: 32 //1.البداية والنهاية لعماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
......==قُطُزُ خَطَّهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقَدْ هَجَاهُ
بَهَاءُ الدِّينِ زُهَيْرُ بْنُ عَلِيٍّ، فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ صَاعِدًا وَأبَاهُ فَصَاعِدَا وَبَنِيهِ فَنَازِلَا وِاحِدًا ثُمَّ وَاحِدَا ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، وَقَدْ رَثَاهُ
الْقَاضِي نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الْمُنِيرِ، وَلَهُ فِيهِ مَدَائِحُ وَأَشْعَارٌ
حَسَنَةٌ يُقَرِّظُهُ بِهَا، فَصِيحَةٌ رَائِقَةٌ.
ابْنُ أَبِي الْحَدِيدِ الْعِرَاقِيُّ الشَّاعِرُ: عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ هِبَةِ
اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَبُو حَامِدِ بْنِ
أَبِي الْحَدِيدِ، عِزُّ الدِّينِ الْمَدَائِنِيُّ
الْكَاتِبُ الشَّاعِرُ الْمُطَبِّقُ الشِّيعِيُّ الْغَالِي، لَهُ شَرْحُ نَهْجِ
الْبَلَاغَةِ فِي عِشْرِينَ مُجَلَّدًا، وُلِدَ بِالْمَدَائِنِ سَنَةَ سِتٍّ
وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائَةٍ، ثُمَّ صَارَ إِلَى بَغْدَادَ فَكَانَ أَحَدَ
الْكُتَّابِ وَالشُّعَرَاءِ بِالدِّيوَانِ الْخَلِيفَتِيِّ، وَكَانَ حَظِيًّا
عِنْدَ الْوَزِيرِ ابْنِ الْعَلْقَمِيِّ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ
وَالْمُقَارَبَةِ وَالْمُشَابَهَةِ فِي التَّشَيُّعِ وَالْأَدَبِ وَالْفَضِيلَةِ،
وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ السَّاعِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ مَدَائِحِهِ وَأَشْعَارِهِ
الْفَائِقَةِ الرَّائِقَةِ، وَكَانَ أَكْثَرَ فَضِيلَةً وَأَدَبًا مِنْ أَخِيهِ
أَبِي الْمَعَالِي مُوَفَّقِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ
الْآخَرُ فَاضِلًا بَارِعًا أَيْضًا، وَقَدْ مَاتَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
الْمُشِدُّ الشَّاعِرُ، الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ
قَزَلَ
مُشِدُّ الدِّيوَانِ
بِدِمَشْقَ، وَكَانَ شَاعِرًا مُطَبِّقًا، لَهُ دِيوَانٌ
مَشْهُورٌ، وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ،
فَأَنْشَدَهُ:
نُقِلْتُ إِلَى رَمْسِ الْقُبُورِ وَضِيقِهَا وَخَوْفِي ذُنُوبِي أَنَّهَا بِي
تُعَثِّرُ
فَصَادَفْتُ رَحْمَانًا رَءُوفًا وَأَنْعُمًا حَبَانِي بِهَا نَفْيًا لِمَا كُنْتُ
أَحْذَرُ
وَمَنْ كَانَ حُسْنُ الظَّنِّ فِي حَالِ مَوْتِهِ جَمِيلًا بِعَفْوِ اللَّهِ فَالْعَفْوُ
أَجْدَرُ
بِشَارَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَرْمَنِيُّ الْأَصْلِ، بَدْرُ الدِّينِ
الْكَاتِبُ
مَوْلَى شِبْلِ الدَّوْلَةِ الْمُعَظَّمِيِّ، سَمِعَ الْكِنْدِيَّ وَغَيْرَهُ،
وَكَانَ يَكْتُبُ خَطًّا جَيِّدًا، وَأَسْنَدَ إِلَيْهِ مَوَّلَاهُ النَّظَرَ فِي
أَوْقَافِهِ، وَجَعَلَهُ فِي ذُرِّيَّتِهِ، فَهُمْ إِلَى الْآنَ يَنْظُرُونَ فِي
الشِّبْلِيِّينَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي النِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ.
الْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ
جَمَالُ الدِّينِ الْمِصْرِيُّ
نَابَ عَنْ أَبِيهِ، وَدَرَّسَ بِالشَّامِيَّةِ، وَلَهُ شِعْرٌ فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
صَيَّرْتُ فَمِي لِفِيهِ بِاللَّثْمِ لِثَامْ عَمْدًا وَرَشَفْتُ مِنْ ثَنَايَاهُ
مُدَامْ
فَازْوَرَّ وَقَالَ أَنْتَ فِي الْفِقْهِ إِمَامْ رِيقِي خَمْرٌ وَعِنْدَكَ
الْخَمْرُ حَرَامْ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا أَخَذَتِ التَّتَارُ بَغْدَادَ وَقَتَلُوا أَكْثَرَ أَهْلِهَا حَتَّى
الْخَلِيفَةَ، وَانْقَضَتْ دَوْلَةُ بَنِي الْعَبَّاسِ مِنْهَا.
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَجُنُودُ التَّتَارِ قَدْ نَازَلَتْ بَغْدَادَ
صُحْبَةَ الْأَمِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَى مُقَدِّمَةِ عَسَاكِرِ سُلْطَانِ
التَّتَارِ هُولَاكُوقَانَ، وَجَاءَتْ إِلَيْهِمْ أَمْدَادُ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ
يُسَاعِدُونَهُمْ عَلَى الْبَغَادِدَةِ وَمِيرَتُهُ وَهَدَايَاهُ وَتُحَفُهُ،
وَكُلُّ ذَلِكَ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنَ التَّتَارِ، وَمُصَانَعَةً لَهُمْ،
قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ سُتِرَتْ بَغْدَادُ، وَنُصِبَتْ فِيهَا
الْمَجَانِيقُ وَالْعَرَّادَاتُ وَغَيْرُهَا مِنْ آلَاتِ الْمُمَانَعَةِ الَّتِي
لَا تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَيْئًا، كَمَا وَرَدَ
فِي الْأَثَرِ: ( لَنْ يُغْنِيَ حَذَرٌ عَنْ قَدَرٍ ) وَكَمَا قَالَ تَعَالَى:
إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ [ نُوحٍ: 4 ] وَقَالَ تَعَالَى:
إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ
دُونِهِ مِنْ وَالٍ [ الرَّعْدِ: 11 ].
وَأَحَاطَ التَّتَارُ بِدَارِ الْخِلَافَةِ يَرْشُقُونَهَا بِالنُّشَّابِ مِنْ
كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى أُصِيبَتْ جَارِيَةٌ كَانَتْ تَلْعَبُ بَيْنَ يَدَيِ
الْخَلِيفَةِ وَتُضْحِكُهُ، وَكَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْحَظَايَا، وَكَانَتْ
مُوَلَّدَةً تُسَمَّى عَرَفَةَ،
جَاءَهَا سَهْمٌ مِنْ بَعْضِ الشَّبَابِيكِ فَقَتَلَهَا
وَهِيَ تَرْقُصُ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، فَانْزَعَجَ الْخَلِيفَةُ مِنْ
ذَلِكَ، وَفَزِعَ فَزَعًا شَدِيدًا، وَأَحْضَرَ السَّهْمَ الَّذِي أَصَابَهَا
بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِذَا عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِنْفَاذَ
قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ سَلَبَ ذَوِي الْعُقُولِ عُقُولَهُمْ. فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ
عِنْدَ ذَلِكَ بِزِيَادَةِ الِاحْتِرَازِ، وَكَثْرَةِ السَّتَائِرِ عَلَى دَارِ
الْخِلَافَةِ، وَكَانَ قُدُومُ هُولَاكُوقَانَ بِجُنُودِهِ كُلِّهَا - وَكَانُوا
نَحْوَ مِائَتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ - إِلَى بَغْدَادَ فِي ثَانِي عَشَرَ
الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ شَدِيدُ الْحَنَقِ عَلَى الْخَلِيفَةِ
بِسَبَبِ مَا كَانَ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ
وَأَنْفَذَهُ وَأَمْضَاهُ، وَهُوَ أَنَّ هُولَاكُوقَانَ لَمَّا كَانَ أَوَّلُ
بُرُوزِهِ مِنْ هَمَذَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْعِرَاقِ أَشَارَ الْوَزِيرُ
مُؤَيِّدُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلْقَمِيِّ عَلَى الْخَلِيفَةِ بِأَنْ
يَبْعَثَ إِلَيْهِ بِهَدَايَا سَنِيَّةٍ; لِيَكُونَ ذَلِكَ مُدَارَاةً لَهُ عَمَّا
يُرِيدُهُ مِنْ قَصْدِ بِلَادِهِمْ، فَخَذَّلَ الْخَلِيفَةَ عَنْ ذَلِكَ
دُوَيْدَارُهُ الصَّغِيرُ أَيْبَكُ وَغَيْرُهُ، وَقَالُوا: إِنَّ الْوَزِيرَ
إِنَّمَا يُرِيدُ بِهَذَا مُصَانَعَةَ مَلِكِ التَّتَارِ بِمَا يَبْعَثُهُ
إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَأَشَارُوا بِأَنْ يَبْعَثَ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ،
فَأَرْسَلَ شَيْئًا مِنَ الْهَدَايَا، فَاحْتَقَرَهَا هُولَاكُوقَانَ، وَأَرْسَلَ
إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ مِنْهُ دُوَيْدَارَهُ الْمَذْكُورَ، وَسُلَيْمَانَ
شَاهْ، فَلَمْ يَبْعَثْهُمَا إِلَيْهِ، وَلَا بَالَى بِهِ حَتَّى أَزِفَ
قُدُومُهُ، وَوَصَلَ بَغْدَادَ بِجُنُودِهِ الْكَثِيرَةِ الْكَافِرَةِ الْفَاجِرَةِ
الظَّالِمَةِ الْغَاشِمَةِ، مِمَّنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ
الْآخِرِ.
فَأَحَاطُوا بِبَغْدَادَ مِنْ نَاحِيَتِهَا الْغَرْبِيَّةِ وَالشَّرْقِيَّةِ،
وَجُنُودُ بَغْدَادَ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ وَنِهَايَةِ الذِّلَّةِ، لَا
يَبْلُغُونَ عَشَرَةَ آلَافِ فَارِسٍ، وَهُمْ فِي غَايَةِ
الضَّعْفِ، وَبَقِيَّةُ الْجَيْشِ كُلُّهُمْ قَدْ صُرِفُوا عَنْ إِقْطَاعَاتِهِمْ
حَتَّى اسْتَعْطَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي الْأَسْوَاقِ وَأَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ،
وَأَنْشَدَ فِيهِمُ الشُّعَرَاءُ الْقَصَائِدَ يَرْثُونَ لَهُمْ، وَيَحْزَنُونَ
عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ عَنْ آرَاءِ الْوَزِيرِ ابْنِ
الْعَلْقَمِيِّ الرَّافِضِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي السَّنَةِ
الْمَاضِيَةِ كَانَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالرَّافِضَةِ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ،
نُهِبَتْ فِيهَا الْكَرْخُ مَحَلَّةُ الرَّافِضَةِ، حَتَّى نُهِبَتْ دَوْرُ
قَرَابَاتِ الْوَزِيرِ، فَاشْتَدَّ حَنَقُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ هَذَا مِمَّا
أَهَاجَهُ عَلَى أَنْ دَبَّرَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ مَا وَقَعَ مِنَ
الْأَمْرِ الْفَظِيعِ الَّذِي لَمَّ يُؤَرَّخْ أَبْشَعُ مِنْهُ مُنْذُ بُنِيَتْ
بَغْدَادُ، وَإِلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُ مَنْ بَرَزَ
إِلَى التَّتَارِ هُوَ، فَخَرَجَ فِي أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَخَدَمِهِ
وَحَشَمِهِ، فَاجْتَمَعَ بِالسُّلْطَانِ هُولَاكُوقَانَ، لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى،
ثُمَّ عَادَ فَأَشَارَ عَلَى الْخَلِيفَةِ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِ وَالْمُثُولِ
بَيْنَ يَدَيْهِ لِتَقَعَ الْمُصَالَحَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ خَرَاجِ
الْعِرَاقِ لِهَمْ وَنِصْفُهُ لِلْخَلِيفَةِ، فَاحْتَاجَ الْخَلِيفَةُ إِلَى أَنْ
خَرَجَ فِي سَبْعِمِائَةِ رَاكِبٍ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ
وَرُءُوسِ الْأُمَرَاءِ وَالدَّوْلَةِ وَالْأَعْيَانِ، فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنْ
مَنْزِلِ السُّلْطَانِ هُولَاكُوقَانَ حُجِبُوا عَنِ الْخَلِيفَةِ إِلَّا سَبْعَةَ
عَشَرَ نَفَسًا، فَخَلَصَ الْخَلِيفَةُ بِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَأُنْزِلَ
الْبَاقُونَ عَنْ مَرَاكِبِهِمْ وَنُهِبَتْ، وَقُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ،
وَأُحْضِرَ الْخَلِيفَةُ بَيْنَ يَدَيْ هُولَاكُو فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ
كَثِيرَةٍ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ اضْطَرَبَ كَلَامُ الْخَلِيفَةِ مِنْ هَوْلِ مَا
رَأَى مِنَ الْإِهَانَةِ وَالْجَبَرُوتِ.
ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ وَفِي صُحْبَتِهِ خَوَاجَا نَصِيرٌ الطُّوسِيُّ،
لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَالْوَزِيرُ ابْنُ الْعَلْقَمِيِّ وَغَيْرُهُمَا،
وَالْخَلِيفَةُ تَحْتَ الْحَوْطَةِ وَالْمُصَادَرَةِ، فَأَحْضَرَ مِنْ دَارِ
الْخِلَافَةِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْحُلِيِّ وَالْمَصَاغِ
وَالْجَوَاهِرِ وَالْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ، وَقَدْ أَشَارَ أُولَئِكَ الْمَلَأُ
مِنَ الرَّافِضَةِ، لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ
الْمُنَافِقِينَ عَلَى
هُولَاكُوقَانَ أَنْ لَا يُصَالِحَ الْخَلِيفَةَ، وَقَالَ
الْوَزِيرُ: مَتَى وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى الْمُنَاصَفَةِ لَا يَسْتَمِرُّ هَذَا
إِلَّا عَامًا أَوْ عَامَيْنِ، ثُمَّ يَعُودُ الْأَمْرُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ
قَبْلَ ذَلِكَ. وَحَسَّنُوا لَهُ قَتْلَ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا عَادَ
الْخَلِيفَةُ إِلَى السُّلْطَانِ هُولَاكُو أَمْرَ بِقَتْلِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّ
الَّذِي أَشَارَ بِقَتْلِهِ الْوَزِيرُ ابْنُ الْعَلْقَمِيِّ وَالنَّصِيرُ
الطُّوسِيُّ. وَكَانَ النَّصِيرُ عِنْدَ هُولَاكُو قَدِ اسْتَصْحَبَهُ فِي
خِدْمَتِهِ لَمَّا فَتَحَ قِلَاعَ الْأَلْمُوتِ وَانْتَزَعَهَا مِنْ أَيْدِي
الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، وَكَانَ النَّصِيرُ وَزِيرًا لِشَمْسِ الشُّمُوسِ،
وَلِأَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ جَلَالِ الدِّينِ، وَكَانُوا
يَنْتَسِبُونَ إِلَى نِزَارِ بْنِ الْمُسْتَنْصِرِ الْعُبَيْدِيِّ، وَانْتَخَبَ
هُولَاكُوقَانَ النَّصِيرَ لِيَكُونَ فِي خِدْمَتِهِ كَالْوَزِيرِ الْمُشِيرِ،
فَلَمَّا قَدِمَ هُولَاكُوقَانَ وَتَهَيَّبَ مِنْ قَتْلِ الْخَلِيفَةِ هَوَّنَ
عَلَيْهِ الْوَزِيرَانِ ذَلِكَ، فَقَتَلُوهُ رَفْسًا وَهُوَ فِي جُوَالِقَ، لِئَلَّا
يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ شَيْءٌ مِنْ دَمِهِ، خَافُوا أَنْ يُؤْخَذَ بِثَأْرِهِ
فِيمَا قِيلَ لَهُمْ، وَقِيلَ: بَلْ خُنِقَ. وَيُقَالُ: غُرِّقَ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ. فَبَاءُوا بِإِثْمِهِ وَإِثْمِ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ سَادَاتِ
الْعُلَمَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْأَكَابِرِ وَالرُّؤَسَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَأُولِي
الْحَلِّ وَالْعَقْدِ بِبِلَادِ بَغْدَادَ - وَسَتَأْتِي تَرْجَمَةُ الْخَلِيفَةِ
فِي الْوَفَيَاتِ - وَمَالُوا عَلَى الْبَلَدِ، فَقَتَلُوا جَمِيعَ مَنْ قَدَرُوا
عَلَيْهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَالْمَشَايِخِ
وَالْكُهُولِ وَالشُّبَّانِ.
وَدَخَلَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الْآبَارِ وَأَمَاكِنِ الْحُشُوشِ، وَقُنِيِّ
الْوَسَخِ، وَكَمَنُوا كَذَلِكَ أَيَّامًا لَا يَظْهَرُونَ، وَكَانَ الْفِئَامُ
مِنَ النَّاسِ يَجْتَمِعُونَ فِي الْخَانَاتِ، وَيُغْلِقُونَ عَلَيْهِمُ
الْأَبْوَابَ، فَتَفْتَحُهَا التَّتَارُ إِمَّا بِالْكَسْرِ أَوْ بِالنَّارِ،
ثُمَّ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ فَيَهْرُبُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَعَالِي الْمَكَانِ،
فَيَقْتُلُونَهُمْ فِي الْأَسْطِحَةِ، حَتَّى تَجْرِيَ الْمَيَازِيبُ مِنَ
الدِّمَاءِ فِي
الْأَزِقَّةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ وَالرُّبَطِ، وَلَمْ
يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ سِوَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى،
وَمَنِ الْتَجَأَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى دَارِ الْوَزِيرِ ابْنِ الْعَلْقَمِيِّ
الرَّافِضِيِّ، وَطَائِفَةٍ مِنَ التُّجَّارِ أَخَذُوا لَهُمْ أَمَانًا بَذَلُوا
عَلَيْهِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً حَتَّى سَلِمُوا وَسَلِمَتْ أَمْوَالُهُمْ.
وَعَادَتْ بَغْدَادُ بَعْدَمَا كَانَتْ آنَسَ الْمُدُنِ كُلِّهَا كَأَنَّهَا
خَرَابٌ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ، وَهُمْ فِي خَوْفٍ
وَجُوعٍ وَذِلَّةٍ وَقِلَّةٍ. وَكَانَ الْوَزِيرُ ابْنُ الْعَلْقَمِيِّ قَبْلَ
هَذِهِ الْحَادِثَةِ يَجْتَهِدُ فِي صَرْفِ الْجُيُوشِ وَإِسْقَاطِ أَسْهُمِهِمْ
مِنَ الدِّيوَانِ، فَكَانَتِ الْعَسَاكِرُ فِي آخِرِ أَيَّامِ الْمُسْتَنْصِرِ
قَرِيبًا مِنْ مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، مِنْهُمْ مَنَ الْأُمَرَاءِ مَنْ هُوَ
كَالْمُلُوكِ الْأَكَابِرِ، فَلَمْ يَزَلْ يَجْتَهِدُ فِي تَقْلِيلِهِمْ إِلَى
أَنْ لَمْ يَبْقَ إِلَّا عَشَرَةُ آلَافٍ، ثُمَّ كَاتَبَ التَّتَارَ،
وَأَطْمَعَهُمْ فِي أَخْذِ الْبِلَادِ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَجَلَّى
لَهُمْ حَقِيقَةَ الْحَالِ، وَكَشَفَ لَهُمْ ضَعْفَ الرِّجَالِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ
طَمَعًا مِنْهُ أَنْ يُزِيلَ السُّنَّةَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنْ يُظْهِرَ
الْبِدْعَةَ الرَّافِضِيَّةَ، وَأَنْ يُقِيمَ خَلِيفَةً مَنَ الْفَاطِمِيِّينَ،
وَأَنْ يُبِيدَ الْعُلَمَاءَ وَالْمُفْتِينَ، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ،
وَقَدْ رَدَّ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ، وَأَذَلَّهُ بَعْدَ الْعِزَّةِ الْقَعْسَاءِ،
وَجَعَلَهُ حُوشْكَاشًا لِلتَّتَارِ بَعْدَمَا كَانَ وَزِيرًا لِلْخُلَفَاءِ،
وَاكْتَسَبَ إِثْمَ مَنْ قُتِلَ بِمَدِينَةِ بَغْدَادَ مِنَ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ رَبِّ
الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ.
وَقَدْ جَرَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ قَرِيبٌ مِمَّا جَرَى
عَلَى أَهْلِ بَغْدَادَ، كَمَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا ذَلِكَ فِي
كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، حَيْثُ يَقُولُ: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي
الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي
بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا [
الْإِسْرَاءِ: 4، 5 ] الْآيَاتُ.
وَقَدْ قُتِلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَلْقٌ مِنَ
الصُّلَحَاءِ، وَأُسَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ، وَخُرِّبَ
بَيْتُ الْمَقْدِسِ بَعْدَمَا كَانَ مَعْمُورًا بِالْعُبَّادِ وَالزُّهَّادِ
وَالْأَحْبَارِ وَالْأَنْبِيَاءِ، فَصَارَ خَاوِيًا عَلَى عُرُوشِهِ، وَاهِيَ
الْبِنَاءِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كَمِّيَّةِ مَنْ قُتِلَ بِبَغْدَادَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، فَقِيلَ: ثَمَانُمِائَةِ أَلْفٍ، وَقِيلَ: أَلْفُ أَلْفٍ
وَثَمَانُمِائَةِ أَلْفٍ. وَقِيلَ: بَلَغَتِ الْقَتْلَى أَلْفَيْ أَلْفِ نَفْسٍ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا
بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
وَكَانَ دُخُولُهُمْ إِلَى بَغْدَادَ فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ، وَمَا زَالَ
السَّيْفُ يَقْتُلُ أَهْلَهَا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَكَانَ قَتْلُ الْخَلِيفَةِ
الْمُسْتَعْصِمِ بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ
عَشَرَ صَفَرٍ، وَعَفَا قَبْرُهُ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمئِذٍ سِتًّا
وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَمُدَّةُ خِلَافَتِهِ خَمْسَ
عَشْرَةَ سَنَةً وَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ وَأَيَّامٌ، وَقُتِلَ مَعَهُ وَلَدُهُ الْأَكْبَرُ
أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ، وَلَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، ثُمَّ قُتِلَ
وَلَدُهُ الْأَوْسَطُ أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَلَهُ ثَلَاثٌ
وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَأُسِرَ وَلَدُهُ الْأَصْغَرُ مُبَارَكٌ، وَأَسِرَتْ
أَخَوَاتُهُ الثَّلَاثُ; فَاطِمَةُ وَخَدِيجَةُ وَمَرْيَمُ، وَأُسِرَ مِنْ دَارِ
الْخِلَافَةِ مِنَ الْأَبْكَارِ مَا يُقَارِبُ أَلْفَ بِكْرٍ فِيمَا قِيلَ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَقُتِلَ أُسْتَاذُ دَارِ الْخِلَافَةِ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ
الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ
بْنِ الْجَوْزِيِّ، وَكَانَ عَدُوَّ الْوَزِيرِ، وَقُتِلَ
أَوْلَادُهُ الثَّلَاثَةُ; عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ
الْكَرِيمِ، وَأَكَابِرُ الدَّوْلَةِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، مِنْهُمُ
الدُّوَيْدَارُ الصَّغِيرُ مُجَاهِدُ الدِّينِ أَيْبَكُ، وَشِهَابُ الدِّينِ
سُلَيْمَانُ شَاهْ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ السُّنَّةِ وَأَكَابِرِ الْبَلَدِ.
وَكَانَ الرَّجُلُ يُسْتَدْعَى بِهِ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ مِنْ بَنِي
الْعَبَّاسِ، فَيَخْرُجُ بِأَوْلَادِهِ وَنِسَائِهِ وَجَوَارِيهِ، فَيُذْهَبُ بِهِ
إِلَى مَقْبَرَةِ الْخَلَّالِ، تُجَاهَ الْمَنْظَرَةِ، فَيُذْبَحُ كَمَا تُذْبَحُ
الشَّاةُ، وَيُؤْسَرُ مَنْ يَخْتَارُونَ مِنْ بَنَاتِهِ وَجَوَارِيهِ.
وَقُتِلَ شَيْخُ الشُّيُوخِ مُؤَدِّبُ الْخَلِيفَةِ صَدْرُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ
النَّيَّارِ، وَقُتِلَ الْخُطَبَاءُ وَالْأَئِمَّةُ، وَحَمَلَةُ الْقُرْآنِ،
وَتَعَطَّلَتِ الْمَسَاجِدُ وَالْجَمَاعَاتُ وَالْجُمُعَاتُ مُدَّةَ شُهُورٍ
بِبَغْدَادَ، وَأَرَادَ الْوَزِيرُ ابْنُ الْعَلْقَمِيِّ، قَبَّحَهُ اللَّهُ
وَلَعَنَهُ، أَنْ يُعَطِّلَ الْمَسَاجِدَ وَالْمَدَارِسَ وَالرُّبَطَ بِبَغْدَادَ،
وَيَسْتَمِرَّ بِالْمَشَاهِدِ وَمَحَالِّ الرَّفْضِ، وَأَنْ يَبْنِيَ
لِلرَّافِضَةِ مَدْرَسَةً هَائِلَةً يَنْشُرُونَ عِلْمَهُمْ وَعَلَمَهُمْ بِهَا
وَعَلَيْهَا، فَلَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، بَلْ أَزَالَ
نِعْمَتَهُ عَنْهُ، وَقَصَفَ عُمْرَهُ بَعْدَ شُهُورٍ يَسِيرَةٍ مِنْ هَذِهِ
الْحَادِثَةِ، وَأَتْبَعَهُ بِوَلَدِهِ فَاجْتَمَعَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -
بِالدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.
وَلَمَّا انْقَضَى أَمَدُ الْأَمْرِ الْمَقْدُورِ، وَانْقَضَتِ الْأَرْبَعُونَ
يَوْمًا بَقِيَتْ بَغْدَادُ خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا، لَيْسَ بِهَا أَحَدٌ
إِلَّا الشَّاذُّ مِنَ النَّاسِ، وَالْقَتْلَى فِي الطُّرُقَاتِ كَأَنَّهَا
التُّلُولُ، وَقَدْ سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرُ، فَتَغَيَّرَتْ صُوَرُهُمْ،
وَأَنْتَنَتِ الْبَلَدُ مِنْ جِيَفِهِمْ، وَتَغَيَّرَ الْهَوَاءُ، فَحَصَلَ
بِسَبَبِهِ الْوَبَاءُ الشَّدِيدُ، حَتَّى تَعَدَّى وَسَرَى فِي الْهَوَاءِ إِلَى
بِلَادِ الشَّامِ، فَمَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ تَغَيُّرِ الْجَوِّ وَفَسَادِ
الرِّيحِ، فَاجْتَمَعَ عَلَى النَّاسِ الْغَلَاءُ وَالْوَبَاءُ وَالْفِنَاءُ
وَالطَّعْنُ وَالطَّاعُونُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَلَمَّا نُودِيَ بِبَغْدَادَ بِالْأَمَانِ خَرَجَ مَنْ كَانَ تَحْتِ الْأَرْضِ
بِالْمَطَامِيرِ وَالْقُنِيِّ
وَالْمَغَايِرِ كَأَنَّهُمُ الْمَوْتَى إِذَا نُبِشُوا مِنْ
قُبُورِهِمْ، وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَا يَعْرِفُ الْوَالِدُ
وَلَدَهُ، وَلَا الْأَخُ أَخَاهُ، وَأَخَذَهُمُ الْوَبَاءُ الشَّدِيدُ،
فَتَفَانَوْا وَلَحِقُوا بِمَنْ سَلَفَ مِنَ الْقَتْلَى، وَاجْتَمَعُوا فِي
الْبِلَى تَحْتَ الثَّرَى، بِأَمْرِ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، اللَّهُ
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى.
وَكَانَ رَحِيلُ السُّلْطَانِ الْمُسَلَّطِ هُولَاكُوقَانَ عَنْ بَغْدَادَ فِي
جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى مَقَرِّ مُلْكِهِ، وَفَوَّضَ أَمْرَ
بَغْدَادَ إِلَى الْأَمِيرِ عَلَيٍّ بَهَادُرَ، فَوَّضَ إِلَيْهِ الشِّحْنَكِيَّةَ
بِهَا وَإِلَى الْوَزِيرِ مُؤَيِّدِ الدِّينِ بْنِ الْعَلْقَمِيِّ، فَلَمْ
يُمْهِلْهُ اللَّهُ وَلَا أَهْمَلَهُ بَعْدُ، بَلْ أَخَذَهُ أَخْذَ عَزِيزٍ
مُقْتَدِرٍ، فِي مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْآخِرَةِ عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً،
وَكَانَ عِنْدَهُ فَضِيلَةٌ فِي الْإِنْشَاءِ، وَلَدَيْهِ فَضِيلَةٌ فِي
الْأَدَبِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ شِيعِيًّا جَلْدًا خَبِيثًا رَافِضِيًّا، فَمَاتَ
كَمَدًا وَغَمًّا وَحُزْنًا وَنَدَمًا، إِلَى حَيْثُ أَلْقَتْ رَحْلَهَا أُمُّ
قَشْعَمٍ، فَوَلِيَ بَعْدَهُ الْوِزَارَةَ وَلَدُهُ عِزُّ الدِّينِ أَبُو
الْفَضْلِ مُحَمَّدٌ، فَأَلْحَقَهُ اللَّهُ بِأَبِيهِ فِي بَقِيَّةِ هَذَا
الْعَامِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَذَكَرَ أَبُو شَامَةَ وَشَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ وَقُطْبُ
الدِّينِ الْيُونِينِيُّ، أَنَّهُ أَصَابَ النَّاسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
بِالشَّامِ وَبَاءٌ شَدِيدٌ، وَذَكَرُوا أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ
الْهَوَاءِ وَالْجَوِّ، فَسَدَ مِنْ كَثْرَةِ الْقَتْلَى
بِبِلَادِ الْعِرَاقِ، وَانْتَشَرَ حَتَّى تَعَدَّى إِلَى بِلَادِ الشَّامِ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اقْتَتَلَ الْمِصْرِيُّونَ مَعَ صَاحِبِ الْكَرَكِ
الْمَلِكِ الْمُغِيثِ عُمَرَ بْنِ الْعَادِلِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَادِلِ
الْكَبِيرِ، وَكَانَ فِي جَيْشِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْبَحْرِيَّةِ،
مِنْهُمْ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ الْبُنْدُقْدَارِيُّ، فَكَسَرَهُمُ
الْمِصْرِيُّونَ، وَنَهَبُوا مَا كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْأَثْقَالِ
وَالْأَمْوَالِ، وَأَسَرُوا جَمَاعَةً مِنْ رُءُوسِ الْأُمَرَاءِ، فَقُتِلُوا
صَبْرًا، وَعَادُوا إِلَى الْكَرَكِ فِي أَسْوَأِ حَالَةٍ وَأَشْنَعِهَا،
وَجَعَلُوا يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَعِيثُونَ فِي الْبِلَادِ، فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِمُ النَّاصِرُ صَاحِبُ دِمَشْقَ جَيْشًا لِيَكُفَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ،
فَكَسَرَهُمُ الْبَحْرِيَّةُ، وَاسْتَنْصَرُوا فَبَرَزَ إِلَيْهِمُ النَّاصِرُ
بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، وَقَطَعُوا أَطْنَابَ خَيْمَتِهِ
الَّتِي هُوَ فِيهَا بِإِشَارَةِ رُكْنِ الدِّينِ بِيبَرْسَ الْمَذْكُورِ،
وَجَرَتْ حُرُوبٌ وَخُطُوبٌ يَطُولُ بَسْطُهَا، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ:
خَلِيفَةُ الْوَقْتِ الْمُسْتَعْصِمُ بِاللَّهِ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ آخِرُ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ بِالْعِرَاقِ، وَهُوَ
أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَنْصِرِ
بِاللَّهِ أَبِي جَعْفَرٍ مَنْصُورِ بْنِ الظَّاهِرِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي
نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ
بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي مُحَمَّدٍ
الْحَسَنِ بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
الْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ أَبِي الْمُظَفَّرِ يُوسُفَ بْنِ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدِ بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ أَبِي
الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْأَمِيرِ الذَّخِيرَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَادِرِ
بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَمِيرِ إِسْحَاقَ بْنِ
الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ أَبِي الْفَضْلِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ
أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَمِيرِ الْمُوَفَّقِ أَبِي أَحْمَدَ طَلْحَةَ
بْنِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ أَبِي الْفَضْلِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ
بِاللَّهِ أَبِي إِسْحَاقَ مُحَمَّدِ بْنِ الرَّشِيدِ أَبِي مُحَمَّدٍ هَارُونَ
بْنِ الْمَهْدِيِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَنْصُورِ أَبِي
جَعْفَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ الْهَاشِمِيِّ الْعَبَّاسِيِّ،
مَوْلِدُهِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّمِائَةٍ، وَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ فِي
الْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَكَانَ مَقْتَلُهُ فِي
يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، فَيَكُونُ عُمْرُهُ يَوْمَ قُتِلَ سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ كَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، حَسَنَ الصُّورَةِ، جَيِّدَ السِّيرَةِ
صَحِيحَ السَّرِيرَةِ، صَحِيحَ الْعَقِيدَةِ، مُقْتَدِيًا بِأَبِيهِ
الْمُسْتَنْصِرِ فِي الْمَعْدَلَةِ وَكَثْرَةِ الصَّدَقَاتِ وَإِكْرَامِ
الْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ، وَقَدِ اسْتَجَازَ لَهُ الْحَافِظُ ابْنُ النَّجَّارِ
مِنْ مَشَايِخِ خُرَاسَانَ، مِنْهُمُ الْمُؤَيَّدُ الطُّوسِيُّ، وَأَبُو رَوْحٍ
عَبْدُ الْمُعِزِّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الْقَاسِمُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّفَّارِ وَغَيْرُهُمْ، وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ
مِنْهُمْ مُؤَدِّبُهُ شَيْخُ الشُّيُوخِ صَدَرُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النَّيَّارِ، وَأَجَازَ هُوَ لِلْإِمَامِ مُحْيِي الدِّينِ
بْنِ الْجَوْزِيِّ، وَلِلشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ الْبَاذَرَائِيِّ، وَحَدَّثَا
عَنْهُ بِهَذِهِ الْإِجَازَةِ.
وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ سُنِّيًّا عَلَى طَرِيقَةِ
السَّلَفِ وَاعْتِقَادِ الْجَمَاعَةِ كَمَا كَانَ أَبُوهُ وَجَدُّهُ، وَلَكِنْ
كَانَ فِيهِ لِينٌ وَعَدَمُ تَيَقُّظٍ وَمَحَبَّةٌ لِلْمَالِ وَجَمْعِهِ، وَمِنْ
جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّهُ غَلَّ الْوَدِيعَةَ الَّتِي اسْتَوْدَعَهُ إِيَّاهَا
النَّاصِرُ دَاوُدُ بْنُ الْمُعَظَّمِ، وَكَانَتْ قِيمَتُهَا نَحْوًا مِنْ مِائَةِ
أَلْفِ دِينَارٍ، فَاسْتُقْبِحَ هَذَا مِنْ مِثْلِ الْخَلِيفَةِ، وَهُوَ
مُسْتَقْبَحٌ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ بِكَثِيرٍ; بَلْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ
إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا
دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا [ آلِ عِمْرَانَ: 75 ].
قَتَلَتْهُ التَّتَارُ مَظْلُومًا مُضْطَهَدًا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ
عَشَرَ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ سِتَّةٌ
وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ
خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، فَرَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَبَلَّ بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ. وَقَدْ قُتِلَ بَعْدَهُ
وَلَدَاهُ، وَأُسِرَ الثَّالِثُ مَعَ بَنَاتٍ ثَلَاثٍ مِنْ صُلْبِهِ، وَشَغَرَ
مَنْصِبُ الْخِلَافَةِ بَعْدَهُ، وَلَمْ يَبْقَ فِي بَنِي الْعَبَّاسِ مَنْ سَدَّ
مَسَدَّهُ، فَكَانَ آخَرَ الْخُلَفَاءِ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ الْحَاكِمِينَ
بِالْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ يُرْتَجَى مِنْهُمُ النَّوَالُ وَيُخْشَى
مِنْهُمُ الْبَاسُ، وَخُتِمُوا بِعَبْدِ اللَّهِ الْمُسْتَعْصِمِ، كَمَا
افْتُتِحُوا بِعَبْدِ اللَّهِ السَّفَّاحِ، وَكَانَ عِدَّةُ خُلَفَاءِ بَنِي
الْعَبَّاسِ إِلَى الْمُسْتَعْصِمِ سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ خَلِيفَةً، فَكَانَ
أَوَّلُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ السَّفَّاحُ، بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ، وَظَهَرَ
مُلْكُهُ وَأَمْرُهُ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، بَعْدَ
انْقِضَاءِ دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَآخِرُهُمْ
عَبْدُ اللَّهِ الْمُسْتَعْصِمُ، وَقَدْ زَالَ مُلْكُهُ، وَانْقَضَتْ خِلَافَتُهُ
فِي هَذَا الْعَامِ، فَجُمْلَةُ أَيَّامِهِمْ خَمْسُمِائَةُ سَنَةٍ وَأَرْبَعٌ
وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَزَالَتْ يَدُهُمْ عَنِ الْعِرَاقِ وَالْحُكْمِ
بِالْكُلِّيَّةِ مُدَّةَ سَنَةٍ وَشُهُورٍ فِي أَيَّامِ الْبَسَاسِيرِيِّ بَعْدَ
الْخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، ثُمَّ عَادَتْ
كَمَا كَانَتْ. وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ فِي
أَيَّامِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَمْ تَكُنْ أَيْدِي بَنِي الْعَبَّاسِ حَاكِمَةً عَلَى جَمِيعِ الْبِلَادِ
كَمَا كَانَتْ بَنُو أُمِّيَّةَ قَاهِرَةً لِجَمِيعِ الْبِلَادِ وَالْأَقْطَارِ
وَالْأَمْصَارِ، فَإِنَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ بَنِي الْعَبَّاسِ بِلَادُ
الْمَغْرِبِ، مَلَكَهَا فِي أَوَائِلِ الْأَمْرِ بَعْضُ بَنِي أُمِّيَّةَ مِمَّنْ
بَقِيَ مِنْهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامِ
بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ تَغَلَّبَ عَلَيْهِ الْمُلُوكُ بَعْدَ دُهُورٍ
مُتَطَاوِلَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَارَنَ بَنِي الْعَبَّاسِ دَوْلَةُ
الْمُدَّعِينَ أَنَّهُمْ مِنَ الْفَاطِمِيِّينَ بِبِلَادِ مِصْرَ وَبَعْضِ بِلَادِ
الْمَغْرِبِ وَمَا هُنَالِكَ، وَبِلَادِ الشَّامِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ
وَالْحَرَمَيْنِ فِي أَزْمَانَ طَوِيلَةٍ.
وَاسْتَمَرَّتْ دَوْلَةُ الْفَاطِمِيِّينَ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ
حَتَّى كَانَ آخِرُهُمُ الْعَاضِدُ الَّذِي مَاتَ بَعْدَ السِّتِّينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ فِي الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ النَّاصِرِيَّةِ
الْمَقْدِسِيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَانَتْ عِدَّةُ مُلُوكِ الْفَاطِمِيِّينَ
أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَلِكًا مُتَخَلِّفًا، وَمُدَّةُ مُلْكِهِمْ تَحْرِيرًا مِنْ
سَنَةِ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ الْعَاضِدُ سَنَةَ
بِضْعٍ وسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَالْعَجَبُ أَنَّ خِلَافَةَ النُّبُوَّةِ
التَّالِيَةِ لِزَمَانِ رَسُولِ اللِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَتْ ثَلَاثِينَ سَنَةً، كَمَا نَطَقَ بِهَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، فَكَانَ
فِيهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ، ثُمَّ ابْنُهُ
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ حَتَّى كَمَلَتْ بِهَا الثَّلَاثُونَ،
كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ كَانَتْ مُلْكًا،
فَكَانَ أَوَّلَ مُلُوكِ الْإِسْلَامِ مِنْ بَنِي أَبِي سُفْيَانَ مُعَاوِيَةُ
بْنُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمِّيَّةَ، ثُمَّ ابْنُهُ يَزِيدُ،
ثُمَّ
ابْنُ ابْنِهِ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ،
وَانْقَرَضَ هَذَا الْبَطْنُ الْمُفْتَتَحُ بِمُعَاوِيَةَ، الْمُخْتَتَمُ
بِمُعَاوِيَةَ، ثُمَّ مَلَكَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ
أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ، ثُمَّ ابْنُهُ
عَبْدُ الْمَلِكِ، ثُمَّ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ أَخُوهُ
سُلَيْمَانُ، ثُمَّ ابْنُ عَمِّهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ يَزِيدُ
بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ ثُمَّ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ الْوَلِيدُ
بْنُ يَزِيدَ، ثُمَّ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ، ثُمَّ أَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ
النَّاقِصُ، وَهُوَ ابْنُ الْوَلِيدِ أَيْضًا، ثُمَّ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْمُلَقَّبُ بِالْحِمَارِ، وَكَانَ آخِرَهُمْ فَكَانَ أَوَّلُهُمُ اسْمُهُ
مَرْوَانُ وَآخِرُهُمُ اسْمُهُ مَرْوَانُ، وَكَانَ أَوَّلَ خُلَفَاءِ بَنِي
الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ آخِرَهُمُ
الْمُسْتَعْصِمُ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، كَذَلِكَ أَوَّلُ خُلَفَاءِ
الْفَاطِمِيِّينَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ الْمَهْدِيُّ، وَآخِرُهُمْ عَبْدُ
اللَّهِ الْعَاضِدُ، وَهَذَا اتِّفَاقٌ غَرِيبٌ جِدًّا، قَلَّ مَنْ يَتَنَبَّهُ
لَهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَهَذِهِ أُرْجُوزَةٌ لِبَعْضِ الْفُضَلَاءِ انْتَظَمَ فِيهَا ذِكْرَ جَمِيعِ
الْخُلَفَاءِ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَظِيمِ عُرْشُهُ الْقَاهِرِ الْفَرْدِ الْقَوِيِّ بَطْشُهُ
مُقَلِّبِ الْأَيَّامِ وَالدُّهُورِ
وَجَامِعِ الْأَنَامِ لِلنُّشُورِ ثُمَّ الصَّلَاةُ بِدَوَامِ الْأَبَدِ
عَلَى النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى مُحَمَّدِ وَآَلِهِ وَصَحْبِهِ الْكِرَامِ
السَّادَةِ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ وَبَعْدَ هَذَا هَذِهِ أُرْجُوزَهْ
نَظَمْتُهَا لَطِيفَةٌ وَجِيزَهْ نَظَمْتُ فِيهَا الرَّاشِدِينَ الْخُلَفَا
مَنْ قَامَ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى
وَمَنْ تَلَاهُمْ وَهَلُمَّ جَرَّا
جَعَلْتُهَا تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِيَعْلَمَ الْعَاقِلُ ذُو التَّصْوِيرِ
كَيْفَ جَرَتْ حَوَادِثُ الْأُمُورِ وَكُلُّ ذِي مَقْدِرَةٍ وَمُلْكِ
مُعَرَّضُونَ لِلْفَنَا وَالْهُلْكِ وَفِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
تَبْصِرَةٌ لِكُلِّ ذِي اعْتِبَارِ وَالْمُلْكُ لِلْجَبَّارِ فِي بِلَادِهِ
يُورِثُهُ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَلِلْفَنَاءِ
وَكُلُّ مُلْكٍ فَإِلَى انْتِهَاءِ وَلَا يَدُومُ غَيْرُ مُلْكِ الْبَارِي
سُبْحَانَهُ مِنْ مَلِكٍ قَهَّارِ مُنْفَرِدٍ بِالْعِزِّ وَالْبَقَاءِ
وَمَا سِوَاهُ فَإِلَى انْقِضَاءِ أَوَّلُ مَنْ بُويِعَ بِالْخِلَافَهْ
بَعْدَ النَّبِيِّ ابْنُ أَبِي قُحَافَهْ أَعْنِي الْإِمَامَ الْعَادِلَ
الصِّدِّيقَا
ثُمَّ ارْتَضَى مِنْ بَعْدِهِ الْفَارُوقَا فَفَتَحَ الْبِلَادَ
وَاسْتَأْصَلَتْ سُيُوفُهُ الْكُفَّارَا وَقَامَ بِالْعَدْلِ قِيَامًا يُرْضِي
بِذَاكَ جَبَّارَ السَّمَا وَالْأَرْضِ وَرَضِيَ النَّاسُ بِذِي النُّورَيْنِ
ثُمَّ عَلِيٍّ وَالِدِ السِّبْطَيْنِ ثُمَّ أَتَتْ كَتَائِبٌ مَعَ الْحَسَنْ
كَادُوا بِأَنْ يُجَدِّدُوا بِهَا الْفِتَنْ فَأَصْلَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ
كَمَا عَزَا نَبِيُّنَا إِلَيْهِ وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى مُعَاوِيَهْ
وَنَقَلَ الْقِصَّةَ كُلُّ رَاوِيَهْ. فَمَهَّدَ الْمُلْكَ كَمَا يُرِيدُ
وَقَامَ فِيهِ بَعْدَهُ يَزِيدُ ثُمَّ ابْنُهُ وَكَانَ بَرًّا رَاشِدَا
أَعْنِي أَبَا لَيْلَى وَكَانَ زَاهِدَا
فَتَرَكَ الْإِمْرَةَ لَا عَنْ غلَبَهْ
وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِلَيْهَا طَلِبَهْ وَابْنُ الزُّبَيْرِ بِالْحِجَازِ
يَدْأَبُ
فِي طَلَبِ الْمُلْكِ وَفِيهِ يَنْصَبُ وَبِالشَّآمِ بَايَعُوا مَرْوَانَا
بِحُكْمِ مَنْ يَقُولُ كُنْ فَكَانَا وَلَمْ يَدُمْ فِي الْمُلْكِ غَيْرَ عَامِ
وَعَافَصَتْهُ أَسْهُمُ الْحِمَامِ وَاسْتَوسَقَ الْمُلْكُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ
وَنَارَ نَجْمُ سَعْدِهِ فِي الْفَلَكِ وَكُلُّ مَنْ نَازَعَهُ فِي الْمُلْكِ
خَرَّ صَرِيعًا بِسُيُوفِ الْهُلْكِ فَقَتَلَ الْمُصَعَبَ بِالْعِرَاقِ
وَسَيَّرَ الْحَجَّاجَ ذَا الشِّقَاقِ إِلَى الْحِجَازِ بِسُيُوفِ النِّقَمِ
وَابْنُ الزُّبَيْرِ لَائِذٌ بِالْحَرَمِ فَجَاءَ بَعْدَ قَتْلِهِ بِصَلْبِهِ
وَلَمْ يَخَفْ فِي أَمْرِهِ مِنْ رَبِّهِ وَعِنْدَمَا صَفَتْ لَهُ الْأُمُورُ
تَقَلَّبَتْ لِحِينِهِ الدُّهُورُ ثُمَّ أَتَى مِنْ بَعْدِهِ الْوَلِيدُ
ثُمَّ سُلَيْمَانُ الْفَتَى الرَّشِيدُ ثُمَّ اسْتَفَاضَ فِي الْوَرَى عَدَلُ
عُمَرَ
تَابَعَ أَمْرَ رَبِّهِ كَمَا أَمَرْ وَكَانَ يُدْعَى بِأَشَجِّ الْقَوْمِ
وَذِي الصَّلَاةِ وَالتُّقَى وَالصَّوْمِ فَجَاءَ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ
وَكَفَّ أَهْلَ الظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ مُقْتَدِيًا بِسُنَّةِ الرَّسُولِ
وَالرَّاشِدِينَ مِنْ ذَوِي الْعُقُولِ فَجُرِّعَ الْإِسْلَامُ كَأْسَ فَقْدِهِ
وَلَمْ يَرَوْا مِثْلًا لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ثُمَّ يَزِيدُ بَعْدَهُ هِشَامُ
ثُمَّ الْوَلِيدُ فُتَّ مِنْهُ الْهَامُ
ثُمَّ يَزِيدُ وَهْوَ يُدْعَى النَّاقِصَا
فَجَاءَهُ حِمَامُهُ مُعَافِصَا وَلَمْ تَطُلْ مُدَّةُ. إِبْرَاهِيمَا
وَكَانَ كُلُّ أَمْرِهِ سَقِيمَا وَأَسنَدَ الْمُلْكَ إِلَى مَرْوَانَا
فَكَانَ مِنْ أُمُورِهِ مَا كَانَا وَانْقَرَضَ الْمُلْكُ عَلَى يَدَيْهِ
وَحَادِثُ الدَّهْرِ سَطَا عَلَيْهِ وَقَتْلُهُ قَدْ كَانَ بِالصَّعِيدِ
وَلَمْ تُفِدْهُ كَثْرَةُ الْعَدِيدِ وَكَانَ فِيهِ حَتْفُ آلِ الْحَكَمِ
وَاسْتُنْزِعَتْ عَنْهُمْ ضُرُوبُ النِّعَمِ ثُمَّ أَتَى مُلْكُ بَنِي الْعَبَّاسِ
لَا زَالَ فِينَا ثَابِتَ الْأَسَاسِ وَجَاءَتِ الْبَيْعَةُ مِنْ أَرْضِ الْعَجَمْ
وَقَلَّدَتْ بَيْعَتَهُمْ كُلُّ الْأُمَمْ وَكُلُّ مَنْ نَازَعَهُمْ مِنْ أُمَمِ
خَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَالْفَمِ وَقَدْ ذَكَرْتُ مَنْ تَوَلَّى مِنْهُمُ
حِينَ تَوَلَّى الْقَائِمُ الْمُسْتَعْصِمُ أَوَّلُهُمْ يُنْعَتُ بِالسَّفَّاحِ
وَبَعْدَهُ الْمَنْصُورُ ذُو النَّجَاحِ ثُمَّ أَتَى مِنْ بَعْدِهِ الْمَهْدِيُّ
يَتْلُوهُ مُوسَى الْهَادِيَ الصَّفِيُّ وَجَاءَ هَارُونُ الرَّشِيدُ بَعْدَهُ
ثُمَّ الْأَمِينُ حِينَ ذَاقَ فَقْدَهُ وَقَامَ بَعْدَ قَتْلِهِ الْمَأْمُونُ
وَبَعْدَهُ الْمُعْتَصِمُ الْمَكِينُ وَاسْتُخْلِفَ الْوَاثِقُ بَعْدَ
الْمُعْتَصِمْ
ثُمَّ أَخُوهُ جَعْفَرٌ مُوفِي الذِّمَمْ وَأَخْلَصَ النِّيَّةَ فِي التَّوَكُّلِ
لِلَّهِ ذِي الْعَرْشِ الْقَدِيمِ الْأَوَّلِ فَأَدْحَضَ الْبِدْعَةَ فِي
زَمَانِهِ
وَقَامَتِ السُّنَّةُ فِي أَوَانِهِ
وَلَمْ يُبَقِّ بِدْعَةً مُضِلَّهْ
وَأَلْبَسَ الْمُعْتَزِلِيَّ ذِلَّهْ فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَبَدَا
مَا غَارَ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ أَوْ بَدَا وَعِنْدَمَا اسْتُشْهِدَ قَامَ
الْمُنْتَصِرْ
وَالْمُسْتَعِينُ بَعْدَهُ كَمَا ذُكِرْ وَجَاءَ بَعْدَ مَوْتِهِ الْمُعْتَزُّ
وَالْمُهْتَدِي الْمُكَرَّمُ الْأَعَزُّ وَبَعْدَهُ اسْتَوْلَى وَقَامَ
الْمُعْتَمِدْ
وَمَهَّدَ الْمُلْكَ وَسَاسَ الْمُعْتَضِدْ. وَالْمُكْتَفِي فِي الصُّحُفِ
الْعُلْيَا سُطِرْ
وَبَعْدَهُ سَاسَ الْأُمُورَ الْمُقْتَدِرْ وَاسْتَوْسَقُ الْمُلْكُ بِعِزِّ
الْقَاهِرِ
وَبَعْدَهُ الرَّاضِي أَخُو الْمُفَاخِرِ وَالْمُتَّقِي مِنْ بَعْدُ
وَالْمُسْتَكْفِي
ثُمَّ الْمُطِيعُ مَا بِهِ مِنْ خُلْفِ وَالطَّائِعُ الطَّائِعُ ثُمَّ الْقَادِرُ
وَالْقَائِمُ الزَّاهِدُ وَهْوَ الشَّاكِرُ وَالْمُقْتَدِي مِنْ بَعْدِهِ الْمُسْتَظْهِرُ
ثُمَّ أَتَى الْمُسْتَرْشِدُ الْمُوَقَّرُ وَبَعْدَهُ الرَّاشِدُ ثُمَّ
الْمُقْتَفِي
وَحِينَ مَاتَ اسْتَنْجَدُوا بِيُوسُفِ وَالْمُسْتَضِي الْعَادِلُ فِي أَفْعَالِهِ
الصَّادِقُ الصَّدُوقُ فِي أَقْوَالِهِ وَالنَّاصِرُ الشَّهْمُ الشَّدِيدُ
الْبَاسِ
وَدَامَ طُولُ مُكْثِهِ فِي النَّاسِ ثُمَّ تَلَاهُ الظَّاهِرُ الْكَرِيمُ
وَعَدْلُهُ كُلٌّ بِهِ عَلِيمُ وَلَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ فِي الْمَمْلَكَهْ
غَيْرَ شُهُورٍ وَاعْتَرَتْهُ الْهَلَكَهْ وَعَهْدُهُ كَانَ إِلَى الْمُسْتَنْصِرِ
الْعَادِلِ الْبَرِّ الْكَرِيمِ الْعُنْصُرِ دَامَ يَسُوسُ النَّاسَ سَبْعَ
عَشَرَهْ
وَأَشْهُرًا بِعَزَمَاتٍ بَرَّهْ ثُمَّ تُوُفِّي عَامَ أَرْبَعِينَا
وَفِي جُمَادَى صَادَفَ الْمَنُونَا
وَبَايَعَ الْخَلَائِقُ الْمُسْتَعْصِمَا
صَلَّى عَلَيْهِ رَبُّنَا وَسَلَّمَا يَبْعَثُ نُجْبَ الرُّسْلِ فِي الْآفَاقِ
يَقْضُونَ بِالْبَيْعَةِ وَالْوِفَاقِ وَشَرَّفُوا بِذِكْرِهِ الْمَنَابِرَا
وَنَشَرُوا مِنْ جُودِهِ الْمَفَاخِرَا وَسَارَ فِي الْآفَاقِ حُسْنُ سِيرَتِهْ
وَعَدْلُهُ الزَّائِدُ فِي رَعِيَّتِهْ
قَالَ الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ ابْنُ كَثِيرٍ: ثُمَّ قُلْتُ أَنَا بَعْدَ
ذَلِكَ أَبْيَاتًا:
ثُمَّ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بَعْدُ بِالتَّتَارِ أَتْبَاعِ جِنْكِزْخَانٍ
الْجَبَّارِ
صُحْبَةَ إِبْنِ ابْنِ لَهُ هُولَاكُو فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَمْرِهِ فِكَاكُ
فَمَزَّقُوا جُنُودَهُ وَشَمْلَهُ وَقَتَلُوهُ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ
وَدَمَّرُوا بَغْدَادَ وَالْبِلَادَا وَقَتَّلُوا الْأَحْفَادَ وَالْأَجْدَادَا
وَانْتَهَبُوا الْمَالَ مَعَ الْحَرِيمِ وَلَمْ يَخَافُوا سَطْوَةَ الْعَظِيمِ
وَغَرَّهُمْ إِنْظَارُهُ وَحِلْمُهُ وَمَا اقْتَضَاهُ عَدْلُهُ وَحُكْمُهُ
وَشَغَرَتْ مِنْ بَعْدِهِ الْخِلَافَهْ وَلَمْ يُؤَرَّخْ مِثْلُهَا مِنْ آفَهْ
ثُمَّ أَقَامَ الْمَلْكُ أَعْنِي الظَّاهِرَا خَلِيفَةً أَعْنِي بِهِ
الْمُسْتَنْصِرَا
ثُمَّ وَلِي مِنْ بَعْدِ ذَاكَ الْحَاكِمُ قَسِيمُ بِيبَرْسَ الْإِمَامُ
الْعَالِمُ
ثُمَّ ابْنُهُ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَكْفِي وَبَعْضُ هَذَا لِلَّبِيبِ يَكْفِي
ثُمَّ وَلِي مِنْ بَعْدِهِ جَمَاعَهْ مَا عِنْدَهُمْ عِلْمٌ وَلَا بِضَاعَهْ
ثُمَّ خَلِيفَةُ الْوَقْتِ الْمُعْتَضِدْ وَلَا يَكَادُ
الدَّهْرُ مِثْلَهُ يَجِدْ
فِي حُسْنِ خُلْقٍ وَاعْتِقَادٍ وَحِلَى وَكَيْفَ لَا وَهْوَ مِنَ الشُّمِّ الْأُلَى
سَادُوا الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ فَضْلَا وَمَلَأُوا الْأَقْطَارَ حِكَمًا
وَعَدْلًا
أَوْلَادِ عَمِّ الْمُصْطَفَى مُحَمَّدِ وَأَفْضَلِ الْخَلْقِ بِلَا تَرَدُّدِ
صَلَّى عَلَيْهِ اللَّهُ ذُو الْجَلَالِ مَا دَامَتِ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي
فَصْلٌ
وَالْفَاطِمِيُّونَ قَلِيلُو الْعُدَّهْ لَكِنَّهُمْ مُدَّ لَهُمْ فِي الْمُدَّهْ
فَمَلَكُوا بِضْعًا وَسِتِّينَ سَنَهْ
مِنْ بَعْدِ مِائَتَيْنِ وَكَانَتْ كَالسِّنَهْ وَالْعِدَّةُ ارْبَعَ عَشْرَةَ
الْمَهْدِيُّ
وَالْقَائِمُ الْمَنْصُورُ وَالْمَعْدِيُّ أَعْنِي بِهِ الْمُعِزَّ بَانِي
الْقَاهِرَهْ
ثُمَّ الْعَزِيزُ الْحَاكِمُ الْكَوَافِرَهْ وَالظَّاهِرُ الْمُسْتَنْصِرُ
الْمُسْتَعْلِي
وَالْآمِرُ الْحَافِظُ سُوءَ الْفِعْلِ وَالظَّافِرُ الْفَائِزُ ثُمَّ الْعَاضِدُ
آخِرُهُمْ وَمَا لِهَذَا جَاحِدُ أُهْلِكَ بَعْدَ الْبِضْعِ وَالسِّتِّينَا
مِنْ قَبْلِهَا خَمْسُمِائَةٍ سِنِينَا وَقَدْ رَقَمْتُ الْعُمُرَ فَوْقَ الْاسْمِ
وَمُدَّةَ الدَّوْلَةِ تَحْتَ الرَّسْمِ وَقَدْ بَسَطْنَا ذَاكَ فِيمَا سَلَفَا
وَأَصْلُهُمْ يَهُودُ مَا هُمْ شُرَفَا
بِذَاكَ أَفْتَى السَّادَةُ الْأَئِمَّهْ
أَنْصَارُ دِينِ اللَّهِ مِنْ ذِي الْأُمَّهْ
فَصْلٌ
وَهَكَذَا خُلْفَا بَنِي أُمَيَّهْ عِدَّتُهُمْ كَعِدَّةِ الرَّفْضِيَّهْ وَلَكِنِ
الْمُدَّةُ كَانَتْ نَاقِصَهْ
عَنْ مِائَةٍ مِنَ السِّنِينَ خَالِصَهْ وَكُلُّهُمْ قَدْ كَانَ نَاصِبِيَّا
إِلَّا الْإِمَامَ عُمَرَ التَّقِيَّا مُعَاوِيَهْ ثُمَّ ابْنُهُ يَزِيدُ
وَابْنُ ابْنِهِ مُعَاوِيَ السَّدِيدُ مَرْوَانُ ثُمَّ ابْنٌ لَهُ عَبْدُ
الْمَلِكْ
مُنَابِذٌ لِابْنِ الزُّبَيْرِ حَتَّى هَلَكْ ثُمَّ اسْتَقَلَّ بَعْدَهُ
بِالْمُلْكِ
فِي سَائِرِ الْأَرْضِ بِغَيْرِ شَكِّ ثُمَّ الْوَلِيدُ النَّجْلُ بَانِي
الْجَامِعِ
وَلَيْسَ مِثْلُ شَكْلِهِ مِنْ جَامِعِ ثُمَّ سُلَيْمَانُ الْجَوَادُ وَعُمَرْ
ثُمَّ يَزِيدُ وَهِشَامٌ وَغُدَرْ أَعْنِي الْوَلِيدَ بْنَ يَزِيدَ الْفَاسِقَا
ثُمَّ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَائِقَا يُلَقَّبُ النَّاقِصَ وَهْوُ كَامِلُ
ثُمَّتُ إِبْرَاهِيمُ وَهْوَ عَاقِلُ ثُمَّ مَرْوَانُ الْحِمَارُ الْجَعْدِي
آخِرُهُمْ فَاظْفَرْ بِذَا مِنْ بَعْدِي
وَمِمَّنْ قُتِلَ مَعَ الْخَلِيفَةِ وَاقِفُ الْجَوْزِيَّةِ بِدِمَشْقَ أُسْتَاذُ دَارِ الْخِلَافَةِ الصَّاحِبُ مُحْيِي الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمَّادِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الْقُرَشِيُّ التَّيْمِيُّ الْبَكْرِيُّ الْبَغْدَادِيُّ الْحَنْبَلِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْجَوْزِيِّ، وُلِدَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةِ، وَنَشَأَ شَابًّا حَسَنًا، وَحِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهُ وَعَظَ فِي مَوْضِعِهِ، فَأَحْسَنَ وَأَجَادَ وَأَفَادَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ وَوَلِيَ حِسْبَةَ بَغْدَادَ مَعَ الْوَعْظِ الرَّائِقِ وَالْأَشْعَارِ الْحَسَنَةِ الْفَائِقَةِ، وَوَلِيَ تَدْرِيسِ الْحَنَابِلَةِ بِالْمُسْتَنْصِرِيَّةِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ تَدَارِيسُ أُخَرُ، ثُمَّ لَمَّا وَلِيَ مُؤَيِّدُ الدِّينِ بْنُ الْعَلْقَمِيِّ الْوِزَارَةَ وَشَغْرَ عَنْهُ الْأُسْتَاذْدَارِيَّةَ وَلَيَهَا مُحْيِي الدِّينِ هَذَا، وَانْتَصَبَ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِلْحِسْبَةِ وَالْوَعْظِ، فَأَجَادَ فِيهَا، وَشَعَرَ أَيْضًا حَسَنًا، ثُمَّ كَانَتِ الْحِسْبَةُ تَتَنَقَّلُ فِي بَنِيهِ الثَّلَاثَةِ; جَمَالِ الدِّينِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَشَرَفِ الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ، وَتَاجِ الدِّينِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، وَقَدْ قُتِلُوا مَعَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَلِمُحْيِي الدِّينِ هَذَا مُصَنَّفٌ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ ابْنُ السَّاعِي أَشْعَارًا حَسَنَةً يُهَنِّئُ بِهَا الْخَلِيفَةَ فِي الْمَوَاسِمِ وَالْأَعْيَادِ تَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةٍ تَامَّةٍ وَفَصَاحَةٍ بَالِغَةٍ، وَقَدْ وَقَفَ الْمَدْرَسَةَ الْجَوْزِيَّةَ بِدِمَشْقَ، وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ الْمَدَارِسِ وَأَوْجَهِهَا، تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ وَأَثَابَهُ بِرَحْمَتِهِ.
الصَّرْصَرِيُّ الْمَادِحُ: يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ بْنِ
يَحْيَى بْنِ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعَمِّرِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْبَارِعُ، جَمَالُ الدِّينِ أَبُو
زَكَرِيَّا الصَّرْصَرِيُّ، الشَّاعِرُ الْمَادِحُ الْحَنْبَلِيُّ الضَّرِيرُ
الْبَغْدَادِيُّ، وَشِعْرُهُ فِي مَدَائِحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَشْهُورٌ، وَدِيوَانُهُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ غَيْرُ مَنْكُورٍ، وُلِدَ
سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَالْفِقْهَ
وَاللُّغَةَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ صِحَاحَ الْجَوْهَرِيِّ
بِكَمَالِهَا. وَصَحِبَ الشَّيْخَ عَلِيَّ بْنَ إِدْرِيسَ تِلْمِيذَ الشَّيْخِ
عَبْدِ الْقَادِرِ، وَكَانَ ذَكِيًّا يَتَوَقَّدُ، يَنْظِمُ عَلَى الْبَدِيهَةِ
سَرِيعًا أَشْيَاءَ حَسَنَةً فَصِيحَةً بَلِيغَةً، وَقَدْ نَظَمَ الْكَافِيَ
لِلشَّيْخِ مُوَفَّقِ الدِّينِ بْنِ قَدَامَةَ، وَمُخْتَصَرَ الْخِرَقِيِّ،
وَأَمَّا مَدَائِحُهُ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَيُقَالُ: إِنَّهَا تَبْلُغُ عِشْرِينَ مُجَلَّدًا. وَلَمَّا دَخَلَ التَّتَارُ
إِلَى بَغْدَادَ دُعِيَ إِلَى دَارٍ بِهَا فَرَمَانٌ مِنْ هُولَاكُو فَأَبَى أَنْ يُجِيبَ
إِلَيْهِ، وَأَعَدَّ فِي دَارِهِ حِجَارَةً، فَحِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ التَّتَارُ
رَمَاهُمْ بِتِلْكَ الْأَحْجَارِ، فَهَشَّمَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، فَلَمَّا
خَلَصُوا إِلَيْهِ قَتَلَ بِعُكَّازِهِ أَحَدَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ شَهِيدًا،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَمَانٍ
وَسِتُّونَ سَنَةً. وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ الشَّيْخُ قُطْبُ
الدِّينِ الْيُونِينِيُّ مِنْ دِيوَانِهِ قِطْعَةً
صَالِحَةً فِي تَرْجَمَتِهِ فِي الذَّيْلِ، اسْتَوْعَبَ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ
كُلَّهَا، وَذَكَرَ قَصَائِدَ طِوَالًا كَثِيرَةً حَسَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
الْبَهَاءُ زُهَيْرٌ صَاحِبُ الدِّيوَانِ
وَهُوَ زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْحَسَنِ بْنِ
جَعْفَرِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عَاصِمِ الْمُهَلَّبِيُّ الْعَتَكِيُّ الْمِصْرِيُّ،
وُلِدَ بِمَكَّةَ، وَنَشَأَ بِقُوصَ، وَأَقَامَ بِالْقَاهِرَةِ، الشَّاعِرُ
الْمُطَبِّقُ، الْكَاتِبُ الْجَوَّادُ فِي حُسْنِ الْخَطِّ، لَهُ دِيوَانٌ
مَشْهُورٌ، وَقَدِمَ عَلَى السُّلْطَانِ الصَّالِحِ نَجْمِ الدِّينِ أَيُّوبَ،
وَكَانَ غَزِيرَ الْمُرُوءَةِ، حَسَنَ التَّوَسُّطِ فِي إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَى
النَّاسِ، وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُمْ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ الْقَاضِي شَمْسُ
الدِّينِ بْنُ خَلِّكَانَ، وَقَالَ: أَجَازَ لِي رِوَايَةَ دِيوَانِهِ، وَقَدْ
بَسَطَ تَرْجَمَتَهُ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ.
الْحَافِظُ زَكِّيُ الدِّينِ الْمُنْذِرِيُّ عَبْدُ الْعَظِيمِ بْنُ عَبْدِ
الْقَوِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ
الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ زَكِيُّ الدِّينِ
الْمُنْذِرِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمِصْرِيُّ، وَأَصْلُهُ مِنَ الشَّامِ،
وَلَكِنَّهُ وُلِدَ بِمِصْرَ، وَكَانَ شَيْخَ الْحَدِيثِ بِهَا مُدَّةً طَوِيلَةً،
إِلَيْهِ الْوِفَادَةُ وَالرِّحْلَةُ مِنْ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةٍ، وَقِيلَ:
إِنَّهُ
وُلِدَ بِالشَّامِ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ وَطَلَبَ وَعُنِيَ بِهَذَا
الشَّأْنِ، حَتَّى فَاقَ أَهْلَ زَمَانِهِ فِيهِ، وَصَنَّفَ وَخَرَّجَ،
وَاخْتَصَرَ صَحِيحَ مُسْلِمٍ، وَسُنَنَ أَبِي دَاوُدَ، وَهُوَ أَحْسَنُ
اخْتِصَارًا مِنَ الْأَوَّلِ، وَلَهُ يَدٌ طُولَى فِي اللُّغَةِ وَالْفِقْهِ
وَالتَّارِيخِ، وَكَانَ ثِقَةً حُجَّةً مُتَحَرِّيًا زَاهِدًا، وَتُوفِّيَ يَوْمَ
السَّبْتِ رَابِعَ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِدَارِ الْحَدِيثِ
الْكَامِلِيَّةِ بِمِصْرَ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
النُّورُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ رُسْتُمَ الْإِسْعَرْدِيُّ
الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ الْخَلِيعُ، كَانَ الْقَاضِي صَدْرُ الدِّينِ بْنُ
سَنِيِّ الدَّوْلَةِ، قَدْ أَجْلَسَهُ مَعَ الشُّهُودِ تَحْتَ السَّاعَاتِ، ثُمَّ
اسْتَدْعَاهُ النَّاصِرُ صَاحِبُ الْبَلَدِ، وَجَعَلَهُ مِنْ جُلَسَائِهِ
وَنُدَمَائِهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلَعَ الْأَجْنَادِ، فَانْسَلَخَ مِنْ هَذَا
الْفَنِّ إِلَى غَيْرِهِ، وَجَمَعَ كِتَابًا سَمَّاهُ " الزَّرْجُونْ فِي
الْخَلَاعَةِ وَالْمُجُونْ " وَذَكَرَ فِيهِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنَ
النَّظْمِ وَالنَّثْرِ فِي الْخَلَاعَةِ، وَمِنْ شِعْرِهِ:
لَذَّةُ الْعُمُرِ خَمْسَةٌ فَاقْتَنِيهَا مِنْ خَلِيعٍ غَدَا أَدِيبًا فَقِيهَا
فِي نَدِيمٍ وَقَيْنَةٍ وَحَبِيبٍ وَمُدَامٍ وَسَبِّ مَنْ لَامَ فِيهَا
الْوَزِيرُ ابْنُ الْعَلْقَمِيِّ الرَّافِضِيُّ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، الْوَزِيرُ
مُؤَيِّدُ الدِّينِ أَبُو طَالِبِ بْنُ الْعَلْقَمِيِّ الْبَغْدَادِيُّ
خَدَمَ فِي أَيَّامِ الْمُسْتَنْصِرِ أُسْتَاذَ دَارِ
الْخِلَافَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ اسْتَوْزَرَهُ الْمُسْتَعْصِمُ، وَلَمْ
يَكُنْ وَزِيرَ صِدْقٍ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنَ الْفُضَلَاءِ الْأُدَبَاءُ إِلَّا
أَنَّهُ كَانَ رَافِضِيًّا خَبِيثًا، رَدِيءَ الطَّوِيَّةِ عَلَى الْإِسْلَامِ
وَأَهْلِهِ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ مِنَ التَّعْظِيمِ وَالْوَجَاهَةِ فِي أَيَّامِ
الْمُسْتَعْصِمِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِكَثِيرٍ مِمَّنْ قَبْلَهُ مِنَ الْوُزَرَاءِ،
ثُمَّ مَالَأَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ لِلتَّتَارِ أَصْحَابِ
هُولَاكُوقَانَ، حَتَّى جَاءُوا فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ أَمْرًا
مَفْعُولًا، ثُمَّ حَصَلَ لَهُ مِنَ الْإِهَانَةِ فِي أَيَّامِهِمْ وَالْقِلَّةِ
وَالذِّلَّةِ وَزَوَالِ سِتْرِ اللَّهِ، مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، رَأَتْهُ
امْرَأَةٌ وَهُوَ رَاكِبٌ فِي أَيَّامِ التَّتَارِ بِرْذَوْنًا، وَسَائِقٌ يَضْرِبُ
فَرَسَهُ، فَوَقَفَتْ إِلَى جَانِبِهِ وَقَالَتْ: يَا ابْنَ الْعَلْقَمِيِّ،
هَكَذَا كَانَ بَنُو الْعَبَّاسِ يُعَامِلُونَكَ؟ فَوَقَعَتْ كَلِمَتُهَا فِي
قَلْبِهِ، وَانْقَطَعَ فِي دَارِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ كَمَدًا فِي مُسْتَهَلِّ
جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَلَاثٌ
وَسِتُّونَ سَنَةً، وَدُفِنَ فِي قُبُورِ الرَّوَافِضِ، وَقَدْ سَمِعَ
بِأُذُنَيْهِ وَرَأَى بِعَيْنَيْهِ مِنَ الْإِهَانَةِ مِنَ التَّتَارِ
وَالْمُسْلِمِينَ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، وَتَوَلَّى بَعْدَهُ وَلَدُهُ
الْوِزَارَةَ، ثُمَّ أَخَذَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ سَرِيعًا، وَقَدْ هَجَاهُ بَعْضُ
الشُّعَرَاءِ فَقَالَ:
يَا فِرْقَةَ الْإِسْلَامِ نُوحُوا وَانْدُبُوا أَسَفًا عَلَى مَا حَلَّ
بِالْمُسْتَعْصِمِ
دَسْتُ الْوَزَارَةِ كَانَ قَبْلَ زَمَانِهِ لِابْنِ الْفُرَاتِ فَصَارَ لِابْنِ
الْعَلْقَمِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَيْدَرَةَ، فَتْحُ
الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْعَدْلِ
مُحْتَسِبُ دِمَشْقَ، كَانَ مِنَ الصُّدُورِ الْمَشْكُورِينَ، حَسَنَ
الطَّرِيقَةِ،
وَجَدُّهُ الْعَدْلُ نَجِيبُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَيْدَرَةَ، وَهُوَ وَاقِفُ الْمَدْرَسَةِ الَّتِي
بِالزَّبَدَانِيِّ فِي سَنَةِ تِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، تَقَبَّلَ اللَّهُ
مِنْهُ.
الْقُرْطُبِيُّ صَاحِبُ " الْمُفْهِمِ فِي شَرْحِ مُسْلِمِ ": أَحْمَدُ
بْنُ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ، أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَنْصَارِيُّ
الْقُرْطُبِيُّ الْمَالِكِيُّ
الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ الْمُدَرِّسُ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وُلِدَ
بِقُرْطُبَةَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ
هُنَاكَ، وَاخْتَصَرَ الصَّحِيحَيْنِ، وَشَرَحَ صَحِيحَ مُسْلِمٍ بِكِتَابِهِ
الْمُسَمَّى بِالْمُفْهِمِ، وَفِيهِ أَشْيَاءُ حَسَنَةٌ مُفِيدَةٌ مُحَرَّرَةٌ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْكَمَالُ إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ
أَحَدُ مَشَايِخِ الشَّافِعِيَّةِ، أَخَذَ عَنْهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ
النَّوَاوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ مُدَرِّسًا بِالرَّوَاحِيَّةِ، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
الْعِمَادُ دَاوُدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ بْنِ
كَامِلٍ أَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو سُلَيْمَانَ الزُّبَيْدِيُّ الْمَقْدِسِيُّ
ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ
خَطِيبُ بَيْتِ الْآبَارِ، وَقَدْ خَطَبَ بِدِمَشْقَ سِتَّ سِنِينَ بَعْدَ
انْفِصَالِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْهَا، وَدَرَّسَ
بِالْغَزَالِيَّةِ، ثُمَّ عُزِلَ وَعَادَ إِلَى بَيْتِ الْآبَارِ، فَمَاتَ بِهَا.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، صَدَرُ الدِّينِ
أَبُو الْحَسَنِ بْنُ النَّيَّارِ، شَيْخُ الشُّيُوخِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ
أَوَّلًا مُؤَدِّبًا لِلْإِمَامِ الْمُسْتَعْصِمِ بِاللَّهِ، فَلَمَّا صَارَتِ
الْخِلَافَةُ إِلَيْهِ نَالَ الشَّيْخُ رِفْعَةً عَظِيمَةً وَوَجَاهَةً هَائِلَةً،
وَوَلَّاهُ مَشْيَخَةَ الشُّيُوخِ بِبَغْدَادَ، وَانْتَظَمَتْ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ
الْأُمُورِ، ثُمَّ إِنَّهُ ذُبِحَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ كَمَا تُذْبَحُ الشَّاةُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ الْعَابِدُ عَلِيٌّ الْخَبَّازُ
كَانَ لَهُ أَصْحَابٌ وَأَتْبَاعٌ بِبَغْدَادَ، وَلَهُ زَاوِيَةٌ يُزَارُ فِيهَا،
قَتَلَتْهُ التَّتَارُ، وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ بِبَابِ زَاوِيَتِهِ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، حَتَّى أَكَلَتِ الْكِلَابُ مِنْ لَحْمِهِ، وَيُقَالُ:
إِنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْفَتْحِ، أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْمَقْدِسِيُّ خَطِيبُ مَرْدَا
سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَعَاشَ تِسْعِينَ سَنَةً، وُلِدَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ
وَخَمْسِينَ، فَسَمِعَ النَّاسُ عَلَيْهِ الْكَثِيرَ بِدِمَشْقَ، ثُمَّ عَادَ
فَمَاتَ بِبَلَدِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْبَدْرُ لُؤْلُؤٌ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ الْمُلَقَّبُ بِالْمَلِكِ الرَّحِيمِ
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ،
وَقَدْ مَلَكَ الْمَوْصِلَ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ ذَا عَقْلٍ
وَدَهَاءٍ وَمَكْرٍ، لَمْ يَزَلْ يَعْمَلُ عَلَى أَوْلَادِ أُسْتَاذِهِ حَتَّى
أَبَادَهُمْ، وَزَالَتِ الدَّوْلَةُ الْأَتَابِكِيَّةُ عَنِ الْمَوْصِلِ، وَلَمَّا
انْفَصَلَ هُولَاكُوقَانَ عَنْ بَغْدَادَ بَعْدَ الْوَقْعَةِ الْفَظِيعَةِ
الْعَظِيمَةِ، سَارَ إِلَى خِدْمَتِهِ مُتَاقِيًا لَهُ، وَمَعَهُ الْهَدَايَا
وَالتُّحَفُ، فَأَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ، وَرَجَعَ مِنْ عِنْدِهِ، فَمَكَثَ
بِالْمَوْصِلِ أَيَّامًا يَسِيرَةً، ثُمَّ مَاتَ، وَدُفِنَ بِمَدْرَسَتِهِ
الْبَدْرِيَّةِ، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ لِحُسْنِ سِيرَتِهِ وَجَوْدَةِ
مَعْدِلَتِهِ، وَقَدْ جَمَعَ لَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ الْأَثِيرِ
كِتَابَهُ الْمُسَمَّى بِالْكَامِلِ فِي التَّارِيخِ فَأَجَازَهُ عَلَيْهِ،
وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَكَانَ يُعْطِي لِبَعْضِ الشُّعَرَاءِ أَلْفَ دِينَارٍ
وَنَحْوَهَا، وَقَدْ قَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ الصَّالِحُ
إِسْمَاعِيلُ.
وَقَدْ كَانَ بَدْرُ الدِّينِ لُؤْلُؤٌ هَذَا أَرْمَنِيًّا اشْتَرَاهُ رَجُلٌ
خَيَّاطٌ، ثُمَّ صَارَ إِلَى الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ أَرَسْلَانَ شَاهِ بْنِ
عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودِ بْنِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِيِّ آقْسُنْقُرَ
الْأَتَابِكِيِّ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ مَلِيحَ الصُّورَةِ فَحَظِيَ عِنْدَهُ،
وَتَقَدَّمَ فِي دَوْلَتِهِ إِلَى أَنْ صَارَتِ الْكَلِمَةُ دَائِرَةً عَلَيْهِ،
وَالْوُفُودُ مِنْ سَائِرِ جِهَاتِ مُلْكِهِمْ إِلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّهُ أَخْنَى
عَلَى أَوْلَادِ أُسْتَاذِهِ فَقَتَلَهُمْ غِيلَةً وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، إِلَى
أَنْ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَاسْتَقَلَّ بِالْمُلْكِ حِينَئِذٍ،
وَصَفَتْ لَهُ الْأُمُورُ وَرَاقَتْ، وَكَانَ يَبْعَثُ فِي كُلِّ سَنَةٍ إِلَى
مَشْهَدِ عَلَيٍّ قِنْدِيلًا زِنَتُهُ أَلْفُ دِينَارٍ، وَقَدْ بَلَغَ مِنَ
الْعُمُرِ قَرِيبًا مِنْ تِسْعِينَ
سَنَةً، وَكَانَ شَابًّا حَسَنَ الشَّبَابِ، مِنْ نَضَارَةِ
وَجْهِهِ، وَحُسْنِ شَكْلِهِ، وَكَانَتِ الْعَامَّةُ تُلَقِّبُهُ بِقَضِيبِ
الذَّهَبِ، وَكَانَ ذَا هِمَّةٍ عَالِيَةٍ، وَدَاهِيَةً شَدِيدَ الْمَكْرِ،
بَعِيدَ الْغَوْرِ.
الْمَلِكُ النَّاصِرُ دَاوُدُ الْمُعَظَّمُ
تَرْجَمَهُ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ فِي تَذْيِيلِهِ عَلَى
الْمِرْآةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَبَسَطَ تَرْجَمَتَهُ جِدًّا، وَمَا جَرَى لَهُ
مِنْ مُبْتَدَأِ أَمْرِهِ إِلَى آخِرِ زَمَانِهِ، وَأَوْرَدَ مِنْ أَشْعَارِهِ
وَأَقْوَالِهِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَفَادَ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي الْحَوَادِثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ،
وَقَدْ مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ مَدِينَةَ دِمَشْقَ وَأَعْمَالَهَا مُدَّةً، ثُمَّ
تَمَالَأَ عَلَيْهِ عَمَّاهُ الْكَامِلُ وَالْأَشْرَفُ وَانْتَزَعَاهَا مِنْ
يَدِهِ، وَعَوَّضَاهُ مِنْهَا الْكَرَكَ وَالصَّلْتَ وَعَجْلُونَ وَنَابُلُسَ،
ثُمَّ ذَهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ يَدِهِ وَصَارَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَاسْتَوْدَعَ
الْخَلِيفَةَ الْمُسْتَعْصِمَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَدِيعَةً قِيمَتُهَا
مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ، فَغَلَّهَا وَلَمْ يَرُدَّهَا إِلَيْهِ، وَتَكَرَّرَ
وُفُودُهُ إِلَيْهِ وَتَوَسُّلُهُ بِالنَّاسِ فِي رَدِّهَا إِلَيْهِ، فَلَمْ
يُفِدْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَمِنْ أَحْسَنِ مَقَامَاتِ النَّاصِرِ دُوَادَ;
لَمَّا حَضَرَ الدَّرْسَ بِالْمُسْتَنْصِرِيَّةِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَالْخَلِيفَةُ حَاضِرٌ، فَقَامَ الْفَقِيهُ وَجِيهُ الدِّينِ
الْقَيْرَاوَنِيُّ فَامْتَدَحَ الْخَلِيفَةَ بِقَصِيدَةٍ قَالَ فِي بَعْضِهَا:
لَوْ كُنْتَ فِي يَوْمِ السَّقِيفَةِ حَاضِرًا كُنْتَ الْمُقَدَّمَ
وَالْإِمَامَ الْأَرْوَعَا
فَقَالَ لَهُ النَّاصِرُ دَاوُدُ: أَخْطَأْتَ; فَقَدْ كَانَ جَدُّ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ الْعَبَّاسُ حَاضِرًا يَوْمَ السَّقِيفَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ
الْمُقَدَّمَ وَالْإِمَامَ الْأَرْوَعَا أَبُو بَكْرِ الصِّدِّيقُ فَقَالَ الْخَلِيفَةُ:
صَدَقَ. وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَنَفَى الْوَجِيهَ الْقَيْرَوَانِيَّ إِلَى مِصْرَ،
فَدَرَّسَ فِي مَدْرَسَةِ الْوَزِيرِ صَفِيِّ الدِّينِ بْنِ شُكْرٍ، وَكَانَتْ
وَفَاةُ النَّاصِرِ دَاوُدَ بِقَرْيَةِ الْبُوَيْضَا مُرَسَّمًا عَلَيْهِ،
وَشَهِدَ جِنَازَتَهُ صَاحِبُ دِمَشْقَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ خَلِيفَةٌ، وَسُلْطَانُ
دِمَشْقَ وَحَلَبَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ الْعَزِيزِ
مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الظَّاهِرِ غَازِيِّ بْنِ النَّاصِرِ فَاتِحِ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ وَهُوَ وَاقِعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِصْرِيِّينَ، وَقَدْ مَلَّكُوا
نُورَ الدِّينِ عَلِيَّ بْنَ الْمُعِزِّ أَيْبَكَ التُّرْكُمَانِيَّ، وَلَقَّبُوهُ
بِالْمَنْصُورِ، وَقَدْ أَرْسَلَ الْمَلِكُ الْغَاشِمُ هُولَاكُوقَانَ إِلَى
الْمَلِكِ النَّاصِرِ بِدِمَشْقَ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ
وَلَدَهُ الْعَزِيزَ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَمَعَهُ هَدَايَا كَثِيرَةٌ وَتُحَفٌ،
فَلَمْ يَحْتَفِلْ بِهِ هُولَاكُو، وَغَضِبَ عَلَى أَبِيهِ إِذْ لَمْ يُقْبِلْ إِلَيْهِ،
وَقَالَ: أَنَا الَّذِي أَسِيرُ إِلَى بِلَادِهِ بِنَفْسِي. فَانْزَعَجَ
النَّاصِرُ لِذَلِكَ، وَبَعَثَ بِحَرِيمِهِ وَأَهْلِهِ إِلَى الْكَرَكِ
لِيُحَصِّنَهُمْ بِهَا، وَخَافَ أَهْلُ دِمَشْقَ خَوْفًا شَدِيدًا حِينَ
بَلَغَهُمْ أَنَّ التَّتَارَ قَدْ قَطَعُوا الْفُرَاتَ، فَصَارَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ، وَمَاتَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ
وَنُهِبَ آخَرُونَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَأَقْبَلَ هُولَاكُو، فَقَصَدَ الشَّامَ بِجُنُودِهِ وَعَسَاكِرِهِ، وَقَدْ
كَانَتْ مَيَّافَارِقِينَ قَدِ امْتَنَعَتْ عَلَى التَّتَارِ مُدَّةَ سَنَةٍ
وَنِصْفٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَلَدَهُ أَشْمُوطَ، فَافْتَتَحَهَا قَسْرًا،
وَاسْتَنْزَلَ مَلِكَهَا الْكَامِلَ بْنَ الشِّهَابِ غَازِي بْنِ الْعَادِلِ،
فَأَرْسَلَهُ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ مُحَاصَرٌ حَلَبَ، فَقَتَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا بَعْضَ مَمَالِيكِ الْأَشْرَفِ، وَطِيفَ
بِرَأْسِ الْكَامِلِ فِي الْبِلَادِ، وَدَخَلُوا بِرَأْسِهِ
إِلَى دِمَشْقَ، فَنُصِبَ عَلَى بَابِ الْفَرَادِيسِ الْبَرَّانِيِّ، ثُمَّ دُفِنَ
بِمَسْجِدِ الرَّأْسِ دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ الْجَوَّانِيِّ، فَنَظَمَ أَبُو
شَامَةَ فِي ذَلِكَ قَصِيدَةً يَذْكُرُ فِيهَا فَضْلَهُ وَجِهَادَهُ، وَشَبَّهَهُ
بِالْحُسَيْنِ فِي قَتْلِهِ مَظْلُومًا، وَدُفِنَ رَأْسُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ.
وَفِيهَا عَمِلَ الْخَوَاجَا نَصِيرُ الدِّينِ الطُّوسِيُّ الرَّصْدَ بِمَدِينَةِ
مَرَاغَةَ وَنَقَلَ إِلَيْهِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ كُتُبِ الْأَوْقَافِ الَّتِي
كَانَتْ بِبَغْدَادَ، وَعَمِلَ دَارَ حِكْمَةٍ فِيهَا فَلَاسِفَةٌ، لِكُلِّ
وَاحِدٍ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَدَارَ طِبٍّ، فِيهَا لِلْحَكِيمِ
فِي الْيَوْمِ دِرْهَمَانِ، وَمَدْرَسَةً، لِكُلِّ فَقِيهٍ فِي الْيَوْمِ
دِرْهَمٌ، وَدَارَ حَدِيثٍ لِكُلِّ مُحَدِّثٍ نِصْفُ دِرْهَمٍ فِي الْيَوْمِ.
وَفِيهَا قَدِمَ الْقَاضِي الْوَزِيرُ كَمَالُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ أَبِي
جَرَادَةَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْعَدِيمِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
رَسُولًا مِنْ صَاحِبِ دِمَشْقَ النَّاصِرِ بْنِ الْعَزِيزِ يَسْتَنْجِدُ
الْمِصْرِيِّينَ عَلَى قِتَالِ التَّتَارِ، بِأَنَّهُمْ قَدِ اقْتَرَبَ
قُدُومُهُمْ إِلَى الشَّامِ وَقَدِ اسْتَوْلَوْا عَلَى بِلَادِ الْجَزِيرَةِ
وَحَرَّانَ وَغَيْرِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَازَ أَشْمُوطُ بْنُ
هُولَاكُو الْفُرَاتَ، وَاقْتَرَبَ مِنْ مَدِينَةِ حَلَبَ، فَعُقِدَ عِنْدَ ذَلِكَ
مَجْلِسٌ بَيْنَ يَدَيِ الْمَنْصُورِ بْنِ الْمُعِزِّ التُّرْكُمَانِيِّ، وَحَضَرَ
قَاضِي مِصْرَ بَدْرُ الدِّينِ السِّنْجَارِيُّ، وَالشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ
عَبْدِ السَّلَامِ، وَأَفَاضُوا الْكَلَامَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَخْذِ شَيْءٍ
مِنْ أَمْوَالِ الْعَامَّةِ لِمُسَاعَدَةِ الْجُنْدِ، وَكَانَتِ الْعُمْدَةَ عَلَى
مَا يَقُولُهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، فَكَانَ
حَاصِلُهُ: إِذَا لَمْ يَبْقَ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ،
وَأَنْفَقْتُمُ الْحَوَائِصَ الذَّهَبَ وَغَيْرَهَا مِنَ الزِّينَةِ،
وَتَسَاوَيْتُمْ أَنْتُمْ وَالْعَامَّةُ فِي الْمَلَابِسِ سِوَى آلَاتِ الْحَرْبِ،
وَلَمْ يَبْقَ لِلْجُنْدِيِّ شَيْءٌ سِوَى فَرَسِهِ الَّتِي يَرْكَبُهَا، سَاغَ
أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ فِي دَفْعِ الْأَعْدَاءِ ; لِأَنَّهُ إِذَا
دَهَمَ الْعَدُوُّ وَجَبَ عَلَى النَّاسِ كَافَّةً أَنْ يَدْفَعُوهُمْ
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ.
وِلَايَةُ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ قُطُزَ
وَفِيهَا قَبَضَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُطُزُ عَلَى ابْنِ أُسْتَاذِهِ نُورِ
الدِّينِ عَلِيٍّ الْمُلَقَّبِ بِالْمَنْصُورِ، وَذَلِكَ فِي غَيْبَةِ أَكْثَرِ
الْأُمَرَاءِ مِنْ مَمَالِيكِ أَبِيهِ وَغَيْرِهِمْ فِي الصَّيْدِ، فَأَمْسَكَهُ
وَسَيَّرَهُ مَعَ أُمِّهِ وَابْنَيْهِ وَإِخْوَتِهِ إِلَى بِلَادِ الْأَشْكُرِيِّ،
وَتَسَلْطَنَ هُوَ، وَسَمَّى نَفْسَهُ بِالْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ، وَكَانَ هَذَا
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ الَّذِي
يَسَّرَاللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ كَسْرَةَ التَّتَارِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا الَّذِي اعْتَذَرَ بِهِ إِلَى ابْنِ
الْعَدِيمِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَابُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ يُقَاتِلُ
التَّتَارَ، وَهَذَا صَبِيٌّ صَغِيرٌ لَا يَعْرِفُ تَدْبِيرَ الْمَمْلَكَةِ.
وَفِيهَا بَرَزَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَاحِبُ دِمَشْقَ إِلَى وَطْأَةِ بَرْزَةَ
فِي جَحَافِلَ كَثِيرَةٍ مِنَ
الْجَيْشِ وَالْمُطَّوِّعَةِ وَالْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ،
وَلَمَّا عَلِمَ ضَعْفَهُمْ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْمَغُولِ، ارْفَضَّ ذَلِكَ
الْجَمْعُ، وَلَمْ يَصْبِرْ لَا هُوَ وَلَا هُمْ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
وَاقِفُ الصَّدْرِيَّةِ الرَّئِيسُ صَدْرُ الدِّينِ أَسْعَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ
أَسْعَدَ بْنِ الْمُنَجَّا بْنِ بَرَكَاتِ بْنِ مُؤَمَّلٍ التَّنُوخِيُّ
الْمَعَرِّيُّ
ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، أَحَدُ الْمُعَدِّلِينَ ذَوِي الْأَمْوَالِ
وَالْمُرُوءَاتِ وَالصَّدَقَاتِ الدَّارَّةِ الْبَارَّةِ، وَقَفَ مَدْرَسَةً
لِلْحَنَابِلَةِ، وَقَبْرُهُ بِهَا إِلَى جَانِبِ تُرْبَةِ الْقَاضِي الْمِصْرِيِّ
فِي رَأْسِ دَرْبِ الرَّيْحَانِ مِنْ نَاحِيَةِ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَقَدْ
وَلِيَ نَظَرَ الْجَامِعِ مُدَّةً، وَقَدِ اسْتَجَدَّ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً،
مِنْهَا سُوقُ النَّحَّاسِينَ قِبْلِيَّ الْجَامِعِ، وَنَقَلَ الصَّاغَةَ إِلَى
مَكَانِهَا الْآنَ، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ حَيْثُ يُقَالُ لَهَا:
الصَّاغَةُ الْعَتِيقَةُ. وَجَدَّدَ الدَّكَاكِينَ الَّتِي بَيْنَ أَعْمِدَةِ
الزِّيَادَةِ، وَثَمَّرَ لِلْجَامِعِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَكَانَتْ لَهُ
صَدَقَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ
يَعْمَلُ صَنْعَةَ الْكِيمْيا، وَأَنَّهُ صَحَّ مَعَهُ
عَمَلُ الْفِضَّةِ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
الشَّيْخُ يُوسُفُ الْقَمِينِيُّ كَانَ يُعْرَفُ بِالْأَقْمِينِيِّ; لِأَنَّهُ
كَانَ يَسْكُنُ قَمِينَ حَمَّامِ نُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ وَكَانَ يَلْبَسُ
ثِيَابًا طِوَالًا تَحُفُّ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَبُولُ فِي ثِيَابِهِ، وَرَأْسُهُ
مَكْشُوفٌ، وَلَهُ أَحْوَالٌ وَكُشُوفٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ
الْعَوَامِّ وَغَيْرُهُمْ يَعْتَقِدُونَ صَلَاحَهُ وَوِلَايَتَهُ، وَذَلِكَ
لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكُشُوفَ قَدْ تَصْدُرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ
وَالْكَافِرِ كَمَا كَانَ ابْنُ صَيَّادٍ، وَمِنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، فَلَا
بُدَّ مِنَ اخْتِبَارِ صَاحِبِ الْحَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ
وَافَقَ حَالُهُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، فَهُوَ رَجُلٌ صَالِحٌ سَوَاءٌ كَاشَفَ
أَمْ لَا، وَمَنْ لَمْ يُوَافِقْ فَلَيْسَ بِرَجُلٍ صَالِحٍ سَوَاءٌ كَاشَفَ أَمْ
لَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ
يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى
تَعْرِضُوا أَمْرَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَلَمَّا مَاتَ دُفِنَ بِتُرْبَةٍ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ بِهِ
شَرْقِيَّ تُرْبَةِ أَبِي عُمَرَ الْمَقْدِسِيِّ
الرَّوَاحِيَّةِ، وَهِيَ مُزَخْرَفَةٌ، قَدِ اعْتَنَى بِهَا
بَعْضُ مَنْ كَانَ يَعْتَقِدُ فِيهِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَادِسِ شَعْبَانَ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَكَانَ الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الْجَيْعَانَةُ لَا
يَتَجَاسَرُ، أَنْ يَدْخُلَ الْبَلَدَ وَالْقَمِينِيُّ حَيٌّ، فَيَوْمَ مَاتَ
الْأَقْمِينِيُّ دَخَلَهَا وَكَانَ بِالشَّاغُورِ، وَدَخَلَ الْعَوَامُّ مَعَهُ
يَصِيحُونَ وَيَصْرُخُونَ. وَهُمْ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ.
الشَّمْسُ عَلِيُّ بْنُ النُّشَبِيِّ الْمُحَدِّثُ
نَابَ فِي الْحِسْبَةِ عَنِ الصَّدْرِ الْبِكْرِيِّ فِي أَيَّامِهِ، وَقَرَأَ
الْكَثِيرَ بِنَفْسِهِ، وَسَمِعَ وَأَسْمَعَ، وَكَتَبَ بِخَطِّهِ كَثِيرًا،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْفَاسِيُّ شَارِحُ الشَّاطِبِيَّةِ
اشْتُهِرَ بِالْكُنْيَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ اسْمَهُ الْقَاسِمُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
بِحَلَبَ، وَكَانَ عَالِمًا فَاضِلًا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالْقِرَاءَاتِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، وَقَدْ أَجَادَ فِي شَرْحِهِ لِلشَّاطِبِيَّةِ وَأَفَادَ، وَاسْتَحْسَنَهُ
الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ
أَبُو شَامَةَ شَارِحُهَا أَيْضًا.
النَّجْمُ أَخُو الْبَدْرِ مُفَضَّلٌ
وَكَانَ شَيْخَ الْفَاضِلِيَّةِ بِالْكَلَّاسَةِ، وَكَانَ لَهُ إِجَازَةٌ مِنَ
السَّلَفِيِّ.
خَطِيبُ الْعُقَيْبَةِ بَدْرُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ
بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ عَلَى جَدِّهِ، وَكَانَتْ
جِنَازَتُهُ حَافِلَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
سَعْدُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ
ذَكَرَهُ أَبُو شَامَةَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي فَضِيلَتِهِ وَأَدَبِهِ
وَشِعْرِهِ، وَذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَتِهِ وَأَدَبٍ وَشِعْرٍ فِيهِ
قُوَّةٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو شَامَةَ وَفَاةَ النَّاصِرِ دَاوُدَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَقَدْ قَدَّمْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي الَّتِي قَبْلُ.
سَيْفُ الدِّينِ بْنُ صَبِرَةَ
مُتَوَلِّي شُرْطَةِ دِمَشْقَ، ذَكَرَ أَبُو شَامَةَ أَنَّهُ حِينَ مَاتَ جَاءَتْ
حَيَّةٌ فَنَهَشَتْ أَفْخَاذَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهَا الْتَفَّتْ فِي أَكْفَانِهِ،
وَأَعْيَى النَّاسَ دَفْعُهَا. قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ نُصَيْرِيًّا
رَافِضِيًّا خَبِيثًا مُدْمِنَ خَمْرٍ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.
النَّجِيبُ بْنُ شُقَيْشِقَةَ الدِّمَشْقِيُّ
أَحَدُ الشُّهُودِ بِهَا، لَهُ سَمَاعُ حَدِيثٍ،
وَوَقَفَ دَارَهُ بِدَرْبِ الْبَانِيَاسِيِّ دَارَ حَدِيثٍ،
وَهِيَ الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ قَبْلَ
انْتِقَالِهِ إِلَى دَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ. قَالَ أَبُو شَامَةَ:
وَكَانَ ابْنُ شُقَيْشِقَةَ، وَهُوَ النَّجِيبُ أَبُو الْفَتْحِ نَصَرُ اللَّهِ
بْنُ أَبِي الْعِزِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الشَّيْبَانِيُّ، مَشْهُورًا بِالْكَذِبِ
وَرِقَّةِ الدِّينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَحَدُ الشُّهُودِ الْمَقْدُوحِ
فِيهِمْ وَلَمْ يَكُنْ بِحَالٍ أَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُ. قَالَ: وَقَدْ أَجْلَسَهُ
أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ هِبَةِ اللَّهِ الْمُلَقَّبُ بِالصَّدْرِ بْنِ سَنِيِّ
الدَّوْلَةِ فِي حَالِ وِلَايَتِهِ الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ، فَأَنْشَدَ فِيهِ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
جَلَسَ الشُّقَيْشِقَةُ الشَّقِيُّ لِيَشْهَدَا بِأَبِيكُمَا مَاذَا عَدَا فِيمَا
بَدَا هَلْ زُلْزِلَ الزِّلْزَالُ أَمْ قَدْ أُخْرِجَ الدَّ
جَّالُ أَمْ عُدِمَ الرِّجَالُ ذَوُو الْهُدَى عَجَبًا لِمَحْلُولِ الْعَقِيدَةِ
جَاهِلٍ
بِالشَّرْعِ قَدْ أَذِنُوا لَهُ أَنْ يَقْعُدَا
قَالَ أَبُو شَامَةَ: فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ مَاتَ شَخْصٌ زِنْدِيقٌ
يَتَعَاطَى الْفَلْسَفَةَ وَالنَّظَرَ فِي عِلْمِ الْأَوَائِلِ، وَكَانَ يَسْكُنُ
مَدَارِسَ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَفْسَدَ عَقَائِدَ جَمَاعَةٍ مِنَ
الشَّبَابِ الْمُشْتَغِلِينَ فِيمَا بَلَغَنِي، وَكَانَ
أَبُوهُ يَتَجَاهَرُ بِاسْتِنْقَاصِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَهُوَ يُعْرَفُ بِابْنِ الْفَخْرِ بْنِ الْبَدِيعِ الْبَنْدَهِيِّ، كَانَ أَبُوهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ تَلَامِذَةِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ ابْنِ خَطِيبِ الرَّيِّ صَاحِبِ الْمُصَنَّفَاتِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ بِيَوْمِ الْخَمِيسِ وَلَيْسَ لِلنَّاسِ خَلِيفَةٌ،
وَمَلِكُ الْعِرَاقَيْنِ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ بِلَادِ الْمَشْرِقِ
السُّلْطَانُ هُولَاكُوقَانَ مَلِكُ التَّتَارِ ابْنُ تُولِي بْنِ جِنْكِزْخَانَ،
وَسُلْطَانُ دِيَارِ مِصْرَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ سَيْفُ الدِّينِ قُطُزُ
مَمْلُوكُ الْمُعِزِّ أَيْبَكَ التُّرْكُمَانِيِّ، وَسُلْطَانُ دِمَشْقَ وَحَلَبَ
الْمَلِكُ النَّاصِرُ بْنُ الْعَزِيزِ بْنِ الظَّاهِرِ غَازِيِّ بْنِ النَّاصِرِ
فَاتِحِ الْقُدْسِ، وَبِلَادِ الْكَرَكِ وًالشُّوبَكِ لِلْمَلِكِ الْمُغِيثِ بْنِ
الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْكَامِلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ
بْنِ أَيُّوبَ، وَهُوَ حِزْبٌ مَعَ النَّاصِرِ صَاحِبِ دِمَشْقَ عَلَى
الْمِصْرِيِّينَ، وَمَعَهُمَا الْأَمِيرُ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ
الْبُنْدُقْدَارِيُّ، وَقَدْ عَزَمُوا عَلَى قِتَالِ الْمِصْرِيِّينَ وَأَخْذِ
الْبَلَدِ مِنْهُمْ.
أَخْذُ التَّتَارِ حَلَبَ وَدِمَشْقَ
وَبَيْنَمَا النَّاسُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ
بِقَصْدِ التَّتَارِ بِلَادَ الشَّامِ، إِذْ دَخَلَ جَيْشُ الْمَغُولِ صُحْبَةَ
مَلِكِهِمْ هُولَاكُو، وَجَازُوا الْفُرَاتَ عَلَى جُسُورٍ عَمِلُوهَا، وَوَصَلُوا
إِلَى حَلَبَ فِي ثَانِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَحَاصَرُوهَا سَبْعَةَ
أَيَّامٍ، ثُمَّ افْتَتَحُوهَا بِالْأَمَانِ، وَغَدَرُوا
بِهِمْ، فَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ وَسَبَوُا النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، وَجَرَى
عَلَيْهِمْ قَرِيبٌ مِمَّا جَرَى عَلَى أَهْلِ بَغْدَادَ، فَجَاسُوا خِلَالَ
الدِّيَارِ، وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِمْ قَلْعَتُهَا شَهْرًا، ثُمَّ تَسَلَّمُوهَا بِالْأَمَانِ،
وَخُرِّبَتْ أَسْوَارُ الْبَلَدِ وَأَسْوَارُ الْقَلْعَةِ، وَبَقِيَتْ حَلَبُ
كَأَنَّهَا حِمَارٌ أَجْرَبُ، وَكَانَ نَائِبُهَا الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ
تَوْرَانْشَاهُ بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ، وَكَانَ عَاقِلًا حَازِمًا لَكِنَّهُ لَمْ
يُوَافِقْهُ الْجَيْشُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ وَلَكِنْ سَرِعُوا وَكَانَ أَمْرُ
اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا. وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ هُولَاكُو أَرْسَلَ إِلَى
أَهْلِ الْبَلَدِ يَقُولُ لَهُمْ حِينَ قَدِمَ بِجَحَافِلِهِ: نَحْنُ إِنَّمَا
جِئْنَا لِقِتَالِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ بِدِمَشْقَ، وَنَحْنُ نُرِيدُ مِنْكُمْ
أَنْ تَجْعَلُوا بِالْقَلْعَةِ شِحْنَةً، فَإِنْ كَانَتِ النُّصْرَةُ لَنَا
فَالْبِلَادُ كُلُّهَا فِي حُكْمِنَا، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْنَا فَإِنْ شِئْتُمْ
قَبِلْتُمُ الشِّحْنَةَ وَإِنْ شِئْتُمْ أَطْلَقْتُمُوهُ. فَأَجَابُوهُ: مَالَكَ
عِنْدَنَا إِلَّا السَّيْفُ. فَتَعَجَّبَ مِنْ ضَعْفِهِمْ وَجَوَابِهِمْ بِهَذَا،
فَزَحَفَ حِينَئِذٍ إِلَيْهِمْ، وَأَحَاطَ بِالْبَلَدِ، وَكَانَ مَا كَانَ
بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَلَمَّا فُتِحَتْ حَلَبُ أَرْسَلَ صَاحِبُ حَمَاةَ
بِمَفَاتِيحِهَا إِلَيْهِ، فَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا رَجُلًا مِنَ الْعَجَمِ
يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ يُقَالُ لَهُ:
خُسْرُوشَاهْ. فَخَرَّبَ أَسْوَارَهَا كَمَا فُعِلَ بِمَدِينَةِ حَلَبَ.
صِفَةُ أَخْذِهِمْ لِدِمَشْقَ
وَزَوَالِ مُلْكِهِمْ عَنْهَا سَرِيعًا
أَرْسَلَ هُولَاكُو وَهُوَ نَازِلٌ عَلَى حَلَبَ جَيْشًا مَعَ أَمِيرٍ مِنْ كِبَارِ
دَوْلَتِهِ يُقَالُ لَهُ: كَتْبُغَانُوِينَ. فَوَرَدُوا دِمَشْقَ فِي آخِرِ
صَفَرٍ، فَأَخَذُوهَا سَرِيعًا مِنْ غَيْرِ مُمَانِعَةٍ وَلَا مُدَافِعَةٍ، بَلْ
تَلَقَّاهُمْ كِبَارُهَا بِالرُّحْبِ وَالسَّعَةِ، وَقَدْ كَتَبَ مَعَهُمُ
السُّلْطَانُ هُولَاكُو فَرَمَانَ أَمَانٍ لِأَهْلِ الْبَلَدِ، فَقُرِئَ
بِالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ، وَنُودِيَ بِهِ فِي الْبَلَدِ، فَأَمِنَ النَّاسُ
عَلَى وَجِلٍ أَنْ يَغْدِرُوا كَمَا فُعِلَ بِأَهْلِ حَلَبَ، هَذَا وَالْقَلْعَةُ
مُمْتَنِعَةٌ مَسْتُورَةٌ، وَفِي أَعَالِيهَا الْمَجَانِيقُ مَنْصُوبَةٌ،
وَالْحَالُ شَدِيدَةٌ، فَأَحْضَرَتِ التَّتَارُ مَجَانِيقَ تُحْمَلُ عَلَى عَجَلٍ
وَالْخُيُولُ تَجُرُّهَا، وَهُمْ رَاكِبُونَ عَلَى الْخَيْلِ، وَأَسْلِحَتُهُمْ
تُحْمَلُ عَلَى أَبْقَارٍ كَثِيرَةٍ، فَنُصِبَ الْمَجَانِيقُ عَلَى الْقَلْعَةِ
مِنْ غَرْبِيِّهَا وَهَدَمُوا حِيطَانًا كَثِيرَةً وَأَخَذُوا حِجَارَتَهَا
وَرَمَوْا بِهَا الْقَلْعَةَ رَمْيًا مُتَوَاتِرًا كَالْمَطَرِ الْمُتَدَارِكِ،
فَهَدَمُوا كَثِيرًا مِنْ أَعَالِيهَا وَشُرُفَاتِهَا، وَتَدَاعَتْ لِلسُّقُوطِ،
فَأَجَابَهُمْ مُتَوَلِّيهَا فِي آخِرِ ذَلِكَ النَّهَارِ لِلْمُصَالَحَةِ،
فَفَتَحُوهَا وَخَرَّبُوا كُلَّ بَدَنَةٍ فِيهَا، وَأَعَالِي بُرُوجِهَا، وَذَلِكَ
فِي الْمُنْتَصَفِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَتَلُوا
الْمُتَوَلِّيَ بِهَا بَدْرَ الدِّينِ بْنَ قَرَاجَا، وَنَقِيبَهَا جَمَالَ
الدِّينِ بْنَ الصَّيْرَفِيِّ الْحَلَبِيَّ، وَسَلَّمُوهَا إِلَى أَمِيرٍ مِنْهُمْ
يُقَالُ لَهُ: إِيلَ سَبَانَ.
وَكَانَ لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُعَظِّمًا لِدِينِ النَّصَارَى، فَاجْتَمَعَ
بِهِ أَسَاقِفَتُهُمْ وَقُسُوسُهُمْ، فَعَظَّمَهُمْ جِدًّا وَزَارَ كَنَائِسَهُمْ،
فَصَارَتْ لَهُمْ دَوْلَةٌ وَحَوْلَةٌ وَصَوْلَةٌ
بِسَبَبِهِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَهَبَتْ
طَائِفَةٌ مِنَ النَّصَارَى إِلَى هُولَاكُو بِهَدَايَا وَتُحَفٍ، وَقَدِمُوا مِنْ
عِنْدِهِ وَمَعَهُمْ أَمَانٌ; فَرَمَانٌ مِنْ جِهَتِهِ، وَدَخَلُوا الْبَلَدَ مِنْ
بَابِ تَوْمَاءَ وَمَعَهُمْ صَلِيبٌ مَنْصُوبٌ يَحْمِلُونَهُ عَلَى رُءُوسِ
النَّاسِ، وَهُمْ يُنَادُونَ بِشِعَارِهِمْ، وَيَقُولُونَ ظَهَرَ الدِّينُ
الصَّحِيحُ، دِينُ الْمَسِيحِ.
وَيَذُمُّونَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلَهُ وَمَعَهُمْ أَوَانٍ فِيهَا خَمْرٌ لَا
يَمُرُّونَ عَلَى بَابِ مَسْجِدٍ إِلَّا رَشُّوا عِنْدَهُ خَمْرًا، وَقَمَاقِمَ
مَلْآنَةً خَمْرًا يَرُشُّونَ مِنْهَا عَلَى وُجُوهِ النَّاسِ، وَيَأْمُرُونَ
كُلَّ مَنْ يَجْتَازُونَ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقَاتِ أَنْ يَقُومَ
لِصَلِيبِهِمْ، وَدَخَلُوا مَنْ دَرْبِ الْحَجَرِ، فَوَقَفُوا عِنْدَ رِبَاطِ
الشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ، وَرَشُّوا هُنَالِكَ خَمْرَا، وَكَذَلِكَ عَلَى بَابِ
مَسْجِدِ دَرْبِ الْحَجَرِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَاجْتَازُوا فِي السُّوقِ
حَتَّى وَصَلُوا إِلَى دَرْبِ الرَّيْحَانِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ، فَتَكَاثَرَ
عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ، فَرَدُّوهُمْ إِلَى سُوقِ كَنِيسَةِ مَرْيَمَ،
فَوَقَفَ خَطِيبُهُمْ إِلَى دَكَّةِ دُكَّانٍ فِي عَطْفَةِ السُّوقِ هُنَالِكَ،
فَذَكَرَ فِي خُطْبَتِهِ مَدْحَ دِينِ النَّصَارَى، وَذَمَّ دِينَ الْإِسْلَامِ
وَأَهْلَهُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
ثُمَّ وَلَجُوا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى كَنِيسَةِ مَرْيَمَ، وَكَانَتْ بَعْدُ
عَامِرَةً، وَلَكِنْ كَانَ هَذَا سَبَبَ خَرَابِهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَحَكَى الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ فِي " الذَّيْلِ عَلَى الْمِرْآةِ "
أَنَّهُمْ ضَرَبُوا بِالنَّاقُوسِ بِكَنِيسَةِ مَرْيَمَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: وَذَكَرَ أَنَّهُمْ دَخَلُوا إِلَى الْجَامِعِ بِخَمْرٍ، وَكَانَ مِنْ
نِيَّتِهِمْ إِنْ طَالَتْ مُدَّةُ التَّتَارِ أَنْ يُخَرِّبُوا كَثِيرًا مِنَ الْمَسَاجِدِ
وَغَيْرِهَا، فَكَفَى اللَّهُ شَرَّهُمْ. وَلَمَّا وَقَعَ هَذَا فِي
الْبَلَدِ اجْتَمَعَ قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَالشُّهُودُ
وَالْفُقَهَاءُ، فَدَخَلُوا الْقَلْعَةَ يَشْكُونَ هَذَا الْحَالَ إِلَى
مُتَسَلِّمِهَا إِيلَ سَبَانَ، فَأُهِينُوا وَطُرِدُوا، وَقَدَّمَ كَلَامَ
رُؤَسَاءِ النَّصَارَى عَلَيْهِمْ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
وَقَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ سُلْطَانُ الشَّامِ النَّاصِرُ بْنُ
الْعَزِيزِ، قَدْ أَقَامَ فِي وَطْأَةِ بَرْزَةَ، وَمَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ
الْجُيُوشِ وَالْأُمَرَاءِ وَأَبْنَاءِ الْمُلُوكِ لِيُنَاجِزُوا التَّتَارَ إِنْ
قَدِمُوا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ مِمَّنْ مَعَهُ الْأَمِيرُ بِيبَرْسُ
الْبُنْدُقْدَارِيُّ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْبَحْرِيَّةِ، وَالْكَلِمَةُ بَيْنَ
الْجُيُوشِ مُخْتَلِفَةٌ غَيْرُ مُؤْتَلِفَةٍ، لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ.
وَقَدْ عَزَمَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى خَلْعِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ
وَسَجْنِهِ وَمُبَايَعَةِ أَخِيهِ شَقِيقِهِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ عَلِيٍّ،
فَلَمَّا تَنَسَّمَ النَّاصِرُ ذَلِكَ هَرَبَ إِلَى الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ
وَتَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ شَذَرَ مَذَرَ، وَسَاقَ الْأَمِيرُ رُكْنُ الدِّينِ
بِيبَرْسُ الْبُنْدُقْدَارِيُّ فِي أَصْحَابِهِ إِلَى نَاحِيَةِ غَزَّةَ،
فَاسْتَدْعَاهُ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ قُطُزُ إِلَيْهِ، وَاسْتَقْدَمَهُ
عَلَيْهِ، وَأَقْطَعَهُ قَلْيُوبَ، وَأَنْزَلَهُ بِدَارِ الْوِزَارَةِ، وَعَظُمَ
شَأْنُهُ لَدَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ حَتْفُهُ عَلَى يَدَيْهِ.
وَقْعَةُ عَيْنِ جَالُوتَ
وَاتَّفَقَ وُقُوعُ هَذَا كُلِّهِ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، فَمَا مَضَتْ سِوَى ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ حَتَّى جَاءَتِ
الْبِشَارَةُ بِنُصْرَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّتَارِ بِعَيْنِ جَالُوتَ
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلِكَ الْمُظَفَّرَ قُطُزَ صَاحِبَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ التَّتَارَ قَدْ فَعَلُوا
بِالشَّامِ مَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ نَهَبُوا الْبِلَادَ كُلَّهَا حَتَّى وَصَلُوا
إِلَى
غَزَّةَ، وَقَدْ عَزَمُوا عَلَى الدُّخُولِ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَقَدْ عَزَمَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَاحِبُ دِمَشْقَ
عَلَى الرَّحِيلِ إِلَى مِصْرَ، وَلَيْتَهُ فَعَلَ. وَكَانَ فِي صُحْبَتِهِ
الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ صَاحِبُ حَمَاةَ، وَخَلْقٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَأَبْنَاءِ
الْمُلُوكِ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَى قَطْيَةَ، وَتَهَيَّأَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ
لِلِقَائِهِ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَإِلَى الْمَنْصُورِ مُسْتَحَثِّينَ، وَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ يَقُولُ: تَقَدِّمْ حَتَّى نَكُونَ كَتِفًا وَاحِدًا عَلَى التَّتَارِ.
فَتَخَيَّلَ مِنْ ذَلِكَ وَخَافَ أَنْ يَنْتَصِرَ عَلَيْهِ، فَكَرَّ رَاجِعًا
إِلَى نَاحِيَةِ تِيهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَدَخَلَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ مَعَهُ
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَكْرَمَ الْمُظَفَّرُ الْمَلِكَ صَاحِبَ
حَمَاةَ، وَوَعَدَهُ بِبَلَدِهِ، وَوَفَّى لَهُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَدْخُلِ
النَّاصِرُ وَلَيْتَهُ فَعَلَ، فَإِنَّهُ كَانَ أَيْسَرَ عَلَيْهِ مِمَّا صَارَ
إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ خَافَ مِنْهُمْ لِعَدَاوَةٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ،
فَعَدَلَ إِلَى نَاحِيَةِ الْكَرَكِ فَتَحَصَّنَ بِهَا، وَلَيْتَهُ اسْتَمَرَّ
فِيهَا، وَلَكِنَّهُ قَلِقَ، فَرَكِبَ نَحْوَ الْبَرِّيَّةِ - وَلَيْتَهُ ذَهَبَ
فِيهَا - وَاسْتَجَارَ بِبَعْضِ أُمَرَاءِ الْأَعْرَابِ، فَقَصَدَتْهُ التَّتَارُ،
وَأَتْلَفُوا تِلْكَ الدِّيَارَ وَنَهَبُوا مَا هُنَالِكَ مِنَ الْأَمْوَالِ،
وَقَتَلُوا الْكِبَارَ وَالصِّغَارَ، وَهَجَمُوا عَلَى الْأَعْرَابِ الَّتِي
بِتِلْكَ النَّوَاحِي، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَسَبَوْا مِنْ
نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، وَقَدِ اقْتَصَّ مِنْهُمُ الْعَرَبُ بَعْدَ ذَلِكَ،
فَأَغَارُوا عَلَى خَيْلِ جِشَارِهِمْ فِي نِصْفِ شَعْبَانَ، فَسَاقُوهَا
بِأَسْرِهَا، فَسَاقَتْ وَرَاءَهُمُ التَّتَارُ، فَلَمْ يُدْرِكُوا مِنْهُمُ
الْغُبَارَ، وَلَا اسْتَرَدُّوا مِنْهُمْ فَرَسًا وَلَا حِمَارًا، وَمَا زَالَ
التَّتَارُ وَرَاءَ النَّاصِرِ حَتَّى أَخَذُوهُ وَأَسَرُوهُ عِنْدَ بِرْكَةِ
زَيْزَاءَ، وَأَرْسَلُوهُ مَعَ وَلَدِهِ الْعَزِيزِ وَهُوَ صَغِيٌرٌ، وَأَخِيهِ
إِلَى مَلِكِهِمْ هُولَاكُو وَهُوَ نَازِلٌ عَلَى حَلَبَ، فَكَانُوا فِي
أَسْرِهِ حَتَّى قَتَلَهُمْ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ،
كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُظَفَّرَ لَمَّا بَلَغَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ
التَّتَارِ بِالشَّامِ الْمَحْرُوسَةِ وَأَنَّهُمْ عَازِمُونَ عَلَى الدُّخُولِ
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَ تَمْهِيدِ مَمْلَكَتِهِمْ بِالشَّامِ
بَادَرَهُمْ هُوَ قَبْلَ أَنْ يُبَادِرُوهُ، وَبَرَزَ إِلَيْهِمْ، أَيَّدَهُ
اللَّهُ تَعَالَى، وَأَقْدَمَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَيْهِ،
فَخَرَجَ بِالْعَسَاكِرِ الْمِصْرِيَّةِ، وَقَدِ اجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ
عَلَيْهِ، حَتَّى انْتَهَى بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ الْمَنْصُورَةِ إِلَى
الشَّامِ وَاسْتَيْقَظَ لَهُ عَسْكَرُ الْمَغُولِ، وَعَلَيْهِمْ كَتُبْغَا
نُوِينَ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ فِي الْبِقَاعِ، فَاسْتَشَارَ الْأَشْرَفُ صَاحِبُ
حِمْصَ وَالْقَاضِي مُجِيرُ الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ فِي لِقَاءِ الْمُظَفَّرِ،
فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ لَا قِبَلَ لَهُ بِالْمُظَفَّرِ حَتَّى
يَسْتَمِدَّ هُولَاكُو، فَأَبَى إِلَّا أَنْ يُنَاجِزَهُ سَرِيعًا، فَصَمَدُوا
إِلَيْهِ، فَكَانَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى عَيْنِ جَالُوتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
الْخَامِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا
شَدِيدًا، فَكَانَتِ النُّصْرَةُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ،
فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ هَزِيمَةً هَائِلَةً، وَقُتِلَ كَتْبُغَا نُوِينَ
وَجَمَاعَةٌ مِنْ بَنِيهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي قَتَلَ كَتْبُغَا نُوِينَ
الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ الشَّمْسِيُّ، وَاتَّبَعَهُمُ الْجَيْشُ
الْإِسْلَامِيُّ يَقْتُلُونَهُمْ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَفِي كُلِّ مَأْزِقٍ، وَقَدْ
قَاتَلَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ صَاحِبُ حَمَاةَ مَعَ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ فِي
هَذِهِ الْوَقْعَةِ قِتَالًا عَظِيمًا، وَكَذَلِكَ الْأَمِيرُ فَارِسُ الدِّينِ
أَقَطَايَ الْمُسْتَعْرِبُ، وَكَانَ أَتَابِكَ الْعَسْكَرِ، وَقَدْ أُسِرَ مِنْ
جَمَاعَةِ كَتْبُغَا نُوِينَ الْمَلِكُ السَّعِيدُ بْنُ الْعَزِيزِ بْنِ الْعَادِلِ،
فَأَمَرَ الْمُظَفَّرُ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، وَاسْتَأْمَنَ الْأَشْرَفُ صَاحِبُ
حِمْصَ وَكَانَ مَعَ التَّتَارِ، وَقَدْ جَعَلَهُ هُولَاكُو نَائِبًا عَلَى
الشَّامِ كُلِّهِ، فَأَمَّنَهُ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ، وَرَدَّ إِلَيْهِ حِمْصَ،
وَكَذَلِكَ رَدَّ حَمَاةَ إِلَى الْمَنْصُورِ، وَزَادَهُ الْمَعَرَّةَ
وَغَيْرَهَا، وَأَطْلَقَ سَلَمْيَةَ لِلْأَمِيرِ شَرَفِ
الدِّينِ عِيسَى بْنِ مُهَنَّا بْنِ مَانِعٍ أَمِيرِ الْعَرَبِ، وَاتَّبَعَ
الْأَمِيرُ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ الْبُنْدُقْدَارِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشُّجْعَانِ
التَّتَارَ يَقْتُلُونَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ، إِلَى أَنْ وَصَلُوا خَلْفَهُمْ
إِلَى حَلْبَ، وَهَرَبَ مَنْ بِدِمَشْقَ مِنْهُمْ، وَكَانَ هَرَبُهُمْ مِنْهَا
يَوْمَ الْأَحَدِ السَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ صَبِيحَةَ النَّصْرِ
الَّذِي جَاءَتْ فِيهِ الْبِشَارَةُ بِالنُّصْرَةِ عَلَى عَيْنِ جَالُوتَ،
فَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دِمَشْقَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ
وَيَنْهَبُونَ الْأَمْوَالَ فِيهِمْ، وَيَسْتَفِكُّونَ الْأُسَارَى مِنْ
أَيْدِيهِمْ قَهْرًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَنُ عَلَى جَبْرِهِ
الْإِسْلَامَ، وَمُعَامَلَتِهِ إِيَّاهُمْ بِلُطْفِهِ الْحَسَنِ.
وَجَاءَتْ بِذَلِكَ الْبِشَارَةُ السَّارَّةُ، فَجَاوَبَتْهَا الْبَشَائِرُ مِنَ
الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ وَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمئِذٍ بِنَصْرِ اللَّهِ
فَرَحًا شَدِيدًا، وَأَيْدَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ تَأْيِيدًا، وَكُبِتَ
أَعْدَاءُ اللَّهِ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ، وَظَهَرَ دِينُ
اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ، وَنَصَرَ اللَّهُ دِينَهُ وَنَبِيَّهُ وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ.
فَتَبَادَرَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى كَنِيسَةِ النَّصَارَى الَّتِي
خَرَجَ مِنْهَا الصَّلِيبُ، فَانْتَهَبُوا مَا فِيهَا وَأَحْرَقُوهَا وَأَلْقَوُا
النَّارَ فِيمَا حَوْلَهَا، فَاحْتَرَقَتْ دُورٌ كَثِيرَةٌ لِلنَّصَارَى، وَمَلَأَ
اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا، وَأَحْرَقَ بَعْضَ كَنِيسَةِ
الْيَعَاقِبَةِ، وَهَمَّتْ طَائِفَةٌ بِنَهْبِ الْيَهُودِ، فَقِيلَ لَهُمْ:
إِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ فِيمَا ظَهَرَ مِنَ الطُّغْيَانِ كَمَا كَانَ
عَلَى عَبَدَةِ الصُّلْبَانِ. وَقَتَلَتِ الْعَامَّةُ فِي وَسَطِ الْجَامِعِ
شَيْخًا رَافِضِيًّا كَانَ مُصَانِعًا لِلتَّتَارِ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ
يُقَالُ لَهُ: الْفَخْرُ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْكَنْجِيُّ. كَانَ خَبِيثَ
الطَّوِيَّةِ مَشْرِقِيًّا مُمَالِئًا لَهُمْ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ،
قَبَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَتَلُوا جَمَاعَةً مِثْلَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ
الْمُمَالِئَيْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ الْأَنْعَامِ: 45 ].
وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ هُولَاكُو أَرْسَلَ تَقْلِيدًا بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ
عَلَى جَمِيعِ الْمَدَائِنِ;
الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ وَمَارِدِينَ
وَمَيَّافَارِقِينَ وَالْأَكْرَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِلْقَاضِي كَمَالِ الدِّينِ
عُمَرَ بْنِ بُنْدَارٍ التَّفْلِيسِيِّ. وَقَدْ كَانَ نَائِبَ الْحُكْمِ
بِدِمَشْقَ عَنِ الْقَاضِي صَدَرِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى بْنِ هِبَةِ
اللَّهِ بْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ مِنْ مُدَّةِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَحِينَ
وَصَلَ التَّقْلِيدُ فِي سَادِسٍ وَ عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قُرِئَ
بِالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ، فَاسْتَقَلَّ بِالْحُكْمِ فِي دِمَشْقَ، وَكَانَ مِنَ
الْفُضَلَاءِ، فَسَارَ الْقَاضِيَانِ الْمَعْزُولَانِ صَدْرُ الدِّينِ بْنُ
سَنِيِّ الدَّوْلَةِ وَمُحْيِي الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ إِلَى خِدْمَةِ
السُّلْطَانِ هُولَاكُو إِلَى الْبِلَادِ الْحَلَبِيَّةِ، فَخَدَعَ ابْنُ
الزَّكِيِّ لِابْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ وَبَذَلَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً،
وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ وَرَجَعَا، فَمَاتَ ابْنُ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ
بِبَعْلَبَكَّ، وَقَدِمَ ابْنُ الزَّكِيِّ عَلَى الْقَضَاءِ، وَمَعَهُ تَقْلِيدُهُ
وَخِلْعَةٌ مُذَهَّبَةٌ، فَلَبِسَهَا وَجَلَسَ فِي خِدْمَةِ إِيلَ سَبَانَ تَحْتَ
قُبَّةِ النَّسْرِ عِنْدَ الْبَابِ الْكَبِيرِ، وَبَيْنَهُمَا الْخَاتُونُ
زَوْجَةُ إِيلْ سَبَانَ حَاسِرَةً عَنْ وَجْهِهَا، وَقُرِئَ التَّقْلِيدُ
هُنَالِكَ وَالْحَالُ كَذَلِكَ، وَحِينَ ذُكِرَ اسْمُ هُولَاكُو لَعْنَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِ، نُثِرَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ فَوْقَ رُؤْسِ النَّاسِ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، قَبَّحَ اللَّهُ ذَلِكَ الْقَاضِيَ
وَالْأَمِيرَ وَالزَّوْجَةَ وَالسُّلْطَانَ.
وَذَكَرَ أَبُو شَامَةَ أَيْضًا أَنَّهُ اسْتَحْوَذَ عَلَى مَدَارِسَ كَثِيرَةٍ
فِي مُدَّتِهِ هَذِهِ الْقَصِيرَةِ، فَإِنَّهُ عُزِلَ قَبْلَ رَأْسِ الْحَوْلِ
فَأَخَذَ الْعَذْرَاوِيَّةَ وَالسُّلْطَانِيَّةَ وَالْفَلَكِيَّةَ
وَالرُّكْنِيَّةَ وَالْقَيْمُرِيَّةَ وَالْعَزِيزِيَّةَ مَعَ الْمَدْرَسَتَيْنِ
اللَّتَيْنِ كَانَتَا بِيَدِهِ; التَّقَوِيَّةِ وَالْعَزِيزِيَّةِ،
وَأَخَذَ لِوَلَدِهِ عِيسَى تَدْرِيسَ الْأَمِينِيَّةِ
وَمَشْيَخَةِ الشُّيُوخِ، وَأَخَذَ أَمَّ الصَّالِحِ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ
الْعِمَادُ الْمِصْرِيُّ، وَكَذَا أَخَذَ الشَّامِيَّةَ الْبَرَّانِيَّةَ
لِصَاحِبٍ لَهُ، وَاسْتَنَابَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ شِهَابَ الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ
بْنَ أَسْعَدَ بْنِ حُبَيْشٍ فِي الْقَضَاءِ، وَوَلَّاهُ الرَّوَاحِيَّةَ
وَالشَّامِيَّةَ الْبَرَّانِيَّةَ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: مَعَ أَنَّ شَرْطَ
وَاقِفِهَا أَنْ لَا يُجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا.
وَلَمَّا رَجَعَتِ الْمَمْلَكَةُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ سَعَى الْقَاضِي مُحْيِي
الدِّينِ وَبَذَلَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً لِيَسْتَمِرَّ فِي الْقَضَاءِ
وَالْمَدَارِسِ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا فِي مُدَّةِ هَذِهِ الشُّهُورِ،
فَلَمْ يَسْتَمِرَّ بَلْ عُزِلَ بِالْقَاضِي نَجْمِ الدِّينِ أَبِي بَكْرِ بْنِ
صَدْرِ الدِّينِ بْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ، فَقُرِئَ تَوْقِيعُهُ بِالْقَضَاءِ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي
الْقَعْدَةِ بِالشُّبَّاكِ الْكَمَالِيِّ مِنْ مَشْهَدِ عُثْمَانَ مِنْ جَامِعِ
دِمَشْقَ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَمَّا كَسَرَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ قُطُزُ عَسَاكِرَ التَّتَارِ بِعَيْنِ
جَالُوتَ سَاقَ وَرَاءَهُمْ، وَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَفَرِحَ
النَّاسُ بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا وَدَعَوْا لَهُ دُعَاءً كَثِيرًا، وَأَقَرَّ
صَاحِبَ حِمْصَ الْمَلِكَ الْأَشْرَفَ عَلَى بَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَنْصُورَ
صَاحِبَ حَمَاةَ، وَاسْتَرَدَّ حَلَبَ أَيْضًا مِنْ أَيْدِي التَّتَارِ وَعَادَ
الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ، وَمَهَّدَ الْقَوَاعِدَ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ بَيْنَ
يَدَيْهِ الْأَمِيرَ رُكْنَ الدِّينِ بِيبَرْسَ الْبُنْدُقْدَارِيَّ لِيَطْرُدَ
التَّتَارَ وَيَتَسَلَّمَ مَدِينَةَ حَلْبَ، وَوَعَدَهُ بِنِيَابَتِهَا، فَلَمَّا
طَرَدَهُمْ عَنْهَا، وَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا، وَتَسَلَّمَهَا الْمُسْلِمُونَ
اسْتَنَابَ عَلَيْهَا غَيْرَهُ، وَهُوَ عَلَاءُ الدِّينِ ابْنُ صَاحِبِ
الْمَوْصِلِ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْوَحْشَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا،
وَاقْتَضَتْ قَتْلَ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ قُطُزَ سَرِيعًا، وَلِلَّهِ الْأَمْرُ.
وَعَزَمَ الْمُظَفَّرُ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، فَاسْتَنَابَ عَلَى دِمَشْقَ الْأَمِيرَ عَلَمَ الدِّينِ سَنْجَرَ
الْحَلَبِيَّ الْكَبِيرَ وَالْأَمِيرَ مُجِيرَ الدِّينِ بْنَ الْحُسَيْنِ،
وَعَزَلَ ابْنَ الزَّكِيِّ عَنْ قَضَاءِ دِمَشْقَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا نَجْمَ
الدِّينِ ابْنَ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَالْعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي خِدْمَتِهِ، وَعُيُونُ
الْأَعْيَانِ تَنْظُرُ إِلَيْهِ شَزْرًا مِنْ شِدَّةِ هَيْبَتِهِ.
ذَكْرُ سَلْطَنَةِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ وَهُوَ
الْأَسَدُ الضَّارِي بِيبَرْسُ الْبِنْدِقْدَارِيُّ
وَذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ الْمَلِكَ الْمُظَفَّرَ قُطُزَ لَمَّا عَادَ
بِالْعَسَاكِرِ قَاصِدًا الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، فَوَصَلَ إِلَى مَا بَيْنَ
الْغُرَابِيِّ وَالصَّالِحِيَّةِ، عَدَا عَلَيْهِ الْأُمَرَاءُ، فَقَتَلُوهُ
هُنَالِكَ وَقَدْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، كَثِيرَ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ،
وَلَا يَتَعَاطَى الشَّرَابَ وَلَا شَيْئًا مِمَّا يَتَعَاطَاهُ الْمُلُوكُ،
وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ مِنْ حِينَ عَزَلَ ابْنَ أُسْتَاذِهِ الْمَنْصُورَ
عَلِيَّ بْنَ الْمُعِزِّ التُّرْكُمَانِيَّ إِلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَهِيَ
أَوَاخِرُ ذِي الْقَعْدَةِ نَحْوًا مِنْ سَنَةٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَجَزَاهُ عَنِ
الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ خَيْرًا.
وَكَانَ الْأَمِيرُ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ الْبُنْدُقْدَارِيُّ قَدِ اتَّفَقَ
مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى قَتْلِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ
الْمَنْزِلَةِ ضَرَبَ دِهْلِيزَهُ، وَسَاقَ خَلْفَ أَرْنَبٍ، وَسَاقَ مَعَهُ
أُولَئِكَ الْأُمَرَاءُ، فَشَفَعَ عِنْدَهُ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ فِي شَيْءٍ
فَشَفَّعَهُ، فَأَخَذَ يَدَهُ لِيُقَبِّلَهَا فَأَمْسَكَهَا، وَحَمَلَ عَلَيْهِ
أُولَئِكَ الْأُمَرَاءُ بِالسُّيُوفِ، وَأَلْقَوْهُ عَنْ فَرَسِهِ، وَرَشَقُوهُ
بِالنِّشَابِ حَتَّى أَجْهَزُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ كَرُّوا رَاجِعِينَ إِلَى
الْمُخَيَّمِ، وَبِأَيْدِيهِمُ السُّيُوفُ مُصْلَتَةٌ، فَأَخْبَرُوا مَنْ هُنَاكَ
بِالْخَبَرِ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: مَنْ قَتَلَهُ؟ فَقَالَ رُكْنُ الدِّينِ:
أَنَا. فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ الْمَلِكُ. وَقِيلَ: لَمَّا قُتِلَ حَارَ
الْأُمَرَاءُ بَيْنَهُمْ فِيمَنْ يُوَلُّونَ الْمُلْكَ، وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ يَخْشَى غَائِلَةَ ذَلِكَ، وَأَنْ يُصِيبَهُ مَا أَصَابَ غَيْرَهُ
سَرِيعًا، فَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى أَنْ بَايَعُوا الْأَمِيرَ رُكْنَ
الدِّينِ بِيبَرْسَ الْبُنْدُقْدَارِيَّ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَكَابِرِ
الْمُقَدَّمِينَ فِيهِمْ، وَلَكِنْ أَرَادُوا أَنْ يُجَرِّبُوا فِيهِ،
وَلَقَّبُوهُ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ، فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ
وَحَكَمَهُ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَضُرِبَتِ الطُّبُولُ وَالْبُوقَاتُ،
وَصَفَّرَتِ الشَّبَّابَةُ، وَزَعَقَتِ الشَّاوُوشِيَّةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ
يَوْمًا مَشْهُودًا، وَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَاسْتَعَانَ بِهِ، ثُمَّ دَخَلَ
مِصْرَ وَالْعَسَاكِرُ فِي خِدْمَتِهِ، فَدَخَلَ قَلْعَةَ الْجَبَلِ، وَجَلَسَ
عَلَى كُرْسِيِّهَا، وَحَكَمَ فَعَدَلَ، وَقَطَعَ وَوَصَلَ، وَكَانَ شَهْمًا
شُجَاعًا، أَقَامَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ لِشِدَّةِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ فِي
هَذَا الْوَقْتِ الشَّدِيدِ وَالْأَمْرِ الْعَسِيرِ، وَكَانَ أَوَّلًا قَدْ
لَقَّبَ نَفْسَهُ بِالْمَلِكِ الْقَاهِرِ، فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: إِنَّ هَذَا
اللَّقَبَ لَا يُفْلِحُ مَنْ تَلَقَّبَ بِهِ; تَلَقَّبَ بِهِ الْقَاهِرُ بْنُ
الْمُعْتَضِدِ فَلَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ حَتَّى خُلِعَ وَسُمِلَ، وَلُقِّبَ بِهِ
الْقَاهِرُ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، فَسُمَّ فَمَاتَ.
فَعَدَلَ عَنْ هَذَا اللَّقَبِ إِلَى الْمَلِكِ الظَّاهِرِ ثُمَّ شَرَعَ فِي
مَسْكِ مَنْ يَرَى فِي نَفْسِهِ رِئَاسَةً مَنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ حَتَّى
مَهَّدَ الْمُلْكُ كَمَا يُرِيدُ، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ هُولَاكُوقَانَ لَمَّا بَلَغَهُ مَا جَرَى عَلَى
جَيْشِهِ بِعَيْنِ جَالُوتَ أَرْسَلَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْ جَيْشِهِ إِلَى
بِلَادِ الشَّامِ لِيَسْتَعِيدُوهُ مِنْ أَيْدِي جَيْشِ الْإِسْلَامِ، فَحِيلَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ، وَرَجَعُوا إِلَيْهِ وَهُمْ خَائِبُونَ
خَاسِرُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ نَهَضَ إِلَيْهِمُ الْهِزَبْرُ الْكَاسِرُ
وَالسَّيْفُ الْبَاتِرُ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْمُؤَيَّدُ الظَّاهِرُ، فَقَدِمَ
إِلَى
دِمَشْقَ وَأَرْسَلَ الْجُيُوشَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ،
لِحِفْظِ الثُّغُورِ وَالْمَعَاقِلِ بِالْأَسْلِحَةِ التَّامَّةِ وَالْجَحَافِلِ،
فَلَمْ يَقْدِرِ التَّتَارُ عَلَى الدُّنُوِّ إِلَيْهِ، وَلَا الْقُدُومِ
عَلَيْهِ، وَوَجَدُوا الدَّوْلَةَ قَدْ تَغَيَّرَتْ، وَالسَّوَاعِدَ قَدْ
شُمِّرَتْ، وَالسُّيُوفَ الْبَوَاتِرَ قَدْ سُلَّتْ، وَالرِّمَاحَ الْخَطِّيَّةَ
قَدِ اعْتُقِلَتْ، وَالْقِسِيَّ قَدْ وُتِّرَتْ، وَالنِّبَالَ قَدْ حُصِّلَتْ،
وَالْخُيُولَ قَدْ ضُمِرَتْ، وَالطُّبُولَ قَدْ حُصِّلَتْ، وَعِنَايَةَ اللَّهِ
بِأَهْلِ بِالشَّامِ قَدْ تَنَزَّلَتْ، وَرَحْمَتَهُ بِهِمْ قَدْ تَدَارَكَتْ،
فَعِنْدَ ذَلِكَ نَكَصَتْ شَيَاطِينُهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَكَرَّتْ
رَاجِعَةً الْقَهْقَرَى عَلَى أَذْنَابِهَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ، وَتَكْمُلُ الْمَسَرَّاتُ فِي هَذِهِ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَبَعْدَ الْمَمَاتِ.
وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ قُطُزُ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَنَابَ عَلَى
دِمَشْقَ الْأَمِيرَ عَلَمَ الدِّينِ سَنْجَرَ الْحَلَبِيَّ أَحَدَ الْأَتْرَاكِ،
فَلَمَّا بَلَغَهُ مَقْتَلُ الْمُظَفَّرِ دَخَلَ الْقَلْعَةَ، وَدَعَا لِنَفْسِهِ
وَتَسَمَّى بِالْمَلِكِ الْمُجَاهِدِ، فَلَمَّا جَاءَتِ الْبَيْعَةُ لِلْمَلِكِ
الظَّاهِرِ خُطَبَ لَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّادِسَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ،
فَدَعَا الْخَطِيبُ أَوَّلًا لِلْمُجَاهِدِ، ثُمَّ لِلظَّاهِرِ ثَانِيًا،
وَضُرِبَتِ السِّكَّةُ بِاسْمِهِمَا مَعًا، ثُمَّ ارْتَفَعَ الْمُجَاهِدُ هَذَا
مِنَ الْبَيْنِ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَدِ اتَّفَقَ فِي هَذَا الْعَامِ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ، وَهِيَ أَنَّ أَوَّلَ
هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتِ الشَّامُ لِلسُّلْطَانِ النَّاصِرِ بْنِ الْعَزِيزِ،
ثُمَّ فِي النِّصْفِ مِنْ صِفْرٍ صَارَتْ لِهُولَاكُوقَانَ مَلِكِ التَّتَارِ،
ثُمَّ فِي آخِرِ رَمَضَانَ صَارَتْ لِلْمُظَفَّرِ قُطُزَ، ثُمَّ فِي أَوَاخِرَ ذِي
الْقَعْدَةِ انْتَقَلَتْ إِلَى مَمْلَكَةِ السُّلْطَانِ الظَّاهِرُ بِيبَرْسُ،
وَقَدْ شَرَكَهُ فِي دِمَشْقَ الْمَلِكُ الْمُجَاهِدُ عَلَمُ الدِّينِ
سَنْجَرُ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَلِكَ كَانَ الْقَضَاءُ
فِي أَوَّلِهَا بِالشَّامِ لِصَدْرِ الدِّينِ بْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ
لِلْكَمَالِ عُمَرَ التَّفْلِيسِيِّ، ثُمَّ لِمُحْيِي الدِّينِ بْنِ الزَّكِيِّ،
ثُمَّ لِنَجْمِ الدِّينِ بْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ. وَكَذَلِكَ كَانَ خَطِيبُ
جَامِعِ دِمَشْقَ عِمَادُ الدِّينِ بْنِ الْحَرَسْتَانِيِّ مِنْ سِنِينَ
مُتَطَاوِلَةٍ، فَعُزِلَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِالْعِمَادِ
الِإِسْعَرْدِيِّ، وَكَانَ صَيِّتًا قَارِئًا مُجِيدًا، ثُمَّ أُعِيدَ الْعِمَادُ
الْحَرَسْتَانِيُّ فِي أَوَّلِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا. فَسُبْحَانَ مَنْ
بِيَدِهِ الْأُمُورُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
قَاضِي الْقُضَاةِ صَدْرُ الدِّينِ بْنُ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ
أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ صَدَقَةَ بْنِ الْخَيَّاطِ، قَاضِي
الْقُضَاةِ صَدَرُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ
التَّغْلِبِيُّ الدِّمَشْقِيُّ الشَّافِعِيُّ، وَسَنِيُّ الدَّوْلَةِ هُوَ
الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الْمَذْكُورُ كَانَ كَاتِبًا لِبَعْضِ مُلُوكِ دِمَشْقَ
فِي حُدُودِ الْخَمْسِمِائَةِ، وَلَهُ أَوْقَافٌ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ. وَابْنُ
الْخَيَّاطِ الشَّاعِرُ صَاحِبُ الدِّيوَانِ، هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ صَدَقَةَ التَّغْلِبِيُّ، عَمُّ
سَنِيِّ الدَّوْلَةِ.
وُلِدَ الْقَاضِي صَدْرُ الدِّينِ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ،
وَسَمِعَ الْخُشُوعِيَّ وَابْنَ طَبَرْزَدَ وَالْكِنْدِيَّ وَغَيْرَهُمْ،
وَحَدَّثَ وَدَرَّسَ فِي عِدَّةِ مَدَارِسَ وَأَفْتَى، وَكَانَ
فَاضِلًا عَارِفًا بِالْمَذْهَبِ، مَشْكُورَ السِّيرَةِ،
وَلَكِنِ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ يَنَالُ مِنْهُ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَدْ وَلِيَ الْحُكْمَ بِدِمَشْقَ اسْتِقْلَالًا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ،
وَاسْتَمَرَّ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، فَسَارَ حِينَ عُزِلَ بِالْكَمَالِ
التَّفْلِيسِيِّ هُوَ وَالْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ إِلَى
هُولَاكُو، ثُمَّ عَادَ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ تَوَلَّى ابْنُ الزَّكِيِّ
الْقَضَاءَ، فَاجْتَازَ ابْنُ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ بِبَعْلَبَكَّ وَهُوَ
مُتَمَرِّضٌ، فَمَاتَ بِهَا وَدُفِنَ عِنْدَ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ
الْيُونِينِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ
يُثْنِي عَلَيْهِ كَمَا كَانَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ يُثْنِي عَلَى وَالِدِهِ
قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ.
وَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ بِيبَرْسَ وَلَّى
وَلَدَهُ الْقَاضِيَ نَجْمَ الدِّينِ أَبَا بَكْرِ بْنَ قَاضِي الْقُضَاةِ صَدْرِ
الدِّينِ الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ، وَعَزَلَ ابْنَ الزَّكِيِّ، ثُمَّ عَزَلَهُ
بَعْدَ سَنَةٍ، وَثَنَّى بِابْنِ خَلِّكَانَ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ،
وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانِ.
وَالْقَاضِي صَدْرُ الدِّينِ بْنُ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ هَذَا هُوَ الَّذِي
أَحْدَثَ فِي زَمَنِ الْمِشْمِشِ بَطَالَةَ الدُّرُوسِ; لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ
بُسْتَانٌ بِأَرْضِ السَّهْمِ، فَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ النُّزُولُ فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ إِلَى الدَّرْسِ، فَبَطَّلَ لِلنَّاسِ هَذِهِ الْأَيَّامَ،
فَاتَّبَعُوهُ فِي ذَلِكَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
صَاحِبُ مَارِدِينَ الْمَلِكُ السَّعِيدُ
نَجْمُ الدِّينِ بْنُ إِيلْ غَازِي بْنُ
الْمَنْصُورِ أَرْتُقَ أَرْسَلَانَ بْنِ إِيلْ غَازِي بْنِ
أَلْبِيِّ بْنِ تِمِرْتَاشَ بْنِ إِيلْ غَازِي بْنِ أَرْتُقَ، وَكَانَ شُجَاعًا
مُعَظَّمًا، مَلَكَ يَوْمًا فِي قَلْعَتِهِ.
تَوْرَانْ شَاهِ بْنُ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ، كَانَ
نَائِبًا لِلْمَلِكِ النَّاصِرِ بْنِ الْعَزِيزِ بْنِ الظَّاهِرِ بْنِ النَّاصِرِ
عَلَى حَلَبَ حَتَّى تَمَلَّكَ دِمَشْقَ، وَقَدْ حَصَّنَ حَلَبَ مِنْ أَيْدِي
الْمَغُولِ مُدَّةَ شَهْرٍ، ثُمَّ سَلَّمَهَا بَعْدَ مُحَاصَرَةٍ شَدِيدَةٍ
صُلْحًا. ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ بِدِهْلِيزِ
دَارِهِ.
وَفِيهَا قُتِلَ:
الْمَلِكُ السَّعِيدُ حَسَنُ بْنُ الْعَزِيزِ
عُثْمَانَ بْنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ كَانَ صَاحِبَ
الصُّبَيْبَةِ وَبَانِيَاسَ بَعْدَ أَبِيهِ، ثُمَّ أُخِذَتَا مِنْهُ، وَحُبِسَ
بِقَلْعَةِ الْبِيرَةِ، فَلَمَّا جَاءَتِ التَّتَارُ كَانَ مَعَهُمْ، وَرَدُّوا
عَلَيْهِ بِلَادَهُ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ عَيْنِ جَالُوتَ أُتِيَ بِهِ أَسِيرًا
إِلَى بَيْنِ يَدِيِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ قُطُزَ فَضُرِبَ عُنُقُهُ; لِأَنَّهُ
كَانَ قَدْ لَبِسَ سَرَاقُوجَ التَّتَارِ، وَنَاصَحَهُمْ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْحَسَنِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ طَاهِرِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، أَبُو طَالِبٍ شَرَفُ الدِّينِ
بْنُ الْعَجَمِيِّ الْحَلَبِيُّ الشَّافِعِي، مِنْ بَيْتِ الْعِلْمِ
وَالرِّئَاسَةِ بِحَلَبَ، دَرَّسَ بِالظَّاهِرِيَّةِ، وَوَقَفَ مَدْرَسَةً بِهَا،
وَدُفِنَ بِهَا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ حِينَ دَخَلَتِ التَّتَارُ حَلَبَ فِي
صَفَرٍ، فَعَذَّبُوهُ بِأَنْ صَبُّوا عَلَيْهِ مَاءً بَارِدًا فِي الشِّتَاءِ،
فَتَشَنَّجَ حَتَّى مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ قُطُزُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
سَيْفُ الدِّينِ التُّرْكِيُّ، أَخَصُّ مَمَالِيكِ الْمَلِكِ الْمُعِزِّ
التُّرْكُمَانِيِّ، أَحَدُ مَمَالِيكِ الصَّالِحِ أَيُّوبَ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا
قُتِلَ أُسْتَاذُهُ الْمُعِزُّ قَامَ فِي تَوْلِيَةِ ابْنِ أُسْتَاذِهِ
الْمَنْصُورِ نُورِ الدِّينِ عَلِيٍّ، فَلَمَّا سَمِعَ بِأَمْرِ التَّتَارِ خَافَ
أَنْ تَخْتَلِفَ الْكَلِمَةُ بِسَبَبِ صِغَرِ ابْنِ أُسْتَاذِهِ، فَعَزَلَهُ
وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، فَبُويِعَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى التَّتَارِ كَمَا تَقَدَّمَ،
فَجَعَلَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ نُصْرَةَ الْإِسْلَامِ كَمَا ذَكَرْنَا بِعَيْنِ
جَالُوتَ، وَقَدْ كَانَ شُجَاعًا بَطَلًا، كَثِيرَ الْخَيْرِ، مُمَالِئًا
لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَهُمْ يُحِبُّونَهُ.
ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بِالْمَعْرَكَةِ يَوْمَ عَيْنِ جَالُوتَ قُتِلَ
جَوَادُهُ، وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ مِنَ
الْوَشَاقِيَّةِ الَّذِينَ مَعَهُمُ الْجَنَائِبُ، فَتَرَجَّلَ وَبَقِيَ وَاقِفًا
كَذَلِكَ عَلَى الْأَرْضِ ثَابِتًا فِي مَحَلِّ الْمَعْرَكَةِ وَمَوْضِعِ
السَّلْطَنَةِ مِنَ الْقَلْبِ، فَلَمَّا رَآهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ تَرَجَّلَ عَنْ
فَرَسِهِ، وَحَلَفَ عَلَى السُّلْطَانِ لِيَرْكَبَ، فَامْتَنَعَ السُّلْطَانُ
وَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَحْرِمَ الْمُسْلِمِينَ نَفْعَكَ.
وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى جَاءَتِ الْوَشَاقِيَّةُ فَرَكِبَ،
فَلَامَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ وَقَالَ: يَا خُونْدُ، لِمَ
لَا رَكِبْتَ فَرَسَ فُلَانٍ؟ فَلَوْ كَانَ رَآكَ بَعْضُ الْأَعْدَاءِ لَقَتَلَكَ
وَهَلَكَ الْإِسْلَامُ بِسَبَبِكَ. فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَرُوحُ إِلَى
الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَهُ رَبٌّ لَا يُضَيِّعُهُ، قَدْ قُتِلَ
فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ - وَعَدَّدَ خَلْقًا مِنَ الْمُلُوكِ - فَلَمْ
يُضَيِّعِ اللَّهُ الْإِسْلَامَ.
وَكَانَ حِينَ سَاقَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي خِدْمَتِهِ خَلْقٌ مِنْ
كِبَارِ الْأُمَرَاءِ الْبَحْرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَعَهُ الْمَنْصُورُ صَاحِبُ
حَمَاةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ حَمَاةَ
يَقُولُ لَهُ: لَا تَتَعَنَّ بِمَدِّ سِمَاطٍ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَلْيَكُنْ
مَعَ الْجُنْدِيِّ لَحْمَةٌ فِي سَوْلَقِهِ يَأْكُلُهَا، وَالْعَجَلَ الْعَجَلَ.
وَكَانَ اجْتِمَاعُهُ مَعَ عَدُوِّهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ
مِنْ رَمَضَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهَذِهِ بِشَارَةٌ
عَظِيمَةٌ، فَإِنَّ وَقْعَةَ بَدْرٍ كَانَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي رَمَضَانَ،
وَلِهَذَا نُصِرَ الْإِسْلَامُ نَصْرًا عَزِيزًا، وَلَمَّا قَدِمَ دِمَشْقَ فِي
شَوَّالٍ أَقَامَ بِهَا الْعَدْلَ، وَرَتَّبَ الْأُمُورَ كَمَا ذَكَرْنَا،
وَأَرْسَلَ الْأَمِيرَ رُكْنَ الدِّينِ بِيبَرْسَ الْبُنْدُقْدَارِيَّ خَلْفَ
التَّتَارِ لِيُخْرِجَهُمْ وَيَطْرُدَهُمْ عَنْ حَلْبَ وَوَعْدَهُ بِنِيَابَتِهَا،
فَلَمْ يَفِ لَهُ، فَوَقَعَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَلَمَّا
عَادَ الْمُظَفَّرُ قُطُزُ إِلَى مِصْرَ تَمَالَأَ عَلَيْهِ الْبُنْدُقْدَارِيُّ
وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ فَقَتَلُوهُ بَيْنَ الْغُرَابِيِّ وَالصَّالِحِيَّةِ،
وَدُفِنَ بِالْقَصْرِ، وَكَانَ قَبْرُهُ يُزَارُ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ الظَّاهِرُ
مِنِ الْمُلْكِ بَعَثَ إِلَى قَبْرِهِ فَغَيَّبَهُ عَنِ النَّاسِ، فَكَانَ لَا
يُعْرَفُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ مَقْتَلُهُ يَوْمَ السَّبْتِ
سَادِسَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَحَكَى الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ فِي " الذَّيْلِ عَلَى
الْمِرْآةِ " عَنِ الشَّيْخِ عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ غَانِمٍ، عَنِ الْمَوْلَى
تَاجِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَثِيرِ كَاتِبِ السِّرِّ فِي أَيَّامِ النَّاصِرِ
صَاحِبِ دِمَشْقَ، قَالَ: لَمَّا كُنَّا مَعَ السُّلْطَانِ النَّاصِرِ بِوَطْأَةِ
بَرْزَةَ جَاءَتِ الْبَرِيدِيَّةُ يُخْبِرُونَ بِأَنَّ الْمُظَفَّرَ قُطُزَ قَدْ
تَوَلَّى السَّلْطَنَةَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَقَرَأْتُ ذَلِكَ عَلَى
السُّلْطَانِ، فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَأَخْبِرْهُمْ بِهَذَا.
قَالَ: فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ لَقِيَنِي بَعْضُ الْأَجْنَادِ فَقَالَ
لِي: جَاءَكُمُ الْخَبَرُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِأَنَّ قُطُزَ قَدْ
تَمَلَّكَ؟ فَقُلْتُ: مَا عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمٌ، وَمَا يُدْرِيكَ أَنْتَ
بِهَذَا؟ فَقَالَ: بَلَى وَاللَّهِ إِنَّهُ سَيَلِي الْمَمْلَكَةَ، وَيَكْسِرُ
التَّتَارَ. فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْلَمُ هَذَا؟ فَقَالَ: كُنْتُ أَخْدِمُهُ
وَهُوَ صَغِيرٌ، وَكَانَ عَلَيْهِ قَمْلٌ كَثِيرٌ، فَكُنْتُ أَفْلِيهِ وَأُهِينُهُ،
فَقَالَ لِي يَوْمًا: وَيْلَكَ، أَيْشُ تُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَكَ إِذَا مَلَكْتُ
الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ مَجْنُونٌ؟! فَقَالَ: لَقَدْ
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ،
وَقَالَ لِي: أَنْتَ تَمْلِكُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، وَتَكَسِرُ التَّتَارَ.
وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ. فَقُلْتُ لَهُ حِينَئِذٍ -
وَكَانَ صَادِقًا -: أُرِيدُ مِنْكَ إِمْرَةَ خَمْسِينَ فَارِسًا. فَقَالَ:
نَعَمٌ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: فَلَمَّا قَالَ لِي هَذَا قُلْتُ: هَذِهِ كُتُبُ
الْمِصْرِيِّينَ بِأَنَّهُ قَدْ تَوَلَّى السَّلْطَنَةَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ
لِيَكْسِرَنَّ التَّتَارَ. فَكَانَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ.
وَلَمَّا رَجَعَ النَّاصِرُ إِلَى نَاحِيَةِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَرَادَ
دُخُولَهَا، وَرَجَعَ عَنْهَا وَدَخَلَهَا أَكْثَرُ الْجُيُوشِ الشَّامِيَّةِ
كَانَ هَذَا الْأَمِيرُ الْحَاكِي فِي جُمْلَةِ مَنْ دَخَلَهَا، فَأَعْطَاهُ
الْمُظَفَّرُ إِمْرَةَ خَمْسِينَ فَارِسًا وَوَفَى لَهُ بِالْوَعْدِ، وَهُوَ
الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ الْبَرَكَةُ خَانِيُّ. قَالَ ابْنُ
الْأَثِيرِ: فَلَقِيَنِي بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
بَعْدَ أَنْ تَأَمَّرَ، فَذَكَّرَنِي بِمَا كَانَ أَخْبَرَنِي عَنِ الْمُظَفَّرِ
فَذَكَرْتُهُ، ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ التَّتَارِ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا هَلَكَ كَتْبُغَا نُوِينَ نَائِبُ هُولَاكُو عَلَى بِلَادِ الشَّامِ،
لَعَنَهُمَا اللَّهُ، وَمَعْنَى نُوِينَ يَعْنِي أَمِيرَ عَشَرَةِ آلَافٍ، وَكَانَ
هَذَا الْخَبِيثُ قَدْ فَتَحَ لِأُسْتَاذِهِ هُولَاوُو مِنْ أَقْصَى بِلَادِ
الْعَجَمِ إِلَى الشَّامِ، وَقَدْ أَدْرَكَ جِنْكِزْخَانُ جَدُّ هُولَاوُو، وَقَدْ
كَانَ كَتْبُغَا هَذَا يَعْتَمِدُ فِي حُرُوبِهِ لِلْمُسْلِمِينَ بِبِلَادِ
خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ أَشْيَاءَ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهَا أَحَدٌ، كَانَ إِذَا
فَتَحَ بَلَدًا سَاقَ الْمُقَاتِلَةَ مِنْهُ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي يَلِيهِ،
وَيَطْلُبُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ أَنْ يُئْوُوا هَؤُلَاءِ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ
فَعَلُوا حَصَلَ مَقْصُودُهُ فِي تَضْيِيقِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ
عَلَيْهِمْ، فَتَقْصُرُ مُدَّةُ الْحِصَارِ عَلَيْهِ، وَإِنِ امْتَنَعُوا مِنْ
إِيوَائِهِمْ عِنْدَهُمْ قَاتَلَهُمْ بِهَؤُلَاءِ حَتَّى يَفْنَى هَؤُلَاءِ،
فَإِذَا حَصَلَ الْفَتْحُ وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَضْعَفَ أُولَئِكَ بِهَؤُلَاءِ
ثُمَّ اسْتَأْنَفَ قِتَالَهُمْ بِمَنْ عِنْدَهُ حَتَّى يَفْتَحَهُ.
وَكَانَ يَبْعَثُ إِلَى الْحِصْنِ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ مَاءَكُمْ قَدْ قَلَّ،
فَافْتَحُوا صُلْحًا قَبْلَ أَنْ نَأْخُذَكُمْ قَسْرًا. فَيَقُولُونَ: إِنَّ
الْمَاءَ عِنْدَنَا كَثِيرٌ فَلَا نَحْتَاجُ إِلَى مَاءٍ. فَيَقُولُ: لَا
أُصَدِّقُ حَتَّى أَبْعَثَ مِنْ عِنْدِي مَنْ يُشْرِفُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ
كَثِيرًا انْصَرَفْتُ عَنْكُمْ. فَيَقُولُونَ ابْعَثْ مَنْ يُشْرِفُ
عَلَى ذَلِكَ. فَيُرْسِلُ رِجَالًا مِنْ جَيْشِهِ، مَعَهُمْ
رِمَاحٌ مُجَوَّفَةٌ مَحْشُوَّةٌ سَمًّا، فَإِذَا دَخَلُوا سَاطُوا ذَلِكَ
الْمَاءَ بِتِلْكَ الرِّمَاحِ، فَيَنْفَتِحُ ذَلِكَ السُّمُّ وَيَسْتَقِرُّ فِي
الْمَاءِ، فَيَكُونُ سَبَبَ هَلَاكِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، لَعَنَهُ اللَّهُ
لَعْنَةً تَدْخُلُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ. وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ أَسَنَّ،
وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى دِينِ النَّصَارَى، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ
عَنْ حُكْمِ جِنْكِزْخَانَ فِي الْيَاسَاقِ.
قَالَ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ: وَقَدْ رَأَيْتُهُ بِبَعْلَبَكَّ
حِينَ حَاصَرَ قَلْعَتَهَا، وَكَانَ شَيْخًا حَسَنًا، لَهُ لِحَيَّةٌ طَوِيلَةٌ
مُسْتَرْسِلَةٌ رَقِيقَةٌ قَدْ ضَفَّرَهَا مِثْلَ الدَّبُّوقَةِ، وَتَارَةً يُعَلِّقُهَا
فِي حَلَقَةٍ بِأُذُنِهِ، وَكَانَ مَهِيبًا شَدِيدَ السَّطْوَةِ. قَالَ: وَقَدْ
دَخَلَ الْجَامِعَ فَصَعِدَ الْمَنَارَةَ لِيَتَأَمَّلَ الْقَلْعَةَ مِنْهَا،
ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ الْغَرْبِيِّ، فَدَخَلَ دُكَّانًا خَرَابًا، فَقَضَى
حَاجَتَهُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَكْشُوفُ الْعَوْرَةِ،
فَلَمَّا فَرَغَ مَسَحَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِقُطْنٍ مُلَبَّدٍ مَسْحَةً
وَاحِدَةً.
قَالَ: وَلَمَّا بَلَغَهُ خُرُوجُ الْمُظَفَّرِ إِلَيْهِ بِالْعَسَاكِرِ
الْمِصْرِيَّةِ تَلَوَّمَ فِي أَمْرِهِ، ثُمَّ حَمَلَتْهُ نَفْسُهُ الْأَبِيَّةُ
عَلَى لِقَائِهِمْ، وَظَنَّ أَنَّهُ يَنْتَصِرُ كَمَا كَانَتْ عَادَتُهُ، فَحَمَلَ
يَوْمئِذٍ عَلَى الْمَيْسَرَةِ فَكَسَرَهَا، ثُمَّ أَيَّدَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ
وَثَبَّتَهُمْ، فَحَمَلُوا حَمْلَةً صَادِقَةً عَلَى التَّتَارِ، فَهَزَمُوهُمْ
هَزِيمَةً لَا تُجْبَرُ أَبَدًا. وَقُتِلَ كَتْبُغَا نُوينَ فِي الْمَعْرَكَةِ،
وَأُسِرَ ابْنُهُ، وَكَانَ شَابًّا حَسَنًا، فَأُحْضِرَ بَيْنَ يَدِيِ
الْمُظَفَّرِ قُطُزَ، فَقَالَ لَهُ: أَهَرَبَ أَبُوكَ؟ قَالَ إِنَّهُ لَا
يَهْرُبُ، فَطَلَبُوهُ فَوَجَدُوهُ بَيْنَ الْقَتْلَى، فَلَمَّا رَآهُ ابْنُهُ
صَرَخَ وَبَكَى، فَلَمَّا تَحَقَّقَهُ
الْمُظَفَّرُ قَالَ: نَامَ طَيِّبًا، كَانَ هَذَا سَعَادَةُ
التَّتَارِ وَبِقَتْلِهِ ذَهَبَ سَعْدُهُمْ. وَهَكَذَا كَانَ كَمَا قَالَ، وَلَمْ
يُفْلِحُوا بَعْدَهُ أَبَدًا، وَكَانَ قَتْلُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْخَامِسَ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ الَّذِي
قَتَلَ كَتْبُغَا نُوينَ الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ الشَّمْسِيُّ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْفَقِيهُ الْيُونِينِيُّ
الْحَنْبَلِيُّ الْبَعْلَبَكّيُّ الْحَافِظُ، هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى بْنِ أَبِي الرِّجَالِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ
جَعْفَرٍ الصَّادِقُ - كَذَا نَقَلَ هَذَا الِانْتِسَابَ الشَّيْخُ قُطْبُ
الدِّينِ الْيُونِينِيُّ مِنْ خَطِّ أَخِيهِ الْأَكْبَرِ أَبِي الْحُسَيْنِ
عَلِيٍّ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ وَالِدَهُ قَالَ لَهُ: نَحْنُ مِنْ سُلَالَةِ
جَعْفَرٍ الصَّادِقِ. قَالَ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ لَهُ هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ
لِيَتَحَرَّجَ مِنْ قَبُولِ الصَّدَقَةِ - أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي
الْحُسَيْنِ الْيُونِينِيُّ الْحَنْبَلِيُّ تَقِيُّ الدِّينِ الْفَقِيهُ
الْحَنْبَلِيُّ الْحَافِظُ الْمُفِيدُ الْبَارِعُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ، وُلِدَ
سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْخُشُوعِيَّ
وَحَنْبَلًا وَالْكِنْدِيَّ وَالْحَافِظَ عَبْدَ الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيَّ،
وَكَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ، وَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ الْمُوَفَّقِ، وَلَزِمَ
صُحْبَةَ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ الْيُونِينِيِّ، وَانْتَفَعَ بِهِ، وَكَانَ
الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ يُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُقَدِّمُهُ وَيَقْتَدِي بِهِ فِي
الْفَتَاوَى الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ لَبِسَ الْخِرْقَةَ مِنَ الشَّيْخِ عَبْدِ
اللَّهِ الْبَطَائِحِيِّ، وَبَرَعَ فِي عِلْمِ
الْحَدِيثِ وَحِفِظَ " الْجَمْعَ بَيْنَ
الصَّحِيحَيْنِ " بِالْفَاءِ وَالْوَاوِ، وَحِفِظَ قِطْعَةً صَالِحَةً مِنْ
" مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " وَكَانَ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ،
أَخَذَ ذَلِكَ عَنِ التَّاجِ الْكِنْدِيِّ، وَكَتَبَ مَلِيحًا حَسَنًا، وَكَانَ
النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ بِفُنُونِهِ الْكَثِيرَةِ، وَيَأْخُذُونَ عَنْهُ
الطَّرِيقَةَ الْحَسَنَةَ، وَحَصَلَتْ لَهُ وَجَاهَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَ الْمُلُوكِ
وَغَيْرِهِمْ، تَوَضَّأَ مَرَّةً عِنْدَ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ وَهُوَ عِنْدَهُ
بِالْقَلْعَةِ حَالَ سَمَاعِ " الْبُخَارِيِّ " عَلَى الزَّبِيدِيِّ،
فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْوُضُوءِ نَقَضَ السُّلْطَانُ تَخْفِيفَةً، وَبَسَطَهَا
عَلَى الْأَرْضِ لِيَطَأَ عَلَيْهَا، وَحَلَفَ السُّلْطَانُ لَهُ أَنَّهَا
طَاهِرَةٌ وَلَابُدَّ أَنْ يَطَأَهَا بِرِجْلِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ.
وَلَمَّا قَدِمَ الْكَامِلُ عَلَى أَخِيهِ الْأَشْرَفِ دِمَشْقَ، أَنْزَلَهُ
الْقَلْعَةَ وَتَحَوَّلَ الْأَشْرَفُ لِدَارِ السَّعَادَةِ، وَجَعَلَ يَذْكُرُ
لِلْكَامِلِ مَحَاسِنَ الشَّيْخِ الْفَقِيهِ، فَقَالَ: أَشْتَهِي أَنْ أَرَاهُ.
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ إِلَى بَعْلَبَكَّ بِطَاقَةً، فَاسْتَحْضَرَهُ فَوَصَلَ إِلَى
دَارِ السَّعَادَةِ، فَنَزَلَ الْكَامِلُ إِلَيْهِ وَتَحَادَثَا وَتَذَاكَرَا
شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ، فَذُكِرَتْ مَسْأَلَةُ الْقَتْلِ بِالْمُثَقِّلِ، وَجَرَى
ذِكْرُ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ الَّتِي قَتَلَهَا الْيَهُودِيُّ، فَرَضَّ رَأْسَهَا
بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَتْلِهِ، فَقَالَ الْكَامِلُ: إِنَّهُ لَمْ يَعْتَرِفْ. فَقَالَ الشَّيْخُ
الْفَقِيهُ: فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ ": فَاعْتَرَفَ. فَقَالَ
الْكَامِلُ: أَنَا اخْتَصَرْتُ " صَحِيحَ مُسْلِمٍ " وَلَمْ أَجِدْ
هَذَا فِيهِ. فَقَالَ الْكَامِلُ: بَلَى. فَأَرْسَلَ الْكَامِلُ، فَأَحْضَرَ
خَمْسَ مُجَلَّدَاتِ اخْتِصَارِهِ " لِمُسْلِمٍ "، فَأَخَذَ الْكَامِلُ
مُجَلَّدًا، وَالْأَشْرَفُ مُجَلَّدًا، وَعِمَادُ الدِّينِ بْنُ مُوسَكَ آخَرَ،
وَالْمَلِكُ الصَّالِحُ مُجَلَّدًا، وَأَخَذَ الشَّيْخُ الْفَقِيهُ مُجَلَّدًا،
فَأَوَّلَ مَا فَتَحَهُ وَجَدَ الْحَدِيثَ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ الْفَقِيهُ،
فَتَعَجَّبَ الْكَامِلُ مِنَ اسْتِحْضَارِهِ وَسُرْعَةِ كَشْفِهِ،
وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَهُ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، فَأَرْسَلَهُ الْأَشْرَفُ سَرِيعًا إِلَى بَعْلَبَكَّ، وَقَالَ
لِلْكَامِلِ: إِنَّهُ لَا يُؤْثِرُ بِبَعْلَبَكَّ شَيْئًا. فَأَرْسَلَ لَهُ
الْكَامِلُ ذَهَبًا كَثِيرًا. قَالَ وَلَدُهُ قُطْبُ الدِّينِ: كَانَ وَالِدِي
يَقْبَلُ بِرَّ الْمُلُوكِ، وَيَقُولُ: أَنَا لِي فِي بَيْتِ الْمَالِ أَكْثَرُ
مِنْ هَذَا. وَلَا يَقْبَلُ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَلَا مِنَ الْوُزَرَاءِ شَيْئًا
إِلَّا أَنْ يَكُونَ هَدِيَّةَ مَأْكُولٍ وَنَحْوِهِ، وَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ مِنْ
ذَلِكَ، فَيَقْبَلُونَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ وَالِاسْتِشْفَاءِ.
وَذُكِرَ أَنَّهُ كَثُرَ مَالُهُ وَأَثْرَى، وَصَارَ لَهُ سَعَةٌ مِنَ الْمَالِ
كَثِيرَةٌ، وَذُكِرَ لَهُ أَنَّ الْأَشْرَفَ كَتَبَ لَهُ كِتَابًا بِقَرْيَةِ
يُونِيَنَ، وَأَعْطَاهُ لِمُحْيِي الدِّينِ بْنِ الْجَوْزِيِّ لِيَأْخُذَ عَلَيْهِ
خَطَّ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا شَعَرَ وَالِدِي بِذَلِكَ أَخَذَ الْكِتَابَ
وَمَزَّقَهُ، وَقَالَ: أَنَا فِي غُنْيَةٍ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ: وَكَانَ وَالِدِي
لَا يَقْبَلُ شَيْئًا مِنَ الصَّدَقَةِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ
جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ
قَبْلَ ذَلِكَ فَقِيرًا لَا شَيْءَ لَهُ. وَكَانَ لِلشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ
زَوْجَةٌ، وَلَهَا ابْنَةٌ جَمِيلَةٌ، وَكَانَ الشَّيْخُ يَقُولُ لَهَا:
زَوِّجِيهَا مِنَ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ. فَتَقُولُ: إِنَّهُ فَقِيرٌ، وَأَنَا
أُحِبُّ أَنْ تَكُونَ ابْنَتِي سَعِيدَةً. فَيَقُولُ لَهَا: كَأَنِّي أَنْظُرُ
إِلَيْهِمَا إِيَّاهُ وَإِيَّاهَا فِي دَارٍ فِيهَا بَرَكَةٌ، وَلَهُ رِزْقٌ
كَثِيرٌ، وَالْمُلُوكُ يَتَرَدَّدُونَ إِلَى زِيَارَتِهِ. فَزَوَّجَتْهَا مِنْهُ،
فَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَكَانَتْ أُولَى زَوْجَاتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَكَانَتِ الْمُلُوكُ كُلُّهَا تَجِيءُ مَدِينَتَهُ، وَيُعَظِّمُونَهُ جِدًّا;
بَنُو الْعَادِلِ وَغَيْرُهُمْ، وَكَذَلِكَ كَانَ مَشَايِخُ الْفُقَهَاءِ كَابْنِ
الصَّلَاحِ وَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، وَابْنِ الْحَاجِبِ، وَالْحُصَيْرِيِّ،
وَشَمْسِ الدِّينِ بْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ، وَابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَغَيْرِهِمْ
يُعَظِّمُونَهُ وَيَرْجِعُونَ إِلَى قَوْلِهِ; لِعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ
وَدِيَانَتِهِ وَأَمَانَتِهِ.
وَقَدْ ذُكِرَتْ لَهُ أَحْوَالٌ وَمُكَاشَفَاتٌ
وَكَرَامَاتٌ كَثِيرَةٌ، قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ
قُطْبٌ مُنْذُ ثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ
الْفَقِيهُ قَالَ: كُنْتُ عَزَمْتُ مَرَّةً عَلَى الرِّحْلَةِ إِلَى حَرَّانَ،
وَكَانَ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا بِهَا يَعْلَمُ عِلْمَ الْفَرَائِضِ
جَيِّدًا، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُرِيدُ مِنْ صَبِيحَتِهَا
أُسَافِرُ جَاءَتْنِي رِسَالَةُ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ الْيُونِينِيِّ يَعْزِمُ
عَلَيَّ إِلَى الْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَكَأَنِّي كَرِهْتُ ذَلِكَ، وَفَتَحْتُ
الْمُصْحَفَ، فَطَلَعَ قَوْلُهُ: اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ
مُهْتَدُونَ [ يس: 21 ] فَخَرَجْتُ مَعَهُ إِلَى الْقُدْسِ، فَوَجَدْتُ ذَلِكَ
الرَّجُلَ الْحَرَّانِيَّ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ، فَأَخَذْتُ عَنْهُ عِلْمَ
الْفَرَائِضِ حَتَّى خُيِّلَ لِي أَنِّي قَدْ صِرْتُ أَبْرَعَ فِيهِ مِنْهُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ: كَانَ رَجُلًا ضَخْمًا، وَحَصَلَ لَهُ قَبُولُ
كَثِيرٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ يَلْبَسُ قُبَّعًا، صُوفُهُ
إِلَى خَارِجٍ، كَمَا كَانَ شَيْخُهُ عَبْدُ اللَّهِ الْيُونِينِيُّ. قَالَ:
وَقَدْ صَنَّفَ شَيْئًا فِي الْمِعْرَاجِ، فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ فِي كِتَابٍ
سَمَّيْتُهُ " الْوَاضِحَ الْجَلِيَّ فِي الرَّدِّ عَلَى الْحَنْبَلِيِّ
". وَذَكَرَ وَلَدُهُ قُطْبُ الدِّينِ أَنَّهُ مَاتَ فِي التَّاسِعَ عَشَرَ
مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ خَلِيلِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بَدْرٍ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَيْطَارُ الْأَكَّالُ، أَصْلُهُ مِنْ جَبَلِ بَنِي
هِلَالٍ، وَوُلِدَ بِقَصْرِ حَجَّاجٍ، وَكَانَ مُقِيمًا بِالشَّاغُورِ، وَكَانَ
فِيهِ صَلَاحٌ وَدِينٌ وَإِيثَارٌ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ وَالْمَحَابِيسِ، وَكَانَتْ لَهُ حَالٌ غَرِيبَةٌ; لَا يَأْكُلُ لِأَحَدٍ شَيْئًا إِلَّا بِأُجْرَةٍ، وَكَانَ أَهْلُ الْبَلَدِ يَتَرَامَوْنَ عَلَيْهِ لِيَأْكُلَ لَهُمُ الْأَشْيَاءَ الْمُفْتَخَرَةَ الطَّيِّبَةَ، فَيَمْتَنِعُ إِلَّا بِأُجْرَةٍ جَيِّدَةٍ، وَكُلَّمَا تَمَنَّعَ مِنْ ذَلِكَ حَلَا عِنْدَ النَّاسِ، وَأَحَبُّوهُ وَمَالُوا إِلَيْهِ، فَيَأْتُونَهُ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْحَلَاوَاتِ وَالشِّوَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأُجْرَةٍ جَيِّدَةٍ مَعَ ذَلِكَ، وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَرَضِيَ عَنْهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ بِيَوْمِ الِاثْنَيْنِ لِأَيَّامٍ خَلَوْنَ مِنْ كَانُونَ
الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ خَلِيفَةٌ، وَصَاحِبُ مَكَّةَ أَبُو نُمَيِّ
بْنُ أَبِي سَعْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ قَتَادَةَ الْحَسَنِيُّ، وَعَمُّهُ إِدْرِيسُ
بْنُ عَلِيٍّ شَرِيكُهُ، وَصَاحِبُ الْمَدِينَةِ الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ
جَمَّازُ بْنُ شِيحةَ الْحُسَيْنِيُّ، وَصَاحِبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
وَالشَّامِيَّةِ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ
الْبُنْدُقْدَارِيُّ، وَشَرِيكُهُ فِي دِمَشْقَ وَبَعْلَبَكَّ وَالصُّبَيْبَةِ
وَبَانْيَاسَ الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ سَنْجَرُ الْحَلَبِيُّ الْمُلَقَّبُ
بِالْمَلِكِ الْمُجَاهِدِ، وَشَرِيكُهُ فِي حَلَبَ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ
لَاجِينُ الْجُوكَنْدَارُ الْعَزِيزِيُّ، وَالْكَرَكُ وَالشَّوْبَكُ لِلْمَلِكِ
الْمُغِيثِ فَتَحِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ الْعَادِلِ سَيْفِ الدِّينِ أَبِي بَكْرِ
بْنِ الْكَامِلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَادِلِ الْكَبِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أَبِي
بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ. وَحِصْنُ صِهْيَونَ وَبَرْزَيَةَ فِي يَدِ الْأَمِيرِ
مُظَفَّرِ الدِّينِ عُثْمَانَ
بْنِ نَاصِرِ الدِّينِ مَنْكُورَسَ، وَصَاحِبُ حَمَاةَ
الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ بْنُ تَقِيِّ الدِّينِ مَحْمُودٍ، وَصَاحِبُ حِمْصَ
الْأَشْرَفُ بْنُ الْمَنْصُورِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَسَدِ الدِّينِ النَّاصِرِ،
وَصَاحِبُ الْمَوْصِلِ الْمَلِكُ الصَّالِحُ بْنُ الْبَدْرِ لُؤْلُؤً، وَأَخُوهُ
الْمَلِكُ الْمُجَاهِدُ صَاحِبُ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَصَاحِبُ مَارِدِينَ
الْمَلِكُ السَّعِيدُ نَجْمُ الدِّينِ إِيلُ غَازِي بْنُ أُرْتُقَ، وَصَاحِبُ
بِلَادِ الرُّومِ رُكْنُ الدِّينِ قَلِيجُ أَرْسَلَانَ بْنُ كَيْخُسْرُو السَّلْجُوقِيُّ،
وَشَرِيكُهُ فِي الْمُلْكِ أَخُوهُ كَيْكَاوُسُ وَالْبِلَادُ بَيْنَهُمَا
نِصْفَيْنِ، وَسَائِرُ بِلَادِ الْمَشْرِقِ مِنْ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ
بِأَيْدِي التَّتَارِ أَصْحَابِ هُولَاكُوقَانَ، وَبِلَادُ الْيَمَنِ يَمْلِكُهَا
غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُلُوكِ، وَكَذَلِكَ بِلَادُ الْمَغْرِبِ فِي كُلِّ قُطْرٍ
مِنْهَا مَلِكٌ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَغَارَتِ التَّتَارُ عَلَى بِلَادِ حَلَبَ، وَانْجَفَلَ
النَّاسُ وَحَصَلَ لَهُمْ رُعْبٌ شَدِيدٌ وَالْتَقَى التَّتَرُ مَعَ نَائِبِ
حَلَبَ الْأَمِيرِ حُسَامِ الدِّينِ الْجُوكَنْدَارِ الْعَزِيزِيِّ،
وَالْمَنْصُورِ صَاحِبِ حَمَاةَ وَالْأَشْرَفِ صَاحِبِ حِمْصَ، وَكَانَتِ
الْوَقْعَةُ عِنْدَ حِمْصَ قَرِيبًا مِنْ قَبْرِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ،
وَالتَّتَارُ فِي سِتَّةِ آلَافٍ، وَالْمُسْلِمُونَ فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ،
فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَتَلُوا أَكْثَرَ التَّتَارِ وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ، فَرَجَعَ التَّتَارُ إِلَى حَلَبَ، فَحَصَرُوهَا
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَضَيَّقُوا عَلَيْهَا الْأَقْوَاتَ، وَقَتَلُوا مِنَ
الْغُرَبَاءِ خَلْقًا كَثِيرًا صَبْرًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ، وَالْجُيُوشُ الَّذِينَ كَسَرُوهُمْ عَلَى حِمْصَ لَمْ يَرْجِعُوا
إِلَى حَلَبَ، بَلْ سَاقُوا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَتَلَقَّاهُمُ
الْمَلِكُ الظَّاهِرُ فِي أُبَّهَةِ السَّلْطَنَةِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ،
وَبَقِيَتْ حَلَبُ مُحَاصَرَةً لَا نَاصِرَ لَهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَلَكِنْ
سَلَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَابِعَ صَفَرٍ رَكِبَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ فِي
أُبَّهَةِ الْمُلْكِ، وَمَشَى الْأُمَرَاءُ وَالْأَجْنَادُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ
ذَلِكَ أَوَّلَ رُكُوبِهِ، وَاسْتَمَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُتَابِعُ الرُّكُوبَ
وَاللَّعِبَ بِالْكُرَةِ.
وَفِي الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ خَرَجَ الْأُمَرَاءُ بِدِمَشْقَ عَلَى
الْأَمِيرِ عَلَمِ الدِّينِ سَنْجَرَ الْحَلَبِيِّ، فَقَاتَلُوهُ فَهَزَمُوهُ، وَأَلْجَئُوهُ
إِلَى الْقَلْعَةِ، وَحَصَرُوهُ فِيهَا، فَهَرَبَ مِنْهَا إِلَى قَلْعَةِ
بَعْلَبَكَّ، وَتَسَلَّمَ قَلْعَةَ دِمَشْقَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ
أَيْدِيكِينَ الْبُنْدُقْدَارِيُّ وَكَانَ مَمْلُوكًا لِجَمَالِ الدِّينِ بْنِ
يَغْمُورٍ، ثُمَّ لِلصَّالِحِ أَيُّوبَ بْنِ الْكَامِلِ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ
الْمَلِكُ الظَّاهِرُ، فَأَرْسَلَهُ السُّلْطَانُ لِيَتَسَلَّمَ دِمَشْقَ مِنَ
الْحَلَبِيِّ عَلَمِ الدِّينِ سَنْجَرَ، فَأَخْذَهَا وَسَكَنَ الْقَلْعَةَ بِهَا
نِيَابَةً عَنِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، ثُمَّ حَاصَرُوا الْحَلَبِيَّ
بِبَعْلَبَكَّ، حَتَّى أَخْرَجُوهُ مِنْهَا عَلَى بَغْلٍ، وَأَرْسَلُوهُ إِلَى
خِدْمَةِ السُّلْطَانِ الظَّاهِرِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ لَيْلًا، فَعَاتَبَهُ ثُمَّ
أَطْلَقَ لَهُ أَشْيَاءَ وَأَكْرَمَهُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
اسْتَوْزَرَ الظَّاهِرُ بَهَاءَ الدِّينِ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ، الْمَعْرُوفَ
بِابْنِ الْحِنَّا.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ قَبَضَ الظَّاهِرُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ
بَلَغَهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْوُثُوبَ عَلَيْهِ. وَفِيهِ أَرْسَلَ
إِلَى الشُّوْبَكِ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ أَيْدِي نُوَّابِ الْمُغِيثِ صَاحِبِ
الْكَرَكِ.
وَفِيهَا جَهَّزَ الظَّاهِرُ جَيْشًا إِلَى حَلَبَ لِيَطْرُدُوا التَّتَارَ
عَنْهَا، فَلَمَّا وَصَلَ الْجَيْشُ إِلَى غَزَّةَ كَتَبَ الْفِرِنْجُ إِلَى
التَّتَارِ يُنْذِرُونَهُمْ، فَرَحَلُوا عَنْهَا مُسْرِعِينَ، وَاسْتَوْلَى عَلَى
حَلَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهَا، فَصَادَرُوا وَنَهَبُوا وَبَلَغُوا
أَغْرَاضَهُمْ، وَقَدِمَ إِلَيْهِمُ الْجَيْشُ الظَّاهِرِيُّ، فَأَزَالُوا ذَلِكَ
كُلَّهُ، وَصَادَرُوا بَعْضَ أَهْلِهَا بِأَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ،
ثُمَّ قَدِمَ الْأَمِيرُ شَمْسُ الدِّينِ آقُوشُ الْبَرْلِيُّ مِنْ جِهَةِ
الظَّاهِرِ، فَاسْتَوْلَى عَلَى الْبَلَدِ وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، فَقَطَعَ
وَوَصَلَ وَحَكَمَ وَلَكِنْ مَا عَدَلَ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ عَاشِرَ جُمَادَى الْأُولَى بَاشَرَ الْقَضَاءَ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ تَاجُ الدِّينِ عَبْدُ الْوَهَّابِ ابْنُ بِنْتِ
الْقَاضِي الْأَعَزِّ أَبِي الْقَاسِمِ خَلَفِ بْنِ
الْقَاضِي رَشِيدِ الدِّينِ أَبِي الثَّنَاءِ مَحْمُودِ
بْنِ بَدْرٍ الْعَلَامِيُّ، وَذَلِكَ بَعْدَ شُرُوطٍ ذَكَرَهَا لِلظَّاهِرِ
شَدِيدَةٍ، فَدَخَلَ تَحْتَهَا الْمَلِكُ الظَّاهِرُ، وَعُزِلَ عَنِ الْقَضَاءِ
بَدْرُ الدِّينِ أَبُو الْمَحَاسِنِ يُوسُفُ بْنُ عَلِيٍّ السِّنْجَارِيُّ،
وَرُسِمَ عَلَيْهِ أَيَّامًا ثُمَّ أُفْرِجَ عَنْهُ.
ذِكْرُ الْبَيْعَةِ بِالْخِلَافَةِ لِلْمُسْتَنْصِرِ
بِاللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ أَحْمَدَ بْنِ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الظَّاهِرِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ النَّاصِرِ
لِدِينِ اللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ الْعَبَّاسِيِّ وَهُوَ عَمُّ
الْمُسْتَعْصِمِ
وَكَانَ مُعْتَقَلًا بِبَغْدَادَ ثُمَّ أُطْلِقَ، فَكَانَ مَعَ جَمَاعَةِ
الْأَعْرَابِ بِالْعِرَاقِ، ثُمَّ قَصَدَ الظَّاهِرَ حِينَ بَلَغَهُ مُلْكُهُ،
فَقَدِمَ مِصْرَ صُحْبَةَ جَمَاعَةٍ مِنْ أُمَرَاءِ الْأَعْرَابِ عَشْرَةٍ،
مِنْهُمُ الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ مُهَنَّا، وَكَانَ دُخُولُهُ إِلَى
الْقَاهِرَةِ فِي ثَامِنِ رَجَبٍ، فَخَرَجَ السُّلْطَانُ وَمَعَهُ الْوَزِيرُ
وَالْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ وَالشُّهُودُ وَالْمُؤَذِّنُونَ فَتَلَقَّوْهُ،
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَخَرَجَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ بِتَوْرَاتِهِمْ،
وَالنَّصَارَى بِإِنْجِيلِهِمْ، وَدَخْلَ مِنْ بَابِ النَّصْرِ فِي أُبَّهَةٍ
عَظِيمَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ
ثَالِثَ عَشَرَ رَجَبٍ جَلَسَ السُّلْطَانُ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْإِيوَانِ
بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ، وَالْوَزِيرُ وَالْقَاضِي وَالْأُمَرَاءُ عَلَى
طَبَقَاتِهِمْ، وَأُثْبِتَ نَسَبُ الْخَلِيفَةِ الْمَذْكُورِ عَلَى
الْحَاكِمِ تَاجِ الدِّينِ عَبْدِ الْوَهَّابِ ابْنِ بِنْتِ
الْأَعَزِّ.
وَهَذَا الْخَلِيفَةُ هُوَ أَخُو الْمُسْتَنْصِرِ بَانِي الْمُسْتَنْصِرِيَّةِ،
وَعَمُّ الْمُسْتَعْصِمِ، بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ بِمِصْرَ، بَايَعَهُ الْمَلِكُ
الظَّاهِرُ وَالْقَاضِي وَالْوَزِيرُ وَالْأُمَرَاءُ، وَرَكِبَ فِي دَسْتِ
الْخِلَافَةِ بِدِيَارِ مِصْرَ وَالْأُمَرَاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالنَّاسُ
حَوْلَهُ، وَشَقَّ الْقَاهِرَةَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَذَلِكَ فِي
الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَهَذَا الْخَلِيفَةُ هُوَ
الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْعَبَّاسِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَبًا، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ
يَوْمئِذٍ الْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ عِنْدَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ نَسَبُهُ، ثُمَّ
السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ، ثُمَّ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ
السَّلَامِ وَالْأُمَرَاءُ وَالدَّوْلَةُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ،
وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ وَضُرِبَ اسْمُهُ عَلَى السِّكَّةِ، وَكَانَ
مَنْصِبُ الْخِلَافَةِ شَاغِرًا مُنْذُ ثَلَاثِ سِنِينَ وَنِصْفٍ; لِأَنَّ
الْمُسْتَعْصِمَ قُتِلَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ،
وَبُويِعَ هَذَا فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فِي الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ - وَكَانَ
أَسْمَرَ وَسِيمًا، شَدِيدَ الْقُوَى، عَالِيَ الْهِمَّةِ، لَهُ شَجَاعَةٌ
وَإِقْدَامٌ، وَقَدْ لَقَّبُوهُ بِالْمُسْتَنْصِرِ كَمَا كَانَ أَخُوهُ بَانِي
الْمَدْرَسَةِ بِبَغْدَادَ تَلَقَّبَ، وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ;
أَنَّ خَلِيفَتَيْنِ أَخَوَيْنِ يُلَقَّبُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَقَدْ
وَلِيَ الْخِلَافَةَ أَخَوَيْنِ كَهَذَيْنِ; السَّفَّاحُ وَأَخُوهُ الْمَنْصُورُ
وَلَدَا مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ،
وَالْهَادِي وَالرَّشِيدُ ابْنَا الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ، وَالْوَاثِقُ
وَالْمُتَوَكِّلُ ابْنَا الْمُعْتَصِمِ بْنِ الرَّشِيدِ، وَالْمُسْتَرْشِدُ
وَالْمُقْتَفِي وَلَدَا الْمُسْتَظْهِرِ،
وَأَمَّا ثَلَاثَةٌ; فَالْأُمَّيْنُ وَالْمَأْمُونُ
وَالْمُعْتَصِمُ أَوْلَادُ الرَّشِيدِ، وَالْمُنْتَصِرُ وَالْمُعْتَزُّ
وَالْمُعْتَمَدُ أَوْلَادُ الْمُتَوَكِّلِ، وَأَمَّا أَرْبَعَةٌ فَأَوْلَادُ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ; الْوَلِيدُ وَسُلَيْمَانُ وَيَزِيدُ وَهِشَامُ.
وَقَدْ وَلِيَ هَذَا الْخِلَافَةَ بَعْدَ ابْنِ أَخِيهِ الْمُسْتَعْصِمِ بْنِ
الْمُسْتَنْصِرِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا قَبْلَهُ إِلَّا فِي خِلَافَةِ الْمُقْتَفِي
بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ; فَإِنَّهُ وَلِيَهَا بَعْدَ ابْنِ أَخِيهِ الرَّاشِدِ بْنِ
الْمُسْتَرْشِدِ بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَكَانَتْ مُدَّةُ
خِلَافَتِهِ إِلَى أَنْ فُقِدَ - كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ - خَمْسَةَ أَشْهُرٍ
وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَ أَقْصَرَ مُدَّةً مِنْ جَمِيعِ خُلَفَاءِ بَنِي
الْعَبَّاسِ.
وَأَمَّا بَنُو أُمَيَّةَ فَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ
بْنِ مُعَاوِيَةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْوَلِيدِ سَبْعِينَ
يَوْمًا، وَأَخِيهِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ. وَكَانَتْ مُدَّةُ
خِلَافَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَ أَبِيهِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَحَدَ
عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَتْ مُدَّةُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْرَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ فِي خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ مَنْ لَمْ
يَسْتَكْمِلْ سَنَةً; مِنْهُمُ الْمُنْتَصِرُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ سِتَّةَ
أَشْهُرٍ، وَالْمُهْتَدِي بْنُ الْوَاثِقِ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا وَأَيَّامًا.
وَقَدْ أُنْزِلَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَنْصِرُ هَذَا
بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ فِي بُرْجٍ هُوَ وَحَشَمُهُ وَخَدَمُهُ، فَلَمَّا كَانَ
يَوْمُ سَابِعَ عَشَرَ رَجَبٍ رَكِبَ فِي أُبَّهَةِ السَّوَادِ، وَجَاءَ إِلَى الْجَامِعِ
بِالْقَلْعَةِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، وَخَطَبَ النَّاسَ خُطْبَةً ذَكَرَ فِيهَا
شَرَفَ بَنِي الْعَبَّاسِ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ، فَقَرَأَ صَدْرًا مِنْ "
سُورَةِ الْأَنْعَامِ "، ثُمَّ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَرَضَّى عَنِ الصَّحَابَةِ، وَدَعَا لِلسُّلْطَانِ
الظَّاهِرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَاسْتَحْسَنُوا ذَلِكَ مِنْهُ،
وَكَانَ وَقْتًا حَسَنًا وَيَوْمًا مَشْهُودًا.
تَوْلِيَةُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ
الْمَلِكَ الظَّاهِرَ السَّلْطَنَةَ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ مِنْ شَعْبَانَ رَكِبَ الْخَلِيفَةُ
وَالسُّلْطَانُ وَالْوَزِيرُ وَالْقُضَاةُ وَالْأُمَرَاءُ وَأَهْلُ الْحَلِّ
وَالْعَقْدِ إِلَى خَيْمَةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ ضُرِبَتْ ظَاهِرَ الْقَاهِرَةِ،
فَأَلْبَسَ الْخَلِيفَةُ السُّلْطَانَ بِيَدِهِ خِلْعَةً سَوْدَاءَ، وَطَوْقًا فِي
عُنُقِهِ، وَقَيْدًا فِي رِجْلَيْهِ، وَهُمَا مِنْ ذَهَبٍ، وَصَعِدَ فَخْرُ
الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ لُقْمَانَ رَئِيسُ الْكُتَّابِ مِنْبَرًا، فَقَرَأَ
عَلَيْهِ تَقْلِيدَ السُّلْطَانِ، وَهُوَ مِنْ إِنْشَائِهِ وَبِخَطِّهِ نَفْسِهِ،
ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ بِهَذِهِ الْأُبَّهَةِ، وَالْقَيْدُ فِي رِجْلَيْهِ،
وَالطَّوْقُ فِي عُنُقِهِ، وَالْوَزِيرُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَلَى رَأْسِهِ
التَّقْلِيدُ، وَالْأُمَرَاءُ وَالدَّوْلَةُ فِي خِدْمَتِهِ مُشَاةٌ سِوَى
الْوَزِيرِ، فَشَقَّ الْقَاهِرَةَ، وَقَدْ زُيِّنَتْ لَهُ، وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا يَقْصُرُ اللِّسَانُ عَنْ وَصْفِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ قُطْبُ
الدِّينِ هَذَا التَّقْلِيدَ بِتَمَامِهِ، وَهُوَ مُطَوَّلٌ.
ذِكْرُ تَجْهِيزِ الْخَلِيفَةِ قَاصِدًا إِلَى
بَغْدَادَ
ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ طَلَبَ مِنَ السُّلْطَانِ أَنْ يُجَهِّزَهُ إِلَى
بَغْدَادَ، فَرَتَّبَ لَهُ جُنْدًا هَائِلَةً، وَأَقَامَ لَهُ مِنْ كُلِّ مَا
يَنْبَغِي لِلْمُلُوكِ وَالْخُلَفَاءِ مِنَ الْحَشَمِ وَالْخَدَمِ
وَالطَّبْلِخَانَاهَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ صُحْبَتَهُ
قَاصِدِينَ دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةَ، وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِ السُّلْطَانِ إِلَى
الشَّامِ أَنَّ الْبُرْلِيَّ، كَمَا تَقَدَّمَ، كَانَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى
حَلَبَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الظَّاهِرُ الْأَمِيرَ عَلَمَ الدِّينِ سَنْجَرَ الْحَلَبِيَّ
الَّذِي كَانَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى دِمَشْقَ، فَطَرَدَهُ عَنْ حَلَبَ،
وَتَسَلَّمَهَا مِنْهُ، وَأَقَامَ بِهَا نَائِبًا عَنِ السُّلْطَانِ، ثُمَّ لَمْ
يَزَلِ الْبُرْلِيُّ حَتَّى اسْتَعَادَهَا مِنْهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا هَارِبًا
وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا كَمَا كَانَ، فَاسْتَنَابَ الظَّاهِرُ عَلَى مِصْرَ عِزَّ
الدِّينِ أَيْدَمُرَ الْحِلِّيَّ وَجَعَلَ تَدْبِيرَ الْمَمْلَكَةِ إِلَى
الْوَزِيرِ بَهَاءِ الدِّينِ بْنِ الْحِنَّا، وَاسْتَصْحَبَ وَلَدَهُ فَخْرَ
الدِّينِ بْنَ الْحِنَّا وَزِيرَ الصُّحْبَةِ.
وَجَعَلَ تَدْبِيرَ الْعَسَاكِرِ وَالْجُيُوشِ إِلَى الْأَمِيرِ بَدْرِ الدِّينِ
بِيلِيكَ الْخَازِنْدَارِ، ثُمَّ كَانَ دُخُولُ السُّلْطَانِ صُحْبَةَ
الْخَلِيفَةِ إِلَى دِمَشْقَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَابِعِ ذِي الْقَعْدَةِ،
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَصَلَّيَا الْجُمُعَةَ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَكَانَ
دُخُولُ الْخَلِيفَةِ مِنْ بَابِ الْبَرِيدِ، وَدَخَلَ السُّلْطَانُ مِنْ بَابِ
الزِّيَادَةِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا
أَيْضًا ثُمَّ جَهَّزَ السُّلْطَانُ الْخَلِيفَةَ
وَأَصْحَبَهُ أَوْلَادَ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ،
وَعَلَى مَنِ اسْتَقَلَّ مَعَهُ مِنَ الْجَيْشِ - الَّذِينَ يَرُدُّونَ عَنْهُ مَا
لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ - مِنَ الذَّهَبِ الْعَيْنِ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ،
وَأَطْلَقَ لَهُ وَزَادَهُ، فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، وَقَدِمَ إِلَيْهِ صَاحِبُ
حِمْصَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَطْلَقَ لَهُ، وَزَادَهُ
تَلَّ بَاشِرٍ، وَقَدِمَ صَاحِبُ حَمَاةَ الْمَنْصُورُ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ،
وَأَطْلَقَ لَهُ وَكَتَبَ لَهُ تَقْلِيدًا بِبِلَادِهِ، ثُمَّ جَهَّزَ جَيْشًا
صُحْبَةَ الْأَمِيرِ عَلَاءِ الدِّينِ الْبُنْدُقْدَارِيِّ إِلَى حَلَبَ
لِمُحَارَبَةِ الْبُرْلِيِّ الْمُتَغَلِّبِ عَلَيْهَا الْمُفْسِدِ فِيهَا، وَقَدْ
أَقَامَ الْبُرْلِيُّ بِحَلَبَ خَلِيفَةً آخَرَ لَقَّبَهُ بِالْحَاكِمِ، فَلَمَّا
اجْتَازَ بِهِ الْمُسْتَنْصِرُ سَارَ مَعَهُ إِلَى الْعِرَاقِ، وَاتَّفَقَا عَلَى
الْمَصْلَحَةِ وَإِنْفَاذِ الْحَاكِمِ لِلْمُسْتَنْصِرِ; لِكَوْنِهِ أَكْبَرَ
مِنْهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
لَكِنْ خَرَجَ عَلَيْهِمَا فِي آخِرِ السَّنَةِ طَائِفَةٌ مِنَ التَّتَارِ،
فَفَرَّقُوا شَمْلَهُمَا، وَقَتَلُوا خَلْقًا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُمَا، وَعُدِمَ
الْمُسْتَنْصِرُ، وَهَرَبَ الْحَاكِمُ مَعَ الْأَعْرَابِ. فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَقَدْ كَانَ الْمُسْتَنْصِرُ هَذَا فَتَحَ
بُلْدَانًا كَثِيرَةً فِي مَسِيرِهِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَلَمَّا قَاتَلَهُ
بَهَادُرُ عَلَى شِحْنَةِ بَغْدَادَ كَسَرَهُ الْمُسْتَنْصِرُ، وَقَتَلَ أَكْثَرَ
أَصْحَابِهِ، وَلَكِنْ خَرَجَ كَمِينٌ مِنَ التَّتَارِ، فَهَرَبَ الْعُرْبَانُ
وَالْأَكْرَادُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الْمُسْتَنْصِرِ، وَثَبَتَ هُوَ فِي
طَائِفَةٍ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ التُّرْكِ، فَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَوْ
أَكْثَرُهُمْ، وَفُقِدَ هُوَ مِنَ الْبَيْنِ، وَنَجَا الْحَاكِمُ فِي طَائِفَةٍ،
وَكَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ سِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ،
رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشْبَهَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ فِي تَوَغُّلِهِ فِي
أَرْضِ الْعِرَاقِ مَعَ كَثْرَةِ جُنُودِهَا، وَكَانَ الْأَوْلَى لِهَذَا أَنْ
يَسْتَقِرَّ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ حَتَّى تَتَمَهَّدَ الْأُمُورُ وَتَصْفُوَ
الْأَحْوَالُ، وَلَكِنْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ.
وَجَهَّزَ السُّلْطَانُ جَيْشًا آخَرَ مَنْ دِمَشْقَ إِلَى
بِلَادِ الْفِرِنْجِ، فَأَغَارُوا وَقَتَلُوا، وَسَبَوْا وَرَجَعُوا سَالِمِينَ،
وَطَلَبَتِ الْفِرِنْجُ مِنَ السُّلْطَانِ الصُّلْحَ، فَصَالَحَهُمْ مُدَّةً
لِاشْتِغَالِهِ بِحَلَبَ وَأَعْمَالِهَا، وَكَانَ قَدْ عَزَلَ فِي شَوَّالٍ عَنْ
قَضَاءِ مِصْرَ وَحْدَهَا تَاجَ الدِّينِ عَبْدَ الْوَهَّابِ ابْنَ بِنْتِ
الْأَعَزِّ، وَوَلَّى عَلَيْهَا بُرْهَانَ الدِّينِ الْخِضْرَ بْنَ الْحَسَنِ
السِّنْجَارِيَّ، وَعَزَلَ قَاضِي دِمَشْقَ نَجْمَ الدِّينِ أَبَا بَكْرِ بْنَ صَدْرِ
الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ شَمْسِ الدِّينِ يَحْيَى بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ سَنِيِّ
الدَّوْلَةِ، وَوَلَّى قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسَ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خَلِّكَانَ، وَقَدْ نَابَ فِي الْحُكْمِ
بِالْقَاهِرَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً عَنْ بَدْرِ الدِّينِ السِّنْجَارِيِّ،
فَأَضَافَ إِلَيْهِ مَعَ الْقَضَاءِ نَظَرَ الْأَوْقَافِ وَالْجَامِعِ
وَالْمَارَسْتَانَ وَتَدْرِيسِ سَبْعِ مَدَارِسَ; الْعَادِلِيَّةِ
وَالنَّاصِرِيَّةِ وَالْعَذْرَاوِيَّةِ وَالْفَلَكِيَّةِ وَالرُّكْنِيَّةِ
وَالْإِقْبَالِيَّةِ وَالْبَهْنَسِيَّةِ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ بِالشُّبَّاكِ الْكَمَالِيِّ مِنْ جَامِعِ
دِمَشْقَ، وَسَافَرَ الْقَاضِي الْمَعْزُولُ مُرَسَّمًا عَلَيْهِ، وَقَدْ
تَكَلَّمَ فِيهِ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ خَانَ فِي وَدِيعَةِ
ذَهَبٍ جَعَلَهَا فُلُوسًا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَتِهِ سَنَةً وَأَشْهُرًا، وَفِي يَوْمِ الْعِيدِ يَوْمَ
السَّبْتِ سَافَرَ السُّلْطَانُ بِالْعَسَاكِرِ الْمَنْصُورَةِ رَاجِعًا إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ قَدِمَ
عَلَى السُّلْطَانِ بِدِمَشْقَ يَتَهَدَّدُهُ وَيَتَوَعَّدُهُ وَيَطْلُبُونَ
مِنْهُ إِقْطَاعَاتٍ كَثِيرَةً، فَلَمْ يَزَلْ يُوقِعُ بَيْنَهُمْ حَتَّى
اسْتَأْصَلَ شَأْفَتَهُمْ وَاسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِهِمْ، نَصَرَهُ اللَّهُ
تَعَالَى، وَمَكَّنَ بِهِ الْبِلَادَ وَنَصَرَ بِهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ،
آمِينَ.
وَفِي السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عُمِلَ عَزَاءُ
السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ
صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ الْعَزِيزِ مُحَمَّدِ بْنِ
الظَّاهِرِ غَازِي بْنِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ
شَادِي فَاتِحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ عَمِلُ هَذَا الْعَزَاءِ بِقَلْعَةِ
الْجَبَلِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ الظَّاهِرِ
رُكْنِ الدِّينِ بِيبَرْسَ، وَذَلِكَ لَمَّا بَلَغَهُمْ أَنَّ هُولَاكُو مَلِكَ
التَّتَارِ قَتَلَهُ، وَقَدْ كَانَ فِي قَبْضَتِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ،
فَلَمَّا بَلَغَهُ كَسْرُهُ أَصْحَابَهُ بِعَيْنِ جَالُوتَ طَلَبَهُ إِلَى بَيْنِ
يَدَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ أَرْسَلْتَ الْجُيُوشَ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ حَتَّى اقْتَتَلُوا مَعَ الْمَغُولِ، فَكَسَرُوهُمْ. ثُمَّ أَمَرَ
بِقَتْلِهِ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ
كَانُوا أَعْدَاءَهُ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ شَنَآنٌ وَقِتَالٌ، فَأَقَالَهُ
وَلَكِنَّهُ انْحَطَّتْ رُتْبَتُهُ عِنْدَهُ، وَقَدْ كَانَ مُكَرَّمًا فِي
خِدْمَتِهِ، وَقَدْ وَعَدَهُ أَنَّهُ إِذَا مَلَكَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ
اسْتَنَابَهُ فِي الشَّامِ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ حِمْصَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَقُتِلَ فِيهَا أَصْحَابُ هُولَاكُو مَعَ مُقَدَّمِهِمْ بَيْدَرَةَ غَضِبَ
وَقَالَ لَهُ: أَصْحَابُكَ مِنَ الْعَزِيزِيَّةِ أُمَرَاءِ أَبْيَكَ
وَالنَّاصِرِيَّةِ مِنْ أَصْحَابِكَ قَتَلُوا أَصْحَابَنَا. ثُمَّ أَمَرَ
بِقَتْلِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ رَمَاهُ بِالنُّشَّابِ وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَهُوَ يَسْأَلُ الْعَفْوَ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قَتَلَهُ وَقَتَلَ
أَخَاهُ شَقِيقَهُ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ عَلِيًّا، وَأَطْلَقَ وَلَدَيْهِمَا
الْعَزِيزَ مُحَمَّدَ بْنَ النَّاصِرِ وَزِبَالَةَ بْنَ الظَّاهِرِ، وَكَانَا
صَغِيرَيْنِ مِنْ أَحْسَنِ أَشْكَالِ بَنِي آدَمَ، فَأَمَّا الْعَزِيزُ فَإِنَّهُ
مَاتَ هُنَالِكَ فِي أَسْرِ التَّتَارِ، وَأَمَّا زِبَالَةُ فَإِنَّهُ صَارَ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَكَانَ أَحْسَنَ مَنْ بِهَا، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَمَّ
وَلَدٍ يُقَالُ لَهَا: وَجْهُ الْقَمَرِ. فَتَزَوَّجَهَا بَعْضُ الْأُمَرَاءِ
بَعْدَ أُسْتَاذِهَا الْمَذْكُورِ.
وَيُقَالُ: إِنَّ هُولَاكُو لَمَّا أَرَادَ قَتْلَ النَّاصِرِ أَمَرَ بِأَرْبَعٍ
مِنَ الشَّجَرِ مُتَبَاعِدَاتٍ فَجُمِعَتْ رُءُوسُهَا بِحِبَالٍ، ثُمَّ رُبِطَ
النَّاصِرُ فِي الْأَرْبَعِ بِأَرْبَعَتِهِ ثُمَّ أُطْلِقَتِ الْحِبَالُ،
فَرَجَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى مَرْكَزِهَا بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ بِحَلَبَ وَلَمَّا تُوَفِّي أَبُوهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ بُويِعَ بِالسَّلْطَنَةِ بِحَلَبَ، وَعُمْرُهُ سَبْعُ سِنِينَ، وَقَامَ بِتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ مَمَالِيكِ أَبِيهِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ الْأَمْرُ كُلُّهُ عَنْ رَأْيِ جَدَّتِهِ أَمِّ أَبِيهِ صِبْغَةَ خَاتُونَ بِنْتِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ اسْتَقَلَّ النَّاصِرُ بِالْمُلْكِ، وَكَانَ جَيِّدَ السِّيرَةِ فِي الرَّعَايَا مُحَبَّبًا إِلَيْهِمْ، كَثِيرَ النَّفَقَاتِ وَلَا سِيَّمَا لَمَّا مَلَكَ دِمَشْقَ مَعَ حَلَبَ وَأَعْمَالِهَا وَبَعْلَبَكَّ وَحَرَّانَ وَطَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ فَيُقَالُ: إِنَّ سِمَاطَهُ كَانَ كُلَّ يَوْمٍ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ رَأْسِ غَنَمٍ سِوَى الدَّجَاجِ وَالْإِوَزِّ وَأَنْوَاعِ الطَّيْرِ مَطْبُوخًا بِأَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ وَالْقَلَوِيَّاتِ، وَكَانَ مَجْمُوعُ مَا يَغْرَمُ عَلَى السِّمَاطِ فِي كُلِّ يَوْمٍ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَعَامَّتُهُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ كَمَا هُوَ، كَأَنَّهُ لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَيُبَاعُ عَلَى بَابِ الْقَلْعَةِ بِأَرْخَصِ الْأَثْمَانِ حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ لَا يَطْبُخُونَ فِي بُيُوتِهِمْ شَيْئًا مِنَ الطُّرَفِ وَالْأَطْعِمَةِ بَلْ يَشْتَرُونَ ذَلِكَ بِرُخْصٍ، وَكَانَتِ الْأَرْزَاقُ كَثِيرَةً دَائِرَّةً فِي زَمَانِهِ وَأَيَّامِهِ، وَقَدْ كَانَ خَلِيعًا ظَرِيفًا، حَسَنَ الشَّكْلِ، أَدِيبًا يَقُولُ الشِّعْرَ الْمُتَوَسِّطَ، الْقَوِيَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ فِي " الذَّيْلِ " قِطْعَةً صَالِحَةً مِنْ شِعْرِهِ، وَهِيَ رَائِقَةٌ لَائِقَةٌ، قُتِلَ بِبِلَادِ الْمَشْرِقِ، وَدُفِنَ هُنَاكَ وَقَدْ كَانَ أَعَدَّ لَهُ تُرْبَةً بِرِبَاطِهِ الَّذِي بَنَاهُ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، فَلَمْ يُقَدَّرْ دَفْنُهُ بِهَا، وَالنَّاصِرِيَّةُ الْبَرَّانِيَّةُ بِالسَّفْحِ مِنْ أَغْرَبِ الْأَبْنِيَةِ وَأَحْسَنِهَا بُنْيَانًا مِنَ الْمُوكَدِ الْمُحْكَمِ قِبَلِيَّ جَامِعِ الْأَفْرَمِ، وَقَدْ بُنِي بَعْدَهَا بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَكَذَلِكَ النَّاصِرِيَّةُ الْجَوَّانِيَّةُ الَّتِي بَنَاهَا دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ هِيَ مِنْ أَحْسَنِ الْمَدَارِسِ، وَبَنَى الْخَانَ الْكَبِيرَ تُجَاهَ الزِّنْجَارِيِّ وَحُوِّلَتْ إِلَيْهِ دَارُ الطَّعْمِ، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ غَرْبِيَّ
الْقَلْعَةِ فِي إِصْطَبْلِ السُّلْطَانِ الْيَوْمَ.
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَهَذَا كُلُّ مَا بَلَغَنَا مِنْ وَقَائِعِ هَذِهِ السَّنَةِ مُلَخَّصًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السَّنَةِ فِي ثَالِثِ الْمُحَرَّمِ قُتِلَ الْخَلِيفَةُ
الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ الَّذِي بُويِعَ لَهُ فِي رَجَبٍ فِي السَّنَةِ
الْمَاضِيَةِ بِمِصْرَ، وَكَانَ قَتْلُهُ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ، كَمَا ذَكَرْنَا
بَعْدَ مَا هُزِمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ وَالْجَيْشِ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاسْتَقَلَّ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ
بِجَمِيعِ الشَّامِ وَمِصْرَ، وَصَفَتْ لَهُ الْأُمُورُ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ
مُنَازِعٌ سِوَى الْبُرْلِيِّ، فَإِنَّهُ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى الْبِيرَةِ
وَعَصَى عَلَيْهِ هُنَالِكَ.
وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ السُّلْطَانُ
الْمَلِكُ الظَّاهِرُ بِبِلَادِ مِصْرَ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَرَاءِ وَالْحَاشِيَةِ
وَعَلَى الْوَزِيرِ وَالْقَاضِي تَاجِ الدِّينِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ، وَعَزَلَ
عَنْهَا بُرْهَانَ الدِّينِ السِّنْجَارِيَّ.
وَفِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ أَعْرَسَ الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ بِيلِيكَ
الْخَزَنْدَارُ عَلَى بِنْتِ الْأَمِيرِ لُؤْلُؤٍ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ،
وَاحْتَفَلَ الظَّاهِرُ بِهَذَا الْعُرْسِ احْتِفَالًا بَالِغًا.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اصْطَادَ
بَعْضُ أُمَرَاءِ الظَّاهِرِ بِجَرُودِ حِمَارَ وَحْشٍ، فَطَبَخُوهُ فَلَمْ
يَنْضَجْ وَلَا أَثَّرَ فِيهِ كَثْرَةُ الْوَقُودِ، ثُمَّ افْتَقَدُوا أَمْرَهُ،
فَإِذَا هُوَ مَوْسُومٌ عَلَى أُذُنِهِ: بَهْرَامُ جَوْرَ. قَالَ: وَقَدْ
أَحْضَرُوهُ إِلَيَّ، فَقَرَأْتُهُ كَذَلِكَ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ لِهَذَا
الْحِمَارِ قَرِيبًا مِنْ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ، فَإِنَّ بَهْرَامَ جُورَ كَانَ
قَبْلَ الْمَبْعَثِ بِمُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ، وَحُمُرُ الْوَحْشِ تَعِيشُ دَهْرًا
طَوِيلًا.
قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بَهْرَامَ شَاهِ الْمَلِكَ الْأَمْجَدَ،
إِذْ يَبْعُدُ بَقَاءُ مِثْلِ هَذَا بِلَا اصْطِيَادٍ هَذِهِ الْمُدَّةَ
الطَّوِيلَةَ، وَيَكُونُ الْكَاتِبُ قَدْ أَخْطَأَ، فَأَرَادَ كِتَابَةَ:
بَهْرَامَ شَاهْ. فَكَتَبَ بَهْرَامَ جُورَ، فَحَصَلَ اللَّبْسُ مِنْ هَذَا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ بَيْعَةِ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ
الْعَبَّاسِيِّ
فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ دَخَلَ الْخَلِيفَةُ أَبُو
الْعَبَّاسِ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ الْأَمِيرِ أَبِي عَلِيِّ
بْنِ الْأَمِيرِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْإِمَامِ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ بْنِ
الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ مِنْ بِلَادِ الشَّرْقِ،
وَصُحْبَتُهُ
جَمَاعَةٌ مِنْ رُءُوسِ تِلْكَ الْبِلَادِ وَقَدْ شَهِدَ
الْوَقْعَةَ صُحْبَةَ الْمُسْتَنْصِرِ، وَهَرَبَ هُوَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ
الْمَعْرَكَةِ فَسَلِمَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ دُخُولِهِ تَلَقَّاهُ السُّلْطَانُ
الظَّاهِرُ، وَأَظْهَرَ السُّرُورَ لَهُ وَالِاحْتِفَالَ، وَأَنْزَلَهُ فِي
الْبُرْجِ الْكَبِيرِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ الْأَرْزَاقَ الدَّارَّةَ
وَالْإِحْسَانَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ عَزَلَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ الْأَمِيرَ جَمَالَ الدِّينِ
آقُوشَ النَّجِيبِيَّ عَنْ أُسْتَاذِدَارِيَّتِهِ، وَاسْتَبْدَلَ بِهِ غَيْرَهُ،
وَبَعْدَ ذَلِكَ أَرْسَلَهُ نَائِبًا عَلَى الشَّامِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ تَاسِعِ رَجَبٍ حَضَرَ السُّلْطَانُ الظَّاهِرُ إِلَى
دَارِ الْعَدْلِ فِي مُحَاكَمَةٍ فِي بِئْرٍ إِلَى بَيْنِ يَدَيِ الْقَاضِي تَاجِ
الدِّينِ عَبْدِ الْوَهَّابِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ، فَقَامَ النَّاسُ إِلَّا
الْقَاضِي، فَإِنَّهُ أَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَقُومَ، وَتَدَاعَيَا، وَكَانَ
الْحَقُّ مَعَ السُّلْطَانِ، وَلَهُ بَيِّنَهٌ عَادِلَةٌ، فَانْتُزِعَتِ الْبِئْرُ
مِنْ يَدِ الْغَرِيمِ، وَكَانَ أَحَدَ الْأُمَرَاءِ.
وَفِي شَوَّالٍ اسْتَنَابَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ عَلَى حَلَبَ
الْأَمِيرَ عَلَاءَ الدِّينِ أَيْدِكِينَ الشِّهَابِيَّ، وَحِينَئِذٍ انْحَازَ عَسْكَرُ
سِيسَ عَلَى الْفُوعَةِ مِنْ أَرْضِ حَلَبَ، فَرَكِبَ إِلَيْهِمُ الشِّهَابِيُّ،
فَكَسَرَهُمْ وَأَسَرَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، فَسَيَّرَهُمْ إِلَى مِصْرَ
فَوُسِّطُوا.
وَفِيهَا اسْتَنَابَ السُّلْطَانُ عَلَى دِمَشْقَ
الْأَمِيرَ جَمَالَ الدِّينِ آقُوشَ النَّجِيبِيَّ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ
الْأُمَرَاءِ، وَعَزَلَ عَنْهَا عَلَاءَ الدِّينِ طَيْبَرْسَ الْوَزِيرِيَّ،
وَحُمِلَ إِلَى الْقَاهِرَةِ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ خَرَجَ مَرْسُومُ السُّلْطَانِ إِلَى الْقَاضِي تَاجِ
الدِّينِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ أَنْ يَسْتَنِيبَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ مِنَ
الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ نَائِبًا، فَاسْتَنَابَ صَدْرَ الدِّينِ سُلَيْمَانَ
الْحَنَفِيَّ، وَالشَّيْخَ شَمْسَ الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ الشَّيْخِ الْعِمَادِ
الْحَنْبَلِيَّ، وَ شَرَفَ الدِّينِ عُمَرَ السُّبْكِيَّ الْمَالِكِيَّ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ قَدِمَتْ وُفُودٌ كَثِيرَةٌ مِنَ التَّتَارِ عَلَى الْمَلِكِ
الظَّاهِرِ مُسْتَأْمِنِينَ، فَأَكْرَمَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ،
وَأَقْطَعَهُمْ إِقْطَاعَاتٍ حَسَنَةً، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِأَوْلَادِ صَاحِبِ
الْمَوْصِلِ، وَرَتَّبَ لِإِخْوَانِهِمْ رَوَاتِبَ كَافِيَةً.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ هُولَاكُو طَائِفَةً مِنْ جُنْدِهِ نَحْوَ
عَشَرَةِ آلَافٍ، فَحَاصَرُوا الْمَوْصِلَ، وَنَصَبُوا عَلَيْهَا أَرْبَعَةً
وَعِشْرِينَ مَنْجَنِيقًا، وَضَاقَتْ بِهَا الْأَقْوَاتُ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ لُؤْلُؤٍ إِلَى
الْبُرْلِيِّ يَسْتَنْجِدُهُ، فَقَدِمَ إِلَيْهِ فَهُزِمَتِ التَّتَارُ، ثُمَّ
ثَبَتُوا فَالْتَقَوْا مَعَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ مَعَهُ تِسْعُمِائَةِ مُقَاتِلٍ،
فَهَزَمُوهُ وَجَرَحُوهُ، وَعَادَ إِلَى الْبِيرَةِ، وَفَارَقَهُ أَكْثَرُ
أَصْحَابِهِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، ثُمَّ
دَخَلَ هُوَ إِلَى بَيْنِ يَدَيِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ
الظَّاهِرِ، فَأَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَقْطَعُهُ تِسْعِينَ
فَارِسًا، وَأَمَّا التَّتَارُ فَإِنَّهُمْ عَادُوا إِلَى الْمَوْصِلِ، وَلَمْ
يَزَالُوا حَتَّى اسْتَنْزَلُوا صَاحِبَهَا الْمَلِكَ الصَّالِحَ إِلَيْهِمْ،
وَنَادَوْا فِي الْبَلَدِ بِالْأَمَانِ حَتَّى اطْمَأَنَّ النَّاسُ، ثُمَّ مَالُوا
عَلَيْهِمْ، فَقَتَلُوهُمْ تِسْعَةَ أَيَّامٍ، وَقَتَلُوا الْمَلِكَ الصَّالِحَ
إِسْمَاعِيلَ وَوَلَدَهُ عَلَاءَ الدِّينِ، وَخَرَّبُوا أَسْوَارَ الْبَلَدِ،
وَتَرَكُوهَا بِلَاقِعَ، ثُمَّ كَرُّوا رَاجِعِينَ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ
أَجْمَعِينَ.
وَفِيهَا وَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَ هُولَاكُو وَبَينَ السُّلْطَانِ بَرَكَةَ ابْنِ
عَمِّهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بَرَكَةُ يَطْلُبُ مِنْهُ نَصِيبًا مِمَّا فَتَحَهُ
مِنَ الْبِلَادِ، عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ، فَقَتَلَ رُسُلَهُ،
فَاشْتَدَّ غَضَبُ بَرَكَةَ، وَكَاتَبَ الظَّاهِرَ لِيَتَّفِقَا عَلَى هُولَاكُو.
وَفِيهَا وَقَعَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِالشَّامِ، فَبِيعَ الْقَمْحُ الْغِرَارَةُ
بِأَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَالشَّعِيرُ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ،
وَاللَّحْمُ الرِّطْلُ بِسِتَّةٍ وَبِسَبْعَةٍ، فَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ
وَحَصَلَ فِي النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ خَوْفٌ شَدِيدٌ مِنَ التَّتَارِ،
فَتَجَهَّزَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأُبِيعَتِ
الْغَلَّاتُ حَتَّى حَوَاصِلُ الْقَلْعَةِ وَالْأُمَرَاءِ،
وَرَسَمَ وُلَاةُ الْأُمُورِ عَلَى مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ أَنْ
يُسَافِرَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى مِصْرَ، وَوَقَعَتِ الرَّجْفَةُ فِي الشَّامِ وَفِي
بِلَادِ الرُّومِ أَيْضًا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ حَصَلَ لِبِلَادِ التَّتَرِ خَوْفٌ
شَدِيدٌ أَيْضًا، فَسُبْحَانَ الْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ، الَّذِي بِيَدِهِ
الْأَمْرُ. وَكَانَ الْآمِرَ لِأَهْلِ دِمَشْقَ بِالتَّحَوُّلِ مِنْهَا إِلَى
مِصْرَ نَائِبُهَا الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ طَيْبَرْسُ الْوَزِيرِيُّ،
فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَيْهِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَمْسَكَهُ وَعَزَلَهُ
وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا جَمَالَ الدِّينِ آقُوشَ النَّجِيبِيَّ، وَاسْتَوْزَرَ
بِدِمَشْقَ عِزَّ الدِّينِ بْنَ وَدَاعَةَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ نَزَلَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنُ خَلِّكَانَ عَنْ
تَدْرِيسِ الرُّكْنِيَّةِ لِلشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ أَبِي شَامَةَ، وَحَضَرَ
عِنْدَهُ حِينَ دَرَّسَ، وَأَخَذَ فِي أَوَّلِ " مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ
"، أَثَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ بْنُ الظَّاهِرِ بِأَمْرِ اللَّهِ
الْعَبَّاسِيُّ
الَّذِي بَايَعَهُ الظَّاهِرُ بِمِصْرَ فِي رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ،
كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَانَ قَتْلُهُ فِي ثَالِثِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا، بَطَلًا فَاتِكًا، وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ
الظَّاهِرُ أَنْفَقَ عَلَيْهِ حَتَّى أَقَامَ لَهُ جَيْشًا بِأَلْفِ أَلْفِ
دِينَارٍ وَأَزْيَدَ، وَسَارَ فِي خِدْمَتِهِ وَمَعَهُ خَلْقٌ مِنْ أَكَابِرِ
الْأُمَرَاءِ وَأَوْلَادِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ
إِسْمَاعِيلُ مِنَ الْوَفْدِ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى الظَّاهِرِ، فَأَرْسَلَهُ
صُحْبَةَ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا كَانَتِ
الْوَقْعَةُ فُقِدَ الْمُسْتَنْصِرُ، وَرَجَعَ الصَّالِحُ
إِلَى بِلَادِهِ، فَجَاءَتْهُ التَّتَارُ، فَحَاصَرُوهُ كَمَا ذَكَرْنَا،
وَقَتَلُوهُ وَخَرَّبُوا بِلَادَهُ، وَقَتَلُوا أَهْلَهَا، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
الْعِزُّ الضَّرِيرُ النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ
وَاسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ نَجَا، مِنْ أَهْلِ
نَصِيبِينَ، وَنَشَأَ بِإِرْبِلَ، فَاشْتَغَلَ بِعُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِنْ عُلُومِ
الْأَوَائِلِ، وَكَانَ يَشْتَغِلُ عَلَيْهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَغَيْرُهُمْ،
وَنُسِبَ إِلَى الِانْحِلَالِ وَقِلَّةِ الدِّينِ، وَتَرْكِ الصَّلَوَاتِ، وَكَانَ
ذَكِيًّا، وَلَيْسَ بِذَكِيٍّ; عَالِمَ اللِّسَانِ، جَاهِلَ الْقَلْبِ، ذَكِيَّ
الْقَوْلِ، خَبِيثَ الْفِعْلِ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ رَائِقٌ أَوْرَدَ مِنْهُ
الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ قِطْعَةً فِي تَرْجَمَتِهِ، وَهُوَ الضَّرِيرُ شَبِيهٌ
بِأَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ، قَبَّحَهُمَا اللَّهُ.
ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْحَسَنِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُهَذِّبِ، الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ
السُّلَمِيُّ الدِّمَشْقِيُّ الشَّافِعِيُّ، شَيْخُ الْمَذْهَبِ وَمُفِيدُ
أَهْلِهِ، وَصَاحِبُ مُصَنَّفَاتٍ حِسَانٍ; مِنْهَا التَّفْسِيرُ، وَاخْتِصَارُ
النِّهَايَةِ، وَالْقَوَاعِدُ الْكُبْرَى، وَالصُّغْرَى، وَكِتَابُ الصَّلَاةِ،
وَالْفَتَاوَى الْمَوْصِلِيَّةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وُلِدَ سَنَةَ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ
كَثِيرًا، وَاشْتَغَلَ عَلَى فَخْرِ الدِّينِ بْنِ عَسَاكِرَ وَغَيْرِهِ، وَبَرَعَ
فِي الْمَذْهَبِ، وَعُلُومٍ كَثِيرَةٍ، وَأَفَادَ الطَّلَبَةَ، وَدَرَّسَ
بِعِدَّةِ مَدَارِسَ بِدِمَشْقَ، وَوَلِيَ خَطَابَتَهَا، ثُمَّ انْتَقَلَ عَنْهَا إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَدَرَّسَ بِهَا، وَخَطَبَ وَحَكَمَ، وَانْتَهَتْ
إِلَيْهِ رِئَاسَةُ الْمَذْهَبِ،
وَقُصِدَ بِالْفَتَاوَى مِنَ الْآفَاقِ، وَكَانَ لَطِيفًا
ظَرِيفًا يَسْتَشْهِدُ بِالْأَشْعَارِ، وَقَدْ كَانَ خُرُوجُهُ مِنَ الشَّامِ
بِسَبَبِ مَا كَانَ أَنْكَرَهُ عَلَى الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ مِنْ تَسْلِيمِهِ
صَفَدَ وَالشَّقِيفَ إِلَى الْفِرِنْجِ، وَوَافَقَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ
الْحَاجِبِ الْمَالِكِيُّ، فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ بَلَدِهِ، فَسَارَ أَبُو عَمْرٍو
إِلَى النَّاصِرِ دَاوُدَ صَاحِبِ الْكَرَكِ فَأَكْرَمهُ، وَسَارَ ابْنُ عَبْدِ
السَّلَامِ إِلَى الْمَلِكِ الصَّالِحِ أَيُّوبَ بْنِ الْكَامِلِ صَاحِبِ مِصْرَ،
فَأَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ وَوَلَّاهُ قَضَاءَ مِصْرَ وَخَطَابَةَ الْجَامِعِ
الْعَتِيقِ، ثُمَّ انْتَزَعَهُمَا مِنْهُ، وَأَقَرَّهُ عَلَى تَدْرِيسِ
الصَّالِحِيَّةِ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بِهَا لِلْقَاضِي تَاجِ
الدِّينِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ، وَتُوُفِّيَ فِي عَاشِرِ جُمَادَى الْأُولَى،
وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى الثَّمَانِينَ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِسَفْحِ
الْمُقَطَّمِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ السُّلْطَانُ الظَّاهِرُ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْعَدِيمِ الْحَنَفِيُّ
عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى بْنِ زُهَيْرِ بْنِ هَارُونَ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيسَى
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَرَادَةَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ
بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عُقَيْلٍ الْحَلَبِيُّ
الْحَنَفِيُّ، كَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْعَدِيمِ، الْأَمِيرُ
الْوَزِيرُ الرَّئِيسُ الْكَبِيرُ، وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَحَدَّثَ وَتَفَقَّهَ وَأَفْتَى وَدَرَّسَ
وَصَنَّفَ، وَكَانَ إِمَامًا فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ تَرَسَّلَ إِلَى
الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ مِرَارًا عَدِيدَةً، وَكَانَ يَكْتُبُ حَسَنًا
طَرِيقَةً مَشْهُورَةً، وَصَنَّفَ لِحَلَبَ تَارِيخًا مُفِيدًا يَقْرُبُ
مِنْ أَرْبَعِينَ مُجَلَّدًا، وَكَانَ جَيِّدَ
الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ، حَسَنَ الظَّنِّ بِالْفُقَرَاءِ وَالصَّالِحِينَ،
كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ أَقَامَ بِدِمَشْقَ فِي الدَّوْلَةِ
النَّاصِرِيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ، وَدُفِنَ
بِسَفْحِ الْمُقَطَّمِ بَعْدَ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ،
وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ قُطْبُ الدِّينِ أَشْعَارًا حَسَنَةً.
يُوسُفُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ سَلَامَةَ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ
بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَاقَانِيِّ الزَّيْنَبِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبَدِ
الْمُطَّلِبِ، مُحْيِي الدِّينِ أَبُو الْمُعِزِّ، وَيُقَالُ: أَبُو الْمَحَاسِنِ
الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ الْمُوَصِّلِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ زَبْلَاقٍ
الشَّاعِرُ، قَتَلَتْهُ التَّتَارُ لَمَّا أَخَذُوا الْمَوْصِلَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
بَعَثْتَ لَنَا مِنْ سِحْرِ مُقْلَتِكَ الْوَسْنَى سُهَادًا يَذُودُ الْجَفْنَ
أَنْ يَأْلَفَ الْجَفْنَا وَأَبْصَرَ جِسْمَيْ حَسَنَ خَصْرِكَ نَاحِلًا
فَحَاكَاهُ لَكِنْ زَادَ فِي دِقَّةِ الْمَعْنَى وَأَبْرَزْتَ وَجْهًا أَخْجَلَ
الصُّبْحَ طَالِعًا
وَمِلْتَ بِقَدٍّ عَلَّمَ الْهَيِّفَ الْغُصْنَا حَكَيْتَ أَخَاكَ الْبَدْرَ
لَيْلَةَ تِمِّهِ
سَنًا وَسَنَاءً إِذْ تَشَابَهْتُمَا سَنَا
وَقَالَ أَيْضًا، وَقَدْ دُعِيَ إِلَى مَوْضِعٍ، فَبَعَثَ يَعْتَذِرُ بِهَذَيْنَ
الْبَيْتَيْنِ:
أَنَا فِي مَنْزِلِي وَقَدْ وَهَبَ الْ لَّهُ نَدِيمًا
وَقَيْنَةً وَعُقَارَا
فابْسُطُوا الْعُذْرَ فِي التَّأَخُّرِ عَنْكُمْ شَغَلَ الْحَلْيَ أَهْلُهُ أَنْ
يُعَارَا
قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَفِيهَا فِي ثَانِي عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ تُوُفِّيَ:
الْبَدْرُ الْمَرَاغِيُّ الْخِلَافِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالطَّوِيلِ، وَكَانَ قَلِيلَ الدِّينِ تَارِكًا لِلصَّلَاةِ،
مُغْتَبِطًا بِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْجَدَلِ وَالْخِلَافِ عَلَى
اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ، رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ يَاقُوتَ الصَّارِمِيُّ
الْمُحَدِّثُ، كَتَبَ كَثِيرًا; الطَّبَقَاتِ وَغَيْرَهَا، وَكَانَ دَيِّنًا
خَيِّرًا، يُعِيرُ كُتُبَهُ، وَيُدَاوِمُ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِسَمَاعِ
الْحَدِيثِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ
وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَسُلْطَانُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ
الْمَلِكُ الظَّاهِرُ بِيبَرْسُ الْبُنْدُقْدَارِيُّ، وَنَائِبُهُ عَلَى الشَّامِ
جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ النَّجِيبِيُّ، وَقَاضِيهِ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ
خَلِّكَانَ، وَالْوَزِيرُ بِهَا عِزُّ الدِّينِ بْنُ وَدَاعَةَ، وَلَيْسَ
لِلنَّاسِ خَلِيفَةٌ، وَإِنَّمَا تَضْرِبُ السِّكَّةُ بِاسْمِ الْمُسْتَنْصِرِ
الَّذِي قُتِلَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ.
ذِكْرُ خِلَافَةِ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي
الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَمِيرِ
أَبِي عَلَىٍّ الْقُبِّيِّ بْنِ الْأَمِيرِ عَلِيِّ بْنِ الْأَمِيرِ أَبِي بَكْرِ
بْنِ الْإِمَامِ
الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي مَنْصُورٍ الْفَضْلِ بْنِ
الْإِمَامِ
الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ الْعَبَّاسِيِّ
الْهَاشِمِيِّ
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ ثَانِي الْمُحَرَّمِ، جَلَسَ السُّلْطَانُ
الْمَلِكُ الظَّاهِرُ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ وَأُمَرَاؤُهُ وَأَهْلُ الْحَلِّ
وَالْعَقْدِ فِي الْإِيوَانِ الْكَبِيرِ بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ، وَجَاءَ
الْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ رَاكِبًا حَتَّى
نَزَلَ عِنْدَ الْإِيوَانِ، وَقَدْ بُسِطَ لَهُ إِلَى جَانِبِ السُّلْطَانِ،
وَذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ نَسَبِهِ، فَقُرِئَ نَسَبُهُ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ
أَقْبَلَ عَلَيْهِ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ بِيبَرْسُ فَبَايَعَهُ وَبَايَعَهُ
النَّاسُ بَعْدَهُ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثَانِيهِ خَطَبَ الْخَلِيفَةُ بِالنَّاسِ،
فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَقَامَ لِآلِ الْعَبَّاسِ رُكْنًا
ظَهِيرًا، وَجَعَلَ لَهُمْ مِنْ لَدُنْهُ سُلْطَانًا نَصِيرًا، أَحْمَدُهُ عَلَى
السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى شُكْرِ مَا أَسْبَغَ مِنَ
النَّعْمَاءِ، وَأَسْتَنْصِرُهُ عَلَى دَفْعِ الْأَعْدَاءِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ نُجُومِ
الِاهْتِدَاءِ، وَأَئِمَّةِ الِاقْتِدَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَعَلَى الْعَبَّاسِ
عَمِّهِ وَكَاشِفِ غَمِّهِ أَبِي السَّادَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ
وَأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَلَى بَقِيَّةِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ
وَالتَّابِعَيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أَيُّهَا النَّاسُ
اعْلَمُوا أَنَّ الْإِمَامَةَ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الْإِسْلَامِ، وَالْجِهَادُ مَحْتُومٌ
عَلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ، وَلَا يَقُومُ عَلَمُ الْجِهَادِ إِلَّا بِاجْتِمَاعِ
كَلِمَةِ الْعِبَادِ، وَلَا سُبِيَتِ الْحُرَمُ إِلَّا بِانْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ،
وَلَا سُفِكَتِ الدِّمَاءُ إِلَّا بِارْتِكَابِ الْجَرَائِمِ، فَلَوْ شَاهَدْتُمْ
أَعْدَاءَ الْإِسْلَامِ لَمَّا دَخَلُوا دَارَ السَّلَامِ، وَاسْتَبَاحُوا
الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ، وَقَتَلُوا الرِّجَالَ وَالْأَطْفَالَ، وَهَتَكُوا
حُرَمَ الْخِلَافَةِ وَالْحَرِيمِ، وَأَذَاقُوا مَنِ اسْتَبَقُوا الْعَذَابَ
الْأَلِيمَ، فَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ بِالْبُكَاءِ وَالْعَوِيلِ، وَعَلَتِ
الضَّجَّاتُ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الطَّوِيلِ، فَكَمْ مِنْ شَيْخٍ
خُضِّبَتْ شَيْبَتُهُ
بِدِمَائِهِ، وَكَمْ مِنْ طِفْلٍ بَكَى فَلَمْ يُرْحَمْ
لِبُكَائِهِ، فَشَمِّرُوا عَنْ سَاقِ الِاجْتِهَادِ فِي إِحْيَاءِ فَرْضِ
الْجِهَادِ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا
وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ التَّغَابُنِ: 16 ] فَلَمْ يَبْقَ مَعْذِرَةٌ فِي
الْقُعُودِ عَنْ أَعْدَاءِ الدِّينِ، وَالْمُحَامَاةِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ،
وَهَذَا السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ السَّيِّدُ الْأَجَلُّ الْعَالِمُ
الْعَادِلُ الْمُجَاهِدُ الْمُؤَيَّدُ رُكْنُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، قَدْ قَامَ
بِنَصْرِ الْإِمَامَةِ عِنْدَ قِلَّةِ الْأَنْصَارِ، وَشَرَّدَ جُيُوشَ الْكُفْرِ
بَعْدَ أَنْ جَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، فَأَصْبَحَتِ الْبَيْعَةُ بِاهْتِمَامِهِ
مُنْتَظِمَةَ الْعُقُودِ، وَالدَّوْلَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ بِهِ مُتَكَاثِرَةَ
الْجُنُودِ، فَبَادِرُوا عِبَادَ اللَّهِ إِلَى شُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ،
وَأَخْلِصُوا نِيَّاتِكُمْ تُنْصَرُوا، وَقَاتَلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ
تَظْفَرُوا، وَلَا يُرَوِّعُكُمْ مَا جَرَى، فَالْحَرْبُ سِجَالٌ وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ، وَالدَّهْرُ يَوْمَانِ، وَالْأَجْرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، جَمَعَ
اللَّهُ عَلَى الْهُدَى أَمْرَكُمْ، وَأَعَزَّ بِالْإِيمَانِ نَصْرَكُمْ،
وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ،
فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. ثُمَّ خَطَبَ الثَّانِيَةَ،
وَنَزَلَ فَصَلَّى.
وَكَتَبَ بَيْعَتَهُ إِلَى الْآفَاقِ لِيُخْطَبَ لَهُ، وَضُرِبَتِ السِّكَّةُ بِاسْمِهِ.
قَالَ أَبُو شَامَةَ: فَخُطِبَ لَهُ بِجَامِعِ دِمَشْقَ وَسَائِرِ الْجَوَامِعِ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَادِسَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَهَذَا
الْخَلِيفَةُ هُوَ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ،
وَلَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ مَنْ لَيْسَ وَالِدُهُ وَجَدُّهُ
خَلِيفَةً بَعْدَ السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ سِوَى هَذَا، فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ
وَالِدُهُ خَلِيفَةً فَكَثِيرٌ، مِنْهُمُ الْمُسْتَعِينُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ الْمُعْتَصِمِ، وَالْمُعْتَضِدُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ،
وَالْقَادِرُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْمُقْتَدِرِ، وَالْمُقْتَدِي بْنُ
الذَّخِيرَةِ بْنُ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ.
ذِكْرُ أَخْذِ الظَّاهِرِ الْكَرَكَ
وَإِعْدَامِ صَاحِبِهَا
وَفِيهَا رَكِبَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي
الْعَسَاكِرِ الْمَنْصُورَةِ قَاصِدًا نَاحِيَةَ بِلَادِ الْكَرَكِ، وَاسْتَدْعَى
صَاحِبَهَا الْمَلِكَ الْمُغِيثَ عُمَرَ بْنَ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ
الْكَامِلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَادِلِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ بَعْدَ جُهْدٍ
أَرْسَلَهُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُعْتَقَلًا، فَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ
بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَاتَبَ هُولَاكُو وَحَثَّهُ عَلَى الْقُدُومِ إِلَى
الشَّامِ مَرَّةً أُخْرَى، وَجَاءَتْهُ كُتُبُ التَّتَارِ بِالثَّبَاتِ
وَنِيَابَةِ الْبِلَادِ، وَأَنَّهُ سَيَقْدُمُ عَلَيْهِ عِشْرُونَ أَلْفًا
لِفَتْحِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَخْرَجَ السُّلْطَانُ فَتَاوَى
الْفُقَهَاءِ بِقَتْلِهِ، وَعَرَضَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ خَلِّكَانَ - وَكَانَ قَدِ
اسْتَدْعَاهُ مِنْ دِمَشْقَ - وَعَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، ثُمَّ سَارَ
فَتَسَلَّمَ الْكَرَكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَالِثَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى،
وَدَخَلَهَا يَوْمئِذٍ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا.
وَفِيهَا قَدِمَتْ رُسُلُ بَرَكَةَ خَانَ إِلَى الظَّاهِرِ يَقُولُ لَهُ: قَدْ
عَلِمْتَ مَحَبَّتِي لِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَعَلِمْتَ مَا فَعَلَ هُولَاكُو
بِالْمُسْلِمِينَ، فَارْكَبْ أَنْتَ مِنْ نَاحِيَةٍ، وَآتِيهِ أَنَا مِنْ
نَاحِيَةٍ حَتَّى نَصْطَلِمَهُ أَوْ نُخْرِجَهُ مِنَ الْبِلَادِ، وَأَيًّا مَا
كَانَ أَعْطَيْتُكَ جَمِيعَ مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنَ الْبِلَادِ. فَاسْتَصْوَبَ
الظَّاهِرُ هَذَا الرَّأْيَ، وَشَكَرَهُ وَخَلَعَ عَلَى رُسُلِهِ وَأَكْرَمَهُمْ.
وَفِيهَا زُلْزِلَتِ الْمَوْصِلُ زَلْزَلَةً عَظِيمَةً، وَتَهَدَّمَتْ أَكْثَرُ
دُورِهَا.
وَفِي رَمَضَانَ جَهَّزَ الظَّاهِرُ صُنَّاعًا وَأَخْشَابًا
وَآلَاتٍ كَثِيرَةً لِعِمَارَةِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعْدَ حَرِيقِهِ، فَطِيفَ بِتِلْكَ الْأَخْشَابِ وَالْآلَاتِ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَرْحَةً بِهَا وَتَعْظِيمًا لَهَا، ثُمَّ سَارُوا
بِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ.
وَفِي شَوَّالٍ سَارَ الظَّاهِرُ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَنَظَرَ فِي
أَحْوَالِهَا وَأُمُورِهَا، وَعَزَلَ قَاضِيَهَا وَخَطِيبَهَا نَاصِرَ الدِّينِ
أَحْمَدَ بْنَ الْمُنِيرِ، وَوَلَّى غَيْرَهُ.
وَفِيهَا الْتَقَى بَرَكَةُ قَانَ وَهُولَاوُو وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ جُيُوشٌ
كَثِيرَةٌ، فَاقْتَتَلُوا فَهُزِمَ هُولَاكُو هَزِيمَةً فَظِيعَةً، وَقُتِلَ
أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَغَرِقَ أَكْثَرُ مَنْ بَقِيَ، وَهَرَبَ هُوَ فِي
شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَمَّا نَظَرَ بَرَكَةُ خَانَ إِلَى كَثْرَةِ الْقَتْلَى قَالَ: يَعِزُّ عَلَيَّ
أَنْ يَقْتُلَ الْمَغُولُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَكِنْ كَيْفَ الْحِيلَةُ فِيمَنْ
غَيَّرَ سُنَّةَ جِنْكِزْخَانَ؟ ! ثُمَّ أَغَارَ بَرَكَةُ خَانَ عَلَى بِلَادِ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَصَانَعَهُ صَاحِبُهَا، وَأَرْسَلَ الظَّاهِرُ هَدَايَا
عَظِيمَةً إِلَى بَرَكَةَ وَتُحَفًا كَثِيرَةً هَائِلَةً.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ
سَيِّدِ النَّاسِ، أَبُو بَكْرٍ الْيَعْمُرِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الْحَافِظُ
وُلِدَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ،
وَحَصَّلَ كُتُبًا عَظِيمَةً، وَصَنَّفَ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، وَخُتِمَ بِهِ
الْحُفَّاظُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، تُوفِّيَ بِمَدِينَةِ تُونُسَ فِي الرَّابِعِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ رِزْقِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ
بْنِ خَلَفٍ عِزُّ الدِّينِ، أَبُو مُحَمَّدٍ الرَّسْعَنِيُّ
الْمُحَدِّثُ الْمُفَسِّرُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَحَدَّثَ، وَكَانَ مِنَ
الْفُضَلَاءِ الْأُدَبَاءِ، لَهُ مَكَانَةٌ عِنْدَ الْبَدْرِ لُؤْلُؤٍ صَاحِبِ
الْمَوْصِلِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ صَاحِبِ سِنْجَارَ، وَبِهَا تُوُفِّيَ فِي
لَيْلَةِ الْجُمُعَةَ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَقَدْ جَاوَزَ
السَّبْعِينَ، وَمِنْ شِعْرِهِ:
نَعَبَ الْغُرَابُ فَدَلَّنَا بِنَعِيبِهِ أَنَّ الْحَبِيبَ دَنَا أَوَانُ
مَغِيبِهِ يَا سَائِلِي عَنْ طِيبِ عَيْشِيَ بَعْدَهُمْ
جُدْ لِي بِعَيْشٍ ثُمَّ سَلْ عَنْ طِيبِهِ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَنْتَرٍ السُّلَمِيُّ الدِّمَشْقِيُّ
مُحْتَسِبُهَا، وَكَانَ مِنْ عُدُولِهَا وَأَعْيَانِهَا، وَلَهُ بِهَا أَمْلَاكٌ
وَثَرْوَةٌ وَأَوْقَافٌ، تُوفِّيَ بِالْقَاهِرَةِ، وَدُفِنَ بِالْمُقَطَّمِ.
عَلَمُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُوَفَّقِ بْنِ
جَعْفَرٍ الْمُرْسِيُّ اللَّوْرَقِيُّ
اللُّغَوِيُّ النَّحْوِيُّ الْمُقْرِئُ، شَرَحَ " الشَّاطِبِيَّةَ "
شَرْحًا مُخْتَصَرًا، وَشَرَحَ " الْمُفَصَّلَ " فِي عِدَّةِ
مُجَلَّدَاتٍ، وَشَرَحَ " الْجُزُولِيَّةَ " وَقَدِ اجْتَمَعَ
بِمُصَنِّفِهَا، وَسَأَلَهُ عَنْ بَعْضِ مَسَائِلِهَا، وَكَانَ ذَا فُنُونٍ مُتَعَدِّدَةٍ،
حَسَنَ الشَّكْلِ،
مَلِيحَ الْوَجْهِ، لَهُ هَيْئَةٌ حَسَنَةٌ وَبِزَّةٌ
وَجِمَالٌ، وَقَدْ سَمِعَ الْكِنْدِيَّ وَغَيْرَهُ.
الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الدِّينَوَرِيُّ
وَهُوَ بَانِي الزَّاوِيَةِ بِالصَّالِحِيَّةِ، وَكَانَ لَهُ فِيهَا جَمَاعَةٌ
مُرِيدُونَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ بِأَصْوَاتٍ حَسَنَةٍ طَيِّبَةٍ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
مَوَلِدُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ شَيْخِ الْإِسْلَامِ
قَالَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الذَّهَبِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وُلِدَ
شَيْخُنَا تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الشَّيْخِ شِهَابِ
الدِّينِ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
الْحَرَّانِيُّ بَحَرَّانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ عَاشِرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ
سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ مُجِيرُ الدِّينِ أَبُو الْهَيْجَاءِ عِيسَى بْنُ
خُشْتَرِينَ الِأَزْكُشِيُّ الْكُرْدِيُّ الْأُمَوِيُّ
كَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْأُمَرَاءِ وَشُجْعَانِهِمْ، وَلَهُ يَوْمَ عَيْنِ
جَالُوتَ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ فِي كَسْرِ التَّتَارِ، وَلَمَّا دَخَلَ الْمَلِكُ
الْمُظَفَّرُ إِلَى دِمَشْقَ بَعْدَ الْوَقْعَةِ جَعَلَهُ - مَعَ الْأَمِيرِ
عَلَمِ الدِّينِ سَنْجَرَ الْحَلَبِيِّ نَائِبِ الْبَلَدِ - مُسْتَشَارًا
وَمُشَارِكًا فِي الرَّأْيِ وَالْمَرَاسِيمِ وَالتَّدْبِيرِ، وَكَانَ يَجْلِسُ
مَعَهُ فِي دَارِ الْعَدْلِ، وَلَهُ الْإِقْطَاعُ الْكَامِلُ وَالرِّزْقُ
الْوَاسِعُ، إِلَى أَنَّ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ أَبُو شَامَةَ:
وَوَالِدُهُ الْأَمِيرُ
حُسَامُ الدِّينِ تُوُفِّيَ فِي حَبْسِ الْمَلَكِ
الْأَشْرَفِ بِبِلَادِ الشَّرْقِ هُوَ وَالْأَمِيرُ عِمَادُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ
الْمَشْطُوبِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
قُلْتُ: وَوَلَدُهُ الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ تَوَلَّى وِلَايَةَ هَذِهِ
الْمَدِينَةِ - أَعْنِي دِمَشْقَ - مُدَّةً، وَكَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ،
وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ دَرْبُ سَقَونَ بِالصَّاغَةِ الْعَتِيقَةِ، فَيُقَالُ: دَرْبُ
ابْنِ أَبِي الْهَيْجَاءِ. لِأَنَّهُ كَانَ بِهِ سَكَنُهُ، وَكَانَ يَعْمَلُ
الْوِلَايَةَ فِيهِ، فَعُرِفَ بِهِ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ كَانَ فِيهِ
نُزُولُنَا حِينَ قَدِمْنَا مِنْ حُورَانَ وَأَنَا صَغِيرٌ، فَخَتَمْتُ فِيهِ
الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ
وَسِتّمِائَة
اسْتَهَلَّتْ وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ الْعَبَّاسِيُّ،
وَسُلْطَانُ الْإِسْلَامِ الذَّابُّ عَنْ حَوْزَتِهِ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ رُكْنُ
الدِّينِ بِيبَرْسُ الْبُنْدُقْدَارِيُّ - أَيَّدَهُ اللَّهُ وَشَدَّ عَضُدَهُ -
وَنَائِبُ الشَّامِ الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ النَّجِيبِيُّ، وَقَاضِيهِ
شَمْسُ الدِّينِ بْنُ خَلِّكَانَ.
وَفِيهَا فِي أَوَّلِهَا كَمَلَتِ الْمَدْرَسَةُ الظَّاهِرِيَّةُ الَّتِي بَيْنَ
الْقَصْرَيْنِ، وَرُتِّبَ لِتَدْرِيسِ الشَّافِعِيَّةِ بِهَا الْقَاضِي تَقِيُّ
الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ رَزِينٍ، وَلِتَدْرِيسِ الْحَنَفِيَّةِ
مَجْدُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَمَالِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ
الْعَدِيمِ، وَلِمَشْيَخَةِ الْحَدِيثِ بِهَا الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ عَبْدُ
الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ الْحَافِظُ الدِّمْيَاطِيُّ.
وَفِيهَا عَمَّرُ الظَّاهِرُ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ خَانًا، وَوَقَفَ عَلَيْهِ
أَوْقَافًا لِلنَّازِلِينَ بِهِ مِنْ إِصْلَاحِ نِعَالِهِمْ وَأَكْلِهِمْ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، وَبَنَى بِهِ طَاحُونًا وَفُرْنًا.
وَفِيهَا قَدِمَتْ رُسُلُ الْمَلِكِ بَرَكَةَ قَانَ إِلَى الْمَلِكِ الظَّاهِرِ،
وَمَعَهُمُ الْأَشْرَفُ بْنُ شِهَابِ الدِّينِ غَازِي بْنِ الْعَادِلِ، وَمَعَهُمْ
مِنَ الْكُتُبِ وَالْمُشَافِهَاتِ مَا فِيهِ سُرُورٌ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ
مِمَّا حَلَّ بِهِولَاكُوَ وَأَهْلِهِ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا دَرَّسَ الشَّيْخُ
شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيُّ بِدَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ، بَعْدَ وَفَاةِ
الْقَاضِي عِمَادِ الدِّينِ بْنِ الْحَرَسْتَانِيِّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقَاضِي
شَمْسُ الدِّينِ ابْنُ خَلِّكَانَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُضَلَاءِ وَالْأَعْيَانِ،
وَذَكَرَ خُطْبَةَ كِتَابِهِ " الْمَبْعَثِ " وَأَوْرَدَ الْحَدِيثَ
بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ، وَذَكَرَ فَوَائِدَ كَثِيرَةً مُسْتَحْسَنَةً، وَيُقَالُ:
إِنَّهُ لَمْ يُرَاجِعْ شَيْئًا حَتَّى أَوْرَدَ دَرْسَهُ، وَمِثْلُهُ لَا
يُسْتَكْثَرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا قَدِمَ نَصِيرُ الدِّينِ الطُّوسِيُّ إِلَى بَغْدَادَ مِنْ جِهَةِ
السُّلْطَانِ هُولَاكُو قَانَ، فَنَظَرَ فِي الْأَوْقَافِ وَأَحْوَالِ الْبَلَدِ،
وَأَخَذَ كُتُبًا كَثِيرَةً مِنْ سَائِرِ الْمَدَارِسِ، وَحَوَّلَهَا إِلَى
الرَّصْدِ الَّذِي بَنَاهُ بِمَرَاغَةَ، ثُمَّ انْحَدَرَ إِلَى وَاسِطٍ
وَالْبَصْرَةِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ
مُوسَى بْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَلِكِ الْمُجَاهِدِ
أَسَدِ الدِّينِ شِيرْكُوهِ بْنِ نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسَدِ الدِّينِ
شِيرْكُوهُ الْكَبِيرِ
كَانُوا مُلُوكَ حِمْصَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ إِلَى هَذَا الْحِينِ، وَقَدْ كَانَ
مِنَ الْكُرَمَاءِ الْمَوْصُوفِينَ، وَالْكُبَرَاءِ الدَّمَاشِقَةِ
الْمُتْرَفِينَ، وَيَعْتَنِي بِالْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ، وَالْمَلَابِسِ
وَالْمَرَاكِبِ، وَقَضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَالْمَآرِبِ، وَكَثْرَةِ التَّنَعُّمِ
بِالْمَغَانِي وَالْحَبَائِبِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ وُجِدَتْ لَهُ
حَوَاصِلُ مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ وَالْأَمْوَالِ
الْكَثِيرَةِ، وَعَادَ مُلْكُهُ إِلَى الدَّوْلَةِ الظَّاهِرِيَّةِ.
وَتُوُفِّيَ مَعَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ
الْجُوكَنْدَارُ نَائِبُ حَلَبَ.
وَفِيهَا كَانَتْ كَسْرَةُ التَّتَارِ عَلَى حِمْصَ، وَقُتِلَ مُقَدَّمُهُمْ
بَيْدَرَةُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ الْحَسَنِ الْجَمِيلِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الرَّشِيدِ الْعَطَّارِ الْمُحَدِّثِ بِمِصْرَ،
وَالَّذِي حَضَرَ مَسْخَرَةَ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ مُوسَى بْنِ الْعَادِلِ.
وَالتَّاجِرِ الْمَشْهُورِ الْحَاجِّ نَصْرِ بْنِ تُرُوسَ، وَكَانَ مُلَازِمًا
لِلصَّلَوَاتِ بِالْجَامِعِ، وَكَانَ مِنْ ذَوِي الْيَسَارِ وَالْخَيْرِ.
الْخَطِيبُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ الْحَرَسْتَانِيِّ: عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ قَاضِي
الْقُضَاةِ جَمَالِ الدِّينِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْحَرَسْتَانِيِّ
كَانَ خَطِيبًا بِدِمَشْقَ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ عَنْ أَبِيهِ فِي الدَّوْلَةِ
الْأَشْرَفِيَّةِ بَعْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي دَارِ
الْخَطَابَةِ فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ
بِقَاسِيُونَ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى،
وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَقَدْ تَوَلَّى بَعْدَهُ
الْخَطَابَةَ وَالْغَزَّالِيَّةَ وَلَدُهُ مُجِيرُ
الدِّينِ، وَبَاشَرَ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ الشَّيْخُ
شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ.
مُحْيِي الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
الْحُسَيْنِ بْنِ سُرَاقَةَ الْحَافِظُ الْمُحَدِّثُ الْأَنْصَارِيُّ
الشَّاطِبِيُّ، أَبُو بَكْرٍ الْمَغْرِبِيُّ
عَالِمٌ فَاضِلٌ دَيِّنٌ، وَأَقَامَ بِحَلَبَ مُدَّةً، ثُمَّ اجْتَازَ بِدِمَشْقَ
قَاصِدًا الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ. وَقَدْ وَلِيَ دَارَ الْحَدِيثِ الْكَامِلِيَّةَ
بَعْدَ زَكِيِّ الدِّينِ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْمُنْذِرِيِّ، وَقَدْ كَانَ لَهُ
سَمَاعٌ جَيِّدٌ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَقَدْ جَاوَزَ
السَّبْعِينَ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الشَّيْخِ أَبِي
الْقَاسِمِ الْقَبَّارِيُّ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ
، كَانَ مُقِيمًا بِغَيْطٍ لَهُ يَقْتَاتُ مِنْهُ وَيَعْمَلُ فِيهِ وَيَبْدُرُهُ،
وَيَتَوَرَّعُ جِدًّا، وَيُطْعِمُ النَّاسَ مِنْ ثِمَارِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
فِي سَادِسِ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَلَهُ
خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَكَانَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ
الْمُنْكَرِ، وَيَرْدَعُ الْوُلَاةَ عَنِ الظُّلْمِ فَيَسْمَعُونَ مِنْهُ
وَيُطِيعُونَهُ، وَإِذَا جَاءَ النَّاسُ إِلَى زِيَارَتِهِ إِنَّمَا يُكَلِّمُهُمْ
مِنْ طَاقَةِ الْمَنْزِلِ، وَهُمْ رَاضُونَ مِنْهُ بِذَلِكَ.
وَمِنْ غَرِيبِ مَا حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ بَاعَ دَابَّةً لَهُ مِنْ رَجُلٍ،
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ جَاءَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي إِنَّ
الدَّابَّةَ لَا تَأْكُلُ عِنْدِي شَيْئًا. فَنَظَرَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ فَقَالَ
لَهُ: مَا تُعَانِي مِنَ الصَّنَائِعِ؟ فَقَالَ: إِنَّ
دَابَّتَنَا لَا تَأْكُلُ الْحَرَامَ. وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ
فَأَعْطَاهُ دَرَاهِمَهُ وَمَعَهَا دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ قَدِ اخْتَلَطَتْ بِهَا
فَلَا تُمَيَّزُ، فَاشْتَرَى النَّاسُ مِنَ الرَّقَّاصِ كُلَّ دِرْهَمٍ
بِثَلَاثَةٍ لِأَجْلِ الْبَرَكَةِ، وَأَخَذَ دَابَّتَهُ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ
تَرَكَ مِنَ الْأَثَاثِ مَا يُسَاوِي خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَأُبِيعُ بِمَبْلَغِ
عِشْرِينَ أَلْفًا.
قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَفِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ
تُوُفِّيَ مُحْيِي الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفِيِّ الدِّينِ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ مَرْزُوقٍ بِدَارِهِ بِدِمَشْقَ الْمُجَاوِرَةِ لِلْمَدْرَسَةِ
النُّورِيَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قُلْتُ: دَارُهُ هَذِهِ هِيَ الَّتِي جُعِلَتْ مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّةِ،
وَقَفَهَا الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ النَّجِيبِيُّ، الَّتِي يُقَالُ
لَهَا: النَّجِيبِيَّةُ. تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ، وَبِهَا إِقَامَتُنَا،
جَعَلَهَا اللَّهُ دَارًا تَعْقُبُهَا دَارُ الْقَرَارِ فِي الْفَوْزِ الْعَظِيمِ.
وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ صَفِيُّ الدِّينِ وَزِيرًا مُدَّةً لِلْمَلِكِ الْأَشْرَفِ،
وَمَلَكَ مِنَ الذَّهَبِ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ خَارِجًا عَنِ الْأَمْلَاكِ
وَالْأَثَاثِ وَالْبَضَائِعِ، وَكَانَتْ وَفَاةُ أَبِيهِ بِمِصْرَ سَنَةَ تِسْعٍ
وَخَمْسِينَ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ عِنْدَ جَبَلِ الْمُقَطَّمِ. رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَجَاءَ الْخَبَرُ مِنْ مِصْرَ بِوَفَاةِ الْفَخْرِ
عُثْمَانَ الْمِصْرِيِّ الْمَعْرُوفِ بِعَيْنِ عَيْنٍ.
قَالَ: وَفِي ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ تُوُفِّيَ
الشَّمْسُ الْوَتَّارُ الْمُوصِلِيُّ، وَكَانَ قَدْ حَصَّلَ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ
الْأَدَبِ، وَخَطَبَ بِجَامِعِ الْمِزَّةِ مُدَّةً. فَأَنْشَدَنِي لِنَفْسِهِ فِي
الشَّيْبِ وَخِضَابِهِ:
وَكُنْتُ وَإِيَّاهَا مُذِ اخْتَطَّ عَارِضِي كَرُوحَيْنِ فِي جِسْمٍ وَمَا
نَقَضَتْ عَهْدَا فَلَمَّا أَتَانِي الشَّيْبُ يَقْطَعُ بَيْنَنَا
تَوَهَّمْتُهُ سَيْفًا فَأَلْبَسْتُهُ غِمْدَا
وَفِيهَا اسْتَحْضَرَ الْمَلِكُ هُولَاكُوقَانَ مَلِكُ التَّتَارِ الزَّيْنَ
الْحَافِظِيَّ، وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُؤَيَّدِ بْنِ عَامِرٍ
الْعَقْرَبَانِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالزَّيْنِ الْحَافِظِيِّ، وَقَالَ لَهُ: قَدْ
ثَبَتَ عِنْدِي خِيَانَتُكَ. وَقَدْ كَانَ هَذَا الْمُغْتَرُّ لَمَّا قَدِمَ
التَّتَارُ مَعَ هُولَاكُو دِمَشْقَ وَغَيْرَهَا مَالَأَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
وَآذَاهُمْ، وَدَلَّ عَلَى عَوَرَاتِهِمْ، حَتَّى سَلَّطَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ
بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ وَالْمَثُلَاتِ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ
الظَّالِمِينَ بَعْضًا [ الْأَنْعَامِ: 129 ].
وَفِي الْجُمْلَةِ مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سُلِّطَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ
يَنْتَقِمُ مِنَ الظَّالِمِ بِالظَّالِمِ، ثُمَّ يَنْتَقِمُ مِنَ الظَّالِمِينَ
جَمِيعًا، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنَ انْتِقَامِهِ وَغَضَبِهِ
وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ
وَسِتّمِائَةٍ
فِيهَا جَهَّزَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ عَسْكَرًا جَمًّا كَثِيفًا
إِلَى نَاحِيَةِ الْفُرَاتِ لِطَرْدِ التَّتَارِ النَّازِلِينَ بِالْبِيرَةِ،
فَلَمَّا سَمِعُوا بِالْعَسَاكِرِ الظَّاهِرِيَّةَ قَدْ أَقْبَلَتْ تَوَلَّوْا
عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْهَزِمِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،
فَطَابَتْ تِلْكَ النَّاحِيَةُ وَأَمِنَتْ تِلْكَ الْمُعَامَلَةُ، وَقَدْ كَانَتْ
قَبْلَ ذَلِكَ لَا تَسْكُنُ مِنْ كَثْرَةِ الْفَسَادِ بِهَا وَالْخَوْفِ،
فَعَمَرَتْ وَأَمِنَتْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا خَرَجَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ فِي عَسَاكِرَ أُخَرَ عَظِيمَةٍ، فَقَصَدَ
بِلَادَ السَّاحِلِ لِحِصَارِ الْفِرِنْجِ، فَفَتَحَ قَيْسَارِيَّةَ فِي ثَلَاثِ
سَاعَاتٍ مِنْ يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَامِنِ جُمَادَى الْأُولَى وَهُوَ يَوْمُ
نُزُولِهِ عَلَيْهَا، وَتَسَلَّمَ قَلْعَتَهَا فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْآخَرِ
خَامِسَ عَشَرَةَ فَهَدَمَهَا، وَانْتَقَلَ إِلَى غَيْرِهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ، ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ فَتَحَ مَدِينَةَ أَرْسُوفَ،
وَقَتَلَ مَنْ بِهَا مِنَ الْفِرِنْجِ، وَجَاءَتِ الْبَرِيدِيَّةُ بِذَلِكَ،
فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا.
وَفِيهَا وَرَدَ خَبَرٌ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ بِأَنَّهُمُ انْتَصَرُوا عَلَى
الْفِرِنْجِ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ
وَأَسَرُوا عَشْرَةَ آلَافٍ، وَاسْتَرْجَعُوا مِنْهُمُ ثْنَتَيْنِ
وَثَلَاثِينَ بَلْدَةً مِنْهَا شَرِيشُ وَإِشْبِيلِيَّةُ
وَقُرْطُبَةُ وَمُرْسِيَةُ، وَكَانَتِ النُّصْرَةُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ
الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ شُرِعَ فِي تَبْلِيطِ بَابِ الْبَرِيدِ
مِنْ بَابِ الْجَامِعِ إِلَى الْقَنَاةِ الَّتِي عِنْدَ الدَّرَجِ، وَعَمِلَ فِي
الصَّفِّ الْقِبْلِيِّ مِنْهَا بَرَكَةُ وَشَاذِرْوَانُ. وَكَانَ فِي مَوْضِعِهَا
قَنَاةٌ مِنَ الْقَنَوَاتِ يَنْتَفِعُ النَّاسُ بِهَا عِنْدَ انْقِطَاعِ نَهْرِ
بَانِيَاسَ، فَغُيِّرَتْ وَعُمِلَ هَذَا الشَّاذِرْوَانُ. قُلْتُ: ثُمَّ غُيِّرَ
ذَلِكَ وَعُمِلَ مَكَانَهُ دَكَاكِينُ.
وَفِيهَا اسْتَدْعَى السُّلْطَانُ نَائِبَهُ عَلَى دِمَشْقَ الْأَمِيرَ جَمَالَ
الدِّينِ آقُوشَ النَّجِيبِيَّ، فَسَارَ إِلَيْهِ سَمْعًا وَطَاعَةً، وَقَدْ نَابَ
عَنْهُ الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ الْحِصْنِيُّ حَتَّى عَادَ مُكَرَّمًا
مُعَزَّزًا.
وَفِيهَا وَلَّى السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ مِنْ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ
قُضَاةً فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُسْتَقِلِّينَ، يُوَلُّونَ مِنْ
جِهَتِهِمْ فِي الْبُلْدَانِ أَيْضًا كَمَا يُوَلِّي الشَّافِعِيُّ، فَكَانَ
لِلشَّافِعِيَّةِ تَاجُ الدِّينِ عَبْدُ الْوَهَّابِ ابْنُ بِنْتِ الْأَعَزِّ،
وَتَوَلَّى قَضَاءَ الْحَنَفِيَّةِ شَمْسُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ، وَقَضَاءَ
الْمَالِكِيَّةِ شَمْسُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ، وَالْحَنَابِلَةَ شَمْسُ الدِّينِ
مُحَمَّدٌ الْمَقْدِسِيُّ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّانِيَ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ بِدَارِ الْعَدْلِ،
وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ كَثْرَةُ تَوَقُّفِ الْقَاضِيَ تَاجِ
الدِّينِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ فِي أُمُورٍ تُخَالِفُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ،
وَتُوَافِقُ غَيْرَهُ مِنَ الْمَذَاهِبِ، فَأَشَارَ الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ
أَيْدُغْدِي الْعَزِيزِيُّ عَلَى السُّلْطَانِ بِأَنْ يُوَلِّيَ مِنْ كُلِّ
مَذْهَبٍ قَاضِيَ قُضَاةٍ، وَكَانَ يُحِبُّ رَأْيَهُ وَمَشُورَتَهُ، فَأَجَابَهُ
إِلَى ذَلِكَ فَفَعَلَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَبَعَثَ بِأَخْشَابٍ وَرَصَاصٍ وَآلَاتٍ
كَثِيرَةٍ لِعِمَارَةِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَأَرْسَلَ مِنْبَرًا فَنُصِبَ هُنَالِكَ.
وَفِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِبِلَادِ مِصْرَ، وَاتُّهِمَ النَّصَارَى،
فَعَاقَبَهُمُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ عُقُوبَةً عَظِيمَةً.
وَفِيهَا جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ سُلْطَانَ التَّتَارِ هُولَاكُو هَلَكَ
إِلَى لَعْنَةِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ فِي سَابِعِ رَبِيعٍ الْآخِرِ بِمَرَضِ
الصَّرَعِ بِمَدِينَةِ مَرَاغَةَ، وَدُفِنَ بِقَلْعَةِ تَلَا، وَبُنِيَتْ عَلَيْهِ
قُبَّةٌ وَاجْتَمَعْتِ التَّتَارُ عَلَى وَلَدِهِ أَبْغَا، فَقَصَدَهُ الْمَلِكُ
بَرَكَةُ خَانَ، فَكَسَرَهُ وَفَرَّقَ جُمُوعَهُ، فَفَرِحَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ
بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَعَزَمَ عَلَى جَمْعِ الْعَسَاكِرِ لِيَأْخُذَ بِلَادَ
الْعِرَاقِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ لِتَفَرُّقِ الْعَسَاكِرِ فِي
الْإِقْطَاعَاتِ.
وَفِيهَا فِي ثَانِي عَشَرَ شَوَّالٍ سَلْطَنَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ وَلَدَهُ
الْمَلِكَ السَّعِيدَ مُحَمَّدَ بَرَكَةَ قَانَ، وَأَخَذَ لَهُ الْبَيْعَةَ مِنَ
الْأُمَرَاءِ، وَأَرْكَبَهُ وَمَشَى الْأُمَرَاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَحَمَلَ
وَالِدُهُ الْغَاشِيَةَ بِنَفْسِهِ، وَالْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ بِيَسْرِي
الشَّمْسِيُّ حَامِلٌ الْجِتَرَ،
وَالْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ ابْنُ بِنْتِ الْأَعَزِّ
وَالْوَزِيرُ بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ حِنَّا رَاكِبَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَأَعْيَانُ الْأُمَرَاءِ رُكْبَانٌ وَبَقِيَّتُهُمْ مُشَاةٌ حَتَّى شَقُّوا
الْقَاهِرَةَ وَهُمْ كَذَلِكَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ خَتَنَ السُّلْطَانُ وَلَدَهُ الْمَلِكَ السَّعِيدَ
الْمَذْكُورَ، وَخَتَنَ مَعَهُ جَمَاعَةً مِنْ أَوْلَادِ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ
يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
الزَّيْنُ خَالِدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ النَّابُلُسِيُّ
الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ الْحَافِظُ، شَيْخُ دَارِ الْحَدِيثِ النُّورِيَّةِ
بِدِمَشْقَ، كَانَ عَالِمًا بِصِنَاعَةِ الْحَدِيثِ، حَافِظًا لِأَسْمَاءِ
الرِّجَالِ، اشْتَغَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ
النَّوَاوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَتَوَلَّى بَعْدَهُ مَشْيَخَةَ النُّورِيَّةِ
الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ، وَكَانَ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ
حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، فَكِهَ النَّفْسِ، كَثِيرَ الْمِزَاحِ عَلَى طَرِيقَةِ
الْمُحَدِّثِينَ، وَكَانَ قَدْ رَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ، فَاشْتَغَلَ بِهَا،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ فِيهِ خَيْرٌ وَصَلَاحٌ وَعِبَادَةٌ، وَكَانَتْ
جِنَازَتُهُ حَافِلَةً، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ الْحُوَّارِيُّ
هُوَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ
الْأُمَوِيُّ الشَّيْخُ الْمَشْهُورُ صَاحِبُ الزَّاوِيَةِ بِحُوَّارَى، تُوفِّيَ
بِبَلَدِهِ،
وَكَانَ خَيِّرًا صَالِحًا، لَهُ أَتْبَاعٌ وَأَصْحَابٌ
يُحِبُّونَهُ، وَلَهُ مُرِيدُونَ كَثِيرٌ مِنْ قَرَايَا حَوْرَانَ فِي الْجُبَيْلِ
وَالْبَثَنِيَّةِ، وَهُمْ حَنَابِلَةٌ لَا يَرَوْنَ الضَّرْبَ بِالدُّفِّ بَلْ
بِالْكَفِّ، وَهُمْ أَمْثَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ.
الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ الْكُرْدِيُّ السِّنْجَارِيُّ
الَّذِي بَاشَرَ الْقَضَاءَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِرَارًا وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ بِالْقَاهِرَةِ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَكَانَتْ سِيرَتُهُ مَعْرُوفَةً
فِي أَخْذِ الرِّشَا مِنْ قُضَاةِ الْأَطْرَافِ وَالشُّهُودِ وَالْمُتَحَاكِمِينَ،
إِلَّا أَنَّهُ كَانَ جَوَادًا كَرِيمًا صُودِرَ هُوَ وَأَهْلُهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَة أَرْبَع وَسِتِّينَ
وَسِتّمِائَة
اسْتَهَلَّتْ وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ
الْمَلِكُ الظَّاهِرُ، وَقُضَاةُ مِصْرَ أَرْبَعَةٌ.
وَفِيهَا اسْتُجِدَّ بِدِمَشْقَ أَرْبَعَةُ قُضَاةٍ، كَمَا فُعِلَ فِي الْعَامِ
الْمَاضِي فِي دِيَارِ مِصْرَ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ، وَنَائِبُ الشَّامِ آقُوشُ
النَّجِيبِيُّ، وَفِيهَا وَرَدَتِ الْوِلَايَاتُ لِقَضَاءِ الْقُضَاةِ مِنَ
الْمَذَاهِبِ; فَصَارَ كُلُّ مَذْهَبٍ فِيهِ قَاضِي قُضَاةٍ، فَكَانَ فِي مَنْصِبِ
الشَّافِعِيَّةِ شَمْسُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ خَلِّكَانَ
الْبَرْمَكِيُّ، وَصَارَ عَلَى قَضَاءِ الْحَنَفِيَّةِ شَمْسُ الدِّينِ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَا، وَالْحَنَابِلَةِ شَمْسُ الدِّينِ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ قُدَامَةَ،
وَلِلْمَالِكِيَّةِ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ الزَّوَاوِيِّ، وَقَدِ امْتَنَعَ مِنَ
الْوِلَايَةِ، فَأُلْزِمَ بِهَا حَتَّى قَبِلَ، ثُمَّ عَزَلَ نَفْسَهُ، ثُمَّ
أُلْزِمَ بِهَا فَقَبِلَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُبَاشِرَ أَوْقَافًا، وَلَا يَأْخُذَ
جَامَكِيَّةً عَلَى أَحْكَامِهِ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَاضِي
الْحَنَابِلَةِ لَمْ يَأْخُذْ عَلَى أَحْكَامِهِ أَجْرًا وَقَالَ: نَحْنُ فِي
كِفَايَةٍ. فَأُعْفِيَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا، رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَقَدْ كَانَ
هَذَا الصَّنِيعُ الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ قَدْ فُعِلَ فِي الْعَامِ
الْمَاضِي بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَيْضًا، وَاسْتَقَرَّتِ الْأَحْوَالُ
عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا كَمَلَ عِمَارَةُ الْحَوْضِ الَّذِي شَرْقِيَّ
قَنَاةِ بَابِ الْبَرِيدِ، وَعُمِلَ لَهُ شَاذِرْوَانُ، وَفِيهِ أَنَابِيبُ
يُجْرَى فِيهَا الْمَاءُ مِنَ الْقَنَاةِ الَّتِي هِيَ غَرْبِيُّهُ إِلَى جَانِبِ
الدَّرَجِ الشَّمَالِيَّةِ.
وَفِيهَا قَدِمَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ بِعَسَاكِرِهِ وَنَازَلَ
مَدِينَةَ صَفَدَ، وَاسْتَدْعَى بِالْمَجَانِيقِ مِنْ دِمَشْقَ وَأَحَاطَ بِهَا
وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى افْتَتَحَهَا، وَنَزَلَ أَهْلُهَا عَلَى حُكْمِهِ،
فَتَسَلَّمَ الْبَلَدَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَامِنَ عَشَرَ شَوَّالٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ، وَقَدْ كَانَ
الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ افْتَتَحَهَا فِي شَوَّالٍ أَيْضًا فِي سَنَةِ
أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ اسْتَعَادُوهَا أَيْضًا
فَانْتَزَعَهَا مِنْهُمْ قَسْرًا وَقَهْرًا الْمَلِكُ الظَّاهِرُ رَحِمَهُ اللَّهُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَكَانَ السُّلْطَانُ فِي نَفْسِهِ
مِنْهُمْ شَيْءُ كَثِيرٌ، فَلَمَّا تَوَجَّهَ إِلَى فَتْحِهَا طَلَبُوا الْأَمَانَ،
فَأَجْلَسَ عَلَى سَرِيرِ مَمْلَكَتِهِ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ كَرْمُونَ
التَّتَرِيَّ، وَجَاءَتْ رُسُلُهُمْ، فَحَلَّفُوهُ وَانْصَرَفُوا، وَلَا
يَشْعُرُونَ أَنَّ الَّذِي أَعْطَاهُمُ الْعُهُودَ بِالْأَمَانِ إِنَّمَا هُوَ
الْأَمِيرُ الَّذِي أَجْلَسَهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ، فَلَمَّا
خَرَجَتِ الْإِسْبِتَارِيَّةُ وَالدَّاوِيَّةُ مِنَ الْقَلْعَةِ وَقَدْ فَعَلُوا
بِالْمُسْلِمِينَ الْأَفَاعِيلَ، فَأَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُمْ، فَأَمَرَ
السُّلْطَانُ بِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَجَاءَتِ الْبَشَائِرُ
إِلَى الْقِلَاعِ بِذَلِكَ، فَدُقَّتِ الْبَشَائِرُ وَزُيِّنَتِ الْبِلَادُ
وَفَرِحَ الْعِبَادُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، ثُمَّ بُثَّتِ السَّرَايَا يَمِينًا
وَشِمَالًا فِي بِلَادِ الْفِرِنْجِ، فَاسْتَوْلَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى حُصُونٍ
كَثِيرَةٍ تُقَارِبُ عِشْرِينَ حِصْنًا،
وَأَسَرُوا قَرِيبًا مِنْ أَلْفِ أَسِيرٍ مَا بَيْنَ
امْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ، وَغَنِمُوا شَيْئًا كَثِيرًا، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ فِي
الْبُلْدَانِ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ.
وَفِيهَا قَدِمَ وَلَدُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَعْصِمِ بْنِ الْمُسْتَنْصِرِ بْنِ
الظَّاهِرِ بْنِ النَّاصِرِ الْعَبَّاسِيُّ - وَاسْمُهُ عَلِيٌّ - إِلَى دِمَشْقَ،
فَأُكْرِمَ وَأُنْزِلَ بِالدَّارِ الْأَسَدِيَّةِ تُجَاهَ الْمَدْرَسَةِ
الْعَزِيزِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ أَسِيرًا فِي أَيْدِي التَّتَارِ، فَلَمَّا
كَسَرَهُمْ بَرَكَةُ خَانَ تَخَلَّصَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَصَارَ إِلَى دِمَشْقَ،
وَلَمَّا فَتَحَ السُّلْطَانُ صَفَدَ أَخْبَرَهُ بَعْضُ مَنْ كَانَ بِهَا مَنْ
أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ أَنَّ سَبَبَ أَسْرِهِمْ أَنَّ أَهْلَ قَرْيَةِ قَارَا
كَانُوا يَأْخُذُونَهُمْ فَيَحْمِلُونَهُمْ إِلَى الْفِرِنْجِ، فَيَبِيعُونَهُمْ
مِنْهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَكِبَ السُّلْطَانُ قَاصِدًا قَارَا، فَأَوْقَعَ
بِهِمْ بَأْسًا شَدِيدًا وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرَ مِنْ
أَبْنَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ أَخْذًا بِثَأْرِ الْمُسْلِمِينَ، جَزَاهُ اللَّهُ
خَيْرًا. ثُمَّ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ جَيْشًا هَائِلًا
إِلَى بِلَادِ سِيسَ، فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَفَتَحُوا سِيسَ عَنْوَةً،
وَأَسَرُوا ابْنَ مَلِكِهَا وَقَتَلُوا أَخَاهُ، وَنَهَبُوهَا وَقَتَلُوا
أَهْلَهَا، وَأَخَذُوا بِثَأْرِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ مِنْهُمْ; وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ كَانُوا أَضَرَّ شَيْءٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ زَمَنَ التَّتَارِ، لَمَّا
أَخَذُوا مَدِينَةَ حَلَبَ وَغَيْرَهَا أَسَرُوا مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ
وَأَطْفَالِهِمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا، ثُمَّ كَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ
يُغِيرُونَ عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَنِ هُولَاكُو، فَكَبَتَهُ
اللَّهُ وَأَهَانَهُ عَلَى يَدَيْ أَنْصَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ كَثِيرًا دَائِمًا، وَكَانَتِ النُّصْرَةُ عَلَيْهِمْ فِي يَوْمِ
الثُّلَاثَاءِ الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ إِلَى الْبِلَادِ وَضُرَبَتِ الْبَشَائِرُ.
وَفِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
دَخَلَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةَ وَبَيْنَ
يَدَيْهِ ابْنُ صَاحِبِ سِيسَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْمَنِ أُسَارَى
أَذِلَّاءَ صَغَرَةً وَالْعَسَاكِرُ صُحْبَتُهُ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
ثُمَّ سَارَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مَسْرُورًا
مَحْبُورًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَطَلَبَ صَاحِبُ سِيسَ أَنْ يُفَادِيَ وَلَدَهُ
مِنَ السُّلْطَانِ فَقَالَ: لَا نُفَادِيهِ إِلَّا بِأَسِيرٍ لَنَا عِنْدَ
التَّتَارِ يُقَالُ لَهُ: سُنْقُرَ الْأَشْقَرَ. فَذَهَبً صَاحِبُ سِيسَ إِلَى
مَلِكِ التَّتَرِ، فَتَذَلَّلَ وَتَخَضَّعَ لَهُ، حَتَّى أَطْلَقَ لَهُ سُنْقُرَ
الْأَشْقَرَ فَأَطْلَقَ السُّلْطَانُ ابْنَ صَاحِبِ سِيسَ.
وَفِيهَا عَمَّرَ الظَّاهِرُ الْجِسْرَ الْمَشْهُورَ بَيْنَ قَرَاوَا وَدَامِيَةَ،
تَوَلَّى عِمَارَتَهُ الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ نَهَارٍ
وَبَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ رِحَالٍ وَالِي نَابُلُسَ وَالْأَغْوَارِ،
وَلَمَّا تَمَّ بِنَاؤُهُ اضْطَرَبَ بَعْضُ أَرْكَانِهِ، فَقَلِقَ السُّلْطَانُ
لِذَلِكَ، وَأَمَرَ بِتَأْكِيدِهِ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا مِنْ قُوَّةِ جَرْىِ
الْمَاءِ حِينَئِذٍ، فَاتَّفَقَ بِإِذْنِ اللَّهِ أَنِ انْسَالَتْ عَلَى النَّهْرِ
أَكَمَةٌ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَسَكَنَ الْمَاءُ بِمِقْدَارِ مَا أَصْلَحُوا
مَا يُرِيدُونَ، ثُمَّ عَادَ الْمَاءُ كَمَا كَانَ، وَذَلِكَ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ
وَعَوْنِهِ وَعِنَايَتِهِ الْعَظِيمَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
أَيْدُغْدِي بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ الْعَزِيزِيُّ
كَانَ مِنْ
أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ وَأَحْظَاهُمْ عِنْدَ الْمَلِكِ
الظَّاهِرِ، لَا يَكَادُ يَخْرُجُ عَنْ رَأْيِهِ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِ
بِوِلَايَةِ الْقُضَاةِ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ،
وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُتَوَاضِعًا لَا يَلْبَسُ مُحَرَّمًا
كَرِيمًا وَقُورًا رَئِيسًا مُعَظَّمًا فِي الدَّوْلَةِ، أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ
فِي حِصَارِ صَفَدَ فَلَمْ يَزَلْ مَرِيضًا مِنْهَا حَتَّى مَاتَ لَيْلَةَ
عَرَفَةَ، وَدُفِنَ بِالرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ بِسَفْحِ قَاسِيُونُ.
هُولَاكُوقَانَ بْنُ تُولِي قَانَ بْنِ جِنْكِزْ خَانَ
مَلِكُ التَّتَارِ بْنِ مَلَكِ التَّتَارِ بْنِ مَلَكِ التَّتَارِ، وَهُوَ وَالِدُ
مُلُوكِهِمْ، وَالْعَامَّةُ يَقُولُونَ هُولَاوُونَ مِثْلَ قَلَاوُونَ، وَقَدْ
كَانَ مَلِكًا جَبَّارًا عَنِيدًا، قَتَلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا
مَالَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهُمْ، وَسَيُجَازِيهِ عَلَى
ذَلِكَ شَرَّ الْجَزَاءِ، كَانَ لَعَنَهُ اللَّهُ، لَا يَتَقَيَّدُ بِدِينٍ مِنَ
الْأَدْيَانِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ زَوْجَتُهُ ظُفْرُ خَاتُونَ قَدْ تَنَصَّرَتْ،
وَكَانَتْ تُفَضِّلُ النَّصَارَى، وَكَانَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - يَتَرَامَى عَلَى
مَحَبَّةِ الْمَعْقُولَاتِ، وَلَا يَتَصَوَّرُ مِنْهَا شَيْئًا، وَكَانَ أَهْلُهَا
مِنْ أَفْرَاخِ الْفَلَاسِفَةِ عِنْدَهُ لَهُمْ وَجَاهَةٌ وَمَكَانَةٌ، وَإِنَّمَا
كَانَتْ هِمَّتُهُ فِي تَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ وَتَمَلُّكِ الْبِلَادِ شَيْئًا
فَشَيْئًا، حَتَّى أَبَادَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ
ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَدُفِنَ فِي مَدِينَةِ تَلَا، لَا رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَامَ
فِي الْمُلِكِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ أَبْغَا فِي الْمَمْلَكَةِ، وَكَانَ أَبْغَا
أَحَدَ إِخْوَةٍ عَشَرَةٍ ذُكُورٍ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ، وَهُوَ
حَسَبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ
وَسِتّمِائَة
فِي يَوْمِ الْأَحَدِ ثَانِي الْمُحَرَّمِ تَوَجَّهَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ
الظَّاهِرُ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَصَحِبَتْهُ
الْعَسَاكِرُ الْمَنْصُورَةُ وَقَدِ اسْتَوْلَتِ الدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ
عَلَى بِلَادِ سِيسَ بِكَمَالِهَا، وَعَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَعَاقِلَ الْفِرِنْجِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ أَرْسَلَ الْعَسَاكِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى
غَزَّةَ، وَعَدَلَ هُوَ إِلَى نَاحِيَةِ الْكَرَكِ لِيَنْظُرَ فِي أَحْوَالِهَا،
فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ بِرْكَةِ زَيْزَى تَصَيَّدَ هُنَالِكَ، فَسَقَطَ عَنْ
فَرَسِهِ، فَانْكَسَرَتْ فَخْذُهُ فَأَقَامَ هُنَاكَ أَيَّامًا يَتَدَاوَى حَتَّى
أَمْكَنَهُ أَنْ يَرْكَبَ فِي الْمِحَفَّةِ، وَسَارَ إِلَى مِصْرَ، فَبَرَأَتْ
رِجْلُهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَأَمْكَنَهُ الرُّكُوبُ وَحْدَهُ عَلَى
الْفَرَسِ. وَدَخَلَ الْقَاهِرَةَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ وَتَجَمُّلٍ هَائِلٍ،
وَقَدْ زُيِّنَتِ الْبَلَدُ وَاحْتَفَلَ النَّاسُ لَهُ احْتِفَالًا عَظِيمًا،
وَفَرِحُوا بِقَدُومِهِ وَعَافِيَتِهِ فَرَحًا كَثِيرًا. ثُمَّ فِي رَجَبٍ مِنْهَا
رَجَعَ مِنَ الْقَاهِرَةِ إِلَى صَفَدَ، وَحَفَرَ خَنْدَقًا حَوْلَ قَلْعَتِهَا
وَعَمِلَ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَأُمَرَائِهِ وَجَيْشِهِ، وَأَغَارَ عَلَى نَاحِيَةِ
عَكًّا، فَقَتَلَ وَأَسَرَ وَغَنِمَ وَسَلِمَ، وَضُرِبَتْ لِذَلِكَ الْبَشَائِرُ
بِدِمَشْقَ. وَفِي ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ صَلَّى الظَّاهِرُ
بِالْجَامِعِ الْأَزْهَرُ الْجُمُعَةَ، وَلَمْ تَكُنْ تُقَامُ بِهِ الْجُمُعَةُ
مِنْ زَمَنِ الْعُبَيْدِيِّينَ إِلَى هَذَا الْحِينِ، مَعَ أَنَّهُ أَوَّلُ
مَسْجِدٍ وُضِعَ بِالْقَاهِرَةِ، بِنَاهُ جَوْهَرٌ الْقَائِدُ وَأَقَامَ فِيهِ
الْجُمُعَةَ، فَلَمَّا بَنَى الْحَاكِمُ جَامِعَهُ حَوَّلَ الْجُمُعَةَ مِنْهُ
إِلَيْهِ، وَتَرَكَ الْأَزْهَرَ لَا جُمُعَةَ فِيهِ، فَصَارَ فِي حُكْمِ بَقِيَّةِ
الْمَسَاجِدِ، وَشَعِثَ حَالُهُ، وَتَغَيَّرَتْ
أَحْوَالُهُ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِعِمَارَتِهِ
وَبَيَاضِهِ وَإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ، وَأَمَرَ بِعِمَارَةِ جَامِعِ
الْحُسَيْنِيَّةِ، فَكَمَلَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسِتِّينَ، كَمَا سَيَأْتِي، إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا أَمَرَ الظَّاهِرُ أَنْ لَا يَبِيتَ أَحَدٌ مِنَ الْمُجَاوِرِينَ
بِجَامِعِ دِمَشْقَ وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْخَزَائِنِ مِنْهُ، وَالْمَقَاصِيرِ
الَّتِي كَانَتْ فِيهِ، فَكَانَتْ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ خِزَانَةٍ
وَمَقْصُورَةٍ، وَوَجَدُوا فِيهَا قَوَارِيرَ الْبَوْلِ وَالْفُرُشِ
وَالسَّجَاجِيدِ الْكَثِيرَةِ، فَاسْتَرَاحَ النَّاسُ وَالْجَامِعُ مِنْ ذَلِكَ،
وَاتَّسَعَ عَلَى الْمُصَلِّينَ.
وَفِيهَا أَمَرَ السُّلْطَانُ بِعِمَارَةِ أَسْوَارِ صَفَدَ وَقَلْعَتِهَا، وَأَنْ
يُكْتَبَ عَلَيْهَا وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ
أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 105 ]
أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [
الْمُجَادَلَةِ: 22 ].
وَفِيهَا الْتَقَى أَبْغَا وَمَنْكُوتَمُرُ الَّذِي قَامَ مَقَامَ بَرَكَةَ خَانَ،
فَكَسَرَهُ أَبْغَا وَغَنِمَ مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا.
وَحَكَى ابْنُ خَلِّكَانَ فِيمَا نَقَلَ مِنْ خَطِّ الشَّيْخِ قُطْبِ الدِّينِ
الْيُونِينِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَجُلًا بِدَيْرِ أَبِي سَلَامَةَ مِنْ
نَاحِيَةِ بُصْرَى كَانَ فِيهِ مُجُونٌ وَاسْتِهْتَارٌ، فَذُكِرَ عِنْدَهُ السِّوَاكُ
وَمَا فِيهِ مِنَ الْفَضِيلَةِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَسْتَاكُ إِلَّا فِي
الْمَخْرَجِ. يَعْنِي دُبُرَهُ، فَأَخَذَ سِوَاكًا فَوَضَعَهُ فِي مَخْرَجِهِ
ثُمَّ أَخْرَجَهُ، فَمَكَثَ بَعْدَهُ تِسْعَةَ
أَشْهُرٍ، فَوَضَعَ وَلَدًا عَلَى صِفَةِ الْجُرْذَانِ، لَهُ
أَرْبَعَةُ قَوَائِمَ وَرَأْسُهُ كَرَأْسِ السَّمَكَةِ، وَلَهُ دُبُرٌ كَدُبُرِ
الْأَرْنَبِ. وَلَمَّا وَضَعَهُ صَاحَ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ ثَلَاثَ صَيْحَاتٍ،
فَقَامَتِ ابْنَةُ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَرَضَخَتْ رَأْسَهُ فَمَاتَ، وَعَاشَ ذَلِكَ
الرَّجُلُ بَعْدَ وَضْعِهِ لَهُ يَوْمَيْنِ، وَمَاتَ فِي الثَّالِثِ، وَكَانَ
يَقُولُ: هَذَا الْحَيَوَانُ قَتَلَنِي وَقَطَّعَ أَمْعَائِي. وَقَدْ شَاهَدَ
ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَخُطَبَاءُ ذَلِكَ الْمَكَانِ،
وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى ذَلِكَ الْحَيَوَانَ حَيًّا قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ،
وَمِنْهُمْ مَنْ رَآهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
السُّلْطَانُ بَرَكَةُ خَانَ بْنُ تُولِي بْنِ جِنْكِزْ خَانَ بْنِ خَاقَانَ
وَهُوَ ابْنُ عَمِّ هُولَاكُو،، وَقَدْ أَسْلَمَ بَرَكَةُ خَانَ هَذَا، وَكَانَ
يُحِبُّ الْعُلَمَاءَ وَالصَّالِحِينَ، وَمِنْ أَكْبَرِ حَسَنَاتِهِ كَسْرُهُ
لِهُولَاكُو وَتَفْرِيقُهُ جُنُودَهُ، وَكَانَ يُنَاصِحُ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ
وَيُعَظِّمُهُ وَيُكْرِمُ رُسُلَهُ إِلَيْهِ، وَيُطْلِقُ لَهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا،
وَقَدْ قَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ بَعْضُ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ
مَنْكُوتَمُرُ بْنُ طُغَانَ بْنِ بَاتُو بْنِ تُولِي بْنِ جِنْكِزْ خَانَ، وَكَانَ
عَلَى طَرِيقَتِهِ وَمِنْوَالِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَاضِي الْقُضَاةِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ تَاجُ الدِّينِ عَبْدُ الْوَهَّابِ
بْنُ خَلَفِ بْنِ بَدْرِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ الشَّافِعِيُّ
كَانَ دَيِّنًا عَفِيفًا نَزِهًا، لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ،
وَلَا يَقْبَلُ شَفَاعَةَ أَحَدٍ وَجُمِعَ لَهُ قَضَاءُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
بِكَمَالِهَا، وَالْخَطَابَةُ وَالْحِسْبَةُ،
وَمَشْيَخَةُ الشُّيُوخِ وَنَظَرُ الْأَحْبَاسِ،
وَتَدْرِيسُ قُبَّةِ الشَّافِعِيِّ وَالصَّالِحِيَّةِ وَإِمَامَةُ الْجَامِعِ،
وَكَانَ بِيَدِهِ خَمْسَ عَشْرَةَ وَظِيفَةً، وَبَاشَرَ الْوِزَارَةَ فِي بَعْضِ
الْأَوْقَاتِ، وَكَانَ السُّلْطَانُ يُعَظِّمُهُ، وَالْوَزِيرُ ابْنُ الْحَنَّا
يَخَافُ مِنْهُ كَثِيرًا، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَنْكُبَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ
وَيَضَعَهُ فَلَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَأْتِيَ دَارَهُ
وَلَوْ عَائِدًا، فَمَرِضَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، فَجَاءَهُ الْقَاضِي
عَائِدًا، فَقَامَ لِتَلَقِّيهِ إِلَى وَسَطِ الدَّارِ فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي:
إِنَّمَا جِئْنَا لِعِيَادَتِكَ، فَإِذَا أَنْتَ سَوِيٌّ صَحِيحٌ، سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ. فَرَجَعَ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدَهُ. وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ
أَرْبَعٍ وَسِتِّمِائَةٍ، وَتَوَلَّى بَعْدَهُ الْقَضَاءَ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ
رَزِينٍ.
وَاقِفُ الْقَيْمُرِيَّةِ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ أَبُو
الْمَعَالِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَزِيزِ بْنِ أَبِي الْفَوَارِسِ الْقُيَمْرِيُّ
الْكُرْدِيُّ
كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمَرَاءِ مَكَانَةً عِنْدَ الْمُلُوكِ، وَهُوَ الَّذِي
سَلَّمَ الشَّامَ إِلَى الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَاحِبِ حَلَبَ حِينَ قُتِلَ
تُورَانْ شَاهِ بْنُ الصَّالِحِ أَيُّوبَ بِمِصْرَ، وَهُوَ وَاقِفُ الْمَدْرَسَةِ
الْقَيْمُرِيَّةِ عِنْدَ مِئْذَنَةِ فَيْرُوزَ، وَعَمِلَ عَلَى بَابِهَا
السَّاعَاتِ الَّتِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهَا، وَلَا عُمِلَ عَلَى
شَكْلِهَا، يُقَالُ: إِنَّهُ غَرِمَ عَلَيْهَا أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.
الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
عُثْمَانَ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَبُو
مُحَمَّدٍ وَأَبُو الْقَاسِمِ الْمَقْدِسِيُّ، الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ
الْحَافِظُ الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ الْمُؤَرِّخُ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي شَامَةَ
شَيْخُ دَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ وَمُدَرِّسُ الرُّكْنِيَّةِ، وَصَاحِبُ
الْمُصَنَّفَاتِ الْعَدِيدَةِ الْمُفِيدَةِ، لَهُ " اخْتِصَارُ تَارِيخِ
دِمَشْقَ " فِي مُجَلَّدَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلَهُ " شَرْحُ
الشَّاطِبِيَّةِ "، وَلَهُ " الرَّدُّ إِلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ
"، وَلَهُ فِي الْبَعْثِ وَفِي الْإِسْرَاءِ، وَكِتَابُ "
الرَّوْضَتَيْنِ فِي الدَّوْلَتَيْنِ النُّورِيَّةِ وَالصَّلَاحِيَّةِ "،
وَلَهُ " الذَّيْلُ " عَلَى ذَلِكَ، وَلَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ
الْفَوَائِدِ الْحِسَانِ وَالْفَرَائِدِ الَّتِي كَالْعِقْيَانِ. وُلِدَ لَيْلَةَ
الْجُمُعَةِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ تِسْعٍ
وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَذَكَرَ لِنَفْسِهِ تَرْجَمَةً فِي هَذِهِ
السَّنَةِ فِي " الذَّيْلِ "، وَذَكَرَ مُرَبَّاهُ وَمَنْشَأَهُ
وَطَلَبَهُ الْعِلْمَ وَسَمَاعَهُ الْحَدِيثَ، وَتَفَقُّهَهُ عَلَى الْفَخْرِ بْنِ
عَسَاكِرَ، وَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، وَالسَّيْفِ الْآمِدِيِّ، وَالشَّيْخِ
مُوَفَّقِ الدِّينِ بْنِ قُدَامَةَ، وَمَا رُئِيَ لَهُ مِنَ الْمَنَامَاتِ
الْحَسَنَةِ. وَكَانَ ذَا فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، أَخْبَرَنِي عَلَمُ الدِّينِ
الْبِرْزَالِيُّ الْحَافِظُ عَنِ الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ، أَنَّهُ
كَانَ يَقُولُ: بَلَغَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ رُتْبَةَ
الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ كَانَ يَنْظِمُ أَشْعَارًا فِي أَوْقَاتٍ، مِنْهَا مَا هُوَ
مُسْتَحْلَى، وَمِنْهَا مَا لَا يُسْتَحْلَى. فَاللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي وَقْتِهِ مِثْلُهُ فِي نَفْسِهِ وَدِيَانَتِهِ،
وَعِفَّتِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِسَبَبِ جَمَاعَةٍ أَلَّبُوا
عَلَيْهِ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ مَنِ اغْتَالَهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلٍ لَهُ
بِطَوَاحِينِ الْأُشْنَانِ، وَقَدْ كَانَ اتُّهِمَ بِأَمْرٍ الظَّاهِرُ
بَرَاءَتُهُ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّهُ كَانَ مَظْلُومًا. وَلَمْ
يَزَلْ يَكْتُبُ فِي " التَّارِيخِ " حَتَّى وَصَلَ إِلَى رَجَبٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، فَذُكِرَ أَنَّهُ أُصِيبَ بِمِحْنَةٍ فِي مَنْزِلِهِ
بِطَوَاحِينِ الْأُشْنَانِ، وَكَانَ الَّذِينَ قَتَلُوهُ جَاءُوهُ قَبْلُ،
فَضَرَبُوهُ لِيَمُوتَ، فَلَمْ يَمُتْ فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَشْتَكِي عَلَيْهِمْ.
فَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
قُلْتُ لِمَنْ قَالَ أَلَا تَشْتَكِي مَا قَدْ جَرَى فَهْوَ عَظِيمٌ جَلِيلْ
يُقَيِّضُ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا
مَنْ يَأْخُذُ الْحَقَّ وَيَشْفِي الْغَلِيلْ إِذَا تَوَكَّلْنَا عَلَيْهِ كَفَى
فَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلْ
وَكَأَنَّهُمْ عَادُوا إِلَيْهِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَهُوَ فِي الْمَنْزِلِ
الْمَذْكُورِ، فَقَتَلُوهُ بِالْكُلِّيَّةِ فِي لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ تَاسِعَ
عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَدُفِنَ مِنْ يَوْمِهِ بِمَقَابِرِ
دَارِ الْفَرَادِيسِ، وَبَاشَرَ بَعْدَهُ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ
الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ مَوْلِدُ الْحَافِظِ عَلَمِ الدِّينِ الْقَاسِمِ
بْنِ مُحَمَّدٍ الْبِرْزَالِيِّ، وَقَدْ ذَيَّلَ عَلَى تَارِيخِ الشَّيْخِ أَبِي
شَامَةَ; لِأَنَّ مَوْلِدَهُ فِي سَنَةِ وَفَاتِهِ، فَحَذَا حَذْوَهُ وَسَلَكَ
نَحْوَهُ، وَرَتَّبَ تَرْتِيبَهُ وَهَذَّبَ تَهْذِيبَهُ، وَهَذَا مِمَّنْ يُقَالُ
فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ فِي تَرَاجِمِهِمْ:
مَا زِلْتَ تَكْتُبُ فِي التَّارِيخِ مُجْتَهِدًا حَتَّى رَأَيْتُكَ فِي
التَّارِيخِ مَكْتُوبًا
وَيُنَاسِبُ أَنْ يُنْشَدَ هُنَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا سَيِّدٌ مِنَّا خَلَا قَامَ سَيِّدٌ قَئُولٌ لِمَا قَالَ الْكِرَامُ فَعُولُ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق