السبت، 31 يوليو 2021

4 البداية والنهاية تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

الكتاب :   4  البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
  

 بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاشْتَهَرَتْ بِمَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَحْوَالِ الْكَرِيمَةِ، وَالصِّفَاتِ الشَّرِيفَةِ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مَوْضِعَ عِبَادَتِهَا، يَجِدُ عِنْدَهَا رِزْقًا غَرِيبًا فِي غَيْرِ أَوَانِهِ، فَكَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، فَيَسْأَلُهَا: أَنَّى لَكِ هَذَا فَتَقُولُ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَيْ: رِزْقٌ رَزَقَنِيهِ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ فَعِنْدَ ذَلِكَ وَهُنَالِكَ طَمِعَ زَكَرِيَّا فِي وُجُودِ وَلَدٍ مِنْ صُلْبِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَسَنَّ وَكَبِرَ. قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ قَالَ بَعْضُهُمْ: قَالَ: يَا مَنْ يَرْزُقُ مَرْيَمَ الثَّمَرَ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ، هَبْ لِي وَلَدًا، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ. فَكَانَ مِنْ خَبَرِهِ وَقَضِيَّتِهِ، مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي قِصَّتِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ

جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَلَمَّا أَحَسَّ [ آلِ عِمْرَانَ: 42 - 51 ].
يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَشَّرَتْ مَرْيَمَ بِاصْطِفَاءِ اللَّهِ لَهَا، مِنْ بَيْنِ سَائِرِ نِسَاءِ عَالَمِي زَمَانِهَا، بِأَنِ اخْتَارَهَا لِإِيجَادِ وَلَدٍ مِنْهَا، مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَبُشِّرَتْ بِأَنْ يَكُونَ نَبِيًّا شَرِيفًا وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ أَيْ: فِي صِغَرِهِ، يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَكَذَلِكَ فِي حَالِ كُهُولَتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَبْلُغُ الْكُهُولَةَ، وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ فِيهَا، وَأُمِرَتْ بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَالْقُنُوتِ وَالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ ; لِتَكُونَ أَهْلًا لِهَذِهِ الْكَرَامَةِ، وَلِتَقُومَ بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ. فَيُقَالُ: إِنَّهَا كَانَتْ تَقُومُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَرَحِمَهَا، وَرَحِمَ أُمَّهَا وَأَبَاهَا. فَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ أَيِ اخْتَارَكِ وَاجْتَبَاكِ. ( وَطَهَّرَكِ ) أَيْ: مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، وَأَعْطَاكِ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ.
وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَالَمِي زَمَانِهَا، كَقَوْلِهِ لِمُوسَى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ وَكَقَوْلِهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [ الدُّخَانِ: 32 ]. وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَفْضَلُ

مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ قَبْلَهَا، وَأَكْثَرُ عَدَدًا، وَأَفْضَلُ عِلْمًا، وَأَزْكَى عَمَلًا، مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَحْفُوظَ الْعُمُومِ ; فَتَكُونَ أَفْضَلَ نِسَاءِ الدُّنْيَا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهَا، وَوُجِدَ بَعْدَهَا ; لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ نَبِيَّةً، عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِنُبُوَّتِهَا وَنُبُوَّةِ سَارَّةَ أُمِّ إِسْحَاقَ، وَنُبُوَّةِ أُمِّ مُوسَى، مُحْتَجًّا بِكَلَامِ الْمَلَائِكَةِ وَالْوَحْيِ إِلَى أُمِّ مُوسَى، كَمَا يَزْعُمُ ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ مَرْيَمُ أَفْضَلَ مِنْ سَارَّةَ وَأُمِّ مُوسَى ; لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ إِذْ لَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، كَمَا قَدْ حَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، مِنْ أَنَّ النُّبُوَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِالرِّجَالِ، وَلَيْسَ فِي النِّسَاءِ نَبِيَّةٌ، فَيَكُونُ أَعْلَى مَقَامَاتِ مَرْيَمَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [ الْمَائِدَةِ: 75 ]. فَعَلَى هَذَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ أَفْضَلَ الصِّدِّيقَاتِ الْمَشْهُورَاتِ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهَا، وَمِمَّنْ يَكُونُ بَعْدَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهَا مَقْرُونًا مَعَ آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ، وَخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ وَأَرْضَاهُنَّ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ،

مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ بِأَرْبَعٍ ; مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ زَنْجَوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ، وَصَحَّحَهُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ تَمِيمِ بْنِ زِيَادٍ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أَرْبَعٌ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَيْرُ نِسَاءٍ

رَكِبْنَ الْإِبِلَ، صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ لِزَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بَعِيرًا قَطُّ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ "، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْأَفُهُ بِزَوْجٍ عَلَى قِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَدْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ابْنَةَ عِمْرَانَ لَمْ تَرْكَبِ الْإِبِلَ. تَفَرَّدَ بِهِ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ " الصَّحِيحِ ". وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ أُخَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، عَنْ عِلْبَاءَ بْنِ أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:

خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَ خُطُوطٍ فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذَا ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَشْعَثِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَاتِمٍ الْعَسْكَرِيُّ، نَبَّأَنَا بِشْرُ بْنُ مِهْرَانَ بْنِ حَمْدَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَسْبُكَ مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ، سَيِّدَاتُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِفَاطِمَةَ: أَرَأَيْتِ حِينَ أَكْبَبْتِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَكَيْتِ، ثُمَّ ضَحِكْتِ ؟

قَالَتْ: أَخْبَرَنِي أَنَّهُ مَيِّتٌ مِنْ وَجَعِهِ هَذَا فَبَكَيْتُ، ثُمَّ أَكْبَبْتُ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرَنِي أَنِّي أَسْرَعُ أَهْلِهِ لُحُوقًا بِهِ، وَأَنِّي سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، فَضَحِكْتُ. وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي " الصَّحِيحِ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ أَنَّهُمَا أَفْضَلُ الْأَرْبَعِ الْمَذْكُورَاتِ.
وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَزِيدَ، هُوَ ابْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ إِسْنَادٌ حَسَنٌ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَرْيَمَ وَفَاطِمَةَ أَفْضَلُ هَذِهِ الْأَرْبَعِ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ الِاسْتِثْنَاءُ أَنْ تَكُونَ مَرْيَمُ أَفْضَلَ مِنْ فَاطِمَةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا عَلَى

السَّوَاءِ فِي الْفَضِيلَةِ ; لَكِنْ وَرَدَ حَدِيثٌ، إِنْ صَحَّ عَيَّنَ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ، فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْفَرَّاءِ، وَأَبُو غَالِبٍ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ، ابْنَا الْبَنَّا، قَالُوا: أَنْبَأَنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْمُسْلِمَةِ، أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْمُخَلِّصُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ، هُوَ ابْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، ثُمَّ فَاطِمَةُ، ثُمَّ خَدِيجَةُ، ثُمَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ فَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مَحْفُوظًا بِ " ثُمَّ " الَّتِي لِلتَّرْتِيبِ، فَهُوَ مُبَيِّنٌ لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ اللَّذَيْنِ دَلَّ عَلَيْهِمَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَيُقَدَّمُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي وَرَدَتْ بِوَاوِ الْعَطْفِ، الَّتِي لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَلَا تَنْفِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، عَنْ دَاوُدَ الْجَعْفَرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، فَذَكَرَهُ بِوَاوِ الْعَطْفِ لَا بِ " ثُمَّ " التَّرْتِيبِيَّةِ، فَخَالَفَهُ إِسْنَادًا وَمَتْنًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ

يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا ثَلَاثٌ ; مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ.
وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، إِلَّا أَبَا دَاوُدَ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا تَرَى، اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجِهِ، وَلَفْظُهُ يَقْتَضِي حَصْرَ الْكَمَالِ فِي النِّسَاءِ فِي مَرْيَمَ وَآسِيَةَ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ فِي زَمَانِهِمَا، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَفَلَتْ نَبِيًّا فِي حَالِ صِغَرِهِ، فَآسِيَةُ كَفَلَتْ مُوسَى الْكَلِيمَ، وَمَرْيَمُ كَفَلَتْ وَلَدَهَا عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَا يَنْفِي كَمَالَ غَيْرِهِمَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَخَدِيجَةَ وَفَاطِمَةَ ; فَخَدِيجَةُ خَدَمَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَبْلَ الْبَعْثَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ سَنَةً، وَبَعْدَهَا أَزْيَدَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَتْ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ بِنَفْسِهَا وَمَالِهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، وَأَمَّا فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا خُصَّتْ بِمَزِيدِ فَضِيلَةٍ عَلَى أَخَوَاتِهَا ; لِأَنَّهَا أُصِيبَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَقِيَّةُ أَخَوَاتِهَا مِتْنَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا عَائِشَةُ ; فَإِنَّهَا كَانَتْ أَحَبَّ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا، وَلَا يُعْرَفُ فِي سَائِرِ النِّسَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، بَلْ وَلَا فِي غَيْرِهَا، أَعْلَمُ مِنْهَا وَلَا أَفْهَمُ، وَقَدْ غَارَ اللَّهُ لَهَا حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا، فَأَنْزَلَ بَرَاءَتَهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، وَقَدْ

عُمِّرَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً، تُبَلِّغُ عَنْهُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، وَتُفْتِي الْمُسْلِمِينَ وَتُصْلِحُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، وَهِيَ أَشْرَفُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ أُمِّ الْبَنَاتِ وَالْبَنِينَ، فِي قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ السَّابِقِينَ وَاللَّاحِقِينَ، وَالْأَحْسَنُ الْوَقْفُ فِيهِمَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرِهِنَّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عَدَا الْمَذْكُورَاتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ هَاهُنَا ذِكْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، عَلَيْهَا السَّلَامُ، فَإِنَّ اللَّهَ طَهَّرَهَا وَاصْطَفَاهَا عَلَى نِسَاءِ عَالَمِي زَمَانِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْضِيلُهَا عَلَى النِّسَاءِ مُطْلَقًا، كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهَا تَكُونُ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنَّةِ، هِيَ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " التَّفْسِيرِ " عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ، وَاسْتَأْنَسَ بِقَوْلِهِ: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا [ التَّحْرِيمِ: 5 ]. قَالَ: فَالثَّيِّبُ آسِيَةُ، وَمِنَ الْأَبْكَارِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي آخِرِ سُورَةِ " التَّحْرِيمِ ". فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَاجِيَةَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمِّيَ الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ نُفَيْعٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ

جُنَادَةَ هُوَ الْعَوْفِيُّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ زَوَّجَنِي فِي الْجَنَّةِ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، وَامْرَأَةَ فِرْعَوْنَ، وَأُخْتَ مُوسَى.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ النُّورِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَشْعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ زَوَّجَنِي مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، وَآسِيَةَ بِنْتَ مُزَاحِمٍ، وَكَلْثَمَ أُخْتَ مُوسَى رَوَاهُ ابْنُ جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ النُّورِ بِهِ، وَزَادَ: فَقُلْتُ: هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ الْعُقَيْلِيُّ: وَلَيْسَ بِمَحْفُوظٍ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ يَعْلَى بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَدِيجَةَ وَهِيَ فِي مَرَضِهَا الَّذِي تُوُفِّيَتْ فِيهِ، فَقَالَ لَهَا: بِالْكُرْهِ مِنِّي مَا أَرَى مِنْكِ يَا خَدِيجَةُ، وَقَدْ يَجْعَلُ اللَّهُ فِي الْكُرْهِ خَيْرًا كَثِيرًا، أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ زَوَّجَنِي مَعَكِ فِي الْجَنَّةِ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، وَكَلْثَمَ أُخْتَ مُوسَى، وَآسِيَةَ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ ؟ قَالَتْ: وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَتْ:

بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الْغَلَّابِيِّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ وَهِيَ فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ: يَا خَدِيجَةُ، إِذَا لَقِيتِ ضَرَائِرَكِ فَأَقْرِئِيهِنَّ مِنِّي السَّلَامَ. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ تَزَوَّجْتَ قَبْلِي ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ زَوَّجَنِي مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، وَآسِيَةَ بِنْتَ مُزَاحِمٍ، وَكَلْثَمَ أُخْتَ مُوسَى.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ سُوِيدِ بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أُرْسِلَ بِهِ، وَجَلَسَ يُحَدِّثُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ مَرَّتْ خَدِيجَةُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: مَنْ هَذِهِ يَا مُحَمَّدُ ؟ قَالَ: هَذِهِ صِدِّيقَةُ أُمَّتِي قَالَ جِبْرِيلُ: مَعِي إِلَيْهَا رِسَالَةٌ مِنَ الرَّبِّ، عَزَّ وَجَلَّ، يُقْرِئُهَا السَّلَامَ، وَيُبَشِّرُهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، بَعِيدٍ مِنَ اللَّهَبِ، لَا نَصَبَ فِيهِ وَلَا صَخَبَ. قَالَتِ: اللَّهُ السَّلَامُ، وَمِنْهُ السَّلَامُ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمَا، وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، مَا ذَلِكَ الْبَيْتُ الَّذِي مِنْ قَصَبٍ ؟ قَالَ: لُؤْلُؤَةٌ جَوْفَاءُ بَيْنَ بَيْتِ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَبَيْتِ آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ، وَهُمَا مِنْ أَزْوَاجِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَصْلُ السَّلَامِ عَلَى خَدِيجَةَ مِنَ اللَّهِ وَبِشَارَتِهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ، مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ، فِي

" الصَّحِيحِ ". وَلَكِنَّ هَذَا السِّيَاقَ بِهَذِهِ الزِّيَادَاتِ غَرِيبٌ جِدًّا. وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي أَسَانِيدِهَا نَظَرٌ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَهُ عَنِ الصَّخْرَةِ ; يَعْنِي صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ: الصَّخْرَةُ عَلَى نَخْلَةٍ، وَالنَّخْلَةُ عَلَى نَهْرٍ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، وَتَحْتَ النَّخْلَةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ، يَنْظِمَانِ سُمُوطَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ. وَهَذَا مُنْكَرٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، بَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ.
ثُمَّ قَدْ رَوَاهُ أَبُو زُرْعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، عَنْ مَسْعُودِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عَائِذٍ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَ كَعْبًا عَنْ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَذَكَرَهُ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَكَوْنُهُ مِنْ كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ،

أَشْبَهُ. قُلْتُ: وَكَلَامُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ هَذَا، إِنَّمَا تَلْقَاهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، الَّتِي مِنْهَا مَا هُوَ مَكْذُوبٌ مُفْتَعَلٌ، وَضَعَهُ بَعْضُ زَنَادِقَتِهِمْ أَوْ جُهَّالِهِمْ، وَهَذَا مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ذِكْرُ مِيلَادِ الْعَبْدِ الرَّسُولِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمِ الْبَتُولِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ

[ مَرْيَمَ: 16 - 37 ].
ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ بَعْدَ قِصَّةِ زَكَرِيَّا، الَّتِي هِيَ كَالْمُقَدِّمَةِ لَهَا وَالتَّوْطِئَةِ قَبْلَهَا، كَمَا ذَكَرَ فِي سُورَةِ " آلِ عِمْرَانَ " قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، وَكَمَا قَالَ فِي سُورَةِ " الْأَنْبِيَاءِ ": وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَرْيَمَ، لَمَّا جَعَلَتْهَا أُمُّهَا مُحَرَّرَةً، تَخْدِمُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَنَّهُ كَفَلَهَا زَوْجُ أُخْتِهَا - أَوْ خَالَتِهَا - نَبِيُّ ذَلِكَ الزَّمَانِ زَكَرِيَّا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ اتَّخَذَ لَهَا مِحْرَابًا، وَهُوَ الْمَكَانُ الشَّرِيفُ مِنَ الْمَسْجِدِ، لَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ عَلَيْهَا سِوَاهُ، وَأَنَّهَا لَمَّا بَلَغَتِ اجْتَهَدَتْ فِي الْعِبَادَةِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ نَظِيرُهَا

فِي فُنُونِ الْعِبَادَاتِ، وَظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَحْوَالِ مَا غَبَطَهَا بِهِ زَكَرِيَّا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهَا خَاطَبَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِالْبِشَارَةِ لَهَا بِاصْطِفَاءِ اللَّهِ لَهَا، وَبِأَنَّهُ سَيَهَبُ لَهَا وَلَدًا زَكِيًّا، يَكُونُ نَبِيًّا كَرِيمًا طَاهِرًا مُكَرَّمًا، مُؤَيَّدًا بِالْمُعْجِزَاتِ، فَتَعَجَّبَتْ مِنْ وُجُودِ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِ وَالِدٍ ; لِأَنَّهَا لَا زَوْجَ لَهَا، وَلَا هِيَ مِمَّنْ تَتَزَوَّجُ، فَأَخْبَرَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ، إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ: كُنْ. فَيَكُونُ ; فَاسْتَكَانَتْ لِذَلِكَ وَأَنَابَتْ وَسَلَّمَتْ لِأَمْرِ اللَّهِ وَعَلِمَتْ أَنَّ هَذَا فِيهِ مِحْنَةٌ عَظِيمَةٌ لَهَا ; فَإِنَّ النَّاسَ يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِسَبَبِهِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَى ظَاهِرِ الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ وَلَا تَعَقُّلٍ، وَكَانَتْ إِنَّمَا تَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ فِي زَمَنِ حَيْضِهَا، أَوْ لِحَاجَةٍ ضَرُورِيَّةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا ; مِنَ اسْتِقَاءِ مَاءٍ أَوْ تَحْصِيلِ غِذَاءٍ، فَبَيْنَمَا هِيَ يَوْمًا قَدْ خَرَجَتْ لِبَعْضٍ شُئُونِهَا وَانْتَبَذَتْ أَيِ انْفَرَدَتْ وَحْدَهَا شَرْقِيَّ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، إِذْ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا الرُّوحَ الْأَمِينَ، جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: عَلِمَتْ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ. وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ فَاسِقٌ مَشْهُورٌ بِالْفِسْقِ، اسْمُهُ تَقِيٌّ، فَإِنَّ هَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ بِلَا دَلِيلٍ، وَهُوَ مِنْ أَسْخَفِ الْأَقْوَالِ. قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ أَيْ خَاطَبَهَا الْمَلَكُ قَائِلًا: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ، أَيْ: لَسْتُ بِبَشَرٍ وَلَكِنِّي مَلَكٌ بَعَثَنِي اللَّهُ إِلَيْكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا أَيْ وَلَدًا زَكِيًّا. قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ لِي غُلَامٌ، أَوْ يُوجَدُ لِي وَلَدٌ،

وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أَيْ: وَلَسْتُ ذَاتَ زَوْجٍ، وَمَا أَنَا مِمَّنْ يَفْعَلُ الْفَاحِشَةَ. قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أَيْ: فَأَجَابَهَا الْمَلَكُ عَنْ تَعَجُّبِهَا مِنْ وُجُودِ وَلَدٍ مِنْهَا، وَالْحَالَةُ هَذِهِ، قَائِلًا: كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ أَيْ: وَعَدَ أَنَّهُ سَيَخْلُقُ مِنْكِ غُلَامًا وَلَسْتِ بِذَاتِ بَعْلٍ، وَلَا تَكُونِينَ مِمَّنْ يَبْغِينَ. هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أَيْ: وَهَذَا سَهْلٌ عَلَيْهِ، وَيَسِيرٌ لَدَيْهِ، فَإِنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ. وَقَوْلُهُ: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ أَيْ: وَلِنَجْعَلَ خَلْقَهُ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ، دَلِيلًا عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِنَا عَلَى أَنْوَاعِ الْخَلْقِ ; فَإِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ عِيسَى مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، وَخَلَقَ بَقِيَّةَ الْخَلْقِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى. وَقَوْلُهُ: وَرَحْمَةً مِنَّا أَيْ: نَرْحَمُ بِهِ الْعِبَادَ، بِأَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى اللَّهِ فِي صِغَرِهِ وَكِبَرِهِ، فِي طُفُولَتِهِ وَكُهُولَتِهِ، بِأَنْ يُفْرِدُوا اللَّهَ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَيُنَزِّهُوهُ عَنِ اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْأَوْلَادِ وَالشُّرَكَاءِ وَالنُّظَرَاءِ، وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ. وَقَوْلُهُ: وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ جِبْرِيلَ مَعَهَا، يَعْنِي أَنَّ هَذَا أَمْرٌ قَدْ قَضَاهُ اللَّهُ وَحَتَّمَهُ وَقَدَّرَهُ وَقَرَّرَهُ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَلَمْ يَحْكِ سِوَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا كِنَايَةً عَنْ نَفْخِ جِبْرِيلَ فِيهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [ التَّحْرِيمِ: 12 ]. فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، أَنَّ جِبْرِيلَ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ إِلَى

فَرْجِهَا، فَحَمَلَتْ مِنْ فَوْرِهَا، كَمَا تَحْمِلُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ جِمَاعِ بَعْلِهَا. وَمَنْ قَالَ أَنَّهُ نَفَخَ فِي فَمِهَا، أَوْ أَنَّ الَّذِي كَانَ يُخَاطِبُهَا هُوَ الرُّوحُ الَّذِي وَلَجَ فِيهَا مِنْ فَمِهَا، فَقَوْلُهُ خِلَافُ مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي مَحَالِّهَا مِنَ الْقُرْآنِ ; فَإِنَّ هَذَا السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا نَفَخَ فِيهَا، وَلَمْ يُوَاجِهِ الْمَلَكُ الْفَرْجَ، بَلْ نَفَخَ فِي جَيْبِهَا فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ إِلَى فَرْجِهَا، فَانْسَلَكَتْ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّفْخَةَ وَلَجَتْ فِيهِ، لَا فِي فَمِهَا، كَمَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَلَا فِي صَدْرِهَا، كَمَا رَوَاهُ السُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَحَمَلَتْهُ. أَيْ: فَحَمَلَتْ وَلَدَهَا فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا وَذَلِكَ لِأَنَّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، لَمَّا حَمَلَتْ ضَاقَتْ بِهِ ذَرْعًا، وَعَلِمَتْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ سَيَكُونُ مِنْهُمْ كَلَامٌ فِي حَقِّهَا، فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، أَنَّهَا لَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهَا مَخَايِلُ الْحَمْلِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ فَطِنَ لِذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يُقَالُ لَهُ: يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ النَّجَّارُ. وَكَانَ ابْنَ خَالِهَا، فَجَعَلَ يَتَعَجَّبُ مِنْ ذَلِكَ عَجَبًا شَدِيدًا، وَذَلِكَ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ دِيَانَتِهَا، وَنَزَاهَتِهَا، وَعِبَادَتِهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرَاهَا حُبْلَى وَلَيْسَ لَهَا زَوْجٌ، فَعَرَّضَ لَهَا ذَاتَ يَوْمٍ فِي الْكَلَامِ، فَقَالَ: يَا مَرْيَمُ هَلْ يَكُونُ زَرْعٌ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ ؟! قَالَتْ: نَعَمْ، فَمَنْ خَلَقَ الزَّرْعَ الْأَوَّلَ ؟! ثُمَّ قَالَ: فَهَلْ يَكُونُ شَجَرٌ

مِنْ غَيْرِ مَاءٍ وَلَا مَطَرٍ ؟! قَالَتْ: نَعَمْ، فَمَنْ خَلَقَ الشَّجَرَ الْأَوَّلَ ؟! ثُمَّ قَالَ: فَهَلْ يَكُونُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ ؟! قَالَتْ: نَعَمْ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى. قَالَ لَهَا: فَأَخْبِرِينِي خَبَرَكِ. فَقَالَتْ: إِنَّ اللَّهَ بَشَّرَنِي بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [ آلِ عِمْرَانَ: 45، 46 ]. وَيُرْوَى مِثْلُ هَذَا عَنْ زَكَرِيَّا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ سَأَلَهَا فَأَجَابَتْهُ بِمِثْلِ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ السُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ، أَنَّ مَرْيَمَ دَخَلَتْ يَوْمًا عَلَى أُخْتِهَا، فَقَالَتْ لَهَا أُخْتُهَا: أَشَعَرْتِ أَنِّي حُبْلَى ؟ فَقَالَتْ مَرْيَمُ: وَشَعَرْتِ أَيْضًا أَنِّي حُبْلَى ؟ فَاعْتَنَقَتْهَا، وَقَالَتْ لَهَا أُمُّ يَحْيَى: إِنِّي أَرَى مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ: مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ [ آلِ عِمْرَانَ: 39 ]. وَمَعْنَى السُّجُودِ هَاهُنَا، الْخُضُوعُ وَالتَّعْظِيمُ، كَالسُّجُودِ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ لِلسَّلَامِ، كَمَا كَانَ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَكَمَا أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، ابْنَا خَالَةٍ، وَكَانَ حَمْلُهُمَا جَمِيعًا مَعًا، فَبَلَغَنِي أَنَّ أُمَّ يَحْيَى قَالَتْ لِمَرْيَمَ: إِنِّي أَرَى مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ. قَالَ مَالِكٌ: أَرَى ذَلِكَ لِتَفْضِيلِ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعْلَهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبَرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَرَوَى عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَتْ مَرْيَمُ: كُنْتُ إِذَا خَلَوْتُ حَدَّثَنِي وَكَلَّمَنِي، وَإِذَا كُنْتُ

بَيْنَ النَّاسِ سَبَّحَ فِي بَطْنِي. ثُمَّ الظَّاهِرُ، أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ كَمَا تَحْمِلُ النِّسَاءُ وَيَضَعْنَ لِمِيقَاتِ حَمْلِهِنَّ وَوَضْعِهِنَّ، إِذْ لَوْ كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ لَذُكِرَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ، أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا هُوَ إِلَّا أَنْ حَمَلَتْ بِهِ فَوَضَعَتْهُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: حَمَلَتْ بِهِ تِسْعَ سَاعَاتٍ. وَاسْتَأْنَسُوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ تَعْقِيبَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ ; لِقَوْلِهِ: فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [ الْحَجِّ: 63 ]. وَكَقَوْلِهِ: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وَمَعْلُومٌ أَنْ بَيْنَ كُلِّ حَالَيْنِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ.
[ الْمُؤْمِنُونَ: 14 ]. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ شَاعَ أَمْرُهَا وَاشْتَهَرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهَا حَامِلٌ، فَمَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ مَا دَخَلَ عَلَى آلِ زَكَرِيَّا. قَالَ: وَاتَّهَمَهَا بَعْضُ الزَّنَادِقَةِ بِيُوسُفَ الَّذِي كَانَ يَتَعَبَّدُ مَعَهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَتَوَارَتْ عَنْهُمْ مَرْيَمُ، وَاعْتَزَلَتْهُمْ وَانْتَبَذَتْ مَكَانًا قَصِيًّا. وَقَوْلُهُ: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ أَيْ: فَأَلْجَأَهَا وَاضْطَرَّهَا الطَّلْقُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ، وَهُوَ - بِنَصِّ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، وَالْبَيْهَقِيُّ

بِإِسْنَادٍ صَحَّحَهُ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ مَرْفُوعًا أَيْضًا - بِبَيْتِ لَحْمٍ، الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ بَعْضُ مُلُوكِ الرُّومِ فِيمَا بَعْدُ - عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ - هَذَا الْبِنَاءَ الْمُشَاهَدَ الْهَائِلَ. قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَمَنِّي الْمَوْتِ عِنْدَ الْفِتَنِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّ النَّاسَ يَتَّهِمُونَهَا وَلَا يُصَدِّقُونَهَا، بَلْ يُكَذِّبُونَهَا حِينَ تَأْتِيهِمْ بِغُلَامٍ عَلَى يَدِهَا، مَعَ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعَابِدَاتِ النَّاسِكَاتِ، الْمُجَاوِرَاتِ فِي الْمَسْجِدِ، الْمُنْقَطِعَاتِ إِلَيْهِ، الْمُعْتَكِفَاتِ فِيهِ، وَمِنْ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَالدِّيَانَةِ، فَحَمَلَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الْهَمِّ مَا تَمَنَّتْ أَنْ لَوْ كَانَتْ مَاتَتْ قَبْلَ هَذَا الْحَالِ أَوْ كَانَتْ نَسْيًا مَنْسِيًّا أَيْ: لَمْ تُخْلَقْ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَوْلُهُ: ( فَنَادَاهَا مَنْ تَحْتَهَا )، وَقُرِئَ: مِنْ تَحْتِهَا عَلَى الْخَفْضِ، وَفِي الْمُضْمَرِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ جِبْرِيلُ. قَالَهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عِيسَى إِلَّا بِحَضْرَةِ الْقَوْمِ. وَهَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، فِي رِوَايَةٍ: هُوَ ابْنُهَا عِيسَى. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَوْلُهُ: أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا قِيلَ: النَّهْرُ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ

الصَّحِيحُ. وَعَنِ الْحَسَنِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَابْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّهُ ابْنُهَا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ; لِقَوْلِهِ: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَذَكَرَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، وَلِهَذَا قَالَ: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ثُمَّ قِيلَ: كَانَ جِذْعُ النَّخْلَةِ يَابِسًا. وَقِيلَ: كَانَتْ نَخْلَةً مُثْمِرَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا كَانَتْ نَخْلَةً، لَكِنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُثْمِرَةً إِذْ ذَاكَ ; لِأَنَّ مِيلَادَهُ كَانَ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ، وَلَيْسَ ذَاكَ وَقْتَ ثَمَرٍ، وَقَدْ يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى، عَلَى سَبِيلِ الِامْتِنَانِ: تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: لَيْسَ شَيْءٌ خَيْرًا لِلنُّفَسَاءِ مِنَ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، حَدَّثَنَا مَسْرُورُ بْنُ سَعِيدٍ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكْرِمُوا عَمَّتَكُمُ النَّخْلَةَ، فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الطِّينِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ آدَمُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الشَّجَرِ يُلَقَّحُ غَيْرَهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَطْعِمُوا نِسَاءَكُمُ الْوُلَّدَ الرُّطَبَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُطَبٌ، فَتَمْرٌ، وَلَيْسَ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ شَجَرَةٍ نَزَلَتْ تَحْتَهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي " مُسْنَدِهِ "، عَنْ

شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ، عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ سَعِيدٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَسْرُورِ بْنِ سَعْدٍ. وَالصَّحِيحُ: مَسْرُورُ بْنُ سَعِيدٍ التَّمِيمِيُّ، أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ عَدِيٍّ هَذَا الْحَدِيثَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَلَمْ أَسْمَعَ بِذِكْرِهِ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَرْوِي عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ الْمَنَاكِيرَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمَنْ يَرْوِيهَا. وَقَوْلُهُ: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا وَهَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الَّذِي نَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا. قَالَ: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا أَيْ: فَإِنْ رَأَيْتِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ فَقَوْلِي لَهُ، أَيْ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالْإِشَارَةِ: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا أَيْ: صَمْتًا. وَكَانَ مِنْ صَوْمِهِمْ فِي شَرِيعَتِهِمْ تَرْكُ الْكَلَامِ وَالطَّعَامِ. قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ أَسْلَمَ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا فَأَمَّا فِي شَرِيعَتِنَا فَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ صَمْتُ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ مِمَّنْ يَنْقُلُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَنَّهُمْ لَمَّا افْتَقَدُوهَا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ ذَهَبُوا فِي طَلَبِهَا، فَمَرُّوا عَلَى مَحِلَّتِهَا وَالْأَنْوَارُ حَوْلَهَا، فَلَمَّا وَاجَهُوهَا وَجَدُوا مَعَهَا وَلَدَهَا، فَقَالُوا لَهَا: يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا أَيْ أَمْرًا عَظِيمًا مُنْكَرًا. وَفِي هَذَا الَّذِي قَالُوهُ نَظَرٌ، مَعَ أَنَّهُ كَلَامٌ يَنْقُضُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا حَمَلَتْهُ

بِنَفْسِهَا، وَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا وَهِيَ تَحْمِلُهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ بَعْدَ مَا تَعَالَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْهَا تَحْمِلُ مَعَهَا وَلَدَهَا قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا وَالْفِرْيَةُ هِيَ الْفِعْلَةُ الْمُنْكَرَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ الْفِعَالِ وَالْمَقَالِ. ثُمَّ قَالُوا لَهَا: يَا أُخْتَ هَارُونَ قِيلَ: شَبَّهُوهَا بِعَابِدٍ مِنْ عُبَّادِ زَمَانِهِمْ كَانَتْ تُسَامِيهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَكَانَ اسْمُهُ هَارُونَ. وَقِيلَ: شَبَّهُوهَا بِرَجُلٍ فَاجِرٍ فِي زَمَانِهِمُ، اسْمُهُ هَارُونُ. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ: أَرَادُوا بِهَارُونَ أَخَا مُوسَى شَبَّهُوهَا بِهِ فِي الْعِبَادَةِ. وَأَخْطَأَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ فِي زَعْمِهِ أَنَّهَا أُخْتُ مُوسَى وَهَارُونَ نَسَبًا ; فَإِنَّ بَيْنَهُمَا مِنَ الدُّهُورِ الطَّوِيلَةِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى أَدْنَى مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَرُدُّهُ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ الْفَظِيعِ، وَكَأَنَّهُ غَرَّهُ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مَرْيَمَ أُخْتَ مُوسَى وَهَارُونَ ضَرَبَتْ بِالدُّفِّ يَوْمَ نَجَّى اللَّهُ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ، فَاعْتَقَدَ أَنَّ هَذِهِ هِيَ هَذِهِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ وَالْمُخَالَفَةِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَعَ نَصِّ الْقُرْآنِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي " التَّفْسِيرِ " مُطَوَّلًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الدَّالُّ

عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهَا أَخٌ اسْمُهُ هَارُونُ وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ قِصَّةِ وِلَادَتِهَا وَتَحْرِيرِ أُمِّهَا لَهَا، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا أَخٌ سِوَاهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، سَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُهُ عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى نَجْرَانَ فَقَالُوا: أَرَأَيْتَ مَا تَقْرَءُونَ: يَا أُخْتَ هَارُونَ وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَرَجَعْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَسْمَاءِ صَالِحِيهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ وَذَكَرَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْثِرُونَ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِهَارُونَ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ حَضَرَ بَعْضَ جَنَائِزِهِمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، مِمَّنْ يُسَمَّى بِهَارُونَ، أَرْبَعُونَ أَلْفًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا أُخْتَ هَارُونَ وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهَا قَدْ كَانَ لَهَا أَخٌ نَسَبِيٌّ اسْمُهُ هَارُونُ، وَكَانَ مَشْهُورًا بِالدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ ; وَلِهَذَا قَالُوا: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا أَيْ: لَسْتِ مِنْ بَيْتٍ هَذَا شِيمَتُهُمْ وَلَا سَجِيَّتُهُمْ ; لَا أَخُوكِ وَلَا أُمُّكِ وَلَا أَبُوكِ، فَاتَّهَمُوهَا

بِالْفَاحِشَةِ الْعُظْمَى، وَرَمَوْهَا بِالدَّاهِيَةِ الدَّهْيَاءِ، فَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي " تَارِيخِهِ " أَنَّهُمُ اتَّهَمُوا بِهَا زَكَرِيَّا، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَفَرَّ مِنْهُمْ فَلَحِقُوهُ وَقَدِ انْشَقَّتْ لَهُ الشَّجَرَةُ فَدَخَلَهَا، وَأَمْسَكَ إِبْلِيسُ بِطَرَفِ رِدَائِهِ فَنَشَرُوهُ فِيهَا، كَمَا قَدَّمْنَا.
وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنِ اتَّهَمَهَا بِابْنِ خَالِهَا يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ النَّجَّارِ، فَلَمَّا ضَاقَ الْحَالُ، وَانْحَصَرَ الْمَجَالُ وَامْتَنَعَ الْمَقَالُ، عَظُمَ التَّوَكُّلُ عَلَى ذِي الْجَلَالِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْإِخْلَاصُ وَالِاتِّكَالُ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ أَيْ: خَاطِبُوهُ وَكَلِّمُوهُ ; فَإِنَّ جَوَابَكُمْ عَلَيْهِ، وَمَا تَبْغُونَ مِنَ الْكَلَامِ لَدَيْهِ. فَعِنْدَهَا قَالَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ جَبَّارًا شَقِيًّا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا أَيْ: كَيْفَ تُحِيلِينَنَا فِي الْجَوَابِ عَلَى صَبِيٍّ صَغِيرٍ لَا يَعْقِلُ الْخِطَابَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ رَضِيعٌ فِي مَهْدِهِ، وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مَحْضٍ وَزَبَدِهِ، وَمَا هَذَا مِنْكِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِنَا وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَالتَّنَقُّصِ لَنَا وَالِازْدِرَاءِ ; إِذْ لَا تَرُدِّينَ عَلَيْنَا قَوْلًا نُطْقِيًّا، بَلْ تُحِيلِينَ فِي الْجَوَابِ عَلَى مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، فَعِنْدَهَا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا هَذَا أَوَّلُ كَلَامٍ تَفَوَّهَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ اعْتَرَفَ لِرَبِّهِ تَعَالَى بِالْعُبُودِيَّةِ، وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ، فَنَزَّهَ جَنَابَ اللَّهِ عَنْ قَوْلِ الظَّالِمِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، بَلْ هُوَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ، ثُمَّ بَرَّأَ أُمَّهُ مِمَّا نَسَبَهَا إِلَيْهِ الْجَاهِلُونَ، وَقَذَفُوهَا بِهِ وَرَمَوْهَا

بِسَبَبِهِ بِقَوْلِهِ: آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعْطِي النُّبُوَّةَ مَنْ هُوَ كَمَا زَعَمُوا، لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا [ النِّسَاءِ: 156 ]. وَذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْيَهُودِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ قَالُوا: إِنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ مِنْ زِنًا فِي زَمَنِ الْحَيْضِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ. فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ عَنْهَا أَنَّهَا صِدِّيقَةٌ، وَاتَّخَذَ وَلَدَهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا، أَحَدَ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ الْكِبَارِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَذَلِكَ أَنَّهُ حَيْثُ كَانَ دَعَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَزَّهَ جَنَابَهُ عَنِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ ; مِنِ اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ. وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَهَذِهِ وَظِيفَةُ الْعَبِيدِ فِي الْقِيَامِ بِحَقِّ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ; بِالصَّلَاةِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلِيقَةِ بِالزَّكَاةِ، وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى طَهَارَةِ النُّفُوسِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، وَتَطْهِيرِ الْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ بِالْعَطِيَّةِ لِلْمَحَاوِيجِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْنَافِ، وَقِرَى الْأَضْيَافِ، وَالنَّفَقَاتِ عَلَى الزَّوْجَاتِ، وَالْأَرِقَّاءِ، وَالْقَرَابَاتِ، وَسَائِرِ وُجُوهِ الطَّاعَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا أَيْ: وَجَعَلَنِي بَرًّا بِوَالِدَتِي، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَأَكَّدَ حَقُّهَا عَلَيْهِ، لِتَمَحُّضِ جِهَتِهَا، إِذْ لَا وَالِدَ لَهُ سِوَاهَا، فَسُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الْخَلِيقَةَ وَبَرَأَهَا، وَأَعْطَى كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا. وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا أَيْ: لَسْتُ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا يَصْدُرُ مِنِّي قَوْلٌ وَلَا فِعْلٌ يُنَافِي أَمْرَ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ. وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا وَهَذِهِ الْمَوَاطِنُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي قِصَّةِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّتَهُ عَلَى الْجَلِيَّةِ، وَبَيَّنَ أَمْرَهُ وَوَضَّحَهُ وَشَرَحَهُ، قَالَ:

ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّتِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ [ آلِ عِمْرَانَ: 58 - 63 ]. وَلِهَذَا لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ وَكَانُوا سِتِّينَ رَاكِبًا، يَرْجِعُ أَمْرُهُمْ إِلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْهُمْ، وَيَؤُولُ أَمْرُ الْجَمِيعِ إِلَى ثَلَاثَةٍ، هُمْ أَشْرَافُهُمْ وَسَادَاتُهُمْ، وَهُمْ: الْعَاقِبُ، وَالسَّيِّدُ، وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ، فَجَعَلُوا يُنَاظِرُونَ فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ صَدْرَ سُورَةِ " آلِ عِمْرَانَ " فِي ذَلِكَ، وَبَيَّنَ أَمْرَ الْمَسِيحِ وَابْتِدَاءَ خَلْقِهِ وَخَلْقِ أُمِّهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يُبَاهِلَهُمْ إِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ وَيَتَّبِعُوهُ، فَلَمَّا رَأَوْا عَيْنَيْهَا وَأُذُنَيْهَا نَكَصُوا، وَامْتَنَعُوا عَنِ الْمُبَاهَلَةِ، وَعَدَلُوا إِلَى الْمُسَالَمَةِ وَالْمُوَادَعَةِ، وَقَالَ قَائِلُهُمْ، وَهُوَ الْعَاقِبُ عَبْدُ الْمَسِيحِ: يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى، لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْفَصْلِ مِنْ خَبَرِ صَاحِبِكُمْ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ مَا لَاعَنَ قَوْمٌ نَبِيًّا قَطُّ، فَبَقِيَ كَبِيرُهُمْ وَلَا نَبَتَ صَغِيرُهُمْ، وَإِنَّهَا لَلِاسْتِئْصَالُ مِنْكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ أَبَيْتُمْ إِلَّا إِلْفَ دِينِكُمْ وَالْإِقَامَةَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ

فِي صَاحِبِكُمْ، فَوَادِعُوا الرَّجُلَ وَانْصَرِفُوا إِلَى بِلَادِكُمْ. فَطَلَبُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَضْرِبَ عَلَيْهِمْ جِزْيَةً، وَأَنْ يَبْعَثَ مَعَهُمْ رَجُلًا أَمِينًا، فَبَعَثَ مَعَهُمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ " آلِ عِمْرَانَ " وَسَيَأْتِي بَسْطُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَمْرَ الْمَسِيحِ، قَالَ لِرَسُولِهِ: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ يَعْنِي مِنْ أَنَّهُ عَبْدٌ مَخْلُوقٌ مِنِ امْرَأَةٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أَيْ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ وَلَا يَكْرُثُهُ وَلَا يَؤُودُهُ، بَلْ هُوَ الْقَدِيرُ الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ. إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ يس: 82 ]. وَقَوْلُهُ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا هُوَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ عِيسَى لَهُمْ فِي الْمَهْدِ، أَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَرَبُّهُمْ وَإِلَهُهُ وَإِلَهُهُمْ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أَيْ: فَاخْتَلَفَ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِيهِ، فَمِنْ قَائِلٍ مِنَ الْيَهُودِ: إِنَّهُ وَلَدُ زَنْيَةٍ. وَاسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَقَابَلَهُمْ آخَرُونَ فِي الْكُفْرِ فَقَالُوا: هُوَ اللَّهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ. وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ:

هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَابْنُ أَمَتِهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ النَّاجُونَ الْمُثَابُونَ، الْمُؤَيَّدُونَ الْمَنْصُورُونَ، وَمَنْ خَالَفَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقُيُودِ، فَهُمُ الْكَافِرُونَ الظَّالِمُونَ، الضَّالُّونَ الْجَاهِلُونَ، وَقَدْ تَوَعَّدَهُمُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ، بِقَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَنْبَأَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ، حَدَّثَنِي جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ - أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ قَالَ الْوَلِيدُ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عُمَيْرٍ، عَنْ جُنَادَةَ، وَزَادَ: مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَيَّهَا شَاءَ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ دَاوُدَ بْنِ رَشِيدٍ عَنِ الْوَلِيدِ، عَنِ ابْنِ جَابِرٍ بِهِ، وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ.

بَابُ بَيَانِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْوَلَدِ
قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا أَيْ شَيْئًا عَظِيمًا، وَمُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا. تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا فَبَيِّنَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَنْبَغِي لَهُ الْوَلَدُ ; لِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمَالِكُهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، خَاضِعٌ ذَلِيلٌ لَدَيْهِ، وَجَمِيعُ سُكَّانِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَبِيدُهُ، وَهُوَ رَبُّهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [ الْأَنْعَامِ: 100 - 103 ]. فَبَيَّنَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ

شَيْءٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، وَالْوَلَدُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَنَاسِبَيْنِ! وَاللَّهُ تَعَالَى لَا نَظِيرَ لَهُ، وَلَا شَبِيهَ لَهُ، وَلَا عَدِيلَ لَهُ، وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ، فَلَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [ الْإِخْلَاصِ: 1 - 4 ]. فَتَقَرَّرَ أَنَّهُ " الْأَحَدُ " الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ الصَّمَدُ وَهُوَ السَّيِّدُ الَّذِي كَمُلَ فِي عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَجَمِيعِ صِفَاتِهِ. لَمْ يَلِدْ أَيْ: لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ وَلَدٌ. وَلَمْ يُولَدْ أَيْ: وَلَمْ يَتَوَلَّدْ عَنْ شَيْءٍ قَبْلَهُ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ أَيْ: وَلَيْسَ لَهُ عِدْلٌ وَلَا مُكَافِئٌ وَلَا مُسَاوٍ، فَقَطَعَ النَّظِيرَ الْمُدَانِيَ وَالْأَعْلَى وَالْمُسَاوِيَ ; فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، إِذْ لَا يَكُونُ الْوَلَدُ إِلَّا مُتَوَلِّدًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَعَادِلَيْنِ أَوْ مُتَقَارِبَيْنِ، وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [ النِّسَاءِ: 171 - 173 ].

يَنْهَى تَعَالَى أَهْلَ الْكِتَابِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ، عَنِ الْغُلُوِّ وَالْإِطْرَاءِ فِي الدِّينِ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ ; فَالنَّصَارَى - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - غَلَوْا وَأَطْرَوُا الْمَسِيحَ حَتَّى جَاوَزُوا الْحَدَّ، فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَابْنُ أَمَتِهِ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ، الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا، فَبَعَثَ اللَّهُ الْمَلَكَ جِبْرِيلَ إِلَيْهَا، فَنَفَخَ فِيهَا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ نَفْخَةً حَمَلَتْ مِنْهَا بِوَلَدِهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالَّذِي اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الْمَلَكِ هِيَ الرُّوحُ الْمُضَافَةُ إِلَى اللَّهِ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا يُقَالُ: بَيْتُ اللَّهِ، وَنَاقَةُ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَكَذَا: رُوحُ اللَّهِ، أُضِيفَتْ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا لَهَا وَتَكْرِيمًا، وَسُمِّيَ عِيسَى بِهَا ; لِأَنَّهُ كَانَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ أَيْضًا الَّتِي عَنْهَا خُلِقَ، وَبِسَبَبِهَا وُجِدَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ آلِ عِمْرَانَ: 59 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ الْبَقَرَةِ: 116، 117 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [ التَّوْبَةِ: 30 ]. فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ، كُلٌّ مِنْ

الْفَرِيقَيْنِ ادَّعَوْا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا، وَزَعَمُوا أَنَّ لَهُ وَلَدًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ مُسْتَنَدٌ فِيمَا زَعَمُوهُ، وَلَا فِيمَا ائْتَفَكُوهُ، إِلَّا مُجَرَّدُ الْقَوْلِ وَمُشَابَهَةُ مَنْ سَبَقَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ الضَّالَّةِ، تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ - عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ - زَعَمُوا أَنَّ الْعَقْلَ الْأَوَّلَ صَدَرَ عَنْ وَاجِبِ الْوُجُودِ، الَّذِي يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِعِلَّةِ الْعِلَلِ، وَالْمَبْدَأِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ صَدَرَ عَنِ الْعَقْلِ الْأَوَّلِ عَقْلٌ ثَانٍ، وَنَفْسٌ وَفَلَكٌ، ثُمَّ صَدَرَ عَنِ الثَّانِي كَذَلِكَ، حَتَّى تَنَاهَتِ الْعُقُولُ إِلَى عَشَرَةٍ، وَالنُّفُوسُ إِلَى تِسْعَةٍ، وَالْأَفْلَاكُ إِلَى تِسْعَةٍ، بِاعْتِبَارَاتٍ فَاسِدَةٍ ذَكَرُوهَا، وَاخْتِيَارَاتٍ بَارِدَةٍ أَوْرَدُوهَا، وَلِبَسْطِ الْكَلَامِ مَعَهُمْ، وَبَيَانِ جَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ، مَوْضِعٌ آخَرُ. وَهَكَذَا طَوَائِفُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ ; زَعَمُوا لِجَهْلِهِمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ صَاهَرَ سَرَوَاتِ الْجِنِّ فَتَوَلَّدَ مِنْهُمَا الْمَلَائِكَةُ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ، وَتَنَزَّهَ عَمَّا يُشْرِكُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [ الزُّخْرُفِ: 19 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [ الصَّافَّاتِ: 149 - 160 ].

وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 26 - 29 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْكَهْفِ "، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [ الْكَهْفِ: 1 - 5 ]. وَقَالَ تَعَالَى: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [ يُونُسَ: 68 - 70 ]. فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمَكِّيَاتُ الْكَرِيمَاتُ تَشْمَلُ الرَّدَّ عَلَى سَائِرِ فِرَقِ الْكَفَرَةِ ; مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الَّذِينَ ادَّعَوْا وَزَعَمُوا بِلَا عِلْمٍ، أَنَّ لِلَّهِ وَلَدًا، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ الْمُعْتَدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَلَمَّا كَانَتِ النَّصَارَى، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مِنْ أَشْهَرِ

مَنْ قَالَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، ذُكِرُوا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا ; لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَبَيَانِ تَنَاقُضِهِمْ، وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ، وَكَثْرَةِ جَهْلِهِمْ، وَقَدْ تَنَوَّعَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي كُفْرِهِمْ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْبَاطِلَ كَثِيرُ التَّشَعُّبِ وَالِاخْتِلَافِ وَالتَّنَاقُضِ، وَأَمَّا الْحَقُّ فَلَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَضْطَرِبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [ النِّسَاءِ: 82 ]. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ يَتَّحِدُ وَيَتَّفِقُ، وَالْبَاطِلَ يَخْتَلِفُ وَيَضْطَرِبُ. فَطَائِفَةٌ مِنْ ضُلَّالِهِمْ وَجُهَّالِهِمْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَسِيحَ هُوَ اللَّهُ. تَعَالَى اللَّهُ، وَطَائِفَةٌ قَالُوا: هُوَ ابْنُ اللَّهِ، عَزَّ اللَّهُ. وَطَائِفَةٌ قَالُوا: هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ. جَلَّ اللَّهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْمَائِدَةِ ": لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ الْمَائِدَةِ: 17 ]. فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ كُفْرِهِمْ وَجَهْلِهِمْ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ الْخَالِقُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْمُتَصَرِّفُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَإِلَهُهُ. وَقَالَ فِي أَوَاخِرِهَا: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [ الْمَائِدَةِ: 72 - 75 ].

حَكَمَ تَعَالَى بِكُفْرِهِمْ شَرْعًا وَقَدَرًا، وَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا صَدَرَ مِنْهُمْ، مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ مَخْلُوقٌ، مُصَوَّرٌ فِي الرَّحِمِ، دَاعٍ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ بِالنَّارِ، وَعَدَمِ الْفَوْزِ بِدَارِ الْقَرَارِ، وَالْخِزْيِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْهَوَانِ وَالْعَارِ، وَلِهَذَا قَالَ: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِالْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ: أُقْنُومُ الْأَبِ، وَأُقْنُومُ الِابْنِ، وَأُقْنُومُ الْكَلِمَةِ الْمُنْبَثِقَةِ مِنَ الْأَبِ إِلَى الِابْنِ، عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ مَا بَيْنَ الْمَلَكِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ وَالنَّسْطُورِيَّةِ، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ، كَمَا سَنُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَمَجَامِعَهُمُ الثَّلَاثَةَ فِي زَمَنِ قُسْطَنْطِينَ بْنِ قَسْطَسَ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَبْلَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ أَيْ: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ، وَلَا كُفْءَ لَهُ، وَلَا

صَاحِبَةَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، ثُمَّ تَوَعَدَهُمْ وَتَهَدَّدَهُمْ فَقَالَ: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ثُمَّ دَعَاهُمْ بِرَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْكِبَارِ، وَالْعَظَائِمِ الَّتِي تُوجِبُ النَّارَ، فَقَالَ: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ، وَأَنَّهُ عَبْدٌ رَسُولٌ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ، أَيْ لَيْسَتْ بِفَاجِرَةٍ، كَمَا يَقُولُهُ الْيَهُودُ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَبِيَّةٍ، كَمَا زَعَمَهُ طَائِفَةٌ مِنْ عُلَمَائِنَا. وَقَوْلُهُ: كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ كِنَايَةٌ عَنْ خُرُوجِهِ مِنْهُمَا، كَمَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِهِمَا، أَيْ: وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، كَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا ؟! تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ وَجَهْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ زَعْمُهُمْ فِي عِيسَى وَأُمِّهِ أَنَّهُمَا إِلَهَانِ مَعَ اللَّهِ ; يَعْنِي كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى كُفْرَهُمْ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ الْمَائِدَةِ: 116 - 118 ].

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَسْأَلُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ لَهُ وَالتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ لِعَابِدِيهِ، مِمَّنْ كَذَبَ عَلَيْهِ وَافْتَرَى وَزَعَمَ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، أَوْ أَنَّهُ اللَّهُ، أَوْ أَنَّهُ شَرِيكُهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ، فَيَسْأَلُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ مَا يَسْأَلُهُ عَنْهُ، وَلَكِنْ لِتَوْبِيخِ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ لَهُ: ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ أَيْ: تَعَالَيْتَ أَنْ يَكُونَ مَعَكَ شَرِيكٌ. مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أَيْ: لَيْسَ هَذَا يَسْتَحِقُّهُ أَحَدٌ سِوَاكَ. إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ وَهَذَا تَأَدُّبٌ عَظِيمٌ فِي الْخِطَابِ وَالْجَوَابِ. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ حِينَ أَرْسَلْتَنِي إِلَيْهِمْ، وَأَنْزَلْتَ عَلَيَّ الْكِتَابَ الَّذِي كَانَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ، ثُمَّ فَسَّرَ مَا قَالَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ أَيْ خَالِقِي وَخَالِقُكُمْ، وَرَازِقِي وَرَازِقُكُمْ. وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أَيْ: رَفَعْتَنِي إِلَيْكَ حِينَ أَرَادُوا قَتْلِي وَصَلْبِي، فَرَحِمْتَنِي وَخَلَّصْتَنِي مِنْهُمْ، وَأَلْقَيْتَ شَبَهِي عَلَى أَحَدِهِمْ، حَتَّى انْتَقَمُوا مِنْهُ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ. كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ثُمَّ قَالَ عَلَى وَجْهِ التَّفْوِيضِ إِلَى الرَّبِّ، عَزَّ وَجَلَّ، وَالتَّبَرِّي مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ أَيْ: وَهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ. وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَهَذَا التَّفْوِيضُ وَالْإِسْنَادُ إِلَى الْمَشِيئَةِ بِالشَّرْطِ، لَا يَقْتَضِي وُقُوعَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

وَلَمْ يَقُلْ: الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " التَّفْسِيرِ " مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَامَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ الشَّفَاعَةَ لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِيهَا، وَهِيَ نَائِلَةٌ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 16 - 20 ]. وَقَالَ تَعَالَى: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [ الزُّمَرِ: 4، 5 ]. وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [ الزُّخْرُفِ: 81، 82 ]. وَقَالَ

تَعَالَى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [ الْإِسْرَاءِ: 111 ]. وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ; يَزْعُمُ أَنَّ لِي وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمَّ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ وَفِي " الصَّحِيحِ " أَيْضًا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ ; إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا، وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " أَيْضًا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ثُمَّ قَرَأَ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ هُودٍ: 102 ]. وَهَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [ الْحَجِّ: 48 ]. وَقَالَ تَعَالَى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [ لُقْمَانٍ: 24 ]. وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [ يُونُسَ: 69، 70 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [ الطَّارِقِ: 17 ].

ذِكْرُ مَنْشَأِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَبَيَانُ بَدْءِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ وُلِدَ بِبَيْتِ لَحْمٍ، قَرِيبًا مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَزَعَمَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ وُلِدَ بِمِصْرَ، وَأَنَّ مَرْيَمَ سَافَرَتْ هِيَ وَيُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ النَّجَّارُ، وَهِيَ رَاكِبَةٌ عَلَى حِمَارٍ. لَيْسَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْإِكَافِ شَيْءٌ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَوْلِدَهُ كَانَ بِبَيْتِ لَحْمٍ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَمَهْمَا عَارَضَهُ فَبَاطِلٌ.
وَذَكَرَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، أَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ خَرَّتِ الْأَصْنَامُ يَوْمَئِذٍ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ حَارَتْ فِي سَبَبِ ذَلِكَ، حَتَّى كَشَفَ لَهُمْ إِبْلِيسُ الْكَبِيرُ أَمْرَ عِيسَى، فَوَجَدُوهُ فِي حِجْرِ أُمِّهِ، وَالْمَلَائِكَةُ مُحْدِقَةٌ بِهِ، وَأَنَّهُ ظَهَرَ نَجْمٌ عَظِيمٌ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَّ مَلِكَ الْفُرْسِ أَشْفَقَ مِنْ ظُهُورِهِ، فَسَأَلَ الْكَهَنَةَ عَنْ

ذَلِكَ فَقَالُوا: هَذَا لِمَوْلِدِ عَظِيمٍ فِي الْأَرْضِ. فَبَعَثَ رُسُلَهُ وَمَعَهُمْ ذَهَبٌ وَمُرٌّ وَلِبَانٌ، هَدِيَّةً إِلَى عِيسَى، فَلَمَّا قَدِمُوا الشَّامَ سَأَلَهُمْ مَلِكُهَا عَمَّا أَقْدَمَهُمْ، فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِذَا قَدْ وُلِدَ فِيهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ بِسَبَبِ كَلَامِهِ فِي الْمَهْدِ، فَأَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِ بِمَا مَعَهُمْ وَأَرْسَلَ مَعَهُمْ مَنْ يَعْرِفُهُ لَهُ ; لِيَتَوَصَّلَ إِلَى قَتْلِهِ إِذَا انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى مَرْيَمَ بِالْهَدَايَا وَرَجَعُوا، قِيلَ لَهَا: إِنَّ رُسُلَ مَلِكِ الشَّامِ إِنَّمَا جَاءُوا لِيَقْتُلُوا وَلَدَكِ. فَاحْتَمَلَتْهُ، فَذَهَبَتْ بِهِ إِلَى مِصْرَ، فَأَقَامَتْ بِهَا حَتَّى بَلَغَ عُمْرُهُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَظَهَرَتْ عَلَيْهِ كَرَامَاتٌ وَمُعْجِزَاتٌ فِي حَالِ صِغَرِهِ، فَذَكَرَ مِنْهَا، أَنَّ الدِّهْقَانَ الَّذِي نَزَلُوا عِنْدَهُ افْتَقَدَ مَالًا مِنْ دَارِهِ، وَكَانَتْ دَارُهُ لَا يَسْكُنُهَا إِلَّا الْفُقَرَاءُ وَالضُّعَفَاءُ وَالْمَحَاوِيجُ، فَلَمْ يَدْرِ مَنْ أَخَذَهُ، وَعَزَّ ذَلِكَ عَلَى مَرْيَمَ، عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَشَقَّ عَلَى النَّاسِ وَعَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ، وَأَعْيَاهُمْ أَمْرُهَا، فَلَمَّا رَأَى عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ذَلِكَ، عَمَدَ إِلَى رَجُلٍ أَعْمَى، وَآخَرَ مُقْعَدٍ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ هُوَ مُنْقَطِعٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِلْأَعْمَى: احْمِلْ هَذَا الْمُقْعَدَ وَانْهَضْ بِهِ. فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ. فَقَالَ: بَلَى، كَمَا فَعَلْتَ أَنْتَ وَهُوَ حِينَ أَخَذْتُمَا هَذَا الْمَالَ مِنْ تِلْكَ الْكُوَّةِ مِنَ الدَّارِ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ صَدَّقَاهُ فِيمَا قَالَ، وَأَتَيَا بِالْمَالِ، فَعَظُمَ عِيسَى فِي أَعْيُنِ النَّاسِ وَهُوَ صَغِيرٌ جِدًّا.
وَمِنْ ذَلِكَ، أَنَّ ابْنَ الدِّهْقَانِ عَمِلَ ضِيَافَةً لِلنَّاسِ بِسَبَبِ طُهُورِ أَوْلَادِهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ وَأَطْعَمَهُمْ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْقِيَهُمْ شَرَابًا، يَعْنِي خَمْرًا، كَمَا

كَانُوا يَصْنَعُونَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، لَمْ يَجِدْ فِي جِرَارِهِ شَيْئًا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى عِيسَى ذَلِكَ مِنْهُ قَامَ فَجَعَلَ يَمُرُّ عَلَى تِلْكَ الْجِرَارِ وَيَمُرُّ يَدَهُ عَلَى أَفْوَاهِهَا، فَلَا يَفْعَلُ بِجَرَّةٍ مِنْهَا ذَلِكَ إِلَّا امْتَلَأَتْ شَرَابًا مِنْ خِيَارِ الشَّرَابِ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا، وَعَظَّمُوهُ وَعَرَضُوا عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ مَالًا جَزِيلًا، فَلَمْ يَقْبَلَاهُ وَارْتَحَلَا قَاصِدِينَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: أَنْبَأَنَا عُثْمَانُ بْنُ السَّاجِ وَغَيْرُهُ، عَنْ مُوسَى بْنِ وَرْدَانَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَعَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَوَّلَ مَا أَطْلَقَ اللَّهُ لِسَانَهُ، بَعْدَ الْكَلَامِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَهُوَ طِفْلٌ، فَمَجَّدَ اللَّهَ تَمْجِيدًا لَمْ تَسْمَعِ الْآذَانُ بِمِثْلِهِ، لَمْ يَدَعْ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا جَبَلًا وَلَا نَهْرًا وَلَا عَيْنًا إِلَّا ذَكَرَهُ فِي تَمْجِيدِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْقَرِيبُ فِي عُلُوِّكَ، الْمُتَعَالِي فِي دُنُوِّكَ، الرَّفِيعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِكَ، أَنْتَ الَّذِي خَلَقْتَ سَبْعًا فِي الْهَوَاءِ بِكَلِمَاتِكَ، مُسْتَوِيَاتٍ طِبَاقًا، أَجَبْنَ وَهُنَّ دُخَانٌ مِنْ فَرَقِكَ، فَأَتَيْنَ طَائِعَاتٍ لِأَمْرِكَ، فِيهِنَّ مَلَائِكَتُكَ يُسَبِّحُونَ قُدْسَكَ لِتَقْدِيسِكَ، وَجَعَلْتَ فِيهِنَّ نُورًا عَلَى سَوَادِ الظَّلَامِ، وَضِيَاءً مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ، وَجَعَلْتَ فِيهِنَّ الرَّعْدَ الْمُسَبِّحَ بِالْحَمْدِ، فَبِعِزَّتِكَ تَجْلُو ضَوْءَ ظُلْمَتِكَ، وَجَعَلْتَ فِيهِنَّ مَصَابِيحَ يَهْتَدِي بِهِنَّ فِي الظُّلُمَاتِ الْحَيْرَانُ، فَتَبَارَكْتَ اللَّهُمَّ فِي مَفْطُورَ سَمَاوَاتِكَ، وَفِيمَا دَحَوْتَ مِنْ أَرْضِكَ، دَحَوْتَهَا عَلَى الْمَاءِ، فَسَمَكْتَهَا

عَلَى تَيَّارِ الْمَوْجِ الْمُتَغَامِرِ، فَأَذْلَلْتَهَا إِذْلَالَ الْمَاءِ الْمُتَطَاهِرِ، فَذَلَّ لِطَاعَتِكَ صَعْبُهَا، وَاسْتَحْيَى لِأَمْرِكَ أَمْرُهَا، وَخَضَعَتْ لِعِزَّتِكَ أَمْوَاجُهَا، فَفَجَّرْتَ فِيهَا بَعْدَ الْبُحُورِ الْأَنْهَارَ، وَمِنْ بَعْدِ الْأَنْهَارِ الْجَدَاوِلَ الصِّغَارَ، وَمِنْ بَعْدِ الْجَدَاوِلِ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ الْغِزَارَ ثُمَّ أَخْرَجْتَ مِنْهَا الْأَنْهَارَ وَالْأَشْجَارَ وَالثِّمَارَ، ثُمَّ جَعَلْتَ عَلَى ظَهْرِهَا الْجِبَالَ فَوَتَّدْتَهَا أَوْتَادًا عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ، فَأَطَاعَتْ أَطْوَادُهَا وَجُلْمُودُهَا، فَتَبَارَكْتَ اللَّهُمَّ، فَمَنْ يَبْلُغُ بِنَعْتِهِ نَعْتَكَ ؟ أَمَّنْ يَبْلُغُ بِصِفَتِهِ صِفَتَكَ ؟ تَنْشُرُ السَّحَابَ، وَتَفُكُّ الرِّقَابَ وَتَقْضِي الْحَقَّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، أَمَرْتَ أَنْ نَسْتَغْفِرَكَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، سَتَرْتَ السَّمَاوَاتِ عَنِ النَّاسِ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، إِنَّمَا يَخْشَاكَ مِنْ عِبَادِكَ الْأَكْيَاسُ، نَشْهَدُ أَنَّكَ لَسْتَ بِإِلَهٍ اسْتَحْدَثْنَاكَ، وَلَا رَبٍّ يَبِيدُ ذِكْرُهُ، وَلَا كَانَ مَعَكَ شُرَكَاءُ يَقْضُونَ مَعَكَ فَنَدْعُوَهُمْ وَنَذَرَكُ، وَلَا أَعَانَكَ عَلَى خَلْقِنَا أَحَدٌ فَنَشُكَّ فِيكَ، نَشْهَدُ أَنَّكَ أَحَدٌ صَمَدٌ، لَمْ تَلِدْ وَلَمْ تُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَكَ كُفُوًا أَحَدٌ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ وَمُقَاتِلٍ عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ بَعْدَ إِذْ كَلَّمَهُمْ طِفْلًا، حَتَّى بَلَغَ

مَا يَبْلُغُ الْغِلْمَانُ، ثُمَّ أَنْطَقَهُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْبَيَانِ، فَأَكْثَرَ الْيَهُودُ فِيهِ وَفِي أُمِّهِ مِنَ الْقَوْلِ، كَانُوا يُسَمُّونَهُ ابْنَ الْبَغِيَّةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا [ النِّسَاءِ: 156 ]. قَالَ: فَلَمَّا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ فِي الْكُتَّابِ، فَجَعَلَ لَا يُعَلِّمُهُ الْمُعَلِّمُ شَيْئًا إِلَّا بَدَرَهُ إِلَيْهِ، فَعَلَّمَهُ أَبَا جَادٍ، فَقَالَ عِيسَى: مَا أَبُو جَادٍ ؟ فَقَالَ الْمُعَلِّمُ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ عِيسَى: كَيْفَ تُعَلِّمُنِي مَا لَا تَدْرِي ؟ فَقَالَ الْمُعَلِّمُ: إِذًا فَعَلِّمْنِي. فَقَالَ لَهُ عِيسَى: فَقُمْ مِنْ مَجْلِسِكَ. فَقَامَ فَجَلَسَ عِيسَى مَجْلِسَهُ فَقَالَ: سَلْنِي. فَقَالَ الْمُعَلِّمُ: فَمَا أَبُو جَادٍ ؟ فَقَالَ عِيسَى: الْأَلِفُ آلَاءُ اللَّهِ، الْبَاءُ بَهَاءُ اللَّهِ، الْجِيمُ بَهْجَةُ اللَّهِ وَجَمَالُهُ. فَعَجِبَ الْمُعَلِّمُ مِنْ ذَلِكَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ فَسَّرَ أَبَا جَادٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ عُثْمَانَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ عَلَى كُلِّ كَلِمَةٍ كَلَّمَهُ، بِحَدِيثٍ طَوِيلٍ مَوْضُوعٍ، لَا يُشَكُّ فِيهِ وَلَا يُتَمَارَى.
وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ مُلَيْكَةَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، رَفَعَ الْحَدِيثَ فِي دُخُولِ عِيسَى إِلَى الْكُتَّابِ وَتَعْلِيمِهِ الْمُعَلِّمَ مَعْنَى حُرُوفِ أَبِي جَادٍ، وَهُوَ مُطَوَّلٌ لَا يُفْرَحُ بِهِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ وَهَذَا الْحَدِيثُ بَاطِلٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، لَا يَرْوِيهِ غَيْرُ إِسْمَاعِيلَ.
وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ

عَمْرٍو يَقُولُ: كَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَهُوَ غُلَامٌ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَكَانَ يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ: تُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكَ مَا خَبَّأَتْ لَكَ أُمُّكَ ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: خَبَّأَتْ لَكَ كَذَا وَكَذَا. فَيَذْهَبُ الْغُلَامُ مِنْهُمْ إِلَى أُمِّهِ فَيَقُولُ لَهَا: أَطْعِمِينِي مَا خَبَّأْتِ لِي. فَتَقُولُ: وَأَيُّ شَيْءٍ خَبَّأْتُ لَكَ ؟ فَيَقُولُ: كَذَا وَكَذَا. فَتَقُولُ لَهُ: مَنْ أَخْبَرَكَ ؟ فَيَقُولُ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ تَرَكْتُمْ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَانَ مَعَ ابْنِ مَرْيَمَ لَيُفْسِدَنَّهُمْ. فَجَمَعُوهُمْ فِي بَيْتٍ وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ عِيسَى يَلْتَمِسُهُمْ فَلَمْ يَجِدْهُمْ، فَسَمِعَ ضَوْضَاءَهُمْ فِي بَيْتٍ، فَسَأَلَ عَنْهُمْ، فَقَالُوا: إِنَّمَا هَؤُلَاءِ قِرَدَةٌ وَخَنَازِيرُ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ كَذَلِكَ. فَكَانُوا كَذَلِكَ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ وَمُقَاتِلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَكَانَ عِيسَى يَرَى الْعَجَائِبَ فِي صِبَاهُ إِلْهَامًا مِنَ اللَّهِ، فَفَشَا ذَلِكَ فِي الْيَهُودِ، وَتَرَعْرَعَ عِيسَى فَهَمَّتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَخَافَتْ أُمُّهُ عَلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أُمِّهِ أَنْ تَنْطَلِقَ بِهِ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ ; فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [ الْمُؤْمِنُونَ: 50 ].
وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الرَّبْوَةِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ صِفَتِهَا أَنَّهَا ذَاتُ قَرَارٍ وَمَعِينٍ، وَهَذِهِ صِفَةٌ غَرِيبَةُ الشَّكْلِ ; وَهِيَ أَنَّهَا رَبْوَةٌ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ، الَّذِي أَعْلَاهُ مُسْتَوٍ يُقَرُّ عَلَيْهِ، فَمَعَ ارْتِفَاعِهِ، مُتَّسِعٌ،

وَمَعَ عُلُوِّهِ، فِيهِ عَيْنٌ مِنَ الْمَاءِ مَعِينٌ ; وَهُوَ الْجَارِي السَّارِحُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمَكَانُ الَّذِي وَلَدَتْ فِيهِ الْمَسِيحَ. وَهُوَ مَحِلَّةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلِهَذَا فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ، فِي قَوْلِ جُمْهُورِ السَّلَفِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، أَنَّهَا أَنْهَارُ دِمَشْقَ. فَلَعَلَّهُ أَرَادَ تَشْبِيهَ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِأَنْهَارِ دِمَشْقَ. وَقِيلَ: ذَلِكَ بِمِصْرَ. كَمَا زَعَمَهُ مَنْ زَعَمَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ تَلَقَّاهُ عَنْهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: هِيَ الرَّمْلَةُ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: قَالَ لَنَا إِدْرِيسُ، عَنْ جَدِّهِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: إِنَّ عِيسَى لَمَّا بَلَغَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ إِلَى بَيْتِ إِيلِيَا. قَالَ: فَقَدِمَ عَلَيْهِ يُوسُفُ ابْنُ خَالِ أُمِّهِ، فَحَمَلَهُمَا عَلَى حِمَارٍ، حَتَّى جَاءَ بِهِمَا إِلَى إِيلِيَا وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُ الْإِنْجِيلَ، وَعَلَّمَهُ التَّوْرَاةَ، وَأَعْطَاهُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءَ الْأَسْقَامِ، وَالْعِلْمَ بِالْغُيُوبِ مِمَّا يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ، وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِقُدُومِهِ، وَفَزِعُوا لِمَا كَانَ يَأْتِي مِنَ الْعَجَائِبِ، فَجَعَلُوا يَعْجَبُونَ مِنْهُ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ فَفَشَا فِيهِمْ أَمْرُهُ.

بَيَانُ نُزُولِ الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ وَمَوَاقِيتِهَا
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ قَالَ: أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى فِي سِتِّ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَنَزَلَ الزَّبُورُ عَلَى دَاوُدَ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ بَعْدَ التَّوْرَاةِ بِأَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ وَاثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَأُنْزِلَ الْإِنْجِيلُ عَلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي ثَمَانِي عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، بَعْدَ الزَّبُورِ بِأَلْفِ عَامٍ وَخَمْسِينَ عَامًا، وَأُنْزِلَ الْفَرْقَانُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " التَّفْسِيرِ " عِنْدَ قَوْلِهِ: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ، وَفِيهَا أَنَّ الْإِنْجِيلَ أُنْزِلَ عَلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي ثَمَانِي عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي " تَارِيخِهِ " أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَمَكَثَ حَتَّى رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: وَأَنْبَأْنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، وَمُقَاتِلٌ،

عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ آدَمَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ: يَا عِيسَى جِدَّ فِي أَمْرِي وَلَا تَهِنْ، وَاسْمَعْ وَأَطِعْ يَا ابْنَ الطَّاهِرَةِ الْبِكْرِ الْبَتُولِ، إِنَّكَ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ وَأَنَا خَلَقْتُكَ آيَةً لِلْعَالَمِينَ، إِيَّايَ فَاعْبُدْ وَعَلَيَّ فَتَوَكَّلْ، خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ، فَسِّرْ لِأَهْلِ السُّرْيَانِيَّةِ، بَلِّغْ مَنْ بَيْنَ يَدَيْكَ أَنِّي أَنَا الْحَيُّ الْقَائِمُ الَّذِي لَا أَزُولُ، صَدِّقُوا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الْعَرَبِيَّ، صَاحِبَ الْجَمَلِ وَالتَّاجِ - وَهِيَ الْعِمَامَةُ - وَالْمِدْرَعَةِ وَالنَّعْلَيْنِ وَالْهِرَاوَةِ - وَهِيَ الْقَضِيبُ - الْأَنْجَلَ الْعَيْنَيْنِ، الصَّلْتَ الْجَبِينِ، الْوَاضِحَ الْخَدَّيْنِ، الْجَعْدَ الرَّأْسِ، الْكَثَّ اللِّحْيَةِ، الْمَقْرُونَ الْحَاجِبَيْنِ، الْأَقْنَى الْأَنْفِ، الْمُفَلَّجَ الثَّنَايَا، الْبَادِيَ الْعَنْفَقَةِ، الَّذِي كَأَنَّ عُنُقَهُ إِبْرِيقُ فِضَّةٍ، وَكَأَنَّ الذَّهَبَ يَجْرِي فِي تَرَاقِيهِ، لَهُ شَعَرَاتٌ مِنْ لَبَّتِهِ إِلَى سُرَّتِهِ تَجْرِي كَالْقَضِيبِ، لَيْسَ عَلَى بَطْنِهِ وَلَا عَلَى صَدْرِهِ شَعْرٌ غَيْرُهُ، شَثْنَ الْكَفِّ وَالْقَدَمِ، إِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ جَمِيعًا، وَإِذَا مَشَى كَأَنَّمَا يَتَقَلَّعُ مِنْ صَخْرٍ وَيَنْحَدِرُ مِنْ صَبَبٍ، عَرَقُهُ فِي وَجْهِهِ كَاللُّؤْلُؤِ، وَرِيحُ الْمِسْكِ يَنْفَحُ مِنْهُ، لَمْ يُرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلُهُ، الْحَسَنَ الْقَامَةِ، الطَّيِّبَ الرِّيحِ، نَكَّاحَ النِّسَاءِ، ذَا النَّسْلِ الْقَلِيلِ، إِنَّمَا نَسْلُهُ مِنْ مُبَارَكَةٍ لَهَا بَيْتٌ - يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ - مِنْ قَصَبٍ، لَا نَصَبَ فِيهِ وَلَا صَخَبَ، تُكَفِّلُهُ - يَا عِيسَى - فِي آخِرِ الزَّمَانِ كَمَا كَفَّلَ زَكَرِيَّا أُمَّكَ، لَهُ مِنْهَا فَرْخَانِ مُسْتَشْهَدَانِ، وَلَهُ عِنْدِي مَنْزِلَةٌ لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ، كَلَامُهُ الْقُرْآنُ، وَدِينُهُ الْإِسْلَامُ، وَأَنَا السَّلَامُ، طُوبَى لِمَنْ أَدْرَكَ زَمَانَهُ، وَشَهِدَ أَيَّامَهُ، وَسَمِعَ كَلَامَهُ.

بَيَانُ شَجَرَةِ طُوبَى مَا هِيَ
قَالَ عِيسَى: يَا رَبِّ، وَمَا طُوبَى ؟ قَالَ: غَرْسُ شَجَرَةٍ أَنَا غَرَسْتُهَا بِيَدِي فَهِيَ لِلْجِنَانِ كُلِّهَا، أَصْلُهَا مِنْ رِضْوَانٍ، وَمَاؤُهَا مِنْ تَسْنِيمٍ، وَبَرْدُهَا بَرْدُ الْكَافُورِ، وَطَعْمُهَا طَعْمُ الزَّنْجَبِيلِ، وَرِيحُهَا رِيحُ الْمِسْكِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا. قَالَ عِيسَى: يَا رَبِّ، اسْقِنِي مِنْهَا. قَالَ: حَرَامٌ عَلَى النَّبِيِّينَ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهَا، حَتَّى يَشْرَبَ ذَلِكَ النَّبِيُّ، وَحَرَامٌ عَلَى الْأُمَمِ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهَا، حَتَّى تَشْرَبَ مِنْهَا أُمَّةُ ذَلِكَ النَّبِيِّ. قَالَ: يَا عِيسَى، أَرْفَعُكَ إِلَيَّ. قَالَ: يَا رَبِّ، وَلِمَ تَرْفَعُنِي ؟ قَالَ: أَرْفَعُكَ ثُمَّ أُهْبِطُكَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ ; لِتَرَى مِنْ أُمَّةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ الْعَجَائِبَ، وَلِتُعِينَهُمْ عَلَى قِتَالِ اللَّعِينِ الدَّجَّالِ، أُهْبِطُكَ فِي وَقْتِ صَلَاةٍ، ثُمَّ لَا تُصَلِّي بِهِمْ ; لِأَنَّهَا أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، وَلَا نَبِيَّ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عِيسَى قَالَ: يَا رَبِّ، أَنْبِئْنِي عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ. قَالَ: أُمَّةُ أَحْمَدَ، هَمْ عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ كَأَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ، يَرْضَوْنَ مِنِّي بِالْقَلِيلِ مِنَ الْعَطَاءِ، وَأَرْضَى مِنْهُمْ بِالْيَسِيرِ مِنَ الْعَمَلِ، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَا عِيسَى، هُمْ أَكْثَرُ سُكَّانِ الْجَنَّةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ تَذِلَّ أَلْسُنُ قَوْمٍ قَطُّ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَمَا ذَلَّتْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَلَمْ تَذِلَّ رِقَابُ قَوْمٍ قَطُّ بِالسُّجُودِ كَمَا ذَلَّتْ بِهِ رِقَابُهُمْ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.

وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ بَدِيلٍ الْعُقَيْلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْسَجَةَ، قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ: أَنْزِلْنِي مِنْ نَفْسِكَ كَهَمِّكَ، وَاجْعَلْنِي ذُخْرًا لَكَ فِي مَعَادِكَ، وَتَقَرَّبْ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ أُحِبَّكَ، وَلَا تَوَلَّ غَيْرِي فَأَخْذُلَكَ، اصْبِرْ عَلَى الْبَلَاءِ، وَارْضَ بِالْقَضَاءِ، وَكُنْ لِمَسَرَّتِي فِيكَ، فَإِنَّ مَسَرَّتِي أَنْ أُطَاعَ فَلَا أُعْصَى، وَكُنْ مِنِّي قَرِيبًا، وَأَحْيِ ذِكْرِي بِلِسَانِكَ، وَلْتَكُنْ مَوَدَّتِي فِي صَدْرِكَ، تَيَقَّظْ مِنْ سَاعَاتِ الْغَفْلَةِ، وَاحْكُمْ لِي لَطِيفَ الْفِطْنَةِ، وَكُنْ لِي رَاغِبًا رَاهِبًا، وَأَمِتْ قَلْبَكَ مِنَ الْخَشْيَةِ لِي، وَرَاعِ اللَّيْلَ لِحَقِّ مَسَرَّتِي، وَأَظْمِ نَهَارَكَ لِيَوْمِ الرَّيِّ عِنْدِي، نَافِسْ فِي الْخَيْرَاتِ جَهْدَكَ وَأَعْرِفْ بِالْخَيْرِ حَيْثُ تَوَجَّهْتَ وَقُمْ فِي الْخَلَائِقِ بِنَصِيحَتِي، وَاحْكُمْ فِي عِبَادِي بِعَدْلِي، فَقَدْ أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ شِفَاءَ وَسَاوِسِ الصُّدُورِ مِنْ مَرَضِ النِّسْيَانِ، وَجِلَاءَ الْأَبْصَارِ مِنْ غِشَاءِ الْكَلَالِ، وَلَا تَكُنْ حَلِسًا كَأَنَّكَ مَقْبُوضٌ وَأَنْتَ حَيٌّ تَنَفَّسُ، يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، مَا آمَنَتْ بِي خَلِيقَةٌ إِلَّا خَشَعَتْ، وَلَا خَشَعَتْ لِي إِلَّا رَجَتْ ثَوَابِي، فَأُشْهِدُكَ أَنَّهَا آمِنَةٌ مِنْ عِقَابِي، مَا لَمْ تُغَيِّرْ أَوْ تُبَدِّلْ سُنَّتِي، يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبِكْرِ الْبَتُولِ، ابْكِ عَلَى نَفْسِكَ أَيَّامَ الْحَيَاةِ بُكَاءَ مَنْ وَدَّعَ الْأَهْلَ وَقَلَا الدُّنْيَا، وَتَرَكَ اللَّذَّاتِ لِأَهْلِهَا، وَارْتَفَعَتْ رَغْبَتُهُ فِيمَا عِنْدَ إِلَهِهِ، وَكُنْ فِي ذَلِكَ تُلِينُ الْكَلَامَ، وَتُفْشِي السَّلَامَ، وَكُنْ يَقِظَانَ إِذَا نَامَتْ عُيُونُ الْأَبْرَارِ، حَذَارِ مَا هُوَ آتٍ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ، وَزَلَازِلِ شَدَائِدِ الْأَهْوَالِ، قَبْلَ أَنْ لَا يَنْفَعَ أَهْلٌ وَلَا مَالٌ، وَاكْحَلْ عَيْنَكَ بِمُلْمُولِ الْحُزْنِ

إِذَا ضَحِكَ الْبَطَّالُونَ، وَكُنْ فِي ذَلِكَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، فَطُوبَى لَكَ إِنْ نَالَكَ مَا وَعَدْتُ الصَّابِرِينَ، رَجِّ مِنَ الدُّنْيَا بِاللَّهِ: يَوْمٌ بِيَوْمٍ، وَذُقْ مَذَاقَةَ مَا قَدْ هَرَبَ مِنْكَ أَيْنَ طَعْمُهُ، وَمَا لَمْ يَأْتِكَ كَيْفَ لَذَّتُهُ، فَرَجِّ مِنَ الدُّنْيَا بِالْبُلْغَةِ، وَلْيَكْفِكَ مِنْهَا الْخَشِنُ الْجَشِيبُ، قَدْ رَأَيْتَ إِلَى مَا تَصِيرُ، اعْمَلْ عَلَى حِسَابٍ فَإِنَّكَ مَسْئُولٌ، لَوْ رَأَتْ عَيْنُكَ مَا أَعْدَدْتُ لِأَوْلِيَائِي الصَّالِحِينَ، ذَابَ قَلْبُكَ وَزَهَقَتْ نَفْسُكَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ " الْقَدَرِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَعَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَقِيَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إِبْلِيسَ، فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَكَ إِلَّا مَا كُتِبَ لَكَ ؟ قَالَ إِبْلِيسُ: فَارْقَ بِذِرْوَةِ هَذَا الْجَبَلِ، فَتَرَدَّ مِنْهُ فَانْظُرْ تَعِيشُ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ: فَقَالَ عِيسَى: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: لَا يُجَرِّبُنِي عَبْدِي، فَإِنِّي أَفْعَلُ مَا شِئْتُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَبْتَلِي رَبَّهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي عَبْدَهُ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: أَتَى الشَّيْطَانُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَقَالَ: أَلَيْسَ تَزْعُمُ أَنَّكَ صَادِقٌ ؟ فَأْتِ هَذِهِ فَأَلْقِ نَفْسَكَ. قَالَ: وَيْلَكَ! أَلَيْسَ قَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ، لَا تَسْأَلْنِي هَلَاكَ نَفْسِكَ، فَإِنِّي أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ.

وَحَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ طَلْحَةَ، سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ، قَالَ: تَعَبَّدَ الشَّيْطَانُ مَعَ عِيسَى عَشْرَ سِنِينَ أَوْ سَنَتَيْنِ، أَقَامَ يَوْمًا عَلَى شَفِيرِ جَبَلٍ، فَقَالَ الشَّيْطَانُ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَلْقَيْتُ نَفْسِي، هَلْ يُصِيبُنِي إِلَّا مَا كُتِبَ لِي ؟ قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِالَّذِي أَبْتَلِي رَبِّي وَلَكِنَّ رَبِّي إِذَا شَاءَ ابْتَلَانِي. وَعَرَفَ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ، فَفَارَقَهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، عَنِ الْخَطَّابِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: كَانَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يُصَلِّي عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ فَأَتَاهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَلْقِ نَفْسَكَ مِنْ هَذَا الْجَبَلِ وَقُلْ: قَدَرٌ عَلَيَّ. فَقَالَ: يَا لِعَيْنُ، اللَّهُ يَخْتَبِرُ الْعِبَادَ، وَلَيْسَ الْعِبَادُ يَخْتَبِرُونَ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: لَقِيَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إِبْلِيسُ، فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، أَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ. قَالَ: بَلِ الرُّبُوبِيَّةُ لِلْإِلَهِ الَّذِي أَنْطَقَنِي، ثُمَّ يُمِيتُنِي، ثُمَّ يُحْيِينِي. قَالَ: فَأَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تُحْيِي الْمَوْتَى. قَالَ: بَلِ الرُّبُوبِيَّةُ لِلَّهِ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ مَنْ أَحْيَيْتُ ثُمَّ يُحْيِيهِ. قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ

لَإِلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الْأَرْضِ. قَالَ: فَصَكَّهُ جِبْرِيلُ صَكَّةً بِجَنَاحِهِ فَمَا تَنَاهَى دُونَ قُرُونِ الشَّمْسِ، ثُمَّ صَكَّهُ أُخْرَى بِجَنَاحِهِ فَمَا تَنَاهَى دُونَ الْعَيْنِ الْحَامِيَةِ، ثُمَّ صَكَّهُ أُخْرَى فَأَدْخَلَهُ بِحَارَ السَّابِعَةِ فَأَسَاخَهُ - وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَسْلَكَهُ - فِيهَا حَتَّى وَجَدَ طَعْمَ الْحَمْأَةِ، فَخَرَجَ مِنْهَا وَهُوَ يَقُولُ: مَا لَقِيَ أَحَدٌ مِنْ أَحَدٍ مَا لَقِيتُ مِنْكَ يَا ابْنَ مَرْيَمَ.
وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا بِأَبْسَطَ مِنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ; فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ رَزْقَوَيْهِ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ سِنْدِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى الْعَطَّارُ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ سُوَيْدٌ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، قَالَ: صَلَّى عِيسَى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَانْصَرَفَ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الْعَقَبَةِ، عَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ فَاحْتَبَسَهُ، فَجَعَلَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ وَيُكَلِّمُهُ وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا. فَأَكْثَرَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ عِيسَى يَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهُ، فَجَعَلَ لَا يَتَخَلَّصُ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ فِيمَا يَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لَكَ يَا عِيسَى أَنْ تَكُونَ عَبْدًا. قَالَ: فَاسْتَغَاثَ عِيسَى بِرَبِّهِ، فَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، فَلَمَّا رَآهُمَا إِبْلِيسُ كَفَّ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّا مَعَهُ عَلَى الْعَقَبَةِ، اكْتَنَفَا عِيسَى، وَضَرَبَ جِبْرِيلُ إِبْلِيسَ بِجَنَاحِهِ، فَقَذَفَهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي. قَالَ: فَعَادَ إِبْلِيسُ مَعَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُمَا لَمْ يُؤْمَرَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَالَ لِعِيسَى: قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَبْدًا، إِنَّ غَضَبَكَ لَيْسَ

بِغَضَبِ عَبْدٍ، وَقَدْ رَأَيْتَ مَا لَقِيتُ مِنْكَ حِينَ غَضِبْتَ، وَلَكِنْ أَدْعُوكَ إِلَى أَمْرٍ هُوَ لَكَ ; آمُرُ الشَّيَاطِينَ فَلْيُطِيعُوكَ، فَإِذَا رَأَى الْبَشَرُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ أَطَاعُوكَ، عَبَدُوكَ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ أَنْ تَكُونَ إِلَهًا لَيْسَ مَعَهُ إِلَهٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَكُونُ إِلَهًا فِي السَّمَاءِ، وَتَكُونُ أَنْتَ إِلَهًا فِي الْأَرْضِ. فَلَمَّا سَمِعَ عِيسَى ذَلِكَ مِنْهُ، اسْتَغَاثَ بِرَبِّهِ وَصَرَخَ صَرْخَةً شَدِيدَةً، فَإِذَا إِسْرَافِيلُ قَدْ هَبَطَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، فَكَفَّ إِبْلِيسُ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ مَعَهُمْ ضَرَبَ إِسْرَافِيلُ إِبْلِيسَ بِجَنَاحِهِ، فَصَكَّ بِهِ عَيْنَ الشَّمْسِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَأَقْبَلَ إِبْلِيسُ يَهْوِي، وَمَرَّ بِعِيسَى وَهُوَ بِمَكَانِهِ، فَقَالَ: يَا عِيسَى، لَقَدْ لَقِيتُ فِيكَ الْيَوْمَ تَعَبًا شَدِيدًا. فَرَمَى بِهِ فِي عَيْنِ الشَّمْسِ، فَوَجَدَ سَبْعَةَ أَمْلَاكٍ عِنْدَ الْعَيْنِ الْحَامِيَةِ. قَالَ: فَغَطُّوهُ، فَجَعَلَ كُلَّمَا خَرَجَ غَطُّوهُ فِي تِلْكَ الْحَمْأَةِ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا عَادَ إِلَيْهِ بَعْدُ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ شَيَاطِينُهُ، فَقَالُوا: سَيِّدُنَا، قَدْ لَقِيتَ تَعَبًا. قَالَ: إِنَّ هَذَا عَبْدٌ مَعْصُومٌ، لَيْسَ لِي عَلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ، وَسَأُضِلُّ بِهِ بَشَرًا كَثِيرًا، وَأَبُثُّ فِيهِمْ أَهْوَاءً مُخْتَلِفَةً، وَأَجْعَلُهُمْ شِيَعًا، وَيَجْعَلُونَهُ وَأُمَّهُ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ. قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيمَا أَيَّدَ بِهِ عِيسَى وَعَصَمَهُ مِنْ إِبْلِيسَ قُرْآنًا نَاطِقًا بِذِكْرِ نِعْمَتِهِ عَلَى عِيسَى، فَقَالَ: يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ يَعْنِي: إِذْ قَوَّيْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ 72، يَعْنِي جِبْرِيلَ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ

يَعْنِي الْإِنْجِيلَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ [ الْمَائِدَةِ: 110 ]. وَإِذْ جَعَلْتُ الْمَسَاكِينَ لَكَ بِطَانَةً وَصَحَابَةً وَأَعْوَانًا تَرْضَى بِهِمْ، وَصَحَابَةً وَأَعْوَانًا يَرْضَوْنَ بِكَ هَادِيًا وَقَائِدًا إِلَى الْجَنَّةِ، فَذَلِكَ - فَاعْلَمْ - خُلُقَانِ عَظِيمَانِ، مَنْ لَقِيَنِي بِهِمَا فَقَدْ لَقِيَنِي بِأَزْكَى الْخَلَائِقِ وَأَرْضَاهَا عِنْدِي، وَسَيَقُولُ لَكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ: صُمْنَا فَلَمْ يَتَقَبَّلْ صِيَامَنَا، وَصَلَّيْنَا فَلَمْ يَقْبَلْ صَلَاتَنَا، وَتَصَدَّقْنَا فَلَمْ يَقْبَلْ صَدَقَاتِنَا، وَبَكَيْنَا بِمِثْلِ حَنِينِ الْجِمَالِ فَلَمْ يَرْحَمْ بُكَاءَنَا. فَقُلْ لَهُمْ: وَلَمَّ ذَلِكَ ؟ وَمَا الَّذِي يَمْنَعُنِي، أَنَّ ذَاتَ يَدِي قَلَّتْ ؟! أَوَلَيِسَ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِيَدِي أُنْفِقَ مِنْهَا كَيْفَ أَشَاءُ، أَوْ أَنَّ الْبُخْلَ يَعْتَرِينِي ؟ أَوَلَسْتُ أَجْوَدَ مَنْ سُئِلَ وَأَوْسَعَ مَنْ أَعْطَى ؟ أَوْ أَنَّ رَحْمَتِي ضَاقَتْ ؟ وَإِنَّمَا يَتَرَاحَمُ الْمُتَرَاحِمُونَ بِفَضْلِ رَحْمَتِي، وَلَوْلَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ، يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، عَدُّوا أَنْفُسَهُمْ بِالْحِكْمَةِ الَّتِي تُورِثُ فِي قُلُوبِهِمْ مَا اسْتَأْثَرُوا بِهِ الدُّنْيَا أَثَرَةً عَلَى الْآخِرَةِ، لَعَرَفُوا مِنْ أَيْنَ أُتُوا، وَإِذًا لَأَيْقَنُوا أَنَّ أَنْفُسَهُمْ هِيَ أَعْدَى الْأَعْدَاءِ لَهُمْ، وَكَيْفَ أَقْبَلُ صِيَامَهُمْ وَهُمْ يَتَقَوَّوْنَ عَلَيْهِ بِالْأَطْعِمَةِ الْحَرَامِ ؟! وَكَيْفَ أَقْبَلُ صَلَاتَهُمْ وَقُلُوبُهُمْ تَرْكَنُ إِلَى الَّذِينَ يُحَارِبُونِي وَيَسْتَحِلُّونَ مَحَارِمِي ؟! وَكَيْفَ أَقْبَلُ صَدَقَاتِهِمْ وَهُمْ يَغْصِبُونَ النَّاسَ عَلَيْهَا، فَيَأْخُذُونَهَا مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا ؟! يَا عِيسَى، إِنَّمَا أَجْزِي عَلَيْهَا أَهْلَهَا، وَكَيْفَ أَرْحَمُ بُكَاءَهُمْ وَأَيْدِيهِمْ تَقْطُرُ مِنْ دِمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، ازْدَدْتُ عَلَيْهِمْ غَضَبًا، يَا عِيسَى، وَقَضَيْتُ يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنَّهُ مَنْ عَبَدَنِي وَقَالَ فِيكُمَا بِقَوْلِي، أَنْ أَجْعَلَهُمْ جِيرَانَكَ فِي الدَّارِ، وَرُفَقَاءَكَ فِي الْمَنَازِلِ، وَشُرَكَاءَكَ فِي الْكَرَامَةِ،

وَقَضَيْتُ يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أَنَّهُ مَنِ اتَّخَذَكَ وَأُمَّكَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْ أَجْعَلَهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَقَضَيْتُ يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أَنِّي مُثَبِّتٌ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى يَدَيْ عَبْدِي مُحَمَّدٍ وَأَخْتِمُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ، وَمَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وَمُهَاجَرُهُ بِطَيْبَةَ، وَمُلْكُهُ بِالشَّامِ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا مُتَزَيِّنٌ بِالْفُحْشِ، وَلَا قَوَّالٍ بِالْخَنَا، أُسَدِّدُهُ لِكُلِّ أَمْرٍ جَمِيلٍ، وَأَهَبُّ لَهُ كُلَّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، أَجْعَلُ التَّقْوَى ضَمِيرَهُ، وَالْحِكْمَةَ مَعْقُولَهُ، وَالْوَفَاءَ طَبِيعَتَهُ، وَالْعَدْلَ سِيرَتَهُ، وَالْحَقَّ شَرِيعَتَهُ، وَالْإِسْلَامَ مِلَّتَهُ، وَاسْمُهُ أَحْمَدُ، أَهْدِي بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ، وَأُعَلِّمُ بِهِ بَعْدَ الْجَهَالَةِ، وَأُغْنِي بِهِ بَعْدَ الْعَائِلَةِ، وَأَرْفَعُ بِهِ بَعْدَ الضَّعَةِ، أَهْدِي بِهِ، وَأَفْتَحُ بِهِ بَيْنَ آذَانٍ صُمٍّ، وَقُلُوبٍ غُلْفٍ، وَأَهْوَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، أَجْعَلُ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ; إِخْلَاصًا لِاسْمِي وَتَصْدِيقًا لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، أُلْهِمُهُمُ التَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّقْدِيسَ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ وَمُنْقَلَبِهِمْ وَمَثْوَاهُمْ، يُصَلُّونَ لِي قِيَامًا وَقُعُودًا وَرُكَّعًا وَسُجَّدًا، وَيُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِي صُفُوفًا وَزُحُوفًا، قُرْبَانُهُمْ دِمَاؤُهُمْ، وَأَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ، وَقُرْبَانُهُمْ فِي بُطُونِهِمْ، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ، لُيُوثٌ بِالنَّهَارِ، ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ، وَأَنَا ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.

وَسَنَذْكُرُ مَا يُصَدِّقُ كَثِيرًا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، بِمَا سَنُورِدُهُ مِنْ سُورَتَيْ " الْمَائِدَةِ " وَ " الصَّفِّ "، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو حُذَيْفَةَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ بِأَسَانِيدِهِ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ - قَالُوا: لَمَّا بُعِثَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، جَعَلَ الْكَافِرُونَ وَالْمُنَافِقُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ فَيَقُولُونَ: مَا أَكَلَ فُلَانٌ الْبَارِحَةَ، وَمَا ادَّخَرَ فِي بَيْتِهِ ؟ فَيُخْبِرُهُمْ، فَيَزْدَادُ الْمُؤْمِنُونَ إِيمَانًا، وَالْكَافِرُونَ وَالْمُنَافِقُونَ شَكًّا وَكُفْرَانًا، وَكَانَ عِيسَى، مَعَ ذَلِكَ، لَيْسَ لَهُ مَنْزِلٌ يَأْوِي إِلَيْهِ، إِنَّمَا يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ لَيْسَ لَهُ قَرَارٌ وَلَا مَوْضِعٌ يُعْرَفُ بِهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا أَحْيَا مِنَ الْمَوْتَى، أَنَّهُ مَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى امْرَأَةٍ قَاعِدَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَ لَهَا: مَا لَكِ أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ ؟ فَقَالَتْ: مَاتَتِ ابْنَةٌ لِي لَمْ يَكُنْ لِي وَلَدٌ غَيْرُهَا، وَإِنِّي عَاهَدْتُ رَبِّي أَنْ لَا أَبْرَحُ مِنْ مَوْضِعِي هَذَا حَتَّى أَذُوقَ مَا ذَاقَتْ مِنَ الْمَوْتِ، أَوْ يُحْيِيَهَا اللَّهُ لِي فَأَنْظُرُ إِلَيْهَا. فَقَالَ لَهَا عِيسَى: أَرَأَيْتِ إِنْ نَظَرْتِ إِلَيْهَا أَرَاجِعَةٌ أَنْتِ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالُوا: فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ عِنْدَ الْقَبْرِ، فَنَادَى: يَا فُلَانَةُ قُومِي بِإِذْنِ الرَّحْمَنِ فَاخْرُجِي. قَالَ: فَتَحَرَّكَ الْقَبْرُ، ثُمَّ نَادَى الثَّانِيَةَ، فَانْصَدَعَ الْقَبْرُ بِإِذْنِ اللَّهِ، ثُمَّ نَادَى الثَّالِثَةَ، فَخَرَجَتْ وَهِيَ تَنْفُضُ رَأْسَهَا مِنَ التُّرَابِ، فَقَالَ لَهَا عِيسَى: مَا بَطَّأَ بِكِ عَنِّي ؟ فَقَالَتْ: لَمَّا جَاءَتْنِي الصَّيْحَةُ الْأُولَى بَعَثَ اللَّهُ لِي مَلَكًا فَرَكَّبَ خَلْقِي، ثُمَّ جَاءَتْنِي الصَّيْحَةُ الثَّانِيَةُ، فَرَجَعَ إِلَيَّ رُوحِي، ثُمَّ جَاءَتْنِي

الصَّيْحَةُ الثَّالِثَةُ، فَخِفْتُ أَنَّهَا صَيْحَةُ الْقِيَامَةِ، فَشَابَ رَأْسِي وَحَاجِبَايَ وَأَشْفَارُ عَيْنِي ; مِنْ مَخَافَةِ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَى أُمِّهَا فَقَالَتْ: يَا أُمَّتَاهُ، مَا حَمَلَكِ عَلَى أَنْ أَذُوقَ كَرْبَ الْمَوْتِ مَرَّتَيْنِ ؟ يَا أُمَّتَاهُ، اصْبِرِي وَاحْتَسِبِي، فَلَا حَاجَةَ لِي فِي الدُّنْيَا، يَا رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ، سَلْ رَبِّي أَنْ يَرُدَّنِي إِلَى الْآخِرَةِ، وَأَنْ يُهَوِّنَ عَلَيَّ كَرْبَ الْمَوْتِ. فَدَعَا رَبَّهُ فَقَبَضَهَا إِلَيْهِ، وَاسْتَوَتْ عَلَيْهَا الْأَرْضُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ، فَازْدَادُوا عَلَيْهِ غَضَبًا.
وَقَدَّمْنَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ، أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلُوهُ أَنْ يُحْيِيَ لَهُمْ سَامَ بْنَ نُوحٍ، فَدَعَا اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، وَصَلَّى لَهُ، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ لَهُمْ، فَحَدَّثَهُمْ عَنِ السَّفِينَةِ وَأَمْرِهَا، ثُمَّ دَعَا فَعَادَ تُرَابًا.
وَقَدْ رَوَى السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَأَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، وَفِيهِ أَنَّ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَاتَ وَحُمِلَ عَلَى سَرِيرِهِ، فَجَاءَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَدَعَا اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَرَأَى النَّاسُ أَمْرًا هَائِلًا وَمَنْظَرًا عَجِيبًا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [ الْمَائِدَةِ: 110، 111 ].

يُذَكِّرُهُ تَعَالَى بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ فِي خَلْقِهِ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، بَلْ مِنْ أُمٍّ بِلَا ذَكَرٍ، وَجَعْلِهِ لَهُ آيَةً لِلنَّاسِ، وَدَلَالَةً عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِرْسَالِهِ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ وَعَلَى وَالِدَتِكَ فِي اصْطِفَائِهَا وَاخْتِيَارِهَا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَإِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى بَرَاءَتِهَا مِمَّا نَسَبَهَا إِلَيْهِ الْجَاهِلُونَ ; وَلِهَذَا قَالَ: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَهُوَ جِبْرِيلُ، بِإِلْقَاءِ رُوحِهِ إِلَى أُمِّهِ، وَقَرْنِهِ مَعَهُ فِي حَالِ رِسَالَتِهِ، وَمُدَافَعَتِهِ عَنْهُ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أَيْ: تَدْعُو النَّاسَ إِلَى اللَّهِ فِي حَالِ صِغَرِكَ فِي مَهْدِكَ، وَفِي كُهُولَتِكَ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ أَيِ الْخَطَّ وَالْفَهْمَ. نَصَّ عَلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَقَوْلُهُ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي أَيْ: تُصَوِّرُهُ وَتُشَكِّلُهُ مِنَ الطِّينِ عَلَى هَيْئَتِهِ، عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي أَيْ: بِأَمْرِي. يُؤَكِّدُ تَعَالَى بِذِكْرِ الْإِذْنِ لَهُ فِي ذَلِكَ ; لِرَفْعِ التَّوَهُّمِ. وَقَوْلُهُ: وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: وَهُوَ الَّذِي يُولَدُ أَعْمَى، وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ مِنَ الْحُكَمَاءِ إِلَى مُدَاوَاتِهِ وَالْأَبْرَصَ وَهُوَ الَّذِي لَا طِبَّ فِيهِ، بَلْ قَدْ مَرِضَ بِالْبَرَصِ وَصَارَ دَاؤُهُ عُضَالًا وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى أَيْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً بِإِذْنِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ مِرَارًا مُتَعَدِّدَةً

مِمَّا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَقَوْلُهُ: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَذَلِكَ حِينَ أَرَادُوا صَلْبَهُ فَرَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَأَنْقَذَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ ; صِيَانَةً لِجَنَابِهِ الْكَرِيمِ عَنِ الْأَذَى، وَسَلَامَةً لَهُ مِنَ الرَّدَى. وَقَوْلُهُ: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْوَحْيِ وَحْيُ إِلْهَامٍ. أَيْ أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [ النَّحْلِ: 68 ]. وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [ الْقَصَصِ: 7 ]. وَقِيلَ: الْمُرَادُ وَحْيٌ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ، وَتَوْفِيقٌ فِي قُلُوبِهِمْ لِقَبُولِ الْحَقِّ ; وَلِهَذَا اسْتَجَابُوا قَائِلِينَ: آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ.
وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ; أَنْ جَعْلَ لَهُ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا يَنْصُرُونَهُ وَيَدْعُونَ مَعَهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ الْأَنْفَالِ: 62، 63 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [ آلِ عِمْرَانَ: 48 - 54 ].

كَانَتْ مُعْجِزَةُ كُلِّ نَبِيٍّ فِي زَمَانِهِ بِمَا يُنَاسِبُ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ ; فَذَكَرُوا أَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ مِمَّا يُنَاسِبُ أَهْلَ زَمَانِهِ، فَكَانُوا سَحَرَةً أَذْكِيَاءَ، فَبُعِثَ بِآيَاتٍ بَهَرَتِ الْأَبْصَارَ، وَخَضَعَتْ لَهَا الرِّقَابُ، وَلَمَّا كَانَ السَّحَرَةُ خَبِيرِينَ بِفُنُونِ السِّحْرِ وَمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَعَايَنُوا مَا عَايَنُوا مِنَ الْأَمْرِ الْبَاهِرِ الْهَائِلِ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ صُدُورُهُ إِلَّا مِمَّنْ أَيَّدَهُ اللَّهُ وَأَجْرَى الْخَارِقَ عَلَى يَدَيْهِ تَصْدِيقًا لَهُ، أَسْلَمُوا سِرَاعًا، وَلَمْ يَتَلَعْثَمُوا، وَهَكَذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، بُعِثَ فِي زَمَنِ الطَّبَائِعِيَّةِ الْحُكَمَاءِ، فَأُرْسِلَ بِمُعْجِزَاتٍ لَا يَسْتَطِيعُونَهَا وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهَا، وَأَنَّى لِحَكِيمٍ إِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ، الَّذِي هُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْأَعْمَى وَالْأَبْرَصِ وَالْمَجْذُومِ، وَمَنْ بِهِ مَرَضٌ مُزْمِنٌ، وَكَيْفَ يَتَوَصَّلُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَ الْمَيِّتَ مِنْ قَبْرِهِ، هَذَا مِمَّا يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ قَامَتْ بِهِ، وَعَلَى قُدْرَةِ مَنْ أَرْسَلَهُ، وَهَكَذَا مُحَمَّدٌ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، بُعِثَ فِي زَمَنِ

الْفُصَحَاءِ الْبُلَغَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، فَلَفْظُهُ مُعْجِزٌ تَحَدَّى بِهِ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ أَوْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ مَثَلِهِ، أَوْ بِسُورَةٍ، وَقَطَعَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ، لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الِاسْتِقْبَالِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا وَلَنْ يَفْعَلُوا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُ كَلَامُ الْخَالِقِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ، اسْتَمَرَّ أَكْثَرُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ، فَانْتَدَبَ لَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ طَائِفَةً صَالِحَةً، فَكَانُوا لَهُ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا، قَامُوا بِمُتَابَعَتِهِ وَنُصْرَتِهِ وَمُنَاصَحَتِهِ، وَذَلِكَ حِينَ هَمَّ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَوَشَوْا بِهِ إِلَى بَعْضِ مُلُوكِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَعَزَمُوا عَلَى قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ، فَأَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَرَفَعَهُ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَأَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى أَحَدِ أَصْحَابِهِ، فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَهُ عِيسَى، وَهْمُ فِي ذَلِكَ غَالِطُونَ، وَلِلْحَقِّ مُكَابِرُونَ، وَسَلَّمَ لَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ النَّصَارَى مَا ادَّعَوْهُ، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِكَ مُخْطِئُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [ الصَّفِّ: 6 - 9 ].

إِلَى أَنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [ الصَّفِّ: 14 ]. فَعِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، هُوَ خَاتَمُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ قَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَبَشَّرَهُمْ بِخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ الْآتِي بَعْدَهُ، وَنَوَّهَ بِاسْمِهِ، وَذَكَرَ لَهُمْ صِفَتَهُ لِيَعْرِفُوهُ وَيُتَابِعُوهُ إِذَا شَاهَدُوهُ ; إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانًا مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ الْأَعْرَافِ: 157 ].
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ. قَالَ:

دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُ هَذَا، وَفِيهِ: دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا بَنَى الْكَعْبَةَ قَالَ: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [ الْبَقَرَةِ: 129 ]. الْآيَةَ. وَلَمَّا انْتَهَتِ النُّبُوَّةُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى عِيسَى، قَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ النُّبُوَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهُمْ، وَأَنَّهَا بَعْدَهُ فِي النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ، خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَحْمَدَ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، الَّذِي هُوَ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ يُحْتَمَلُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُحْتَمَلُ عُودُهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ حَرَّضَ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَنُصْرَةِ نَبِيِّهِ وَمُؤَازَرَتِهِ وَمُعَاوَنَتِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وَنَشْرِ الدَّعْوَةِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ أَيْ: مَنْ يُسَاعِدُنِي فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: النَّاصِرَةُ. فَسُمُّوا النَّصَارَى بِذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ يَعْنِي، لَمَّا دَعَا عِيسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ،

فَكَانَ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ أَهْلُ أَنْطَاكِيَةَ بِكَمَالِهِمْ، فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ وَالتَّفْسِيرِ، بَعَثَ إِلَيْهِمْ رُسُلًا ثَلَاثَةً، أَحَدُهُمْ شَمْعُونُ الصَّفَا، فَآمَنُوا وَاسْتَجَابُوا، وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمَذْكُورِينَ فِي سُورَةِ " يس " لِمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ، وَكَفَرَ آخَرُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهْمُ جُمْهُورُ الْيَهُودِ، فَأَيَّدَ اللَّهُ مَنْ آمَنَ بِهِ عَلَى مَنْ كَفَرَ فِيمَا بَعْدُ، وَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ عَلَيْهِمْ قَاهِرِينَ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [ آلِ عِمْرَانَ: 55 ]. الْآيَةَ. فَكُلُّ مَنْ كَانَ إِلَيْهِ أَقْرَبَ، كَانَ غَالِبًا لِمَنْ دُونَهُ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ هُوَ الْحَقَّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، مِنْ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، كَانُوا ظَاهِرِينَ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ غَلَوْا فِيهِ وَأَطْرَوْهُ، وَأَنْزَلُوهُ فَوْقَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ النَّصَارَى أَقْرَبَ فِي الْجُمْلَةِ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْيَهُودُ فِيهِ، عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ، كَانَ النَّصَارَى قَاهِرِينَ لِلْيَهُودِ فِي أَزْمَانِ الْفَتْرَةِ إِلَى زَمَنِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ذِكْرُ خَبَرِ الْمَائِدَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [ الْمَائِدَةِ: 112 - 115 ]. قَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ الْآثَارَ الْوَارِدَةَ فِي نُزُولِ الْمَائِدَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ، وَمَضْمُونُ ذَلِكَ، أَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمَرَ الْحَوَارِيِّينَ بِصِيَامِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا أَتَمُّوهَا سَأَلُوا مِنْ عِيسَى إِنْزَالَ مَائِدَةٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ لِيَأْكُلُوا مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ بِذَلِكَ قُلُوبُهُمْ، أَنَّ اللَّهَ قَدْ تَقَبَّلَ صِيَامَهُمْ وَأَجَابَهُمْ إِلَى طَلِبَتِهِمْ، وَتَكُونَ لَهُمْ عِيدًا يُفْطِرُونَ عَلَيْهَا يَوْمَ فِطْرِهِمْ، وَتَكُونَ كَافِيَةً لِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، لِغَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ، فَوَعَظَهُمْ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي ذَلِكَ وَخَافَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَقُومُوا بِشُكْرِهَا، وَلَا يُؤَدُّوا حَقَّ شُرُوطِهَا، فَأَبَوْا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمَّا لَمْ يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ، قَامَ إِلَى مُصَلَّاهُ وَلَبِسَ مِسْحًا مِنْ شَعْرٍ، وَصَفَّ بَيْنَ قَدَمَيْهِ وَأَطْرَقَ رَأْسَهُ، وَأَسْبَلَ عَيْنَيْهِ بِالْبُكَاءِ، وَتَضَرَّعَ

إِلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ، أَنْ يُجَابُوا إِلَى مَا طَلَبُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَائِدَةَ مِنَ السَّمَاءِ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا تَنْحَدِرُ بَيْنَ غَمَامَتَيْنِ، وَجَعَلَتْ تَدْنُو قَلِيلًا قَلِيلًا، وَكُلَّمَا دَنَتْ سَأَلَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، رَبَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يَجْعَلَهَا رَحْمَةً لَا نِقْمَةً وَأَنْ يَجْعَلَهَا بَرَكَةً وَسَلَامَةً، فَلَمْ تَزَلْ تَدْنُو حَتَّى اسْتَقَرَّتْ بَيْنَ يَدَيْ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ مُغَطَّاةٌ بِمَنْدِيلٍ، فَقَامَ عِيسَى يَكْشِفُ عَنْهَا، وَهُوَ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. فَإِذَا عَلَيْهَا سَبْعَةٌ مِنَ الْحِيتَانِ، وَسَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ، وَيُقَالُ: وَخَلٌّ. وَيُقَالُ: وَرُمَّانٌ وَثِمَارٌ. وَلَهَا رَائِحَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا. قَالَ اللَّهُ لَهَا: كُونِي. فَكَانَتْ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْأَكْلِ مِنْهَا، فَقَالُوا: لَا نَأْكُلُ حَتَّى تَأْكُلَ. فَقَالَ: إِنَّكُمُ الَّذِينَ ابْتَدَأْتُمُ السُّؤَالَ لَهَا. فَأَبَوْا أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا ابْتِدَاءً، فَأَمَرَ الْفُقَرَاءَ وَالْمَحَاوِيجَ وَالْمَرْضَى وَالزَّمْنَى، وَكَانُوا قَرِبَيًا مِنْ أَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَأَكَلُوا مِنْهَا فَبَرَأَ كُلُّ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ، أَوْ آفَةٌ، أَوْ مَرَضٌ مُزْمِنٌ، فَنَدِمَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ الْأَكْلِ مِنْهَا ; لِمَا رَأَوْا مِنْ إِصْلَاحِ حَالِ أُولَئِكَ، ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ تَنْزِلُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً، فَيَأْكُلُ النَّاسُ مِنْهَا، يَأْكُلُ آخِرُهُمْ كَمَا يَأْكُلُ أَوَّلُهُمْ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهَا كَانَ يَأْكُلُ مِنْهَا نَحْوُ سَبْعَةِ آلَافٍ. ثُمَّ كَانَتْ تَنْزِلُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، كَمَا كَانَتْ نَاقَةُ صَالِحٍ يَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ عِيسَى أَنْ يَقْصُرَهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَحَاوِيجِ، دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَتَكَلَّمَ مُنَافِقُوهُمْ فِي ذَلِكَ، فَرُفِعَتْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمُسِخَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ خَنَازِيرَ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَ ابْنُ جَرِيرٍ جَمِيعًا، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ الْبَاهِلِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ، خِلَاسٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ خُبْزٌ وَلَحْمٌ، وَأُمِرُوا أَنْ لَا يَخُونُوا، وَلَا يَدَّخِرُوا، وَلَا يَرْفَعُوا لِغَدٍ، فَخَانُوا وَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا، فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بُنْدَارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلَاسٍ، عَنْ عَمَّارٍ، مَوْقُوفًا، وَهَذَا أَصَحُّ، وَكَذَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عِجْلٍ، عَنْ عَمَّارٍ مَوْقُوفًا، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَخِلَاسٌ عَنْ عَمَّارٍ مُنْقَطِعٌ، فَلَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا لَكَانَ فَيْصَلًا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ ; فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمَائِدَةِ، هَلْ نَزَلَتْ أَمْ لَا ؟ فَالْجُمْهُورُ أَنَّهَا نَزَلَتْ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآثَارُ، وَكَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ ظَاهِرِ سِيَاقِ الْقُرْآنِ، وَلَا سِيَّمَا قَوْلُهُ: إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ كَمَا قَرَّرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى مُجَاهِدٍ، وَإِلَى الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّهُمَا قَالَا: لَمْ تَنْزِلْ. وَإِنَّهُمْ أَبَوْا نُزُولَهَا، حِينَ قَالَ: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ

وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّ النَّصَارَى لَا يَعْرِفُونَ خَبَرَ الْمَائِدَةِ، وَلَيْسَ مَذْكُورًا فِي كِتَابِهِمْ مَعَ أَنَّ خَبَرَهَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَصَّيْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ "، فَلْيُكْتَبْ مِنْ هُنَاكَ، وَمَنْ أَرَادَ مُرَاجَعَتَهُ فَلْيَنْظُرْهُ مِنْ ثَمَّ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

فَصْلٌ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا رَجُلٌ سَقَطَ اسْمُهُ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هِلَالٍ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، قَالَ: فَقَدَ الْحَوَارِيُّونَ نَبِيَّهُمْ عِيسَى، فَقِيلَ لَهُمْ: تَوَجَّهَ نَحْوَ الْبَحْرِ. فَانْطَلَقُوا يَطْلُبُونَهُ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْبَحْرِ، إِذَا هُوَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، يَرْفَعُهُ الْمَوْجُ مَرَّةً وَيَضَعُهُ أُخْرَى، وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ، مُرْتَدٍ بِنِصْفِهِ، وَمُؤْتَزِرٌ بِنِصْفِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ - قَالَ أَبُو هِلَالٍ: ظَنَنْتُ أَنَّهُ مَنْ أَفَاضِلِهِمْ -: أَلَا أَجِيءُ إِلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَوَضَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَضَعَ الْأُخْرَى فَقَالَ: أَوَّهْ، غَرِقْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ. فَقَالَ: أَرِنِي يَدَكَ يَا قَصِيرَ الْإِيمَانِ، لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ مِنَ الْيَقِينِ قَدْرَ شَعِيرَةٍ، مَشَى عَلَى الْمَاءِ. وَرَوَاهُ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ أَبِي الْجَحِيمِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ بَكْرٍ، بِنَحْوِهِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْعَثِ، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ قَالَ: قِيلَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ: يَا عِيسَى، بِأَيِّ شَيْءٍ تَمْشِي عَلَى الْمَاءِ ؟ قَالَ:

بِالْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ. قَالُوا: فَإِنَّا آمَنَّا كَمَا آمَنْتَ وَأَيْقَنَّا كَمَا أَيْقَنْتَ. قَالَ: فَامْشُوا إِذًا. قَالَ: فَمَشَوْا مَعَهُ فِي الْمَوْجِ فَغَرِقُوا. فَقَالَ لَهُمْ عِيسَى: مَا لَكُمْ ؟ فَقَالُوا: خِفْنَا الْمَوْجَ. قَالَ: أَلَا خِفْتُمْ رَبَّ الْمَوْجِ. قَالَ: فَأَخْرَجَهُمْ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ، فَقَبَضَ بِهَا ثُمَّ بَسَطَهَا، فَإِذَا فِي إِحْدَى يَدَيْهِ ذَهَبٌ، وَفِي الْأُخْرَى مَدَرٌ أَوْ حَصًى، فَقَالَ: أَيُّهُمَا أَحْلَى فِي قُلُوبِكُمْ ؟ قَالُوا: هَذَا الذَّهَبُ. قَالَ: فَإِنَّهُمَا عِنْدِي سَوَاءٌ. وَقَدَّمْنَا فِي قِصَّةِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ يَلْبَسُ الشَّعْرَ وَيَأْكُلُ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ، وَلَا يَأْوِي إِلَى مَنْزِلٍ وَلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ، وَلَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ السَّاعَةُ صَاحَ، وَيَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لِابْنِ مَرْيَمَ أَنْ تُذْكَرَ عِنْدَهُ السَّاعَةُ وَيَسْكُتَ. وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبْجَرَ، أَنَّ عِيسَى كَانَ إِذَا سَمِعَ الْمَوْعِظَةَ صَرَخَ صُرَاخَ الثَّكْلَى.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ: أَنَّ عِيسَى كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَصْبَحْتُ لَا أَسْتَطِيعُ دَفْعَ مَا أَكْرَهُ، وَلَا أَمْلِكُ نَفْعَ مَا أَرْجُو، وَأَصْبَحَ الْأَمْرُ بِيَدِ غَيْرِي، وَأَصْبَحْتُ مُرْتَهِنًا بِعَمَلِي، فَلَا فَقِيرَ أَفْقَرُ مِنِّي،

اللَّهُمَّ لَا تُشْمِتْ بِيَ عَدُوِّي، وَلَا تَسُؤْ بِي صَدِيقِي، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتِي فِي دِينِي، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ مَنْ لَا يَرْحَمُنِي. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ كَانَ عِيسَى يَقُولُ: لَا يُصِيبُ أَحَدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى لَا يُبَالِيَ مِنْ أَكْلِ الدُّنْيَا. قَالَ الْفُضَيْلُ: وَكَانَ عِيسَى يَقُولُ: فَكَّرْتُ فِي الْخَلْقِ، فَوَجَدْتُ مَنْ لَمْ يُخْلَقْ أَغْبَطَ عِنْدِي مِمَّنْ خُلِقَ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: إِنَّ عِيسَى رَأْسُ الزَّاهِدِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ: وَإِنَّ الْفَرَّارِينَ بِذُنُوبِهِمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ عِيسَى. قَالَ: وَبَيْنَمَا عِيسَى يَوْمًا نَائِمٌ عَلَى حَجَرٍ قَدْ تَوَسَّدَهُ، وَقَدْ وَجَدَ لَذَّةَ النَّوْمِ، إِذْ مَرَّ بِهِ إِبْلِيسُ، فَقَالَ: يَا عِيسَى، أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ لَا تُرِيدُ شَيْئًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا ؟ فَهَذَا الْحَجَرُ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا. فَقَامَ عِيسَى فَأَخَذَ الْحَجَرَ فَرَمَى بِهِ إِلَيْهِ، وَقَالَ: هَذَا لَكَ مَعَ الدُّنْيَا. وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: خَرَجَ عِيسَى عَلَى أَصْحَابِهِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ صُوفٌ وَكِسَاءٌ وَتُبَّانٌ، حَافِيًا بَاكِيًا شَعِثًا، مُصْفَرَّ اللَّوْنِ مِنَ الْجُوعِ، يَابِسَ الشَّفَتَيْنِ مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَنَا الَّذِي أَنْزَلْتُ الدُّنْيَا مَنْزِلَتَهَا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَلَا عَجَبَ وَلَا فَخْرَ، أَتَدْرُونَ أَيْنَ بَيْتِي ؟ قَالُوا: أَيْنَ بَيْتُكَ يَا رُوحَ اللَّهِ ؟ قَالَ: بِيتِي الْمَسَاجِدُ، وَطِيبِي الْمَاءُ، وَإِدَامِي الْجُوعُ، وَسِرَاجِي الْقَمَرُ بِاللَّيْلِ، وَصَلَاتِي فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقُ

الشَّمْسِ، وَرَيْحَانِي بُقُولُ الْأَرْضِ، وَلِبَاسِي الصُّوفُ، وَشِعَارِي خَوْفُ رَبِّ الْعِزَّةِ، وَجُلَسَائِي الزَّمْنَى وَالْمَسَاكِينُ، أُصْبِحُ وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ، وَأُمْسِي وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ، وَأَنَا طَيِّبُ النَّفْسِ غَنِيٌّ مُكْثِرٌ، فَمَنْ أَغْنَى مِنِّي وَأَرْبَحُ ؟ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَرَوَى فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبَانِ بْنِ حِبَّانَ أَبِي الْحَسَنِ الْعُقَيْلِيِّ الْمِصْرِيِّ، حَدَّثَنَا هَانِئُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ شُفَيِّ بْنِ مَاتِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى عِيسَى، أَنْ يَا عِيسَى انْتَقِلَ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، لِئَلَّا تُعْرَفَ فَتُؤْذَى، فَوَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَأُزَوِّجَنَّكَ أَلْفَ حَوْرَاءَ، وَلَأُولِمَنَّ عَلَيْكَ أَرْبَعَمِائَةِ عَامٍ. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَفْعُهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَوْقُوفًا مِنْ رِوَايَةِ شُفَيِّ بْنِ مَاتِعٍ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: قَالَ عِيسَى لِلْحَوَارِيِّينَ: كَمَا تَرَكَ لَكُمُ الْمُلُوكَ الْحِكْمَةَ، فَكَذَلِكَ فَاتْرُكُوا لَهُمُ الدُّنْيَا.

وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: سَلُونِي فَإِنِّي لَيِّنُ الْقَلْبِ، وَإِنِّي صَغِيرٌ عِنْدَ نَفْسِي. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِلْحِوَارِيَّيْنِ: كُلُوا خُبْزَ الشَّعِيرِ، وَاشْرَبُوا الْمَاءَ الْقَرَاحَ، وَاخْرُجُوا مِنَ الدُّنْيَا سَالِمِينَ آمِنِينَ، لَحَقٌّ مَا أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ حَلَاوَةَ الدُّنْيَا مَرَارَةُ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ مَرَارَةَ الدُّنْيَا حَلَاوَةُ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ، لَحَقٌّ مَا أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ شَرَّكُمْ عَالِمٌ يُؤْثِرُ هَوَاهُ عَلَى عِلْمِهِ، يَوَدُّ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مِثْلُهُ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ: إِنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عِيسَى كَانَ يَقُولُ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، عَلَيْكُمْ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ، وَالْبَقْلِ الْبَرِّيِّ، وَالْخُبْزِ الشَّعِيرِ، وَإِيَّاكُمْ وَخُبْزَ الْبُرِّ، فَإِنَّكُمْ لَنْ تَقُومُوا بِشُكْرِهِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: كَانَ عِيسَى يَقُولُ: اعْبُرُوا الدُّنْيَا وَلَا تُعَمِّرُوهَا. وَكَانَ يَقُولُ: حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَالنَّظَرُ يَزْرَعُ فِي الْقَلْبِ الشَّهْوَةَ. وَحَكَى وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ مِثْلَهُ، وَزَادَ: وَرُبَّ شَهْوَةٍ أَوْرَثَتْ أَهْلَهَا حُزْنًا طَوِيلًا. وَعَنْ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا ابْنَ آدَمَ الضَّعِيفَ، اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَكُنْ فِي الدُّنْيَا ضَيْفًا، وَاتَّخَذِ الْمَسَاجِدَ بَيْتًا، وَعَلِّمْ عَيْنَكَ الْبُكَاءَ، وَجَسَدَكَ الصَّبْرَ، وَقَلْبَكَ التَّفَكُّرَ، وَلَا تَهْتَمَّ

بِرِزْقِ غَدٍ، فَإِنَّهَا خَطِيئَةٌ. وَعَنْهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ: كَمَا أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَّخِذَ عَلَى مَوْجِ الْبَحْرِ دَارًا، فَلَا يَتَّخِذِ الدُّنْيَا قَرَارًا. وَفِي هَذَا يَقُولُ سَابِقٌ الْبَرْبَرِيُّ:
لَكُمْ بُيُوتٌ بِمُسْتَنِّ السُّيُولِ وَهَلْ يَبْقَى عَلَى الْمَاءِ بَيْتٌ أُسُّهُ مَدَرُ
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: لَا يَسْتَقِيمُ حُبُّ الدُّنْيَا وَحُبُّ الْآخِرَةِ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ، كَمَا لَا يَسْتَقِيمُ الْمَاءُ وَالنَّارُ فِي إِنَاءٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ رَشِيدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّوفِيِّ، قَالَ: قَالَ عِيسَى: طَالِبُ الدُّنْيَا مِثْلُ شَارِبِ مَاءِ الْبَحْرِ، كُلَّمَا ازْدَادَ شُرْبًا ازْدَادَ عَطَشًا، حَتَّى يَقْتُلَهُ. وَعَنْ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الدُّنْيَا، وَمَكْرَهُ مَعَ الْمَالِ، وَتَزْيِينَهُ مَعَ الْهَوَى، وَاسْتِمْكَانَهُ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ خَيْثَمَةَ: كَانَ عِيسَى يَصْنَعُ الطَّعَامَ لِأَصْحَابِهِ وَيَقُومُ عَلَيْهِمْ، وَيَقُولُ: هَكَذَا فَاصْنَعُوا بِالْقِرَى. وَبِهِ: قَالَتِ امْرَأَةٌ لِعِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: طُوبَى لِحِجْرٍ حَمَلَكَ، وَلِثَدْيٍ

أَرْضَعَكَ. فَقَالَ: طُوبَى لِمَنْ قَرَأَ كِتَابَ اللَّهِ وَاتَّبَعَهُ. وَعَنْهُ: طُوبَى لِمَنْ بَكَى مِنْ ذِكْرِ خَطِيئَتِهِ، وَحَفِظَ لِسَانَهُ، وَوَسِعَهُ بَيْتُهُ. وَعَنْهُ: طُوبَى لِعَيْنٍ نَامَتْ، وَلَمْ تُحَدِّثْ نَفْسَهَا بِالْمَعْصِيَةِ، وَانْتَبَهَتْ إِلَى غَيْرِ إِثْمٍ. وَعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: مَرَّ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ بِجِيفَةٍ، فَقَالُوا: مَا أَنْتَنَ رِيحَهَا. فَقَالَ: مَا أَبْيَضَ أَسْنَانَهَا. لِيَنْهَاهُمْ عَنِ الْغِيِبَةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ، ارْضَوْا بِدَنِيِّ الدُّنْيَا مَعَ سَلَامَةِ الدِّينِ، كَمَا رَضِيَ أَهْلُ الدُّنْيَا بَدَنِيِّ الدِّينِ مَعَ سَلَامَةِ الدُّنْيَا. قَالَ زَكَرِيَّا: وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الشَّاعِرُ:
أَرَى رِجَالًا بِأَدْنَى الدِّينِ قَدْ قَنَعُوا وَلَا أَرَاهُمْ رَضُوا فِي الْعَيْشِ بِالدُّونِ
فَاسْتَغْنِ بِالدِّينِ عَنْ دُنْيَا الْمُلُوكِ كَمَا اسْتَغْنَى الْمُلُوكُ بِدُنْيَاهُمْ عَنِ الدِّينِ
وَقَالَ أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تُكْثِرُوا الْحَدِيثَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ، فَإِنَّ الْقَلْبَ الْقَاسِيَ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ، وَلَا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ الْعِبَادِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ، وَانْظُرُوا فِيهَا

كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ، فَإِنَّمَا النَّاسُ رَجُلَانِ: مُعَافًى وَمُبْتَلًى، فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلَاءِ، وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الْعَافِيَةِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، قَالَ: قَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ: بِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ طَلَبَ الْفِرْدَوْسَ، فَخُبْزُ الشَّعِيرِ لَهُ، وَالنَّوْمُ فِي الْمَزَابِلِ مَعَ الْكِلَابِ كَثِيرٌ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: قَالَ عِيسَى: إِنَّ أَكْلَ الشَّعِيرِ مَعَ الرَّمَادِ، وَالنَّوْمَ عَلَى الْمَزَابِلِ مَعَ الْكِلَابِ لَقَلِيلٌ فِي طَلَبِ الْفِرْدَوْسِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، قَالَ: قَالَ عِيسَى: اعْمَلُوا لِلَّهِ وَلَا تَعْمَلُوا لِبُطُونِكُمُ، انْظُرُوا إِلَى هَذِهِ الطَّيْرِ تَغْدُو وَتَرُوحُ، لَا تَحْرُثُ وَلَا تَحْصُدُ، وَاللَّهُ يَرْزُقُهَا، فَإِنْ قُلْتُمْ: نَحْنُ أَعْظَمُ بُطُونًا مِنَ الطَّيْرِ. فَانْظُرُوا إِلَى هَذِهِ الْأَبَاقِرِ مِنَ الْوُحُوشِ وَالْحُمُرِ، فَإِنَّهَا تَغْدُو وَتَرُوحُ لَا تَحْرُثُ وَلَا تَحْصُدُ، وَاللَّهُ يَرْزُقُهَا.

وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ مَيْسَرَةَ، قَالَ: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ لِلْمَسِيحِ: يَا مَسِيحَ اللَّهِ، انْظُرْ إِلَى مَسْجِدِ اللَّهِ مَا أَحْسَنَهُ. قَالَ: آمِينَ آمِينَ، بِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ: لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْمَسْجِدِ حَجَرًا قَائِمًا

إِلَّا أَهْلَكَهُ بِذُنُوبِ أَهْلِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَصْنَعُ بِالذَّهَبِ وَلَا بِالْفِضَّةِ، وَلَا بِهَذِهِ الْأَحْجَارِ الَّتِي تُعْجِبُكُمْ شَيْئًا، إِنَّ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا الْقُلُوبُ الصَّالِحَةُ، وَبِهَا يُعَمِّرُ اللَّهُ الْأَرْضَ، وَبِهَا يُخَرِّبُ اللَّهُ الْأَرْضَ إِذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ ": أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَتْنَا عَائِشَةُ بِنْتُ الْحَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْوَرْكَانِيَّةُ، قَالَتْ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَيْثَمِ إِمْلَاءً، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانٍ إِمْلَاءً، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَرَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى مَدِينَةٍ خَرِبَةٍ فَأَعْجَبَهُ الْبُنْيَانُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مُرْ هَذِهِ الْمَدِينَةَ أَنْ تُجِيبَنِي. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَيَّتُهَا الْمَدِينَةُ الْخَرِبَةُ جَاوِبِي عِيسَى. قَالَ: فَنَادَتِ الْمَدِينَةُ عِيسَى: حَبِيبِي، وَمَا تُرِيدُ مِنِّي ؟ قَالَ: مَا فَعَلَ أَشْجَارُكِ، وَمَا فَعَلَ أَنْهَارُكِ، وَمَا فَعَلَ قُصُورُكِ، وَأَيْنَ سُكَّانُكِ ؟ قَالَتْ: حَبِيبِي، جَاءَ وَعْدُ رَبِّكَ الْحَقُّ، فَيَبِسَتْ أَشْجَارِي، وَنَشَفَتْ أَنْهَارِي، وَخَرِبَتْ قُصُورِي، وَمَاتَ سُكَّانِي. قَالَ: فَأَيْنَ أَمْوَالُهُمْ ؟ قَالَتْ: جَمَعُوهَا مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مَوْضُوعَةٌ فِي بَطْنِي، لِلَّهِ مِيرَاثُ

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. قَالَ: فَنَادَى عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَعَجِبْتُ مِنْ ثَلَاثِ أُنَاسٍ: طَالِبِ الدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهُ، وَبَانِي الْقُصُورِ وَالْقَبْرُ مَنْزِلُهُ، وَمَنْ يَضْحَكُ مِلْءَ فِيهِ وَالنَّارُ أَمَامَهُ، ابْنَ آدَمَ، لَا بِالْكَثِيرِ تَشْبَعُ، وَلَا بِالْقَلِيلِ تَقْنَعُ، تَجْمَعُ مَالَكَ لِمَنْ لَا يَحْمَدُكَ، وَتُقْدِمُ عَلَى رَبٍّ لَا يَعْذُرُكَ، إِنَّمَا أَنْتَ عَبْدُ بَطْنِكَ وَشَهْوَتِكَ، وَإِنَّمَا تَمْلَأُ بَطْنَكَ إِذَا دَخَلْتَ قَبْرَكَ، وَأَنْتَ يَا ابْنَ آدَمَ تَرَى حَشْدَ مَالِكَ فِي مِيزَانِ غَيْرِكَ. هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَفِيهِ مَوْعِظَةٌ حَسَنَةٌ، فَكَتَبْنَاهُ لِذَلِكَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، قَالَ: قَالَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ، اجْعَلُوا كُنُوزَكُمْ فِي السَّمَاءِ، فَإِنَّ قَلْبَ الرَّجُلِ حَيْثُ كَنْزُهُ. وَقَالَ ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ ظَبْيَانَ، قَالَ: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ تَعَلَّمَ وَعَلَّمَ وَعَمِلَ، دُعِيَ عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ. وَقَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: رُوِيَ أَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَا يَعْبُرُ مَعَكَ الْوَادِيَ، وَلَا يَعْمُرُ بِكَ النَّادِيَ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، بِإِسْنَادٍ غَرِيبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، أَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ، لَا تُحَدِّثُوا بِالْحِكْمَةِ غَيْرَ أَهْلِهَا فَتَظْلِمُوهَا، وَلَا تَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا، فَتَظْلِمُوهُمْ، وَالْأُمُورُ ثَلَاثَةٌ: أَمْرٌ تَبَيَّنَ رُشْدُهُ فَاتَّبِعُوهُ، وَأَمْرٌ تَبَيَّنَ غَيُّهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَأَمْرٌ اخْتُلِفَ عَلَيْكُمْ.

فِيهِ فَرُدُّوا عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ عِيسَى: لَا تَطْرَحُوا اللُّؤْلُؤَ إِلَى الْخِنْزِيرِ ; فَإِنَّ الْخِنْزِيرَ لَا يَصْنَعُ بِاللُّؤْلُؤِ شَيْئًا، وَلَا تُعْطُوا الْحِكْمَةَ مَنْ لَا يُرِيدُهَا ; فَإِنَّ الْحِكْمَةَ خَيْرٌ مِنَ اللُّؤْلُؤِ، وَمَنْ لَا يُرِيدُهَا شَرٌّ مِنَ الْخِنْزِيرِ. وَكَذَا حَكَى وَهْبٌ وَغَيْرُهُ عَنْهُ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَنْتُمْ مِلْحُ الْأَرْضِ، فَإِذَا فَسَدْتُمْ فَلَا دَوَاءَ لَكُمْ، وَإِنَّ فِيكُمْ خَصْلَتَيْنِ مِنَ الْجَهْلِ: الضَّحِكُ مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ، وَالصُّبْحَةُ مِنْ غَيْرِ سَهَرٍ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ فِتْنَةً ؟ قَالَ: زَلَّةُ الْعَالِمِ، فَإِنَّ الْعَالِمَ إِذَا زَلَّ يَزِلُّ بِزَلَّتِهِ عَالَمٌ كَثِيرٌ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا عُلَمَاءَ السُّوءِ جَعَلْتُمُ الدُّنْيَا عَلَى رُءُوسِكُمْ، وَالْآخِرَةَ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ، قَوْلُكُمْ شِفَاءٌ وَعَمَلُكُمْ دَاءٌ، مَثَلُكُمْ مَثَلُ شَجَرَةِ الدِّفْلَى، تُعْجِبُ مَنْ رَآهَا، وَتَقْتُلُ مَنْ أَكَلَهَا. وَقَالَ وَهْبٌ: قَالَ عِيسَى: يَا عُلَمَاءَ السُّوءِ، جَلَسْتُمْ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَلَا أَنْتُمْ تَدْخُلُونَهَا، وَلَا تَدَعُونَ الْمَسَاكِينَ يَدْخُلُونَهَا، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ عَالِمٌ يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِعِلْمِهِ. وَقَالَ مَكْحُولٌ: التَقَى يَحْيَى وَعِيسَى، فَصَافَحَهُ عِيسَى، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ لَهُ

يَحْيَى: يَا ابْنَ خَالَةٍ، مَا لِي أَرَاكَ ضَاحِكًا كَأَنَّكَ قَدْ أَمِنْتَ. فَقَالَ لَهُ عِيسَى: مَا لِي أَرَاكَ عَابِسًا كَأَنَّكَ قَدْ يَئِسْتَ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمَا: إِنَّ أَحَبَّكُمَا إِلَيَّ أَبَشُّكُمَا بِصَاحِبِهِ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: وَقَفَ عِيسَى هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى قَبْرٍ، وَصَاحِبُهُ يُدْلَى فِيهِ، فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ الْقَبْرَ وَضِيقَهُ، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُمْ فِيمَا هُوَ أَضْيَقُ مِنْهُ فِي أَرْحَامِ أُمَّهَاتِكُمْ، فَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ أَنْ يُوَسِّعَ وَسَّعَ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ الضَّرِيرُ: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى كَانَ إِذَا ذَكَرَ الْمَوْتَ يَقْطُرُ جِلْدُهُ دَمًا.
وَالْآثَارُ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْهَا طَرَفًا صَالِحًا، اقْتَصَرْنَا مِنْهُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفَّقُ لِلصَّوَابِ.

ذِكْرُ رَفْعِ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى السَّمَاءِ فِي حِفْظِ الرَّبِّ، وَبَيَانُ كَذِبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ، فِي دَعْوَى الصَّلْبِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [ آلِ عِمْرَانَ: 54، 55 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [ النِّسَاءِ: 155 - 159 ].

فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ بَعْدَ مَا تَوَفَّاهُ بِالنَّوْمِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، وَخَلَّصَهُ مِمَّنْ كَانَ أَرَادَ أَذِيَّتَهُ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ وَشَوْا بِهِ إِلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ الْكَفَرَةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ اسْمُهُ دَاوُدَ بْنَ يُورَا فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ فَحَصَرُوهُ فِي دَارٍ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَذَلِكَ عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَلَمَّا حَانَ وَقْتُ دُخُولِهِمْ أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ الْحَاضِرِينَ عِنْدَهُ، وَرُفِعَ عِيسَى مِنْ رَوْزَنَةٍ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ إِلَى السَّمَاءِ، وَأَهْلُ الْبَيْتِ يَنْظُرُونَ، وَدَخَلَ الشُّرَطُ فَوَجَدُوا ذَلِكَ الشَّابَّ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ، فَأَخَذُوهُ ظَانِّينَ أَنَّهُ عِيسَى، فَصَلَبُوهُ وَوَضَعُوا الشَّوْكَ عَلَى رَأْسِهِ إِهَانَةً لَهُ، وَسَلَّمَ لِلْيَهُودِ عَامَّةُ النَّصَارَى الَّذِينَ لَمْ يُشَاهِدُوا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ عِيسَى أَنَّهُ صُلِبَ، وَضَلُّوا بِسَبَبِ ذَلِكَ ضَلَالًا مُبِينًا كَثِيرًا فَاحِشًا بَعِيدًا، وَأَخْبَرَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أَيْ: بَعْدَ نُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِنَّهُ يَنْزِلُ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ سُورَةِ " النِّسَاءِ " وَكَمَا سَنُورِدُ ذَلِكَ مُسْتَقْصًى

فِي كِتَابِ " الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ " عِنْدَ أَخْبَارِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، فَنَذْكُرُ مَا وَرَدَ فِي نُزُولِ الْمَسِيحِ الْمَهْدِيِّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ذِي الْجَلَالِ ; لِقَتْلِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ الْكَذَّابِ الدَّاعِي إِلَى الضَّلَالِ. وَهَذَا ذِكْرُ مَا وَرَدَ فِي الْآثَارِ فِي صِفَةِ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ، خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَفِي الْبَيْتِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْهُمْ - مِنَ الْحَوَارِيِّينَ يَعْنِي - فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَيْنٍ فِي الْبَيْتِ، وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَقَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يَكْفُرُ بِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِي. ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلَ مَكَانِي، وَيَكُونَ مَعِي فِي دَرَجَتِي ؟ فَقَامَ شَابٌّ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ. ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ الشَّابُّ، فَقَالَ: اجْلِسْ. ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ الشَّابُّ، فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: أَنْتَ هُوَ ذَاكَ. فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُ عِيسَى، وَرُفِعَ عِيسَى مِنْ رَوْزَنَةٍ فِي الْبَيْتِ إِلَى السَّمَاءِ. قَالَ: وَجَاءَ الطَّلَبُ مِنَ الْيَهُودِ فَأَخَذُوا الشَّبَهَ فَقَتَلُوهُ ثُمَّ صَلَبُوهُ، فَكَفَرَ بِهِ بَعْضُهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِهِ، وَافْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كَانَ اللَّهُ فِينَا مَا شَاءَ ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ. وَهَؤُلَاءِ الْيَعْقُوبِيِّةُ، وَقَالَتْ

فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا ابْنُ اللَّهِ مَا شَاءَ، ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. وَهَؤُلَاءِ النَّسْطُورِيَّةُ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ، فَتَظَاهَرَتِ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ فَقَتَلُوهَا، فَلَمْ يَزَلِ الْإِسْلَامُ طَامِسًا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [ الصَّفِّ: 14 ]. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ - إِلَى ابْنُ عَبَّاسٍ - عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِهِ نَحْوَهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَلْمِ بْنِ جُنَادَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَهَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ مُطَوَّلًا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: وَجَعَلَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَدْعُو اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يُؤَخِّرَ أَجَلَهُ، يَعْنِي لِيُبَلِّغَ الرِّسَالَةَ، وَيُكْمِلَ الدَّعْوَةَ، وَيُكْثِرَ النَّاسُ الدُّخُولَ فِي دِينِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. قِيلَ: وَكَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ; بُطْرُسُ، وَيَعْقُوبُ بْنُ زَبْدِي، وَيَحْنَسُ أَخُو يَعْقُوبَ، وَأَنْدَرَاوِسُ، وَفِلِيبُّسُ، وَأَبْرَثَلْمَا، وَمَتَّى، وَتُومَاسُ، وَيَعْقُوبُ بْنُ حَلْقِيَا، وَتُدَّاوُسُ، وَفَتَاتْيَا، يُودُسُ زَكَرِيَّا يَوُطَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ الْيَهُودَ عَلَى عِيسَى. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ آخَرُ اسْمُهُ سَرْجَسُ، كَتَمَتْهُ

النَّصَارَى، وَهُوَ الَّذِي أُلْقِيَ شَبَهُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ، فَصُلِبَ عَنْهُ. قَالَ: وَبَعْضُ النَّصَارَى يَزْعُمُ أَنَّ الَّذِي صُلِبَ عَنِ الْمَسِيحِ وَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ، يُودُسُ زَكَرِيَّا يَوُطَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اسْتَخْلَفَ عِيسَى شَمْعُونَ، وَقَتَلَتِ الْيَهُودُ يُودُسُ زَكَرِيَّا يَوُطَا الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ الشَّبَهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ. قَالَ: سَمِعْتُ الْفَرَّاءَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ قَالَ: إِنَّ عِيسَى غَابَ عَنْ خَالَتِهِ زَمَانًا، فَأَتَاهَا فَقَامَ رَأْسُ الْجَالُوتِ الْيَهُودِيُّ، فَضَرَبَ عَلَى عِيسَى، حَتَّى اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِ دَارِهِ، فَكَسَرُوا الْبَابَ، وَدَخَلَ رَأْسُ الْجَالُوتِ لِيَأْخُذَ عِيسَى، فَطَمَسَ اللَّهُ عَيْنَيْهِ عَنْ عِيسَى ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: لَمْ أَرَهُ. وَمَعَهُ سَيْفٌ مَسْلُولٌ، فَقَالُوا: أَنْتَ عِيسَى. وَأَلْقَى اللَّهُ شَبَهَ عِيسَى عَلَيْهِ، فَأَخَذُوهُ، فَقَتَلُوهُ، وَصَلَبُوهُ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: أَتَى عِيسَى وَمَعَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ فِي بَيْتٍ، فَأَحَاطُوا بِهِمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِمْ صَوَّرَهُمُ اللَّهُ كُلَّهُمْ عَلَى صُورَةِ عِيسَى، فَقَالُوا لَهُمْ: سَحَرْتُمُونَا، لَتُبْرِزُنَّ لَنَا عِيسَى أَوْ لَنَقْتُلَنَّكُمْ جَمِيعًا، فَقَالَ

عِيسَى لِأَصْحَابِهِ: مَنْ يَشْتَرِي مِنْكُمْ نَفْسَهُ الْيَوْمَ بِالْجَنَّةِ. فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا. فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَنَا عِيسَى. وَقَدْ صَوَّرَهُ اللَّهُ عَلَى صُورَةِ عِيسَى، فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، فَمِنْ ثَمَّ شُبِّهَ لَهُمْ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا عِيسَى، وَظَنَّتِ النَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، أَنَّهُ عِيسَى، وَرَفَعَ اللَّهُ عِيسَى مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبًا يَقُولُ: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ لَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ الدُّنْيَا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ، وَشَقَّ عَلَيْهِ، فَدَعَا الْحَوَارِيِّينَ وَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا فَقَالَ: احْضُرُونِي اللَّيْلَةَ ; فَإِنَّ لِي إِلَيْكُمْ حَاجَةً. فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ عَشَّاهُمْ، وَقَامَ يَخْدِمُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ، أَخَذَ يَغْسِلُ أَيْدِيَهُمْ وَيُوَضِّئُهُمْ بِيَدِهِ، وَيَمْسَحُ أَيْدِيَهُمْ بِثِيَابِهِ، فَتَعَاظَمُوا ذَلِكَ وَتَكَارَهُوهُ، فَقَالَ: أَلَا مَنْ رَدَّ عَلَيَّ شَيْئًا اللَّيْلَةَ مِمَّا أَصْنَعُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَا أَنَا مِنْهُ. فَأَقَرُّوهُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: أَمَّا مَا صَنَعْتُ بِكُمُ اللَّيْلَةَ مِمَّا خَدَمْتُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ، وَغَسَلْتُ أَيْدِيَكُمْ بِيَدِي، فَلْيَكُنْ لَكُمْ بِي أُسْوَةٌ، فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ أَنِّي خَيْرُكُمْ فَلَا يَتَعَظَّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلْيَبْذُلْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْسَهُ كَمَا بَذَلْتُ نَفْسِي لَكُمْ، وَأَمَّا حَاجَتِي الَّتِي اسْتَعَنْتُكُمْ عَلَيْهَا، فَتَدْعُونَ لِيَ اللَّهَ وَتَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يُؤَخِّرَ أَجَلِي. فَلَمَّا نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلدُّعَاءِ وَأَرَادُوا أَنْ يَجْتَهِدُوا، أَخَذَهُمُ النَّوْمُ حَتَّى لَمَّ يَسْتَطِيعُوا دُعَاءً، فَجَعَلَ يُوقِظُهُمْ وَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ،

أَمَا تَصْبِرُونَ لِي لَيْلَةً وَاحِدَةً، تُعِينُونِي فِيهَا ؟ فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي مَا لَنَا، وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَسْمُرُ فَنُكْثِرُ السَّمَرَ، وَمَا نُطِيقُ اللَّيْلَةَ سَمَرًا، وَمَا نُرِيدُ دُعَاءً إِلَّا حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ. فَقَالَ: يُذْهَبُ بِالرَّاعِي وَتَتَفَرَّقُ الْغَنَمُ. وَجَعَلَ يَأْتِي بِكَلَامٍ نَحْوَ هَذَا يَنْعَى بِهِ نَفْسَهُ. ثُمَّ قَالَ: الْحَقُّ لَيَكْفُرَنَّ بِي أَحَدُكُمْ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَيَبِيعَنِّي أَحَدُكُمْ بِدَرَاهِمَ يَسِيرَةٍ، وَلَيَأْكُلَنَّ ثَمْنِي. فَخَرَجُوا وَتَفَرَّقُوا، وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَطْلُبُهُ فَأَخَذُوا شَمْعُونَ - أَحَدَ الْحَوَارِيِّينَ - فَقَالُوا: هَذَا مِنْ أَصْحَابِهِ. فَجَحَدَ وَقَالَ: مَا أَنَا بِصَاحِبِهِ. فَتَرَكُوهُ ثُمَّ أَخَذَهُ آخَرُونَ فَجَحَدَ كَذَلِكَ، ثُمَّ سَمِعَ صَوْتَ دِيكٍ فَبَكَى وَأَحْزَنَهُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى أَحَدُ الْحَوَارِيِّينَ إِلَى الْيَهُودِ، فَقَالَ: مَا تَجْعَلُونَ لِي إِنْ دَلَلْتُكُمْ عَلَى الْمَسِيحِ. فَجَعَلُوا لَهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَأَخَذَهَا وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ. وَكَانَ شُبِّهَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَأَخَذُوهُ وَاسْتَوْثَقُوا مِنْهُ، وَرَبَطُوهُ بِالْحَبْلِ وَجَعَلُوا يَقُودُونَهُ، وَيَقُولُونَ: أَنْتَ كُنْتَ تُحْيِي الْمَوْتَى وَتَنْتَهِرُ الشَّيْطَانَ، وَتُبْرِئُ الْمَجْنُونَ، أَفَلَا تُنَجِّي نَفْسَكَ مِنْ هَذَا الْحَبْلِ ؟ وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، وَيُلْقُونَ عَلَيْهِ الشَّوْكَ، حَتَّى أَتَوْا بِهِ الْخَشَبَةَ الَّتِي أَرَادُوا أَنْ يَصْلُبُوهُ عَلَيْهَا، فَرَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَصَلَبُوا مَا شُبِّهَ لَهُمْ، فَمَكَثَ سَبْعًا. ثُمَّ إِنْ أُمَّهُ وَالْمَرْأَةَ الَّتِي كَانَ يُدَاوِيهَا عِيسَى، فَأَبْرَأَهَا اللَّهُ مِنَ الْجُنُونِ، جَاءَتَا تَبْكِيَانِ حَيْثُ كَانَ الْمَصْلُوبُ، فَجَاءَهُمَا عِيسَى، فَقَالَ: عَلَامَ تَبْكِيَانِ. قَالَتَا: عَلَيْكَ. فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَفَعَنِي اللَّهُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُصِبْنِي إِلَّا خَيْرٌ، وَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ شُبِّهَ لَهُمْ، فَأْمُرَا الْحَوَارِيِّينَ أَنْ يَلْقَوْنِي إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا. فَلَقَوْهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ أَحَدَ عَشَرَ، وَفَقَدَ الَّذِي كَانَ بَاعَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْيَهُودَ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَصْحَابَهُ فَقَالُوا: إِنَّهُ

نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ، فَاخْتَنَقَ وَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَقَالَ: لَوْ تَابَ لَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ غُلَامٍ يَتْبَعُهُمْ يُقَالُ لَهُ: يُحَنَّا. فَقَالَ: هُوَ مَعَكُمْ فَانْطَلِقُوا فَإِنَّهُ سَيُصْبِحُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ يُحَدِّثُ بِلُغَةِ قَوْمٍ فَلْيُنْذِرْهُمْ وَلْيَدْعُهُمْ. وَهَذَا إِسْنَادٌ غَرِيبٌ عَجِيبٌ، وَهُوَ أَصَحُّ مِمَّا ذَكَرَهُ النَّصَارَى، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، مِنْ أَنَّ الْمَسِيحَ جَاءَ إِلَى مَرْيَمَ، وَهِيَ جَالِسَةٌ تَبْكِي عِنْدَ جِذْعِهِ، فَأَرَاهَا مَكَانَ الْمَسَامِيرِ مِنْ جَسَدِهِ، وَأَخْبَرَهَا أَنَّ رُوحَهُ رُفِعَتْ، وَأَنَّ جَسَدَهُ صُلِبَ، وَهَذَا بُهْتٌ وَكَذِبٌ وَاخْتِلَاقٌ وَتَحْرِيفٌ وَتَبْدِيلٌ وَزِيَادَةٌ بَاطِلَةٌ فِي الْإِنْجِيلِ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ وَمُقْتَضَى النَّقْلِ.
وَحَكَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ حَبِيبٍ، فِيمَا بَلَغَهُ أَنَّ مَرْيَمَ سَأَلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ - بَعْدَ مَا صُلِبَ الْمَصْلُوبُ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَهِيَ تَحْسَبُ أَنَّهُ ابْنُهَا - أَنْ يُنْزِلَ جَسَدَهُ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَدُفِنَ هُنَالِكَ، فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِأُمِّ يَحْيَى: أَلَا تَذْهَبِينَ بِنَا نَزُورُ قَبْرَ الْمَسِيحِ. فَذَهَبَتَا فَلَمَّا دَنَتَا مِنَ الْقَبْرِ، قَالَتْ مَرْيَمُ لِأُمِّ يَحْيَى: أَلَا تَسْتَتِرِينَ. فَقَالَتْ: وَمِمَّنْ أَسْتَتِرُ. فَقَالَتْ: مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي هُوَ عِنْدَ الْقَبْرِ. فَقَالَتْ أُمُّ يَحْيَى: إِنِّي لَا أَرَى أَحَدًا. فَرَجَتْ مَرْيَمُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلَ، وَكَانَتْ قَدْ بَعُدَ عَهْدُهَا بِهِ فَاسْتَوْقَفَتْ أُمَّ يَحْيَى وَذَهَبَتْ نَحْوَ الْقَبْرِ، فَلَمَّا دَنَتْ مِنَ الْقَبْرِ قَالَ لَهَا جِبْرِيلُ، وَعَرَفَتْهُ: يَا مَرْيَمُ، أَيْنَ تُرِيدِينَ ؟ فَقَالَتْ: أَزُورُ قَبْرَ الْمَسِيحِ وَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَأَحْدِثُ عَهْدًا بِهِ. فَقَالَ: يَا مَرْيَمُ، إِنَّ هَذَا لَيْسَ الْمَسِيحَ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ رَفَعَ الْمَسِيحَ وَطَهَّرَهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَلَكِنْ هَذَا الْفَتَى الَّذِي أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَيْهِ وَصُلِبَ وَقُتِلَ مَكَانَهُ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَهُ قَدْ

فَقَدُوهُ فَلَا يَدْرُونَ مَا فُعِلَ بِهِ، فَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ كَذَا وَكَذَا، فَأْتِي غَيْضَةَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّكِ تَلْقَيْنَالْمَسِيحَ. قَالَ: فَرَجَعَتْ إِلَى أُخْتِهَا، وَصَعِدَ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَتْهَا عَنْ جِبْرِيلَ، وَمَا قَالَ لَهَا مِنْ أَمْرِ الْغَيْضَةِ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ، ذَهَبَتْ فَوَجَدَتْ عِيسَى فِي الْغَيْضَةِ، فَلَمَّا رَآهَا أَسْرَعَ إِلَيْهَا فَأَكَبَّ عَلَيْهَا، فَقَبَّلَ رَأْسَهَا وَجَعَلَ يَدْعُو لَهَا كَمَا كَانَ يَفْعَلُ، وَقَالَ: يَا أُمَّهْ، إِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَقْتُلُونِي، وَلَكِنَّ اللَّهَ رَفَعَنِي إِلَيْهِ، وَأَذِنَ لِي فِي لِقَائِكَ، وَالْمَوْتُ يَأْتِيكِ قَرِيبًا، فَاصْبِرِي وَاذْكُرِي اللَّهَ. ثُمَّ صَعِدَ عِيسَى فَلَمْ تَلْقَهُ إِلَّا تِلْكَ الْمَرَّةَ حَتَّى مَاتَتْ. قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ مَرْيَمَ بَقِيَتْ بَعْدَ عِيسَى خَمْسَ سِنِينَ، وَمَاتَتْ وَلَهَا ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ عُمَرُ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَوْمَ رُفِعَ، أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَدْخُلُونَهَا جُرْدًا مُرْدًّا مُكَحَّلِينَ، أَبْنَاءَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: عَلَى مِيلَادِ عِيسَى، وَحُسْنِ يُوسُفَ وَكَذَا قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قَالَ: رُفِعَ عِيسَى، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ "، وَيَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ الْفَسَوِيُّ فِي " تَارِيخِهِ "، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ

عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، أَنَّ أُمَّهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَتْهُ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقُولُ: أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ كَانَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ إِلَّا عَاشَ الَّذِي بَعْدَهُ نِصْفَ عُمْرِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّهُ أَخْبَرَنِي: أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَاشَ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ، فَلَا أَرَانِي إِلَّا ذَاهِبٌ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ هَذَا لَفْظُ الْفَسَوِيِّ ; فَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
قَالَ الْحَافِظُ بْنُ عَسَاكِرَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ عِيسَى لَمْ يَبْلُغْ هَذَا الْعُمْرَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مُدَّةَ مَقَامِهِ فِي أُمَّتِهِ، كَمَا رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ، قَالَ: قَالَتْ فَاطِمَةُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مَكَثَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَهَذَا مُنْقَطِعٌ. وَقَالَ جَرِيرٌ، وَالثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: مَكَثَ عِيسَى فِي قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ عَامًا. وَيُرْوَى عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، أَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، رُفِعَ لَيْلَةَ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَتِلْكَ اللَّيْلَةُ فِي مِثْلِهَا تُوُفِّيَ عَلِيٌّ بَعْدَ طَعْنِهِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ. وَقَدْ رَوَى الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عِيسَى لَمَّا رَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ جَاءَتْهُ سَحَابَةٌ فَدَنَتْ مِنْهُ حَتَّى جَلَسَ عَلَيْهَا، وَجَاءَتْهُ مَرْيَمُ فَوَدَّعَتْهُ وَبَكَتْ، ثُمَّ رُفِعَ وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَأَلْقَى إِلَيْهَا عِيسَى بُرْدًا لَهُ وَقَالَ: هَذَا عَلَامَةُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَلْقَى عِمَامَتَهُ إِلَى شَمْعُونَ، وَجَعَلَتْ أُمُّهُ تُوَدِّعُهُ بِأُصْبُعِهَا، تُشِيرُ بِهَا إِلَيْهِ حَتَّى غَابَ عَنْهَا. وَكَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا ; لِأَنَّهُ تَوَفَّرَ

عَلَيْهَا حُبُّهُ مِنْ جِهَتَيِ الْوَالِدَيْنِ، إِذْ لَا أَبَ لَهُ، وَكَانَتْ لَا تُفَارِقُهُ سَفَرًا وَلَا حَضَرًا. قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَكُنْتُ أَرَى كَالْمَوْتِ مِنْ بَيْنِ سَاعَةٍ فَكَيفَ بِبَيْنٍ كَانَ مَوْعِدَهُ الْحَشْرُ
وَذَكَرَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ، أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا صَلَبُوا ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي شُبِّهَ لَهُمْ، وَهُمْ يَحْسَبُونَهُ الْمَسِيحَ، وَسَلَّمَ لَهُمْ أَكْثَرُ النَّصَارَى ; بِجَهْلِهِمْ ذَلِكَ، تَسَلَّطُوا عَلَى أَصْحَابِهِ بِالْقَتْلِ وَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ فَبَلَغَ أَمْرُهُمْ إِلَى صَاحِبِ الرُّومِ، وَهُوَ مَلِكُ دِمَشْقَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الْيَهُودَ قَدْ تَسَلَّطُوا عَلَى أَصْحَابِ رَجُلٍ كَانَ يَذْكُرُ لَهُمْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيَفْعَلُ الْعَجَائِبَ، فَعَدَوْا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَأَهَانُوا أَصْحَابَهُ وَحَبَسُوهُمْ. فَبَعَثَ فَجِيءَ بِهِمْ وَفِيهِمْ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، وَشَمْعُونُ، وَجَمَاعَةٌ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ أَمْرِ الْمَسِيحِ، فَأَخْبَرُوهُ عَنْهُ فتَابَعَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَأَعْلَى كَلِمَتَهُمْ، وَظَهَرَ الْحَقُّ عَلَى الْيَهُودِ، وَعَلَتْ كَلِمَةُ النَّصَارَى عَلَيْهِمْ، وَبَعَثَ إِلَى الْمَصْلُوبِ فَوُضِعَ عَنْ جِذْعِهِ، وَجِيءَ بِالْجِذْعِ الَّذِي صُلِبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَعَظَّمَهُ، فَمِنْ ثَمَّ عَظَّمَتِ النَّصَارَى الصَّلِيبَ، وَمِنْ هَاهُنَا دَخَلَ دِينُ النَّصْرَانِيَّةِ فِي الرُّومِ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ ; أَحَدُهَا، أَنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا نَبِيٌّ، لَا يُقِرُّ عَلَى أَنَّ الْمَصْلُوبَ عِيسَى ; فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ يَعْلَمُ مَا وَقَعَ عَلَى جِهَةِ الْحَقِّ. الثَّانِي، أَنَّ الرُّومَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِ الْمَسِيحِ إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ،

وَذَلِكَ فِي زَمَانِ قُسْطَنْطِينَ بْنِ قَسْطَسَ بَانِي الْمَدِينَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. الثَّالِثُ، أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا صَلَبُوا ذَلِكَ الرَّجُلَ ثُمَّ أَلْقَوْهُ بِخَشَبَتِهِ جَعَلُوا مَكَانَهُ مَطْرَحًا لِلْقُمَامَةِ وَالنَّجَاسَةَ وَجِيَفَ الْمَيْتَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَ فِي زَمَانِ قُسْطَنْطِينَ الْمَذْكُورِ، فَعَمَدَتْ أُمُّهُ هِيلَانَةُ الْحَرَّانِيَّةُ الْفِنْدِقَانِيَّةُ فَاسْتَخْرَجَتْهُ مِنْ هُنَالِكَ مُعْتَقِدَةً أَنَّهُ الْمَسِيحُ، وَوَجَدُوا الْخَشَبَةَ الَّتِي صُلِبَ عَلَيْهَا الْمَصْلُوبُ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ مَا مَسَّهَا ذُو عَاهَةٍ إِلَّا عُوفِيَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَكَانَ هَذَا أَمْ لَا ؟ وَهَلْ كَانَ هَذَا لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، أَوْ كَانَ هَذَا مِحْنَةً وَفِتْنَةً لِأُمَّةِ النَّصَارَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ؟ حَتَّى عَظَّمُوا تِلْكَ الْخَشَبَةَ وَغَشَّوْهَا بِالذَّهَبِ وَاللَّآلِئِ، وَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذُوا الصُّلْبَانَاتِ وَتَبَرَّكُوا بِشَكْلِهَا وَقَبَّلُوهَا، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَأَمَرَتْ أُمُّ الْمَلِكِ هِيلَانَةُ فَأُزِيلَتْ تِلْكَ الْقُمَامَةُ، وَبُنِيَ مَكَانَهَا كَنِيسَةٌ هَائِلَةٌ مُزَخْرَفَةٌ بِأَنْوَاعِ الزِّينَةِ. فَهِيَ هَذِهِ الْمَشْهُورَةُ الْيَوْمَ بِبَلَدِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، الَّتِي يُقَالُ لَهَا: الْقُمَامَةُ. بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عِنْدَهَا، وَيُسَمُّونَهَا الْقِيَامَةَ، يَعْنُونَ الَّتِي يَقُومُ جَسَدُ الْمَسِيحِ مِنْهَا. ثُمَّ أَمَرَتْ هِيلَانَةُ بِأَنْ تُوضَعَ قُمَامَةُ الْبَلَدِ، وَكُنَاسَتُهُ وَقَاذُورَاتُهُ عَلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي هِيَ قِبْلَةُ الْيَهُودِ، فَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى فَتَحَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَكَنَسَ عَنْهَا الْقُمَامَةَ بِرِدَائِهِ، وَطَهَّرَهَا مِنَ الْأَخْبَاثِ وَالْأَنْجَاسِ، وَلَمْ يَضَعِ الْمَسْجِدَ وَرَاءَهَا، وَلَكِنْ أَمَامَهَا، حَيْثُ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ الْأَقْصَى.

صِفَةُ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَشَمَائِلُهُ وَفَضَائِلُهُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ قِيلَ: سُمِّيَ الْمَسِيحَ لِمَسْحِهِ الْأَرْضَ، وَهُوَ سِيَاحَتُهُ فِيهَا، وَفِرَارُهُ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ ; لِشِدَّةِ تَكْذِيبِ الْيَهُودِ لَهُ، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ مَمْسُوحَ الْقَدَمَيْنِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَقَالَ تَعَالَى: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [ الْبَقَرَةِ: 87 ]. وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَطْعَنُ فِي خَاصِرَتِهِ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا، ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعْنَ فِي الْحِجَابِ وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ جُنَادَةَ عَنْ عُبَادَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ الَّتِي أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى

مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَهَذَا لَفْظُهُ، وَمُسْلِمٌ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَدَّبَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ، فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا آمَنَ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ثُمَّ آمَنَ بِي، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَالْعَبْدُ إِذَا اتَّقَى رَبَّهُ وَأَطَاعَ مَوَالِيَهِ، فَلَهُ أَجْرَانِ هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَنْبَأَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ ( ح ) وَحَدَّثَنِي مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ: لَقِيتُ مُوسَى قَالَ: فَنَعَتَهُ فَإِذَا رَجُلٌ حِسْبْتُهُ قَالَ: مُضْطَرِبٌ رَجِلُ الرَّأْسِ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ. قَالَ: وَلَقِيتُ عِيسَى فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ، يَعْنِي الْحَمَّامَ، وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشَبَهُ وَلَدِهِ بِهِ الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قِصَّتَيْ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى. ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَأَيْتُ عِيسَى، وَمُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ، فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ، وَأَمَّا مُوسَى فَآدَمُ جَسِيمٌ سِبْطٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ الزُّطِّ

تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَحَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمًا بَيْنَ ظَهَرَانَيِ النَّاسِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، إِلَّا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، وَأَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي الْمَنَامِ، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا يُرَى مَنْ أُدْمِ الرِّجَالِ، تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ، رَجِلُ الشَّعْرِ، يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً، وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. ثُمَّ رَأَيْتُ رَجُلًا وَرَاءَهُ جَعْدًا قَطَطًا أَعْوَرَ عَيْنِ الْيُمْنَى كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ بِابْنِ قَطَنٍ، وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلٍ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا: الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ. ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَابْنُ قَطَنٍ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ، هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَبَيَّنَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، صِفَةَ الْمَسِيحَيْنِ ; مَسِيحِ الْهُدَى وَمَسِيحِ الضَّلَالَةِ; لِيُعْرَفَ

هَذَا إِذَا نَزَلَ، فَيُؤْمِنَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَيُعْرَفَ الْآخَرُ فَيَحَذَرَهُ الْمُوَحِّدُونَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلًا يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ: أَسَرَقْتَ ؟ قَالَ: كَلَّا، وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. فَقَالَ عِيسَى: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ عَيْنَيَّ وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: رَأَى عِيسَى رَجُلًا يَسْرِقُ فَقَالَ: يَا فُلَانُ، أَسَرَقْتَ ؟ فَقَالَ: لَا، وَاللَّهِ مَا سَرَقْتُ. فَقَالَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ بَصَرِي وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سَجِيَّةٍ طَاهِرَةٍ ; حَيْثُ قَدَّمَ حَلِفَ ذَلِكَ الرَّجُلِ - وَظَنَّ أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْلِفُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ كَاذِبًا - عَلَى مَا شَاهَدَهُ مِنْهُ عِيَانًا، فَقَبِلَ عُذْرَهُ، وَرَجَعَ عَلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ. أَيْ: صَدَّقْتُكُ. وَكَذَّبْتُ بَصَرِي ; لِأَجْلِ حَلِفِكَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا ثُمَّ قَرَأَ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ فَأَوَّلُ الْخَلْقِ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ يُؤْخَذُ بِرِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِي ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: أَصْحَابِي. فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ. فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَفَرَّدَ بِهِ دُونَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، سَمِعَ عُمَرَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطَرْتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: عِيسَى، وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: جُرَيْجٌ. يُصَلِّي إِذْ جَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي ؟ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَاتُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهِ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ. وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَعَرَضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ، فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَقِيلَ لَهَا:

مِمَّنْ ؟ فَقَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ. فَأَتَوْهُ وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ، فَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ ؟ قَالَ: فُلَانٌ الرَّاعِي. قَالُوا: أَنَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا مِنْ طِينٍ. وَكَانَتِ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ. فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمُصُّهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُصُّ أُصْبُعَهُ: ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ. فَتَرَكَ ثَدْيَهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا. فَقَالَتْ: لِمَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ: الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، وَهَذِهِ الْأَمَةُ يَقُولُونَ: سَرَقْتِ وَزَنَيْتِ. وَلَمْ تَفْعَلْ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ وَالْأَنْبِيَاءُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الْحَفَرِيِّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ، وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ عِيسَى

نَبِيٌّ وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِنَحْوِهِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ آدَمَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لَعَلَّاتٍ، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ نَازِلٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، سَبْطٌ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ، بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ، فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيُعَطِّلُ الْمِلَلَ، حَتَّى تَهْلِكَ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلُ كُلُّهَا غَيْرَ الْإِسْلَامِ، وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ الْكَذَّابَ، وَتَقَعُ الْأَمَنَةُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الْإِبِلُ مَعَ الْأُسْدِ جَمِيعًا، وَالنُّمُورُ مَعَ الْبَقَرِ، وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ، وَيَلْعَبُ الصِّبْيَانُ وَالْغِلْمَانُ بِالْحَيَّاتِ، لَا يَضُرُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَيَمْكُثُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ يَتَوَفَّى، فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَدْفِنُونَهُ ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ،

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَالَ: فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يَتَوَفَّى وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى بِهِ نَحْوَهُ. وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَسَيَأْتِي بَيَانُ نُزُولِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي آخِرِ الزَّمَانِ فِي كِتَابِ " الْمَلَاحِمِ " كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ أَيْضًا فِي " التَّفْسِيرِ " عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ " النِّسَاءِ ": وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا وَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ الْآيَةَ. وَإِنَّهُ يَنْزِلُ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ بِدِمَشْقَ، وَقَدْ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ، فَيَقُولُ لَهُ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ: تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللَّهِ فَصَلِّ. فَيَقُولُ: لَا، بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ، تَكْرِمَةُ اللَّهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَيَقُولُ لَهُ عِيسَى: إِنَّمَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ لَكَ. فَيُصَلِّي خَلْفَهُ، ثُمَّ يَرْكَبُ وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي طَلَبِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، فَيَلْحَقُهُ عِنْدَ بَابِ لُدٍّ، فَيَقْتُلُهُ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ. وَذَكَرْنَا أَنَّهُ قَوِيَ الرَّجَاءُ حِينَ بُنِيَتْ هَذِهِ الْمَنَارَةُ الشَّرْقِيَّةُ بِدِمَشْقَ الَّتِي هِيَ مِنْ حِجَارَةٍ بِيضٍ، وَقَدْ بُنِيَتْ أَيْضًا مِنْ أَمْوَالِ النَّصَارَى حِينَ حَرَقُوا الَّتِي هُدِمَتْ وَمَا حَوْلَهَا، فَيَنْزِلُ عَلَيْهَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْ

أَحَدٍ إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَأَنَّهُ يَحُجُّ مِنْ فَجِّ الرَّوْحَاءِ، حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لِثِنْتَيْهِمَا، وَيُقِيمُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يَمُوتُ فَيُدْفَنُ - فِيمَا قِيلَ - فِي الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي آخِرِ تَرْجَمَةِ الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي كِتَابِهِ، عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا، أَنَّهُ يُدْفَنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ فِي الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ.
وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ الطَّائِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو مَوْدُودٍ الْمَدَنِيُّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الضَّحَّاكِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ صِفَةُ مُحَمَّدٍ، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، يُدْفَنُ مَعَهُ. قَالَ أَبُو مَوْدُودٍ: وَقَدْ بَقِيَ فِي الْبَيْتِ مَوْضِعُ قَبْرٍ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. كَذَا قَالَ. وَالصَّوَابُ الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ الْمَدَنِيُّ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصِحُّ عِنْدِي، وَلَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدَيِّ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: الْفَتْرَةُ مَا بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ. وَعَنْ قَتَادَةَ: خَمْسُمِائَةٍ وَسِتُّونَ سَنَةً.

وَقِيلَ: خَمْسُمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: أَرْبَعُمِائَةٍ وَبِضْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَالْمَشْهُورُ سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: سِتُّمِائَةٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً بِالْقَمَرِيَّةِ فَتَكُونُ سِتَّمِائَةٍ بِالشَّمْسِيَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ ": ذِكْرُ الْمُدَّةِ الَّتِي بَقِيَتْ فِيهَا أُمَّةُ عِيسَى عَلَى هَدْيِهِ. حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى، حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ قَبَضَ اللَّهُ دَاوُدَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ فَمَا فُتِنُوا وَلَا بَدَّلُوا، وَلَقَدْ مَكَثَ أَصْحَابُ الْمَسِيحِ عَلَى سُنَّتِهِ وَهَدْيِهِ مِائَتَيْ سَنَةٍ وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَإِنْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، أَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ وَصَّى الْحَوَارِيِّينَ بِأَنْ يَدْعُوَا النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَعَيَّنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ فِي إِقْلِيمٍ مِنَ الْأَقَالِيمِ مِنَ الشَّامِ وَالْمَشْرِقِ، وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ أَصْبَحَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ يَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُ الْمَسِيحُ إِلَيْهِمْ. وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْإِنْجِيلَ نَقَلَهُ عَنْهُ أَرْبَعَةٌ: لُوقَا، وَمَتَّى وَمُرْقُسُ، وَيُوحَنَّا. وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ تَفَاوُتٌ كَثِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ نُسْخَةٍ وَنُسْخَةٍ، وَزِيَادَاتٌ كَثِيرَةٌ وَنَقْصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُخْرَى، وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ

مِنْهُمُ اثْنَانِ مِمَّنْ أَدْرَكَ الْمَسِيحَ وَرَآهُ، وَهُمَا مَتَّى وَيُوحَنَّا وَمِنْهُمُ اثْنَانِ مِنْ أَصْحَابِ أَصْحَابِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهُمَا مُرْقُسُ وَلُوقَا. وَكَانَ مِمَّنْ آمَنَ بِالْمَسِيحِ وَصَدَّقَهُ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: ضِينَا، وَكَانَ مُخْتَفِيًا فِي مَغَارَةٍ دَاخِلَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ قَرِيبًا مِنَ الْكَنِيسَةِ الْمُصَلَّبَةِ ; خَوْفًا مِنْ بُولِصَ الْيَهُودِيِّ، وَكَانَ ظَالِمًا غَاشِمًا مُبْغِضًا لِلْمَسِيحِ، وَلَمَّا جَاءَ بِهِ. وَكَانَ قَدْ حَلَقَ رَأْسَ ابْنِ أَخِيهِ حِينَ آمَنَ بِالْمَسِيحِ، وَطَافَ بِهِ فِي الْبَلَدِ ثُمَّ رَجَمَهُ حَتَّى مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَلَمَّا سَمِعَ بُولِصُ أَنَّ الْمَسِيحَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَدْ تَوَجَّهَ نَحْوَ دِمَشْقَ جَهَّزَ بِغَالَهُ وَخَرَجَ لِيَقْتُلَهُ فَتَلَقَّاهُ عِنْدَ كَوْكَبَا، فَلَمَّا وَاجَهَ أَصْحَابَ الْمَسِيحِ، جَاءَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَضَرَبَ وَجْهَهُ بِطَرَفِ جَنَاحِهِ فَأَعْمَاهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ تَصْدِيقُ الْمَسِيحِ، فَجَاءَ إِلَيْهِ وَاعْتَذَرَ مِمَّا صَنَعَ، وَآمَنَ بِهِ فَقَبِلَ مِنْهُ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَيْنَيْهِ ; لِيَرُدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى ضِينَا عِنْدَكَ بِدِمَشْقَ فِي طَرَفِ السُّوقِ الْمُسْتَطِيلِ مِنَ

الْمَشْرِقِ، فَهُوَ يَدْعُو لَكَ. فَجَاءَ إِلَيْهِ فَدَعَا، فَرَدَّ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، وَحَسُنَ إِيمَانُ بُولِصَ بِالْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَبُنِيَتْ لَهُ كَنِيسَةٌ بِاسْمِهِ، فَهِيَ كَنِيسَةُ بُولِصَ الْمَشْهُورَةُ بِدِمَشْقَ، مِنْ زَمَنِ فَتَحَهَا الصَّحَابَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، حَتَّى خَرِبَتْ فِي الزَّمَانِ الَّذِي سَنُورِدُهُ. إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَصْلُ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ - فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ، كَمَا أَوْرَدْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: قَالَ قَائِلُونَ مِنْهُمْ: كَانَ فِينَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَرُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ اللَّهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ. فَالْأَوَّلُ هُوَ الْحَقُّ، وَالْقَوْلَانِ الْآخَرَانِ كُفْرٌ عَظِيمٌ، كَمَا قَالَ: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [ مَرْيَمَ: 37 ]. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي نَقْلِ الْأَنَاجِيلِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ، مَا بَيْنَ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ وَتَحْرِيفٍ وَتَبْدِيلٍ، ثُمَّ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ حَدَثَتْ فِيهِ الطَّامَّةُ الْعُظْمَى، وَالْبَلِيَّةُ الْكُبْرَى اخْتَلَفَ الْبَطَارِكَةُ الْأَرْبَعَةُ وَجَمِيعُ الْأَسَاقِفَةِ وَالْقَسَاوِسَةُ وَالشَّمَامِسَةُ وَالرَّهَابِينُ فِي الْمَسِيحِ عَلَى أَقْوَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ لَا تَنْحَصِرُ وَلَا تَنْضَبِطُ، وَاجْتَمَعُوا وَتَحَاكَمُوا إِلَى الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ، بَانِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَهُمُ الْمَجْمَعُ الْأَوَّلُ، فَصَارَ الْمَلِكُ إِلَى قَوْلِ أَكْثَرِ فِرْقَةٍ اتَّفَقَتْ عَلَى قَوْلٍ مِنْ تِلْكَ الْمَقَالَاتِ، فَسُمُّوا الْمَلَائِكَةَ، وَدَحَضَ مَنْ عَدَاهُمْ، وَأَبْعَدَهُمْ، وَتَفَرَّدَتِ الْفِرْقَةُ التَّابِعَةُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَدْيُوسَ، الَّذِي ثَبَتَ عَلَى أَنَّ عِيسَى عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَرَسُولٌ مِنْ رُسُلِهِ، فَسَكَنُوا الْبَرَارِيَ وَالْبَوَادِيَ، وَبَنَوُا الصَّوَامِعَ

وَالدِّيَارَاتِ وَالْقَلَّايَاتِ، وَقَنِعُوا بِالْعَيْشِ الزَّهِيدِ، وَلَمْ يُخَالِطُوا أُولَئِكَ الْمِلَلَ وَالنِّحَلَ، وَبَنَتِ الْمَلَائِكَةُ الْكَنَائِسَ الْهَائِلَةَ، عَمَدُوا إِلَى مَا كَانَ مِنْ بِنَاءِ الْيُونَانِ، فَحَوَّلُوا مَحَارِيبَهَا إِلَى الشَّرْقِ، وَقَدْ كَانَتْ إِلَى الشَّمَالِ إِلَى الْجَدْيِ.

بَيَانُ بِنَاءِ بَيْتِ لَحْمٍ وَالْقُمَامَةِ
وَبَنَى الْمَلِكُ قُسْطَنْطِينُ بَيْتَ لَحْمٍ عَلَى مَحَلِّ مَوْلِدِ الْمَسِيحِ، وَبِنَتْ أُمُّهُ هِيلَانَةُ الْقُمَامَةَ، يَعْنِي عَلَى قَبْرِ الْمَصْلُوبِ، وَهُمْ يُسَلِّمُونَ لِلْيَهُودِ أَنَّهُ الْمَسِيحُ، وَقَدْ كَفَرَتْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَوَضَعُوا الْقَوَانِينَ وَالْأَحْكَامَ، وَمِنْهَا مُخَالِفٌ لِلْعَتِيقَةِ الَّتِي هِيَ التَّوْرَاةُ، وَأَحَلُّوا أَشْيَاءَ هِيَ حَرَامٌ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْخِنْزِيرُ، وَصَلَّوْا إِلَى الشَّرْقِ وَلَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ صَلَّى إِلَّا إِلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مُوسَى وَمُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ صَلَّى إِلَيْهَا بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، سِتَّةَ عَشَرَ - أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ - شَهْرًا، ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى الْكَعْبَةِ الَّتِي بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ، وَصَوَّرُوا الْكَنَائِسَ وَلَمْ تَكُنْ مُصَوَّرَةً قَبْلَ ذَلِكَ، وَوَضَعُوا الْعَقِيدَةَ الَّتِي يَحْفَظُهَا أَطْفَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَرِجَالُهُمُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا بِالْأَمَانَةِ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ أَكْبَرُ الْكُفْرِ وَالْخِيَانَةِ. وَجَمِيعُ الْمَلَكِيَّةِ وَالنَّسْطُورِيَّةِ أَصْحَابُ نَسْطُورَسَ أَهْلِ الْمَجْمَعِ الثَّانِي، وَالْيَعْقُوبِيَّةِ أَصْحَابِ يَعْقُوبَ الْبَرَادِعِيِّ، أَصْحَابِ الْمَجْمَعِ الثَّالِثِ، يَعْتَقِدُونَ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ، وَيَخْتَلِفُونَ فِي تَفْسِيرِهَا، وَهَا أَنَا أَحْكِيهَا، وَحَاكِي الْكُفْرِ لَيْسَ بِكَافِرٍ لِأَبُثَّ، عَلَى مَا فِيهَا، رَكَّةَ الْأَلْفَاظِ وَكَثْرَةَ الْكُفْرِ وَالْخَبَالِ الْمُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى النَّارِ ذَاتِ الشُّوَاظِ ; فَيَقُولُونَ، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: نُؤْمِنُ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ ضَابِطِ الْكُلِّ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ; كُلِّ مَا يُرَى، وَكُلِّ مَا لَا يُرَى، وَبِرَبٍّ وَاحِدٍ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللَّهِ، الْوَحِيدِ الْمَوْلُودِ مِنَ الْأَبِ قَبْلَ

الدُّهُورِ، نُورٍ مِنْ نُورٍ إِلَهٍ حَقٍّ، مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ، مَوْلُودٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ، مُسَاوٍ لِلْأَبِ فِي الْجَوْهَرِ الَّذِي كَانَ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَجْلِنَا، نَحْنُ الْبَشَرَ، وَمِنْ أَجْلِ خَلَاصِنَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، وَتَجَسَّدَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ، وَمِنْ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ وَتَأَنَّسَ، وَصُلِبِ عَلَى عَهْدِ مَلَاطِسَ النَّبَطِيِّ، وَتَأَلَّمَ وَقُبِرَ، وَقَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، كَمَا فِي الْكُتُبِ، وَصَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ الْأَبِ. وَأَيْضًا فَسَيَأْتِي بِجَسَدِهِ ; لِيُدَبِّرَ الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ، الَّذِي لَا فَنَاءَ لِمُلْكِهِ، وَرُوحُ الْقُدُسِ الرَّبُّ الْمُحْيِي الْمُنْبَثِقُ مِنَ الْأَبِ مَعَ الْأَبِ، وَالِابْنُ مَسْجُودٌ لَهُ، وَبِمَجْدِ النَّاطِقِ فِي الْأَنْبِيَاءِ، كَنِسْبَةٍ وَاحِدَةٍ جَامِعَةٍ مُقَدَّسَةٍ يَهُولِيَّةٍ، وَاعْتَرَفَ بِمَعْمُودِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا، وَأَنَّهُ حَيُّ قِيَامَةَ الْمَوْتَى وَحَيَاةَ الدَّهْرِ الْعَتِيدِ كَوْنُهُ. آمِينَ.

كِتَابُ أَخْبَارِ الْمَاضِينَ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ إِلَى آخَرِ زَمَنِ الْفَتْرَةِ سِوَى أَيَّامِ الْعَرَبِ وَجَاهِلِيَّتِهِمْ، فَإِنَّا سَنُورِدُ ذَلِكَ بَعْدَ فَرَاغِنَا مِنْ هَذَا الْفَصْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا [ طه: 99 ]. وَقَالَ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [ يُوسُفَ: 3 ].

خَبَرُ ذِي الْقَرْنَيْنِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [ الْكَهْفِ: 83 - 98 ].
ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَا الْقَرْنَيْنِ هَذَا، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالْعَدْلِ، وَأَنَّهُ بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ، وَمَلَكَ الْأَقَالِيمَ وَقَهَرَ أَهْلَهَا، وَسَارَ فِيهِمْ بِالْمَعْدَلَةِ التَّامَّةِ، وَالسُّلْطَانِ

الْمُؤَيَّدِ الْمُظَفَّرِ الْمَنْصُورِ الْقَاهِرِ الْمُقْسِطِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ مَلِكًا مِنَ الْمُلُوكِ الْعَادِلِينَ، وَقِيلَ: كَانَ نَبِيًّا. وَقِيلَ: كَانَ رَسُولًا. وَأَغْرَبَ مَنْ قَالَ: مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَدْ حُكِيَ هَذَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَإِنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِآخَرَ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ: مَهْ، مَا كَفَاكُمْ أَنْ تَتَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى تَسَمَّيْتُمْ بِأَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ. ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ.
وَقَدْ رَوَى وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ نَبِيًّا. وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أَدْرِي أَتُبَّعٌ كَانَ لَعِينًا أَمْ لَا، وَلَا أَدْرِي الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا أَمْ لَا، وَلَا أَدْرِي ذُو الْقَرْنَيْنِ كَانَ نَبِيًّا أَمْ لَا وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ السَّاجِ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ

ذُو الْقَرْنَيْنِ مَلِكًا صَالِحًا، رَضِيَ اللَّهُ عَمَلَهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ، وَكَانَ مَنْصُورًا، وَكَانَ الْخَضِرُ وَزِيرَهُ. وَذَكَرَ أَنَّ الْخَضِرَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ عَلَى مُقَدَّمَةِ جَيْشِهِ وَكَانَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاوِرِ، الَّذِي هُوَ مِنَ الْمَلِكِ بِمَنْزِلَةِ الْوَزِيرِ فِي إِصْلَاحِ النَّاسِ الْيَوْمَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَزْرَقِيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَطَافَ مَعَهُ بِالْكَعْبَةِ الْمُكَرَّمَةِ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَرُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِمَا، أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ حَجَّ مَاشِيًا، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا سَمِعَ بِقُدُومِهِ تَلَقَّاهُ وَدَعَا لَهُ وَرَضَّاهُ، وَأَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لِذِي الْقَرْنَيْنِ السَّحَابَ يَحْمِلُهُ حَيْثُ أَرَادَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي سُمِّيَ بِهِ ذَا الْقَرْنَيْنِ ; فَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ فِي رَأْسِهِ شِبْهُ الْقَرْنَيْنِ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ لَهُ قَرْنَانِ مِنْ نُحَاسٍ فِي رَأْسِهِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ: لِأَنَّهُ مَلَكَ فَارِسَ وَالرُّومَ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ بَلَغَ قَرْنَيِ الشَّمْسِ غَرْبًا وَشَرْقًا، وَمَلَكَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَرْضِ. وَهَذَا أَشْبَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَتْ لَهُ غَدِيرَتَانِ مِنْ شَعْرٍ يَطَأُ فِيهِمَا ; فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ،

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادِ بْنِ سَمْعَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّهُ قَالَ: دَعَا مَلِكًا جَبَّارًا إِلَى اللَّهِ فَضَرَبَهُ عَلَى قَرْنِهِ فَكَسَرَهُ وَرَضَّهُ، ثُمَّ دَعَاهُ فَدَقَّ قَرْنَهُ الثَّانِيَ، فَكَسَرَهُ، فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ. وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ فَقَالَ: كَانَ عَبْدًا نَاصَحَ اللَّهَ فَنَاصَحَهُ، دَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللَّهِ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ فَمَاتَ، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ فَدَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللَّهِ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ الْآخَرِ فَمَاتَ، فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ عَلِيٍّ بِهِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَلَا رَسُولًا وَلَا مَلَكًا، وَلَكِنْ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ ; فَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الضَّحَّاكِ بْنِ مَعْدٍ. وَقِيلَ: مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قِنانَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَزْدِ بْنِ غَوْثِ بْنِ نَبْتِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأِ بْنِ قَحْطَانَ.

وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ كَانَ مِنْ حِمْيَرٍ، وَأُمُّهُ رُومِيَّةٌ، وَأَنَّهُ كَانَ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْفَيْلَسُوفِ ; لِعَقْلِهِ. وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُ الْحِمْيَرِيِّينَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا يَفْخَرُ بِكَوْنِهِ أَحَدَ أَجْدَادِهِ فَقَالَ:
قَدْ كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ جَدِّيَ مُسْلِمًا مَلِكًا تَدِينُ لَهُ الْمُلُوكُ وَتَحْشُدُ بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ يَبْتَغِي
أَسْبَابَ أَمْرٍ مِنْ حَكِيمٍ مُرْشِدِ فَرَأَى مَغِيبَ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا
فِي عَيْنِ ذِي خُلُبٍ وَثَأْطٍ حَرْمَدِ مِنْ بَعْدِهِ بَلْقِيسُ كَانَتْ عَمَّتِي
مَلَكَتْهُمُ حَتَّى أَتَاهَا الْهُدْهُدُ
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَقِيلَ: كَانَ اسْمُهُ مَرْزَبَى بْنَ مَرْذَبَةَ، ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ اسْمَهُ الصَّعْبُ بْنُ ذِي مَرَاثِدَ. وَهُوَ أَوَّلُ التَّبَابِعَةِ، وَهُوَ الَّذِي حَكَمَ لِإِبْرَاهِيمَ فِي بِئْرِ السَّبْعِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَفْرِيدُونُ

بْنُ أَسْفِيَانَ، الَّذِي قَتَلَ الضَّحَّاكَ. وَفِي خُطْبَةِ قَسٍّ: يَا مَعْشَرَ إِيَادٍ، أَيْنَ الصَّعْبُ ذُو الْقَرْنَيْنِ، مَلَكَ الْخَافِقَيْنِ، وَأَذَلَّ الثَّقَلَيْنِ، وَعَمَّرَ أَلْفَيْنِ، ثُمَّ كَانَ كَلَحْظَةِ عَيْنٍ، ثُمَّ أَنْشَدَ ابْنُ هِشَامٍ لِلْأَعْشَى:
وَالصَّعْبُ ذُو الْقَرْنَيْنِ أَصْبَحَ ثَاوِيًا بِالْحِنْوِ فِي جَدَثٍ أُمَيْمَ مقُيِمِ
وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ مَاكُولَا أَنَّ اسْمَهُ هَرْمَسُ. وَيُقَالُ: هَرْدِيسُ بْنُ فَيَطْوُنَ بْنِ رُومِيِّ بْنِ لَنْطِيِّ بْنِ كَسْلُوجِينَ بْنِ يُونَانَ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: إِسْكَنْدَرُ هُوَ ذُو الْقَرْنَيْنِ وَأَبُوهُ أَوَّلُ الْقَيَاصِرَةِ، وَكَانَ مِنْ وَلَدِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَأَمَّا ذُو الْقَرْنَيْنِ الثَّانِي فَهُوَ إِسْكَنْدَرُ بْنُ فِيلَيبْسَ بْنِ مَضْرِيمَ بْنِ هَرْمَسَ بْنِ هَرْدَسَ بْنِ مَيْطُونَ بْنِ رُومِيِّ بْنِ لَنْطِيِّ بْنِ يُونَانَ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُونَةَ بْنِ سَرْحُونَ بْنِ رُومَةَ بْنِ ثَرْنَطَ بْنِ تَوْفِيلَ بْنِ رُومِيِّ بْنِ الْأَصْفَرِ بْنِ الْيَفَزَ بْنِ

الْعِيصَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ. كَذَا نَسَبَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " الْمَقْدُونِيُّ الْيُونَانِيُّ الْمِصْرِيُّ، بَانِي إِسْكَنْدَرِيَّةَ، الَّذِي يُؤَرِّخُ بِأَيَّامِهِ الرُّومُ، وَكَانَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْأَوَّلِ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ، كَانَ هَذَا قَبْلَ الْمَسِيحِ بِنَحْوٍ مَنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ أَرِسْطَاطَالِيسُ الْفَيْلَسُوفُ وَزِيرَهُ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ دَارَا بْنَ دَارَا، وَأَذَلَّ مُلُوكَ الْفُرْسِ وَأَوْطَأَ أَرْضَهُمْ. وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الَّذِي كَانَ أَرِسْطَاطَالِيسُ وَزِيرَهُ، فَيَقَعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ خَطَأٌ كَبِيرٌ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ طَوِيلٌ كَثِيرٌ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ كَانَ عَبْدًا مُؤْمِنًا صَالِحًا وَمَلِكًا عَادِلًا، وَكَانَ وَزِيرُهُ الْخَضِرَ، وَقَدْ كَانَ نَبِيًّا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا. وَأَمَّا الثَّانِي، فَكَانَ مُشْرِكًا، وَكَانَ وَزِيرُهُ فَيْلَسُوفًا، وَقَدْ كَانَ بَيْنَ زَمَانَيْهِمَا أَزْيَدُ مِنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا، لَا يَسْتَوِيَانِ وَلَا يَشْتَبِهَانِ، إِلَّا عَلَى غَبِيٍّ لَا يَعْرِفُ حَقَائِقَ الْأُمُورِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [ الْكَهْفِ: 83 ]. كَانَ سَبَبُهُ أَنَّ قُرَيْشًا سَأَلُوا الْيَهُودَ عَنْ شَيْءٍ يَمْتَحِنُونَ بِهِ عِلْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا لَهُمْ: سَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ فِي الْأَرْضِ، وَعَنْ فِتْيَةٍ خَرَجُوا لَا يُدْرَى مَا فَعَلُوا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَقِصَّةَ ذِي الْقَرْنَيْنِ. وَلِهَذَا قَالَ: قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا أَيْ مِنْ خَبَرِهِ وَشَأْنِهِ

ذِكْرًا أَيْ خَبَرًا نَافِعًا كَافِيًا فِي تَعْرِيفِ أَمَرِهِ وَشَرْحِ حَالِهِ. فَقَالَ: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا أَيْ: وَسَّعْنَا مَمْلَكَتَهُ فِي الْبِلَادِ وَأَعْطَيْنَاهُ مِنْ آلَاتِ الْمَمْلَكَةِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى تَحْصِيلِ مَا يُحَاوِلُهُ مِنَ الْمُهِمَّاتِ الْعَظِيمَةِ وَالْمَقَاصِدِ الْجَسِيمَةِ.
قَالَ قُتَيْبَةُ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ حِمَازٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، كَيْفَ بَلَغَ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ ؟ فَقَالَ: سُخِّرَ لَهُ السَّحَابُ، وَمُدَّتْ لَهُ الْأَسْبَابُ، وَبُسِطَ لَهُ فِي النُّورِ. وَقَالَ: أَزِيدُكَ ؟ فَسَكَتَ الرَّجُلُ، وَسَكَتَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْوَادِعِيِّ، سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: مَلَكَ الْأَرْضَ أَرْبَعَةٌ: سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ النَّبِيُّ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَذُو الْقَرْنَيْنِ، وَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ حُلْوَانَ وَرَجُلٌ آخَرُ. فَقِيلَ لَهُ: الْخَضِرُ ؟ قَالَ: لَا.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ مَلَكَ الْأَرْضَ كُلَّهَا أَرْبَعَةٌ: مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ ; سُلَيْمَانُ النَّبِيُّ، وَذُو الْقَرْنَيْنِ، وَنُمْرُودُ، وَبُخْتُ نَصَّرَ. وَهَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، سَوَاءً.

وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ، مَلَكَ بَعْدَ النَّمْرُودِ وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُسْلِمًا صَالِحًا أَتَى الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ، مَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْأَجَلِ وَنَصَرَهُ، حَتَّى قَهَرَ الْبِلَادَ وَاحْتَوَى عَلَى الْأَمْوَالِ، وَفَتَحَ الْمَدَائِنَ وَقَتَلَ الرِّجَالَ وَجَالَ فِي الْبِلَادِ وَالْقِلَاعِ، فَسَارَ حَتَّى أَتَى الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا أَيْ: خَبَرًا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا أَيْ: عِلْمًا بِطَلَبِ أَسْبَابِ الْمَنَازِلِ.
قَالَ إِسْحَاقُ: وَزَعَمَ مُقَاتِلٌ أَنَّهُ كَانَ يَفْتَحُ الْمَدَائِنَ وَيَجْمَعُ الْكُنُوزَ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ عَلَى دِينِهِ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا قَتَلَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَعُبَيْدُ بْنُ يَعْلَى، وَالسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا يَعْنِي عِلْمًا. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ: مَعَالِمُ الْأَرْضِ وَمَنَازِلُهَا وَأَعْلَامُهَا وَآثَارُهَا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: يَعْنِي تَعْلِيمَ الْأَلْسِنَةِ، كَانَ لَا يَغْزُو قَوْمًا إِلَّا حَدَّثَهُمْ بِلُغَتِهِمْ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ سَبَبٍ يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى نَيْلِ مَقْصُودِهِ فِي الْمَمْلَكَةِ وَغَيْرِهَا; فَإِنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ إِقْلِيمٍ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْمَطَاعِمِ وَالزَّادِ مَا يَكْفِيهِ وَيُعِينُهُ عَلَى أَهْلِ الْإِقْلِيمِ الْآخَرِ.
وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ مَكَثَ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةِ سَنَةٍ يَجُوبُ الْأَرْضَ،

وَيَدْعُو أَهْلَهَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَفِي كُلِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ حَدِيثًا مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا مُطَوَّلًا جِدًّا، وَهُوَ مُنْكَرٌ جِدًّا. وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْكُدَيْمِيُّ وَهُوَ مُتَّهَمٌ، فَلِهَذَا لَمْ نَكْتُبْهُ لِسُقُوطِهِ عِنْدَنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: فَأَتْبَعَ سَبَبًا أَيْ: طَرِيقًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ يَعْنِي مِنَ الْأَرْضِ، انْتَهَى إِلَى حَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يُجَاوِزَهُ، وَوَقَفَ عَلَى حَافَّةِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: أُوقْيَانُوسُ الَّذِي فِيهِ الْجَزَائِرُ الْمُسَمَّاةُ بِالْخَالِدَاتِ، الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ الْأَطْوَالِ، عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ أَرْبَابِ الْهَيْئَةِ، وَالثَّانِي مِنْ سَاحِلِ هَذَا الْبَحْرِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَعِنْدَهُ شَاهَدَ مَغِيبَ الشَّمْسِ - فِيمَا رَآهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُشَاهَدَتِهِ - تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَالْمُرَادُ بِهَا الْبَحْرُ فِي نَظَرِهِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ فِي الْبَحْرِ أَوْ عَلَى سَاحِلِهِ يَرَى الشَّمْسَ كَأَنَّهَا تَطْلُعُ مِنَ الْبَحْرِ وَتَغْرُبُ فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ وَجَدَهَا، أَيْ: فِي نَظَرِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: فَإِذَا هِيَ تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ. أَيْ: ذَاتِ حَمْأَةٍ. قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ وَهُوَ الطِّينُ الْأَسْوَدُ. وَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ ( حَامِيَةٍ ). فَقِيلَ: يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: مِنَ الْحَرَارَةِ. وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْمُقَابَلَةِ لِوَهَجِ ضَوْءِ الشَّمْسِ وَشُعَاعِهَا.

وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنِي مَوْلًى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الشَّمْسِ حِينَ غَابَتْ فَقَالَ: فِي نَارِ اللَّهِ الْحَامِيَةِ، لَوْلَا مَا يَزَعُهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لَأَحْرَقَتْ مَا عَلَى الْأَرْضِ فِيهِ غَرَابَةٌ، وَفِيهِ رَجُلٌ مُبْهَمٌ لَمْ يُسَمَّ، وَرَفْعُهُ فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ يَكُونُ مَوْقُوفًا مِنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ أَصَابَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ زَامِلَتَيْنِ مِنْ كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَنْ زَعَمَ مِنَ الْقُصَّاصِ، أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ جَاوَزَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ، وَصَارَ يَمْشِي بِجُيُوشِهِ فِي ظُلُمَاتٍ مُدَدًا طَوِيلَةً، فَقَدْ أَخْطَأَ، وَأَبْعَدَ النُّجْعَةَ، وَقَالَ مَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ.

بَيَانُ طَلَبِ ذِي الْقَرْنَيْنِ عَيْنَ الْحَيَاةِ
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، عَنْ أَبِيهِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ خَبَرًا مُطَوَّلًا جِدًّا فِيهِ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ لَهُ صَاحِبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُ: رَنَاقِيلُ. فَسَأَلَهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ: هَلْ تَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ عَيْنًا يُقَالُ لَهَا: عَيْنُ الْحَيَاةِ ؟ فَذَكَرَ لَهُ صِفَةَ مَكَانِهَا، فَذَهَبَ ذُو الْقَرْنَيْنِ فِي طَلَبِهَا وَجَعَلَ الْخَضِرَ عَلَى مُقَدَّمَتِهِ، فَانْتَهَى الْخَضِرُ إِلَيْهَا فِي وَادٍ فِي أَرْضِ الظُّلُمَاتِ، فَشَرِبَ مِنْهَا وَلَمْ يَهْتَدِ ذُو الْقَرْنَيْنِ إِلَيْهَا. وَذَكَرَ اجْتِمَاعَ ذِي الْقَرْنَيْنِ بِبَعْضِ الْمَلَائِكَةِ فِي قَصْرٍ هُنَاكَ، وَأَنَّهُ أَعْطَاهُ حَجَرًا، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى جَيْشِهِ سَأَلَ الْعُلَمَاءَ عَنْهُ، فَوَضَعُوهُ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ، وَجَعَلُوا فِي مُقَابَلَتِهِ أَلْفَ حَجَرٍ مِثْلَهُ فَوَزَنَهَا، حَتَّى سَأَلَ الْخَضِرَ فَوَضَعَ قُبَالَهُ حَجَرًا، وَجَعْلَ عَلَيْهِ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فَرَجَحَ بِهِ، وَقَالَ: هَذَا مَثَلُ ابْنِ آدَمَ لَا يَشْبَعُ حَتَّى يُوَارَى بِالتُّرَابِ. فَسَجَدَ لَهُ الْعُلَمَاءُ تَكْرِيمًا لَهُ وَإِعْظَامًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ حَكَّمَهُ فِي أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا أَيْ: فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ عَذَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبَدَأَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا ; لِأَنَّهُ أَزْجَرُ عِنْدَ الْكَافِرِ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا

فَبَدَأَ بِالْأَهَمِّ وَهُوَ ثَوَابُ الْآخِرَةِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ الْإِحْسَانَ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ وَالْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا أَيْ: سَلَكَ طَرِيقًا رَاجِعًا مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ رَجَعَ فِي ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ بُيُوتٌ وَلَا أَكْنَانٌ يَسْتَتِرُونَ بِهَا مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: وَلَكِنْ كَانُوا يَأْوُونَ، إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحَرُّ، إِلَى أَسْرَابٍ قَدِ اتَّخَذُوهَا فِي الْأَرْضِ، شِبْهِ الْقُبُورِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا أَيْ: وَنَحْنُ نَعْلَمُ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَنَحْفَظُهُ وَنَكْلَؤُهُ بِحِرَاسَتِنَا فِي مَسِيرِهِ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ مَغَارِبِ الْأَرْضِ إِلَى مَشَارِقِهَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ السَّلَفِ، أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ حَجَّ مَاشِيًا، فَلَمَّا سَمِعَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ بِقُدُومِهِ تَلَقَّاهُ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا دَعَا لَهُ الْخَلِيلُ وَوَصَّاهُ بِوَصَايَا. وَيُقَالُ: إِنَّهُ جِيءَ بِفَرَسٍ لِيَرْكَبَهَا فَقَالَ: لَا أَرْكَبُ فِي بَلَدٍ فِيهِ الْخَلِيلُ. فَسَخَّرَ اللَّهُ لَهُ السَّحَابَ، وَبَشَّرَهُ إِبْرَاهِيمُ بِذَلِكَ، فَكَانَتْ تَحْمِلُهُ إِذَا أَرَادَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا يَعْنِي غُتْمًا. فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ هُمُ التُّرْكُ، أَبْنَاءُ عَمِّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ هَاتَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ قَدْ تَعَدَّوْا عَلَيْهِمْ وَأَفْسَدُوا فِي بِلَادِهِمْ، وَقَطَعُوا السُّبُلَ عَلَيْهِمْ، وَبَذَلُوا لَهُ حِمْلًا وَهُوَ الْخَرَاجُ عَلَى

أَنْ يُقِيمَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ حَاجِزًا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، فَامْتَنَعَ مِنْ أَخْذِ الْخَرَاجِ ; اكْتِفَاءً بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا لَهُ رِجَالًا وَآلَاتٍ لِيَبْنِيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ سَدًّا، وَهُوَ الرَّدْمُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ إِلَيْهِمْ إِلَّا مِنْ بَيْنِهِمَا، وَبَقِيَّةُ ذَلِكَ بِحَارٌ مُغْرِقَةٌ، وَجِبَالٌ شَاهِقَةٌ، فَبَنَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى، مِنَ الْحَدِيدِ وَالْقِطْرِ، وَهُوَ النُّحَاسُ الْمُذَابُ، وَقِيلَ: الرَّصَاصُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَجَعَلَ بَدَلَ اللَّبِنِ حَدِيدًا، وَبَدَلَ الطِّينِ نُحَاسًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ أَيْ: يَعْلُوَا عَلَيْهِ بِسَلَالِمَ وَلَا غَيْرِهَا وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا أَيْ: بِمَعَاوِلَ وَلَا فُؤُوسٍ وَلَا غَيْرِهَا، فَقَابَلَ الْأَسْهَلَ بِالْأَسْهَلِ وَالْأَشَدَّ بِالْأَشَدِّ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي أَيْ: قَدَّرَ اللَّهُ وُجُودَهُ لِيَكُونَ رَحْمَةً مِنْهُ بِعِبَادِهِ أَنْ يَمْنَعَ بِسَبَبِهِ عُدْوَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى مَنْ جَاوَرَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَحِلَّةِ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي أَيِ الْوَقْتُ الَّذِي قَدَّرَ خُرُوجَهُمْ عَلَى النَّاسِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ جَعَلَهُ دَكَّاءَ أَيْ مُسَاوِيًا لِلْأَرْضِ. وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ هَذَا، وَلِهَذَا قَالَ: وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا كَمَا قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ الْآيَةَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 96، 97 ]. وَلِذَا قَالَ هَاهُنَا: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ يَعْنِي يَوْمَ فَتْحِ السَّدِّ، عَلَى الصَّحِيحِ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا وَقَدْ أَوْرَدْنَا الْأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ، فِي خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ فِي " التَّفْسِيرِ " وَسَنُورِدُهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي كِتَابِ " الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ " مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ، بِحَوَلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ،

وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ وَمَعُونَتِهِ وَهِدَايَتِهِ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ: بَلَغَنَا أَنَّ أَوَّلَ مَنْ صَافَحَ، ذُو الْقَرْنَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: إِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى أُمَّهُ ; إِذَا هُوَ مَاتَ أَنْ تَصْنَعَ طَعَامًا، وَتَجْمَعَ نِسَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَتَضَعَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ، وَتَأْذَنَ لَهُنَّ فِيهِ، إِلَّا مَنْ كَانَتْ ثَكْلَى، فَلَا تَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا، فَلَمَّا فَعَلَتْ ذَلِكَ لَمْ تَضَعْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ يَدَهَا فِيهِ، فَقَالَتْ لَهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ! كُلُّكُنَّ ثَكْلَى! فَقُلْنَ: أَيْ وَاللَّهِ مَا مِنَّا إِلَّا مَنْ أُثْكِلَتْ. فَكَانَ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لِأُمِّهِ. وَذَكَرَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَصِيَّةَ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَمَوْعِظَتَهُ أُمَّهُ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً طَوِيلَةً، فِيهَا حِكَمٌ وَأُمُورٌ نَافِعَةٌ، وَأَنَّهُ مَاتَ وَعُمْرُهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَهَذَا غَرِيبٌ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَبَلَغَنِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ عَاشَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: كَانَ عُمْرُهُ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَ بَعْدَ دَاوُدَ بِسَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ بَعْدَ آدَمَ بِخَمْسَةِ آلَافٍ وَمِائَةٍ وَإِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَكَانَ مُلْكُهُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إِنَّمَا يَنْطَبِقُ عَلَى إِسْكَنْدَرَ الثَّانِي لَا الْأَوَّلِ، وَقَدْ خَلَطَ فِي أَوَّلِ التَّرْجَمَةِ وَآخِرِهَا بَيْنَهُمَا، وَالصَّوَابُ التَّفْرِقَةُ كَمَا ذَكَرْنَا، اقْتِدَاءً بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْحُفَّاظِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِمَّنْ جَعَلَهُمَا وَاحِدًا الْإِمَامُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ، رَاوِي السِّيرَةِ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، إِنْكَارًا بَلِيغًا، وَرَدَّ قَوْلَهُ رَدًّا شَنِيعًا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقًا جَيِّدًا، كَمَا قَدَّمْنَا. قَالَ: وَلَعَلَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُلُوكِ الْمُتَقَدِّمِينَ، تَسَمَّوْا بِذِي الْقَرْنَيْنِ تَشَبُّهًا بِالْأَوَّلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ذِكْرُ أُمَّتَيْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَصِفَاتِهِمْ وَمَا وَرَدَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَصِفَةِ السَّدِّ
هُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ، مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَمُ، قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ ؟ فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ، وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ. فَحِينَئِذٍ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْشِرُوا ; فَإِنَّ مِنْكُمْ وَاحِدًا، وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ: أَبْشِرُوا فَإِنَّ فِيكُمْ أُمَّتَيْنِ ; مَا كَانَتَا فِي شَيْءٍ إِلَّا كَثَّرَتَاهُ - أَيْ غَلَبَتَاهُ - كَثْرَةً وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَثْرَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ أَضْعَافُ النَّاسِ مِرَارًا عَدِيدَةً. ثُمَّ هُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ اسْتَجَابَ لِعَبْدِهِ نُوحٍ فِي دُعَائِهِ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بِقَوْلِهِ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ

دَيَّارًا [ نُوحٍ: 26 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ [ الْعَنْكَبُوتِ: 15 ]. وَقَالَ: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [ الصَّافَّاتِ: 77 ]. وَتَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي " الْمُسْنَدِ " و " السُّنَنِ ": أَنَّ نُوحًا وُلِدَ لَهُ ثَلَاثَةٌ ; وَهُمْ سَامٌ، وَحَامٌ، وَيَافِثُ، فَسَامٌ أَبُو الْعَرَبِ، وَحَامٌ أَبُو السُّودَانِ وَيَافِثُ أَبُو التُّرْكِ، فَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ طَائِفَةٌ مِنَ التُّرْكِ، وَهُمْ مَغْلُ الْمَغُولِ، وَهُمْ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَكْثَرُ فَسَادًا مِنْ هَؤُلَاءِ، وَنِسْبَتُهُمْ إِلَيْهِمْ كَنِسْبَةِ هَؤُلَاءِ إِلَى غَيْرِهِمْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ التُّرْكَ إِنَّمَا سُمُّوا بِذَلِكَ حِينَ بَنَى ذُو الْقَرْنَيْنِ السَّدَّ وَأَلْجَأَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ إِلَى مَا وَرَاءَهُ، فَبَقِيَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ كَفَسَادِهِمْ فَتُرِكُوا مِنْ وَرَائِهِ. فَلِهَذَا قِيلَ لَهُمُ: التُّرْكُ.
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ خُلِقُوا مِنْ نُطْفَةِ آدَمَ حِينَ احْتَلَمَ، فَاخْتَلَطَتْ بِتُرَابٍ فَخُلِقُوا مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ حَوَّاءَ، فَهُوَ قَوْلٌ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ، فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " وَغَيْرِهِ، وَضَعَّفُوهُ، وَهُوَ جَدِيرٌ بِذَلِكَ ; إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ الْيَوْمَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، بِنَصِّ الْقُرْآنِ. وَهَكَذَا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ عَلَى أَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَطْوَالٍ مُتَبَايِنَةٍ جِدًّا ; فَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ كَالنَّخْلَةِ السَّحُوقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ غَايَةٌ فِي الْقِصَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْتَرِشُ أُذُنًا مِنْ أُذُنَيْهِ وَيَتَغَطَّى بِالْأُخْرَى، فَكُلُّ هَذِهِ أَقْوَالٌ بِلَا دَلِيلٍ، وَرَجْمٌ بِالْغَيْبِ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ.

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ وَعَلَى أَشْكَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ وَهَذَا فَيْصَلٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ. وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ أَحَدَهُمْ لَا يَمُوتُ حَتَّى يَرَى مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَلْفًا، فَإِنْ صَحَّ فِي خَبَرٍ قُلْنَا بِهِ، وَإِلَّا فَلَا نَرُدُّهُ، إِذْ يَحْتَمِلُهُ الْعَقْلُ، وَالنَّقْلُ أَيْضًا قَدْ يُرْشِدُ إِلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَلْ قَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ مُصَرِّحٌ بِذَلِكَ، إِنْ صَحَّ ; قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ أَحْمَدُ بْنُ الْفُرَاتِ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، وَلَوْ أُرْسِلُوا لَأَفْسَدُوا عَلَى النَّاسِ مَعَائِشَهُمْ، وَلَنْ يَمُوتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا تَرَكَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَلْفًا فَصَاعِدًا. وَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِمْ ثَلَاثَ أُمَمٍ: تَاوِيلَ، وَتَارِيسَ، وَمَنْسَكَ وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَفِيهِ نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي " تَارِيخِهِ "، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ فَامْتَنَعُوا مِنْ إِجَابَتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ، وَأَنَّهُ دَعَا تِلْكَ الْأُمَمَ الَّتِي هُنَاكَ ; تَارِيسَ، وَتَاوِيلَ، وَمَنْسَكَ، فَأَجَابُوهُ، فَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ اخْتَلَقَهُ أَبُو نُعَيْمٍ عُمَرُ بْنُ

الصُّبْحِ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ الْكِبَارِ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِوَضْعِ الْحَدِيثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ دَلَّ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ فِدَاءُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُمْ فِي النَّارِ، وَلَمْ يُبْعَثْ إِلَيْهِمْ رُسُلٌ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا فَإِنْ كَانُوا فِي الزَّمَنِ الَّذِي قَبْلَ بَعْثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَتَتْهُمْ رُسُلٌ مِنْهُمْ، فَقَدْ قَامَتْ عَلَى أُولَئِكَ الْحُجَّةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ رُسُلًا، فَهُمْ فِي حُكْمِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ. وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ يُمْتَحَنُ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ أَبَى دَخَلَ النَّارَ. وَقَدْ أَوْرَدْنَا الْحَدِيثَ بِطُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ، وَكَلَامَ الْأَئِمَّةِ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وَقَدْ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ إِجْمَاعًا عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَامْتِحَانُهُمْ لَا يَقْتَضِي نَجَاتَهُمْ وَلَا يُنَافِي الْإِخْبَارَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ أَمْرِ الْغَيْبِ، وَقَدْ أَطْلَعَهُ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ، وَأَنْ سَجَايَاهُمْ تَأْبَى قَبُولَ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادَ لَهُ، فَهُمْ لَا يُجِيبُونَ الدَّاعِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ تَكْذِيبًا لِلْحَقِّ فِي الدُّنْيَا لَوْ بَلَغَهُمْ

فِيهَا ; لِأَنَّ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةَ يَنْقَادُ خَلْقٌ مِمَّنْ كَانَ مُكَذِّبًا فِي الدُّنْيَا، فَإِيقَاعُ الْإِيمَانِ هُنَاكَ لِمَا يُشَاهَدُ مِنَ الْأَهْوَالِ أَوْلَى وَأَحْرَى مِنْهُ فِي الدُّنْيَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [ السَّجْدَةِ: 12 ]. وَقَالَ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [ مَرْيَمَ: 38 ]. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُمْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَلَمْ يُجِيبُوا، فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، بَلْ مَوْضُوعٌ، وَضَعَهُ عُمَرُ بْنُ الصُّبْحِ.
وَأَمَّا السَّدُّ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ بَنَاهُ مِنَ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ، وَسَاوَى بِهِ الْجِبَالَ الصُّمَّ الشَّامِخَاتِ الطِّوَالَ، فَلَا يُعْرَفُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بِنَاءٌ أَجَلُّ مِنْهُ، وَلَا أَنْفَعُ لِلْخَلْقِ مِنْهُ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَأَيْتُ السَّدَّ. قَالَ: وَكَيْفَ رَأَيْتَهُ ؟ قَالَ: مِثْلَ الْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ. فَقَالَ: رَأَيْتَهُ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، وَلَمْ أَرَهُ مُسْنَدًا مِنْ وَجْهٍ مُتَّصِلٍ أَرْتَضِيهِ، غَيْرَ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ رَوَاهُ فِي " تَفْسِيرِهِ " مُرْسَلًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ

اللَّهِ، قَدْ رَأَيْتُ سَدَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. قَالَ: انْعَتْهُ لِي قَالَ: كَالْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ، طَرِيقَةٌ سَوْدَاءُ وَطَرِيقَةٌ حَمْرَاءُ. قَالَ: قَدْ رَأَيْتَهُ.
وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْوَاثِقَ بَعَثَ رُسُلًا مِنْ جِهَتِهِ، وَكَتَبَ لَهُمْ كُتُبًا إِلَى الْمُلُوكِ يُوصِلُونَهُمْ مِنْ بِلَادٍ إِلَى بِلَادٍ حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى السَّدِّ، فَيَكْشِفُوا عَنْ خَبَرِهِ وَيَنْظُرُوا كَيْفَ بَنَاهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ، وَعَلَى أَيِّ صِفَةٍ، فَلَمَّا رَجَعُوا أَخْبَرُوا عَنْ صِفَتِهِ وَأَنَّ فِيهِ بَابًا عَظِيمًا وَعَلَيْهِ أَقْفَالٌ، وَأَنَّهُ بِنَاءٌ مُحْكَمٌ شَاهِقٌ مُنِيفٌ جِدًّا، وَأَنَّ بَقِيَّةَ اللَّبِنِ الْحَدِيدِ وَالْآلَاتِ فِي بُرْجٍ هُنَاكَ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يَزَالُ هُنَاكَ حَرَسٌ لِتِلْكَ الْمُلُوكِ الْمُتَاخِمَةِ لِتِلْكَ الْبِلَادِ، وَمَحَلَّتُهُ فِي شَرْقِيِّ الْأَرْضِ فِي جِهَةِ الشَّمَالِ، فِي زَاوِيَةِ الْأَرْضِ الشَّرْقِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ. وَيُقَالُ: إِنَّ بِلَادَهُمْ مُتَّسِعَةٌ جِدًّا، وَإِنَّهُمْ يَقْتَاتُونَ بِأَصْنَافٍ مِنَ الْمَعَايِشِ، مِنْ حِرَاثَةٍ وَزِرَاعَةٍ وَاصْطِيَادٍ مِنَ الْبَرِّ وَمِنَ الْبَحْرِ، وَهُمْ أُمَمٌ وَخَلْقٌ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [ الْكَهْفِ: 97 ]. وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَوْمٍ، مُحْمَرًّا وَجْهُهُ وَهُوَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ! فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَحَلَّقَ تِسْعِينَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ ؟! قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، مِنْ حَدِيثِ وُهَيْبٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي

هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، مِثْلُ هَذَا وَعَقَدَ تِسْعِينَ فَالْجَوَابُ: أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى فَتْحِ أَبْوَابِ الشَّرِّ وَالْفِتَنِ، وَأَنَّ هَذَا اسْتِعَارَةٌ مَحْضَةٌ وَضَرْبُ مَثَلٍ، فَلَا إِشْكَالَ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنْ أَمْرٍ مَحْسُوسٍ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ، فَلَا إِشْكَالَ أَيْضًا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا أَيْ: فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، لِأَنَّ هَذِهِ صِيغَةُ خَبَرٍ مَاضٍ، فَلَا يَنْفِي وُقُوعَهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ قَدَرًا، وَتَسْلِيطَهُمْ عَلَيْهِ بِالتَّدْرِيجِ قَلِيلًا قَلِيلًا، حَتَّى يَتِمَّ الْأَجَلُ وَيَنْقَضِيَ الْأَمَدُ الْمَقْدُورُ، فَيَخْرُجُونَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 96 ]. وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ الْآخَرَ أَشْكَلُ مِنْ هَذَا، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " قَائِلًا: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَيَحْفِرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ: ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا. فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ كَأَشَدِّ مَا كَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ مُدَّتُهُمْ، وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ، حَفَرُوا حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ: ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَيَسْتَثْنِي، فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ حِينَ تَرَكُوهُ، فَيَحْفِرُونَهُ وَيَخْرُجُونَ

عَلَى النَّاسِ فَيُنَشِّفُونَ الْمِيَاهَ، وَيَتَحَصَّنُ النَّاسُ مِنْهُمْ فِي حُصُونِهِمْ، فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ فَتَرْجِعُ وَعَلَيْهَا كَهَيْئَةِ الدَّمِ، فَيَقُولُونَ: قَهَرْنَا أَهْلَ الْأَرْضِ، وَعَلَوْنَا أَهْلَ السَّمَاءِ. فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا فِي أَقْفَائِهِمْ، فَيَقْتُلُهُمْ بِهَا " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ دَوَابَّ الْأَرْضِ لَتَسْمَنُ شُكْرًا مِنْ لُحُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ " وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ حَسَنِ بْنِ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ بِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَ أَبُو رَافِعٍ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ، قَتَادَةَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. فَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كُلَّ يَوْمٍ يَلْحَسُونَهُ، حَتَّى كَادُوا يَنْظُرُونَ شُعَاعَ الشَّمْسِ مِنْ وَرَائِهِ ; لِرِقَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَفْعُ هَذَا الْحَدِيثِ مَحْفُوظًا، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، فَقَدِ اسْتَرَحْنَا مِنَ الْمَئُونَةِ، وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّ صَنِيعَهُمْ هَذَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ

عِنْدَ اقْتِرَابِ خُرُوجِهِمْ، كَمَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا أَيْ: نَافِذًا مِنْهُ، فَلَا يَنْفِي أَنْ يَلْحَسُوهُ وَلَا يَنْفُذُوهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَعَقَدَ تِسْعِينَ. أَيْ: فُتِحَ فَتْحًا نَافِذًا فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قِصَّةُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [ الْكَهْفِ: 9 - 26 ].

كَانَ سَبَبُ نُزُولِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَخَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، فِي " السِّيرَةِ " وَغَيْرُهُ، أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا إِلَى الْيَهُودِ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ يَمْتَحِنُونَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَسْأَلُونَهُ عَنْهَا ; لِيَخْتَبِرُوا مَا يُجِيبُ بِهِ فِيهَا، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنْ أَقْوَامٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ فَلَا يُدْرَىَ مَا صَنَعُوا، وَعَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ فِي الْأَرْضِ وَعَنِ الرُّوحِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [ الْإِسْرَاءِ: 58 ]. وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَقَالَ هَاهُنَا:

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا أَيْ: لَيْسُوا بِعَجَبٍ عَظِيمٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَطْلَعْنَاكَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الْعَظِيمَةِ، وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالْعَجَائِبِ الْغَرِيبَةِ. وَالْكَهْفُ هُوَ الْغَارُ فِي الْجَبَلِ. قَالَ شُعَيْبٌ الْجَبَائِيُّ: وَاسْمُ كَهْفِهِمْ حَيْزَمُ. وَأَمَّا الرَّقِيمُ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَا أَدْرِي مَا الْمُرَادُ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ الْكِتَابُ الْمَرْقُومُ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ وَمَا جَرَى لَهُمْ، كُتِبَ مِنْ بَعْدِهِمُ. اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ الْجَبَلِ الَّذِي فِيهِ كَهْفُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَشُعَيْبٌ الْجَبَائِيُّ: وَاسْمُهُ بَنَاجْلُوسُ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ وَادٍ عِنْدَ كَهْفِهِمْ. وَقِيلَ: اسْمُ قَرْيَةٍ هُنَالِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ شُعَيْبٌ الْجِبَائِيُّ: وَاسْمُ كَلْبِهِمْ حُمْرَانُ. وَاعْتِنَاءُ الْيَهُودِ بِأَمْرِهِمْ وَمَعْرِفَةِ خَبَرِهِمْ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَمَانَهُمْ مُتَقَدِّمٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا بَعْدَ الْمَسِيحِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا نَصَارَى. وَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ قَوْمَهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ وَغَيْرِهِمْ: كَانُوا فِي زَمَنِ مَلِكٍ يُقَالُ لَهُ: دِقْيَانُوسُ. وَكَانُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْأَكَابِرِ. وَقِيلَ: مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ. وَاتَّفَقَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي يَوْمِ عِيدٍ لِقَوْمِهِمْ فَرَأَوْا مَا يَتَعَاطَاهُ قَوْمُهُمْ، مِنَ السُّجُودِ لِلْأَصْنَامِ وَالتَّعْظِيمِ لِلْأَوْثَانِ، فَنَظَرُوا بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ، وَكَشَفَ اللَّهُ عَنْ قُلُوبِهِمْ حِجَابَ الْغَفْلَةِ، وَأَلْهَمَهُمْ رُشْدَهُمْ، فَعَلِمُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، فَخَرَجُوا عَنْ دِينِهِمْ، وَانْتَمَوْا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَيُقَالُ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمَّا أَوْقَعَ اللَّهُ فِي نَفْسِهِ مَا هَدَاهُ إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، انْحَازَ عَنِ

النَّاسِ، وَاتَّفَقَ اجْتِمَاعُ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، كَمَا صَحَّ فِي الْبُخَارِيِّ الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ فَكُلٌّ مِنْهُمْ سَأَلَ الْآخَرَ عَنْ أَمْرِهِ وَعَنْ شَأْنِهِ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الِانْحِيَازِ عَنْ قَوْمِهِمْ، وَالتَّبَرِّي مِنْهُمْ، وَالْخُرُوجِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَالْفِرَارِ بِدِينِهِمْ مِنْهُمْ، وَهُوَ الْمَشْرُوعُ حَالَ الْفِتَنِ وَظُهُورِ الشُّرُورِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ أَيْ: بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَصَارُوا مِنَ الْأَمْرِ عَلَيْهِ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ أَيْ: وَإِذْ قَدْ فَارَقْتُمُوهُمْ فِي دِينِهِمْ وَتَبَرَّأْتُمْ مِمَّا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [ الزُّخْرُفِ: 26، 27 ]. وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِذْ قَدْ فَارَقْتُمْ قَوْمَكُمْ فِي دِينِهِمْ، فَاعْتَزَلُوهُمْ بِأَبْدَانِكُمْ لِتَسْلَمُوا مِنْهُمْ أَنْ يُوصِلُوا إِلَيْكُمْ شَرًّا فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا أَيْ: يُسْبِلْ عَلَيْكُمْ سِتْرَهُ، وَتَكُونُوا تَحْتَ حِفْظِهِ وَكَنَفِهِ، وَيَجْعَلْ عَاقِبَةَ

أَمْرِكُمْ إِلَى خَيْرٍ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَمِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى صِفَةَ الْغَارِ الَّذِي آوَوْا إِلَيْهِ، وَأَنَّ بَابَهُ مُوَجَّهٌ إِلَى نَحْوِ الشَّمَالِ، وَأَعْمَاقَهُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَذَلِكَ أَنْفَعُ الْأَمَاكِنِ ; أَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ قِبْلِيًّا، وَبَابُهُ نَحْوَ الشَّمَالِ، فَقَالَ: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ وَقُرِئَ: ( تَزْوَرُّ ) عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّمْسَ، يَعْنِي فِي زَمَنِ الصَّيْفِ وَأَشْبَاهِهِ، تُشْرِقُ أَوَّلَ طُلُوعِهَا فِي الْغَارِ فِي جَانِبِهِ الْغَرْبِيِّ، ثُمَّ تَشْرَعُ فِي الْخُرُوجِ مِنْهُ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَهُوَ ازْوِرَارُهَا ذَاتَ الْيَمِينِ فَتَرْتَفِعُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ وَتَتَقَلَّصُ عَنْ بَابِ الْغَارِ، ثُمَّ إِذَا تَضَيَّفَتْ لِلْغُرُوبِ تَشْرَعُ فِي الدُّخُولِ فِيهِ مِنْ جِهَتِهِ الشَّرْقِيَّةِ قَلِيلًا قَلِيلًا إِلَى حِينِ الْغُرُوبِ، كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكَانِ، وَالْحِكْمَةُ فِي دُخُولِ الشَّمْسِ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَنْ لَا يَفْسُدَ هَوَاؤُهُ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ أَيْ: بَقَاؤُهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ دَهْرًا طَوِيلًا مِنَ السِّنِينَ، لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ، وَلَا تَتَغَذَّى أَجْسَادُهُمْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَبُرْهَانِ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ قَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَنَّ أَعْيُنَهُمْ مَفْتُوحَةٌ ; لِئَلَّا تَفْسُدَ بِطُولِ الْغَمْضِ

وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ قِيلَ: فِي كُلِّ عَامٍ يَتَحَوَّلُونَ مَرَّةً مِنْ جَنْبٍ إِلَى جَنْبٍ، وَيَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ قَالَ شُعَيْبٌ الْجَبَائِيُّ: اسْمُ كَلْبِهِمْ حُمْرَانُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْوَصِيدُ أُسْكُفَّةُ الْبَابِ. وَالْمُرَادُ أَنَّ كَلْبَهُمُ الَّذِي كَانَ مَعَهُمْ، وَصَحِبَهُمْ حَالَ انْفِرَادِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، لَزِمَهُمْ وَلَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ فِي الْكَهْفِ، بَلْ رَبَضَ عَلَى بَابِهِ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الْوَصِيدِ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ أَدَبِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا أُكْرِمُوا بِهِ ; فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، وَلَمَّا كَانَتِ التَّبَعِيَّةُ مُؤَثِّرَةً، حَتَّى فِي كَلْبِ هَؤُلَاءِ، صَارَ بَاقِيًا مَعَهُمْ بِبَقَائِهِمْ ; لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا سَعِدَ بِهِمْ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ كَلْبٍ فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ تَبِعَ أَهْلَ الْخَيْرِ وَهُوَ أَهْلٌ لِلْإِكْرَامِ. وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُصَّاصِ وَالْمُفَسِّرِينَ لِهَذَا الْكَلْبِ نَبَأً وَخَبَرًا طَوِيلًا، أَكْثَرُهُ مُتَلَقًّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا كَذِبٌ، وَمِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، كَاخْتِلَافِهِمْ فِي اسْمِهِ وَلَوْنِهِ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي مَحَلَّةِ هَذَا الْكَهْفِ، فَقَالَ كَثِيرُونَ: هُوَ بِأَرْضِ أَيْلَةَ. وَقِيلَ: بِأَرْضِ نِينَوَى. وَقِيلَ: بِالْبَلْقَاءِ. وَقِيلَ: بِبِلَادِ الرُّومِ. وَهُوَ أَشْبَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا هُوَ الْأَنْفَعُ مِنْ خَبَرِهِمْ وَالْأَهَمُّ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَوَصَفَ حَالَهُمْ، حَتَّى كَأَنَّ السَّامِعَ رَاءٍ، وَالْمُخْبَرَ مُشَاهِدٌ لِصِفَةِ كَهْفِهِمْ، وَكَيْفِيَّتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْكَهْفِ وَتَقَلُّبِهِمْ مِنْ جَنْبٍ إِلَى جَنْبٍ، وَأَنَّ كَلْبَهُمْ بَاسِطٌ

ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ. قَالَ: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا أَيْ: لِمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَهَابَةِ وَالْجَلَالَةِ فِي أَمْرِهِمُ الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ، وَلَعَلَّ الْخِطَابَ هَاهُنَا لِجِنْسِ الْإِنْسَانِ الْمُخَاطَبِ، لَا لِخُصُوصِيَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَقَوْلِهِ: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ [ التِّينِ: 7 ]. أَيْ: أَيُّهَا الْإِنْسَانُ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْبَشَرِيَّةِ تَفِرُّ مِنْ رُؤْيَةِ الْأَشْيَاءِ الْمَهِيبَةِ غَالِبًا، وَلِهَذَا قَالَ: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ كَالْمُعَايَنَةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ; لِأَنَّ الْخَبَرَ قَدْ حَصَلَ وَلَمْ يَحْصُلِ الْفِرَارُ وَلَا الرُّعْبُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَهُمْ مِنْ رَقْدَتِهِمْ بَعْدَ نَوْمِهِمْ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظُوا، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَيْ: بِدَرَاهِمِكُمْ هَذِهِ، يَعْنِي الَّتِي مَعَهُمْ، إِلَى الْمَدِينَةِ. وَيُقَالُ، كَانَ اسْمُهَا دَفْسُوسَ. فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا أَيْ: أَطْيَبَ مَالًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أَيْ: بِطَعَامٍ تَأْكُلُونَهُ، وَهَذَا مِنْ زُهْدِهِمْ وَوَرَعِهِمْ وَلْيَتَلَطَّفْ أَيْ: فِي دُخُولِهِ إِلَيْهَا وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا أَيْ: إِنْ عُدْتُمْ فِي مِلَّتِهِمْ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَكُمُ اللَّهُ مِنْهَا ; وَهَذَا كُلُّهُ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ رَقَدُوا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ قَدْ رَقَدُوا أَزْيَدَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَقَدْ تَبَدَّلَتِ الدُّوَلُ أَطْوَارًا عَدِيدَةً، وَتَغَيَّرَتِ الْبِلَادُ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَذَهَبَ أُولَئِكَ الْقَرْنُ

الَّذِينَ كَانُوا فِيهِمْ، وَجَاءَ غَيْرُهُمْ وَذَهَبُوا، وَجَاءَ غَيْرُهُمْ ; وَلِهَذَا لَمَّا خَرَجَ أَحَدُهُمْ، وَهُوَ تِيذُوسِيسُ فِيمَا قِيلَ، وَجَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُتَنَكِّرًا ; لِئَلَّا يَعْرِفَهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ فِيمَا يَحْسَبُهُ، تَنَكَّرَتْ لَهُ الْبِلَادُ وَاسْتَنْكَرَهُ مَنْ رَآهُ مِنْ أَهْلِهَا، وَاسْتَغْرَبُوا شَكْلَهُ وَصِفَتَهُ وَدَرَاهِمَهُ. فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ حَمَلُوهُ إِلَى مُتَوَلِّيهِمْ، وَخَافُوا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ يَكُونَ جَاسُوسًا، أَوْ تَكُونَ لَهُ صَوْلَةٌ يَخْشَوْنَ مِنْ مَضَرَّتِهَا، فَيُقَالُ: إِنَّهُ هَرَبَ مِنْهُمْ. وَيُقَالُ: بَلْ أَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ وَمَنْ مَعَهُ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَانْطَلَقُوا مَعَهُ لِيُرِيَهُمْ مَكَانَهُمْ، فَلَمَّا قَرُبُوا مِنَ الْكَهْفِ، دَخَلَ إِلَى إِخْوَانِهِ، فَأَخْبَرَهُمْ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ، وَمِقْدَارَ مَا رَقَدُوا، فَعَلِمُوا أَنَّ هَذَا مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ. فَيُقَالُ: إِنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا رَاقِدِينَ. وَيُقَالُ: بَلْ مَاتُوا بَعْدَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْبَلْدَةِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى مَوْضِعِهِمْ مِنَ الْغَارِ، وَعَمَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَهُمْ. وَيُقَالُ: لَمْ يَسْتَطِيعُوا دُخُولَهُ حِسًّا. وَيُقَالُ: مَهَابَةً لَهُمْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَمْرِهِمْ ; فَقَائِلُونَ يَقُولُونَ: ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا أَيْ: سُدُّوا عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَهْفِ ; لِئَلَّا يَخْرُجُوا أَوْ لِئَلَّا يَصِلَ إِلَيْهِمْ مَا يُؤْذِيهِمْ، وَآخَرُونَ، وَهُمُ الْغَالِبُونَ عَلَى أَمْرِهِمْ قَالُوا: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا أَيْ: مَعْبَدًا يَكُونُ مُبَارَكًا لِمُجَاوَرَتِهِ هَؤُلَاءِ الصَّالِحِينَ. وَهَذَا كَانَ شَائِعًا

فِيمَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَأَمَّا فِي شَرْعِنَا فَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا فَمَعْنَى ( أَعْثَرْنَا ) أَطْلَعَنَا عَلَى أَمْرِهِمُ النَّاسَ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ الْمَعَادَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا، إِذَا عَلِمُوا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ رَقَدُوا أَزْيَدَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ ثُمَّ قَامُوا، كَمَا كَانُوا مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّ مَنْ أَبْقَاهُمْ كَمَا هُمْ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْأَبْدَانِ وَإِنْ أَكَلَتْهَا الدِّيدَانُ، وَعَلَى إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ وَإِنْ صَارَتْ أَجْسَامُهُمْ وَعِظَامُهُمْ رُفَاتًا، وَهَذَا مِمَّا لَا يَشُكُّ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ النَّحْلِ: 40 ]. هَذَا وَيَحْتَمِلُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: لِيَعْلَمُوا إِلَى أَصْحَابِ الْكَهْفِ، إِذْ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَبْلَغُ مِنْ عِلْمِ غَيْرِهِمْ بِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْجَمِيعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْفَذَكَرَ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي كَمِّيَّتِهِمْ، فَحَكَى ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ وَضَعَّفَ الْأَوَّلَيْنِ، وَقَرَّرَ الثَّالِثَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ ; إِذْ لَوْ قِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ لَحَكَاهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الثَّالِثُ هُوَ الصَّحِيحَ لَوَهَّاهُ، فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، وَلَمَّا كَانَ النِّزَاعُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا جَدْوَى عِنْدَهُ، أَرْشَدَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْأَدَبِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ، إِذَا

اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا قَالَ: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ وَقَوْلُهُ: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ أَيْ: مِنَ النَّاسِ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا أَيْ سَهْلًا، وَلَا تَتَكَلَّفْ إِعْمَالَ الْجِدَالِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ، وَلَا تَسْتَفْتِ فِي أَمْرِهِمْ أَحَدًا مِنَ الرِّجَالِ; وَلِهَذَا أَبْهَمَ تَعَالَى عِدَّتَهُمْ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ فَقَالَ: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَلَوْ كَانَ فِي تَعْيِينِ عِدَّتِهِمْ كَبِيرُ فَائِدَةٍ لَذَكَرَهَا عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا أَدَبٌ عَظِيمٌ أَرْشَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ وَحَثَّ خَلْقَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا إِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ: إِنِّي سَأَفْعَلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَذَا. فَيُشْرَعُ لَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. لِيَكُونَ ذَلِكَ تَحْقِيقًا لِعَزْمِهِ; لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ وَلَا يَدْرِي أَهَذَا الَّذِي عَزَمَ عَلَيْهِ مُقَدَّرٌ أَمْ لَا، وَلَيْسَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ تَعْلِيقًا، وَإِنَّمَا هُوَ الْحَقِيقِيُّ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ يَصِحُّ إِلَى سَنَةٍ. وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ لِهَذَا وَلِهَذَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ قَالَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقِيلَ لَهُ: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ، فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرْكًا لِحَاجَتِهِ

وَقَوْلُهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَذَلِكَ لِأَنَّ النِّسْيَانَ قَدْ يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَذِكْرُ اللَّهِ يَطْرُدُهُ عَنِ الْقَلْبِ، فَيَذْكُرُ مَا كَانَ قَدْ نَسِيَهُ. وَقَوْلُهُ: وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا أَيْ: إِذَا اشْتَبَهَ أَمْرٌ وَأَشْكَلَ حَالٌ وَالْتَبَسَ أَقْوَالُ النَّاسِ فِي شَيْءٍ، فَارْغَبْ إِلَى اللَّهِ يُيَسِّرْهُ لَكَ، وَيُسَهِّلْهُ عَلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا لَمَّا كَانَ فِي الْإِخْبَارِ بِطُولِ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ، ذَكَرَهَا تَعَالَى، وَهَذِهِ التِّسْعُ الْمَزِيدَةُ بِالْقَمَرِيَّةِ، وَهِيَ لِتَكْمِيلِ ثَلَاثِمِائَةٍ شَمْسِيَّةٍ، فَإِنَّ كُلَّ مِائَةٍ قَمَرِيَّةٍ تَنْقُصُ عَنِ الشَّمْسِيَّةِ ثَلَاثَ سِنِينَ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا أَيْ إِذَا سُئِلْتَ عَنْ مِثْلِ هَذَا، وَلَيْسَ عِنْدَكَ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ، فَرُدَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: هُوَ الْعَالِمُ بِالْغَيْبِ، فَلَا يُطْلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ يَعْنِي أَنَّهُ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ فِي مَحَالِّهَا لِعِلْمِهِ التَّامِّ بِخَلْقِهِ، وَبِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا أَيْ: بَلْ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْمُلْكِ وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

قِصَّةُ الرَّجُلَيْنِ ; الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْكَهْفِ " بَعْدَ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا [ الْكَهْفِ: 32 - 44 ]. قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هَذَا مَثَلٌ مَضْرُوبٌ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا. وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ وَقَعَ، وَقَوْلُهُ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا يَعْنِي لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ،

فِي عَدَمِ اجْتِمَاعِهِمْ بِالضُّعَفَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَازْدِرَائِهِمْ بِهِمْ، وَافْتِخَارِهِمْ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ [ يس: 13 ]. كَمَا قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى قِصَّتِهِمْ قَبْلَ قِصَّةِ، مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَيْنِ كَانَا رَجُلَيْنِ مُصْطَحِبَيْنِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُؤْمِنًا وَالْآخِرُ كَافِرًا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَالٌ، فَأَنْفَقَ الْمُؤْمِنُ مَالَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ اتَّخَذَ لَهُ بُسْتَانَيْنِ، وَهُمَا الْجَنَّتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ فِي الْآيَةِ، عَلَى الصِّفَةِ وَالنَّعْتِ الْمَذْكُورِ ; فِيهِمَا أَعْنَابٌ، وَنَخْلٌ تَحُفُّ تِلْكَ الْأَعْنَابَ وَالزُّرُوعُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ، وَالْأَنْهَارُ سَارِحَةٌ هَاهُنَا وَهَاهُنَا لِلسَّقْيِ وَالتَّنَزُّهِ، وَقَدِ اسْتَوْسَقَتْ فِيهِمَا الثِّمَارُ، وَاضْطَرَبَتْ فِيهِمَا الْأَنْهَارُ، وَابْتَهَجَتِ الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ، وَافْتَخَرَ مَالِكُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ الْمُؤْمِنِ الْفَقِيرِ قَائِلًا لَهُ: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا أَيْ: وَأَمْنَعُ جَنَابًا. وَمُرَادُهُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَمَعْنَاهُ، مَاذَا أَغْنَى عَنْكَ إِنْفَاقُكَ مَا كُنْتَ تَمْلِكُهُ فِي الْوَجْهِ الَّذِي صَرَفْتَهُ فِيهِ ؟ كَانَ الْأَوْلَى بِكَ أَنْ تَفْعَلَ كَمَا فَعَلْتُ لِتَكَوْنَ مِثْلِي. فَافْتَخَرَ عَلَى صَاحِبِهِ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ أَيْ: وَهُوَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَةٍ مَرْضِيَّةٍ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنِ اتِّسَاعِ أَرْضِهَا، وَكَثْرَةِ مَائِهَا وَحُسْنِ نَبَاتِ أَشْجَارِهَا ; وَلَوْ قَدْ بَادَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ

الْأَشْجَارِ لَاسْتَخْلَفَ مَكَانَهَا أَحْسَنَ مِنْهَا، وَزُرُوعُهَا دَارَّةٌ لِكَثْرَةِ مِيَاهِهَا. ثُمَّ قَالَ: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً فَوَثِقَ بِزَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَكَذَّبَ بِوُجُودِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ الدَّائِمَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا أَيْ: وَلَئِنْ كَانَ ثَمَّ آخِرَةٌ وَمَعَادٌ فَلَأَجِدَنَّ هُنَاكَ خَيْرًا مِنْ هَذَا. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اغْتَرَّ بِدُنْيَاهُ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُعْطِهِ ذَلِكَ فِيهَا إِلَّا لِحُبِّهِ لَهُ وَحَظْوَتِهِ عِنْدَهُ، كَمَا قَالَ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ مِنْ خَبَرِهِ وَخَبَرِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ فِي قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [ مَرْيَمَ: 77، 78 ]. وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْإِنْسَانِ إِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [ فُصِّلَتْ: 50 ]. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [ فُصِّلَتْ: 50 ]. وَقَالَ قَارُونُ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [ الْقَصَصِ: 78 ]. أَيْ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيَّ أَنِّي أَسْتَحِقُّهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [ الْقَصَصِ: 78 ]. وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى قِصَّتِهِ فِي أَثْنَاءِ قِصَّةِ مُوسَى. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [ سَبَأٍ: 37 ]. وَقَالَ تَعَالَى:

أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 55، 56 ]. وَلَمَّا اغْتَرَّ هَذَا الْجَاهِلُ بِمَا خَوَّلَهُ اللَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَجَحَدَ الْآخِرَةَ، وَادَّعَى أَنَّهَا إِنْ وُجِدَتْ لَيَجِدَنَّ عِنْدَ رَبِّهِ خَيْرًا مِمَّا هُوَ فِيهِ، وَسَمِعَهُ صَاحِبُهُ يَقُولُ ذَلِكَ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَيْ: يُجَادِلُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا أَيْ: أَجَحَدْتَ الْمَعَادَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ صَوَّرَكَ أَطْوَارًا حَتَّى صِرْتَ رَجُلًا سَوِيًّا سَمِيعًا بَصِيرًا، تَعْلَمُ وَتَبْطِشُ وَتَفْهَمُ، فَكَيْفَ أَنْكَرْتَ الْمَعَادَ وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْبَدَاءَةِ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي أَيْ: لَكِنْ أَنَا أَقُولُ بِخِلَافِ مَا قُلْتَ وَأَعْتَقِدُ خِلَافَ مُعْتَقَدِكَ هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا أَيْ: لَا أَعْبُدُ سِوَاهُ، وَأَعْتَقِدَ أَنَّهُ يَبْعَثُ الْأَجْسَادَ بَعْدَ فَنَائِهَا، وَيُعِيدُ الْأَمْوَاتَ، وَيَجْمَعُ الْعِظَامَ الرُّفَاتَ، وَأَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي خَلْقِهِ، وَلَا فِي مُلْكِهِ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ. ثُمَّ أَرْشَدَهُ إِلَى مَا كَانَ الْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَسْلُكَهُ عِنْدَ دُخُولِ جَنَّتِهِ فَقَالَ: وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ حَالِهِ أَنْ يَقُولَ كَذَلِكَ.
وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، فِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ ; قَالَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا جَرَّاحُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ زُرَارَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً مِنْ أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ فَيَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. فَيَرَى فِيهِ آفَةً دُونَ الْمَوْتِ وَكَانَ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ: وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ: عِيسَى بْنُ عَوْنٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ أَنَسٍ، لَا يَصِحُّ.
ثُمَّ قَالَ الْمُؤْمِنُ لِلْكَافِرِ: فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ: أَيْ: عَذَابًا مِنَ السَّمَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْمَطَرُ الْمُزْعِجُ الْبَاهِرُ، الَّذِي يَقْتَلِعُ زُرُوعَهَا وَأَشْجَارَهَا فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا وَهُوَ التُّرَابُ الْأَمْلَسُ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا وَهُوَ ضِدُّ الْمَعِينِ السَّارِحِ فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا يَعْنِي، فَلَا تَقْدِرُ عَلَى اسْتِرْجَاعِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أَيْ: جَاءَهُ أَمْرٌ أَحَاطَ بِجَمِيعِ حَوَاصِلِهِ، وَخَرَّبَ جَنَّتَهُ، وَدَمَّرَهَا فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا أَيْ: خَرِبَتْ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا عَوْدَةَ لَهَا، وَذَلِكَ ضِدُّ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمَّلَ حَيْثُ قَالَ: وَمَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ سَلَفَ مِنْهُ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي كَفَرَ بِسَبَبِهِ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، فَهُوَ يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ أَيْ: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ يَتَدَارَكُ مَا فَرَطَ مِنْ أَمْرِهِ، وَمَا كَانَ لَهُ قُدْرَةٌ فِي نَفْسِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ [ الطَّارِقِ: 10 ].

وَقَوْلُهُ: الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْتَدِئُ بِقَوْلِهِ: هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ وَهُوَ حَسَنٌ أَيْضًا، كَقَوْلِهِ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [ الْفُرْقَانِ: 26 ]. فَالْحُكْمُ الَّذِي لَا يُرَدُّ وَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ - فِي تِلْكَ الْحَالِ وَفِي كُلِّ حَالٍ - لِلَّهِ الْحَقِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَفَعَ ( الْحَقِّ ) جَعَلَهُ صِفَةً لِ ( الْوِلَايَةَ ) وَهُمَا مُتَلَازِمَتَانِ. وَقَوْلُهُ: هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا أَيْ: مُعَامَلَتُهُ خَيْرٌ لِصَاحِبِهَا ثَوَابًا، وَهُوَ الْجَزَاءُ، وَخَيْرٌ عُقْبًا ; وَهُوَ الْعَاقِبَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَضَمَّنَتْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَرْكَنَ إِلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَا يَغْتَرَّ بِهَا، وَلَا يَثِقَ بِهَا، بَلْ يَجْعَلَ طَاعَةَ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، وَلْيَكُنْ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ مِنْهُ بِمَا فِي يَدِهِ. وَفِيهَا أَنَّ مَنْ قَدَّمَ شَيْئًا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ، عُذِّبَ بِهِ، وَرُبَّمَا سُلِبَ مِنْهُ ; مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ. وَفِيهَا أَنَّ الْوَاجِبَ قَبُولُ نَصِيحَةِ الْأَخِ الْمُشْفِقِ، وَأَنَّ مُخَالَفَتَهُ وَبَالٌ وَدَمَارٌ عَلَى مَنْ رَدَّ النَّصِيحَةَ الصَّحِيحَةَ. وَفِيهَا، أَنَّ النَّدَامَةَ لَا تَنْفَعُ إِذَا حَانَ الْقَدَرُ، وَنَفَذَ الْأَمْرُ الْحَتْمُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

قِصَّةُ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [ الْقَلَمِ: 17 - 33 ]. وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، فِيمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ إِرْسَالِ الرَّسُولِ الْعَظِيمِ الْكَرِيمِ إِلَيْهِمْ، فَقَابَلُوهُ بِالتَّكْذِيبِ وَالْمُخَالَفَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَ