمَ بَعْدُ، فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَآهُ قَالَ: " هَذَا شَرِيدُ أَبِي عَامِرٍ " قَالَ: وَرَمَى أَبَا عَامِرٍ أَخَوَانِ; الْعَلَاءُ وَأَوْفَى أَبْنَاءُ الْحَارِثِ مِنْ بَنِي جُشَمَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا قَلْبَهُ وَالْآخِرُ رُكْبَتَهُ فَقَتَلَاهُ، وَوَلَّى النَّاسُ أَبَا مُوسَى فَحَمَلَ عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا، فَقَالَ رَجُلٌ مَنْ بَنِي جُشَمَ يَرْثِيهِمَا:
وَإِنَّ الرَّزِيَّةَ قَتْلُ الْعَلَاءِ وَأَوْفَى جَمِيعًا وَلَمْ يُسْنَدَا
هُمَا الْقَاتِلَانِ أَبَا عَامِرٍ وَقَدْ كَانَ ذَا هَبَّةٍ أَرْبَدَا
هُمَا تَرَكَاهُ لَدَى مَعْرَكٍ كَأَنَّ عَلَى عِطْفِهِ مُجْسَدَا
فَلَمْ يَرَ فِي النَّاسِ مِثْلَيْهِمَا أَقَلَّ عِثَارًا وَأَرْمَى يَدَا
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ:لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُنَيْنٍ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إِلَى أَوْطَاسٍ، فَلَقِيَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ فَقُتِلَ دُرَيْدٌ وَهَزَمَ

اللَّهُ أَصْحَابَهُ. قَالَ أَبُو مُوسَى: وَبَعَثَنِي مَعَ أَبِي عَامِرٍ فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فِي رُكْبَتِهِ، رَمَاهُ جُشَمِيٌّ بِسَهْمٍ فَأَثْبَتَهُ فِي رُكْبَتِهِ. قَالَ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا عَمِّ، مَنْ رَمَاكَ؟ فَأَشَارَ إِلَى أَبِي مُوسَى فَقَالَ: ذَاكَ قَاتِلِي الَّذِي رَمَانِي. فَقَصَدْتُ لَهُ فَلَحِقْتُهُ، فَلَمَّا رَآنِي وَلَّى، فَاتَّبَعْتُهُ وَجَعَلْتُ أَقُولُ لَهُ: أَلَا تَسْتَحِي؟ أَلَا تَثْبُتُ؟ فَكَفَّ، فَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ بِالسَّيْفِ فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ قُلْتُ لِأَبِي عَامِرٍ: قَتَلَ اللَّهُ صَاحِبَكَ. قَالَ: فَانْزِعْ هَذَا السَّهْمَ. فَنَزَعْتُهُ فَنَزَا مِنْهُ الْمَاءُ. قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أَقْرِئْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ اسْتَغْفِرْ لِي. وَاسْتَخْلَفَنِي أَبُو عَامِرٍ عَلَى النَّاسِ، فَمَكَثَ يَسِيرًا ثُمَّ مَاتَ، فَرَجَعْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ عَلَى سَرِيرٍ مُرَمَّلٍ، وَعَلَيْهِ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ رِمَالُ السَّرِيرِ بِظَهْرِهِ وَجَنْبَيْهِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِنَا وَخَبَرِ أَبِي عَامِرٍ وَقَوْلِهِ: قُلْ لَهُ: اسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ ". وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبِطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ " أَوْ " مِنَ النَّاسِ ". فَقُلْتُ: وَلِي فَاسْتَغْفِرْ. فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ، وَأَدْخِلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُدْخَلًا كَرِيمًا " قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: إِحْدَاهُمَا لِأَبِي عَامِرٍ وَالْأُخْرَى لِأَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلَاءِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَرَّادٍ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ - هُوَ الثَّوْرِيُّ - عَنْ

عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أَصَبْنَا نِسَاءً مِنْ سَبْيِ أَوْطَاسٍ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ، فَكَرِهْنَا أَنْ نَقَعَ عَلَيْهِنَّ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ، فَسَأَلْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [ النِّسَاءُ: 24 ]. قَالَ: فَاسْتَحْلَلْنَا بِهَا فُرُوجَهُنَّ وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ بِهِ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ - زَادَ مُسْلِمٌ: وَشُعْبَةُ - وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ الْهَاشِمِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابُوا سَبَايَا يَوْمَ أَوْطَاسٍ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَكَانَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفُّوا وَتَأَثَّمُوا مِنْ غِشْيَانِهِنَّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَهَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَزَادَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ أَبَا عَلْقَمَةَ الْهَاشِمِيَّ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَكَانَ هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ

وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ، حَيْثُ بِيعَتْ ثُمَّ خُيِّرَتْ فِي فَسْخِ نِكَاحِهَا أَوْ إِبْقَائِهِ، فَلَوْ كَانَ بَيْعُهَا طَلَاقًا لَهَا لَمَا خُيِّرَتْ، وَقَدْ تَقَصَّيْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي " الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ ". وَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ عَلَى إِبَاحَةِ الْأَمَةِ الْمُشْرِكَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ، وَخَالَفَهُمُ الْجُمْهُورُ، وَقَالُوا: هَذِهِ قَضِيَّةُ عَيْنٍ، فَلَعَلَّهُنَّ أَسْلَمْنَ أَوْ كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ، وَمَوْضِعُ تَقْرِيرِ ذَلِكَ فِي " الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

( فَصْلٌ فِيمَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَسَرِيَّةِ أَوْطَاسٍ ).
أَيْمَنُ ابْنُ أُمِّ أَيْمَنَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ وَيَزِيدُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ جَمَحَ بِهِ فَرَسُهُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الْجَنَاحُ. فَمَاتَ وَسُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ مِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ، وَأَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ أَمِيرُ سَرِيَّةِ أَوْطَاسٍ، فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

( فَصْلٌ فِيمَا قِيلَ مِنَ الْأَشْعَارِ فِي غَزْوَةِ هَوَازِنَ ).
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بُجَيْرِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى:
لَوْلَا الْإِلَهُ وَعَبْدُهُ وَلَّيْتُمُ حِينَ اسْتَخَفَّ الرُّعْبُ كُلَّ جَبَانِ بِالْجِزْعِ يَوْمَ حَبَا لَنَا أَقْرَانُنَا
وَسَوَابِحُ يَكْبُونَ لِلْأَذْقَانِ مِنْ بَيْنِ سَاعٍ ثَوْبُهُ فِي كَفِّهِ
وَمُقَطَّرٍ بِسَنَابِكَ وَلَبَانِ وَاللَّهُ أَكْرَمَنَا وَأَظْهَرَ دِينَنَا
وَأَعَزَّنَا بِعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ وَاللَّهُ أَهْلَكَهُمْ وَفَرَّقَ جَمْعَهُمْ
وَأَذَلَّهُمْ بِعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيَرْوِي فِيهَا بَعْضُ الرُّوَاةِ:
إِذْ قَامَ عَمُّ نَبِيِّكُمْ وَوَلِيُّهُ يَدْعُونَ يَا لَكَتِيبَةِ الْإِيمَانِ
أَيْنَ الَّذِينَ هُمُ أَجَابُوا رَبَّهُمْ يَوْمَ الْعُرَيْضِ وَبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ

وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ:
فَإِنِّي وَالسَّوَابِحُ يَوْمَ جَمْعٍ وَمَا يَتْلُو الرَّسُولُ مِنَ الْكِتَابِ
لَقَدْ أَحْبَبْتُ مَا لَقِيَتْ ثَقِيفٌ بِجَنْبِ الشِّعِبِ أَمْسِ مِنَ الْعَذَابِ
هُمُ رَأْسُ الْعَدُوِّ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ فَقَتْلُهُمُ أَلَذُّ مِنَ الشَّرَابِ
هَزَمْنَا الْجَمْعَ جَمْعَ بَنِي قَسِيٍّ وَحَكَّتْ بَرْكَهَا بِبَنِي رِئَابِ
وَصِرْمًا مِنْ هِلَالٍ غَادَرَتْهُمْ بِأَوْطَاسٍ تُعَفَّرُ بِالتُّرَابِ
وَلَوْ لَاقَيْنَ جَمْعَ بَنِي كِلَابٍ لَقَامَ نِسَاؤُهُمْ وَالنَّقْعُ كَابِي
رَكَضْنَا الْخَيْلَ فِيهِمْ بَيْنَ بُسٍّ إِلَى الْأَوْرَالِ تَنْحِطُ بِالنَّهَابِ
بِذِي لَجَبٍ رَسُولُ اللَّهِ فِيهِمْ كَتِيبَتُهُ تَعَرَّضُ لِلضِّرَابِ
وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا:

يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ بِالْحَقِّ، كُلُّ هُدَى السَّبِيلِ هُدَاكَا
إِنَّ الْإِلَهَ بَنَى عَلَيْكَ مَحَبَّةً فِي خَلْقِهِ وَمُحَمَّدًا سَمَّاكَا
ثُمَّ الَّذِينَ وَفَوْا بِمَا عَاهَدْتَهُمْ جُنْدٌ بَعَثْتَ عَلَيْهِمُ الضَّحَّاكَا
رَجُلًا بِهِ ذَرَبُ السِّلَاحِ كَأَنَّهُ لَمَّا تَكَنَّفَهُ الْعَدُوُّ يَرَاكَا
يَغْشَى ذَوِي النَّسَبِ الْقَرِيبِ وَإِنَّمَا يَبْغِي رِضَا الرَّحْمَنِ ثُمَّ رِضَاكَا
أُنْبِيكَ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَكَرَّهُ تَحْتَ الْعَجَاجَةِ يَدْمَغُ الْإِشْرَاكَا
طَوْرًا يُعَانِقُ بِالْيَدَيْنِ وَتَارَةً يَفْرِي الْجَمَاجِمَ صَارِمًا بَتَّاكَا
يَغْشَى بِهِ هَامَ الْكَمَاةِ وَلَوْ تَرَى مِنْهُ الَّذِي عَايَنْتُ كَانَ شِفَاكَا
وَبَنُو سُلَيْمٍ مُعْنِقُونَ أَمَامَهُ ضَرْبًا وَطَعْنًا فِي الْعَدُوِّ دِرَاكًا
يَمْشُونَ تَحْتَ لِوَائِهِ وَكَأَنَّهُمْ أُسْدُ الْعَرِينِ أَرَدْنَ ثَمَّ عِرَاكَا
مَا يَرْتَجُونَ مِنَ الْقَرِيبِ قَرَابَةً إِلَّا لِطَاعَةِ رَبِّهِمْ وَهَوَاكَا
هَذِي مَشَاهِدُنَا الَّتِي كَانَتْ لَنَا مَعْرُوفَةً وَوَلِيُّنَا مَوْلَاكَا

وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا:
عَفَا مِجْدَلٌ مِنْ أَهْلِهِ فَمُتَالِعُ فَمِطْلَى أَرِيكٍ قَدْ خَلَا فَالْمَصَانِعُ
دِيَارٌ لَنَا يَا جُمْلُ إِذْ جُلُّ عَيْشِنَا رَخِيٌّ وَصَرْفُ الدَّهْرِ لِلْحَيِّ جَامِعُ
حُبَيِّبَةٌ أَلْوَتْ بِهَا غُرْبَةُ النَّوَى لِبَيْنٍ فَهَلْ مَاضٍ مِنَ الْعَيْشِ رَاجِعُ
فَإِنْ تَبْتَغِي الْكُفَّارَ غَيْرَ مَلُومَةٍ فَإِنِّي وَزِيرٌ لِلنَّبِيِّ وَتَابِعُ
دَعَانَا إِلَيْهِ خَيْرُ وَفْدٍ عَلِمْتُمْ خُزَيْمَةُ وَالْمَرَّارُ مِنْهُمْ وَوَاسِعُ
فَجِئْنَا بِأَلْفٍ مِنْ سُلَيْمٍ عَلَيْهِمُ لَبُوسٌ لَهُمْ مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ رَائِعُ
نُبَايِعُهُ بِالْأَخْشَبَيْنِ وَإِنَّمَا يَدُ اللَّهِ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ نُبَايِعُ
فَجُسْنَا مَعَ الْمَهْدِيِّ مَكَّةَ عَنْوَةً بِأَسْيَافِنَا وَالنَّقْعُ كَابٍ وَسَاطِعُ
عَلَانِيَةً وَالْخَيْلُ يَغْشَى مُتُونَهَا حَمِيمٌ وَآنٍ مِنْ دَمِ الْجَوْفِ نَاقِعُ
وَيْوَمَ حُنَيْنٍ حِينَ سَارَتْ هَوَازِنُ إِلَيْنَا وَضَاقَتْ بِالنُّفُوسِ الْأَضَالِعُ

صَبَرْنَا مَعَ الضَّحَّاكِ لَا يَسْتَفِزُّنَا قِرَاعُ الْأَعَادِي مِنْهُمُ وَالْوَقَائِعُ
أَمَامَ رَسُولِ اللَّهِ يَخْفِقُ فَوْقَنَا لِوَاءٌ كَخُذْرُوفِ السَّحَابَةِ لَامَعُ
عَشِيَّةَ ضَحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ مُعْتَصٍ بِسَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ وَالْمَوْتُ كَانِعُ
نَذُودُ أَخَانَا عَنْ أَخِينَا وَلَوْ نَرَى مَصَالًا لَكُنَّا الْأَقْرَبِينَ نُتَابِعُ
وَلَكِنَّ دِينَ اللَّهِ دِينَ مُحَمَّدٍ رَضِينَا بِهِ فِيهِ الْهُدَى وَالشَّرَائِعُ
أَقَامَ بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ أَمْرَنَا وَلَيْسَ لِأَمْرٍ حَمَّهُ اللَّهُ دَافِعُ
وَقَالَ عَبَّاسٌ أَيْضًا:
تَقَطَّعَ بَاقِي وَصْلِ أُمِّ مُؤَمَّلِ بِعَاقِبَةٍ وَاسْتَبْدَلَتْ نِيَّةً خُلْفَا
وَقَدْ حَلَفَتْ بِاللَّهِ لَا تَقْطَعُ الْقُوَى فَمَا صَدَقَتْ فِيهِ وَلَا بَرَّتِ الْحَلْفَا
خُفَافِيَّةٌ بَطْنُ الْعَقِيقِ مَصِيفُهَا وَتَحْتَلُّ فِي الْبَادِينَ وَجْرَةَ فَالْعُرْفَا

فَإِنْ تَتَبَعِ الْكُفَّارَ أُمُّ مُؤَمَّلٍ فَقَدْ زَوَّدَتْ قَلْبِي عَلَى نَأْيِهَا شَغْفًا
وَسَوْفَ يُنَبِّئُهَا الْخَبِيرُ بِأَنَّنَا أَبَيْنَا وَلَمْ نَطْلُبْ سِوَى رَبِّنَا حِلْفًا
وَأَنَّا مَعَ الْهَادِي النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ وَفِينَا وَلَمْ يَسْتَوْفِهَا مَعْشَرٌ أَلْفَا
بِفِتْيَانِ صِدْقٍ مِنْ سُلَيْمٍ أَعِزَّةٍ أَطَاعُوا فَمَا يَعْصُونَ مِنْ أَمْرِهِ حَرْفًا
خُفَافٌ وَذَكْوَانٌ وَعَوْفٌ تَخَالُهُمْ مَصَاعِبَ زَافَتْ فِي طَرُوقَتِهَا كُلْفَا
كَأَنَّ النَّسِيجَ الشُّهْبَ وَالْبِيضَ مُلْبَسٌ أُسُودًا تَلَاقَتْ فِي مَرَاصِدِهَا غُضْفَا
بِنَا عَزَّ دِينُ اللَّهِ غَيْرَ تَنَحُّلٍ وَزِدْنَا عَلَى الْحَيِّ الَّذِي مَعَهُ ضِعْفَا
بِمَكَّةَ إِذْ جِئْنَا كَأَنَّ لِوَاءَنَا عُقَابٌ أَرَادَتْ بَعْدَ تَحْلِيقِهَا خَطْفَا
عَلَى شُخَّصِ الْأَبْصَارِ تَحْسِبُ بَيْنَهَا إِذَا هِيَ جَالَتْ فِي مَرَاوِدِهَا عَزْفًا
غَدَاةَ وَطِئْنَا الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ نَجِدْ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ عَدْلًا وَلَا صَرْفَا
بِمُعْتَرَكٍ لَا يَسْمَعُ الِقَوْمُ وَسْطَهُ لَنَا زَجْمَةً إِلَّا التَّذَامُرَ وَالنَّقْفَا
بِبِيضٍ تُطِيرُ الْهَامَ عَنْ مُسْتَقَرِّهَا وَنَقْطِفُ أَعْنَاقَ الْكَمَاةِ بِهَا قَطْفَا

فَكَائِنْ تَرَكْنَا مِنْ قَتِيلٍ مُلَحَّبٍ وَأَرْمَلَةٍ تَدْعُو عَلَى بَعْلِهَا لَهْفَا
رِضَا اللَّهِ نَنْوِي لَا رِضَا النَّاسِ نَبْتَغِي وَلِلَّهِ مَا يَبْدُو جَمِيعًا وَمَا يَخْفَى
وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا:
مَا بَالُ عَيْنِكَ فِيهَا عَائِرٌ سَهِرُ مِثْلُ الْحَمَاطَةِ أَغْضَى فَوْقَهَا الشُّفُرُ
عَيْنٌ تَأَوَّبَهَا مِنْ شَجْوِهَا أَرَقٌ فَالْمَاءُ يَغْمُرُهَا طَوْرًا وَيَنْحَدِرُ
كَأَنَّهُ نَظْمُ دُرٍّ عِنْدَ نَاظِمِهِ تَقَطَّعَ السِّلْكُ مِنْهُ فَهْوَ مُنْتَثِرُ
يَا بُعْدَ مَنْزِلِ مَنْ تَرْجُو مَوَدَّتَهُ وَمَنْ أَتَى دُونَهُ الصَّمَّانُ فَالْحَفَرُ
دَعْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَهْدِ الشَّبَابِ فَقَدْ وَلَّى الشَّبَابُ وَزَارَ الشَّيْبُ وَالزَّعَرُ
وَاذْكُرْ بَلَاءَ سُلَيْمٍ فِي مَوَاطِنِهَا وَفِي سُلَيْمٍ لِأَهْلِ الِفَخْرِ مُفْتَخَرُ
قَوْمٌ هُمُ نَصَرُوا الرَّحْمَنَ وَاتَّبَعُوا دِينَ الرَّسُولِ وَأَمْرُ النَّاسِ مُشْتَجَرُ
لَا يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النَّخْلِ وَسْطَهُمُ وَلَا تَخَاوَرُ فِي مَشْتَاهُمُ الْبَقَرُ

إِلَّا سَوَابِحَ كَالْعِقْبَانِ مَقْرُبَةً فِي دَارَةٍ حَوْلَهَا الْأَخْطَارُ وَالْعَكَرُ
تُدْعَى خُفَافٌ وَعَوْفٌ فِي جَوَانِبِهَا وَحَيُّ ذَكْوَانَ لَا مَيْلٌ وَلَا ضُجُرُ
الضَّارِبُونَ جُنُودَ الشِّرْكِ ضَاحِيَةً بِبَطْنِ مَكَّةَ وَالْأَرْوَاحُ تُبْتَدَرُ
حَتَّى دَفَعْنَا وَقَتْلَاهُمْ كَأَنَّهُمُ نَخْلٌ بِظَاهِرَةِ الْبَطْحَاءِ مُنْقَعِرُ
وَنَحْنُ يَوْمَ حُنَيْنٍ كَانَ مَشْهَدُنَا لِلدِّينِ عِزًّا وَعِنْدَ اللَّهِ مُدَّخَرُ
إِذْ نَرْكَبُ الْمَوْتَ مُخْضَرًّا بَطَائِنُهُ وَالْخَيْلُ يَنْجَابُ عَنْهَا سَاطِعٌ كَدِرُ
تَحْتَ اللِّوَاءِ مَعَ الضَّحَّاكِ يَقْدُمُنَا كَمَا مَشَى اللَّيْثُ فِي غَابَاتِهِ الْخَدِرُ
فِي مَأْزَقٍ مِنْ مَجَرِّ الْحَرْبِ كَلْكَلُهَا تَكَادُ تَأْفُلُ مِنْهُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
وَقَدْ صَبَرْنَا بِأَوْطَاسٍ أَسِنَّتَنَا لِلَّهِ نَنْصُرُ مَنْ شِئْنَا وَنَنْتَصِرُ
حَتَّى تَأَوَّبَ أَقْوَامٌ مَنَازِلَهُمْ لَوْلَا الْمَلِيكُ وَلَوْلَا نَحْنُ مَا صَدَرُوا
فَمَا تَرَى مَعْشَرًا قَلُّوا وَلَا كَثُرُوا إِلَّا قَدْ أَصْبَحَ مِنَّا فِيهِمُ أَثَرُ

وَقَالَ عَبَّاسٌ أَيْضًا:
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الَّذِي تَهْوِي بِهِ وَجْنَاءُ مُجْمَرَةُ الْمَنَاسِمِ عِرْمِسُ
إِمَّا أَتَيْتَ عَلَى النَّبِيِّ فَقُلْ لَهُ حَقًّا عَلَيْكَ إِذَا اطْمَأَنَّ الْمَجْلِسُ
يَا خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطِيَّ وَمَنْ مَشَى فَوْقَ التُّرَابِ إِذَا تُعَدُّ الْأَنْفُسُ
إِنَّا وَفَيْنَا بِالَّذِي عَاهَدْتَنَا وَالْخَيْلُ تُقْدَعُ بِالْكُمَاةِ وَتُضْرَسُ
إِذْ سَالَ مِنْ أَفْنَاءِ بُهْثَةَ كُلِّهَا جَمْعٌ تَظَلُّ بِهِ الْمَخَارِمُ تَرْجُسُ
حَتَّى صَبَحْنَا أَهْلَ مَكَّةَ فَيْلَقًا شَهْبَاءَ يَقْدُمُهَا الْهُمَامُ الْأَشْوَسُ
مِنْ كُلِّ أَغْلَبَ مِنْ سُلَيْمٍ فَوْقَهُ بَيْضَاءُ مُحْكَمَةُ الدِّخَالِ وَقَوْنَسُ
يَرْوِي الْقَنَاةَ إِذَا تَجَاسَرَ فِي الْوَغَى وَتَخَالُهُ أَسَدًا إِذَا مَا يَعْبِسُ
يَغْشَى الْكَتِيبَةَ مُعْلِمًا وَبِكَفِّهِ عَضْبٌ يَقُدُّ بِهِ وَلَدْنٌ مِدْعَسُ

وَعَلَى حُنَيْنٍ قَدْ وَفَى مِنْ جَمْعِنَا أَلْفٌ أُمِدَّ بِهِ الرَّسُولُ عَرَنْدَسُ
كَانُوا أَمَامَ الْمُؤْمِنِينَ دَرِيئَةً وَالشَّمْسُ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهِمْ أَشْمَسُ
نَمْضِي وَيَحْرُسُنَا الْإِلَهُ بِحِفْظِهِ وَاللَّهُ لَيْسَ بِضَائِعٍ مَنْ يَحْرُسُ
وَلَقَدْ حُبِسْنَا بِالْمَنَاقِبِ مَحْبِسًا رَضِيَ الْإِلَهُ بِهِ فَنِعْمَ الْمَحْبِسُ
وَغَدَاةَ أَوْطَاسٍ شَدَدْنَا شَدَّةً كَفَتِ الْعَدُوَّ وَقِيلَ مِنْهَا يَا احْبِسُوا
تَدْعُو هَوَازِنُ بِالْإِخَاوَةِ بَيْنَنَا ثَدْيٌ تَمُدُّ بِهِ هَوَازِنُ أَيْبَسُ
حَتَّى تَرَكْنَا جَمْعَهُمْ وَكَأَنَّهُ عَيْرٌ تَعَاقَبُهُ السِّبَاعُ مُفَرَّسُ
وَقَالَ أَيْضًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
فَمَنْ مُبْلِغُ الْأَقْوَامِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ الْإِلَهِ رَاشِدٌ حَيْثُ يَمَّمَا
دَعَا رَبَّهُ وَاسْتَنْصَرَ اللَّهَ وَحْدَهُ فَأَصْبَحَ قَدْ وَفَّى إِلَيْهِ وَأَنْعَمَا
سَرَيْنَا وَوَاعَدْنَا قَدَيْدًا مُحَمَّدًا يَؤُمُّ بِنَا أَمْرًا مِنَ اللَّهِ مُحْكَمَا

تَمَارَوْا بِنَا فِي الْفَجْرِ حَتَّى تَبَيَّنُوا مَعَ الْفَجْرِ فِتْيَانًا وَغَابًا مُقَوَّمَا
عَلَى الْخَيْلِ مَشْدُودًا عَلَيْنَا دُرُوعُنَا وَرَجْلًا كَدُفَّاعِ الْأَتِيِّ عَرَمْرَمَا
فَإِنَّ سَرَاةَ الْحَيِّ إِنْ كُنْتَ سَائِلًا سُلَيْمٌ وَفِيهِمْ مِنْهُمُ مَنْ تَسَلَّمَا
وَجُنْدٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَا يَخْذُلُونَهُ أَطَاعُوا فَمَا يَعْصُونَهُ مَا تَكَلَّمَا
فَإِنْ تَكُ قَدْ أَمَّرْتَ فِي الْقَوْمِ خَالِدًا وَقَدَّمْتَهُ فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَا
بِجُنْدٍ هَدَاهُ اللَّهُ أَنْتَ أَمِيرُهُ تُصِيبُ بِهِ فِي الْحَقِّ مَنْ كَانَ أَظْلَمَا
حَلَفْتُ يَمِينًا بَرَّةً لِمُحَمَّدٍ فَأَكْمَلْتُهَا أَلْفًا مِنَ الْخَيْلِ مُلْجَمَا
وَقَالَ نَبِيُّ الْمُؤْمِنِينَ تَقَدَّمُوا وَحُبَّ إِلَيْنَا أَنْ نَكُونَ الْمُقَدَّمَا
وَبِتْنَا بِنَهِيِ الْمُسْتَدِيرِ وَلَمْ يَكُنْ بِنَا الْخَوْفُ إِلَّا رَغْبَةً وَتَحَزُّمَا
أَطَعْنَاكَ حَتَّى أَسْلَمَ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَحَتَّى صَبَحْنَا الْجَمْعَ أَهْلَ يَلَمْلَمَا
يَضِلُّ الْحِصَانُ الْأَبْلَقُ الْوَرْدُ وَسْطَهُ وَلَا يَطْمَئِنُّ الشَّيْخُ حَتَّى يُسَوَّمَا

سَمَوْنَا لَهُمْ وِرْدَ الْقَطَا زَفَّهُ ضُحًى وَكُلٌّ تَرَاهُ عَنْ أَخِيهِ قَدَ احْجَمَا
لَدُنْ غُدْوَةٍ حَتَّى تَرَكْنَا عَشِيَّةً حُنَيْنًا وَقَدْ سَالَتْ دَوَافِعُهُ دَمَا
إِذَا شِئْتَ مِنْ كُلٍّ رَأَيْتَ طِمِرَّةً وَفَارِسَهَا يَهْوِي وَرُمْحًا مُحَطَّمَا
وَقَدْ أَحْرَزَتْ مِنَّا هَوَازِنُ سَرْبَهَا وَحُبَّ إِلَيْهَا أَنْ نَخِيبَ وَنُحْرَمَا
هَكَذَا أَوْرَدَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْقَصَائِدَ مَنْ شِعْرِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ تَرَكْنَا بَعْضَ مَا أَوْرَدَهُ مِنَ الْقَصَائِدِ خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ وَخَوْفِ الْمَلَالَةِ، ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ شِعْرِ غَيْرِهِ أَيْضًا، وَقَدْ حَصَلَ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ مِنْ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

( غَزْوَةُ الطَّائِفِ ).
قَالَ عُرْوَةُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ:قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَحَاصَرَ الطَّائِفَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا قَدِمَ فَلُّ ثَقِيفٍ الطَّائِفَ أَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ مَدِينَتِهَا، وَصَنَعُوا الصَّنَائِعَ لِلْقِتَالِ، وَلَمْ يَشْهَدْ حُنَيْنًا وَلَا حِصَارَ الطَّائِفِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ وَلَا غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ; كَانَا بِجُرَشَ يَتَعَلَّمَانِ صَنْعَةَ الدَّبَّابَاتِ وَالْمَجَانِيقِ وَالضُّبُورِ.
قَالَ: ثُمَّ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حُنَيْنٍ فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ:
قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَمْنَا السُّيُوفَا نُخَيِّرُهَا وَلَوْ نَطَقَتْ لَقَالَتْ
قَوَاطِعُهُنَّ دَوْسًا أَوْ ثَقِيفَا فَلَسْتُ لِحَاضِنٍ إِنْ لَمْ تَرَوْهَا
بِسَاحَةِ دَارِكُمْ مِنَّا أُلُوفَا

وَنَنْتَزِعُ الْعُرُوشَ بِبَطْنِ وَجٍّ
وَتُصْبِحُ دُورُكُمْ مِنْكُمْ خُلُوفَا وَيَأْتِيكُمْ لَنَا سَرْعَانُ خَيْلٍ
يُغَادِرُ خَلْفَهُ جَمْعًا كَثِيفَا إِذَا نَزَلُوا بِسَاحَتِكُمْ سَمِعْتُمْ
لَهَا مَمَّا أَنَاخَ بَهَا رَجِيفَا بِأَيْدِيهِمْ قَوَاضِبُ مُرْهَفَاتٌ
يُزِرْنَ الْمُصْطَلِينَ بِهَا الْحُتُوفَا كَأَمْثَالِ الْعَقَائِقِ أَخْلَصَتْهَا
قُيُونُ الْهِنْدِ لَمْ تُضْرَبْ كَتِيفَا تَخَالُ جَدِيَّةَ الْأَبْطَالِ فِيهَا
غَدَاةَ الزَّحْفِ جَادِيًّا مَدُوفَا أَجَدَّهُمُ أَلَيْسَ لَهُمْ نَصِيحٌ
مِنَ الْأَقْوَامِ كَانَ بِنَا عَرِيفَا يُخَبِّرُهُمْ بِأَنَّا قَدْ جَمَعْنَا
عِتَاقَ الْخَيْلِ وَالنُّجُبَ الطُّرُوفَا وَأَنَّا قَدْ أَتَيْنَاهُمْ بِزَحْفٍ
يُحِيطُ بِسُورِ حِصْنِهِمُ صُفُوفَا رَئِيسُهُمُ النَّبِيُّ وَكَانَ صُلْبًا
نَقِيَّ الْقَلْبِ مُصْطَبِرًا عَرُوفَا رَشِيدَ الْأَمْرِ ذَا حُكْمٍ وَعِلْمٍ
وَحِلْمٍ لَمْ يَكُنْ نَزِقًا خَفِيفَا نُطِيعُ نَبِيَّنَا وَنُطِيعُ رَبًّا
هُوَ الرَّحْمَنُ كَانَ بِنَا رَءُوفَا

فَإِنْ تُلْقُوا إِلَيْنَا السِّلْمَ نَقْبَلْ
وَنَجْعَلْكُمْ لَنَا عَضُدًا وَرِيفَا وَإِنْ تَأْبَوْا نُجَاهِدْكُمْ وَنَصْبِرْ
وَلَا يَكُ أَمْرُنَا رَعِشًا ضَعِيفَا نُجَالِدُ مَا بَقِينَا أَوْ تُنِيبُوا
إِلَى الْإِسْلَامِ إِذْعَانًا مُضِيفَا نُجَاهِدُ لَا نُبَالِي مَا لَقِينَا
أَأَهْلَكْنَا التِّلَادَ أَمِ الطَّرِيفَا وَكَمْ مِنْ مَعْشَرٍ أَلَبُوا عَلَيْنَا
صَمِيمَ الْجِذْمِ مِنْهُمْ وَالْحَلِيفَا أَتَوْنَا لَا يَرَوْنَ لَهُمْ كِفَاءً
فَجَدَّعْنَا الْمَسَامِعَ. وَالْأُنُوفَا بِكُلِّ مُهَنَّدٍ لَيْنٍ صَقِيلٍ
نَسُوقُهُمُ بِهَا سَوْقًا عَنِيفَا لِأَمْرِ اللَّهِ وَالْإِسْلَامِ حَتَّى
يَقُومَ الدِّينُ مُعْتَدِلًا حَنِيفَا وَتُنْسَى اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَوُدٌّ
وَنَسْلُبَهَا الْقَلَائِدَ وَالشُّنُوفَا فَأَمْسَوْا قَدْ أَقَرُّوا وَاطْمَأَنُّوا
وَمَنْ لَا يَمْتَنِعْ يَقْبَلْ خُسُوفَا
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَجَابَهُ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيُّ - قَلْتٌ وَقَدْ وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ، فَأَسْلَمَ مَعَهُمْ. قَالَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَأَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ الْأَثِيرِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.

وَزَعَمَ الْمَدَائِنِيُّ أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ، بَلْ صَارَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فَتَنَصَّرَ وَمَاتَ بِهَا -:
فَمَنْ كَانَ يَبْغِينَا يُرِيدُ قِتَالَنَا فَإِنَّا بِدَارٍ مَعْلَمٍ لَا نَرِيمُهَا
وَجَدْنَا بِهَا الْآبَاءَ مِنْ قَبْلِ مَا تَرَى وَكَانَتْ لَنَا أَطْوَاؤُهَا وَكُرُومُهَا
وَقَدْ جَرَّبَتْنَا قَبْلُ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ فَأَخْبَرَهَا ذُو رَأْيِهَا وَحَلِيمُهَا
وَقَدْ عَلِمَتْ إِنْ قَالَتِ الْحَقَّ أَنَّنَا إِذَا مَا أَبَتْ صُعْرُ الْخُدُودِ نُقِيمُهَا
نُقَوِّمُهَا حَتَّى يَلِينَ شَرِيسُهَا وَيُعْرَفَ لِلْحَقِّ الْمُبِينِ ظَلُومُهَا
عَلَيْنَا دِلَاصٌ مِنْ تُرَاثِ مُحَرِّقٍ كَلَوْنِ السَّمَاءِ زَيَّنَتْهَا نُجُومُهَا
نُرَفِّعُهَا عَنَّا بِبِيضٍ صَوَارِمَ إِذَا جُرِّدَتْ فِي غَمْرَةٍ لَا نَشِيمُهَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ شَدَّادُ بْنُ عَارَضٍ الْجُشَمِيُّ فِي مَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ:.
لَا تَنْصُرُوا اللَّاتَ إِنَّ اللَّهَ مُهْلِكُهَا وَكَيْفَ يُنْصَرُ مَنْ هُوَ لَيْسَ يَنْتَصِرُ
إِنَّ الَّتِي حُرِّقَتْ بِالسُّدِّ فَاشْتَعَلَتْ وَلَمْ تُقَاتِلْ لَدَى أَحْجَارِهَا هَدَرُ
إِنَّ الرَّسُولَ مَتَى يَنْزِلْ بِلَادَكُمُ يَظْعَنْ وَلَيْسَ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا بَشَرُ

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَسَلَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي مِنْ حُنَيْنٍ إِلَى الطَّائِفِ - عَلَى نَخْلَةَ الْيَمَانِيَّةِ، ثُمَّ عَلَى قَرْنٍ، ثُمَّ عَلَى الْمُلَيْحِ، ثُمَّ عَلَى بَحْرَةِ الرُّغَاءِ مِنْ لِيَّةَ، فَابْتَنَى بِهَا مَسْجِدًا فَصَلَّى فِيهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَقَادَ يَوْمَئِذٍ بِبَحْرَةِ الرُّغَاءِ حِينَ نَزَلَهَا بِدَمٍ، وَهُوَ أَوَّلُ دَمٍ أُقِيدَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ قَتَلَ رَجُلًا مَنْ هُذَيْلٍ فَقَتَلَهُ بِهِ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ بِلِيَّةَ، بِحِصْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فَهُدِمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ سَلَكَ فِي طَرِيقٍ يُقَالُ لَهَا: الضَّيِّقَةُ. فَلَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ عَنِ اسْمِهَا فَقَالَ: " مَا اسْمُ هَذِهِ الطَّرِيقِ؟ " فَقِيلَ: الضَّيِّقَةُ. فَقَالَ: " بَلْ هِيَ الْيُسْرَى ". ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا عَلَى نَخِبٍ، حَتَّى نَزَلَ تَحْتَ سِدْرَةٍ يُقَالُ لَهَا: الصَّادِرَةُ. قَرِيبًا مِنْ مَالِ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِمَّا أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْنَا وَإِمَّا أَنْ نُخَرِّبَ عَلَيْكَ حَائِطَكَ ". فَأَبَى أَنْ يَخْرُجَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِخْرَابِهِ..
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ بُجَيْرِ بْنِ أَبِي بُجَيْرٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ حِينَ خَرَجْنَا مَعَهُ إِلَى

الطَّائِفِ فَمَرَرْنَا بِقَبْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ وَهُوَ أَبُو ثَقِيفٍ، وَكَانَ مِنْ ثَمُودَ وَكَانَ بِهَذَا الْحَرَمِ يَدْفَعُ عَنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ أَصَابَتْهُ النِّقْمَةُ الَّتِي أَصَابَتْ قَوْمَهُ بِهَذَا الْمَكَانِ، فَدُفِنَ فِيهِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ دُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ، إِنْ أَنْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أَصَبْتُمُوهُ ". قَالَ: فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ فَاسْتَخْرَجُوا مَعَهُ الْغُصْنَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِهِ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ بِهِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنَ الطَّائِفِ، فَضَرَبَ بِهِ عَسْكَرَهُ، فَقُتِلَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنَّبْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَسْكَرَ اقْتَرَبَ مِنْ حَائِطِ الطَّائِفِ، فَتَأَخَّرُوا إِلَى مَوْضِعِ مَسْجِدِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، الْيَوْمَ بِالطَّائِفِ الَّذِي بَنَتْهُ ثَقِيفٌ بَعْدَ إِسْلَامِهَا، بَنَاهُ عَمْرُو بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ وَهْبٍ وَكَانَتْ فِيهِ سَارِيَةٌ لَا تَطْلُعُ عَلَيْهَا الشَّمْسُ صَبِيحَةَ كُلِّ يَوْمٍ إِلَّا سُمِعَ لَهَا نَقِيضٌ فِيمَا يَذْكُرُونَ. قَالَ: فَحَاصَرَهُمْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَيُقَالُ: سَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.

وَقَالَ عُرْوَةُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: ثُمَّ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ وَتَرَكَ السَّبْيَ بِالْجِعْرَانَةِ، وَمُلِئَتْ عُرُشُ مَكَّةَ مِنْهُمْ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَكَمَةِ عِنْدَ حِصْنِ الطَّائِفِ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ مِنْ وَرَاءِ حِصْنِهِمْ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرُ أَبِي بَكْرَةَ بْنِ مَسْرُوحٍ أَخِي زِيَادٍ لِأُمِّهِ، فَأَعْتَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَثُرَتِ الْجِرَاحُ، وَقَطَعُوا طَائِفَةً مِنْ أَعْنَابِهِ لِيُغِيظُوهُمْ بِهَا، فَقَالَتْ لَهُمْ ثَقِيفٌ: لَا تُفْسِدُوا الْأَمْوَالَ، فَإِنَّهَا لَنَا أَوْ لَكُمْ. وَقَالَ عُرْوَةُ:أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْطَعَ خَمْسَ نَخَلَاتٍ أَوْ خَمْسَ حُبْلَاتٍ، وَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي: " مَنْ خَرَجَ إِلَيْنَا فَهُوَ حُرٌّ ". فَاقْتَحَمَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْهُمْ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرَةَ بْنُ مَسْرُوحٍ أَخُو زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ لِأُمِّهِ، فَأَعْتَقَهُمْ وَدَفَعَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَعُولُهُ وَيَحْمِلُهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يَزِيدُ ثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتِقُ مَنْ جَاءَهُ مِنَ الْعَبِيدِ قَبْلَ مَوَالِيهِمْ إِذَا أَسْلَمُوا، وَقَدْ أَعْتَقَ يَوْمَ الطَّائِفِ رَجُلَيْنِ..
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: ثَنَا عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ بَكْرِ بْنِ خُنَيْسٍ ثَنَا الْحَجَّاجُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الطَّائِفِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَبْدَانِ فَأَعْتَقَهُمَا، أَحَدُهُمَا أَبُو بَكَرَةَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يُعْتِقُ الْعَبِيدَ إِذَا خَرَجُوا إِلَيْهِ..
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: ثَنَا نَصْرُ بْنُ بَابٍ عَنِ الْحَجَّاجِ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الطَّائِفِ: " مَنْ خَرَجَ إِلَيْنَا مِنَ الْعَبِيدِ فَهُوَ حُرٌّ ". فَخَرَجَ عَبِيدٌ مِنَ الْعَبِيدِ فِيهِمْ أَبُو بَكْرَةَ فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..
هَذَا الْحَدِيثُ تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَمَدَارُهُ عَلَى الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لَكِنْ ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إِلَى هَذَا، فَعِنْدَهُ أَنَّ كُلَّ عَبْدٍ جَاءَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ عُتِقَ، حُكْمًا شَرْعِيًّا مُطْلَقًا عَامًّا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا شَرْطًا لَا حَكْمًا عَامًّا، وَلَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ لَكَانَ التَّشْرِيعُ الْعَامُّ أَظْهَرَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ "..
وَقَدْ قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُكَدَّمِ الثَّقَفِيُّ قَالَ:لَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الطَّائِفِ خَرَجَ إِلَيْهِ رَقِيقٌ مِنْ رَقِيقِهِمْ; أَبُو بَكْرَةَ وَكَانَ عَبْدًا لِلْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ وَالْمُنْبَعِثُ وَكَانَ اسْمُهُ الْمُضْطَجِعَ فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنْبَعِثَ وَيُحَنَّسُ وَوَرْدَانُ فِي رَهْطٍ مِنْ رَقِيقِهِمْ فَأَسْلَمُوا، فَلَمَّا قَدِمَ وَفْدُ أَهْلِ الطَّائِفِ فَأَسْلَمُوا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رُدَّ عَلَيْنَا رَقِيقَنَا الَّذِينَ أَتَوْكَ. قَالَ: " لَا، أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللَّهِ ". وَرَدَّ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ وَلَاءَ عَبْدِهِ فَجَعَلَهُ إِلَيْهِ..

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ثَنَا غُنْدَرٌ، ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدًا - وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - وَأَبَا بَكْرَةَ - وَكَانَ تَسَوَّرَ حِصْنَ الطَّائِفِ فِي أُنَاسٍ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَا: سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ، فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمٍ بِهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ هِشَامٌ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَوْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدًا وَأَبَا بَكْرَةَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ عَاصِمٌ: قُلْتُ لَقَدْ شَهِدَ عِنْدَكَ رَجُلَانِ حَسْبُكَ بِهِمَا. قَالَ: أَجَلْ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَأَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَنَزَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الطَّائِفِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِ، إِحْدَاهُمَا أُمُّ سَلَمَةَ، فَضَرَبَ لَهُمَا قُبَّتَيْنِ، فَكَانَ يُصَلِّي بَيْنَهُمَا، فَحَاصَرَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَرَمَاهُمْ بِالْمَنْجَنِيقِ، فَحَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَنْجَنِيقِ ; رَمَى بِهِ أَهْلَ الطَّائِفِ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الصَّحَابَةِ دَخَلُوا تَحْتَ دَبَّابَةٍ، ثُمَّ زَحَفُوا

لِيَخْرِقُوا جِدَارَ أَهْلِ الطَّائِفِ فَأَرْسَلَتْ عَلَيْهِمْ ثَقِيفٌ سِكَكَ الْحَدِيدِ مُحْمَاةً، فَخَرَجُوا مِنْ تَحْتِهَا، فَرَمَتْهُمْ ثَقِيفٌ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ رِجَالًا، فَحِينَئِذٍ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ أَعْنَابِ ثَقِيفٍ، فَوَقَعَ النَّاسُ فِيهَا يَقْطَعُونَ.
قَالَ: وَتَقَدَّمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَالْمُغَيَّرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَنَادَيَا ثَقِيفًا بِالْأَمَانِ حَتَّى يُكَلِّمَاهُمْ، فَأَمَّنُوهُمَا، فَدَعَوْا نِسَاءً مِنْ قُرَيْشٍ وَبَنِي كِنَانَةَ لِيَخْرُجْنَ إِلَيْهِمْ - وَهُمَا يَخَافَانِ عَلَيْهِنَّ السِّبَاءَ إِذَا فُتِحَ الْحِصْنُ - فَأَبَيْنَ، فَقَالَ لَهُمَا ابْنُ الْأَسْوَدِ بْنُ مَسْعُودٍ: أَلَا أَدُلُّكَمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا جِئْتُمَا لَهُ؟ إِنَّ مَالَ بَنِي الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمَا - وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَازِلًا بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ: الْعَقِيقُ. وَهُوَ بَيْنَ مَالِ بَنِي الْأَسْوَدِ وَبَيْنَ الطَّائِفِ - وَلَيْسَ بِالطَّائِفِ مَالٌ أَبْعَدَ رِشَاءً وَلَا أَشَدَّ مَؤُونَةً وَلَا أَبْعَدَ عِمَارَةً مِنْهُ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا إِنْ قَطَّعَهُ لَمْ يَعْمُرْ أَبَدًا، فَكَلِّمَاهُ فَلْيَأْخُذْهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِيَدَعْهُ لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ. فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَهُ لَهُمْ.
وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ شُيُوخِهِ نَحْوَ هَذَا، وَعِنْدَهُ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ هُوَ الَّذِي أَشَارَ بِالْمَنْجَنِيقِ وَعَمِلَهُ بِيَدِهِ، وَقِيلَ: قَدِمَ بِهِ وَبِدَبَّابَتَيْنِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَ الطَّائِفِ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى

الْإِسْلَامِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَجَاءَهُمْ فَأَمَرَهُمْ بِالثَّبَاتِ فِي حِصْنِهِمْ وَقَالَ: لَا يَهُولَنَّكُمْ قَطْعُ مَا قُطِعَ مِنَ الْأَشْجَارِ. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا قُلْتَ لَهُمْ؟ " قَالَ دَعْوَتُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنْذَرْتُهُمُ النَّارَ، وَذَكَّرْتُهُمْ بِالْجَنَّةِ. فَقَالَ: " كَذَبْتَ، بَلْ قَلْتَ لَهُمْ كَذَا وَكَذَا ". فَقَالَ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ السُّلَمِيِّ; وَهُوَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ حَاصَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْرَ الطَّائِفِ فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ بَلَّغَ بِسَهْمٍ فَلَهُ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ ". فَبَلَّغْتُ يَوْمَئِذٍ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ عَدْلُ مُحَرَّرٍ، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ رَجُلًا مُسْلِمًا فَإِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، جَاعِلٌ كُلَّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهِ وِقَاءً، كُلَّ عَظْمٍ بِعَظْمٍ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً فَإِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، جَاعِلٌ كُلَّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا وِقَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا مِنَ النَّارِ ". وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ بِهِ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا الْحُمَيْدِيُّ سَمِعَ سُفْيَانَ ثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي مُخَنَّثٌ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ: أَرَأَيْتَ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الطَّائِفَ غَدًا فَعَلَيْكَ بِابْنَةِ غَيْلَانَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَدْخُلَنَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُنَّ " قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمُخَنَّثُ هِيتٌ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ بِهِ. وَفِي لَفْظٍ: وَكَانُوا يَرَوْنَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ. وَفِي لَفْظٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا أَرَى هَذَا يَعْلَمُ مَا هَاهُنَا؟! لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُنَّ هَؤُلَاءِ ". يَعْنِي إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَفْهَمُ ذَلِكَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَالْمُرَادُ بِالْمُخَنَّثِ فِي عُرْفِ السَّلَفِ الَّذِي لَا هِمَّةَ لَهُ إِلَى النِّسَاءِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الَّذِي يُؤْتَى; إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ قَتْلُهُ حَتْمًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَكَمَا قَتَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ. يَعْنِي بِذَلِكَ عُكَنَ بَطْنِهَا، فَإِنَّهَا تَكُونُ أَرْبَعًا إِذَا أَقْبَلَتْ، ثُمَّ تَصِيرُ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثِنْتَيْنِ إِذَا أَدْبَرَتْ، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ بَادِيَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ مِنْ سَادَاتِ ثَقِيفٍ، وَهَذَا الْمُخَنَّثُ قَدْ ذَكَرَ

الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ اسْمَهُ هِيتٌ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
لَكِنْ قَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْلًى لِخَالَتِهِ فَاتِخَةَ بِنْتِ عَمْرِو بْنِ عَائِذٍ مُخَنَّثٌ يُقَالُ لَهُ: مَاتِعٌ. يَدْخُلُ عَلَى نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ، وَلَا يُرَى أَنَّهُ يَفْطِنُ لِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ النِّسَاءِ مِمَّا يَفْطِنُ إِلَيْهِ الرِّجَالُ، وَلَا يُرَى أَنَّ لَهُ فِي ذَلِكَ إِرْبًا، فَسَمِعَهُ وَهُوَ يَقُولُ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: يَا خَالِدُ، إِنِ افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّائِفَ فَلَا تَنْفَلِتَنَّ مِنْكُمْ بَادِيَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ هَذَا مِنْهُ: أَلَا أَرَى هَذَا يَفْطِنُ لِهَذَا؟ الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ لِنِسَائِهِ: لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ فَحُجِبَ عَنْ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الشَّاعِرِ الْأَعْمَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: لَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّائِفَ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا، قَالَ: " إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". فَثَقُلَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: نَذْهَبُ وَلَا نَفْتَحُهُ؟ فَقَالَ: " اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ ". فَغَدَوْا، فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ، فَقَالَ: " إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". فَأَعْجَبَهُمْ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: فَتَبَسَّمَ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهِ،

وَعِنْدَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَاخْتَلَفَ فِي نُسَخِ الْبُخَارِيِّ; فَفِي نُسْخَةٍ كَذَلِكَ، وَفِي نُسْخَةٍ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا مَضَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مِنْ حِصَارِ الطَّائِفِ اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدُّئِلِيَّ فَقَالَ: " يَا نَوْفَلُ مَا تَرَى فِي الْمُقَامِ عَلَيْهِمْ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ، إِنْ أَقَمْتَ عَلَيْهِ أَخَذْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَضُرَّكَ..
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهُوَ مُحَاصِرٌ ثَقِيفًا: " يَا أَبَا بَكْرٍ إِنِّي رَأَيْتُ أَنِّي أُهْدِيَتْ لِي قَعْبَةٌ مَمْلُوءَةٌ زُبْدًا فَنَقَرَهَا دِيكٌ، فَهَرَاقَ مَا فِيهَا " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أَظُنُّ أَنْ تُدْرِكَ مِنْهُمْ يَوْمَكَ هَذَا مَا تُرِيدُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَأَنَا لَا أَرَى ذَلِكَ ". قَالَ: ثُمَّ إِنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةَ، وَهِيَ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي - إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ الطَّائِفَ - حُلِيَّ بَادِيَةَ بِنْتِ

غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ، أَوْ حُلِيَّ الْفَارِعَةِ بِنْتِ عَقِيلٍ، وَكَانَتَا مِنْ أَحْلَى نِسَاءِ ثَقِيفٍ، فَذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: " وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْذَنْ فِي ثَقِيفٍ يَا خُوَيْلَةُ؟ ". فَخَرَجَتْ خُوَيْلَةُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَدِيثٌ حَدَّثَتْنِيهُ خُوَيْلَةُ زَعَمَتْ أَنَّكَ قُلْتَهُ؟ قَالَ: " قَدْ قُلْتُهُ ". قَالَ: أَوَ مَا أُذِنَ فِيهِمْ؟ قَالَ: " لَا ". قَالَ: أَفَلَا أُؤَذِّنُ بِالرَّحِيلِ؟ قَالَ: " بَلَى ". فَأَذَّنَ عُمَرُ بِالرَّحِيلِ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّ النَّاسُ نَادَى سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أَسِيدِ بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ عِلَاجٍ: أَلَا إِنَّ الْحَيَّ مُقِيمٌ. قَالَ: يَقُولُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: أَجَلْ، وَاللَّهِ مَجَدَةً كِرَامًا. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: قَاتَلَكَ اللَّهُ يَا عُيَيْنَةُ أَتَمْدَحُ الْمُشْرِكِينَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ جِئْتَ تَنْصُرُهُ؟ فَقَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا جِئْتُ لِأُقَاتِلَ ثَقِيفًا مَعَكُمْ، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ يَفْتَحَ مُحَمَّدٌ الطَّائِفَ فَأُصِيبَ مِنْ ثَقِيفٍ جَارِيَةً أَطَؤُهَا، لَعَلَّهَا تَلِدُ لِي رَجُلًا، فَإِنَّ ثَقِيفًا مَنَاكِيرُ..
وَقَدْ رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ قِصَّةَ خُوَيْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ، وَقَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ، وَتَأْذِينَ عُمَرَ بِالرَّحِيلِ، قَالَ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ أَنْ لَا يُسَرِّحُوا ظَهْرَهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَدَعَا حِينَ رَكِبَ قَافِلًا فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِهِمْ وَاكْفِنَا مُؤْنَتَهُمْ "..
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ أَبِي

الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحْرَقَتْنَا نِبَالُ ثَقِيفٍ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا ". ثُمَّ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَرَوَى يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُكَدَّمِ عَمَّنْ أَدْرَكُوا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الطَّائِفِ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُمْ، وَلَمْ يُؤْذَنْ فِيهِمْ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَاءَهُ وَفْدُهُمْ فِي رَمَضَانَ فَأَسْلَمُوا. وَسَيَأْتِي ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالطَّائِفِ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فَمِنْ قُرَيْشٍ; سَعِيدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ وَعُرْفُطَةُ بْنُ جَنَّابٍ حَلِيفٌ لِبَنِي أُمَيَّةَ مِنَ الْأَسَدِ بْنِ الْغَوْثِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رُمِيَ بِسَهْمٍ فَتُوُفِّيَ مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ مِنْ رَمْيَةٍ رُمِيَهَا يَوْمَئِذٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَدِيٍّ، وَالسَّائِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ السَّهْمِيُّ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ وَجُلَيْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ وَمِنَ الْأَنْصَارِ ثُمَّ مِنَ الْخَزْرَجِ ; ثَابِتُ بْنُ الْجِذْعِ السُّلَمِيُّ، وَالْحَارِثُ بْنُ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيُّ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، مَنْ بَنِي سَاعِدَةَ، وَمِنَ الْأَوْسِ ; رُقَيْمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَوْذَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَقَطْ، فَجَمِيعُ مَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَئِذٍ اثَنَا عَشَرَ رَجُلًا; سَبْعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ،

وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا عَنِ الطَّائِفِ قَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى يَذْكُرُ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ:
كَانَتْ عُلَالَةَ يَوْمَ بَطْنِ حُنَيْنٍ وَغَدَاةَ أَوْطَاسٍ وَيَوْمَ الْأَبْرَقِ
جَمَعَتْ بِإِغْوَاءٍ هَوَازِنُ جَمْعَهَا فَتَبَدَّدُوا كَالطَّائِرِ الْمُتَمَزِّقِ
لَمْ يَمْنَعُوا مِنَّا مَقَامًا وَاحِدًا إِلَّا جِدَارَهُمُ وَبَطْنَ الْخَنْدَقِ
وَلَقَدْ تَعَرَّضْنَا لِكَيْمَا يَخْرُجُوا فَاسْتَحْصَنُوا مِنَّا بِبَابٍ مُغْلَقِ
تَرْتَدُّ حَسْرَانَا إِلَى رَجْرَاجَةٍ شَهْبَاءَ تَلْمَعُ بِالْمَنَايَا فَيْلَقِ
مَلْمُومَةٍ خَضْرَاءَ لَوْ قَذَفُوا بِهَا حَضَنًا لَظَلَّ كَأَنَّهُ لَمْ يُخْلَقِ
مَشْيَ الضِّرَاءِ عَلَى الْهَرَاسِ كَأَنَّنَا قُدُرٌ تَفَرَّقَ فِي الْقِيَادِ وَتَلْتَقِي

فِي كُلِّ سَابِغَةٍ إِذَا مَا اسْتَحْصَنَتْ كَالنِّهْيِ هَبَّتْ رِيحُهُ الْمُتَرَقْرِقِ
جُدُلٌ تَمَسُّ فُضُولُهُنَّ نِعَالَنَا مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ وَآلِ مُحَرِّقِ
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبُو حَفْصٍ، ثَنَا الْفِرْيَابِيُّ، ثَنَا أَبَانٌ، قَالَ عُمَرُ: هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ. ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ صَخْرٍ - هُوَ ابْنُ الْعَيْلَةِ الْأَحْمَسِيُّ -أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا ثَقِيفًا، فَلَمَّا أَنْ سَمِعَ ذَلِكَ صَخْرٌ رَكِبَ فِي خَيْلٍ يُمِدُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَهُ قَدِ انْصَرَفَ وَلَمْ يَفْتَحْ، فَجَعَلَ صَخْرٌ حِينَئِذٍ عَهْدًا وَذِمَّةً لَا أُفَارِقُ هَذَا الْقَصْرَ حَتَّى يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُفَارِقْهُمْ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ صَخْرٌ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ ثَقِيفًا قَدْ نَزَلَتْ عَلَى حُكْمِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَا مُقْبِلٌ بِهِمْ، وَهُمْ فِي خَيْلٍ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ جَامِعَةً، فَدَعَا لِأَحْمَسَ عَشْرَ دَعَوَاتٍ: " اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأَحْمَسَ فِي خَيْلِهَا وَرِجَالِهَا ". وَأَتَاهُ الْقَوْمُ، فَتَكَلَّمَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ صَخْرًا أَخَذَ عَمَّتِي، وَدَخَلَتْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ. فَدَعَاهُ فَقَالَ: " يَا صَخْرُ،

إِنَّ الْقَوْمَ إِذَا أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَادْفَعْ إِلَى الْمُغِيرَةِ عَمَّتَهُ ". فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، وَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاءً لِبَنِي سُلَيَمٍ، قَدْ هَرَبُوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَتَرَكُوا ذَلِكَ الْمَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْزِلْنِيهِ أَنَا وَقَوْمِي. قَالَ: " نَعَمْ ". فَأَنْزَلَهُ، وَأَسْلَمَ - يَعْنِي السُّلَمِيِّينَ - فَأَتَوْا صَخْرًا فَسَأَلُوهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِمُ الْمَاءَ، فَأَبَى، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَسْلَمْنَا وَأَتَيْنَا صَخْرًا لِيَدْفَعَ إِلَيْنَا مَاءَنَا، فَأَبَى عَلَيْنَا. فَقَالَ: " يَا صَخْرُ، إِنَّ الْقَوْمَ إِذَا أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا أَمْوَالَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ، فَادْفَعْ إِلَيْهِمْ مَاءَهُمْ ". قَالَ: نَعَمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ. فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَغَيَّرُ عِنْدَ ذَلِكَ حُمْرَةً; حَيَاءً مِنْ أَخْذِهُ الْجَارِيَةَ وَأَخْذِهُ الْمَاءَ تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ وَفِي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ.
قُلْتُ: وَكَانَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ تَقْتَضِي أَنْ يُؤَخَّرَ الْفَتْحَ عَامَئِذٍ; لِئَلَّا يُسْتَأْصَلُوا قَتْلًا، لَأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ خَرَجَ إِلَى الطَّائِفِ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَى أَنْ يُئْوُوهُ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَكَذَّبُوهُ، فَرَجَعَ مَهْمُومًا، فَلَمْ يَسْتَفِقْ إِلَّا عِنْدَ قَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَإِذَا هُوَ بِغَمَامَةٍ، وَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَاهُ مَلَكُ الْجِبَالِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ،

إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَقَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَلْ أَسَتَأْنِي بِهِمْ; لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ". فَنَاسَبَ قَوْلُهُ: " بَلْ أَسَتَأْنِي بِهِمْ ". أَنْ لَا يَفْتَحَ حِصْنَهُمْ لِئَلَّا يُقْتَلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَأَنْ يُؤَخَّرَ الْفَتْحُ لِيَقْدَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ مُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَصْلٌ فِي مَرْجِعِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، عَنِ الطَّائِفِ وَقِسْمَةِ غَنَائِمِ هَوَازِنَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ حُنَيْنٍ قَبْلَ دُخُولِهِ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا مِنَ الْجِعْرَانَةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْصَرَفَ عَنِ الطَّائِفِ عَلَى دَحْنَا، حَتَّى نَزَلَ الْجِعْرَانَةَ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعَهُ مِنْ هَوَازِنَ سَبْيٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَوْمَ ظَعَنَ عَنْ ثَقِيفٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا وَائْتِ بِهِمْ ". قَالَ: ثُمَّ أَتَاهُ وَفْدُ هَوَازِنَ بِالْجِعْرَانَةِ، وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ سِتَّةُ آلَافٍ مِنَ الذَّرَارِيِّ

وَالنِّسَاءِ وَمِنَ الْإِبِلِ وَالشَّاءِ مَا لَا يُدْرَى عِدَّتُهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ - وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ - عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ:كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُنَيْنٍ، فَلَمَّا أَصَابَ مِنْ هَوَازِنَ مَا أَصَابَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَسَبَايَاهُمْ، أَدْرَكَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ بِالْجِعْرَانَةِ وَقَدْ أَسْلَمُوا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا أَصْلٌ وَعَشِيرَةٌ، وَقَدْ أَصَابَنَا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ. وَقَامَ خَطِيبُهُمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ أَبُو صُرَدٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مَا فِي الْحَظَائِرِ مِنِ السَّبَايَا خَالَاتُكَ وَعَمَّاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ اللَّاتِي كُنَّ يَكْفُلْنَكَ، وَلَوْ أَنَّا مَلَحْنَا لِابْنِ أَبِي شَمِرٍ أَوِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، ثُمَّ أَصَابَنَا مِنْهُمَا مِثْلُ الَّذِي أَصَابَنَا مِنْكَ، رَجَوْنَا عَائِدَتَهُمَا وَعَطْفَهُمَا، وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَدَّخِرُ امْنُنْ عَلَى بَيْضَةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ
مُمَزَّقٍ شَمْلُهَا فِي دَهْرِهَا غِيَرُ أَبْقَتْ لَهَا الْحَرْبُ هُتَّافًا عَلَى حَزَنٍ
عَلَى قُلُوبِهِمُ الْغَمَّاءُ وَالْغَمَرُ

إِنْ لَمْ تَدَارَكْهُمُ نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا
يَا أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا
إِذْ فُوكَ تَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدِّرَرُ امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا
وَإِذْ يَزِينُكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ لَا تَجْعَلَنَّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ
وَاسْتَبْقِ مِنَّا فَإِنَّا مَعْشَرٌ زُهُرُ إِنَّا لَنَشْكُرُ آلَاءً وَإِنْ كُفِرَتْ
وَعِنْدَنَا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدَّخَرُ
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نِسَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ؟ " فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَيَّرْتَنَا بَيْنَ أَحِسَابِنَا وَأَمْوَالِنَا، بَلْ أَبْنَاؤُنَا وَنِسَاؤُنَا أَحَبُّ إِلَيْنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، وَإِذَا أَنَا صَلَّيْتُ بِالنَّاسِ فَقُومُوا فَقُولُوا: إِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَبِالْمُسْلِمِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا. فَإِنِّي سَأُعْطِيكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَسْأَلُ لَكُمْ ". فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ الظَّهْرَ، قَامُوا فَقَالُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ ". فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَتْ

الْأَنْصَارُ: وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ أَمَّا أَنَا وَبَنُو تَمِيمٍ فَلَا. وَقَالَ عُيَيْنَةُ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فَلَا. وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلَا. فَقَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ: بَلْ مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: يَقُولُ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ لِبَنِي سُلَيْمٍ: وَهَّنْتُمُونِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَمْسَكَ مِنْكُمْ بِحَقِّهِ فَلَهُ بِكُلِّ إِنْسَانٍ سِتُّ فَرَائِضَ مِنْ أَوَّلِ فَيْءٍ نُصِيبُهُ ". فَرَدُّوا إِلَى النَّاسِ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ. ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّبَعَهُ النَّاسُ يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْسِمْ عَلَيْنَا فَيْئَنَا. حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى شَجَرَةٍ فَانْتَزَعَتْ رِدَاءَهُ، فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، رَدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي فِي يَدِهِ لَوْ كَانَ لَكُمْ عِنْدِي عَدَدُ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ مَا أَلْفَيْتُمُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذَّابًا ". ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَنْبِ بِعِيرٍ فَأَخَذَ مِنْ سَنَامِهِ وَبَرَةً فَجَعَلَهَا بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ ثُمَّ رَفَعَهَا وَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ، وَاللَّهِ مَا لِي مِنْ فَيْئِكُمْ وَلَا هَذِهِ الْوَبَرَةِ إِلَّا الْخُمْسُ، وَالْخُمْسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ، فَأَدَّوُا الْخِيَاطَ وَالْمَخِيطَ فَإِنَّ الْغُلُولَ عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِكُبَّةٍ مِنْ خُيُوطِ شَعَرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخَذْتُ هَذِهِ لِأَخِيطَ بِهَا بَرْذَعَةَ بَعِيرٍ لِي دَبِرٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّا حَقِّي مِنْهَا فَلَكَ ". فَقَالَ الرَّجُلُ: أَمَّا إِذَا بَلَغَ الْأَمْرُ فِيهَا إِلَى هَذَا فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا. فَرَمَى بِهَا مِنْ يَدِهِ. وَهَذَا السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنَّهُ

عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، خِلَافًا لِمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَغَيْرِهِ.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوا أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَعِي مَنْ تَرَوْنَ، وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا السَّبْيَ، وَإِمَّا الْمَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ ". وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، قَالُوا: إِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلَاءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ ". فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُمْ: " إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ

يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عَرْفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ ". فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عَرْفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا. فَهَذَا مَا بَلَغَنَا عَنْ سَبْيِ هَوَازِنَ. وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْبُخَارِيُّ لِمَنْعِ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ وَقَوْمِهِمَا، بَلْ سَكَتَ عَنْ ذَلِكَ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، فَكَيْفَ السَّاكِتُ؟!
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ، أَخْبَرَهُ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ النَّاسُ مُقْفِلَةٌ مِنْ حُنَيْنٍ، عَلِقَتِ الْأَعْرَابُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ فَخَطَفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: " أَعْطَوْنِي رِدَائِي، فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا كَذُوبًا وَلَا جَبَانًا " تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو وَجْزَةَ يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ السَّعْدِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا: رَيْطَةُ بِنْتُ هِلَالِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ عُمَيْرَةَ. وَأَعْطَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا: زَيْنَبُ بِنْتُ حَيَّانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَيَّانَ. وَأَعْطَى عُمَرَ جَارِيَةً فَوَهَبَهَا لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: بَعَثْتُ بِهَا إِلَى

أَخْوَالِي مِنْ بَنِي جُمَحَ; لِيُصْلِحُوا لِي مِنْهَا وَيُهَيِّئُوهَا، حَتَّى أَطُوفَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ آتِيَهِمْ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُصِيبَهَا إِذَا رَجَعْتُ إِلَيْهَا. قَالَ: فَجِئْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ حِينَ فَرَغْتُ، فَإِذَا النَّاسُ يَشْتَدُّونَ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: رَدَّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. قُلْتُ: تِلْكُمْ صَاحِبَتُكُمْ فِي بَنِي جُمَحَ، فَاذْهَبُوا فَخُذُوهَا. فَذَهَبُوا إِلَيْهَا فَأَخَذُوهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَمَّا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فَأَخَذَ عَجُوزًا مِنْ عَجَائِزِ هَوَازِنَ، وَقَالَ حِينَ أَخَذَهَا: أَرَى عَجُوزًا إِنِّي لِأَحْسَبُ لَهَا فِي الْحَيِّ نَسَبًا، وَعَسَى أَنْ يَعْظُمَ فِدَاؤُهَا. فَلَمَّا رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّبَايَا بِسِتِّ فَرَائِضَ، أَبَى أَنْ يَرُدَّهَا، فَقَالَ لَهُ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ: خُذْهَا عَنْكَ، فَوَاللَّهِ مَا فُوهَا بِبَارِدٍ، وَلَا ثَدْيُهَا بِنَاهِدٍ، وَلَا بَطْنُهَا بِوَالِدٍ، وَلَا زَوْجُهَا بِوَاجِدٍ، وَلَا دَرُّهَا بِمَاكِدٍ. فَرَدَّهَا بِسِتِّ فَرَائِضَ. قَالَ: فَزَعَمُوا أَنَّ عُيَيْنَةَ لَقِيَ الْأَقْرَعَ فَشَكَا إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّكَ وَاللَّهِ مَا أَخَذْتَهَا بَيْضَاءَ غَرِيرَةً، وَلَا نَصَفًا وَثِيرَةً.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَلَمَّا قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَنَائِمَ بِالْجِعْرَانَةِ أَصَابَ كُلَّ رَجُلٍ أَرْبَعٌ مِنَ الْإِبِلِ وَأَرْبَعُونَ شَاةً.

وَقَالَ سَلَمَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَجُلًا مِمَّنْ شَهِدَ حُنَيْنًا قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لِأَسِيرُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَاقَةٍ لِي، وَفِي رِجْلِي نَعْلٌ غَلِيظَةٌ، إِذْ زَحَمَتْ نَاقَتِي نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقَعُ حَرْفُ نَعْلِي عَلَى سَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَوْجَعَهُ، فَقَرَعَ قَدَمِي بِالسَّوْطِ، وَقَالَ: " أَوْجَعْتَنِي فَتَأَخَّرْ عَنِّي ". فَانْصَرَفْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْتَمِسُنِي. قَالَ: قُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ لِمَا كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ رِجْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَمْسِ. قَالَ: فَجِئْتُهُ وَأَنَا أَتَوَقَّعُ. فَقَالَ: " إِنَّكَ أَصَبْتَ رِجْلِي بِالْأَمْسِ فَأَوْجَعْتَنِي، فَقَرَعْتُ قَدَمَكَ بِالسَّوْطِ، فَدَعَوْتُكَ لِأُعَوِّضَكَ مِنْهَا ". فَأَعْطَانِي ثَمَانِينَ نَعْجَةً بِالضَّرْبَةِ الَّتِي ضَرَبَنِي.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ إِلَى هَوَازِنَ سَبْيَهُمْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا السِّيَاقُ وَغَيْرُهُ، وَظَاهِرُ سِيَاقِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الَّذِي أَوْرَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ إِلَى هَوَازِنَ سَبْيَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَلِهَذَالَمَّا رَدَّ السَّبْيَ وَرَكِبَ، عَلَقَتِ الْأَعْرَابُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ لَهُ: اقْسِمْ عَلَيْنَا فَيْئَنَا. حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ، فَخَطَفَتْ رِدَاءَهُ فَقَالَ: " رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي أَيُّهَا النَّاسُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ لَكُمْ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا

وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذَّابًا " كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ بِنَحْوِهِ.
وَكَأَنَّهُمْ خَشُوا أَنْ يَرُدَّ إِلَى هَوَازِنَ أَمْوَالَهُمْ كَمَا رَدَّ إِلَيْهِمْ نِسَاءَهُمْ وَأَطْفَالَهُمْ، فَسَأَلُوهُ قِسْمَةَ ذَلِكَ فَقَسَّمَهَا، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بِالَجِعْرَانَةِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَآثَرَ أُنَاسًا فِي الْقِسْمَةِ، وَتَأَلَّفَ أَقْوَامًا مِنْ رُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ وَأُمَرَائِهِمْ، فَعَتَبَ عَلَيْهِ أُنَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حَتَّى خَطَبَهُمْ، وَبَيَّنَ لَهُمْ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِيمَا فَعَلَهُ; تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، وَتَنَقَّدَ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْلَمُ مِنَ الْجَهَلَةِ وَالْخَوَارِجِ، كَذِي الْخُوَيْصِرَةِ وَأَشْبَاهِهِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ وَبَيَانُهُ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَارِمٌ ثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: ثَنَا السُّمَيْطُ السَّدُوسِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:فَتَحْنَا مَكَّةَ، ثُمَّ إِنَّا غَزَوْنَا حُنَيْنًا، فَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ بِأَحْسَنِ صُفُوفٍ رَأَيْتُ، فَصُفَّتِ الْخَيْلُ، ثُمَّ صُفَّتِ الْمُقَاتِلَةُ، ثُمَّ صُفَّتِ النِّسَاءُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، ثُمَّ صُفَّتِ الْغَنَمُ، ثُمَّ النَّعَمُ. قَالَ: وَنَحْنُ بَشَرٌ كَثِيرٌ، قَدْ بَلَغْنَا سِتَّةَ آلَافٍ، وَعَلَى مُجَنَّبَةِ خَيْلِنَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. قَالَ: فَجَعَلَتْ خَيْلُنَا تَلُوذُ خَلْفَ ظُهُورِنَا. قَالَ: فَلَمْ نَلْبَثْ أَنِ انْكَشَفَ خَيْلُنَا، وَفَرَّتِ الْأَعْرَابُ وَمَنْ نَعْلَمُ مِنَ النَّاسِ. قَالَ: فَنَادَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا لَلْمُهَاجِرِينَ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ يَا لَلْأَنْصَارِ ". قَالَ أَنَسٌ: هَذَا حَدِيثُ عَمِّيَهِ. قَالَ:

قُلْنَا لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَأَيْمِ اللَّهِ مَا أَتَيْنَاهُمْ حَتَّى هَزَمَهُمُ اللَّهُ. قَالَ: فَقَبَضْنَا ذَلِكَ الْمَالَ، ثُمَّ انْطَلَقْنَا إِلَى الطَّائِفِ فَحَاصَرْنَاهُمْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى مَكَّةَ. قَالَ: فَنَزَلْنَا، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي الرَّجُلَ الْمِائَةَ. وَيُعْطِي الرَّجُلَ الْمِائَةَ. قَالَ: فَتَحَدَّثَ الْأَنْصَارُ بَيْنَهَا: أَمَّا مَنْ قَاتَلَهُ فَيُعْطِيهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُقَاتِلْهُ فَلَا يُعْطِيهِ! فَرُفِعَ الْحَدِيثُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَمَرَ بِسَرَاةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيَّ إِلَّا أَنْصَارِيُّ " أَوِ " الْأَنْصَارُ ". قَالَ: فَدَخَلْنَا الْقُبَّةَ حَتَّى مَلَأْنَاهَا. قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ " - أَوْ كَمَا قَالَ - " مَا حَدِيثٌ أَتَانِي؟ " قَالُوا: مَا أَتَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " مَا حَدِيثٌ أَتَانِي؟ " قَالُوا: مَا أَتَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ، وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ حَتَّى تُدْخِلُوهُ بُيُوتَكُمْ؟ " قَالُوا: رَضِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ فَرَضُوا. أَوْ كَمَا قَالَ وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ. وَفِيهِ مِنَ الْغَرِيبِ قَوْلُهُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَ هَوَازِنَ سِتَّةَ آلَافٍ. وَإِنَّمَا كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ حَاصَرُوا الطَّائِفَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. وَإِنَّمَا حَاصَرُوهَا قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، أَوْ دُونَ الْعِشْرِينَ لَيْلَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا هِشَامٌ ثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ

الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ:قَالَ نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مَا أَفَاءَ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ، فَطَفِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي رِجَالًا الْمِائَةَ مِنَ الْإِبِلِ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ؟! قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَحُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَقَالَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةِ أَدَمٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ ". فَقَالَ فُقَهَاءُ الْأَنْصَارِ: أَمَّا رُؤَسَاؤُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا نَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَإِنِّي لَأُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهِدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ، وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ فَوَاللَّهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ رَضِينَا. فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَسَتَجِدُونَ أَثَرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ ". قَالَ أُنْسٌ: فَلَمْ يَصْبِرُوا تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
ثُمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ جَدِّهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ الْتَقَى هَوَازِنُ، وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةُ آلَافٍ وَالطُّلَقَاءُ، فَأَدْبَرُوا، فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ". قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، لَبَّيْكَ نَحْنُ بَيْنَ يَدَيْكَ. فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ". فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، فَأَعْطَى الطُّلَقَاءَ وَالْمُهَاجِرِينَ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ

شَيْئًا، فَقَالُوا، فَدَعَاهُمْ فَأَدْخَلَهُمْ فِي قُبَّةٍ، فَقَالَ: " أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ". قَالُوا: بَلَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ " وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ أَقْبَلَتْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ وَغَيْرُهُمْ بِنِعَمِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةُ آلَافٍ وَالطُّلَقَاءُ، فَأَدْبَرُوا عَنْهُ حَتَّى بَقِيَ وَحْدَهُ، فَنَادَى يَوْمَئِذٍ نِدَاءَيْنِ لَمْ يَخْلِطْ بَيْنَهُمَا; الْتَفَتَ عَنْ يَمِينِهِ فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ". قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ. ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْ يَسَارِهِ فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ". قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ. وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ، فَنَزَلَ فَقَالَ: " أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ". فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ غَنَائِمَ كَثِيرَةً، فَقَسَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالطُّلَقَاءِ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا. فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: إِذَا كَانَتْ شَدِيدَةٌ فَنَحْنُ نُدْعَى وَيُعْطَى الْغَنِيمَةَ غَيْرُنَا. فَبَلَغَهُ ذَلِكَ، فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي؟ " فَسَكَتُوا، فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا، وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ تَحُوزُونَهُ إِلَى بُيُوتِكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى. فَقَالَ: " لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ ". قَالَ هِشَامٌ: قُلْتُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ وَأَنْتَ شَاهِدٌ ذَلِكَ؟ قَالَ: وَأَيْنَ أَغِيبُ عَنْهُ؟

ثُمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْصَارَ فَقَالَ: " إِنَّ قُرَيْشًا حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ، وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُجْبِرَهُمْ وَأَتَأَلَّفَهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى بُيُوتِكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى. قَالَ: " لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ " أَوْ " شِعْبَ الْأَنْصَارِ ".
وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ يَزِيدَ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ، وَفِيهِ: فَقَالُوا: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْعَجَبُ، إِنَّ سُيُوفَنَا لِتَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، وَالْغَنَائِمُ تُقَسَّمُ فِيهِمْ! فَخَطَبَهُمْ. وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَفَّانُ ثَنَا حَمَّادٌ ثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعَ وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فِي آخَرِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، وَهُمْ يَذْهَبُونَ بِالْمَغْنَمِ؟ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ لَهُ حَتَّى فَاضَتْ، فَقَالَ: " فِيكُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِكُمْ؟ " قَالُوا: لَا، إِلَّا ابْنَ أُخْتِنَا. قَالَ: " ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ ". ثُمَّ قَالَ: " أَقُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ " قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: " أَنْتُمُ الشِّعَارُ وَالنَّاسُ الدِّثَارُ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى دِيَارِكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى. قَالَ: " الْأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي، لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَهَمْ، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ ". وَقَالَ حَمَّادٌ: أَعْطَى مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ فَسَمَّى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ أَلَمْ آتِكُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَجَمَعَكُمُ اللَّهُ بِي؟ أَلَمْ آتِكُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " أَفَلَا تَقُولُونَ: جِئْتَنَا خَائِفًا فَأَمَّنَّاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ؟ " قَالُوا: بَلْ لِلَّهِ الْمَنُّ عَلَيْنَا وَلِرَسُولِهِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ ثُلَاثِيٌّ عَلَى شَرْطِ " الصَّحِيحَيْنِ "، فَهَذَا الْحَدِيثُ كَالْمُتَوَاتِرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ.
فَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا وُهَيْبٌ ثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَسَّمَ فِي النَّاسِ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ، فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ " كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ. قَالَ: " لَوْ شِئْتُمْ

قُلْتُمْ: جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا، أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ بِهِ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:لَمَّا أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَنَائِمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَقَسَّمَ لِلْمُتَأَلِّفِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَسَائِرِ الْعَرَبِ مَا قَسَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ وَاللَّهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ. فَمَشَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ. فَقَالَ: " فِيمَ؟ " قَالَ: فِيمَا كَانَ مِنْ قَسْمِكَ هَذِهِ الْغَنَائِمَ فِي قَوْمِكَ وَفِي سَائِرِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ " قَالَ: مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا فَأَعْلِمْنِي ". فَخَرَجَ سَعْدٌ فَصَرَخَ فِيهِمْ، فَجَمَعَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، فَجَاءَ رِجَالٌ مِنَ

الْمُهَاجِرِينَ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ إِلَّا اجْتَمَعَ لَهُ، أَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ حَيْثُ أَمَرْتَنِي أَنْ أَجْمَعَهُمْ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ، وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَّا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ " قَالُوا: وَمَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ؟ الْمَنُّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. قَالَ: " أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ: جِئْتَنَا طَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ، وَخَائِفًا فَأَمَّنَّاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ ". فَقَالُوا: الْمَنُّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَوَجَدْتُمْ فِي نُفُوسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا أَسْلَمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى مَا قَسَمَ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ؟! أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ إِلَى رِحَالِهِمْ بِالشَّاءِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ النَّاسَ سَلَكُوا شِعْبًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ ". قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَسْمًا. ثُمَّ انْصَرَفَ وَتَفَرَّقُوا وَهَكَذَا رَوَاهُ

الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ:قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لِأَصْحَابِهِ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ أَنَّهُ لَوْ قَدِ اسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ قَدْ آثَرَ عَلَيْكُمْ. قَالَ: فَرَدُّوا عَلَيْهِ رَدًّا عَنِيفًا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ أَشْيَاءَ لَا أَحْفَظُهَا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " وَكُنْتُمْ لَا تَرْكَبُونَ الْخَيْلَ ". وَكُلَّمَا قَالَ لَهُمْ شَيْئًا قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ الْخُطْبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ أَيْضًا. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُنْفَرِدًا بِهِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِنَحْوِهِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ مُوسَى عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ مُخْتَصَرًا.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنْ سَبْيِ حُنَيْنٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ مِائَةً، وَأَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةً، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ مِائَةً،

وَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً، وَأَعْطَى عَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ مِائَةً، وَأَعْطَى مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ مِائَةً، وَأَعْطَى الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ دُونَ الْمِائَةِ، وَلَمْ يُبَلِّغْ بِهِ أُولَئِكَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
فَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا وَمَنْ تَخْفِضُ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعُ
وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَأٍ فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ
قَالَ: فَأَتَمَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةً رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِنَحْوِهِ، وَهَذَا لَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ. وَفِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ إِسْحَاقَ فَقَالَ:
كَانَتْ نِهَابًا تَلَافَيْتُهَا بِكَرِّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الْأَجْرَعِ
وَإِيقَاظِيَ الْحَيَّ أَنْ يَرْقُدُوا إِذَا هَجَعَ النَّاسُ لَمْ أَهْجَعِ

فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعُبَيْدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَأٍ فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ
إِلَّا أَفَائِلَ أُعْطِيتُهَا عَدِيدَ قَوَائِمِهَا الْأَرْبَعِ
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امِرِئٍ مِنْهُمَا وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ
قَالَ عُرْوَةُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: " أَنْتَ الْقَائِلُ: أَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعُبَيْدِ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ؟ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا هَكَذَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتَ بِشَاعِرٍ وَمَا يَنْبَغِي لَكَ. فَقَالَ: " كَيْفَ قَالَ؟ " فَأَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هُمَا سَوَاءٌ، مَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِمَا بَدَأْتَ ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْطَعُوا عَنِّي لِسَانَهُ ". فَخَشِيَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْمُثْلَةَ بِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَطِيَّةَ. قَالَ: وَعُبَيْدٌ فَرَسُهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجِعْرَانَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَمَعَهُ بِلَالٌ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَلَا

تُنْجِزُ لِي مَا وَعَدْتَنِي؟ فَقَالَ لَهُ: " أَبْشِرْ ". فَقَالَ: قَدْ أَكْثَرْتَ عَلَيَّ مِنْ " أَبْشِرْ ". فَأَقْبَلَ عَلَى أَبِي مُوسَى وَبِلَالٍ كَهَيْئَةِ الْغَضْبَانِ فَقَالَ: " رَدَّ الْبُشْرَى فَاقْبَلَا أَنْتُمَا ". قَالَا: قَبِلْنَا. ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ وَمَجَّ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: " اشْرَبَا مِنْهُ وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكَمَا وَنُحُورِكُمَا وَأَبْشِرَا ". فَأَخَذَا الْقَدَحَ فَفَعَلَا، فَنَادَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ أَنْ أَفْضِلَا لِأُمِّكُمَا. فَأَفْضَلَا لَهَا مِنْهُ طَائِفَةً. هَكَذَا رَوَاهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ثَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ الَّذِينَ أَعْطَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَهُمْ; أَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ وَابْنُهُ مُعَاوِيَةُ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةَ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ وَالْعَلَاءُ بْنُ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ

وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ أَنَّ قَائِلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعَ مِائَةً مِائَةً، وَتَرَكْتَ جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ الضَّمْرِيَّ ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَجُعَيْلٌ خَيْرٌ مِنْ طِلَاعِ الْأَرْضِ، كُلُّهُمْ مِثْلُ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ وَلَكِنْ تَأَلَّفْتُهُمَا لِيُسْلِمَا، وَوَكَلْتُ جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ إِلَى إِسْلَامِهِ "..
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَنْ أَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ الْمِائَةِ مِمَّنْ يَطُولُ ذِكْرُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ:مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ وَهُوَ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ، حَتَّى مَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ..

( ذِكْرُ قُدُومِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ).
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَفْدِ هَوَازِنَ وَسَأَلَهُمْ عَنْ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ " مَا فَعَلَ؟ " فَقَالُوا: هُوَ بِالطَّائِفِ مَعَ ثَقِيفٍ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

" أَخْبِرُوهُ أَنَّهُ إِنْ أَتَانِي مُسْلِمًا رَدَدْتُ إِلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَأَعْطَيْتُهُ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ ". فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مَالِكًا انْسَلَّ مِنْ ثَقِيفٍ، حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْجَعْرَانَةِ - أَوْ بِمَكَّةَ - فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَأَعْطَاهُ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، فَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ فِي النَّاسِ كُلِّهِمُ بِمِثْلِ مُحَمَّدِ أَوْفَى وَأَعْطَى لِلْجَزِيلِ إِذَا اجْتُدِي
وَمَتَى تَشَأْ يُخْبِرْكَ عَمَّا فِي غَدِ وَإِذَا الْكَتِيبَةُ عَرَّدَتْ أَنْيَابُهَا
بِالسَّمْهَرِيِّ وَضَرْبِ كُلِّ مُهَنَّدِ فَكَأَنَّهُ لَيْثٌ عَلَى أَشْبَالِهِ
وَسْطَ الْهَبَاءَةِ خَادِرٌ فِي مَرْصَدِ
قَالَ: وَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ، وَتِلْكَ الْقَبَائِلُ; ثُمَالَةُ وَسَلِمَةُ وَفَهْمٌ، فَكَانَ يُقَاتِلُ بِهِمْ ثَقِيفًا لَا يَخْرُجُ لَهُمْ سَرْجٌ إِلَّا أَغَارَ عَلَيْهِ، حَتَّى ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ ثَنَا الْحَسَنُ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا وَمَنَعَ آخَرِينَ، فَكَأَنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: " إِنِّي أُعْطِي قَوْمًا أَخَافُ ظَلَعَهُمْ وَجَزَعَهُمْ،

وَأَكِلُ قَوْمًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْغِنَى، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ ". قَالَ عَمْرُو: فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُمْرَ النَّعَمِ. زَادَ أَبُو عَاصِمٍ عَنْ جَرِيرٍ سَمِعْتُ الْحَسَنَ ثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِمَالٍ - أَوْ سَبْيٍ - فَقَسَّمَهُ... بِهَذَا.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ - أَوْ بِشَيْءٍ - فَأَعْطَى رِجَالًا وَتَرَكَ رِجَالًا، فَبَلَغَهُ أَنَّ الَّذِينَ تَرَكَ عَتَبُوا، فَخَطَبَهُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ ". فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ أَنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْأَنْصَارِ وَتَأَخُّرِهِمْ عَنِ الْغَنِيمَةِ:
زَادَتْ هُمُومٌ فَمَاءُ الْعَيْنِ مُنْحَدِرُ سَحًّا إِذَا حَفَلَتْهُ عَبْرَةٌ دِرَرُ
وَجْدًا بِشَمَّاءَ إِذْ شَمَّاءُ بَهْكَنَةٌ هَيْفَاءُ لَا ذَنَنٌ فِيهَا وَلَا خَوَرُ
دَعْ عَنْكَ شَمَّاءَ إِذْ كَانَتْ مَوَدَّتُهَا نَزْرًا وَشَرُّ وِصَالِ الْوَاصِلِ النَّزِرُ
وَأْتِ الرَّسُولَ فَقُلْ يَا خَيْرَ مُؤْتَمَنٍ لِلْمُؤْمِنِينَ إِذَا مَا عُدِّدَ الْبَشَرُ
عَلَامَ تُدْعَى سُلَيْمٌ وَهْيَ نَازِحَةٌ قُدَّامَ قَوْمٍ هُمُ آوَوْا وَهُمْ نَصَرُوا

سَمَّاهُمُ اللَّهُ أَنْصَارًا بِنَصْرِهِمُ دِينَ الْهُدَى وَعَوَانُ الْحَرْبِ تَسْتَعِرُ
وَسَارَعُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْتَرَفُوا لِلنَّائِبَاتِ وَمَا خَانُوا وَمَا ضَجِرُوا
وَالنَّاسُ أَلْبٌ عَلَيْنَا فِيكَ لَيْسَ لَنَا إِلَّا السُّيُوفُ وَأَطْرَافُ الْقَنَا وَزَرُ
نُجَالِدُ النَّاسَ لَا نُبْقِي عَلَى أَحَدٍ وَلَا نُضَيِّعُ مَا تُوحِي بِهِ السُّوَرُ
وَلَا تُهِرُّ جُنَاةُ الْحَرْبِ نَادِيَنَا وَنَحْنُ حِينَ تَلَظَّى نَارُهَا سُعُرُ
كَمَا رَدَدْنَا بِبَدْرٍ دُونَ مَا طَلَبُوا أَهْلَ النِّفَاقِ وَفِينَا يَنْزِلُ الظَّفَرُ
وَنَحْنُ جُنْدُكَ يَوْمَ النَّعْفِ مِنْ أُحُدٍ إِذْ حَزَّبَتْ بَطَرًا أَحْزَابَهَا مُضَرُ
فَمَا وَنَيْنَا وَمَا خِمْنَا وَمَا خَبَرُوا مِنَّا عِثَارًا وَكُلُّ النَّاسِ قَدْ عَثَرُوا

اعْتِرَاضُ بَعْضِ الْجَهَلَةِ مِنْ أَهْلِ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِسْمَةِ الْعَادِلَةِ بِالِاتِّفَاقِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا قَبِيصَةُ ثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ

عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا قَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِسْمَةَ حُنَيْنٍ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: مَا أَرَادَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ. قَالَ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: " رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ " وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا; أَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى نَاسًا، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُرِيدَ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ وَجْهُ اللَّهِ. فَقُلْتُ: لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: " رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ ". وَهَكَذَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ بِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ:فَقَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ فِيهَا وَجْهُ اللَّهِ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: " مَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟! رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ ".
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ

عَنْ مِقْسَمٍ أَبِي الْقَاسِمِ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَتَلِيدُ بْنُ كِلَابٍ اللَّيْثِيُّ حَتَّى أَتَيْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ مُعَلِّقًا نَعْلَهُ بِيَدِهِ، فَقُلْنَا لَهُ: هَلْ حَضَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ كَلَّمَهُ التَّمِيمِيُّ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، جَاءَ رَجُلٌ مَنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ: ذُو الْخُوَيْصِرَةِ. فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُعْطِي النَّاسَ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ رَأَيْتُ مَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْيَوْمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَجَلْ، فَكَيْفَ رَأَيْتَ؟ " قَالَ: لَمْ أَرَكَ عَدَلْتَ. قَالَ: فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَيْحَكَ! إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَدْلُ عِنْدِي فَعِنْدَ مَنْ يَكُونُ؟! " فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَقْتُلُهُ ؟ فَقَالَ: " لَا، دَعُوهُ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شِيعَةٌ يَتَعَمَّقُونَ فِي الدِّينِ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهُ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ فِي النَّصْلِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ فِي الْقِدْحِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ فِي الْفَوْقِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ "..
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:أَتَى رَجُلٌ بِالْجِعْرَانَةِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، وَفِي ثَوْبِ بِلَالٍ فِضَّةٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبِضُ مِنْهَا وَيُعْطِي النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اعْدِلْ. قَالَ:

" وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟! لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ ". فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ. فَقَالَ: " مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رُمْحٍ عَنِ اللَّيْثِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو عَامِرٍ ثَنَا قُرَّةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَسِّمُ مَغَانِمَ حُنَيْنٍ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: اعْدِلْ. فَقَالَ: " لَقَدْ شَقِيتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ ". وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ السَّدُوسِيِّ بِهِ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ:بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا إِذْ أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْدِلْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟! لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ " فَقَالَ عُمَرُ بْنُ

الْخِطَابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَنْظُرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى رِصَافِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى نَضِيِّهِ - وَهُوَ قِدْحُهُ - فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى قَذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، أَوْ مِثْلُ الْبِضْعَةِ تَدَرْدُرُ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ ". قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، وَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَأُتِيَ بِهِ، حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي نَعَتَ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِهِ نَحْوَهُ.

ذِكْرُ مَجِيءِ أُخْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَيْهِ وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، وَاسْمُهَا الشَّيْمَاءُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ هَوَازِنَ: " إِنْ قَدَرْتُمْ عَلَى بِجَادٍ - رَجُلٍ مَنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ - فَلَا يُفْلِتَنَّكُمْ ". وَكَانَ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا، فَلَمَّا ظَفِرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ سَاقُوهُ وَأَهْلَهُ، وَسَاقُوا مَعَهُ الشَّيْمَاءَ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، أُخْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، قَالَ: فَعَنَفُوا عَلَيْهَا فِي السُّوقِ، فَقَالَتْ لِلْمُسْلِمِينَ: تَعْلَمُوا وَاللَّهِ إِنِّي لَأُخْتُ صَاحِبِكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ. فَلَمْ يُصَدِّقُوهَا حَتَّى أَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ السَّعْدِيُّ - هُوَ أَبُو وَجْزَةَ - قَالَ: فَلَمَّا انْتَهِي بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُخْتُكَ مِنَ الرَّضَاعَةِ. قَالَ: " وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ؟ " قَالَتْ: عَضَّةٌ عَضِضْتَنِيهَا فِي ظَهْرِي وَأَنَا مُتَوَرِّكَتُكَ. قَالَ: فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَلَامَةَ، فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ فَأَجْلَسَهَا عَلَيْهِ، وَخَيَّرَهَا وَقَالَ: إِنْ أَحْبَبْتِ فَعِنْدِي مُحَبَّةٌ مُكَرَّمَةٌ، وَإِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ

أُمَتِّعَكِ وَتَرْجِعِي إِلَى قَوْمِكِ فَعَلْتُ ". قَالَتْ: بَلْ تُمَتِّعُنِي وَتَرُدُّنِي إِلَى قَوْمِي. فَمَتَّعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدَّهَا إِلَى قَوْمِهَا، فَزَعَمَتْ بَنُو سَعْدٍ أَنَّهُ أَعْطَاهَا غُلَامًا يُقَالُ لَهُ: مَكْحُولٌ. وَجَارِيَةً، فَزَوَّجَتْ أَحَدَهُمَا الْآخَرَ، فَلَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مِنْ نَسْلِهِمَا بَقِيَّةٌ..
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ هَوَازِنَ جَاءَتْ جَارِيَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أُخْتُكَ، أَنَا شَيْمَاءُ بِنْتُ الْحَارِثِ. فَقَالَ لَهَا: " إِنْ تَكُونِي صَادِقَةً، فَإِنَّ بِكِ مِنِّي أَثَرٌ لَا يَبْلَى ". قَالَ: فَكَشَفَتْ عَنْ عَضُدِهَا، فَقَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنْتَ صَغِيرٌ، فَعَضِضْتَنِي هَذِهِ الْعَضَّةَ. قَالَ: فَبَسَطَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ قَالَ: " سَلِي تُعْطَيْ، وَاشْفَعِي تُشَفَّعِي "..
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةَ أَنْبَأَنَا أَبُو عَمْرٍو إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ السُّلَمِيُّ ثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى بْنِ ثَوْبَانَ أَخْبَرَنِي عَمِّي عُمَارَةُ بْنُ ثَوْبَانَ أَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ أَخْبَرَهُ قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا أَحْمِلُ عَظْمَ الْبَعِيرِ، وَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لَحْمًا بِالْجِعْرَانَةِ. قَالَ: فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: أُمُّهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ أُخْتَهُ، وَقَدْ كَانَتْ تَحْضُنُهُ مَعَ أُمِّهَا حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَقَدْ

عَمَّرَتْ حَلِيمَةُ دَهْرًا، فَإِنَّ مِنْ وَقْتِ أَرْضَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَقْتِ الْجِعْرَانَةِ أَزْيَدَ مِنْ سِتِّينَ سَنَةً، وَأَقَلُّ مَا كَانَ عُمْرُهَا حِينَ أَرْضَعَتْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا عَاشَتْ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ، فِيهِ أَنَّ أَبَوَيْهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ قَدِمَا عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ; قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي " الْمَرَاسِيلِ ": ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْهَمْدَانِيُّ ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ ثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ السَّائِبِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا يَوْمًا، فَجَاءَهُ أَبُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَوَضَعَ لَهُ بَعْضَ ثَوْبِهِ، فَقَعَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ، فَوَضَعَ لَهَا شِقَّ ثَوْبِهِ مِنْ جَانِبِهِ الْآخَرِ، فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ أَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَوَازِنَ بِكَمَالِهَا مُتَوَالِيَةٌ بِرَضَاعَتِهِ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وَهُمْ شِرْذِمَةٌ مِنْ هَوَازِنَ، فَقَالَ خَطِيبُهُمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مَا فِي الْحَظَائِرِ أُمَّهَاتُكَ وَخَالَاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَقَالَ فِيمَا قَالَ:
امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا إِذْ فُوكَ يَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا دِرَرُ امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا
وَإِذْ يَزِينُكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ
فَكَانَ هَذَا سَبَبَ إِعْتَاقِهِمْ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، فَعَادَتْ فَوَاضِلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، خُصُوصًا وَعُمُومًا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ النُّضَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ مِنْ أَحْلَمِ النَّاسِ، فَكَانَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ

الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِالْإِسْلَامِ، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ نَمُتْ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ وَقُتِلَ عَلَيْهِ الْإِخْوَةُ وَبَنُو الْعَمِّ. ثُمَّ ذَكَرَ عَدَاوَتَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ خَرَجَ مَعَ قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى حُنَيْنٍ وَهَمْ عَلَى دِينِهِمْ بَعْدُ. قَالَ: وَنَحْنُ نُرِيدُ إِنْ كَانَتْ دَائِرَةٌ عَلَى مُحَمَّدٍ أَنْ نُعِينَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُمْكِنَّا ذَلِكَ، فَلَمَّا صَارَ بِالْجِعْرَانَةِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لِعَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ إِنْ شَعَرْتُ إِلَّا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " أَنُضَيْرُ ". قُلْتُ: لَبَّيْكَ. قَالَ: " هَذَا خَيْرٌ مِمَّا أَرَدْتَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِمَّا حَالَ اللَّهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ ". قَالَ: فَأَقْبَلْتُ إِلَيْهِ سَرِيعًا، فَقَالَ: " قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تُبْصِرَ مَا كُنْتَ فِيهِ تُوضِعُ ". قُلْتُ: قَدْ أَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى شَيْئًا، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ زِدْهُ ثَبَاتًا ". قَالَ النُّضَيْرُ: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَكَأَنَّ قَلْبِي حَجَرٌ ثَبَاتًا فِي الدِّينِ وَتَبْصِرَةً بِالْحَقِّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاهُ "..

عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا بَهْزٌ وَعَبْدُ الصَّمَدِ. الْمَعْنَى. قَالَا: ثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى ثَنَا قَتَادَةُ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قُلْتُ: كَمْ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟

قَالَ: حِجَّةً وَاحِدَةً، وَاعْتَمَرَ أَرْبَعَ مِرَارٍ; عُمْرَتُهُ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعُمْرَتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَعُمْرَتُهُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، حَيْثُ قَسَمَ غَنِيمَةَ حُنَيْنٍ، وَعُمْرَتُهُ مَعَ حِجَّتِهِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو النَّضْرِ ثَنَا دَاوُدُ، يَعْنِي الْعَطَّارَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمَرٍ ; عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ وَعُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَالثَّالِثَةُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ وَالرَّابِعَةُ الَّتِي مَعَ حِجَّتِهِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارِ الْمَكِّيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِهِ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ ثَنَا حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ عُمَرٍ، كُلُّ ذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ يُلَبِّي حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ. غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ عُمَرٍ اللَّاتِي وَقَعْنَ

فِي ذِي الْقَعْدَةِ مَا عَدَا عُمْرَتَهُ مَعَ حِجَّتِهِ، فَإِنَّهَا وَقَعَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ مَعَ الْحِجَّةِ، وَإِنْ أَرَادَ ابْتِدَاءَ الْإِحْرَامِ بِهِنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَلَعَلَّهُ لَمْ يُرِدْ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ; لَأَنَّهُ صُدَّ عَنْهَا، وَلَمْ يَفْعَلْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ نَافِعٌ وَمَوْلَاهُ ابْنُ عُمَرَ يُنْكِرَانِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ فِيمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَ عَلَيَّ اعْتِكَافُ يَوْمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَأَمَرَهُ أَنْ يَفِيَ بِهِ. قَالَ: وَأَصَابَ عُمَرُ جَارِيَتَيْنِ مِنْ سَبْيِ حُنَيْنٍ فَوَضَعَهُمَا فِي بَعْضِ بُيُوتِ مَكَّةَ. قَالَ: فَمَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبْيِ حُنَيْنٍ فَجَعَلُوا يَسْعَوْنَ فِي السِّكَكِ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، انْظُرْ مَا هَذَا؟ قَالَ: مَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّبْيِ. قَالَ: اذْهَبْ فَأَرْسِلِ الْجَارِيَتَيْنِ قَالَ نَافِعٌ: وَلَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ وَلَوِ اعْتَمَرَ لَمْ يَخْفَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، بِهِ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَةَ الضَّبِّيِّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ عُمْرَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ فَقَالَ: لَمْ يَعْتَمِرْ مِنْهَا. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَنْ مَوْلَاهُ نَافِعٍ فِي إِنْكَارِهِمَا عُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ وَقَدْ أَطْبَقَ النَّقَلَةُ مِمَّنْ عَدَاهُمَا عَلَى رِوَايَةِ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ أَصْحَابُ الْمُغَازِي وَالسِّيَرِ كُلُّهُمْ.

وَهَذَا أَيْضًا كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَنْكَرَتْ عَلَى ابْنِ عُمَرَ قَوْلَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ، وَقَالَتْ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَهُوَ شَاهِدٌ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ..
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ ثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: سَأَلَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ابْنَ عُمَرَ: فِي أَيِّ شَهْرٍ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: فِي رَجَبٍ. فَسَمِعَتْنَا عَائِشَةُ، فَسَأَلَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً إِلَّا وَقَدْ شَهِدَهَا، وَمَا اعْتَمَرَ قَطُّ إِلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ بِهِ نَحْوَهُ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مُجَاهِدٍ: سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ: كَمِ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: مَرَّتَيْنِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَقَدْ عَلِمَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ ثَلَاثًا سِوَى الَّتِي قَرَنَهَا بِحِجَّةِ الْوَدَاعِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ ثَنَا مُفَضَّلٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا ابْنُ عُمَرَ مُسْتَنِدٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَأُنَاسٌ يُصَلُّونَ الضُّحَى، فَقَالَ عُرْوَةُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: بِدْعَةٌ. فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَمِ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَرْبَعًا، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ. قَالَ: وَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ فِي الْحُجْرَةِ. فَقَالَ لَهَا عُرْوَةُ: إِنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ اعْتَمَرَ أَرْبَعًا، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ. فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ مَا اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَهُوَ مَعَهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى عَنْ شَيْبَانَ عَنْ مَنْصُورٍ بِهِ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا رَوْحٌ ثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُزَاحِمُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُخَرِّشٍ الْكَعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ لَيْلًا حِينَ أَمْسَى مُعْتَمِرًا، فَدَخَلَ مَكَّةَ لَيْلًا يَقْضِي عُمْرَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ تَحْتِ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ بِالْجِعْرَانَةِ كَبَائِتٍ، حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ خَرَجَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ فِي بَطْنِ سَرِفٍ، حَتَّى جَامَعَ الطَّرِيقَ طَرِيقَ الْمَدِينَةِ بِسَرِفٍ. قَالَ مُخَرِّشٌ: فَلِذَلِكَ خَفِيَتْ عُمْرَتُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ

يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ كَذَلِكَ وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ ثَابِتَةٌ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ مَنْعُهُ وَلَا دَفْعُهُ، وَمَنْ نَفَاهَا لَا حُجَّةَ مَعَهُ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ أَثْبَتَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ هُمْ كَالْمُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ الطَّائِفِ وَقَسْمِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ.
وَمَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي " مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ " قَائِلًا: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْأَسَدِيُّ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الطَّائِفِ نَزَلَ الْجِعْرَانَةَ فَقَسَمَ بِهَا الْغَنَائِمَ، ثُمَّ اعْتَمَرَ مِنْهَا، وَذَلِكَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ شَوَّالٍ فَإِنَّهُ غَرِيبٌ جِدًّا، وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ ثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ يَعْلَى كَانَ يَقُولُ: لَيْتَنِي أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعْرَانَةِ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ، مَعَهُ فِيهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، إِذْ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ عَلَيْهِ جُبَّةٌ

مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ بَعْدَ مَا تَضَمَّخَ بِالطِّيبِ؟ فَأَشَارَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى يَعْلَى بِيَدِهِ أَنْ تَعَالَ، فَجَاءَ يَعْلَى فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ، فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ يَغِطُّ كَذَلِكَ سَاعَةً، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ: " أَيْنَ الَّذِي يَسْأَلُنِي عَنِ الْعُمْرَةِ آنِفًا؟ فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ فَأُتِيَ بِهِ، قَالَ: " أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَأَخْرَجَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عَطَاءٍ كِلَاهُمَا عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ أَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ وَدَخَلَ فِي الْعُمْرَةِ مِنْ كُدَى.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا مُوسَى أَبُو سَلَمَةَ ثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنَ الْجِعْرَانَةِ، فَرْمَلُوا بِالْبَيْتِ ثَلَاثًا وَمَشَوْا أَرْبَعًا، وَجَعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ

آبَاطِهِمْ، ثُمَّ قَذَفُوهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمُ الْيُسْرَى. تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ. وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ خُثَيْمٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُخْتَصَرًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي حَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَخْبَرَهُ قَالَ: قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِشْقَصٍ أَوْ قَالَ: رَأَيْتُهُ يُقَصِّرُ عَنْهُ بِمِشْقَصٍ عِنْدَ الْمَرْوَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ بِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَصَّرْتُ عَنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ..
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ أَنْ يَكُونَ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ وَذَلِكَ أَنَّ عُمْرَةَ

الْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى مَكَّةَ فِيهَا، بَلْ صُدَّ عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَمَّا عُمْرَةُ الْقَضَاءِ فَلَمْ يَكُنْ أَبُو سُفْيَانَ أَسْلَمَ، وَلَمْ يَبْقَ بِمَكَّةَ مِنْ أَهْلِهَا أَحَدٌ حِينَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ خَرَجُوا مِنْهَا، وَتَغَيَّبُوا عَنْهَا مُدَّةَ مُقَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا تِلْكَ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامِ، وَعُمْرَتُهُ الَّتِي كَانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْهَا بِالِاتِّفَاقِ. فَتَعَيَّنَ أَنَّ هَذَا التَّقْصِيرَ الَّذِي تَعَاطَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، مِنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ إِنَّمَا كَانَ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ كَمَا قُلْنَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ مُعْتَمِرًا، وَأَمَرَ بِبَقَايَا الْفَيْءِ فَحُبِسَ بِمَجَنَّةَ بِنَاحِيَةِ مَرِّ الظَّهْرَانِ.
قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا اسْتَبْقَى بَعْضَ الْمَغْنَمِ لِيَتَأَلَّفَ بِهِ مَنْ يَلْقَاهُ مِنَ الْأَعْرَابِ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُمْرَتِهِ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ وَخَلَّفَ مَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يُفَقِّهُ النَّاسَ فِي الدِّينِ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ.
وَذَكَرَ عُرْوَةُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّفَ مُعَاذًا مَعَ عَتَّابٍ بِمَكَّةَ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى هَوَازِنَ، ثُمَّ خَلَّفَهُمَا بِهَا حِينَ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَبَلَغَنِي عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا اسْتَعْمَلَ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ رَزَقَهُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا، فَقَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَجَاعَ اللَّهُ كَبِدَ مَنْ جَاعَ عَلَى دِرْهَمٍ، فَقَدْ رَزَقَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْهَمًا كُلَّ يَوْمٍ، فَلَيْسَتْ بِي حَاجَةٌ إِلَى أَحَدٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ عُمْرَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي بَقِيَّةِ ذِي الْقَعْدَةِ، أَوْ فِي أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ قَدِمَهَا لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ. فِيمَا قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدِينِيُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَجَّ النَّاسُ ذَلِكَ الْعَامَ عَلَى مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَحُجُّ عَلَيْهِ، وَحَجَّ بِالْمُسْلِمِينَ تِلْكَ السَّنَةَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ وَهِيَ سَنَةُ ثَمَانٍ. قَالَ: وَأَقَامَ أَهْلُ الطَّائِفِ عَلَى شِرْكِهِمْ وَامْتِنَاعِهِمْ فِي طَائِفِهِمْ مَا بَيْنَ ذِي الْقَعْدَةِ إِلَى رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ.

إِسْلَامُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَبُوهُ هُوَ صَاحِبُ إِحْدَى الْمُعَلَّقَاتِ السَّبْعِ، الشَّاعِرُ ابْنُ الشَّاعِرِ، وَذِكْرُ قَصِيدَتِهِ الَّتِي سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ: بَانَتْ سُعَادُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُنْصَرَفِهِ عَنِ الطَّائِفِ كَتَبَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى إِلَى أَخِيهِ لِأَبَوَيْهِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ يُخْبِرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ رِجَالًا بِمَكَّةَ مِمَّنْ كَانَ يَهْجُوهُ وَيُؤْذِيهِ، وَأَنَّ مَنْ بَقِيَ مِنْ شُعَرَاءِ قُرَيْشٍ; ابْنُ الزِّبَعْرَى وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ هَرَبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ فِي نَفْسِكَ حَاجَةٌ، فَطِرْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَا يَقْتُلُ أُحُدًا جَاءَهُ تَائِبًا، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَانْجُ إِلَى نَجَائِكَ مِنَ الْأَرْضِ. وَكَانَ كَعْبٌ قَدْ قَالَ:
أَلَا أَبْلِغَا عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً فَوَيْحَكَ مِمَّا قُلْتَ وَيْحَكَ هَلْ لَكَا فَبَيِّنْ لَنَا إِنْ كُنْتَ لَسْتَ بِفَاعِلٍ
عَلَى أَيِّ شَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ دَلَّكَا

عَلَى خُلُقٍ لَمْ أُلْفِ يَوْمًا أَبًا لَهُ
عَلَيْهِ وَمَا تُلْفِي عَلَيْهِ أَبًا لَكَا فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْتُ بِآسِفٍ
وَلَا قَائِلٍ إِمَّا عَثَرْتَ لَعًا لَكَا سَقَاكَ بِهَا الْمَأْمُونُ كَأْسًا رَوِيَّةً
فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ:
مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً فَهَلْ لَكَ فِيمَا قُلْتَ بِالْخَيْفِ هَلْ لَكَا
شَرِبْتَ مَعَ الْمَأْمُونِ كَأْسًا رَوِيَّةً فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا
وَخَالَفْتَ أَسْبَابَ الْهُدَى وَاتَّبَعْتَهُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ وَيْبَ غَيْرِكَ دَلَّكَا
عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمَّا وَلَا أَبًا عَلَيْهِ وَلَمْ تُدْرِكْ عَلَيْهِ أَخًا لَكَا
فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْتُ بِآسِفٍ وَلَا قَائِلٍ إِمَّا عَثَرْتَ لَعًا لَكَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعَثَ بِهَا إِلَى بُجَيْرٍ فَلَمَّا أَتَتْ بُجَيْرًا كَرِهَ أَنْ يَكْتُمَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْشَدَهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَمِعَ: سَقَاكَ بِهَا الْمَأْمُونُ " صَدَقَ وَإِنَّهُ لَكَذُوبٌ، أَنَا الْمَأْمُونُ ". وَلَمَّا سَمِعَ: عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمًّا وَلَا أَبًا عَلَيْهِ. قَالَ: " أَجَلْ لَمْ يُلْفِ عَلَيْهِ أَبَاهُ وَلَا أُمَّهُ ". قَالَ: ثُمَّ كَتَبَ

بُجَيْرٌ إِلَى كَعْبٍ يَقُولُ لَهُ:
مَنْ مُبْلِغٌ كَعْبًا فَهَلْ لَكَ فِي الَّتِي تَلُومُ عَلَيْهَا بَاطْلًا وَهِيَ أَحْزَمُ
إِلَى اللَّهِ لَا الْعُزَّى وَلَا اللَّاتِ وَحْدَهُ فَتَنْجُو إِذَا كَانَ النَّجَاءُ وَتَسْلَمُ
لَدَى يَوْمٍ لَا يَنْجُو وَلَيْسَ بِمُفْلِتٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا طَاهِرُ الْقَلْبِ مُسْلِمُ
فَدِينُ زُهَيْرٍ وَهُوَ لَا شَيْءَ دِينُهُ وَدِينُ أَبِي سُلْمَى عَلَيَّ مُحَرَّمُ
قَالَ: فَلَمَّا بَلَغَ كَعْبًا الْكُتَّابُ ضَاقَتْ بِهِ الْأَرْضُ، وَأَشْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَرْجَفَ بِهِ مَنْ كَانَ فِي حَاضِرِهِ مِنْ عَدُوِّهُ، وَقَالُوا: هُوَ مَقْتُولٌ. فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ مِنْ شَيْءٍ بُدًّا قَالَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي يَمْدَحُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ فِيهَا خَوْفَهُ وَإِرْجَافَ الْوُشَاةِ بِهِ مِنْ عَدُوِّهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ عَلَى رَجُلٍ - كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ - مِنْ جُهَيْنَةَ، كَمَا ذُكِرَ لِي، فَغَدَا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَصَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَشَارَ لَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ، فَقُمْ إِلَيْهِ فَاسْتَأْمِنْهُ. فَذُكِرَ لِي أَنَّهُ قَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، وَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْرِفُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ قَدْ جَاءَ لِيَسْتَأْمِنَ مِنْكَ تَائِبًا مُسْلِمًا، فَهَلْ أَنْتَ قَابِلٌ مِنْهُ إِنْ جِئْتُكَ بِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَعَمْ ". فَقَالَ: إِذًا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ أَنَّهُ وَثَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ

الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي وَعَدُوَّ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دَعْهُ عَنْكَ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ تَائِبًا نَازِعًا " قَالَ: فَغَضِبَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ عَلَى هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ لِمَا صَنَعَ بِهِ صَاحِبُهُمْ; وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَقَالَ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي قَالَ حِينَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إِذْ بَرَزَتْ إِلَّا أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ
تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إِذَا ابْتَسَمَتْ كَأَنَّهُ مُنْهَلٌ بِالرَّاحِ مَعْلُولُ

شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهْوَ مَشْمُولُ
تَنْفِي الرِّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطَهُ مِنْ صَوْبِ غَادِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ
فَيَا لَهَا خُلَّةٌ لَوْ أَنَّهَا صَدَقَتْ بِوَعْدِهَا أَوْ لَوَ انَّ النُّصْحَ مَقْبُولُ
لَكِنَّهَا خُلَّةٌ قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا فَجْعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْلَافٌ وَتَبْدِيلُ
فَمَا تَدُومُ عَلَى حَالٍ تَكُونُ بِهَا كَمَا تَلَوَّنُ فِي أَثْوَابِهَا الْغُولُ
وَمَا تُمَسِّكُ بِالْعَهْدِ الَّذِي زَعَمَتْ إِلَّا كَمَا يُمْسِكُ الْمَاءَ الْغَرَابِيلُ
فَلَا يَغُرَّنْكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَدَتْ إِنَّ الْأَمَانِيَّ وَالْأَحْلَامَ تَضْلِيلُ
كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلًا وَمَا مَوَاعِيدُهَا إِلَّا الْأَبَاطِيلُ

أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ يَعْجَلْنَ فِي أَبَدٍ وَمَا لَهُنَّ إِخَالُ الدَّهْرَ تَعْجِيلُ
أَمْسَتْ سُعَادُ بِأَرْضٍ لَا يُبَلِّغُهَا إِلَّا الْعِتَاقُ النَّجِيبَاتُ الْمَرَاسِيلُ
وَلَنْ يُبَلِّغَهَا إِلَّا عُذَافِرَةٌ فِيهَا عَلَى الْأَيْنِ إِرْقَالٌ وَتَبْغِيلُ
مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ عُرْضَتُهَا طَامِسُ الْأَعْلَامِ مَجْهُولُ
تَرْمِي النِّجَادَ بِعَيْنَيْ مُفْرَدٍ لَهِقٍ إِذَا تَوَقَّدَتِ الْحِزَّانُ وَالْمِيلُ
ضَخْمٌ مُقَلَّدُهَا فَعْمٌ مُقَيَّدُهَا فِي خَلْقِهَا عَنْ بَنَاتِ الْفَحْلِ تَفْضِيلُ
حَرْفٌ أَخُوهَا أَبُوهَا مِنْ مُهَجَّنَةٍ وَعَمُّهَا خَالُهَا قَوْدَاءُ شِمْلِيلُ

يَمْشِي الْقُرَادُ عَلَيْهَا ثُمَّ يُزْلِقُهُ مِنْهَا لَبَانٌ وَأَقْرَابٌ زَهَالِيلُ
عَيْرَانَةٌ قُذِفَتْ بِالنَّحْضِ عَنْ عُرُضٍ مِرْفَقُهَا عَنْ بَنَاتِ الزَّوْرِ مَفْتُولُ
قَنْوَاءُ فِي حُرَّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا عِتْقٌ مُبِينٌ وَفِي الْخَدَّيْنِ تَسْهِيلُ
كَأَنَّ مَا فَاتَ عَيْنَيْهَا وَمَذْبَحَهَا مِنْ خَطْمِهَا وَمِنَ اللَّحْيَيْنِ بِرْطِيلُ
تُمِرُّ مِثْلَ عَسِيبِ النَّخْلِ ذَا خُصَلٍ فِي غَارِزٍ لَمْ تَخَوَّنْهُ الْأَحَالِيلُ
تَهْوِي عَلَى يَسَرَاتٍ وَهْيَ لَاهِيَةٌ ذَوَابِلٍ وَقْعُهُنَّ الْأَرْضَ تَحْلِيلُ
سُمْرِ الْعُجَايَاتِ يَتْرُكْنَ الْحَصَى زِيَمًا لَمْ يَقِهِنَّ رُءُوسَ الْأُكْمِ تَنْعِيلُ

يَوْمًا يَظَلُّ بِهِ الْحِرْبَاءُ مُرْتَبِئًا كَأَنَّ ضَاحِيَهُ بِالشَّمْسِ مَمْلُولُ
وَقَالَ لِلْقَوْمِ حَادِيهُمْ وَقَدْ جَعَلَتْ وُرْقُ الْجَنَادَبِ يَرْكُضْنَ الْحَصَا قِيلُوا
كَأَنَّ أَوْبَ ذِرَاعَيْهَا وَقَدْ عَرِقَتْ وَقَدْ تَلَفَّعَ بِالْقُورِ الْعَسَاقِيلُ
أَوْبُ يَدَيْ فَاقِدٍ شَمْطَاءَ مُعْوِلَةٍ قَامَتْ فَجَاوَبَهَا نُكْدٌ مَثَاكِيلُ

نَوَّاحَةٌ رِخْوَةُ الضَّبْعَيْنِ لَيْسَ لَهَا لَمَّا نَعَى بِكْرَهَا النَّاعُونَ مَعْقُولُ
تَفْرِي اللَّبَانَ بِكَفَّيْهَا وَمِدْرَعُهَا مُشَقَّقٌ عَنْ تَرَاقِيهَا رَعَابِيلُ
تَسْعَى الْغُوَاةُ جَنَابَيْهَا وَقَوْلُهُمُ إِنَّكَ يَابْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ
وَقَالَ كُلُّ صَدِيقٍ كُنْتُ آمُلُهُ لَا أُلْهِيَنَّكَ إِنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ
فَقُلْتُ خَلُّوا سَبِيلِي لَا أَبًا لَكُمُ فَكُلُّ مَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ مَفْعُولُ
كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُ يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي. وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ
مَهْلًا هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الْقُرْآنِ فِيهِ مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ
لَا تَأْخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ أُذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيَّ الْأَقَاوِيلُ
لَقَدْ أَقُومُ مَقَامًا لَوْ يَقُومُ بِهِ أَرَى وَأَسْمَعُ مَا قَدْ يَسْمَعُ الْفِيلُ

لَظَلَّ تُرْعَدُ مِنْ وَجْدٍ بَوَادِرُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ تَنْوِيلُ
حَتَّى وَضَعْتُ يَمِينِي مَا أُنَازِعُهُ فِي كَفِّ ذِي نَقَمَاتٍ قَوْلُهُ الْقِيلُ
فَلَهْوَ أَخْوَفُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ وَقِيلَ إِنَّكَ مَنْسُوبٌ وَمَسْئُولُ
مِنْ ضَيْغَمٍ بِضَرَاءِ الْأَرْضِ مَخْدَرُهُ فِي بَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
يَغْدُو فَيُلْحِمُ ضِرْغَامَيْنِ عَيْشُهُمَا لَحْمٌ مِنَ النَّاسِ مَعْفُورٌ خَرَادِيلُ
إِذَا يُسَاوِرُ قِرْنًا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْقِرْنَ إِلَّا وَهْوَ مَفْلُولُ
مِنْهُ تَظَلُّ حَمِيرُ الْوَحْشِ نَافِرَةً وَلَا تَمْشِي بِوَادِيهِ الْأَرَاجِيلُ

وَلَا يَزَالُ بِوَادِيهِ أَخُو ثِقَةٍ مُضَرَّجُ الْبَزِّ وَالدِّرْسَانِ مَأَكُولُ
إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ مَسْلُولُ
فِي عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا
زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلَا كُشُفٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَا مِيلٌ مَعَازِيلُ
يَمْشُونَ مَشْيَ الْجِمَالِ الزُّهْرِ يَعْصِمُهُمْ ضَرْبٌ إِذَا عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ
شُمُّ الْعَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمُ مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ
بِيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكَّتْ لَهَا حَلَقٌ كَأَنَّهَا حَلَقُ الْقَفْعَاءِ مَجْدُولُ
لَيْسُوا مَفَارِيحَ إِنْ نَالَتْ رِمَاحُهُمُ قَوْمًا وَلَيْسُوا مَجَازِيعًا إِذَا نِيلُوا

لَا يَقَعُ الطَّعْنُ إِلَّا فِي نُحُورِهِمُ وَمَا لَهُمْ عَنْ حِيَاضِ الْمَوْتِ تَهْلِيلُ
هَكَذَا أَوْرَدَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا إِسْنَادًا.
وَقَدْ رَوَاهَا الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ، فَقَالَ: أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْأَسَدِيُّ بِهَمْدَانَ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيٌّ ثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ ذِي الرُّقَيْبَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ:خَرَجَ كَعْبٌ وَبُجَيْرٌ ابْنَا زُهَيْرٍ حَتَّى أَتَيَا أَبْرَقَ الْعَزَّافِ، فَقَالَ بُجَيْرٌ لِكَعْبٍ: اثْبُتْ فِي هَذَا الْمَكَانِ حَتَّى آتِيَ هَذَا الرَّجُلَ - يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْمَعُ مَا يَقُولُ. فَثَبَتَ كَعْبٌ وَخَرَجَ بُجَيْرٌ فَجَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ كَعْبًا فَقَالَ:
أَلَّا أَبْلِغَا عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً عَلَى أَيِّ شَيْءٍ وَيْبَ غَيْرِكَ دَلَّكَا
عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمًّا وَلَا أَبًا عَلَيْهِ وَلَمْ تُدْرِكْ عَلَيْهِ أَخًا لَكَا

سَقَاكَ أَبُو بَكْرٍ بِكَأْسِ رَوِيَّةٍ وَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا
فَلَمَّا بَلَغَتِ الْأَبْيَاتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَرَ دَمَهُ، وَقَالَ: " مَنْ لَقِيَ كَعْبًا فَلْيَقْتُلْهُ ". فَكَتَبَ بِذَلِكَ بُجَيْرًا إِلَى أَخِيهِ، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَهْدَرَ دَمَهُ، وَيَقُولُ لَهُ: النَّجَاءَ وَمَا أَرَاكَ تَنْفَلِتُ. ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ: اعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْتِيهِ أَحَدٌ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ وَأَسْقَطَ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا، فَأَسْلِمْ وَأَقْبِلْ. قَالَ: فَأَسْلَمَ كَعْبٌ وَقَالَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي يَمْدَحُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ بِبَابِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ كَالْمَائِدَةِ بَيْنَ الْقَوْمِ، مُتَحَلِّقُونَ مَعَهُ حَلْقَةً خَلْفَ حَلْقَةٍ، يَلْتَفِتُ إِلَى هَؤُلَاءِ مَرَّةً فَيُحَدِّثُهُمْ، وَإِلَى هَؤُلَاءِ مَرَّةً فَيُحَدِّثُهُمْ. قَالَ كَعْبٌ: فَأَنَخْتُ رَاحِلَتِي بِبَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَعَرَفْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصِّفَةِ، فَتَخَطَّيْتُ حَتَّى جَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَأَسْلَمْتُ وَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، الْأَمَانَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " وَمَنْ أَنْتَ؟ " قُلْتُ: كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَالَ: " الَّذِي يَقُولُ ". ثُمَّ الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: " كَيْفَ قَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ " فَأَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرٍ:.
سَقَاكَ أَبُو بَكْرٍ بِكَأْسٍ رَوِيَّةٍ وَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُورُ مِنْهَا وَعَلَّكَا

قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا قُلْتُ هَكَذَا. قَالَ: " فَكَيْفَ قُلْتَ؟ " قَالَ: قُلْتُ:
سَقَاكَ أَبُو بَكْرٍ بِكَأْسٍ رَوِيَّةٍ وَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَأْمُونٌ وَاللَّهِ ". ثُمَّ أَنْشَدَهُ الْقَصِيدَةَ كُلَّهَا حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا، وَهِيَ هَذِهِ الْقَصِيدَةُ:
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ مُتَيَّمٌ عِنْدَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الرَّمْزِ لِمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِنْشَادُ ابْنِ إِسْحَاقَ وَالْبَيْهَقِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ " الِاسْتِيعَابِ " أَنَّ كَعْبًا لَمَّا انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ:
إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ مَسْلُولُ
نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ
قَالَ: فَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَنْ مَعَهُ أَنِ اسْمَعُوا. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ قَبْلَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي " مَغَازِيهِ "، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قُلْتُ: وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ بُرْدَتَهُ حِينَ أَنْشَدَهُ

الْقَصِيدَةَ. وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ الصَّرْصَرِيُّ فِي بَعْضِ مَدَائِحِهِ. وَهَكَذَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْأَثِيرِ فِي " الْغَابَةِ " قَالَ: وَهِيَ الْبُرْدَةُ الَّتِي عِنْدَ الْخُلَفَاءِ.
قُلْتُ: وَهَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْمَشْهُورَةِ جِدًّا، وَلَكِنْ لَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ بِإِسْنَادٍ أَرْتَضِيهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ لَمَّا قَالَ: بَانَتْ سُعَادُ: " وَمَنْ سُعَادُ؟ " قَالَ: زَوْجَتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " لَمْ تَبِنْ ". وَلَكِنْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ تَوَهَّمَ أَنَّ بِإِسْلَامِهِ تَبِينُ امْرَأَتُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ الْبَيْنُونَةَ الْحِسِّيَّةَ لَا الْحُكْمِيَّةَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: فَلَمَّا قَالَ كَعْبٌ - يَعْنِي فِي قَصِيدَتِهِ -: إِذَا عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ. وَإِنَّمَا يُرِيدُنَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ; لِمَا كَانَ صَاحِبُنَا صَنَعَ بِهِ، وَخَصَّ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ بِمِدْحَتِهِ; غَضِبَتْ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ يَمْدَحُ الْأَنْصَارَ، وَيَذْكُرُ بَلَاءَهُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْضِعَهُمْ مِنَ الْيُمْنِ:

مَنْ سَرَّهُ كَرَمُ الْحَيَاةِ فَلَا يَزَلْ فِي مِقْنَبٍ مِنْ صَالِحِي الْأَنْصَارِ
وَرِثُوا الْمَكَارِمَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ إِنَّ الْخِيَارَ هُمُ بَنُو الْأَخْيَارِ
الْمُكْرِهِينَ السَّمْهَرِيَّ بِأَذْرُعٍ كَسَوَالِفِ الِهِنْدِيِّ غَيْرِ قِصَارِ
وَالنَّاظِرِينَ بِأَعْيُنٍ مُحْمَرَّةٍ كَالْجَمْرِ غَيْرِ كَلِيلَةِ الْإِبْصَارِ
وَالْبَائِعِينَ نُفُوسَهُمْ لِنَبِيِّهِمْ لِلْمَوْتِ يَوْمَ تَعَانُقٍ وَكِرَارِ
وَالْقَائِدِينَ النَّاسَ عَنْ أَدْيَانِهِمْ بِالْمَشْرَفِيِّ وَبِالْقَنَا الْخَطَّارِ
يَتَطَهَّرُونَ يَرَوْنَهُ نُسُكًا لَهُمْ بِدِمَاءِ مَنْ عَلِقُوا مِنَ الْكُفَّارِ
دَرِبُوا كَمَا دَرِبَتْ بِبَطْنِ خَفِيَّةٍ غُلْبُ الرِّقَابِ مِنَ الْأُسُودِ ضَوَارِي
وَإِذَا حَلَلْتَ لِيَمْنَعُوكَ إِلَيْهِمُ أَصْبَحْتَ عِنْدَ مَعَاقِلِ الْأَغْفَارِ

ضَرَبُوا عَلِيًّا يَوْمَ بَدْرٍ ضَرْبَةً دَانَتْ لِوَقْعَتِهَا جَمِيعُ نِزَارِ
لَوْ يَعْلَمُ الْأَقْوَامُ عِلْمِيَ كُلَّهُ فِيهِمْ لَصَدَّقَنِي الَّذِينَ أُمَارِي
قَوْمٌ إِذَا خَوَتِ النُّجُومُ فَإِنَّهُمْ لِلطَّارِقِينَ النَّازِلِينَ مَقَارِي
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَيُقَالُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ حِينَ أَنْشَدَهُ بَانَتْ سُعَادُ: لَوْلَا ذَكَرْتَ الْأَنْصَارَ بِخَيْرٍ، فَإِنَّهُمْ لِذَلِكَ أَهْلٌ فَقَالَ كَعْبٌ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَهِيَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ: وَبَلَغَنِي عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ أَنَّ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ أَنْشَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ: بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَقَدِّمِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيِّ حَدَّثَنِي مَعْنُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَوْقَصُ عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ فَذَكَرَهُ، وَهُوَ مُرْسَلٌ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي كِتَابِ " الِاسْتِيعَابِ فِي

مَعْرِفَةِ الْأَصْحَابِ " بَعْدَ مَا أَوْرَدَ طَرَفًا مِنْ تَرْجَمَةِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَدْ كَانَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ شَاعِرًا مُجَوِّدًا كَثِيرَ الشِّعْرِ مُقَدَّمًا فِي طَبَقَتِهِ هُوَ وَأَخُوهُ بُجَيْرٌ وَكَعْبٌ أَشْعَرُهُمَا، وَأَبُوهُمَا زُهَيْرٌ فَوْقَهُمَا، وَمِمَّا يُسْتَجَادُ مِنْ شِعْرِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ قَوْلُهُ:
لَوْ كُنْتُ أَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ لَأَعْجَبَنِي سَعْيُ الْفَتَى وَهْوَ مَخْبُوءٌ لَهُ الْقَدَرُ
يَسْعَى الْفَتَى لِأُمُورٍ لَيْسَ يُدْرِكُهَا فَالنَّفْسُ وَاحِدَةٌ وَالْهَمُّ مُنْتَشِرُ
وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أَمَلٌ لَا تَنْتَهِي الْعَيْنُ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَثَرُ
ثُمَّ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَشْعَارًا كَثِيرَةً يَطُولُ ذِكْرُهَا وَلَمْ يُؤَرِّخْ وَفَاتَهُ، وَكَذَا لَمْ يُؤَرِّخْهَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِ " الْغَابَةِ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ " وَلَكِنْ حَكَى أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّيَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ بِسَنَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَمِمَّا أَجَادَ فِيهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَوْلُهُ يَمْدَحُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
تَجْرِي بِهِ النَّاقَةُ الْأَدْمَاءُ مُعْتَجِرًا بِالْبُرْدِ كَالْبَدْرِ جَلَّى لَيْلَةَ الظُّلَمِ
فَفِي عِطَافَيْهِ أَوْ أَثَنَاءِ بُرْدَتِهِ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ دِينٍ وَمِنْ كَرَمِ


فَصْلٌ فِيمَا كَانَ مِنَ الْحَوَادِثِ الْمَشْهُورَةِ، فِي سَنَةِ ثَمَانٍ، وَالْوَفَيَاتِ.
فَكَانَ فِي جُمَادَى مِنْهَا وَقْعَةُ مُؤْتَةَ وَفِي رَمَضَانَ غَزْوَةُ فَتْحِ مَكَّةَ وَبَعْدَهَا فِي شَوَّالٍ غَزْوَةُ هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ، وَبَعْدَهَا كَانَ حِصَارُ الطَّائِفِ ثُمَّ كَانَتْ عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِلَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فِي سُفْرَتِهِ هَذِهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى جَيْفَرٍ وَعَمْرٍو ابْنَيِ الْجُلَنْدِيِّ مِنَ الْأَزْدِ، وَأُخِذَتِ الْجِزْيَةُ مِنْ مَجُوسِ بَلَدِهِمَا وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ. قَالَ: وَفِيهَا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَفَاطِمَةَ بِنْتَ الضِّحَاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلَابِيِّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَاسْتَعَاذَتْ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَارَقَهَا، وَقِيلَ: بَلْ خَيَّرَهَا فَاخْتَارَتِ الدُّنْيَا فَفَارَقَهَا. قَالَ: وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ، فَاشْتَدَّتْ غَيْرَةُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا حِينَ رُزِقَتْ وَلَدًا ذَكَرًا، وَكَانَتْ قَابِلَتُهَا فِيهِ سُلْمَى مُوَلَّاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَتْ إِلَى أَبِي رَافِعٍ فَأَخْبَرَتْهُ فَذَهَبَ فَبَشَّرَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ مَمْلُوكًا، وَدَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّ بُرْدَةَ بِنْتِ

الْمُنْذِرِ بْنِ زَيْدِ بْنِ خِدَاشِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَزَوْجُهَا الْبَرَاءُ بْنُ أَوْسِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْجَعْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولٍ. وَكَانَتْ فِيهَا وَفَاةُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الشُّهَدَاءِ فِي هَذِهِ الْوَقَائِعِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا هَدْمَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَتِ الْعُزَّى تُعْبَدُ فِيهِ بِنَخْلَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْهَا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا كَانَ هَدْمُ سُوَاعٍ الَّذِي كَانَتْ تَعْبُدُهُ هُذَيْلٌ بِرُهَاطٍ، هَدَمَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَجِدْ فِي خِزَانَتِهِ شَيْئًا. وَفِيهَا هُدِمَ مَنَاةُ بِالْمُشَلَّلِ، وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ أَوَسُهَا وَخَزْرَجُهَا يُعَظِّمُونَهُ، هَدَمَهُ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ هَذَا فَصْلًا مُفِيدًا مَبْسُوطًا فِي تَفْسِيرِ " سُورَةِ النَّجْمِ " عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [ النَّجْمِ: 19، 20 ].
قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ قِصَّةَ تَخْرِيبِ خَثْعَمٍ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَتْ تَعْبُدُهُ وَيُسَمُّونَهُ الْكَعْبَةَ الْيَمَانِيَّةَ مُضَاهِيَةً لِلْكَعْبَةِ الَّتِي بِمَكَّةَ، وَيُسَمُّونَ الَّتِي بِمَكَّةَ الْكَعْبَةَ الشَّامِيَّةَ، وَلِتِلْكَ الْكَعْبَةَ الْيَمَانِيَّةَ.

فَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ؟ " فَقُلْتُ: بَلَى. فَانْطَلَقْتُ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ، وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ، وَكُنْتُ لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَضَرَبَ يَدَهُ فِي صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ يَدِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا ". قَالَ: فَمَا وَقَعْتُ عَنْ فَرَسٍ بَعْدُ. قَالَ: وَكَانَ ذُو الْخَلَصَةِ بَيْتًا بِالْيَمَنِ لَخَثْعَمٍ وَبَجِيلَةَ، فِيهِ نُصُبٌ تُعْبَدُ - يُقَالُ لَهُ: الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَّةُ. قَالَ: فَأَتَاهَا فَحَرَّقَهَا فِي النَّارِ وَكَسَرَهَا. قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ جَرِيرٌ الْيَمَنَ كَانَ بِهَا رَجُلٌ يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاهُنَا، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْكَ ضَرَبَ عُنُقَكَ. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ يَضْرِبُ بِهَا إِذْ وَقَفَ عَلَيْهِ جَرِيرٌ فَقَالَ: لَتَكْسَرَنَّهَا وَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَوْ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ. فَكَسَرَهَا وَشَهِدَ. ثُمَّ بَعَثَ جَرِيرٌ رَجُلًا مِنْ أَحْمَسَ يُكَنَّى أَبَا أَرْطَأَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُهُ بِذَلِكَ، قَالَ: فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ. قَالَ: فَبَرَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ بِنَحْوِهِ.

سَنَةُ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
ذِكْرُ غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( التَّوْبَةِ: 28، 29 ) رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُمْنَعَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرْبَانِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ قَالَتْ قُرَيْشٌ: لَيَنْقَطِعَنَّ عَنَّا الْمَتَاجِرُ وَالْأَسْوَاقُ أَيَّامَ الْحَجِّ، وَلَيَذْهَبَنَّ مَا كُنَّا نُصِيبُ مِنْهَا. فَعَوَّضَهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.
قُلْتُ: فَعَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِتَالِ الرُّومِ; لَأَنَّهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ وَأَوْلَى النَّاسِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ; لِقُرْبِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ( التَّوْبَةِ: 123 ) فَلَمَّا عَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَزْوِ الرُّومِ عَامَ تَبُوكَ وَكَانَ ذَلِكَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَضِيقٍ مِنَ الْحَالِ، جَلَّى لِلنَّاسِ أَمْرَهَا وَدَعَا مَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَحْيَاءِ الْأَعْرَابِ لِلْخُرُوجِ مَعَهُ، فَأَوْعَبَ مَعَهُ بَشَرٌ كَثِيرٌ، كَمَا سَيَأْتِي، قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَتَخَلَّفَ آخَرُونَ، فَعَاتَبَ اللَّهُ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ لِغَيْرِ عُذْرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ، وَلَامَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ وَقَرَّعَهُمْ أَشَدَّ التَّقْرِيعِ، وَفَضَحَهُمْ أَشَدَّ الْفَضِيحَةِ، وَأَنْزَلَ فِيهِمْ قُرْآنًا يُتْلَى وَبَيَّنَ أَمْرَهُمْ فِي سُورَةِ " بَرَاءَةَ " كَمَا قَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي " التَّفْسِيرِ " وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّفْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. فَقَالَ تَعَالَى: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ثُمَّ الْآيَاتِ بَعْدَهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ فَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ نَاسِخَةٌ لِتِلْكَ. وَقِيلَ: لَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى

رَجَبٍ - يَعْنِي مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ - ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الرُّومِ. فَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، كَلٌّ يُحَدِّثُ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَا بَلَغَهُ عَنْهَا، وَبَعْضُ الْقَوْمِ يُحَدِّثُ مَا لَمْ يُحَدِّثْ بَعْضٌ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الرُّومِ، وَذَلِكَ فِي زَمَانِ عُسْرَةٍ مِنَ النَّاسِ وَشِدَّةٍ مِنَ الْحَرِّ وَجَدْبٍ مِنَ الْبِلَادِ، وَحِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ، فَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الْمُقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلَالِهِمْ، وَيَكْرَهُونَ الشُّخُوصَ فِي الْحَالِ مِنَ الزَّمَانِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّ مَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إِلَّا كَنَّى عَنْهَا إِلَّا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَإِنَّهُ بَيَّنَهَا لِلنَّاسِ، لِبُعْدِ الْمَشَقَّةِ وَشِدَّةِ الزَّمَانِ وَكَثْرَةِ الْعَدُوِّ الَّذِي يُصْمَدُ إِلَيْهِ لِيَتَأَهَّبَ النَّاسُ لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ، فَأَمَرَهُمْ بِالْجِهَادِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ الرُّومَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جِهَازِهِ ذَلِكَ لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ أَحَدِ بَنِي سَلِمَةَ: " يَا جَدُّ هَلْ لَكَ الْعَامَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ ؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَتَأْذَنُ لِي وَلَا تَفْتِنِّي، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنَّهُ مَا رَجُلٌ بِأَشَدَّ عَجَبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ لَا أَصْبِرَ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " قَدْ أَذِنْتُ لَكَ ". فَفِي الْجَدِّ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ( التَّوْبَةِ: 49 ) وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ. زَهَادَةً فِي الْجِهَادِ وَشَكًّا فِي الْحَقِّ وَإِرْجَافًا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ " وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ

أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ " ( التَّوْبَةِ: 81، 82 ).
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي الثِّقَةُ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَارِثَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَجْتَمِعُونَ فِي بَيْتِ سُوَيْلِمٍ الْيَهُودِيِّ - وَكَانَ بَيْتُهُ عِنْدَ جَاسُومَ - يُثَبِّطُونَ النَّاسَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بَيْتَ سُوَيْلِمٍ فَفَعَلَ طَلْحَةُ فَاقْتَحَمَ الضَّحَّاكُ بْنُ خَلِيفَةَ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ، فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهُ، وَاقْتَحَمَ أَصْحَابُهُ فَأَفْلَتُوا، فَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي ذَلِكَ:
كَادَتْ وَبَيْتِ اللَّهِ نَارُ مُحَمَّدٍ يَشِيطُ بِهَا الضَّحَّاكُ وَابْنُ أُبَيْرِقِ وَظَلْتُ وَقَدْ طَبَّقْتُ كَبْسَ سُوَيْلِمٍ
أَنُوءُ عَلَى رِجْلِي كَسِيرًا وَمِرْفَقِي سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا أَعُودُ لِمِثْلِهَا
أَخَافُ وَمَنْ تَشْمَلْ بِهِ النَّارُ يُحْرَقِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَدَّ فِي سَفَرِهِ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْجِهَازِ وَالِانْكِمَاشِ، وَحَضَّ أَهْلَ الْغِنَى عَلَى النَّفَقَةِ وَالْحُمْلَانِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَحَمَلَ رِجَالٌ

مِنْ أَهْلِ الْغِنَى وَاحْتَسَبُوا، وَأَنْفَقَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ نَفَقَةً عَظِيمَةً لَمْ يُنْفِقْ أَحَدٌ مِثْلَهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فَحَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ عُثْمَانَ أَنْفَقَ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ ارْضَ عَنْ عُثْمَانَ فَإِنِّي عَنْهُ رَاضٍ "..
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ ثنا ضَمْرَةُ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَوْذَبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ كَثِيرٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: جَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفِ دِينَارٍ فِي ثَوْبِهِ حِينَ جَهَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ. قَالَ: فَصَبَّهَا فِي حِجْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَلِّبُهَا بِيَدِهِ، وَيَقُولُ: " مَا ضَرَّ ابْنُ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ " وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ وَاقِعٍ عَنْ ضَمْرَةَ بِهِ. وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي " مُسْنَدِ " أَبِيهِ: حَدَّثَنِي أَبُو مُوسَى الْعَنَزِيُّ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ حَدَّثَنِي سَكَنُ بْنُ الْمُغِيرَةِ حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي هِشَامٍ عَنْ فَرْقَدٍ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَبَّابٍ السُّلَمِيِّ قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَثَّ عَلَى جَيْشِ الْعُسْرَةِ، فَقَالَ عُثْمَانُ

بْنُ عَفَّانَ: عَلَيَّ مِائَةُ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا. قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ مِرْقَاةً مِنَ الْمِنْبَرِ ثُمَّ حَثَّ، فَقَالَ عُثْمَانُ: عَلَيَّ مِائَةٌ أُخْرَى بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا. قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بِيَدِهِ هَكَذَا يُحَرِّكُهَا، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الصَّمَدِ يَدَهُ، كَالْمُتَعَجِّبِ: " مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذَا " وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ سَكَنِ بْنِ الْمُغِيرَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلًى لِآلِ عُثْمَانَ بِهِ. وَقَالَ: غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ عَنْ سَكَنِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِهِ. وَقَالَ: ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَإِنَّهُ الْتَزَمَ بِثَلَاثِمِائَةِ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ:فَأَنَا شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: " مَا ضَرَّ عُثْمَانُ بَعْدَهَا " أَوْ قَالَ: " بَعْدَ الْيَوْمِ ".
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ جَاوَانَ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَلِيٍّ وَالزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ " فَجَهَّزْتُهُمْ حَتَّى مَا يَفْقِدُونَ

خِطَامًا وَلَا عِقَالًا قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُصَيْنٍ بِهِ.

فَصْلٌ فِي مَنْ تَخَلَّفَ مَعْذُورًا مِنَ الْبَكَّائِينَ وَغَيْرِهِمْ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( التَّوْبَةِ: 86 - 93 ) قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى تَفْسِيرِ هَذَا كُلِّهِ فِي " التَّفْسِيرِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ الْبَكَّائِينَ الَّذِينَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَحْمِلَهُمْ، حَتَّى يَصْحَبُوهُ فِي غَزْوَتِهِ هَذِهِ، فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهُ مِنِ الظَّهْرِ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، فَرَجَعُوا وَهُمْ يَبْكُونَ ; تَأَسُّفًا عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالنَّفَقَةِ فِيهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ ; فَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ وَعُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ، وَأَبُو لَيْلَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ أَخُو بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، وَعَمْرُو بْنُ الْحُمَامِ بْنِ الْجَمُوحِ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ الْمُزَنِيُّ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُونَ: بَلْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِيُّ. وَهَرَمِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخُو بَنِي وَاقِفٍ، وَعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ الْفَزَارِيُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ يَامِينَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ كَعْبٍ النَّضَرِيَّ لَقِيَ أَبَا لَيْلَى وَعَبْدَ اللَّهَ بْنَ مُغَفَّلٍ وَهُمَا يَبْكِيَانِ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكُمَا ؟ قَالَا: جِئْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَحْمِلَنَا، فَلَمْ نَجِدْ عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ. فَأَعْطَاهُمَا نَاضِحًا لَهُ فَارْتَحَلَاهُ، وَزَوَّدَهُمَا شَيْئًا مِنْ تَمْرٍ، فَخَرَجَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. زَادَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَمَّا عُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ فَخَرَجَ مِنَ اللَّيْلِ، فَصَلَّى مِنْ لَيْلَتِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ بَكَى وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَمَرْتَ بِالْجِهَادِ وَرَغَّبْتَ فِيهِ، ثُمَّ لَمْ تَجْعَلْ عِنْدِي مَا أَتَقَوَّى بِهِ، وَلَمْ تَجْعَلْ فِي يَدِ رَسُولِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَحْمِلُنِي عَلَيْهِ، وَإِنِّي أَتَصَدَّقُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بِكُلِّ مَظْلَمَةٍ أَصَابَنِي فِيهَا ; فِي مَالٍ أَوْ جَسَدٍ أَوْ عِرْضٍ. ثُمَّ أَصْبَحَ مَعَ النَّاسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ

الْمُتَصَدِّقُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ؟ " فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ ثُمَّ قَالَ: " أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ ؟ فَلْيَقُمْ ". فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَبْشِرْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ كُتِبْتَ فِي الزَّكَاةِ الْمُتَقَبَّلَةِ ".
وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ هَاهُنَا حَدِيثَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحَارِثِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ:أَرْسَلَنِي أَصْحَابِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ لَهُمُ الْحُمْلَانَ، إِذْ هُمْ مَعَهُ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ، وَهُوَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ أَصْحَابِي أَرْسَلُونِي إِلَيْكَ لِتَحْمِلَهُمْ. فَقَالَ: " وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيْءٍ ". وَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ وَلَا أَشْعُرُ، فَرَجَعْتُ حَزِينًا مِنْ مَنْعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ مَخَافَةِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ عَلَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَأَخْبَرْتُهُمْ بِالَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ أَلْبَثْ إِلَّا سُوَيْعَةً إِذْ سَمِعْتُ بِلَالًا يُنَادِي: أَيْنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ ؟ فَأَجَبْتُهُ فَقَالَ: أَجِبْ، رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوكَ. فَلَمَّا أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خُذْ هَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ وَهَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ وَهَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ ". لِسِتَّةِ أَبْعِرَةٍ ابْتَاعَهُنَّ حِينَئِذٍ مِنْ سَعْدٍ فَقَالَ: " انْطَلِقْ بِهِنَّ إِلَى أَصْحَابِكَ، فَقُلْ:

إِنَّ اللَّهَ - أَوْ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ فَارْكَبُوهُمْ ". فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَا أَدَعُكُمْ حَتَّى يَنْطَلِقَ مَعِي بَعْضُكُمْ إِلَى مَنْ سَمِعَ مَقَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَأَلْتُهُ لَكُمْ، وَمَنْعَهُ لِي فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، ثُمَّ إِعْطَاءَهُ إِيَّايَ بَعْدَ ذَلِكَ، لَا تَظُنُّوا أَنِّي حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا لَمْ يَقُلْهُ. فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ إِنَّكَ عِنْدَنَا لَمُصَدَّقٌ وَلَنَفْعَلَنَّ مَا أَحْبَبْتَ. قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو مُوسَى بِنَفَرٍ مِنْهُمْ، حَتَّى أَتَوُا الَّذِينَ سَمِعُوا مَقَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَنْعِهِ إِيَّاهُمْ، ثُمَّ إِعْطَائِهِ بَعْدُ، فَحَدَّثُوهُمْ بِمَا حَدَّثَهُمْ بِهِ أَبُو مُوسَى سَوَاءً وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ جَمِيعًا، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ:أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ لِيَحْمِلَنَا، فَقَالَ: " وَاللَّهِ مَا أَحْمِلُكُمْ، وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ". قَالَ ثُمَّ جِيءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَهْبِ إِبِلٍ، فَأَمَرَ لَنَا بِسِتِّ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى، فَأَخَذْنَاهَا، ثُمَّ قُلْنَا: تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينَهُ وَاللَّهِ لَا يُبَارَكُ لَنَا. فَرَجَعْنَا لَهُ فَقَالَ: " مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ ". ثُمَّ قَالَ: " إِنِّي وَاللَّهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا أَحْلِفُ

عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا "..
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ نَفَرٌ مِنِ الْمُسْلِمِينَ أَبْطَأَتْ بِهِمُ النِّيَّةُ حَتَّى تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا ارْتِيَابٍ ; مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي كَعْبٍ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ رَبِيعٍ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ أَخُو بَنِي وَاقِفٍ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانُوا نَفَرَ صِدْقٍ لَا يُتَّهَمُونَ فِي إِسْلَامِهِمْ.
قُلْتُ: أَمَّا الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ فَسَتَأْتِي قِصَّتُهُمْ مَبْسُوطَةً قَرِيبًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ( التَّوْبَةِ: 118 ) وَأَمَّا أَبُو خَيْثَمَةَ فَإِنَّهُ عَادَ وَعَزَمَ عَلَى اللُّحُوقِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا سَيَأْتِي.

فَصْلٌ ( خُرُوجُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ وَاسْتِخْلَافُهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَى أَهْلِهِ ).
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: ثُمَّ اسْتَتَبَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفَرُهُ وَأَجْمَعَ السَّيْرَ، فَلَمَّا خَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ضَرَبَ عَسْكَرَهُ عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ،

وَمَعَهُ زِيَادَةٌ عَلَى ثَلَاثِينَ أَلْفًا مِنَ النَّاسِ، وَضَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ عَدُوُّ اللَّهِ عَسْكَرَهُ أَسْفَلَ مِنْهُ، وَمَا كَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ بِأَقَلِّ الْعَسْكَرَيْنِ، فَلَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخَلَّفَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الرَّيْبِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَدِينَةِ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ: وَذَكَرَ الدَّرَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ اسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا عَامَ تَبُوكَ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَى أَهْلِهِ وَأَمَرَهُ بِالْإِقَامَةِ فِيهِمْ فَأَرْجَفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ، وَقَالُوا: مَا خَلَّفَهُ إِلَّا اسْتِثْقَالًا لَهُ وَتَخَفُّفًا مِنْهُ. فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ أَخَذَ عَلِيٌّ سِلَاحَهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى لَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجُرْفِ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالُوا فَقَالَ: كَذَبُوا وَلَكِنِّي خَلَّفْتُكَ لِمَا تَرَكْتُ وَرَائِي، فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي وَأَهْلِكَ، أَفَلَا تَرْضَى يَا عَلِيُّ أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ؟ فَرَجَعَ عَلِيٌّ وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرِهِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ بِهِ.

وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ ": حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُخَلِّفُنِي فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ؟ فَقَالَ: " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ؟ وَأَخْرَجَاهُ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ شُعْبَةَ نَحْوَهُ. وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ شُعْبَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَارٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ - وَخَلَّفَهُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُخَلِّفُنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ؟ - فَقَالَ:يَا عَلِيُّ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ؟ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ زَادَ مُسْلِمٌ: وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ كِلَاهُمَا عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ أَبَا خَيْثَمَةَ رَجَعَ بَعْدَ مَا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامًا

إِلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي عَرِيشَيْنِ لَهُمَا فِي حَائِطِهِ، قَدْ رَشَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا، وَبَرَّدَتْ فِيهِ مَاءً، وَهَيَّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا، فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ فَنَظَرَ إِلَى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الضِّحِّ وَالرِّيحِ وَالْحَرِّ وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي ظِلٍّ بَارِدٍ وَطَعَامٍ مُهَيَّأٍ وَامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ، فِي مَالِهِ مُقِيمٌ ! مَا هَذَا بِالنَّصَفِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتَّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَيِّئَا زَادًا. فَفَعَلَتَا، ثُمَّ قَدَّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَدْرَكَهُ حِينَ نَزَلَ تَبُوكَ وَقَدْ كَانَ أَدْرَكَ أَبَا خَيْثَمَةَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ فِي الطَّرِيقِ يَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَرَافَقَا، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْ تَبُوكَ قَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ لِعُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ: إِنَّ لِي ذَنْبًا فَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَخَلَّفَ عَنِّي حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَفَعَلَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ النَّاسُ: هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطَّرِيقِ مُقْبِلٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ وَاللَّهِ أَبُو خَيْثَمَةَ. فَلَمَّا بَلَغَ أَقْبَلَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: " أَوْلَى لَكَ يَا أَبَا خَيْثَمَةَ ! ". ثُمَّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ، فَقَالَ خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قِصَّةَ أَبِي خَيْثَمَةَ بِنَحْوٍ مِنْ سِيَاقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَأَبْسَطَ، وَذِكَرَ أَنَّ خُرُوجَهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى تَبُوكَ

كَانَ فِي زَمَنِ الْخَرِيفِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَقَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ، وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ قَيْسٍ، فِي ذَلِكَ:
لَمَّا رَأَيْتُ النَّاسَ فِي الدِّينِ نَافَقُوا أَتَيْتُ الَّتِي كَانَتْ أَعَفَّ وَأَكْرَمَا وَبَايَعْتُ بِالْيُمْنَى يَدِي لِمُحَمَّدٍ
فَلَمْ أَكْتَسِبْ إِثْمًا وَلَمْ أَغْشَ مُحَرَّمَا تَرَكْتُ خَضِيبًا فِي الْعَرِيشِ وَصِرْمَةً
صَفَايَا كِرَامًا بُسْرُهَا قَدْ تَحَمَّمَا وَكُنْتُ إِذَا شَكَّ الْمُنَافِقُ أَسْمَحَتْ
إِلَى الدِّينِ نَفْسِي شَطْرَهُ حَيْثُ يَمَّمَا
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ جَعَلَ لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَتَخَلَّفُ، فَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَخَلَّفَ فُلَانٌ. فَيَقُولُ: " دَعُوهُ، إِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ بِكُمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ اللَّهُ مِنْهُ ". حَتَّى قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَخَلَّفَ أَبُو ذَرٍّ وَأَبْطَأَ بِهِ بَعِيرُهُ. فَقَالَ: " دَعُوهُ، إِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ بِكُمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ

أَرَاحَكُمُ اللَّهُ مِنْهُ ". فَتَلَوَّمَ أَبُو ذَرٍّ بَعِيرَهُ، فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ أَخَذَ مَتَاعَهُ فَجَعَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ خَرَجَ يَتَّبِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاشِيًا، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مَنَازِلِهِ، وَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مَاشٍ عَلَى الطَّرِيقِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُنْ أَبَا ذَرٍّ ". فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ الْقَوْمُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ وَاللَّهِ أَبُو ذَرٍّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ ". قَالَ: فَضَرَبَ الدَّهْرُ مِنْ ضَرْبِهِ، وَسُيِّرَ أَبُو ذَرٍّ إِلَى الرَّبَذَةِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى امْرَأَتَهُ وَغُلَامَهُ فَقَالَ: إِذَا مِتُّ فَاغْسِلَانِي وَكَفِّنَانِي مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ ضَعَانِي عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَأَوَّلُ رَكْبٍ يَمُرُّونَ بِكُمْ فَقُولُوا: هَذَا أَبُو ذَرٍّ. فَلَمَّا مَاتَ فَعَلُوا بِهِ كَذَلِكَ، فَاطَّلَعَ رَكْبٌ، فَمَا عَلِمُوا بِهِ حَتَّى كَادَتْ رِكَابُهُمْ تَطَأُ سَرِيرَهُ، فَإِذَا ابْنُ مَسْعُودٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ فَقِيلَ: جِنَازَةُ أَبِي ذَرٍّ. فَاسْتَهَلَّ ابْنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي، وَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ ". فَنَزَلَ فَوَلِيَهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى أَجَنَّهُ. إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ

مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ( التَّوْبَةِ: 117 ). قَالَ: خَرَجُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ الرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ، وَخَرَجُوا فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، فَأَصَابَهُمْ فِي يَوْمٍ عَطَشٌ حَتَّى جَعَلُوا يَنْحَرُونَ إِبِلَهُمْ لِيَعْصِرُوا أَكْرَاشَهَا وَيَشْرَبُوا مَاءَهَا، فَكَانَ ذَلِكَ عُسْرَةً فِي الْمَاءِ وَعُسْرَةً فِي النَّفَقَةِ وَعُسْرَةً فِي الظَّهْرِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: حَدِّثْنَا عَنْ شَأْنِ سَاعَةِ الْعُسْرَةِ. فَقَالَ عُمَرُ: خَرَجْنَا إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا وَأَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَذْهَبُ فَيَلْتَمِسُ الرَّحْلَ فَلَا يَرْجِعُ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ رَقَبَتَهُ سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْتَصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا. فَقَالَ: " أَتُحِبُّ ذَلِكَ ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَرَفَعَ يَدَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى قَالَتِ السَّمَاءَ، فَأَظَلَّتْ ثُمَّ سَكَبَتْ، فَمَلَئُوا مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ فَلَمْ نَجِدْهَا جَاوَزَتِ الْعَسْكَرَ إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ

مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ كَانَتْ وَهُمْ بِالْحِجْرِ، وَأَنَّهُمْ قَالُوا لِرَجُلٍ مَعَهُمْ مُنَافِقٌ: وَيْحَكَ ! هَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ شَيْءٍ ؟ ! فَقَالَ سَحَابَةٌ مَارَّةٌ. وَذَكَرَ أَنَّ نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَلَّتْ، فَذَهَبُوا فِي طَلَبِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيِّ - وَكَانَ عِنْدَهُ -: إِنَّ رَجُلًا قَالَ: هَذَا مُحَمَّدٌ يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَيُخْبِرُكُمْ خَبَرَ السَّمَاءِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ. وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ، وَقَدْ دَلَّنِي اللَّهُ عَلَيْهَا، هِيَ فِي الْوَادِي قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا ". فَانْطَلَقُوا فَجَاءُوا بِهَا فَرَجَعَ عُمَارَةُ إِلَى رَحْلِهِ، فَحَدَّثَهُمْ عَمَّا جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَبَرِ الرَّجُلِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ اللُّصَيْتِ وَكَانَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ، فَأَقْبَلَ عُمَارَةُ عَلَى زَيْدٍ يَجَأُ فِي عُنُقِهِ وَيَقُولُ: إِنَّ فِي رَحْلِي لَدَاهِيَةً وَأَنَا لَا أَدْرِي، اخْرُجْ عَنِّي يَا عَدُوَّ اللَّهِ، فَلَا تَصْحَبْنِي. فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ زَيْدًا تَابَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَزَلْ مُصِرًّا حَتَّى هَلَكَ.
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ شَبِيهًا بِقِصَّةِ الرَّاحِلَةِ. ثُمَّ رَوَى مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي

مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - شَكَّ الْأَعْمَشُ - قَالَ:لَمَّا كَانَ يَوْمُ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَذِنْتَ لَنَا فَنَنْحَرُ نَوَاضِحَنَا، فَأَكَلْنَا وَادَّهَنَّا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " افْعَلُوا ". فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ فَعَلْتَ قَلَّ الظَّهْرُ، وَلَكِنِ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، وَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ فِيهَا بِالْبَرَكَةِ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا الْبَرَكَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَعَمْ ". فَدَعَا بِنِطَعٍ فَبَسَطَهُ، ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَفٍّ مِنَ التَّمْرِ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكِسْرَةٍ حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: " خُذُوا فِي أَوْعِيَتِكُمْ ". فَأَخَذُوا فِي أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى مَا تَرَكُوا فِي الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلَّا مَلَئُوهُ وَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ لَا يَلْقَى اللَّهَ بِهَا عَبْدٌ غَيْرُ شَاكٍّ فَيُحْجَبُ عَنِ الْجَنَّةِ ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبَى كُرَيْبٍ عَنْ أَبَى مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَلَمْ يَذْكُرْ غَزْوَةَ تَبُوكَ بَلْ قَالَ: كَانَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا.

ذِكْرُ مُرُورِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَهَابِهِ إِلَى تَبُوكَ بِمَسَاكِنِ ثَمُودَ وَصَرْحَتِهِمْ بِالْحِجْرِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ مَرَّ بِالْحِجْرِ نَزَلَهَا وَاسْتَقَى النَّاسُ مِنْ بِئْرِهَا، فَلَمَّا رَاحُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَشْرَبُوا مِنْ مِيَاهِهَا شَيْئًا، وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْهُ لِلصَّلَاةِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوهُ فَأَعْلِفُوهُ الْإِبِلَ، وَلَا تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئًا هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْمَرُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ - هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ - أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَرَّ بِالْحِجْرِ قَالَ: " لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ ". وَتَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ وَهُوَ عَلَى الرَّحْلِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: " لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ

فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلَ مَا أَصَابَهُمْ ". وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَمِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا صَخْرٌ - هُوَ ابْنُ جُوَيْرِيَةَ - عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ عَامَ تَبُوكَ الْحِجْرَ عِنْدَ بُيُوتِ ثَمُودَ، فَاسْتَقَى النَّاسُ مِنَ الْآبَارِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا ثَمُودُ، فَعَجَنُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ بِاللَّحْمِ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهْرَقُوا الْقُدُورَ، وَعَلَفُوا الْعَجِينَ الْإِبِلَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ بِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ عَلَى الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا النَّاقَةُ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ عُذِّبُوا فَقَالَ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ " وَهَذَا الْحَدِيثُ إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ أَبِي ضَمْرَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَتَابَعَهُ أُسَامَةُ عَنْ نَافِعٍ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ بِهِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجْرِ قَالَ: " لَا تَسْأَلُوا الْآيَاتِ، فَقَدْ سَأَلَهَا قَوْمُ صَالِحٍ فَكَانَتْ تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ، وَتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَعَقَرُوهَا، وَكَانَتْ تَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْمًا وَيَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْمًا، فَعَقَرُوهَا، فَأَخَذَتْهُمْ صَيْحَةٌ، أَهْمَدَ اللَّهُ مِنْ تَحْتِ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْهُمْ، إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ " قِيلَ: مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " هُوَ أَبُو رِغَالٍ فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ " إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَوْسَطَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:لَمَّا كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ تَسَارَعَ النَّاسُ إِلَى أَهْلِ الْحِجْرِ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنُودِيَ فِي النَّاسِ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. قَالَ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُمْسِكٌ بَعِيرَهُ وَهُوَ يَقُولُ: " مَا تَدْخُلُونَ عَلَى قَوْمٍ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ؟ " فَنَادَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ: نَعْجَبُ مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ ؟ رَجُلٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَمَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُمْ، فَاسْتَقِيمُوا وَسَدِّدُوا، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَعْبَأُ بِعَذَابِكُمْ شَيْئًا، وَسَيَأْتِي قَوْمٌ لَا يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ شَيْئًا ". إِسْنَادُهُ حَسَنٌ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ

حَزْمٍ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - أَوْ عَنِ الْعَبَّاسِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الشَّكُّ مِنِّي - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ مَرَّ بِالْحِجْرِ وَنَزَلَهَا اسْتَقَى النَّاسُ مِنْ بِئْرِهَا، فَلَمَّا رَاحُوا مِنْهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ: " لَا تَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا، وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْهُ لِلصَّلَاةِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوهُ فَأَعْلِفُوهُ الْإِبِلَ وَلَا تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَلَا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ إِلَّا وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ ". فَفَعَلَ النَّاسُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ، خَرَجَ أَحَدُهُمَا لِحَاجَتِهِ، وَخَرَجَ الْآخَرُ فِي طَلَبِ بَعَيرٍ لَهُ ; فَأَمَّا الَّذِي ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ، فَإِنَّهُ خُنِقَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَأَمَّا الَّذِي ذَهَبَ فِي طَلَبِ بَعِيرِهِ، فَاحْتَمَلَتْهُ الرِّيحُ حَتَّى أَلْقَتْهُ بِجَبَلَيْ طَيِّئٍ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: " أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ يَخْرُجَ رَجُلٌ إِلَّا وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ ؟ " ثُمَّ دَعَا لِلَّذِي أُصِيبَ عَلَى مَذْهَبِهِ فَشُفِيَ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَإِنَّهُ وَصَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَرْجِعِهِ مِنْ تَبُوكَ - وَفِي رِوَايَةِ زِيَادٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ طَيِّئًا أَهْدَتْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ - قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ سَهْلٍ سَمَّى لَهُ الرَّجُلَيْنِ، لَكِنَّهُ اسْتَكْتَمَهُ إِيَّاهُمَا، فَلَمْ يُحَدِّثْنِي بِهِمَا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ ثنا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ:

خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ حَتَّى جِئْنَا وَادِيَ الْقُرَى، فَإِذَا امْرَأَةٌ فِي حَدِيقَةٍ لَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: " اخْرُصُوا ". فَخَرَصَ الْقَوْمُ وَخَرَصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَرْأَةِ: " أَحْصِي مَا يَخْرُجُ مِنْهَا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". قَالَ: فَخَرَجَ حَتَّى قَدِمَ تَبُوكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهَا سَتَهُبُّ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلَا يَقُومَنَّ فِيهَا رَجُلٌ، فَمَنْ كَانَ لَهُ بَعِيرٌ فَلْيُوثِقْ عِقَالَهُ ". قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فَعَقَلْنَاهَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ، هَبَّتْ عَلَيْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَقَامَ فِيهَا رَجُلٌ فَأَلْقَتْهُ فِي جَبَلِ طَيِّئٍ، ثُمَّ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ مَلِكُ أَيْلَةَ، فَأَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ رَسُولُ اللَّهِ بُرْدًا، وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ وَأَقْبَلْنَا مَعَهُ، حَتَّى جِئْنَا وَادِيَ الْقُرَى، فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: " كَمْ جَاءَتْ حَدِيقَتُكِ ؟ " قَالَتْ: عَشَرَةُ أَوْسُقٍ، خَرْصَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي مُتَعَجِّلٌ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَتَعَجَّلَ فَلْيَفْعَلْ ". قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَرَجْنَا مَعَهُ، حَتَّى إِذَا أَوْفَى عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: " هَذِهِ طَابَةُ ". فَلَمَّا رَأَى أُحُدًا قَالَ: " هَذَا أُحُدٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الْأَنْصَارِ ؟ " قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ دَارُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ثُمَّ دَارُ بَنِي سَاعِدَةَ ثُمَّ فِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ ". وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بِهِ نَحْوَهُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَخْبَرَهُأَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ فَكَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. قَالَ: فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَيْنَ تَبُوكَ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يَضْحَى النَّهَارُ، فَمَنْ جَاءَهَا فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ " قَالَ: فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَ إِلَيْهَا رَجُلَانِ، وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ مَسَسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا ؟ " قَالَا: نَعَمْ. فَسَبَّهُمَا وَقَالَ لَهُمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى اجْتَمَعَ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ فِيهِ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا، فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيرٍ، فَاسْتَقَى النَّاسُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا مُعَاذُ يُوشِكُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَا هَاهُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا ". وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ بِهِ.

ذِكْرُ خُطْبَتِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِلَى تَبُوكَ إِلَى نَخْلَةٍ هُنَاكَ.
رَوَى الْأَمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ وَيُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبِ وَحَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ:إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ خَطَبَ النَّاسَ وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى نَخْلَةٍ فَقَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ وَشَرِّ النَّاسِ ؟ إِنَّ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ رَجُلًا عَمِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ، أَوْ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ، أَوْ عَلَى قَدَمَيْهِ، حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ، وَإِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ رَجُلًا فَاجِرًا جَرِيئًا يَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ لَا يَرْعَوِي إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ ". وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ بِهِ. وَقَالَ: أَبُو الْخَطَّابِ لَا أَعْرِفُهُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عِمْرَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ مَنْظُورِ بْنِ جَمِيلِ بْنِ سِنَانٍ أَخْبَرَنِي أَبِي، سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ يَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَاسْتَرْقَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ حَتَّى كَانَتِ الشَّمْسُ قَيْدَ رُمْحٍ

قَالَ: " أَلَمْ أَقُلْ لَكَ يَا بِلَالُ اكْلَأْ لَنَا الْفَجْرَ ؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ بِي مِنَ النَّوْمِ مِثْلُ الَّذِي ذَهَبَ بِكَ. قَالَ: فَانْتَقَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَنْزِلِهِ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ صَلَّى وَسَارَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، فَأَصْبَحَ بِتَبُوكَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ، أَمَّا بَعْدُ ; فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَوْثَقَ الْعُرَى كَلِمَةُ التَّقْوَى، وَخَيْرَ الْمِلَلِ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَخَيْرَ السُّنَنِ سُنَّةُ مُحَمَّدٍ، وَأَشْرَفَ الْحَدِيثِ ذِكْرُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْقَصَصِ هَذَا الْقُرْآنُ، وَخَيْرَ الْأُمُورِ عَوَازِمُهَا، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَشْرَفَ الْمَوْتِ قَتْلُ الشُّهَدَاءِ، وَأَعْمَى الْعَمَى الضَّلَالَةُ بَعْدَ الْهُدَى، وَخَيْرَ الْأَعْمَالِ مَا نَفَعَ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ مَا اتُّبِعَ، وَشَرَّ الْعَمَى عَمَى الْقَلْبِ، وَالْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَمَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وَشَرَّ الْمَعْذِرَةِ حِينَ يَحْضُرُ الْمَوْتُ، وَشَرَّ النَّدَامَةِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَأْتِي الْجُمُعَةَ إِلَّا دُبْرًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَذْكُرُ اللَّهَ إِلَّا هَجْرًا، وَمِنْ أَعْظَمِ الْخَطَايَا اللِّسَانَ الْكَذَّابَ، وَخَيْرَ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ، وَخَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى، وَرَأْسَ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَخَيْرَ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ الْيَقِينُ، وَالِارْتِيَابَ مِنِ الْكُفْرِ، وَالنِّيَاحَةَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْغُلُولَ مِنْ جُثَى جَهَنَّمَ، وَالشِّعْرَ مِنْ إِبْلِيسَ، وَالْخَمْرَ جِمَاعُ الْإِثْمِ، وَالنِّسَاءَ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ، وَالشَّبَابَ شُعْبَةٌ مِنَ الْجُنُونِ، وَشَرَّ الْمَكَاسِبِ كَسْبُ الرِّبَا، وَشَرَّ الْمَآكِلِ أَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالسَّعِيدَ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَالشَّقِيَّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ

أَحَدُكُمْ إِلَى مَوْضِعِ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ، وَالْأَمْرُ إِلَى الْآخِرَةِ، وَمِلَاكَ الْعَمَلِ خَوَاتِمُهُ، وَشَرَّ الرَّوَايَا رَوَايَا الْكَذِبِ، وَكُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَسِبَابَ الْمُؤْمِنِ فُسُوقٌ، وَقِتَالَ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ، وَأَكْلَ لَحْمِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَحُرْمَةَ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ. وَمَنْ يَتَأَلَّ عَلَى اللَّهِ يُكْذِبْهُ، وَمَنْ يَسْتَغْفِرْهُ يَغْفِرْ لَهُ، وَمَنْ يَعْفُ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ يَكْظِمْ يَأْجُرْهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ عَلَى الرَّزِيَّةِ يُعَوِّضْهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَبْتَغِ السُّمْعَةَ يُسَمِّعِ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يَصْبِرْ يُضَعِّفِ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ يُعَذِّبْهُ اللَّهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِأُمَّتِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِأُمَّتِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِأُمَّتِي ". قَالَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: " أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ " وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِيهِ نَكَارَةٌ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْهَمْدَانِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ غَزْوَانَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ نَزَلَ بِتَبُوكَ وَهُوَ حَاجٌّ، فَإِذَا رَجُلٌ مُقْعَدٌ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَمْرِهِ فَقَالَ: سَأُحَدِّثُكَ حَدِيثًا فَلَا تُحَدِّثْ بِهِ مَا سَمِعْتَ أَنِّي حَيٌّ ;إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ بِتَبُوكَ إِلَى نَخْلَةٍ فَقَالَ: " هَذِهِ قِبْلَتُنَا ". ثُمَّ صَلَّى إِلَيْهَا. قَالَ: فَأَقْبَلْتُ وَأَنَا غُلَامٌ أَسْعَى حَتَّى مَرَرْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَقَالَ: " قَطَعَ صَلَاتَنَا قَطَعَ اللَّهُ أَثَرَهُ ". قَالَ: فَمَا قُمْتُ عَلَيْهَا إِلَى يَوْمِي هَذَا ثُمَّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ التَّنُوخِيِّ عَنْ مَوْلَى

لِيَزِيدَ بْنِ نِمْرَانَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ نِمْرَانَ قَالَ: رَأَيْتُ بِتَبُوكَ مُقْعَدًا فَقَالَ: مَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا عَلَى حِمَارٍ، وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اقْطَعْ أَثَرَهُ ". فَمَا مَشَيْتُ عَلَيْهَا بَعْدُ وَفِي رِوَايَةٍ: " قَطَعَ صَلَاتَنَا قَطَعَ اللَّهُ أَثَرَهُ "..

ذِكْرُ الصَّلَاةِ عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِنْ صَحَّ الْخَبَرُ فِي ذَلِكَ.
رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ أَخْبَرَنَا الْعَلَاءُ أَبُو مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ:كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبُوكَ، فَطَلَعَتِ الشَّمْسُ بِضِيَاءٍ وَشُعَاعٍ وَنُورٍ لَمْ أَرَهَا طَلَعَتْ فِيمَا مَضَى، فَأَتَى جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: " يَا جِبْرِيلُ، مَا لِي أَرَى الشَّمْسَ الْيَوْمَ طَلَعَتْ بِضِيَاءٍ وَنُورٍ وَشُعَاعٍ لَمْ أَرَهَا طَلَعَتْ فِيمَا مَضَى ؟ " قَالَ: ذَلِكَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ مُعَاوِيَةَ اللَّيْثِيَّ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ الْيَوْمَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ. قَالَ: " وَمِمَّ ذَاكَ ؟ " قَالَ: بِكَثْرَةِ قِرَاءَتِهِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ بِاللَّيْلِ

وَالنَّهَارِ، وَفِي مَمْشَاهُ وَفِي قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ، فَهَلْ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أَقْبِضَ لَكَ الْأَرْضَ فَتُصَلِّيَ عَلَيْهِ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ رَجَعَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ غَرَابَةٌ شَدِيدَةٌ وَنَكَارَةٌ وَالنَّاسُ يُسْنِدُونَ أَمْرَهُ إِلَى الْعَلَاءِ بْنِ زَيْدٍ هَذَا، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ.
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ عَلِيٍّ أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا مَحْبُوبُ بْنُ هِلَالٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ:جَاءَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَاتَ مُعَاوِيَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْمُزَنِيُّ أَفَتُحِبُّ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". فَضَرَبَ بِجَنَاحِهِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ شَجَرَةٍ وَلَا أَكَمَةٍ إِلَّا تَضَعْضَعَتْ لَهُ. قَالَ: فَصَلَّى وَخَلْفَهُ صَفَّانِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فِي كُلِّ صَفٍّ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ. قَالَ: قُلْتُ: " يَا جِبْرِيلُ، بِمَا نَالَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ مِنَ اللَّهِ ؟ " قَالَ: بِحُبِّهِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يَقْرَؤُهَا قَائِمًا وَقَاعِدًا، وَذَاهِبًا وَجَائِيًا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ. قَالَ عُثْمَانُ: فَسَأَلْتُ أَبِي: أَيْنَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ: بِغَزْوَةِ تَبُوكَ بِالشَّامِ، وَمَاتَ مُعَاوِيَةُ بِالْمَدِينَةِ، وَرُفِعَ لَهُ سَرِيرُهُ حَتَّى نَظَرَ إِلَيْهِ وَصَلَّى عَلَيْهِ. وَهَذَا أَيْضًا مُنْكَرٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

قُدُومُ رَسُولِ قَيْصَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبُوكَ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ قَالَ: لَقِيتُ التَّنُوخِيَّ رَسُولَ هِرَقْلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِمْصَ، وَكَانَ جَارًا لِي شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ بَلَغَ الْفَنَدَ أَوْ قَرُبَ. فَقُلْتُ: أَلَا تُخْبِرُنِي عَنْ رِسَالَةِ هِرَقْلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ ؟ فَقَالَ: بَلَى،قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبُوكَ، فَبَعَثَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ إِلَى هِرَقْلَ فَلَمَّا أَنْ جَاءَهُ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا قِسِّيسِي الرُّومِ وَبَطَارِقَتَهَا، ثُمَّ أَغْلَقَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الدَّارَ، فَقَالَ: قَدْ نَزَلَ هَذَا الرَّجُلُ حَيْثُ رَأَيْتُمْ، وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيَّ يَدْعُونِي إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، يَدْعُونِي إِلَى أَنْ أَتْبَعَهُ عَلَى دِينِهِ، أَوْ عَلَى أَنْ نُعْطِيَهُ مَالَنَا عَلَى أَرْضِنَا وَالْأَرْضُ أَرْضُنَا، أَوْ نُلْقِيَ إِلَيْهِ الْحَرْبَ، وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُمْ فِيمَا تَقْرَءُونَ مِنَ الْكُتُبِ لَيَأْخُذَنَّ مَا تَحْتَ قَدَمِي فَهَلُمَّ فَلْنَتَّبِعْهُ عَلَى دِينِهِ أَوْ نُعْطِهِ مَالَنَا عَلَى أَرْضِنَا. فَنَخَرُوا نَخْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ

بَرَانِسِهِمْ، وَقَالُوا: تَدْعُونَا إِلَى أَنْ نَذَرَ النَّصْرَانِيَّةَ أَوْ نَكُونَ عَبِيدًا لِأَعْرَابِيٍّ جَاءَ مِنَ الْحِجَازِ ؟ فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّهُمْ إِنْ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ أَفْسَدُوا عَلَيْهِ الرُّومَ رَفَأَهُمْ وَلَمْ يَكَدْ، وَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لَكُمْ لِأَعْلَمَ صَلَابَتَكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ. ثُمَّ دَعَا رَجُلًا مِنْ عَرَبِ تُجِيبَ كَانَ عَلَىنَصَارَى الْعَرَبِ، قَالَ: ادْعُ لِي رَجُلًا حَافِظًا لِلْحَدِيثِ عَرَبِيَّ اللِّسَانِ أَبْعَثُهُ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ بِجَوَابِ كِتَابِهِ. فَجَاءَ بِي فَدَفَعَ إِلَيَّ هِرَقْلُ كِتَابًا، فَقَالَ: اذْهَبْ بِكِتَابِي إِلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَمَا سَمِعْتَ مِنْ حَدِيثِهِ فَاحْفَظْ لِي مِنْهُ ثَلَاثَ خِصَالٍ ; انْظُرْ هَلْ يَذْكُرُ صَحِيفَتَهُ الَّتِي كَتَبَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ، وَانْظُرْ إِذَا قَرَأَ كِتَابِي فَهَلْ يَذْكُرُ اللَّيْلَ، وَانْظُرْ فِي ظَهْرِهِ هَلْ بِهِ شَيْءٌ يُرِيبُكَ. قَالَ: فَانْطَلَقْتُ بِكِتَابِهِ حَتَّى جِئْتُ تَبُوكَ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ بَيْنَ ظَهْرَانِي أَصْحَابِهِ مُحْتَبِيًا عَلَى الْمَاءِ، فَقُلْتُ: أَيْنَ صَاحِبُكُمْ ؟ قِيلَ: هَا هُوَ ذَا. فَأَقْبَلْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَنَاوَلْتُهُ كِتَابِي، فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ ثُمَّ قَالَ: " مِمَّنْ أَنْتَ ؟ " فَقُلْتُ: أَنَا أَخُو تَنُوخَ. قَالَ: " هَلْ لَكَ إِلَى الْإِسْلَامِ الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ ؟ " قُلْتُ: إِنِّي رَسُولُ قَوْمٍ وَعَلَى دِينِ قَوْمٍ، لَا أَرْجِعُ عَنْهُ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْهِمْ. فَضَحِكَ وَقَالَ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ

بِالْمُهْتَدِينَ ( الْقَصَصِ: 56 ) يَا أَخَا تَنُوخَ، إِنِّي كَتَبْتُ بِكِتَابٍ إِلَى كِسْرَى فَمَزَّقَهُ، وَاللَّهُ مُمَزِّقُهُ وَمُمَزِّقُ مُلْكِهِ، وَكَتَبْتُ إِلَى النَّجَاشِيِّ بِصَحِيفَةٍ فَخَرَّقَهَا وَاللَّهُ مُخَرِّقُهُ وَمُخَرِّقُ مُلْكِهِ، وَكَتَبْتُ إِلَى صَاحِبِكَ بِصَحِيفَةٍ فَأَمْسَكَهَا، فَلَنْ يَزَالَ النَّاسُ يَجِدُونَ مِنْهُ بَأْسًا مَا دَامَ فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ ". قُلْتُ: هَذِهِ إِحْدَى الثَّلَاثِ الَّتِي أَوْصَانِي بِهَا صَاحِبِي. فَأَخَذْتُ سَهْمًا مِنْ جَعْبَتِي فَكَتَبْتُهُ فِي جِلْدِ سَيْفِي، ثُمَّ إِنَّهُ نَاوَلَ الصَّحِيفَةَ رَجُلًا عَنْ يَسَارِهِ، قُلْتُ: مَنْ صَاحِبُ كِتَابِكُمُ الَّذِي يَقْرَأُ لَكُمْ ؟ قَالُوا: مُعَاوِيَةُ. فَإِذَا فِي كِتَابِ صَاحِبِي: تَدْعُونِي إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، فَأَيْنَ النَّارُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سُبْحَانَ اللَّهِ ! أَيْنَ اللَّيْلُ إِذَا جَاءَ النَّهَارُ ؟ ! " قَالَ: فَأَخَذْتُ سَهْمًا مِنْ جَعْبَتِي فَكَتَبْتُهُ فِي جِلْدِ سَيْفِي. فَلَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ كِتَابِي، قَالَ: " إِنَّ لَكَ حَقًّا وَإِنَّكَ رَسُولٌ، فَلَوْ وَجَدْتُ عِنْدَنَا جَائِزَةً جَوَّزْنَاكَ بِهَا، إِنَّا سُفْرٌ مُرْمِلُونَ ". قَالَ: فَنَادَاهُ رَجُلٌ مِنْ طَائِفَةِ النَّاسِ، قَالَ: أَنَا أُجَوِّزُهُ فَفَتَحَ رَحْلَهُ، فَإِذَا هُوَ يَأْتِي بِحُلَّةٍ صَفُّورِيَّةٍ فَوَضَعَهَا فِي حِجْرِي، قُلْتُ: مَنْ صَاحِبُ الْجَائِزَةِ ؟ قِيلَ لِي: عُثْمَانُ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " أَيُّكُمْ يُنْزِلُ هَذَا الرَّجُلَ ؟ " فَقَالَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَا. فَقَامَ الْأَنْصَارِيُّ وَقُمْتُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا خَرَجْتُ مِنْ طَائِفَةِ الْمَجْلِسِ نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: " تَعَالَ يَا أَخَا تَنُوخَ ". فَأَقْبَلْتُ أَهْوِي إِلَيْهِ حَتَّى كُنْتُ قَائِمًا فِي مَجْلِسِي الَّذِي كُنْتُ

بَيْنَ يَدَيْهِ، فَحَلَّ حُبْوَتَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، وَقَالَ: " هَاهُنَا امْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ ". فَجُلْتُ فِي ظَهْرِهِ، فَإِذَا أَنَا بِخَاتَمٍ فِي مَوْضِعِ غُضُونِ الْكَتِفِ مِثْلِ الْحَجْمَةِ الضَّخْمَةِ. هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.

ذِكْرُ مُصَالَحَتِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مَلِكَ أَيْلَةَ وَأَهْلَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ وَهُوَ مُخَيِّمٌ عَلَى تَبُوكَ قَبْلَ رُجُوعِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ أَتَاهُ يُحَنَّةُ بْنُ رُؤْبَةَ صَاحِبُ أَيْلَةَ، فَصَالَحَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْطَاهُ الْجِزْيَةَ، وَأَتَاهُ أَهْلُ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ فَأَعْطَوْهُ الْجِزْيَةَ، وَكَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا فَهُوَ عِنْدَهُمْ، فَكَتَبَ لِيُحَنَّةَ بْنِ رُؤْبَةَ وَأَهْلِ أَيْلَةَ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذِهِ أَمَنَةٌ مِنَ اللَّهِ وَمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ لِيُحَنَّةَ بْنِ رُؤْبَةَ وَأَهْلِ أَيْلَةَ، سُفُنِهِمْ وَسَيَّارَتِهِمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، لَهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ الْيَمَنِ وَأَهْلِ الْبَحْرِ،

فَمَنْ أَحْدَثَ مِنْهُمْ حَدَثًا فَإِنَّهُ لَا يَحُولُ مَالُهُ دُونَ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ طَيِّبٌ لِمَنْ أَخَذَهُ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يَمْنَعُوهُ مَاءً يَرِدُونَهُ وَلَا طَرِيقًا يَرِدُونَهُ مِنْ بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ ". زَادَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بَعْدَ هَذَا. وَهَذَا كِتَابُ جُهَيْمِ بْنِ الصَّلْتِ وَشُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ بِإِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ.
قَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَكَتَبَ لِأَهْلِ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ لِأَهْلِ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ، أَنَّهُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللَّهِ وَأَمَانِ مُحَمَّدٍ، وَأَنَّ عَلَيْهِمْ مِائَةَ دِينَارٍ فِي كُلِّ رَجَبٍ، وَمِائَةَ أُوقِيَّةٍ طَيِّبَةٍ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَيْهِمْ كَفِيلٌ بِالنُّصْحِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ". قَالَ: وَأَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ أَيْلَةَ بُرْدَهُ مَعَ كِتَابِهِ أَمَانًا لَهُمْ. قَالَ: فَاشْتَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ.

بَعْثُهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أُكَيْدِرِ دَوْمَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَبَعَثَهُ إِلَى أُكَيْدِرِ دَوْمَةَ وَهُوَ أُكَيْدِرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ ; رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ، كَانَ مَلِكًا عَلَيْهَا، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالِدٍ: " إِنَّكَ سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ ". فَخَرَجَ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ حِصْنِهِ بِمَنْظَرِ الْعَيْنِ، وَفِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ صَائِفَةٍ، وَهُوَ عَلَى سَطْحٍ لَهُ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ، وَبَاتَتِ الْبَقَرُ تَحُكُّ بِقُرُونِهَا بَابَ الْقَصْرِ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: هَلْ رَأَيْتَ مِثْلَ هَذَا قَطُّ ؟ ! قَالَ لَا وَاللَّهِ ! قَالَتْ: فَمَنْ يَتْرُكُ هَذَا ؟ قَالَ: لَا أَحَدَ. فَنَزَلَ فَأَمَرَ بِفَرَسِهِ فَأُسْرِجَ لَهُ، وَرَكِبَ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فِيهِمْ أَخٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ: حَسَّانُ. فَرَكِبَ وَخَرَجُوا مَعَهُ بِمَطَارِدِهِمْ، فَلَمَّا خَرَجُوا تَلَقَّتْهُمْ خَيْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَتْهُ وَقَتَلُوا أَخَاهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُخَوَّصٍ بِالذَّهَبِ، فَاسْتَلَبَهُ خَالِدٌ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ قُدُومِهِ عَلَيْهِ. قَالَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: رَأَيْتُ قَبَاءَ أُكَيْدِرٍ حِينَ قُدِمَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَلْمِسُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا "..
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ لَمَّا قَدِمَ بِأُكَيْدِرٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقَنَ لَهُ دَمَهُ فَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ، فَرَجَعَ إِلَى قَرْيَتِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي طَيِّئٍ - يُقَالُ لَهُ: بُجَيْرُ بْنُ بَجْرَةَ - فِي ذَلِكَ:
تَبَارَكَ سَائِقُ الْبَقَرَاتِ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ يَهْدِي كُلَّ هَادِ فَمَنْ يَكُ حَائِدًا عَنْ ذِي تَبُوكَ
فَإِنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِالْجِهَادِ
وَقَدْ حَكَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِهَذَا الشَّاعِرِ: لَا يَفْضُضِ اللَّهُ فَاكَ ". فَأَتَتْ عَلَيْهِ تِسْعُونَ سَنَةً مَا تَحَرَّكَ لَهُ فِيهَا ضِرْسٌ وَلَا سِنٌّ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ خَالِدًا مَرْجِعَهُ مِنْ تَبُوكَ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَارِسًا إِلَى أُكَيْدِرِ دَوْمَةَ. فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ مَاكَرَهُ حَتَّى أَنْزَلَهُ مِنَ الْحِصْنِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدِمَ مَعَ أُكَيْدِرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانُمِائَةٍ مِنَ السَّبْيِ، وَأَلْفُ بَعِيرٍ، وَأَرْبَعُمِائَةِ دِرْعٍ، وَأَرْبَعُمِائَةِ رُمْحٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ عَظِيمُ أَيْلَةَ يُحَنَّةُ بْنُ رُؤْبَةَ بِقَضِيَّةِ أُكَيْدِرِ دَوْمَةَ أَقْبَلَ قَادِمًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَالِحَهُ، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَبِتَبُوكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ بِلَالِ بْنِ يَحْيَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فِي غَزْوَةِ دُومَةِ الْجَنْدَلِ، وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْأَعْرَابِ فِي غَزْوَةِ دُومَةِ الْجَنْدَلِ.. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ ( إِقَامَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبُوكَ ).
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بِتَبُوكَ لَمْ يُجَاوِزْهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ قَافِلًا إِلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ وَكَانَ فِي الطَّرِيقِ مَاءٌ يَخْرُجُ مِنْ وَشَلٍ، يَرْوِي الرَّاكِبَ وَالرَّاكِبَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ: وَادِي الْمُشَقَّقِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ سَبَقَنَا إِلَى ذَلِكَ الْمَاءِ فَلَا يَسْتَقِيَنَّ مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَهُ ". قَالَ: فَسَبَقَهُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَاسْتَقَوْا مَا فِيهِ، فَلَمَّا أَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ فِيهِ شَيْئًا فَقَالَ: " مَنْ سَبَقَنَا إِلَى هَذَا الْمَاءِ ؟ " فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ. فَقَالَ: " أَوَلَمْ أَنْهَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْهُ حَتَّى آتِيَهُ ؟ " ثُمَّ لَعَنَهُمْ وَدَعَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ نَزَلَ فَوَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ الْوَشَلِ، فَجَعَلَ يَصُبُّ فِي يَدِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَصُبَّ، ثُمَّ نَضَحَهُ بِهِ وَمَسَحَهُ بِيَدِهِ، وَدَعَا بِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ، فَانْخَرَقَ مِنَ الْمَاءِ - كَمَا يَقُولُ مَنْ سَمِعَهُ - مَا إِنَّ لَهُ حِسًّا كَحِسِّ الصَّوَاعِقِ، فَشَرِبَ النَّاسُ وَاسْتَقَوْا حَاجَتَهُمْ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَئِنْ بَقِيتُمْ أَوْ مَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ لَيَسْمَعَنَّ بِهَذَا الْوَادِي وَهُوَ أَخْصَبُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا خَلْفَهُ ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُحَدِّثُ قَالَ: قُمْتُ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَرَأَيْتُ شُعْلَةً مِنْ نَارٍ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ، فَاتَّبَعْتُهَا أَنْظُرُ إِلَيْهَا. قَالَ: فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَوَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ قَدْ مَاتَ وَإِذَا هُمْ،

قَدْ حَفَرُوا لَهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُفْرَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُدَلِّيَانِهِ إِلَيْهِ، وَإِذَا هُوَ يَقُولُ: " أَدْنِيَا إِلَيَّ أَخَاكَمَا ". فَدَلَّيَاهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا هَيَّأَهُ لِشِقِّهِ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ أَمْسَيْتُ رَاضِيًا عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ ". قَالَ: يَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ صَاحِبَ الْحُفْرَةِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ إِنَّمَا سُمِّيَ ذَا الْبِجَادَيْنِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ، فَمَنَعَهُ قَوْمُهُ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ، حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا بِجَادٌ، وَهُوَ الْكِسَاءُ الْغَلِيظُ فَشَقَّهُ بِاثْنَتَيْنِ، فَائْتَزَرَ بِوَاحِدَةٍ وَارْتَدَى بِالْأُخْرَى، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسُمِّيَ ذُو الْبِجَادَيْنِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ عَنِ ابْنِ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيِّ عَنِ ابْنِ أَخِي أَبِي رُهْمٍ الْغِفَارِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ بْنَ الْحُصَيْنِ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ يَقُولُ:غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَسِرْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ مَعَهُ وَنَحْنُ بِالْأَخْضَرِ، وَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيَّ النُّعَاسَ، فَطَفِقْتُ أَسْتَيْقِظُ وَقَدْ دَنَتْ رَاحِلَتِي مِنْ رَاحِلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُفْزِعُنِي دُنُوُّهَا مِنْهُ ; مَخَافَةَ أَنْ أُصِيبَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ فَطَفِقْتُ أَحُوزُ رَاحِلَتِي عَنْهُ حَتَّى غَلَبَتْنِي عَيْنِي فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَزَاحَمَتْ رَاحِلَتِي رَاحِلَتَهُ وَرِجْلُهُ فِي الْغَرْزِ، فَلَمْ أَسْتَيْقِظْ إِلَّا بِقَوْلِهِ: " حَسِّ ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ: " سِرْ ". فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُنِي

عَمَّنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، فَأُخْبِرُهُ بِهِ، فَقَالَ وَهُوَ يَسْأَلُنِي: " مَا فَعَلَ النَّفَرُ الْحُمْرُ الطِّوَالُ الثِّطَاطُ الَّذِينَ لَا شَعْرَ فِي وُجُوهِهِمْ ؟ " فَحَدَّثْتُهُ بِتَخَلُّفِهِمْ قَالَ: " فَمَا فَعَلَ النَّفَرُ السُّودُ الْجِعَادُ الْقِصَارُ ؟ " قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ هَؤُلَاءِ مِنَّا. قَالَ: " بَلَى، الَّذِينَ لَهُمْ نَعَمٌ بِشَبَكَةِ شَدَخٍ ". فَتَذَكَّرْتُهُمْ فِي بَنِي غِفَارٍ، فَلَمْ أَذْكُرْهُمْ، حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّهُمْ رَهْطٌ مِنْ أَسْلَمَ كَانُوا حُلَفَاءَ فِينَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُولَئِكَ رَهْطٌ مِنْ أَسْلَمَ حُلَفَاءُ فِينَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مَنَعَ أَحَدَ أُولَئِكَ حِينَ تَخَلَّفَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى بَعِيرٍ مِنْ إِبِلِهِ امْرَأً نَشِيطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ إِنَّ أَعَزَّ أَهْلِي عَلَيَّ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنِّي ; الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَغِفَارٌ وَأَسْلَمُ "..
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوكَ إِلَى الْمَدِينَةِ، هَمَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِالْفَتْكِ بِهِ، وَأَنْ يَطْرَحُوهُ مِنْ رَأْسِ عَقَبَةٍ فِي الطَّرِيقِ، فَأُخْبِرَ بِخَبَرِهِمْ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالْمَسِيرِ مِنَ الْوَادِي، وَصَعِدَ هُوَ الْعَقَبَةَ، وَسَلَكَهَا مَعَهُ أُولَئِكَ النَّفَرُ وَقَدْ تَلَثَّمُوا، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ أَنْ يَمْشِيَا مَعَهُ عَمَّارٌ آخِذٌ بِزِمَامِ النَّاقَةِ وَحُذَيْفَةُ يَسُوقُهَا، فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إِذْ سَمِعُوا بِالْقَوْمِ قَدْ غَشُوهُمْ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبْصَرَ حُذَيْفَةُ غَضَبَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ وَمَعَهُ مِحْجَنٌ، فَاسْتَقْبَلَ وَجُوهَ رَوَاحِلِهِمْ بِمِحْجَنِهِ، فَلَمَّا رَأَوْا حُذَيْفَةَ ظَنُّوا أَنْ قَدْ أُظْهِرَ عَلَى مَا أَضْمَرُوهُ مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، فَأَسْرَعُوا حَتَّى خَالَطُوا النَّاسَ، وَأَقْبَلَ حُذَيْفَةُ حَتَّى أَدْرَكَ

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمَا فَأَسْرَعَا حَتَّى قَطَعُوا الْعَقَبَةَ، وَوَقَفُوا يَنْتَظِرُونَ النَّاسَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُذَيْفَةَ: " هَلْ عَرَفْتَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ ؟ " قَالَ: مَا عَرَفْتُ إِلَّا رَوَاحِلَهُمْ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ حِينَ غَشِيتُهُمْ. ثُمَّ قَالَ: " عَلِمْتُمَا مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ هَؤُلَاءِ الرَّكْبِ ؟ " قَالَا: لَا. فَأَخْبَرَهُمَا بِمَا كَانُوا تَمَالَئُوا عَلَيْهِ، وَسَمَّاهُمْ لَهُمَا وَاسْتَكْتَمَهُمَا ذَلِكَ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا تَأْمُرُ بِقَتْلِهِمْ ؟ فَقَالَ: " أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ "..
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْقِصَّةَ، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَعْلَمَ بِأَسْمَائِهِمْ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَحْدَهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ لِعَلْقَمَةَ صَاحِبِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَلَيْسَ فِيكُمْ - يَعْنِي أَهْلَ الْكُوفَةِ - صَاحِبُ السَّوَادِ وَالْوِسَادِ ؟ - يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ - أَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ ؟ - يَعْنِي حُذَيْفَةَ - أَلَيْسَ فِيكُمُ الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ - يَعْنِي عَمَّارًا. وَرَوَيْنَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِحُذَيْفَةَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ أَنَا مِنْهُمْ ؟ قَالَ: لَا وَلَا أُبَرِّئُ بَعْدَكَ أَحَدًا. يَعْنِي حَتَّى لَا يَكُونَ مُفْشِيًا سِرَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قُلْتُ: وَقَدْ كَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا وَقِيلَ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ فَجَمَعَهُمْ لَهُ فَأَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَبِمَا تَمَالَئُوا عَلَيْهِ. ثُمَّ سَرَدَ ابْنُ

إِسْحَاقَ أَسْمَاءَهُمْ، قَالَ: وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ( التَّوْبَةِ: 74 ).
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ:كُنْتُ آخِذًا بِخِطَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقُودُ بِهِ وَعَمَّارٌ يَسُوقُ النَّاقَةَ - أَوْ أَنَا أَسُوقُ وَعَمَّارٌ يَقُودُ بِهِ - حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَقَبَةِ إِذَا أَنَا بِاثْنَيْ عَشَرَ رَاكِبًا قَدِ اعْتَرَضُوهُ فِيهَا. قَالَ: فَأَنْبَهْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَرَخَ بِهِمْ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ عَرَفْتُمُ الْقَوْمَ ؟ ". قُلْنَا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كَانُوا مُتَلَثِّمِينَ، وَلَكِنَّا قَدْ عَرَفْنَا الرِّكَابَ. قَالَ: " هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَلْ تَدْرُونَ مَا أَرَادُوا ؟ ". قُلْنَا: لَا. قَالَ: " أَرَادُوا أَنْ يَزْحَمُوا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْعَقَبَةِ فَيُلْقُوهُ مِنْهَا ". قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ لَا تَبْعَثُ إِلَى عَشَائِرِهِمْ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْكَ كُلُّ قَوْمٍ بِرَأْسِ صَاحِبِهِمْ ؟ قَالَ: " لَا، أَكْرَهُ أَنْ تُحَدِّثَ الْعَرَبُ بَيْنَهَا أَنَّ مُحَمَّدًا قَاتَلَ بِقَوْمٍ، حَتَّى إِذَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ يَقْتُلُهُمْ ". ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ ارْمِهِمْ بِالدُّبَيْلَةِ ". قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الدُّبَيْلَةُ ؟ قَالَ: " شِهَابٌ مِنْ نَارٍ يَقَعُ عَلَى نِيَاطِ قَلْبِ أَحَدِهِمْ فَيَهْلِكُ "..

وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَمَّارٍ: أَرَأَيْتُمْ صَنِيعَكُمْ هَذَا فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ عَلِيٍّ ; أَرَأْيًا رَأَيْتُمُوهُ أَمْ شَيْئًا عَهِدَهُ إِلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ: مَا عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَلَكِنْ حُذَيْفَةُ أَخْبَرَنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " فِي أَصْحَابِي اثَنَا عَشَرَ مُنَافِقًا، مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ".
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَتَادَةَ:إِنَّ فِي أُمَّتِي اثْنَيْ عَشَرَ مُنَافِقًا لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، ثَمَانِيَةٌ مِنْهُمْ تَكْفِيكَهُمُ الدُّبَيْلَةُ ; سِرَاجٌ مِنَ النَّارِ يَظْهَرُ بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ حَتَّى يَنْجُمَ مِنْ صُدُورِهِمْ "..
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَيْنَا عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ، أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَأَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْهُمْ حَرْبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، وَعَذَرَ ثَلَاثَةً أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا سَمِعْنَا الْمُنَادِي وَلَا عَلِمْنَا بِمَا أَرَادَ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ - هُوَ ابْنُ هَارُونَ - أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُمَيْعٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ:لَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِذٌ بِالْعَقَبَةِ،

فَلَا يَأْخُذْهَا أَحَدٌ. فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُودُهُ حُذَيْفَةُ وَيَسُوقُهُ عَمَّارٌ إِذْ أَقْبَلَ رَهْطٌ مُتَلَثِّمُونَ عَلَى الرَّوَاحِلِ، فَغَشُوا عَمَّارًا وَهُوَ يَسُوقُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْبَلَ عَمَّارٌ يَضْرِبُ وُجُوهَ الرَّوَاحِلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُذَيْفَةَ: " قُدْ قُدْ ". حَتَّى هَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا هَبَطَ نَزَلَ وَرَجَعَ عَمَّارٌ قَالَ: " يَا عَمَّارُ هَلْ عَرَفْتَ الْقَوْمَ ؟ " قَالَ: قَدْ عَرَفْتُ عَامَّةَ الرَّوَاحِلِ، وَالْقَوْمُ مُتَلَثِّمُونَ. قَالَ: " هَلْ تَدْرِي مَا أَرَادُوا ؟ " قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " أَرَادُوا أَنْ يَنْفِرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ فَيَطْرَحُوهُ ". قَالَ: فَسَارَّ عَمَّارٌ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ، كَمْ تَعْلَمُ كَانَ أَصْحَابُ الْعَقَبَةِ ؟ قَالَ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ. فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ فِيهِمْ فَقَدْ كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ. قَالَ: فَعَذَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةً قَالُوا: مَا سَمِعْنَا مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا عَلِمْنَا مَا أَرَادَ الْقَوْمُ. فَقَالَ عَمَّارٌ: أَشْهَدُ أَنَّ الِاثْنَيْ عَشَرَ الْبَاقِينَ حَرْبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ..

قِصَّةُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا

الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( التَّوْبَةِ: 107 - 110 ) وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى تَفْسِيرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ فِي كِتَابِنَا " التَّفْسِيرِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ كَيْفِيَّةَ بِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ، وَكَيْفِيَّةَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَرَابِهِ مَرْجِعَهُ مِنْ تَبُوكَ قَبْلَ دُخُولِهِ الْمَدِينَةَ. وَمَضْمُونُ ذَلِكَ ; أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَنَوْا صُورَةَ مَسْجِدٍ قَرِيبًا مِنْ مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَأَرَادُوا أَنْ يُصَلِّيَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ ; حَتَّى يَرُوجَ لَهُمْ مَا أَرَادُوهُ مِنَ الْفَسَادِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، فَعَصَمَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ إِلَى تَبُوكَ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنْهَا فَنَزَلَ بِذِي أَوَانٍ - مَكَانٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَاعَةٌ - نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي شَأْنِ هَذَا الْمَسْجِدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ الْآيَةَ. أَمَّا قَوْلُهُ: ( ضِرَارًا ) فَلِأَنَّهُمُ أَرَادُوا مُضَاهَاةَ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، ( وَكُفْرًا ) بِاللَّهِ لَا لِلْإِيمَانِ بِهِ، ( وَتَفْرِيقًا ) لِلْجَمَاعَةِ عَنْ مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ الْفَاسِقُ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَبَى عَلَيْهِ،

ذَهَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَاسْتَنْفَرَهُمْ فَجَاءُوا عَامَ أُحُدٍ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا قَدَّمْنَاهُ، فَلَمَّا لَمْ يَنْهَضْ أَمْرُهُ ذَهَبَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ قَيْصَرَ ; لِيَسْتَنْصِرَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو عَامِرٍ عَلَى دِينِ هِرَقْلَ مِمَّنْ تَنْصَرَّ مَعَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ، وَكَانَ يَكْتُبُ إِلَى إِخْوَانِهِ الَّذِينَ نَافَقُوا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ، وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا، فَكَانَتْ مُكَاتَبَاتُهُ وَرُسُلُهُ تَفِدُ إِلَيْهِمْ كُلَّ حِينٍ، فَبَنَوْا هَذَا الْمَسْجِدَ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَبَاطِنُهُ دَارُ حَرْبٍ وَمَقَرٌّ لِمَنْ يَفِدُ مِنْ عِنْدِ أَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ وَمُجَمِّعٌ لِمَنْ هُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ. ثُمَّ قَالَ: ( وَلَيَحْلِفُنَّ ). أَيِ الَّذِينَ بَنَوْهُ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى أَيْ إِنَّمَا أَرَدْنَا بِبِنَائِهِ الْخَيْرَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا فَنَهَاهُ عَنِ الْقِيَامِ فِيهِ لِئَلَّا يُقَرِّرَ أَمْرَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ وَحَثَّهُ عَلَى الْقِيَامِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، وَهُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى تَطْهِيرِ أَهْلِهِ مُشِيرَةٌ إِلَيْهِ، وَمَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ أَنَّهُ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ فَمَسْجِدُ الرَّسُولِ أَوْلَى بِذَلِكَ وَأَحْرَى، وَأَثْبَتُ فِي الْفَضْلِ مِنْهُ وَأَقْوَى، وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ دَعَا مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُمِ وَمَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ - أَوْ أَخَاهُ عَاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَأَمَرَهُمَا أَنَّ يَذْهَبَا إِلَى هَذَا

الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ فَيُحَرِّقَاهُ بِالنَّارِ، فَذَهَبَا فَحَرَّقَاهُ بِالنَّارِ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَهْلُهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ الَّذِينَ بَنَوْهُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا وَهُمْ خِذَامُ بْنُ خَالِدٍ - وَفِي جَنْبِ دَارِهِ كَانَ بِنَاءُ هَذَا الْمَسْجِدِ - وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ وَأَبُو حَبِيبَةَ بْنُ الْأَزْعَرِ وَعَبَّادُ بْنُ حُنَيْفٍ أَخُو سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَجَارِيَةُ بْنُ عَامِرٍ وَابْنَاهُ مُجَمِّعٌ وَزَيْدٌ وَنَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ وَبَحْزَجٌ وَهُوَ إِلَى بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَبِجَادُ بْنُ عُثْمَانَ وَهُوَ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ وَهُوَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ.
قُلْتُ: وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ هَذِهِ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ صَلَاةَ الْفَجْرِ، أَدْرَكَ مَعَهُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ يَتَوَضَّأُ وَمَعَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَأَبْطَأَ عَلَى النَّاسِ، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَتَقَدَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَلَمَّا سَلَّمَ النَّاسُ أَعْظَمُوا مَا وَقَعَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَحْسَنْتُمْ وَأَصَبْتُمْ ". وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَائِلًا: حَدَّثَنَا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَدَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: " إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ؟ ! قَالَ: " وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ ". تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، حَتَّى إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: " هَذِهِ طَابَةُ، وَهَذَا أُحُدٌ ; جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: أَذْكُرُ أَنِّي خَرَجْتُ مَعَ الصِّبْيَانِ نَتَلَقَّى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ مُقْدَمَهُ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ سَمِعْتُ أَبَا خَلِيفَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَائِشَةَ يَقُولُ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، جَعَلَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْوَلَائِدُ يَقُلْنَ:
طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعْ وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا
مَا دَعَا لِلَّهِ دَاعْ
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا يَذْكُرُهُ عُلَمَاؤُنَا عِنْدَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ، لَا أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ عِنْدَ مَقْدَمِهِ مِنْ تَبُوكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَذَكَرْنَاهُ هَاهُنَا أَيْضًا.
قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ - قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ قِصَّةِ تَبُوكَ، قَالَ كَعْبٌ:لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حَتَّى تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا، كَانَ مِنْ خَبَرِي أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ، وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ، حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ، غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَمَفَازًا، وَعَدُوًّا كَثِيرًا، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ، لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ - يُرِيدُ الدِّيوَانَ - قَالَ كَعْبٌ: فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظَنَّ أَنْ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيُ اللَّهِ، وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ، وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، فَطَفِقْتُ

أَغْدُو ; لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ، فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا، فَقُلْتُ: أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ. فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لِأَتَجَهَّزَ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ - وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ - فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ، فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ فَطُفْتُ فِيهِمْ، أَحْزَنَنِي أَنِّي لَا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنِ الضُّعَفَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: " مَا فَعَلَ كَعْبٌ ؟ " فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ فِي عِطْفَيْهِ. فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلًا حَضَرَنِي هَمِّي، وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا ؟ وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا، زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ، وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ، فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، فَقَبِلَ

مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَانِيَتَهُمْ، وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَجِئْتُهُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ: " تَعَالَ ". فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: " مَا خَلَّفَكَ ؟ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ ؟ " فَقُلْتُ: بَلَى، إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، لَا وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّا هَذَا فَقَدَ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ ". فَقُمْتُ، وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا، وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ، وَقَدْ كَانَ كَافِيكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ. فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حَتَّى هَمَمْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ ؟ قَالُوا: نَعَمْ، رَجُلَانِ قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ، وَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لَكَ. فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا ؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعُمْرِيُّ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ. فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ

كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا، حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الْأَرْضُ، فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيَّ أَمْ لَا ؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ، وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ، مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ؟ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ. قَالَ: وَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِطَعَامٍ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ، فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا: وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلَاءِ، فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهَا حَتَّى إِذَا

مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الْخَمْسِينَ، إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينِي فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ. فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ ؟ قَالَ: لَا بَلِ اعْتَزِلْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا. وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَتَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ. قَالَ كَعْبٌ: فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدِمَهُ ؟ قَالَ: " لَا وَلَكِنْ لَا يَقْرَبْكِ ". قَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ، وَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا. فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ فِي امْرَأَتِكَ كَمَا أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدِمَهُ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ ! قَالَ: فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ، حَتَّى كَمَلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ كَلَامِنَا، فَلَمَّا صَلَّيْتُ الْفَجْرَ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ. فَخَرَرْتُ سَاجِدًا وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ، وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَسًا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ، فَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ، وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ

الْفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا بِبُشْرَاهُ، وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ يَقُولُونَ: لِيَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ. قَالَ كَعْبٌ: حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ وَلَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ. قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ: " أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ ". قَالَ: قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ؟ قَالَ: " لَا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ". وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ ". قُلْتُ فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَلَّا أَتَحَدَّثَ إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ. فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي، مَا تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيتُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلَى قَوْلِهِ: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ فَوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْتُهُ،

فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( التَّوْبَةِ: 95، 96 ) قَالَ كَعْبٌ: وَكُنَّا تَخَلَّفْنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّهُ فِيهِ، فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ( التَّوْبَةِ: 118 ). لَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفْنَا مِنَ الْغَزْوِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ بِنَحْوِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. عَنِ الزُّهْرِيِّ مِثْلَ سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ سُقْنَاهُ فِي " التَّفْسِيرِ " مِنْ " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ "، وَفِيهِ زِيَادَاتٌ يَسِيرَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

ذِكْرُ أَقْوَامٍ تَخَلَّفُوا مِنَ الْعُصَاةِ غَيْرِ هَؤُلَاءِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( التَّوْبَةِ: 102 ) قَالَ: كَانُوا عَشَرَةَ رَهْطٍ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَلَمَّا حَضَرَ رُجُوعُهُ أَوْثَقَ سَبْعَةٌ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِسَوَارِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ مَمَرُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَجَعَ مِنَ الْمَسْجِدِ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: " مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ " قَالُوا: أَبُو لُبَابَةَ وَأَصْحَابٌ لَهُ، تَخَلَّفُوا عَنْكَ حَتَّى تُطْلِقَهُمْ وَتَعْذُرَهُمْ قَالَ: " وَأَنَا أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَا أُطْلِقُهُمْ وَلَا أَعْذُرُهُمْ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ الَّذِي يُطْلِقُهُمْ، رَغِبُوا عَنِّي، وَتَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزْوِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ ". فَلَمَّا أَنْ بَلَغَهُمْ ذَلِكَ قَالُوا: وَنَحْنُ لَا نُطْلِقُ أَنْفُسَنَا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُطْلِقُنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ الْآيَةَ. " وَعَسَى " مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ فَأَطْلَقَهُمْ وَعَذَرَهُمْ فَجَاءُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ أَمْوَالُنَا فَتَصَدَّقْ بِهَا عَنَّا، وَاسْتَغْفِرْ لَنَا، فَقَالَ: " مَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ أَمْوَالَكُمْ ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِلَى قَوْلِهِ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ( التَّوْبَةِ: 103، 106 ). وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَرْبِطُوا أَنْفُسَهُمْ بِالسَّوَارِي فَأُرْجِئُوا حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلَى قَوْلِهِ: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا إِلَى آخِرِهَا ( التَّوْبَةِ: 117، 118 ). وَكَذَا رَوَاهُ عَطِيَّةُ بْنُ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمُجَاهِدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قِصَّةَ أَبِي لُبَابَةَ

وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَرَبْطِهِ نَفْسَهُ حَتَّى تِيبَ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَرَبَطَ نَفْسَهُ أَيْضًا حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَرَادَ أَنْ يَنْخَلِعَ مِنْ مَالِهِ كُلِّهِ صَدَقَةً فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ ". قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ: وَفِيهِ نَزَلَ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ الْآيَةَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: ثُمَّ لَمْ يُرَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا خَيْرٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
قُلْتُ: وَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ لَمْ يَذْكُرُوا مَعَهُ بَقِيَّةَ أَصْحَابِهِ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَالزَّعِيمِ لَهُمْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " إِنَّ مِنْكُمْ مُنَافِقِينَ فَمَنْ سَمَّيْتُ فَلْيَقُمْ قُمْ يَا فُلَانُ قُمْ يَا فُلَانُ قُمْ يَا فُلَانُ ". حَتَّى عَدَّ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ فِيكُمْ - أَوْ إِنَّ مِنْكُمْ - مُنَافِقِينَ فَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ ". قَالَ: فَمَرَّ عُمَرُ بِرَجُلٍ مُتَقَنِّعٍ وَقَدْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ ؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: بُعْدًا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمَ..
قُلْتُ: كَانَ الْمُتَخَلِّفُونَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ ; مَأْمُورُونَ مَأْجُورُونَ كَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَمَعْذُورُونَ وَهُمُ الضُّعَفَاءُ وَالْمَرْضَى وَالْمُقِلُّونَ وَهُمُ الْبَكَّاءُونَ، وَعُصَاةٌ مُذْنِبُونَ وَهُمُ الثَّلَاثَةُ وَأَبُو لُبَابَةَ وَأَصْحَابُهُ الْمَذْكُورُونَ، وَآخَرُونَ مَلُومُونَ مَذْمُومُونَ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ.

ذِكْرُ مَا كَانَ مِنَ الْحَوَادِثِ بَعْدَ رُجُوعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ تَبُوكَ.
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ إِمْلَاءً، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا أَبُو الْبَخْتَرِيِّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا عَمُّ أَبِي زَحْرُ بْنُ حِصْنٍ عَنْ جَدِّهِ حُمَيْدِ بْنِ مُنْهِبٍ قَالَ:سَمِعْتُ جَدِّي خُرَيْمَ بْنَ أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لَامٍ يَقُولُ: هَاجَرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْصَرَفَهُ مِنْ تَبُوكَ، فَسَمِعْتُ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَمْتَدِحَكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لَا يَفْضُضِ اللَّهُ فَاكَ. فَقَالَ:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الظِّلَالِ وَفِي مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الْوَرَقُ

ثُمَّ هَبَطْتَ الْبِلَادَ لَا بَشَرٌ
أَنْتَ وَلَا مُضْغَةٌ وَلَا عَلَقُ بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ
أَلْجَمَ نَسْرًا وَأهْلَهُ الْغَرَقُ تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِمٍ
إِذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ حَتَّى احْتَوَى بَيْتَكَ الْمُهَيْمِنُ مِنْ
خِنْدِفَ عَلْيَاءَ تَحْتَهَا النُّطُقُ وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْأَرْ
ضُ وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الْأُفُقُ فَنَحْنُ فِي ذَلِكَ الضِّيَاءِ وَفِي
النُّورِ وَسُبْلِ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ أَبِي السُّكَيْنِ زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الطَّائِيُّ وَهُوَ فِي جُزْءٍ لَهُ مَرْوِيٌّ عَنْهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَزَادَ: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذِهِ الْحِيرَةُ الْبَيْضَاءُ رُفِعَتْ لِي، وَهَذِهِ الشَّيْمَاءُ بِنْتُ بُقَيْلَةَ الْأَزْدِيَّةُ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ مُعْتَجِرَةٍ بِخِمَارٍ أَسْوَدَ ". فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ نَحْنُ دَخَلْنَا الْحِيرَةَ فَوَجَدْتُهَا كَمَا تَصِفُ فَهِيَ لِي ؟ قَالَ: " هِيَ لَكَ ". قَالَ: ثُمَّ كَانَتِ الرِّدَّةُ، فَمَا ارْتَدَّ أَحَدٌ مِنْ طَيِّئٍ، وَكُنَّا نُقَاتِلُ مَنْ يَلِينَا مِنَ الْعَرَبِ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَكُنَّا نُقَاتِلُ قَيْسًا وَفِيهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَكُنَّا نُقَاتِلُ بَنِي أَسَدٍ وَفِيهِمْ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ وَكَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَمْدَحُنَا، وَكَانَ فِيمَا قَالَ فِينَا:
جَزَى اللَّهُ عَنَّا طَيِّئًا فِي دِيَارِهَا بِمُعْتَرَكِ الْأَبْطَالِ خَيْرَ جَزَاءِ
هُمْ أَهْلُ رَايَاتِ السَّمَاحَةِ وَالنَّدَى إِذَا مَا الصَّبَا أَلْوَتْ بِكُلِّ خِبَاءِ

هُمْ ضَرَبُوا قَيْسًا عَلَى الدِّينِ بَعْدَمَا أَجَابُوا مُنَادِيَ ظُلْمَةٍ وَعَمَاءِ
قَالَ: ثُمَّ سَارَ خَالِدٌ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ فَسِرْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنْ مُسَيْلِمَةَ أَقْبَلْنَا إِلَى نَاحِيَةِ الْبَصْرَةِ، فَلَقِينَا هُرْمُزَ بِكَاظِمَةَ فِي جَيْشٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ جَمْعِنَا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَعْدَى لِلْعَرَبِ وَالْإِسْلَامِ مِنْ هُرْمُزَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ خَالِدٌ وَدَعَاهُ إِلَى الْبِرَازِ، فَبَرَزَ لَهُ فَقَتَلَهُ خَالِدٌ وَكَتَبَ بِخَبَرِهِ إِلَى الصِّدِّيقِ فَنَفَّلَهُ سَلَبَهُ، فَبَلَغَتْ قَلَنْسُوَةُ هُرْمُزَ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَانَتِ الْفُرْسُ إِذَا شَرُفَ فِيهَا الرَّجُلُ جَعَلَتْ قَلَنْسُوَتَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلْنَا عَلَى طَرِيقِ الطَّفِ إِلَى الْحِيرَةِ، فَأَوَّلُ مَنْ تَلَقَّانَا حِينَ دَخَلْنَاهَا الشَّيْمَاءُ بِنْتُ بُقَيْلَةَ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ مُعْتَجِرَةٍ بِخِمَارٍ أَسْوَدَ ". فَتَعَلَّقْتُ بِهَا وَقُلْتُ: هَذِهِ وَهَبَهَا لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَدَعَانِي خَالِدٌ عَلَيْهَا بِالْبَيِّنَ