10 البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
نَكُونُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ نُصْلِحُهَا وَنَقُومُ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا لِأَصْحَابِهِ غِلْمَانٌ يَقُومُونَ عَلَيْهَا، وَكَانُوا لَا يَفْرُغُونَ أَنْ يَقُومُوا عَلَيْهَا، فَأَعْطَاهُمْ خَيْبَرَ عَلَى أَنَّ لَهُمُ الشَّطْرَ مِنْ كُلِّ زَرْعٍ وَنَخِيلٍ وَشَيْءٍ مَا بَدَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَأْتِيهِمْ كُلَّ عَامٍ فَيَخْرُصُهَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يُضَمِّنُهُمُ الشَّطْرَ، فَشَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِدَّةَ خَرْصِهِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَرْشُوهُ، فَقَالَ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ، تُطْعِمُونِي السُّحْتَ، وَاللَّهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَلَأَنْتُمْ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ عِدَّتِكُمْ مِنَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَلَا يَحْمِلُنِي بُغْضِي إِيَّاكُمْ وَحُبِّي إِيَّاهُ عَلَى أَنْ لَا أَعْدِلَ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ. قَالَ: فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنِ صَفِيَّةَ خُضْرَةً، فَقَالَ: " يَا صَفِيَّةُ، مَا هَذِهِ الْخُضْرَةُ ؟ " فَقَالَتْ: كَانَ رَأْسِي فِي حِجْرِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَأَنَا نَائِمَةٌ، فَرَأَيْتُ كَأَنَّ قَمَرًا وَقَعَ فِي حِجْرِي، فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَلَطَمَنِي، وَقَالَ: تَتَمَنَّيْنَ مَلِكَ يَثْرِبَ ؟! قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبْغَضِ النَّاسِ إِلَيَّ؛ قَتَلَ زَوْجِي وَأَبِي، فَمَا زَالَ يَعْتَذِرُ إِلَيَّ وَيَقُولُ: إِنَّ أَبَاكِ أَلَّبَ عَلَيَّ الْعَرَبَ " وَفَعَلَ وَفَعَلَ، حَتَّى ذَهَبَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِي، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي كُلَّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ ثَمَانِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ كُلَّ عَامٍ، وَعِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ شَعِيرٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَانِ عُمَرَ غَشُّوا الْمُسْلِمِينَ، وَأَلْقَوْا ابْنَ عُمَرَ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ فَفَدَعُوا يَدَيْهِ،
فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ
كَانَ لَهُ سَهْمٌ بِخَيْبَرَ فَلْيَحْضُرْ حَتَّى نَقْسِمَهَا. فَقَسَمَهَا
بَيْنَهُمْ. فَقَالَ رَئِيسُهُمْ: لَا تُخْرِجْنَا، دَعْنَا نَكُونُ فِيهَا كَمَا
أَقَرَّنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ.
فَقَالَ عُمَرُ لِرَئِيسِهِمْ: أَتُرَانِي سَقَطَ عَنِّي قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ بِكَ إِذَا رَقَصَتْ بِكَ رَاحِلَتُكَ
نَحْوَ الشَّامِ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا؟ " وَقَسَمَهَا عُمَرُ
بَيْنَ مَنْ كَانَ شَهِدَ خَيْبَرَ مِنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَدْ رَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ مُخْتَصَرًا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي " كِتَابِهِ "
فَقَالَ: وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قُلْتُ: وَلَمْ أَرَهُ فِي "
الْأَطْرَافِ ". فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَحَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْمَهْرِيُّ،
حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ
سَأَلَتْ يَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يُقِرَّهُمْ، عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا عَلَى النِّصْفِ مِمَّا
خَرَجَ مِنْهَا، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُقِرُّكُمْ فِيهَا
عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا ". فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ التَّمْرُ
يُقْسَمُ عَلَى السُّهْمَانِ مِنْ نِصْفِ خَيْبَرَ، وَيَأْخُذُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُمُسَ، وَكَانَ أَطْعَمَ كُلَّ امْرَأَةٍ
مِنْ أَزْوَاجِهِ مِنَ الْخُمُسِ مِائَةَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، وَعِشْرِينَ وَسْقًا
مِنْ شَعِيرٍ، فَلَمَّا أَرَادَ عُمَرُ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ، أَرْسَلَ إِلَى
أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُنَّ: مَنْ
أَحَبَّ مِنْكُنَّ أَنْ أَقْسِمَ لَهَا نَخْلًا بِخَرْصِهَا مِائَةَ وَسْقٍ،
فَيَكُونُ لَهَا أَصْلُهَا وَأَرْضُهَا وَمَاؤُهَا، وَمِنَ الزَّرْعِ مَزْرَعَةً
عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ شَعِيرٍ فَعَلْنَا، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ نَعْزِلَ الَّذِي
لَهَا فِي الْخُمُسِ كَمَا هُوَ فَعَلْنَا.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي
نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ: أَيُّهَا
النَّاسُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ
يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يُخْرِجَهُمْ إِذَا شَاءَ، فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ
فَلْيَلْحَقْ بِهِ، فَإِنِّي مُخْرِجٌ يَهُودَ. فَأَخْرَجَهُمْ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ،
عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ جُبَيْرَ
بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ قَالَ: مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: أَعْطَيْتَ بَنِي
الْمُطَّلِبِ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ بِمَنْزِلَةٍ
وَاحِدَةٍ مِنْكَ. فَقَالَ: " إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ
شَيْءٌ وَاحِدٌ ". قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: وَلَمْ يَقْسِمِ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي
عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي
نَوْفَلٍ شَيْئًا. تَفَرَّدَ بِهِ دُونَ مُسْلِمٍ. وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونَا فِي
جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: دَخَلُوا مَعَهُمْ فِي الشِّعْبِ، وَنَاصَرُوهُمْ فِي
إِسْلَامِهِمْ وَجَاهِلِيَّتِهِمْ.
قُلْتُ: وَقَدْ ذَمَّ أَبُو طَالِبٍ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ حَيْثُ
يَقُولُ:
جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا عُقُوبَةَ شَرٍّ عَاجِلًا غَيْرَ
آجِلِ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْحَاقَ، ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ سَابِقٍ، ثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا. قَالَ:
فَسَّرَهُ نَافِعٌ فَقَالَ: إِذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ فَرَسٌ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ
أَسْهُمٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فَرَسٌ، فَلَهُ سَهْمٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي زَيْدٌ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ يَقُولُ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا أَنْ أَتْرُكَ
آخِرَ النَّاسِ بَبَّانًا لَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ، مَا فُتِحَتْ عَلَيَّ قَرْيَةٌ
إِلَّا قَسَمْتُهَا
كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، وَلَكِنِّي أَتْرُكُهَا خِزَانَةً
لَهُمْ يَقْتَسِمُونَهَا. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ
مَالِكٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ،
عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بِهِ.
وَهَذَا السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنَّ خَيْبَرَ بِكَمَالِهَا قُسِمَتْ بَيْنَ
الْغَانِمِينَ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا ابْنُ السَّرْحِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ
أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ:بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ عَنْوَةً بَعْدَ الْقِتَالِ،
وَنَزَلَ مَنْ نَزَلَ مِنْ أَهْلِهَا عَلَى الْجَلَاءِ بَعْدَ الْقِتَالِ.
وَبِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ:خَمَّسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَيْبَرَ ثُمَّ قَسَمَ سَائِرَهَا عَلَى مَنْ شَهِدَهَا.
وَفِيمَا قَالَهُ الزُّهْرِيُّ نَظَرٌ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ خَيْبَرَ
جَمِيعَهَا لَمْ تُقْسَمْ، وَإِنَّمَا قُسِمَ نِصْفُهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ
كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذَا مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ
عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي الْأَرَاضِي الْمَغْنُومَةِ، إِنْ شَاءَ
قَسَمَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَرْصَدَهَا
لِمَصَالِحِ
الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ شَاءَ قَسَمَ بَعْضَهَا وَأَرْصَدَ بَعْضَهَا لِمَا
يَنُوبُهُ فِي الْحَاجَاتِ وَالْمَصَالِحِ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُؤَذِّنُ، ثَنَا
أَسَدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، حَدَّثَنِي سُفْيَانُ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي
حَثْمَةَ، قَالَ:قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ، نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ وَحَاجَتِهِ، وَنِصْفًا بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ، قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا.
تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ. ثُمَّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ بُشَيْرِ
بْنِ يَسَارٍ مُرْسَلًا، فَعَيَّنَ نِصْفَ النَّوَائِبِ، الْوَطِيحَ وَالْكَتِيبَةَ
وَالسُّلَالِمَ وَمَا حِيزَ مَعَهَا، وَنِصْفَ الْمُسْلِمِينَ، الشِّقَّ
وَالنَّطَاةَ وَمَا حِيزَ مَعَهُمَا، وَسَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا حِيزَ مَعَهُمَا.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
فُضَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، مَوْلَى
الْأَنْصَارِ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَلَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ فَقَسَمَهَا عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ
سَهْمًا، جَمَعَ كَلُّ سَهْمٍ مِائَةَ سَهْمٍ، فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفَ مِنْ ذَلِكَ وَعَزَلَ
النِّصْفَ الثَّانِي لِمَنْ نَزَلَ بِهِ مِنَ الْوُفُودِ وَالْأُمُورِ وَنَوَائِبِ
النَّاسِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، ثَنَا مُجَمِّعُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَمِّعِ
بْنِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيُّ، سَمِعْتُ أَبِي يَعْقُوبَ بْنِ مُجَمِّعٍ يَقُولُ،
عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَمِّهِ
مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ - وَكَانَ أَحَدَ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ
قَرَءُوا الْقُرْآنَ - قَالَ: قُسِمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ،
فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَمَانِيَةَ
عَشَرَ سَهْمًا، وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، فِيهِمْ
ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ، فَأَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ، وَأَعْطَى الرَّاجِلَ
سَهْمًا. تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ أَخْبَرَهُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَتَحَ بَعْضَ خَيْبَرَ
عَنْوَةً. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: قُرِئَ عَلَى
الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ وَأَنَا شَاهِدٌ، أَخْبَرَكُمُ ابْنُ وَهْبٍ،
حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنْ خَيْبَرَ بَعْضُهَا
كَانَ عَنْوَةً، وَبَعْضُهَا صُلْحًا، وَالْكَتِيبَةُ أَكْثَرُهَا عَنْوَةً،
وَفِيهَا صُلْحٌ. قُلْتُ لِمَالِكٍ: وَمَا الْكَتِيبَةُ؟ قَالَ: أَرْضُ خَيْبَرَ،
وَهِيَ أَرْبَعُونَ أَلْفَ عَذْقٍ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَالْعَذْقُ:
النَّخْلَةُ. وَالْعِذْقُ: الْعُرْجُونُ.
وَلِهَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا
حَرَمِيٌّ، ثَنَا شُعْبَةُ، ثَنَا
عُمَارَةُ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ قُلْنَا: الْآنَ
نَشْبَعُ مِنَ التَّمْرِ.
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، ثَنَا قُرَّةُ بْنُ حَبِيبٍ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا
شَبِعْنَا - يَعْنِي مِنَ التَّمْرِ - حَتَّى فَتَحْنَا خَيْبَرَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتِ الشَّقُّ وَالنَّطَاةُ فِي سُهْمَانِ
الْمُسْلِمِينَ، الشَّقُّ ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَنَطَاةُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ،
قَسَمَ الْجَمِيعَ عَلَى أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةِ سَهْمٍ، وَدَفَعَ ذَلِكَ إِلَى
مَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، مَنْ حَضَرَ خَيْبَرَ وَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَلَمْ
يَغِبْ عَنْ خَيْبَرٍ مِمَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ إِلَّا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ، فَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ. قَالَ: وَكَانَ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ
أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَكَانَ مَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ، لِكُلِّ فَرَسٍ
سَهْمَانِ، فَصُرِفَ إِلَى كُلِّ مِائَةِ رَجُلٍ سَهْمٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ
سَهْمًا، وَزِيدَ الْمِائَتَا فَارِسٍ أَرْبَعَمِائَةِ سَهْمٍ لِخُيُولِهِمْ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَلْفًا
وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَمِائَتَا فَرَسٍ.
قُلْتُ: وَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ
بِسَهْمٍ، وَكَانَ أَوَّلَ سَهْمٍ مِنْ سُهْمَانِ
الشِّقِّ مَعَ عَاصِمِ
بْنِ عَدِيٍّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتِ الْكَتِيبَةُ خُمُسًا لِلَّهِ تَعَالَى،
وَسَهْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَهْمَ ذَوِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَطُعْمَةَ
أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطُعْمَةَ أَقْوَامٍ
مَشَوْا فِي صُلْحِ أَهْلِ فَدَكَ، مِنْهُمْ مُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ،
أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثِينَ وَسْقًا
مِنْ تَمْرٍ، وَثَلَاثِينَ وَسْقًا مِنْ شَعِيرٍ. قَالَ: وَكَانَ وَادِيَاهَا
اللَّذَانِ قُسِّمَتْ عَلَيْهِ يُقَالُ لَهُمَا: وَادِي السُّرَيْرِ وَوَادِي
خَاصٍ. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ تَفَاصِيلَ الْإِقْطَاعَاتِ مِنْهَا
فَأَجَادَ وَأَفَادَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ: وَكَانَ الَّذِي وَلِيَ قِسْمَتَهَا وَحِسَابَهَا جَبَّارُ بْنُ صَخْرِ
بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَنْسَاءَ، أَخُو بَنِي سَلَمَةَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
قُلْتُ: وَكَانَ الْأَمِيرُ عَلَى خَرْصِ نَخِيلِ خَيْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
رَوَاحَةَ، فَخَرَصَهَا سَنَتَيْنِ، ثُمَّ لَمَّا قُتِلَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
كَمَا سَيَأْتِي فِي يَوْمِ مُؤْتَةَ - وَلِي بَعْدَهُ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ
عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَ بِتَمْرٍ
جَنِيبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " كُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ " قَالَ: لَا وَاللَّهِ
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ،
وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ. فَقَالَ: " لَا تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ
بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَاهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَخَا بَنِي
عَدِيٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى خَيْبَرَ وَأَمَّرَهُ عَلَيْهَا. وَعَنْ عَبْدِ
الْمَجِيدِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي
هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ.
قُلْتُ: كَانَ سَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي
أَصَابَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا قَسَمَ بِخَيْبَرَ وَفَدَكَ بِكَمَالِهَا -
وَهِيَ طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ أَرْضِ خَيْبَرَ نَزَلُوا مِنْ شِدَّةِ
رُعْبِهِمْ مِنْهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فَصَالَحُوهُ -
وَأَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ، الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا، مِمَّا لَمْ يُوجِفِ
الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَمْوَالُ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَكَانَ يَعْزِلُ
مِنْهَا نَفَقَةَ أَهْلِهِ لِسَنَةٍ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ،
يَصْرِفُهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا
مَاتَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، اعْتَقَدَتْ فَاطِمَةُ
وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَكْثَرَهُنَّ -
أَنَّ هَذِهِ الْأَرَاضِيَ تَكُونُ مَوْرُوثَةً عَنْهُ، وَلَمْ يَبْلُغْهُنَّ مَا
ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَحْنُ
مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ ".
وَلَمَّا طَلَبَتْ فَاطِمَةُ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْعَبَّاسُ نَصِيبَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَسَأَلُوا الصِّدِّيقَ أَنْ
يُسَلِّمَهُ
إِلَيْهِمْ، ذَكَرَ لَهُمْ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ ". وَقَالَ: أَنَا أَعُولُ مَنْ كَانَ يَعُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي. وَصَدَقَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، فَإِنَّهُ الْبَارُّ الرَّاشِدُ فِي ذَلِكَ، التَّابِعُ لِلْحَقِّ، وَطَلَبَ الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ - عَلَى لِسَانِ فَاطِمَةَ، إِذْ قَدْ فَاتَهُمُ الْمِيرَاثُ - أَنْ يَنْظُرَا فِي هَذِهِ الصَّدَقَةِ، وَأَنْ يَصْرِفَا ذَلِكَ فِي الْمَصَارِفِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُهَا فِيهَا، فَأَبَى عَلَيْهِمُ الصِّدِّيقُ ذَلِكَ، وَرَأَى أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ فِيمَا كَانَ يَقُومُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ مَسْلَكِهِ وَلَا عَنْ سُنَنِهِ. فَتَغَضَّبَتْ فَاطِمَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَوَجَدَتْ فِي نَفْسِهَا بَعْضَ الْمَوْجِدَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ، وَالصِّدِّيقُ مَنْ قَدْ عَرَفَتْ هِيَ وَالْمُسْلِمُونَ مَحِلَّهُ وَمَنْزِلَتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيَامَهُ فِي نُصْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنْ نَبِيِّهِ وَعَنِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ خَيْرًا، وَتُوُفِّيَتْ فَاطِمَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ جَدَّدَ عَلِيٌّ الْبَيْعَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ أَيَّامُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، سَأَلُوهُ أَنْ يُفَوِّضَ أَمْرَ هَذِهِ الصَّدَقَةِ إِلَى عَلِيٍّ، وَالْعَبَّاسِ، وَثَقَّلُوا عَلَيْهِ بِجَمَاعَةٍ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، فَفَعَلَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ وَاتِّسَاعِ مَمْلَكَتِهِ وَامْتِدَادِ رَعِيَّتِهِ، فَتَغَلَّبُ عَلَى عَلِيٍّ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ فِيهَا، ثُمَّ تَسَاوَقَا يَخْتَصِمَانِ إِلَى عُمَرَ، وَقَدَّمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمَا جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ، وَسَأَلَا مِنْهُ أَنْ يَقْسِمَهَا بَيْنَهُمَا، فَيَنْظُرَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِيمَا لَا يَنْظُرُ فِيهِ الْآخَرُ. فَامْتَنَعَ عُمَرُ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَخَشِيَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقِسْمَةُ تُشْبِهُ قِسْمَةَ الْمَوَارِيثِ، وَقَالَ: انْظُرَا فِيهَا وَأَنْتُمَا جَمِيعٌ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا
عَنْهَا فَادْفَعَاهَا
إِلَيَّ، وَالَّذِي تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ لَا أَقْضِي فِيهَا
قَضَاءً غَيْرَ هَذَا. فَاسْتَمَرَّا فِيهَا، وَمَنْ بَعْدَهُمَا مِنْ وَلَدِهِمَا
إِلَى أَيَّامِ بَنِي الْعَبَّاسِ، تُصْرَفُ فِي الْمَصَارِفِ الَّتِي كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُهَا فِيهَا، أَمْوَالُ
بَنِي النَّضِيرِ وَفَدَكَ، وَسَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ.
فَصْلٌ مَنْ شَهِدَ خَيْبَرَ
وَأَمَّا مَنْ شَهِدَ خَيْبَرَ مِنَ الْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ، فَرَضَخَ لَهُمْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ،
وَلَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، ثَنَا بِشْرُ بْنُ
الْمُفَضَّلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنِي عُمَيْرٌ مَوْلَى آبِي
اللَّحْمِ قَالَ:شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ بِي فَقُلِّدْتُ سَيْفًا،
فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُ، فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ، فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ
مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا،
عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ:
حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ
وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
الْمُهَاجِرِ عَنْ
قُنْفُذٍ، عَنْ عُمَيْرٍ، بِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَشَهِدَ خَيْبَرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءً، فَرَضَخَ لَهُنَّ، وَلَمْ يَضْرِبْ لَهُنَّ
بِسَهْمٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ سُحَيْمٍ، عَنْ أُمَيَّةَ بِنْتِ أَبِي
الصَّلْتِ، عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ قَدْ سَمَّاهَا لِي، قَالَتْ:
أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِسْوَةٍ مِنْ
بَنِي غِفَارٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَرَدْنَا أَنْ نَخْرُجَ
مَعَكَ إِلَى وَجْهِكَ هَذَا - وَهُوَ يَسِيرُ إِلَى خَيْبَرَ - فَنُدَاوِي
الْجَرْحَى، وَنُعِينُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا اسْتَطَعْنَا. فَقَالَ: " عَلَى
بَرَكَةِ اللَّهِ ". قَالَتْ: فَخَرَجْنَا مَعَهُ. قَالَتْ: وَكُنْتُ
جَارِيَةً حَدَثَةً، فَأَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى حَقِيبَةِ رَحْلِهِ. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لَنَزَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الصُّبْحِ وَأَنَاخَ، وَنَزَلْتُ
عَنْ حَقِيبَةِ رَحْلِهِ. قَالَتْ: وَإِذَا بِهَا دَمٌ مِنِّي، وَكَانَتْ أَوَّلَ
حَيْضَةٍ حِضْتُهَا. قَالَتْ: فَتَقَبَّضْتُ إِلَى النَّاقَةِ وَاسْتَحْيَيْتُ.
فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بِي،
وَرَأَى الدَّمَ، قَالَ: " مَا لَكِ ؟ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ؟ " قَالَتْ:
قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " فَأَصْلِحِي مِنْ نَفْسِكِ، ثُمَّ خُذِي إِنَاءً
مِنْ مَاءٍ، فَاطْرَحِي فِيهِ مِلْحًا، ثُمَّ اغْسِلِي مَا أَصَابَ الْحَقِيبَةَ
مِنَ الدَّمِ، ثُمَّ عُودِي لِمَرْكَبِكِ ". قَالَتْ: فَلَمَّا فَتَحَ
اللَّهُ خَيْبَرَ، رَضَخَ لَنَا مِنَ الْفَيْءِ، وَأَخَذَ هَذِهِ الْقِلَادَةَ
الَّتِي تَرَيْنَ فِي عُنُقِي، فَأَعْطَانِيهَا وَعَلَّقَهَا بِيَدِهِ فِي
عُنُقِي، فَوَاللَّهِ لَا
تُفَارِقُنِي أَبَدًا.
وَكَانَتْ فِي عُنُقِهَا حَتَّى مَاتَتْ، ثُمَّ أَوْصَتْ أَنْ تُدْفَنَ مَعَهَا.
قَالَتْ: وَكَانَتْ لَا تَطَّهَّرُ مِنْ حَيْضِهَا إِلَّا جَعَلَتْ فِي طَهُورِهَا
مِلْحًا، وَأَوْصَتْ بِهِ أَنْ يُجْعَلَ فِي غُسْلِهَا حِينَ مَاتَتْ وَهَكَذَا
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْحَاقَ بِهِ. قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ فِي "
أَطْرَافِهِ ": وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي
سَبْرَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحُيْمٍ، عَنْ أُمِّ عَلِيٍّ بِنْتِ أَبِي
الْحَكَمِ، عَنْ أُمَيَّةَ بِنْتِ أَبِي الصَّلْتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا رَافِعُ بْنُ
سَلَمَةَ الْأَشْجَعِيُّ، حَدَّثَنِي حَشْرَجُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ
أَبِيهِ، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي غَزَاةِ خَيْبَرَ وَأَنَا سَادِسَةُ سِتِّ نِسْوَةٍ. قَالَتْ:
فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَعَهُ نِسَاءٌ.
قَالَتْ: فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا فَدَعَانَا. قَالَتْ: فَرَأَيْنَا فِي وَجْهِهِ
الْغَضَبَ، فَقَالَ: " مَا أَخْرَجَكُنَّ، وَبِأَمْرِ مَنْ خَرَجْتُنَّ؟
" قُلْنَا: خَرَجْنَا نُنَاوِلُ السِّهَامَ، وَنَسْقِي السَّوِيقَ، وَمَعَنَا
دَوَاءٌ لِلْجَرْحَى، وَنَغْزِلُ الشَّعْرَ فَنُعِينُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
قَالَ: " قُمْنَ فَانْصَرِفْنَ ". قَالَتْ: فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ
عَلَيْهِ خَيْبَرَ أَخْرَجَ لَنَا سِهَامًا كَسِهَامِ الرِّجَالِ. فَقُلْتُ لَهَا:
يَا جَدَّةُ، وَمَا الَّذِي أَخْرَجَ لَكُنَّ ؟ قَالَتْ: تَمْرًا.
قُلْتُ: إِنَّمَا أَعْطَاهُنَّ مِنَ الْحَاصِلِ، فَأَمَّا أَنَّهُ أَسْهَمَ
لَهُنَّ فِي الْأَرْضِ كَسِهَامِ
الرِّجَالِ فَلَا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَفِي كِتَابِي، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْحَافِظِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيَّ أَخْبَرَهُ، حَدَّثَنَا
الْحُسَيْنُ بْنُ الْجَهْمِ، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَرَجِ، ثَنَا
الْوَاقِدِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُوسَى بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ، وَمَعِي
زَوْجَتِي وَهِيَ حُبْلَى، فَنَفِسَتْ فِي الطَّرِيقِ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِيَ: " انْقَعْ لَهَا
تَمْرًا، فَإِذَا انْغَمَرَ بَلُّهُ، فَامْرُثْهُ لِتَشْرَبَهُ ".
فَفَعَلْتُ، فَمَا رَأَتْ شَيْئًا تَكْرَهُهُ، فَلَمَّا فَتَحْنَا خَيْبَرَ
أَجْدَى النِّسَاءَ، وَلَمْ يُسْهِمْ لَهُنَّ، فَأَجْدَى زَوْجَتِي وَوَلَدِي
الَّذِي وُلِدَ قَالَ عَبْدُ السَّلَامِ: لَسْتُ أَدْرِي غُلَامٌ أَوْ جَارِيَةٌ.
ذِكْرُ قُدُومِ جَعْفَرِ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ كَانَ بَقِيَ بِالْحَبَشَةِ مِمَنْ هَاجَرَ إِلَيْهَا
مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنِ انْضَمَّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُخَيِّمٌ بِخَيْبَرَ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، ثَنَا أَبُو
أُسَامَةَ، ثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي
بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ
أَنَا وَأَخَوَانِ لِي، أَنَا أَصْغَرُهُمْ، أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ،
وَالْآخَرُ أَبُو رُهْمٍ - إِمَّا قَالَ: فِي بِضْعٍ. وَإِمَّا قَالَ: فِي
ثَلَاثَةٍ وَخَمْسِينَ، أَوِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي -
فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ
بِالْحَبَشَةِ، فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَأَقَمْنَا مَعَهُ
حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا، فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَكَانَ أُنَاسٌ مِنَ النَّاسِ يَقُولُونَ
لَنَا - يَعْنِي لِأَهْلِ السَّفِينَةِ -: سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ.
وَدَخَلَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَهِيَ مِمَنْ قَدِمَ مَعَنَا، عَلَى
حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَائِرَةً، وَقَدْ كَانَتْ
هَاجَرَتْ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِيمَنْ هَاجَرَ، فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى حَفْصَةَ،
وَأَسْمَاءُ عِنْدَهَا، فَقَالَ عُمَرُ حِينَ رَأَى أَسْمَاءَ: مَنْ هَذِهِ ؟
قَالَتْ: أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ قَالَ عُمَرُ:
الْحَبَشِيَّةُ هَذِهِ ؟
الْبَحْرِيَّةُ هَذِهِ ؟ قَالَتْ أَسْمَاءُ: نَعَمْ. قَالَ: سَبَقْنَاكُمْ
بِالْهِجْرَةِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْكُمْ. فَغَضِبَتْ وَقَالَتْ: كَلَّا وَاللَّهِ، كُنْتُمْ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ،
وَيَعِظُ جَاهِلَكُمْ، وَكُنَّا فِي دَارِ - أَوْ فِي أَرْضِ - الْبُعَدَاءِ
وَالْبُغَضَاءِ بِالْحَبَشَةِ، وَذَلِكَ فِي اللَّهِ وَفِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَايْمُ اللَّهِ لَا أَطْعَمُ طَعَامًا وَلَا
أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى أَذْكُرَ مَا قُلْتَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْأَلُهُ، وَوَاللَّهِ لَا أَكْذِبُ وَلَا أَزِيغُ وَلَا
أَزِيدُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ عُمَرَ قَالَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: "
فَمَا قُلْتِ لَهُ ؟ " قَالَتْ: قَلْتُ كَذَا وَكَذَا قَالَ: لَيْسَ
بِأَحَقَّ بِي مِنْكُمْ، وَلَهُ وَلِأَصْحَابِهِ هِجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَكُمْ
أَنْتُمْ أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ ". قَالَتْ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ
أَبَا مُوسَى وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ يَأْتُونِي أَرْسَالًا يَسْأَلُونِي عَنْ
هَذَا الْحَدِيثِ، مَا مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ هُمْ بِهِ أَفْرَحُ وَلَا أَعْظَمُ
فِي أَنْفُسِهِمْ مِمَّا قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا
مُوسَى، وَإِنَّهُ لَيَسْتَعِيدُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنِّي.
وَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنِّي لَأَعْرِفُ أَصْوَاتَ رُفْقَةِ الْأَشْعَرِيِّينَ
بِالْقُرْآنِ، حِينَ يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ، وَأَعْرِفُ مَنَازِلَهُمْ مِنْ
أَصْوَاتِهِمْ بِالْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ، وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَرَ مَنَازِلَهُمْ
حِينَ نَزَلُوا بِالنَّهَارِ، وَمِنْهُمْ حَكِيمٌ، إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ - أَوْ
قَالَ: الْخَيْلَ - قَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَصْحَابِي يَأْمُرُونَكُمْ أَنْ
تَنْظُرُوهُمْ. وَهَكَذَا
رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَرَّادٍ، عَنْ أَبِي
أُسَامَةَ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا حَفْصُ
بْنُ غِيَاثٍ، ثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ
أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنِ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَقَسَمَ لَنَا وَلَمْ يَقْسِمْ
لِأَحَدٍ لَمْ يَشْهَدِ الْفَتْحَ غَيْرَنَا تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ
مُسْلِمٍ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ
بُرَيْدٍ، بِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إِلَى النَّجَاشِيِّ،
يَطْلُبُ مِنْهُ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالْحَبَشَةِ، فَقَدِمُوا صُحْبَةَ
جَعْفَرٍ وَقَدْ فَتَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الْأَجْلَحِ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ،أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ خَيْبَرَ، فَقَبَّلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَالْتَزَمَهُ،
وَقَالَ: " مَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا أَنَا أُسَرُّ، بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَمْ
بِقُدُومِ جَعْفَرٍ ؟ " وَهَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ
الْأَجْلَحِ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا.
وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ حَسَنِ بْنِ حُسَيْنٍ الْعُرَنِيِّ، عَنِ
الْأَجْلَحِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ قَدِمَ جَعْفَرٌ مِنَ
الْحَبَشَةِ، فَتَلَقَّاهُ وَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي
بِأَيِّهِمَا أَفْرَحُ، بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ.
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، ثَنَا
أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الْعَلَوِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْبَيْرُوتِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي طَيْبَةَ،
حَدَّثَنِي مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الرُّعَيْنِيُّ، ثَنَا سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ
جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، تَلَقَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا نَظَرَ جَعْفَرٌ إِلَيْهِ حَجَلَ -
قَالَ مَكِّيٌّ: يَعْنِي مَشَى عَلَى رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، إِعْظَامًا لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فِي
إِسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ إِلَى الثَّوْرِيِّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ الَّذِينَ تَأَخَّرُوا مَعَ جَعْفَرٍ مِنْ أَهْلِ
مَكَّةَ إِلَى أَنْ
قَدِمُوا مَعَهُ خَيْبَرَ
سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا وَسَرَدَ أَسْمَاءَهُمْ وَأَسْمَاءَ نِسَائِهِمْ وَهُمْ،
جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْهَاشِمِيُّ، وَامْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ
عُمَيْسٍ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وُلِدَ بِالْحَبَشَةِ، وَخَالِدُ بْنُ
سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَامْرَأَتُهُ
أَمِينَةُ بِنْتُ خَلَفِ بْنِ أَسْعَدَ، وَوَلَدَاهُ سَعِيدٌ وَأَمَةُ بِنْتُ
خَالِدٍ، وُلِدَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَأَخُوهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ
الْعَاصِ، وَمُعَيْقِيبُ بْنُ أَبِي فَاطِمَةَ، وَكَانَ إِلَى آلِ سَعِيدِ بْنِ
الْعَاصِ. قَالَ: وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ،
حَلِيفُ آلِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَأَسْوَدُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ خُوَيْلِدِ
بْنِ أَسَدٍ الْأَسَدِيُّ، وَجَهْمُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ شُرَحْبِيلِ
الْعَبْدَرِيُّ، وَقَدْ مَاتَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَرْمَلَةَ بِنْتُ عَبْدِ
الْأَسْوَدِ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَابْنُهُ عَمْرٌو وَابْنَتُهُ خُزَيْمَةُ
مَاتَا بِهَا، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَعَامِرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ الزُّهْرِيُّ،
وَعُتْبَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ هُذَيْلٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ
خَالِدِ بْنِ صَخْرٍ التَّيْمِيُّ، وَقَدْ هَلَكَتْ بِهَا امْرَأَتُهُ رَيْطَةُ
بِنْتُ الْحَارِثِ، رَحِمَهَا اللَّهُ، وَعُثْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ أُهْبَانَ
الْجُمَحِيُّ، وَمَحْمِيَةُ بْنُ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيُّ حَلِيفُ بَنِي سَهْمٍ،
وَمَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَضْلَةَ الْعَدَوِيُّ، وَأَبُو حَاطِبِ بْنُ
عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَمَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ
شَمْسٍ الْعَامِرِيَّانِ، وَمَعَ مَالِكٍ هَذَا امْرَأَتُهُ عَمْرَةُ بِنْتُ
السَّعْدِيِّ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ لَقِيطٍ الْفِهْرِيُّ.
قُلْتُ: وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ إِسْحَاقَ أَسْمَاءَ الْأَشْعَرِيِّينَ الَّذِينَ
كَانُوا مَعَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَأَخَوَيْهِ أَبَا بُرْدَةَ وَأَبَا
رُهْمٍ، وَعَمَّهَ أَبَا عَامِرٍ، بَلْ لَمْ يَذْكُرْ مِنَ
الْأَشْعَرِيِّينَ غَيْرَ
أَبِي مُوسَى، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ أَخَوَيْهِ وَهُمَا أَسَنُّ مِنْهُ،
كَمَا تَقَدَّمَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " وَكَأَنَّ ابْنَ
إِسْحَاقَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى حَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي
ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: وَقَدْ كَانَ مَعَهُمْ فِي السَّفِينَتَيْنِ نِسَاءٌ، مِنْ نِسَاءِ مَنْ
هَلَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هُنَالِكَ. وَقَدْ حَرَّرَ هَاهُنَا شَيْئًا كَثِيرًا
حَسَنًا.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا سُفْيَانُ،
سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ وَسَأَلَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ،أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ - يَعْنِي أَنْ يَقْسِمَ لَهُ - فَقَالَ
بَعْضُ بَنِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: لَا تُعْطِهِ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ
هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ. فَقَالَ: وَاعْجَبًا لِوَبْرٍ تَدَلَّى مِنْ
قَدُومِ الضَّأْنِ! تَفَرَّدَ بِهِ دُونَ مُسْلِمٍ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَيُذْكَرُ عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
أَخْبَرَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُخْبِرُ
سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ قَالَ:بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
أَبَانَ عَلَى سَرِيَّةٍ
مَنِ الْمَدِينَةِ قِبَلَ نَجِدٍ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَدِمَ أَبَانُ
وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ
بَعْدَمَا افْتَتَحَهَا، وَإِنَّ حُزُمَ خَيْلِهِمْ لَلِيفٌ. قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تَقْسِمْ لَهُمْ. فَقَالَ أَبَانُ:
وَأَنْتَ بِهَذَا يَا وَبْرُ تَحَدَّرَ مِنْ رَأْسِ ضَالٍ ؟! فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا أَبَانُ، اجْلِسْ ". وَلَمْ
يَقْسِمْ لَهُمْ وَقَدْ أَسْنَدَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ
الزُّبَيْدِيِّ، بِهِ نَحْوَهُ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا عَمْرُو
بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي جَدِّي - وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو
بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ -أَنَّ أَبَانَ بْنَ سَعِيدٍ أَقْبَلَ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ. فَقَالَ أَبَانُ
لِأَبِي هُرَيْرَةَ: وَاعْجَبًا لَكَ، وَبْرٌ تَرَدَّى مِنْ قَدُومِ ضَالٍ!
تَنْعَى عَلَيَّ امْرَأً أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِيَدِي، وَمَنَعَهُ أَنْ يُهِينَنِي
بِيَدِهِ ؟! هَكَذَا رَوَاهُ مُنْفَرِدًا بِهِ هَاهُنَا.
وَقَالَ فِي الْجِهَادِ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عَنْبَسَةَ بْنِ سَعِيدٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ بِخَيْبَرَ بَعْدَمَا افْتَتَحَهَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، أَسْهِمْ لِي. فَقَالَ بَعْضُ آلِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: لَا تَقْسِمْ
لَهُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ. الْحَدِيثَ.
قَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثَنِيهِ السَّعِيدِيُّ - يَعْنِي عَمْرَو بْنَ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ - عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذَا. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ
التَّصْرِيحُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ خَيْبَرَ وَتَقَدَّمَ
فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْغَزْوَةِ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ
عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا افْتَتَحَ خَيْبَرَ
فَكَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَشْرَكُونَا فِي أَسْهَامِهِمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رُوحٌ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ: قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: مَا شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَغْنَمًا قَطُّ إِلَّا قَسَمَ لِي، إِلَّا خَيْبَرَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ لِأَهْلِ
الْحُدَيْبِيَةِ خَاصَّةً.
قُلْتُ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو مُوسَى، جَاءَا بَيْنَ الْحُدَيْبِيَةِ
وَخَيْبَرَ.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا
مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ،
حَدَّثَنِي ثَوْرٌ، حَدَّثَنِي سَالِمٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ،
أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ:افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ فَلَمْ نَغْنَمُ
ذَهَبًا وَلَا فِضَّةَ، إِنَّمَا
غَنِمْنَا الْإِبِلَ، وَالْبَقَرَ، وَالْمَتَاعَ، وَالْحَوَائِطَ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَادِي الْقُرَى، وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ. أَهْدَاهُ لَهُ بَعْضُ بَنِي الضُّبَيْبِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ، حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَلَّا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا ". فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ.
ذِكْرُ قِصَّةِ الشَّاةِ
الْمَسْمُومَةِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْبُرْهَانُ الَّذِي ظَهَرَ عِنْدَهَا
قَالَ الْبُخَارِيُّ: رَوَاهُ عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
يُوسُفَ، ثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي سَعِيدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ:لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ. هَكَذَا أَوْرَدَهُ هَاهُنَا مُخْتَصَرًا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، ثَنَا لَيْثٌ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:لَمَّا فُتِحَتْ
خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ فِيهَا
سُمٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنَ الْيَهُودِ ". فَجَمَعُوا لَهُ،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي سَائِلُكُمْ
عَنْ شَيْءٍ، فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ ؟ " قَالُوا: نَعَمْ يَا
أَبَا الْقَاسِمِ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " مَنْ أَبُوكُمْ ؟ قَالُوا: أَبُونَا فُلَانٌ. فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ
فُلَانٌ ". قَالُوا:
صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ.
فَقَالَ: " هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ ؟
" قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ
كَذِبَنَا، كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَهْلُ النَّارِ ؟ " فَقَالُوا:
نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا، ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ
فِيهَا أَبَدًا ". ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: " هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ
شَيْءٍ سَأَلْتُكُمْ ؟ " فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. فَقَالَ:
" هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا ؟ " فَقَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: " مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ ؟ ". قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ
كَاذِبًا أَنْ نَسْتَرِيحَ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْجِزْيَةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ،
وَفِي الْمُغَازِي أَيْضًا، عَنْ قُتَيْبَةَ كِلَاهُمَا عَنِ اللَّيْثِ، بِهِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ،
أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ،
ثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ امْرَأَةً مِنَ
الْيَهُودِ أَهْدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً
مَسْمُومَةً، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: " أَمْسِكُوا، فَإِنَّهَا مَسْمُومَةٌ
" وَقَالَ لَهَا: مَا حَمَلَكِ عَلَى مَا صَنَعْتِ ؟ قَالَتْ: أَرَدْتُ أَنْ
أَعْلَمَ، إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَسَيُطْلِعُكَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كُنْتَ
كَاذِبًا أُرِيحُ النَّاسَ مِنْكَ. قَالَ: فَمَا عَرَضَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ هَارُونِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، بِهِ. ثُمَّ رَوَى
الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُرَيْجٌ، ثَنَا عَبَّادٌ، عَنْ هِلَالٍ
- هُوَ ابْنُ خَبَّابٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً
مِنَ الْيَهُودِ أَهَدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شَاةً مَسْمُومَةً، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَقَالَ: " مَا حَمَلَكِ عَلَى مَا
صَنَعْتِ ؟ " قَالَتْ: أَحْبَبْتُ - أَوْ أَرَدْتُ - إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا
فَإِنَّ اللَّهَ سَيُطْلِعُكَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَبِيًّا أُرِيحُ
النَّاسَ مِنْكَ. قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا احْتَجَمَ. قَالَ: فَسَافَرَ مَرَّةً،
فَلَمَّا أَحْرَمَ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَاحْتَجَمَ تَفَرَّدَ بِهِ
أَحْمَدُ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ
زَيْدٍ،عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ
مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، قَالَتْ: أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ. فَقَالَ: " مَا
كَانَ اللَّهُ
لِيُسَلِّطَكِ عَلَيَّ ". أَوْ قَالَ: " عَلَى ذَلِكَ ". قَالُوا:
أَلَا نَقْتُلُهَا ؟ قَالَ: " لَا " قَالَ: أَنَسٌ فَمَا زِلْتُ
أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْمَهْرِيُّ، ثَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: قَالَ كَانَ جَابِرُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُأَنَّ يَهُودِيَّةً مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ سَمَّتْ شَاةً
مَصْلِيَّةً، ثُمَّ أَهْدَتْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الذِّرَاعَ، فَأَكَلَ مِنْهَا، وَأَكَلَ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَهُ، ثُمَّ
قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ ". وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَرْأَةِ، فَدَعَاهَا فَقَالَ لَهَا: "
أَسَمَمْتِ هَذِهِ الشَّاةَ ؟ " قَالَتِ الْيَهُودِيَّةُ: مَنْ أَخْبَرَكَ ؟
قَالَ: " أَخْبَرَتْنِي هَذِهِ الَّتِي فِي يَدِي ". وَهِيَ الذِّرَاعُ.
قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: " فَمَا أَرَدْتِ بِذَلِكَ ؟ " قَالَتْ:
قُلْتُ: إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَلَنْ تَضُرَّكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَبِيًّا
اسْتَرَحْنَا مِنْكَ. فَعَفَا عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُعَاقِبْهَا، وَتُوَفِّيَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ
أَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ، وَاحْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى كَاهِلِهِ، مِنْ أَجْلِ الَّذِي
أَكَلَ مِنَ الشَّاةِ،
حَجَمَهُ أَبُو هِنْدٍ بِالْقَرْنِ، وَالشَّفْرَةِ وَهُوَ مَوْلَى لِبَنِي
بَيَاضَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، ثَنَا خَالِدٌ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَتْ لَهُ يَهُودِيَّةٌ بِخَيْبَرَ شَاةً
مَصْلِيَّةً، نَحْوَ حَدِيثِ جَابِرٍ، قَالَ: فَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ
مَعْرُورٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكِ عَلَى
الَّذِي صَنَعْتِ ؟ " فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ جَابِرٍ، فَأَمَرَ بِهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُتِلَتْ. وَلَمْ يَذْكُرْ
أَمْرَ الْحِجَامَةِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهَا فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ
بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ أَمَرَ بِقَتْلِهَا.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ امْرَأَةً
يَهُودِيَّةً أَهْدَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شَاةً مَصْلِيَّةً بِخَيْبَرَ، فَقَالَ: " مَا هَذِهِ ؟ " قَالَتْ:
هَدِيَّةٌ. وَحَذِرَتْ أَنْ تَقُولَ: صَدَقَةٌ. فَلَا يَأْكُلُ. قَالَ: فَأَكَلَ
وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: " أَمْسِكُوا ". ثُمَّ قَالَ
لِلْمَرْأَةِ: " هَلْ
سَمَمْتِ هَذِهِ الشَّاةَ ؟ " قَالَتْ: مَنْ أَخْبَرَكَ هَذَا ؟ قَالَ:
" هَذَا الْعَظْمُ ". لِسَاقِهَا، وَهُوَ فِي يَدِهِ. قَالَتْ: نَعَمْ.
قَالَ: " لِمَ ؟ " قَالَتْ: أَرَدْتُ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا أَنْ
نَسْتَرِيحَ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ. قَالَ: فَاحْتَجَمَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْكَاهِلِ، وَأَمَرَ
أَصْحَابَهُ فَاحْتَجَمُوا، وَمَاتَ بَعْضُهُمْ. قَالَ الزُّهْرِيُّ:
فَأَسْلَمَتْ، فَتَرَكَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا مُرْسَلٌ، وَلَعَلَّهُ قَدْ يَكُونُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
حَمَلَهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، وَكَذَلِكَ
مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالُوا:لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ،
أَهْدَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْيَهُودِيَّةُ - وَهِيَ ابْنَةُ أَخِي
مَرْحَبٍ - لِصَفِيَّةَ شَاةً مَصْلِيَّةً وَسَمَّتْهَا، وَأَكْثَرَتْ فِي الْكَتِفِ
وَالذِّرَاعِ، لِأَنَّهُ بَلَغَهَا أَنَّهُ أَحَبُّ أَعْضَاءِ الشَّاةِ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَفِيَّةَ، وَمَعَهُ بِشْرُ بْنُ
الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، وَهُوَ أَحَدُ بَنِي سَلَمَةَ، فَقَدَّمَتْ إِلَيْهِمُ
الشَّاةَ الْمَصْلِيَّةَ، فَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْكَتِفَ، وَانْتَهَشَ مِنْهَا، وَتَنَاوَلَ بِشْرٌ عَظْمًا
فَانْتَهَشَ مِنْهُ، فَلَمَّا اسْتَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لُقْمَتَهُ، اسْتَرَطَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ مَا فِي فِيهِ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ارْفَعُوا
أَيْدِيَكُمْ، فَإِنَّ كَتِفَ هَذِهِ الشَّاةِ يُخْبِرُنِي أَنِّي نُعِيتُ فِيهَا ".
فَقَالَ بِشْرُ بْنُ
الْبَرَاءِ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ لَقَدْ وَجَدْتُ ذَلِكَ فِي أَكْلَتِي الَّتِي
أَكَلْتُ، فَمَا مَنَعَنِي أَنْ أَلْفِظَهَا إِلَّا أَنِّي أَعْظَمْتُكَ أَنْ
أُنَغِّصَكَ طَعَامَكَ، فَلَمَّا أَسَغْتَ مَا فِي فِيكَ، لَمْ أَرْغَبْ بِنَفْسِي
عَنْ نَفْسِكَ، وَرَجَوْتُ أَنْ لَا تَكُونَ اسْتَرَطْتَهَا وَفِيهَا نَعْيٌ.
فَلَمْ يَقُمْ بِشْرٌ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى عَادَ لَوْنُهُ كَالطَّيْلَسَانِ،
وَمَاطَلَهُ وَجَعُهُ، حَتَّى كَانَ لَا يَتَحَوَّلُ حَتَّى يُحَوَّلَ قَالَ
الزُّهْرِيُّ: قَالَ جَابِرٌ:وَاحْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ، حَجَمَهُ مَوْلَى بَنِي بَيَاضَةَ بِالْقَرْنِ
وَالشَّفْرَةِ، وَبَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَعْدَهُ ثَلَاثَ سِنِينَ، حَتَّى كَانَ وَجَعُهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقَالَ:
" مَا زِلْتُ أَجِدُ مِنَ الْأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ مِنَ الشَّاةِ يَوْمَ
خَيْبَرَ عِدَادًا، حَتَّى كَانَ هَذَا أَوَانَ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي ".
فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِيدًا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ:فَلَمَّا اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَتْ لَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ امْرَأَةُ
سَلَّامِ بْنِ مِشْكَمٍ شَاةً مَصْلِيَّةً، وَقَدْ سَأَلَتْ: أَيُّ عُضْوٍ أَحَبُّ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقِيلَ لَهَا:
الذِّرَاعُ، فَأَكْثَرَتْ فِيهَا مِنَ السُّمِّ، ثُمَّ سَمَّتْ سَائِرَ الشَّاةِ،
ثُمَّ جَاءَتْ بِهَا، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، تَنَاوَلَ
الذِّرَاعِ، فَلَاكَ
مِنْهَا مُضْغَةً فَلَمْ
يُسِغْهَا، وَمَعَهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، قَدْ أَخَذَ مِنْهَا
كَمَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا بِشْرٌ
فَأَسَاغَهَا، وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَلَفَظَهَا، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ هَذَا الْعَظْمَ يُخْبِرُنِي أَنَّهُ مَسْمُومٌ
". ثُمَّ دَعَا بِهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَقَالَ: " مَا حَمَلَكِ عَلَى
ذَلِكَ ؟ " قَالَتْ: بَلَغْتَ مِنْ قَوْمِي مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ
فَقُلْتُ: إِنْ كَانَ كَذَّابًا اسْتَرَحْتُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا
فَسَيُخْبَرُ قَالَ: فَتَجَاوَزَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَمَاتَ بِشْرٌ مِنْ أَكْلَتِهِ الَّتِي أَكَلَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مَرْوَانُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سَعِيدِ
بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدْ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ - وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ أُمُّ
بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ -: " يَا أُمَّ بِشْرٍ، إِنَّ هَذَا
الْأَوَانَ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنَ الْأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ مَعَ
أَخِيكِ بِخَيْبَرَ ". قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْأَبْهَرُ: الْعِرْقُ
الْمُعَلَّقُ بِالْقَلْبِ. قَالَ: فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَيَرَوْنَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ شَهِيدًا، مَعَ مَا
أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ بِشْرٍ
وَسُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ
الْحَرَّانِيُّ قَالَا:
ثَنَا أَبُو عَتَّابٍ سَهْلُ بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي
نَضْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ:أَنَّ يَهُودِيَّةً
أَهْدَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً
سَمِيطًا، فَلَمَّا بَسَطَ الْقَوْمُ أَيْدِيَهُمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمْسِكُوا فَإِنَّ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهَا
يُخْبِرُنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ ". فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَتِهَا: "
أَسَمَمْتِ طَعَامَكِ ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: " مَا حَمَلَكِ عَلَى
ذَلِكَ ؟ " قَالَتْ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا أَنْ أُرِيحَ النَّاسَ مِنْكَ،
وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ سَيُطْلِعُكَ عَلَيْهِ. فَبَسَطَ
يَدَهُ وَقَالَ: " كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ ". قَالَ: فَأَكَلْنَا
وَذَكَرْنَا اسْمَ اللَّهِ، فَلَمْ يَضُرَّ أَحَدٌ مِنَّا ثُمَ قَالَ: لَا يُرْوَى
عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي نَضْرَةَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قُلْتُ: وَفِيهِ نَكَارَةٌ وَغَرَابَةٌ شَدِيدَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ رَأَى
فِي مَنَامِهِ رُؤْيَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُحَاصِرٌ خَيْبَرَ، فَطَمِعَ مِنْ رُؤْيَاهُ أَنْ يُقَاتِلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَظْفَرُ بِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَجَدَهُ قَدِ افْتَتَحَهَا،
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَعْطِنِي مَا غَنِمْتَ مِنْ حُلَفَائِي - يَعْنِي أَهْلَ
خَيْبَرَ - فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" كَذَبَتْ رُؤْيَاكَ ". وَأَخْبَرَهُ بِمَا رَأَى، فَرَجَعَ
عُيَيْنَةُ، فَلَقِيَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ
تُوضِعُ فِي غَيْرِ شَيْءٍ ؟! وَاللَّهِ لَيَظْهَرَنَّ مُحَمَّدٌ عَلَى مَا
بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَإِنَّ يَهُودَ كَانُوا يُخْبِرُونَنَا بِهَذَا، أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ أَبَا رَافِعٍ سَلَّامَ بْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ يَقُولُ: إِنَّا لَنَحْسُدُ مُحَمَّدًا عَلَى النُّبُوَّةِ حَيْثُ خَرَجَتْ مِنْ بَنِي هَارُونَ، إِنَّهُ لَمُرْسَلٌ، وَيَهُودُ لَا تُطَاوِعُنِي عَلَى هَذَا، وَلَنَا مِنْهُ ذِبْحَانِ، وَاحِدٌ بِيَثْرِبَ، وَآخَرُ بِخَيْبَرَ، قَالَ الْحَارِثُ: قُلْتُ لِسَلَّامٍ: يَمْلِكُ الْأَرْضَ ؟! قَالَ: نَعَمْ وَالتَّوْرَاةِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى، وَمَا أُحِبُّ أَنْ تَعْلَمَ يَهُودُ بِقَوْلِي فِيهِ.
فَصْلٌ قِصَّةُ مِدْعَمٍ
وَنَوْمِ بِلَالٍ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ، انْصَرَفَ إِلَى وَادِي الْقُرَى، فَحَاصَرَ أَهْلَهَا
لَيَالِيَ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ
قِصَّةِ مِدْعَمٍ، وَكَيْفَ جَاءَهُ سَهْمٌ غَارِبٌ فَقَتَلَهُ، وَقَالَ النَّاسُ:
هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي
أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ
نَارًا " وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " نَحْوَ
مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ قِتَالِهِ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِوَادِي الْقُرَى.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ
زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ،أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَشْجَعَ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ يَوْمَ خَيْبَرَ،
فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "
صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ ". فَتَغَيَّرَ وُجُوهُ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:
" إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ". فَفَتَّشْنَا
مَتَاعَهُ، فَوَجَدْنَا خَرَزًا مِنْ
خَرَزِ يَهُودَ مَا
يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ
حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ - زَادَ أَبُو دَاوُدَ: وَبِشْرُ بْنُ
الْمُفَضَّلِ - وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ،،
ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، بِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ بَنِي فَزَارَةَ أَرَادُوا أَنْ يُقَاتِلُوا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْجِعَهُ مِنْ خَيْبَرَ،
وَتَجَمَّعُوا لِذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ يُوَاعِدُهُمْ مَوْضِعًا مُعَيَّنًا،
فَلَمَّا تَحَقَّقُوا ذَلِكَ، هَرَبُوا كُلَّ مَهْرَبٍ، وَذَهَبُوا مِنْ طَرِيقِهِ
كُلَّ مَذْهَبٍ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا حَلَّتْ صَفِيَّةُ مِنَ اسْتِبْرَائِهَا، دَخَلَ بِهَا بِمَكَانٍ
يُقَالُ لَهُ: سَدُّ الصَّهْبَاءِ. فِي أَثْنَاءِ طَرِيقِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ،
وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا بِحَيْسٍ، وَأَقَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يُبْنَى عَلَيْهِ
بِهَا، وَأَسْلَمَتْ، فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَجَعَلَ عِتَاقَهَا
صَدَاقَهَا، وَكَانَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا فَهِمَهُ
الصَّحَابَةُ لَمَّا مَدَّ عَلَيْهَا الْحِجَابَ وَهُوَ مُرْدِفُهَا وَرَاءَهُ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي " السِّيرَةِ " قَالَ: لَمَّا
أَعْرَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَفِيَّةَ
بِخَيْبَرَ، أَوْ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، وَكَانَتِ الَّتِي جَمَّلَتْهَا إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَشَّطَتْهَا، وَأَصْلَحَتْ
مِنْ أَمْرِهَا أُمُّ سُلَيْمٍ بِنْتُ مِلْحَانَ، أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،
وَبَاتَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُبَّةٍ
لَهُ، وَبَاتَ أَبُو أَيُّوبَ مُتَوَشِّحًا سَيْفَهُ، يَحْرُسُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُطِيفُ بِالْقُبَّةِ حَتَّى أَصْبَحَ،
فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَانَهُ
قَالَ:
" مَا لَكَ يَا
أَبَا أَيُّوبَ ؟ " قَالَ: خِفْتُ عَلَيْكَ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ،
وَكَانَتِ امْرَأَةً قَدْ قَتَلْتَ أَبَاهَا وَزَوْجَهَا وَقَوْمَهَا، وَكَانَتْ
حَدِيثَةَ عَهْدٍ بِكُفْرٍ، فَخِفْتُهَا عَلَيْكَ. فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اللَّهُمَّ احْفَظْ
أَبَا أَيُّوبَ كَمَا بَاتَ يَحْفَظُنِي ". ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي
الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَذَكَرَ نَوْمَهُمْ عَنْ صَلَاةِ
الصُّبْحِ مَرْجِعَهُمْ مِنْ خَيْبَرَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلَهُمُ اسْتِيقَاظًا، فَقَالَ: " مَاذَا
صَنَعْتَ بِنَا يَا بِلَالُ ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخَذَ
بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ. قَالَ: " صَدَقْتَ ". ثُمَّ
اقْتَادَ نَاقَتَهُ غَيْرَ كَثِيرٍ، ثُمَّ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ، وَصَلَّى كَمَا
كَانَ يُصَلِّيهَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ سَعِيدٍ مُرْسَلًا. وَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، ثَنَا ابْنُ
وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ، فَسَارَ لَيْلَةً،
حَتَّى إِذَا أَدْرَكَنَا الْكَرَى عَرَّسَ، وَقَالَ لِبِلَالٍ: " اكْلَأْ
لَنَا اللَّيْلَ ". قَالَ: فَغَلَبَتْ بِلَالًا عَيْنَاهُ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ
إِلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمْ يَسْتَيْقِظِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَا بِلَالٌ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى ضَرَبَتْهُمُ
الشَّمْسُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَوَّلَهُمُ اسْتِيقَاظًا، فَفَزِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَالَ: " يَا بِلَالُ ! " قَالَ: أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي
أَخَذَ بِنَفْسِكَ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:
فَاقْتَادُوا رَوَاحِلَهُمْ شَيْئًا، ثُمَّ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَأَمَرَ بِلَالًا
فَأَقَامَ لَهُمُ الصَّلَاةَ، وَصَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ، فَلَمَّا أَنْ قَضَى
الصَّلَاةَ قَالَ: " مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا،
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِلذِّكْرَى ) ( طه: 14 )
قَالَ يُونُسُ: وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ يَقْرَأُهَا كَذَلِكَ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ وَهْبٍ، بِهِ. وَفِيهِ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَرْجِعَهُمْ مِنْ خَيْبَرَ.
وَفِي حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَرْجِعَهُمْ
مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّ بِلَالًا هُوَ الَّذِي كَانَ
يَكْلَؤُهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَكْلَؤُهُمْ.
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَرَّتَيْنِ.
قَالَ: وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَأَبِي قَتَادَةَ نَوْمُهُمْ عَنِ
الصَّلَاةِ، وَفِيهِ حَدِيثُ الْمِيضَأَةِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ إِحْدَى
هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ، أَوْ مَرَّةٌ ثَالِثَةٌ. قَالَ: وَذَكَرَالْوَاقِدِيُّ
فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَرْجِعَهُمْ مِنْ غَزْوَةِ
تَبُوكَ. قَالَ: وَرَوَى زَافِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ جَامِعِ
بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّ ذَلِكَ كَانَ
مَرْجِعَهُمْ مِنْ تَبُوكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ أَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ مَا رَوَاهُ صَاحِبُ " الصَّحِيحِ " مِنْ
قِصَّةِ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ فِي قِصَّةِ نَوْمِهِمْ عَنِ الصَّلَاةِ، وَقِصَّةِ الْمَرْأَةِ
صَاحِبَةِ السَّطِيحَتَيْنِ، وَكَيْفَ أَخَذُوا مِنْهُمَا مَاءً رَوَى الْجَيْشَ
بِكَمَالِهِ، وَلَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْهُمَا شَيْئًا. ثُمَّ ذَكَرَ مَا رَوَاهُ
مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ،
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ وَفِيهِ نَوْمُهُمْ عَنِ
الصَّلَاةِ، وَتَكْثِيرُ الْمَاءِ مِنْ تِلْكَ الْمِيضَأَةِ. وَقَدْ رَوَاهُ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا عَبْدُ
الْوَاحِدِ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَيْبَرَ - أَوْ قَالَ: لَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ أَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى وَادٍ،
فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ،
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ
وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ
تَدْعُونَ سَمِيعًا
قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ ". وَأَنَا خَلْفَ دَابَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعَنِي وَأَنَا أَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا
قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. فَقَالَ: " يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ
". قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " أَلَا أَدُلُّكَ
عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ ؟ ". قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ
اللَّهِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. قَالَ: " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا
بِاللَّهِ وَقَدْ رَوَاهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ مَلٍّ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدَيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ كَانَ مَرْجِعَهُمْ مِنْ خَيْبَرَ، فَإِنَّ
أَبَا مُوسَى إِنَّمَا قَدِمَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فِيمَا بَلَغَنِي، قَدْ أَعْطَى ابْنَ لَقِيمٍ الْعَبْسِيَّ حِينَ
افْتَتَحَ خَيْبَرَ مَا بِهَا مِنْ دَجَاجَةٍ أَوْ دَاجِنٍ، وَكَانَ فَتْحُ
خَيْبَرَ فِي صَفَرٍ، فَقَالَ ابْنُ لَقِيمٍ فِي فَتْحِ خَيْبَرَ:
رُمِيَتْ نَطَاةُ مِنَ الرَّسُولِ بِفَيْلَقٍ شَهْبَاءَ ذَاتِ مَنَاكِبٍ وَفَقَارِ
وَاسْتَيْقَنَتْ بِالذُّلِّ لَمَّا شُيِّعَتْ
وَرِجَالُ أَسْلَمَ وَسْطَهَا وَغِفَارِ
صَبَحَتْ بَنِي عَمْرِو
بْنِ زُرْعَةَ غُدْوَةٌ
وَالشَّقُّ أَظْلَمَ أَهْلُهُ بِنَهَارِ جَرَّتْ بِأَبْطَحِهَا الذُّيُولَ فَلَمْ
تَدَعْ
إِلَّا الدَّجَاجَ تَصِيحُ بِالْأَسْحَارِ وَلِكُلِّ حِصْنٍ شَاغِلٌ مِنْ
خَيْلِهِمْ
مِنْ عَبْدِ الَاشْهَلِ أَوْ بَنِي النَّجَّارِ وَمُهَاجِرِينَ قَدَ اعْلَمُوا
سِيمَاهُمُ
فَوْقَ الْمَغَافِرِ لَمْ يَنُوا لِفَرَارِ وَلَقَدْ عَلِمْتُ لَيَغْلِبَنَّ
مُحَمْدٌ
وَلَيَثْوِيَنَّ بِهَا إِلَى أَصْفَارِ فَرَّتْ يَهُودٌ عِنْدَ ذَلِكَ فِي
الْوَغَى
تَحْتَ الْعَجَاجِ غَمَائِمَ الْأَبْصَارِ
فَصْلٌ مَنِ اسْتُشْهِدَ بِخَيْبَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ
عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَغَيْرُهُ
مِنْ أَصْحَابِ الْمُغَازِي
فَمِنْ خَيْرِ الْمُهَاجِرِينَ، رَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ بْنِ سَخْبَرَةَ
الْأَسَدِيُّ، مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَثَقِيفُ بْنُ عَمْرٍو، وَرِفَاعَةُ بْنُ
مَسْرُوحٍ، حُلَفَاءُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الْهُبَيْبِ بْنِ
أُهَيْبِ بْنِ سُحَيْمِ بْنِ غِيَرَةَ، مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ، حَلِيفُ
بَنِي أَسَدٍ وَابْنُ أُخْتِهِمْ.
وَمِنَ الْأَنْصَارِ، بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ - مِنْ أَكْلَةِ
الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَمَا تَقَدَّمَ - وَفُضَيْلُ بْنُ النُّعْمَانِ السَّلَمِيَّانِ، وَمَسْعُودُ
بْنُ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ خَلَدَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ الزُّرَقِيُّ،
وَمَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَشْهَلِيُّ، وَأَبُو ضَيَّاحِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ
النُّعْمَانِ الْعَمْرِيُّ، وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ، وَعُرْوَةُ بْنُ مُرَّةَ
بْنِ سُرَاقَةَ، وَأَوْسٌ الْفَائِدُ، وَأُنَيْفُ بْنُ حَبِيبٍ، وَثَابِتُ بْنُ
أَثْلَةَ، وَطَلْحَةُ، وَعُمَارَةُ بْنُ عُقْبَةَ رُمِيَ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ،
وَعَامِرُ بْنُ الْأَكْوَعِ، أَصَابَهُ طَرَفُ سَيْفِهِ فِي رُكْبَتِهِ
فَقَتَلَهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْأَسْوَدُ الرَّاعِي. وَقَدْ
أَفْرَدَ ابْنُ إِسْحَاقَ هَاهُنَا قِصَّتَهُ، وَقَدْ أَسْلَفْنَاهَا فِي
أَوَائِلِ الْغَزْوَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمِمَّنِ اسْتُشْهِدَ بِخَيْبَرَ - فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ شِهَابٍ - مِنْ بَنِي زُهْرَةَ، مَسْعُودُ بْنُ رَبِيعَةَ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنَ الْقَارَةِ، وَمِنَ الْأَنْصَارِ ثُمَّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، أَوْسُ بْنُ قَتَادَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
خَبَرُ الْحَجَّاجِ بْنِ
عِلَاطٍ الْبَهْزِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ، كَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ السُّلَمِيُّ ثُمَّ
الْبَهْزِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي بِمَكَّةَ مَالًا عِنْدَ
صَاحِبَتِي أُمِّ شَيْبَةَ بِنْتِ أَبِي طَلْحَةَ - وَكَانَتْ عِنْدَهُ، لَهُ
مِنْهَا مُعَرِّضُ بْنُ الْحَجَّاجِ - وَمَالًا مُتَفَرِّقًا فِي تُجَّارِ أَهْلِ
مَكَّةَ، فَأْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَا
بُدَّ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أَقُولَ. قَالَ: " قُلْ ". قَالَ
الْحَجَّاجُ: فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا قَدِمْتُ مَكَّةَ، وَجَدْتُ بِثَنِيَّةِ
الْبَيْضَاءِ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ يَسْتَمِعُونَ الْأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُونَ
عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ
بَلَغَهُمْ أَنَّهُ قَدْ سَارَ إِلَى خَيْبَرَ، وَقَدْ عَرَفُوا أَنَّهَا قَرْيَةُ
الْحِجَازِ، رِيفًا وَمَنَعَةً وَرِجَالًا، وَهُمْ يَتَجَسَّسُونَ الْأَخْبَارَ
مِنَ الرُّكْبَانِ، فَلَمَّا رَأَوْنِي قَالُوا: الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ -
قَالَ: وَلَمْ يَكُونُوا عَلِمُوا بِإِسْلَامِي - عِنْدَهُ وَاللَّهِ الْخَبَرُ،
أَخْبِرْنَا يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ الْقَاطِعَ قَدْ
سَارَ إِلَى خَيْبَرَ، وَهِيَ بَلَدُ يَهُودَ وَرِيفُ الْحِجَازِ. قَالَ: قُلْتُ:
قَدْ بَلَغَنِي ذَلِكَ، وَعِنْدِي مِنَ
الْخَبَرِ مَا يَسُرُّكُمْ. قَالَ: فَالْتَبَطُوا بِجَنْبَيْ نَاقَتِي يَقُولُونَ: إِيهٍ يَا حَجَّاجُ. قَالَ: قُلْتُ: هُزِمَ هَزِيمَةً لَمْ تَسْمَعُوا بِمِثْلِهَا قَطُّ، وَقَدْ قُتِلَ أَصْحَابُهُ قَتْلًا لَمْ تَسْمَعُوا بِمِثْلِهِ قَطُّ، وَأُسِرَ مُحَمَّدٌ أَسْرًا، وَقَالُوا: لَا نَقْتُلُهُ حَتَّى نَبْعَثَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ، فَيَقْتُلُوهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِمَنْ كَانَ أَصَابَ مِنْ رِجَالِهِمْ. قَالَ: فَقَامُوا وَصَاحُوا بِمَكَّةَ، وَقَالُوا: قَدْ جَاءَكُمُ الْخَبَرُ، وَهَذَا مُحَمَّدٌ، إِنَّمَا تَنْتَظِرُونَ أَنْ يُقْدَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ، فَيُقْتَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، قَالَ: قُلْتُ: أَعِينُونِي عَلَى جَمْعِ مَالِي بِمَكَّةَ وَعَلَى غُرَمَائِي، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَقْدِمَ خَيْبَرَ، فَأُصِيبَ مِنْ فَلِّ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَنِي التُّجَّارُ إِلَى مَا هُنَالِكَ. قَالَ: فَقَامُوا فَجَمَعُوا لِي مَا كَانَ لِي كَأَحَثِّ جَمْعٍ سَمِعْتُ بِهِ. قَالَ: وَجِئْتُ صَاحِبَتِي فَقُلْتُ: مَالِي - وَكَانَ عِنْدَهَا مَالٌ مَوْضُوعٌ - فَلَعَلِّي أَلْحَقُ بِخَيْبَرَ فَأُصِيبَ مِنْ فُرَصِ الْبَيْعِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَنِي التُّجَّارُ. قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْخَبَرَ وَجَاءَهُ عَنِّي، أَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ إِلَى جَنْبِي وَأَنَا فِي خَيْمَةٍ مِنْ خِيَامِ التُّجَّارِ، فَقَالَ: يَا حَجَّاجُ، مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ ؟! قَالَ: قُلْتُ: وَهَلْ عِنْدَكَ حِفْظٌ لِمَا وَضَعْتُ عِنْدَكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: قُلْتُ: فَاسْتَأْخِرْ عَنِّي حَتَّى أَلْقَاكَ عَلَى خَلَاءٍ، فَإِنِّي فِي جَمْعِ مَالِي كَمَا تَرَى، فَانْصَرَفَ عَنِّي حَتَّى أَفْرُغَ. قَالَ: حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْ جَمْعِ كَلِّ شَيْءٍ كَانَ لِي بِمَكَّةَ، وَأَجْمَعْتُ الْخُرُوجَ، لَقِيتُ الْعَبَّاسَ فَقُلْتُ: احْفَظْ عَلَيَّ حَدِيثِي يَا أَبَا الْفَضْلِ، فَإِنِّي أَخْشَى الطَّلَبَ، ثَلَاثًا، ثُمَّ قُلْ مَا شِئْتَ. قَالَ: أَفْعَلُ. قُلْتُ: فَإِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ تَرَكْتُ ابْنَ أَخِيكَ عَرُوسًا عَلَى بِنْتِ مَلِكِهِمْ - يَعْنِي صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ - وَقَدِ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، وَانْتَثَلَ مَا فِيهَا، وَصَارَتْ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ. قَالَ: مَا تَقُولُ يَا حَجَّاجُ ؟ ! قَالَ: قُلْتُ: إِي وَاللَّهِ، فَاكْتُمْ عَنِّي، وَلَقَدْ أَسْلَمْتُ، وَمَا جِئْتُ إِلَّا لِآخُذَ مَالِيَ، فَرَقًا مِنْ أَنْ أُغْلَبَ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثٌ فَأَظْهِرْ أَمْرَكَ، فَهُوَ وَاللَّهِ عَلَى مَا تُحِبُ قَالَ: حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، لَبِسَ الْعَبَّاسُ حُلَّةً لَهُ وَتَخَلَّقَ وَأَخْذَ عَصَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى الْكَعْبَةَ فَطَافَ بِهَا، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: يَا أَبَا الْفَضْلِ، هَذَا وَاللَّهِ التَّجَلُّدُ لِحَرِّ الْمُصِيبَةِ. قَالَ: كَلَّا وَاللَّهِ الَّذِي حَلَفْتُمْ بِهِ، لَقَدِ افْتَتَحَ مُحَمَّدٌ خَيْبَرَ، وَتُرِكَ عَرُوسًا عَلَى بِنْتِ مَلِكِهِمْ، وَأَحْرَزَ أَمْوَالَهُمْ وَمَا فِيهَا، وَأَصْبَحَتْ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ. قَالُوا: مَنْ جَاءَكَ بِهَذَا الْخَبَرِ ؟! قَالَ: الَّذِي جَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ، وَلَقَدْ دَخَلَ عَلَيْكُمْ مُسْلِمًا وَأَخَذَ مَالَهُ، فَانْطَلَقَ لِيَلْحَقَ بِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ فَيَكُونُ مَعَهُ. فَقَالُوا: يَا لِعِبَادِ اللَّهِ، انْفَلَتَ عَدُوُّ اللَّهِ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ عَلِمْنَا لَكَانَ لَنَا وَلَهُ شَأْنٌ. قَالَ: وَلَمْ يَنْشَبُوا أَنْ جَاءَهُمُ الْخَبَرُ بِذَلِكَ. هَكَذَا
ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ
هَذِهِ الْقِصَّةَ مُنْقَطِعَةً.
وَقَدْ أَسْنَدَ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَقَالَ: حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، ثَنَا مَعْمَرٌ، سَمِعْتُ ثَابِتًا يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسٍ
قَالَ: لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَيْبَرَ، قَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي
بِمَكَّةَ مَالًا، وَإِنَّ لِي بِهَا أَهْلًا، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ آتِيَهُمْ،
أَفَأَنَا فِي حِلٍّ إِنْ أَنَا نِلْتُ مِنْكَ أَوْ قُلْتُ شَيْئًا ؟ فَأَذِنَ
لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ مَا شَاءَ،
فَأَتَى امْرَأَتَهُ حِينَ قَدِمَ فَقَالَ: اجْمَعِي لِي مَا كَانَ عِنْدَكِ،
فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِيَ مِنْ غَنَائِمِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ،
فَإِنَّهُمْ قَدِ اسْتُبِيحُوا وَأُصِيبَتْ أَمْوَالُهُمْ. قَالَ: وَفَشَى ذَلِكَ
بِمَكَّةَ، فَانْقَمَعَ الْمُسْلِمُونَ وَأَظْهَرَ الْمُشْرِكُونَ فَرَحًا
وَسُرُورًا. قَالَ: وَبَلَغَ الْخَبَرُ الْعَبَّاسَ فَعُقِرَ وَجَعَلَ لَا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ. قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي عُثْمَانُ الْجَزَرِيُّ،
عَنْ مِقْسَمٍ قَالَ: فَأَخَذَ ابْنًا لَهُ يُقَالُ لَهُ: قُثَمُ. وَاسْتَلْقَى
وَوَضَعَهُ عَلَى صَدْرِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
حَيَّ قُثَمْ حَيَّ قُثَمْ
شَبِيهُ ذِي الْأَنْفِ الْأَشَمْ
نَبِيِّ ذِي النِّعَمْ
يُرْغِمُ مَنْ رَغِمْ
قَالَ ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ: ثُمَّ أَرْسَلَ غُلَامًا لَهُ إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ
عِلَاطٍ: وَيْلَكَ ! مَا جِئْتَ بِهِ وَمَاذَا تَقُولُ ؟! فَمَا وَعَدَ اللَّهُ
خَيْرٌ مِمَّا جِئْتَ بِهِ! فَقَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ لِغُلَامِهِ:
أَقْرِئْ عَلَى أَبِي الْفَضْلِ السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ فَلْيَخْلُ لِي فِي
بَعْضِ بُيُوتِهِ لِآتِيَهُ، فَإِنَّ الْخَبَرَ عَلَى مَا يَسُرُّهُ. فَجَاءَ
غُلَامُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ بَابَ الدَّارِ قَالَ: أَبْشِرْ يَا أَبَا الْفَضْلِ.
قَالَ: فَوَثَبَ الْعَبَّاسُ فَرِحًا حَتَّى قَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ،
فَأَخْبَرَهُ مَا قَالَ الْحَجَّاجُ فَأَعْتَقَهُ. قَالَ: ثُمَّ جَاءَهُ الْحَجَّاجُ
فَأَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ
افْتَتَحَ خَيْبَرَ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ، وَجَرَتْ سِهَامُ اللَّهِ فِي
أَمْوَالِهِمْ، وَاصْطَفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ وَاتَّخَذَهَا لِنَفْسِهِ، وَخَيَّرَهَا أَنْ
يُعْتِقَهَا وَتَكُونُ زَوْجَةً، أَوْ تَلْحَقَ بِأَهْلِهَا، فَاخْتَارَتْ أَنْ
يُعْتِقَهَا وَتَكُونَ زَوْجَتَهُ. قَالَ: وَلَكِنِّي جِئْتُ لِمَالٍ كَانَ لِي
هَاهُنَا أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَهُ فَأَذْهَبَ بِهِ، فَاسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَذِنَ لِي أَنْ أَقُولَ مَا
شِئْتُ، فَأَخْفِ عَلَيَّ ثَلَاثًا، ثُمَّ اذْكُرْ مَا بَدَا لَكَ. قَالَ:
فَجَمَعَتِ امْرَأَتُهُ مَا كَانَ عِنْدَهَا مِنْ حُلِيٍّ وَمَتَاعٍ، فَجَمَعَتْهُ
وَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ثَلَاثٍ
أَتَى الْعَبَّاسُ امْرَأَةَ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: مَا فَعَلُ زَوْجُكِ ؟
فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ
ذَهَبَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَتْ: لَا يُحْزِنُكَ اللَّهُ يَا أَبَا الْفَضْلِ، لَقَدْ شَقَّ عَلَيْنَا الَّذِي بَلَغَكَ. قَالَ: أَجَلْ، لَا يُحْزِنُنِي اللَّهُ، وَلَمْ يَكُنْ بِحَمْدِ اللَّهِ إِلَّا مَا أَحْبَبْنَا، فَتَحَ اللَّهُ خَيْبَرَ عَلَى رَسُولِهِ، وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ اللَّهِ، وَاصْطَفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَتْ لَكِ حَاجَةٌ فِي زَوْجِكِ فَالْحَقِي بِهِ. قَالَتْ: أَظُنُّكَ وَاللَّهِ صَادِقًا قَالَ: فَإِنِّي صَادِقٌ، وَالْأَمْرُ عَلَى مَا أَخْبَرْتُكِ. ثُمَّ ذَهَبَ حَتَّى أَتَى مَجَالِسَ قُرَيْشٍ، وَهُمْ يَقُولُونَ إِذَا مَرَّ بِهِمْ: لَا يُصِيبُكَ إِلَّا خَيْرٌ يَا أَبَا الْفَضْلِ. قَالَ: لَمْ يُصِبْنِي إِلَّا خَيْرٌ بِحَمْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنِي الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ أَنَّ خَيْبَرَ فَتَحَهَا اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ اللَّهِ، وَاصْطَفَى صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ سَأَلَنِي أَنْ أُخْفِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، وَإِنَّمَا جَاءَ لِيَأْخُذَ مَالَهُ وَمَا كَانَ لَهُ مِنْ شَيْءٍ هَاهُنَا، ثُمَّ يَذْهَبُ. قَالَ: فَرَدَّ اللَّهُ الْكَآبَةَ الَّتِي كَانَتْ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ وَمَنْ كَانَ دَخَلَ بَيْتَهُ مُكْتَئِبًا حَتَّى أَتَى الْعَبَّاسَ، فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، فَسُرَّ الْمُسْلِمُونَ وَرَدَّ مَا كَانَ مِنْ كَآبَةٍ أَوْ غَيْظٍ أَوْ حُزْنٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ سِوَى النَّسَائِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، بِهِ نَحْوَهُ. وَرَوَاهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ. وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ، عَنْ
مَعْمَرٍ، بِهِ نَحْوَهُ.
وَكَذَلِكَ ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي " مَغَازِيهِ " أَنَّ
قُرَيْشًا كَانَ بَيْنَهُمْ تَرَاهُنٌ عَظِيمٌ وَتَبَايُعٌ، مِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ: يَظْهَرُ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَظْهَرُ
الْحَلِيفَانِ وَيَهُودُ خَيْبَرَ. وَكَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ السُّلَمِيُّ
ثُمَّ الْبَهْزِيُّ قَدْ أَسْلَمَ وَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَتَحَ خَيْبَرَ، وَكَانَ تَحْتَهُ أُمُّ شَيْبَةَ أُخْتُ بَنِي عَبْدِ
الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ مُكْثِرًا مِنَ الْمَالِ، وَكَانَتْ
لَهُ مَعَادِنُ أَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ، فَلَمَّا ظَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَيْبَرَ، اسْتَأْذَنَ الْحَجَّاجُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الذَّهَابِ إِلَى مَكَّةَ يَجْمَعُ
أَمْوَالَهُ، فَأَذِنَ لَهُ، فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمِمَّا قِيلَ مِنَ الشِّعْرِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ
قَوْلُ حَسَّانَ:
بِئْسَ مَا قَاتَلَتْ خَيَابِرُ عَمَّا جَمَّعُوا مِنْ مَزِارِعٍ وَنَخِيلِ
كَرِهُوا الْمَوْتَ فَاسْتُبِيحَ حِمَاهُمْ وَأَقَرُّوا فِعْلَ اللَّئِيمِ
الذَّلِيلِ
أَمِنَ الْمَوْتِ
يَهْرُبُونَ فِإِنَّ الْ مَوْتَ مَوْتَ الْهُزَالِ غَيْرُ جَمِيلِ
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ
الْأَنْصَارِيِّ:
وَنَحْنُ وَرَدْنَا خَيْبَرًا وَفُرُوضَهُ بِكُلِّ فَتًى عَارِي الْأَشَاجِعِ
مِذْوَدِ
جَوَادٍ لَدَى الْغَايَاتِ لَا وَاهِنِ الْقُوَى جَرِيءٍ عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي
كُلِّ مَشْهَدِ
عَظِيمِ رَمَادِ الْقِدْرِ فِي كُلِّ شَتْوَةٍ ضَرُوبٍ بِنَصْلِ الْمَشْرَفِيِّ
الْمُهَنَّدِ
يَرَى الْقَتْلَ مَدْحًا إِنْ أَصَابَ شَهَادَةً مِنَ اللَّهِ يَرْجُوهَا
وَفَوْزًا بِأَحْمَدَ
يَذُودُ وَيَحْمِي عَنْ ذِمَارِ مُحَمَدٍ وَيَدْفَعُ عَنْهُ بِاللِّسَانِ
وَبِالْيَدِ
وَيَنْصُرُهُ مِنْ كُلِ أَمْرٍ يَرِيبُهُ يَجُودُ بِنَفْسٍ دُونَ نَفْسِ مُحَمَّدِ
يُصَدِّقُ بِالْإِنْبَاءِ بِالْغَيْبِ مُخْلِصًا يُرِيدُ بِذَاكَ الْعِزَّ
وَالْفَوْزَ فِي غَدِ
فَصْلٌ فِي مُرُورِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْقُرَى وَمُحَاصَرَتِهِ قَوْمًا مِنَ
الْيَهُودِ، وَمُصَالَحَةِ يَهُودِ تَيْمَاءَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:خَرَجْنَا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ إِلَى وَادِي
الْقُرَى، وَكَانَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الْجُذَامِيُّ قَدْ وَهَبَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا أَسْوَدَ يُقَالُ
لَهُ: مِدْعَمٌ. وَكَانَ يُرَحِّلُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَلَمَّا نَزَلْنَا بِوَادِي الْقُرَى انْتَهَيْنَا إِلَى يَهُودَ،
وَقَدِمَ إِلَيْهَا نَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَبَيْنَا مِدْعَمٌ يَحُطُّ رَحْلَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدِ اسْتَقْبَلَتْنَا
يَهُودُ بِالرَّمْيِ حِينَ نَزَلْنَا، وَلَمْ نَكُنْ عَلَى تَعْبِيَةٍ، وَهُمْ
يَصِيحُونَ فِي آطَامِهِمْ، فَيُقْبِلُ سَهْمٌ عَائِرٌ، فَأَصَابَ مِدْعَمًا
فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ بِالْجَنَّةِ. فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،
إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ
تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلَ عَلَيْهِ نَارًا ".
فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ
النَّاسُ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ وَهَذَا
الْحَدِيثُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ ثَوْرِ
بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَعَبَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ وَصَفَّهُمْ، وَدَفَعَ لِوَاءَهُ إِلَى سَعْدِ بْنِ
عُبَادَةَ، وَرَايَةً إِلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَرَايَةً إِلَى سَهْلِ
بْنِ حُنَيْفٍ، وَرَايَةً إِلَى عَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى
الْإِسْلَامِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا أَمْوَالَهُمْ
وَحَقَنُوا دِمَاءَهُمْ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ. قَالَ: فَبَرَزَ رَجُلٌ
مِنْهُمْ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ
بَرَزَ آخَرُ فَبَرَزَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ بَرَزَ آخَرُ، فَبَرَزَ
إِلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ فَقَتَلَهُ، حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ
رَجُلًا كُلَّمَا قُتِلَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، دَعَا مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ إِلَى
الْإِسْلَامِ، وَلَقَدْ كَانَتِ الصَّلَاةُ تَحْضُرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَيُصَلِّي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ، ثُمَّ يَعُودُ
فَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ،
وَقَاتَلَهُمْ حَتَّى أَمْسَوْا، وَغَدَا عَلَيْهِمْ، فَلَمْ تَرْتَفِعِ الشَّمْسُ
قَيْدَ رُمْحٍ حَتَّى أَعْطَوْا بِأَيْدِيهِمْ، وَفَتَحَهَا عَنْوَةً،
وَغَنَّمَهُمُ اللَّهُ أَمْوَالَهُمْ، وَأَصَابُوا أَثَاثًا وَمَتَاعًا كَثِيرًا،
وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْقُرَى
أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، فَقَسَّمَ مَا أَصَابَ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَتَرَكَ
الْأَرْضَ وَالنَّخِيلَ فِي أَيْدِي الْيَهُودِ
وَعَامَلَهُمْ عَلَيْهَا،
فَلَمَّا بَلَغَ يَهُودَ تَيْمَاءَ مَا وَطِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَفَدَكَ وَوَادِي الْقُرَى، صَالَحُوا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِزْيَةِ،
وَأَقَامُوا بِأَيْدِيهِمْ أَمْوَالَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ أَخْرَجَ يَهُودَ
خَيْبَرَ وَفَدَكَ، وَلَمْ يُخْرِجْ أَهْلَ تَيْمَاءَ وَوَادِي الْقُرَى،
لِأَنَّهُمَا دَاخِلَتَانِ فِي أَرْضِ الشَّامِ، وَيَرَى أَنَّ مَا دُونَ وَادِي
الْقُرَى إِلَى الْمَدِينَةِ حِجَازٌ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الشَّامِ. قَالَ:
ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا
إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ خَيْبَرَ وَوَادِي الْقُرَى،
وَغَنَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أُمِّ عِمَارَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُرْفِ وَهُوَ يَقُولُ: لَا
تَطْرُقُوا النِّسَاءَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ قَالَتْ: فَذَهَبَ رَجُلٌ مِنَ
الْحَيِّ، فَطَرَقَ أَهْلَهُ فَوَجَدَ مَا يَكْرَهُ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ وَلَمْ
يُهِجْهُ، وَضَنَّ بِزَوْجَتِهِ أَنْ يُفَارِقَهَا، وَكَانَ لَهُ مِنْهَا
أَوْلَادٌ، وَكَانَ يُحِبُّهَا، فَعَصَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَرَأَى مَا يَكْرَهُ.
فَصْلٌ مُعَامَلَةُ النَّبِيِّ يَهُودَ خَيْبَرَ
ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا افْتَتَحَ خَيْبَرَ، عَامَلَ
يَهُودَهَا عَلَيْهَا
عَلَى شَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ تَمْرٍ أَوْ زَرْعٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي
بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ: عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ.
وَفِي بَعْضِهَا: وَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" نُقِرُّكُمْ فِيهَا مَا شِئْنَا ".
وَفِي " السِّيَرِ " أَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ رَوَاحَةَ، يَخْرُصُهَا عَلَيْهِمْ عِنْدَ اسْتِوَاءِ ثِمَارِهَا، ثُمَّ
يُضَمِّنُهُمْ إِيَّاهُ، فَلَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ
بِمُؤْتَةَ، بَعَثَ جَبَّارَ بْنَ صَخْرٍ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَوْضِعُ تَحْرِيرِ
أَلْفَاظِهِ وَبَيَانِ طُرُقِهِ كِتَابُ الْمُزَارَعَةِ مِنْ كِتَابِ "
الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: سَأَلْتُ ابْنَ شِهَابٍ: كَيْفَ كَانَ
إِعْطَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ خَيْبَرَ
نَخْلَهُمْ ؟ فَأَخْبَرَنِيأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ عَنْوَةً بَعْدَ الْقِتَالِ، وَكَانَتْ خَيْبَرُ
مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، خَمَّسَهَا وَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ،
وَنَزَلَ مَنْ نَزَلَ مِنْ أَهْلِهَا عَلَى الْجَلَاءِ بَعْدَ الْقِتَالِ،
فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "
إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُ إِلَيْكُمْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ، عَلَى أَنْ تَعْمَلُوهَا
وَتَكُونُ ثِمَارُهَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، فَأُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ
اللَّهُ ". فَقَبِلُوا وَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ يَعْمَلُونَهَا، وَكَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
رَوَاحَةَ فَيَقْسِمُ ثَمَرَهَا، وَيَعْدِلُ عَلَيْهِمْ فِي الْخَرْصِ، فَلَمَّا
تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَقَرَّهَا
أَبُو بَكْرٍ
بِأَيْدِيهِمْ، عَلَى الْمُعَامَلَةِ الَّتِي عَامَلَهُمْ عَلَيْهَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تُوُفِّيَ، ثُمَّ أَقَرَّهُمْ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ، ثُمَّ بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي
قَبَضَهُ اللَّهُ فِيهِ: " لَا يَجْتَمِعَنَّ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ
" فَفَحَصَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى بَلَغَهُ الثَّبَتُ، فَأَرْسَلَ إِلَى
يَهُودَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِي فِي إِجْلَائِكُمْ، وَقَدْ بَلَغَنِي
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا
يَجْتَمِعَنَّ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ " فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ
عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَأْتِنِي
بِهِ أُنْفِذْهُ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عَهْدٌ فَلْيَتَجَهَّزْ
لِلْجَلَاءِ. فَأَجْلَى عُمَرُ مِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قُلْتُ: قَدِ ادَّعَى يَهُودُ خَيْبَرَ فِي أَزْمَانٍ مُتَأَخِّرَةٍ بَعْدَ
الثَّلَاثِمِائَةِ، أَنَّ بِأَيْدِيهِمْ كِتَابًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيهِ أَنَّهُ وَضَعَ الْجِزْيَةَ عَنْهُمْ، وَقَدِ
اغْتَرَّ بِهَذَا الْكِتَابِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى قَالَ بِإِسْقَاطِ
الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ، مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ خَيْرُونَ،
وَهُوَ كِتَابٌ مُزَوَّرٌ مَكْذُوبٌ مُفْتَعَلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَقَدْ بَيَّنْتُ
بُطْلَانَهُ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ، وَقَدْ تَعَرَّضَ
لِذِكْرِهِ وَإِبْطَالِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَصْحَابِ فِي كُتُبِهِمْ، كَابْنِ
الصَّبَّاغِ فِي " شَامِلِهِ "، وَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ فِي "
تَعْلِيقَتِهِ " وَصَنَّفَ فِيهِ ابْنُ الْمُسْلِمَةِ جُزْءًا مُنْفَرِدًا
لِلرَّدِّ عَلَيْهِ وَقَدْ تَحَرَّكُوا بِهِ بَعْدَ السَّبْعِمِائَةِ،
وَأَظْهَرُوا كِتَابًا فِيهِ نُسْخَةُ مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ فِي كُتُبِهِمْ،
وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ مَكْذُوبٌ، فَإِنَّ فِيهِ شَهَادَةَ
سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ،، وَقَدْ كَانَ مَاتَ
قَبْلَ زَمَنِ خَيْبَرَ
وَفِيهِ شَهَادَةُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ
يَوْمَئِذٍ، وَفِي آخِرِهِ: وَكَتَبَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَهَذَا لَحْنٌ
وَخَطَأٌ، وَفِيهِ وَضْعُ الْجِزْيَةِ، وَلَمْ تَكُنْ شُرِعَتْ بَعْدُ، فَإِنَّهَا
إِنَّمَا شُرِعَتْ أَوَّلَ مَا شُرِعَتْ وَأُخِذَتْ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ
وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ وَفَدُوا فِي حُدُودِ سَنَةِ تِسْعٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ،
وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ إِلَى أَمْوَالِنَا بِخَيْبَرَ نَتَعَاهَدُهَا،
فَلَمَّا قَدِمْنَا تَفَرَّقْنَا فِي أَمْوَالِنَا. قَالَ: فَعُدِيَ عَلَيَّ
تَحْتَ اللَّيْلِ وَأَنَا نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِي فَفُدِعَتْ يَدَايَ مِنْ
مِرْفَقَيَّ، فَلَمَّا اسْتَصْرَخْتُ عَلَى صَاحِبَيَّ، فَأَتَيَانِي
فَسَأَلَانِي: مَنْ صَنَعَ هَذَا بِكَ ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي. فَأَصْلَحَا مِنْ
يَدِي، ثُمَّ قَدِمَا بِي عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ: هَذَا عَمَلُ يَهُودَ. ثُمَّ
قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَنَّا
نُخْرِجُهُمْ إِذَا شِئْنَا، وَقَدْ عَدَوْا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
فَفَدَعُوا يَدَيْهِ كَمَا بَلَغَكُمْ، مَعَ عَدْوَتِهِمْ عَلَى الْأَنْصَارِيِّ
قَبْلَهُ، لَا نَشُكُّ أَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَهُ، لَيْسَ لَنَا هُنَاكَ
عَدُوٌّ غَيْرُهُمْ، فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ مِنْ خَيْبَرَ فَلْيَلْحَقْ بِهِ،
فَإِنِّي مُخْرِجٌ يَهُودَ. فَأَخْرَجَهُمْ.
قُلْتُ: كَانَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ سَهْمُهُ الَّذِي بِخَيْبَرَ، وَقَدْ
كَانَ وَقَفَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَشَرَطَ فِي الْوَقْفِ مَا أَشَارَ بِهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي
" الصَّحِيحَيْنِ " وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ النَّظَرَ فِيهِ لِلْأَرْشَدِ
فَالْأَرْشَدِ مِنْ بَنَاتِهِ وَبَنِيهِ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو
بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ ": جِمَاعُ أَبْوَابِ
السَّرَايَا الَّتِي تُذْكَرُ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ وَقَبْلَ عُمْرَةِ
الْقَضِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ تَارِيخُ بَعْضِهَا لَيْسَ بِالْوَاضِحِ عِنْدَ أَهْلِ
الْمَغَازِي.
سَرِيَّةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِلَى بَنِي فَزَارَةَ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ، ثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ،
ثَنَا إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ أَبِي
بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَأَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا، فَغَزَوْنَا بَنِيَ فَزَارَةَ، فَلَمَّا دَنَوْنَا
مِنَ الْمَاءِ، أَمَرَنَا أَبُو بَكْرٍ فَعَرَّسْنَا، فَلَمَّا صَلَّيْنَا
الصُّبْحَ أَمَرَنَا أَبُو بَكْرٍ فَشَنَنَّا الْغَارَةَ، فَقَتَلْنَا عَلَى
الْمَاءِ مَنْ قَتَلْنَا. قَالَ سَلَمَةُ: ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى عُنُقٍ مِنَ
النَّاسِ فِيهِ مِنَ الذُّرِّيَةِ وَالنِّسَاءِ، نَحْوَ الْجَبَلِ وَأَنَا أَعْدُو
فِي آثَارِهِمْ، فَخَشِيتُ أَنْ يَسْبِقُونِي إِلَى الْجَبَلِ، فَرَمَيْتُ
بِسَهْمٍ فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجَبَلِ. قَالَ: فَجِئْتُ بِهِمْ
أَسُوقُهُمْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ حَتَّى أَتَيْتُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَفِيهِمُ
امْرَأَةٌ مِنْ فَزَارَةَ عَلَيْهَا قَشْعٌ مِنْ أَدَمِ، وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا
مِنْ أَحْسَنِ الْعَرَبِ. قَالَ: فَنَفَّلَنِي أَبُو بَكْرٍ بِنْتَهَا. قَالَ:
فَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا حَتَّى قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ بِتُّ فَلَمْ
أَكْشِفْ لَهَا ثَوْبًا.
قَالَ: فَلَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
السُّوقِ، فَقَالَ لِي: " يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ " قَالَ:
فَقُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي، وَمَا كَشَفْتُ لَهَا
ثَوْبًا. قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَتَرَكَنِي، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّوقِ فَقَالَ: " يَا سَلَمَةُ، هَبْ لِي
الْمَرْأَةَ، لِلَّهِ أَبُوكَ ". قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا. وَهِيَ لَكَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَبَعَثَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَفِي أَيْدِيهِمْ أُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ،
فَفَدَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلْكَ
الْمَرْأَةِ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ
بْنِ عَمَّارٍ، بِهِ.
سَرِيَّةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَى تُرْبَةٍ مِنْ
أَرْضِ هَوَازِنَ، وَرَاءَ مَكَّةَ بِأَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ
ثُمَّ أَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ بِأَسَانِيدِهِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا، وَمَعَهُ دَلِيلٌ
مِنْ بَنِي هِلَالٍ، وَكَانُوا يَسِيرُونَ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُونَ النَّهَارَ،
فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى بِلَادِهِمْ هَرَبُوا مِنْهُمْ،
وَكَرَّ عُمَرُ رَاجِعًا
إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقِيلَ لَهُ: هَلْ لَكَ فِي قِتَالِ خَثْعَمٍ ؟ فَقَالَ:
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْنِي إِلَّا
بِقِتَالِ هَوَازِنَ فِي أَرْضِهِمْ.
سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ إِلَى يُسَيْرِ بْنِ رِزَامٍ
الْيَهُودِيِّ
ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ
عُرْوَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ
فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا، فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، إِلَى يُسَيْرِ
بْنِ رِزَامٍ الْيَهُودِيِّ، حَتَّى أَتَوْهُ بِخَيْبَرَ، وَبَلَغَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَجْمَعُ غَطَفَانَ
لِيَغْزُوَهُ بِهِمْ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَعْمِلَكَ عَلَى خَيْبَرَ فَلَمْ
يَزَالُوا بِهِ حَتَّى تَبِعَهُمْ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ
مِنْهُمْ رَدِيفٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا بَلَغُوا قَرْقَرَةَ ثِبَارَ،
وَهِيَ مِنْ خَيْبَرَ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ، نَدِمَ يُسَيْرُ بْنُ رِزَامٍ،
فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى سَيْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، فَفَطِنَ لَهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، فَزَجَرَ بِعَيْرَهُ، ثُمَّ اقْتَحَمَ يَسُوقُ
بِالْقَوْمِ، حَتَّى إِذَا اسْتَمْكَنَ مِنْ يُسَيْرٍ، ضَرَبَ رِجْلَهُ
فَقَطَعَهَا،
وَاقْتَحَمَ يُسَيْرٌ
وَفِي يَدِهِ مِخْرَشٌ مِنْ شَوْحَطٍ، فَضَرَبَ بِهِ وَجْهَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أُنَيْسٍ، فَشَجَّهُ شَجَّةً مَأْمُومَةً، وَانْكَفَأَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَدِيفِهِ فَقَتَلَهُ، غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنَ
الْيَهُودِ أَعْجَزَهُمْ شَدًّا، وَلَمْ يُصَبْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ،
وَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَجَّةِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، فَلَمْ تَقِحْ وَلَمْ تُؤْذِهِ حَتَّى مَاتَ.
سَرِيَّةٌ أُخْرَى مَعَ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ
رَوَى مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا
إِلَى بَنِي مُرَّةَ فِي أَرْضِ فَدَكَ، فَاسْتَاقَ نَعَمَهُمْ، فَقَاتَلُوهُ
وَقَتَلُوا عَامَّةَ مَنْ مَعَهُ، وَصَبَرَ هُوَ يَوْمَئِذٍ صَبْرًا عَظِيمًا،
وَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ لَجَأَ إِلَى فَدَكَ، فَبَاتَ بِهَا عِنْدَ
رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ كِبَارِ
الصَّحَابَةِ، فَذَكَرَ مِنْهُمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَأَبَا مَسْعُودٍ
الْبَدْرِيَّ، وَكَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَقْتَلَ أُسَامَةَ بْنِ
زَيْدٍ لِمِرْدَاسِ بْنِ نَهِيكٍ حَلِيفِ بَنِي مُرَّةَ، وَقَوْلُهُ حِينَ عَلَاهُ
بِالسَّيْفِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَنَّ الصَّحَابَةَ لَامُوهُ عَلَى
ذَلِكَ حَتَّى سُقِطَ فِي
يَدِهِ وَنَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَ. وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ يُونُسُ بْنُ
بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، عَنْ رِجَالٍ
مِنْ قَوْمِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ
غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْكَلْبِيَّ إِلَى أَرْضِ بَنِي مُرَّةَ، فَأَصَابَ
مِرْدَاسَ بْنَ نَهِيكٍ حَلِيفًا لَهُمْ مِنَ الْحُرَقَةِ، قَالَ: فَقَتَلَهُ
أُسَامَةُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ
قَالَ:أَدْرَكْتُهُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ - يَعْنِي مِرْدَاسَ بْنَ
نَهِيكٍ - فَلَمَّا شَهَرْنَا عَلَيْهِ السِّلَاحَ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَلَمْ نَنْزِعْ عَنْهُ حَتَّى قَتَلْنَاهُ، فَلَمَّا
قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَخْبَرْنَاهُ، فَقَالَ: " يَا أُسَامَةُ، مَنْ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ ؟ " فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا
مِنَ الْقَتْلِ. قَالَ: " فَمَنْ لَكَ يَا أُسَامَةُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ ؟ " فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا زَالَ يُرَدِّدُهَا عَلَيَّ
حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنَّ مَا مَضَى مِنْ إِسْلَامِي لَمْ يَكُنْ، وَأَنِّي
أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ وَلَمْ أَقْتُلْهُ. فَقُلْتُ: إِنِّي أُعْطِي اللَّهَ
عَهْدًا أَنْ لَا أَقْتُلُ رَجُلًا يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَبَدًا.
فَقَالَ: " بَعْدِي يَا أُسَامَةُ ". فَقُلْتُ: بَعَدَكَ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ، أَنْبَأَنَا
حُصَيْنٌ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانِ قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يُحَدِّثُ
قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ. قَالَ: فَصَبَّحْنَاهُمْ، وَكَانَ مِنْهُمْ رَجُلٌ
إِذَا أَقْبَلَ الْقَوْمُ كَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ
عَلَيْنَا، وَإِذَا
أَدْبَرُوا كَانَ حَامِيَتَهُمْ. قَالَ: فَغَشَيْتُهُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ
الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا تُغَشَّيْنَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَكَفَّ
عَنْهُ الْأَنْصَارِيُّ وَقَتَلْتُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ
مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟ " قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا مِنَ الْقَتْلِ. قَالَ: فَكَرَّرَهَا
عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ إِلَّا يَوْمَئِذٍ
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ هُشَيْمٍ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ مَكِيثٍ الْجُهَنِيِّ
قَالَ:بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ الْكَلْبِيَّ، كَلْبَ لَيْثٍ، إِلَى بَنِي الْمُلَوِّحِ بِالْكَدِيدِ،
وَأَمَرَهُ أَنْ يُغِيرَ عَلَيْهِمْ، وَكُنْتُ فِي سَرِيَّتِهِ، فَمَضَيْنَا
حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْقَدِيدِ، لَقِينَا الْحَارِثَ بْنَ مَالِكِ بْنِ
الْبَرْصَاءِ اللَّيْثِيَّ، فَأَخَذْنَاهُ فَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا جِئْتُ
لِأُسْلِمَ. فَقَالَ لَهُ غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا
جِئْتَ لِتُسْلِمَ، فَلَا يَضُرُّكَ رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِنْ كُنْتَ
عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ اسْتَوْثَقْنَا مِنْكَ. قَالَ: فَأَوْثَقَهُ رِبَاطًا
وَخَلَّفَ عَلَيْهِ رُوَيْجِلًا أَسْوَدَ كَانَ مَعَنَا، وَقَالَ: امْكُثْ مَعَهُ
حَتَّى نَمُرَّ عَلَيْكَ، فَإِنْ نَازَعَكَ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ. وَمَضَيْنَا
حَتَّى أَتَيْنَا بَطْنَ الْكَدِيدِ، فَنَزَلْنَا عَشِيَّةً بَعْدِ الْعَصْرِ،
فَبَعَثَنِي أَصْحَابِي إِلَيْهِ، فَعَمَدْتُ إِلَى تَلٍّ يُطْلِعُنِي عَلَى
الْحَاضِرِ فَانْبَطَحْتُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَخَرَجَ
رَجُلٌ مِنْهُمْ،
فَنَظَرَ فَرَآنِي مُنْبَطِحًا عَلَى التَّلِّ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنِّي
لَأَرَى سَوَادًا عَلَى هَذَا التَّلِّ مَا رَأَيْتُهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ،
فَانْظُرِي لَا تَكُونُ الْكِلَابُ اجْتَرَّتْ بَعْضَ أَوْعِيَتِكِ ؟ فَنَظَرَتْ
فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا. قَالَ: فَنَاوِلِينِي قَوْسِي
وَسَهْمَيْنِ مِنْ نَبْلِي. فَنَاوَلَتْهُ، فَرَمَانِي بِسَهْمٍ فِي جَبِينِي -
أَوْ قَالَ: فِي جَنْبِي - فَنَزَعْتُهُ فَوَضَعْتُهُ وَلَمْ أَتَحَرَّكْ، ثُمَّ
رَمَانِي بِالْآخَرِ فَوَضَعَهُ فِي رَأْسِ مَنْكِبِي، فَنَزَعْتُهُ فَوَضَعْتُهُ
وَلَمْ أَتَحَرَّكْ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ خَالَطَهُ
سَهْمَايَ، وَلَوْ كَانَ رَبِيئَةً لَتَحَرَّكَ، فَإِذَا أَصْبَحْتِ فَابْتَغِي
سَهْمَيَّ فَخُذِيهِمَا، لَا تَمْضُغُهُمَا عَلَيَّ الْكِلَابُ.
قَالَ: فَأَمْهَلْنَا، حَتَّى إِذَا رَاحَتْ رَوَايِحُهُمْ، وَحَتَّى احْتَلَبُوا
وَعَطَّنُوا وَسَكَنُوا، وَذَهَبَتْ عَتَمَةٌ مِنَ اللَّيْلِ، شَنَنَّا عَلَيْهِمُ
الْغَارَةَ فَقَتَلْنَا وَاسْتَقْنَا النَّعَمَ، وَوَجَّهْنَا قَافِلِينَ بِهِ،
وَخَرَجَ صَرِيخُ الْقَوْمِ إِلَى قَوْمِهِمْ بِقُرْبِنَا. قَالَ: وَخَرَجْنَا
سِرَاعًا حَتَّى نَمُرَّ بِالْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْبَرْصَاءِ
وَصَاحِبِهِ، فَانْطَلَقْنَا بِهِ مَعَنَا، وَأَتَانَا صَرِيخُ النَّاسِ،
فَجَاءَنَا مَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ إِلَّا بَطْنُ الْوَادِي مِنْ قُدَيْدٍ، بَعَثَ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ
شَاءَ مَاءً، مَا رَأَيْنَا قَبْلَ ذَلِكَ مَطَرًا وَلَا حَالًا، وَجَاءَ بِمَا
لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ وُقُوفًا
يَنْظُرُونَ إِلَيْنَا، مَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ
وَنَحْنُ نَجِدُّ بِهَا أَوْ نَحْدُوهَا - شَكَّ
النُّفَيْلِيُّ -
فَذَهَبْنَا سِرَاعًا حَتَّى أَسْنَدْنَا بِهَا فِي الْمَسْلَكِ، ثُمَّ حَدِرْنَا
عَنْهُ حَتَّى أَعْجَزْنَا الْقَوْمَ بِمَا فِي أَيْدِينَا. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو
دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ غَالِبٍ. وَالصَّوَابُ غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِإِسْنَادٍ آخَرَ، وَقَالَ فِيهِ:
وَكَانَ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا.
ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ سَرِيَّةَ بَشِيرِ بْنِ
سَعْدٍ أَيْضًا إِلَى نَاحِيَةِ خَيْبَرَ، فَلَقُوا جَمْعًا مِنَ الْعَرَبِ،
وَغَنِمُوا نَعَمًا كَثِيرًا، وَكَانَ بَعْثُهُ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ
بِإِشَارَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ مَعَهُ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ، وَدَلِيلُهُ حُسَيْلُ بْنُ نُوَيْرَةَ،
وَهُوَ الَّذِي كَانَ دَلِيلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
خَيْبَرَ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ.
سَرِيَّةُ أَبِي حَدْرَدٍ إِلَى الْغَابَةِ
قَالَ يُونُسُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: كَانَ مِنْ حَدِيثِ قِصَّةِ أَبِي
حَدْرَدٍ
وَغَزْوَتِهِ إِلَى الْغَابَةِ مَا حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي حَدْرَدٍ قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَأَصْدَقْتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. قَالَ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى نِكَاحِي فَقَالَ: " كَمْ أَصْدَقْتَ ؟ " فَقُلْتُ: مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. فَقَالَ: " سُبْحَانَ اللَّهِ! وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُمْ تَأْخُذُونَهَا مِنْ وَادٍ مَا زَادَ، وَاللَّهِ مَا عِنْدِي مَا أُعِينُكَ بِهِ ". فَلَبِثْتُ أَيَّامًا، ثُمَّ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ جُشَمَ بْنِ مُعَاوِيَةَ يُقَالُ لَهُ: رِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ، أَوْ قَيْسُ بْنُ رِفَاعَةَ. فِي بَطْنٍ عَظِيمٍ مِنْ جُشَمَ، حَتَّى نَزَلَ بِقَوْمِهِ وَمَنْ مَعَهُ بِالْغَابَةِ، يُرِيدُ أَنْ يَجْمَعَ قَيْسًا عَلَى مُحَارَبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ ذَا اسْمٍ وَشَرَفٍ فِي جُشَمَ. قَالَ: فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: " اخْرُجُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ حَتَّى تَأْتُوا مِنْهُ بِخَبَرٍ وَعِلْمٍ ". وَقَدَّمَ لَنَا شَارِفًا عَجْفَاءَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَحَدُنَا، فَوَاللَّهِ مَا قَامَتْ بِهِ ضَعْفًا، حَتَّى دَعَمَهَا الرِّجَالُ مِنْ خَلْفِهَا بِأَيْدِيهِمْ، حَتَّى اسْتَقَلَّتْ وَمَا كَادَتْ، وَقَالَ: " تَبَلَّغُوا عَلَى هَذِهِ " فَخَرَجْنَا وَمَعَنَا سِلَاحُنَا مِنَ النَّبْلِ وَالسُّيُوفِ، حَتَّى إِذَا جِئْنَا قَرِيبًا مِنَ الْحَاضِرِ مَعَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَكَمَنْتُ فِي نَاحِيَةٍ، وَأَمَرْتُ صَاحِبَيَّ فَكَمَنَا فِي نَاحِيَةٍ أُخْرَى مِنْ حَاضِرِ الْقَوْمِ، وَقُلْتُ لَهُمَا: إِذَا سَمِعْتُمَانِي قَدْ كَبَّرْتُ وَشَدَدْتُ فِي الْعَسْكَرِ فَكَبِّرَا وَشُدَّا مَعِي. فَوَاللَّهِ إِنَّا لَكَذَلِكَ نَنْتَظِرُ أَنْ نَرَى غِرَّةً أَوْ نَرَى شَيْئًا، وَقَدْ غَشِيَنَا اللَّيْلُ حَتَّى ذَهَبَتَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ رَاعٍ قَدْ سَرَّحَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِمْ وَتَخَوَّفُوا عَلَيْهِ، فَقَامَ صَاحِبُهُمْ رِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ، فَأَخَذَ
سَيْفَهُ فَجَعَلَهُ فِي
عُنُقِهِ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَتَيَقَّنَنَّ أَمْرَ رَاعِينَا، وَلَقَدْ
أَصَابَهُ شَرٌّ. فَقَالَ نَفَرٌ مِمَّنْ مَعَهُ: وَاللَّهِ لَا تَذْهَبُ، نَحْنُ
نَكْفِيكَ. فَقَالَ: لَا يَذْهَبُ إِلَّا أَنَا. قَالُوا: فَنَحْنُ مَعَكَ.
فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَتْبَعُنِي مِنْكُمْ أَحَدٌ. وَخَرَجَ حَتَّى يَمُرَّ
بِي، فَلَمَّا أَمْكَنَنِي نَفَحْتُهُ بِسَهْمٍ، فَوَضَعْتُهُ فِي فُؤَادِهِ،
فَوَاللَّهِ مَا تَكَلَّمَ، فَوَثَبْتُ إِلَيْهِ فَاحْتَزَزْتُ رَأْسَهُ، ثُمَّ
شَدَدَتُ نَاحِيَةَ الْعَسْكَرِ وَكَبَّرْتُ، وَشَدَّ صَاحِبَايَ وَكَبَّرَا،
فَوَاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا النِّجَاءُ مِمَنْ كَانَ فِيهِ، عِنْدَكَ عِنْدَكَ،
بِكُلِّ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَمَا خَفَّ
مَعَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَاسْتَقْنَا إِبِلًا عَظِيمَةً وَغَنَمًا
كَثِيرَةً، فَجِئْنَا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَجِئْتُ بِرَأْسِهِ أَحْمِلُهُ مَعِي، فَأَعْطَانِي مِنْ تِلْكَ
الْإِبِلِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا فِي صَدَاقِي، فَجَمَعْتُ إِلَيَّ أَهْلِي.
السَرِيَّةُ الَّتِي قَتَلَ فِيهَا مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ عَامِرَ بْنَ
الْأَضْبَطِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنِ
ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:بَعَثَنَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِضَمٍ فِي نَفَرٍ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ
مِنْهُمْ، أَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَمُحَلِّمُ بْنُ
جَثَّامَةَ بْنِ قَيْسٍ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَطْنِ إِضَمٍ، مَرَّ
بِنَا عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيُّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ، مَعَهُ
مُتَيِّعٌ لَهُ، وَوَطْبٌ مِنْ لَبَنٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا بِتَحِيَّةِ
الْإِسْلَامِ، فَأَمْسَكْنَا عَنْهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ
فَقَتَلَهُ لِشَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَأَخَذَ بِعِيرَهُ
وَمُتَيِّعَهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، فَنَزَلَ فِينَا الْقُرْآنُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا
لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ
مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( النِّسَاءِ: 94 ) وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ،
عَنْ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
حَدْرَدٍ، عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، سَمِعْتُ زِيَادَ
بْنَ ضُمَيْرَةَ بْنِ سَعْدٍ الضَّمْرِيَّ يُحَدِّثُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ،
عَنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، قَالَ
- وَكَانَا شَهِدَا حُنَيْنًا - قَالَ: فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الظُّهْرِ، فَقَامَ إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَقَعَدَ فِيهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ يَطْلُبُ بِدَمِ عَامِرِ بْنِ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيِّ، وَهُوَ سَيِّدُ قَيْسٍ، وَجَاءَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ يَرُدُّ عَنْ مُحَلِّمِ بْنِ جَثَّامَةٍ وَهُوَ سَيِّدُ خِنْدِفٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْمِ عَامِرٍ: " هَلْ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِنَّا الْآنَ خَمْسِينَ بَعِيرًا وَخَمْسِينَ إِذَا رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ ؟ " فَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ وَاللَّهِ لَا أَدَعُهُ حَتَّى أُذِيقَ نِسَاءَهُ مِنَ الْحُزْنِ مِثْلَ مَا أَذَاقَ نِسَائِي. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ مُكَيْتِلٍ. وَهُوَ قَصْدٌ مِنَ الرِّجَالِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَجِدُ لِهَذَا الْقَتِيلِ مَثَلًا فِي غُرَّةِ الْإِسْلَامِ إِلَّا كَغَنَمٍ وَرَدَتْ فَرُمِيَتْ أُولَاهَا فَنَفَرَتْ أُخْرَاهَا، اسْنُنِ الْيَوْمَ وَغَيِّرْ غَدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ لَكَمَ أَنْ تَأْخُذُوا خَمْسِينَ بَعِيرًا الْآنَ وَخَمْسِينَ إِذَا رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ ؟ " فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى رَضُوا بِالدِّيَةِ، فَقَالَ قَوْمُ مُحَلِّمِ بْنِ جَثَّامَةَ: ائْتُوا بِهِ حَتَّى يَسْتَغْفِرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ طُوَالٌ ضَرْبَ اللَّحْمِ، فِي حُلَّةٍ قَدْ تَهَيَّأَ فِيهَا لِلْقَتْلِ، فَقَامَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ لَا تَغْفِرْ لِمُحَلِّمٍ ". قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَامَ وَإِنَّهُ لَيَتَلَقَّى دُمُوعَهُ بِطَرَفٍ ثَوْبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: زَعَمَ قَوْمُهُ
أَنَّهُ اسْتَغْفَرَ لَهُ
بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ضُمَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ وَعَمِّهِ،
فَذَكَرَ بَعْضَهُ. وَالصَّوَابُ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدِ بْنِ ضُمَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ
وَجَدِّهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْحَارِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدِ بْنِ
ضُمَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ وَجَدَهُ، بِنَحْوِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ
يَقْبَلُوا الدِّيَةَ حَتَّى قَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَخَلَا بِهِمْ
وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قَيْسٍ، سَأَلَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتِيلًا تَتْرُكُونَهُ لِيُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ
فَمَنَعْتُمُوهُ إِيَّاهُ، أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَغْضَبَ عَلَيْكُمْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِهِ، أَوْ
يَلْعَنَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَلْعَنَكُمُ
اللَّهُ بِلَعْنَتِهِ لَكُمْ، وَاللَّهِ لَتُسْلِمُنَّهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لَآتِيَنَّ بِخَمْسِينَ مِنْ بَنِي
تَمِيمٍ كُلُّهُمْ يَشْهَدُونَ أَنَّ الْقَتِيلَ كَافِرٌ مَا صَلَّى قَطُّ،
فَلَأَطُلَّنَّ دَمَهُ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ لَهُمْ، أَخَذُوا الدِّيَةَ.
وَهَذَا مُنْقَطِعٌ مُعْضَلٌ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ
إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يَتَّهِمُ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ،أَنَّ مُحَلِّمًا
لَمَّا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَالَ لَهُ:
" أَمَّنْتَهُ بِاللَّهِ ثُمَّ قَتَلْتَهُ ؟! " ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِ.
قَالَ الْحَسَنُ: فَوَاللَّهِ مَا مَكَثَ مُحَلِّمٌ إِلَّا سَبْعًا حَتَّى مَاتَ،
فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، ثُمَّ دَفَنُوهُ، فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، ثُمَّ
دَفَنُوهُ، فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَرَضَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْحِجَارَةِ حَتَّى
وَارَوْهُ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
" إِنَّ الْأَرْضَ لَتَطَّابَقُ عَلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَلَكِنَّ
اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يَعِظَكُمْ فِي حُرْمِ مَا بَيْنَكُمْ بِمَا أَرَاكُمْ
مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُحَلِّمَ بْنَ جَثَّامَةَ مَبْعَثًا، فَلَقِيَهُمْ عَامِرُ
بْنُ الْأَضْبَطِ فَحَيَّاهُمْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ - وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ
حِنَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ - فَرَمَاهُ مُحَلِّمٌ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، فَجَاءَ
الْخَبَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَكَلَّمَ
فِيهِ عُيَيْنَةُ وَالْأَقْرَعُ، فَقَالَ الْأَقْرَعُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سُنَّ
الْيَوْمَ وَغَيِّرْ غَدًا. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تَذُوقَ
نِسَاؤُهُ مِنَ الثُّكْلِ مَا ذَاقَ نِسَائِي. فَجَاءَ مُحَلِّمٌ فِي بُرْدَيْنِ،
فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِيَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ".
فَقَامَ وَهُوَ
يَتَلَقَّى دُمُوعَهُ بِبُرْدَيْهِ، فَمَا مَضَتْ لَهُ سَابِعَةٌ حَتَّى مَاتَ،
فَدَفَنُوهُ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَجَاءُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: " إِنَّ الْأَرْضَ
تَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ صَاحِبِكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ
يَعِظَكُمْ مِنْ حُرْمَتِكُمْ ". ثُمَّ طَرَحُوهُ بَيْنَ صَدَفَيْ جَبَلٍ،
فَأَلْقَوْا عَلَيْهِ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَنَزَلَتْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا الْآيَةَ وَقَدْ
ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَرَوَاهُ شُعَيْبٌ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ
نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ مُحَلِّمَ بْنَ
جَثَّامَةَ، وَلَا عَامِرَ بْنَ الْأَضْبَطِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ
عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بِنَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَقَالَ: وَفِيهِ نَزَلَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا الْآيَةَ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَعْنَاهَا فِي
" التَّفْسِيرِ " بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ
ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعْدِ
بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى سَرِيَّةٍ، بَعَثَهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ
يَسْمَعُوا لَهُ وَيُطِيعُوا. قَالَ: فَأَغْضَبُوهُ فِي شَيْءٍ فَقَالَ: اجْمَعُوا
لِي حَطَبًا. فَجَمَعُوا، فَقَالَ: أَوْقِدُوا نَارًا، فَأَوْقَدُوا، ثُمَّ قَالَ:
أَلَمْ يَأْمُرْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
تَسْمَعُوا لِي وَتُطِيعُوا ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَادْخُلُوهَا. قَالَ:
فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَقَالُوا: إِنَّمَا فَرَرْنَا إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّارِ. قَالَ: فَسَكَنَ
غَضَبُهُ وَطُفِئَتِ النَّارُ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: " لَوْ دَخَلُوهَا مَا
خَرَجُوا مِنْهَا، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ وَهَذِهِ الْقِصَّةُ
ثَابِتَةٌ أَيْضًا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طَرِيقِ يَعْلَى بْنِ
مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا
عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي " التَّفْسِيرِ "
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
عُمْرَةُ الْقَضَاءِ
وَيُقَالُ: الْقِصَاصِ. وَرَجَّحَهُ السُّهَيْلِيُّ. وَيُقَالُ: عُمْرَةُ
الْقَضِيَّةِ. فَالْأَوَّلُ قَضَاءٌ عَمَّا كَانَ أُحْصِرَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ
وَالثَّانِي مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ( الْبَقَرَةِ: 194 )
وَالثَّالِثُ مِنَ الْمُقَاضَاةِ الَّتِي كَانَ قَاضَاهُمْ عَلَيْهَا، عَلَى أَنْ
يَرْجِعَ عَنْهُمْ عَامَهُ هَذَا، ثُمَّ يَأْتِي فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، وَلَا
يَدْخُلَ مَكَّةَ إِلَّا فِي جُلْبَانِ السِّلَاحِ، وَأَنْ لَا يُقِيمَ أَكْثَرَ
مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَهَذِهِ الْعُمْرَةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْفَتْحِ " الْمُبَارَكَةِ: لَقَدْ صَدَقَ
اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا
تَخَافُونَ الْآيَةَ ( الْفَتْحِ: 27 ). وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا
مُسْتَقْصًى فِي كِتَابِنَا " التَّفْسِيرِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ.
وَهِيَ الْمَوْعُودُ بِهَافِي قَوْلِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،
لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ قَالَ لَهُ: أَلَمْ تَكُنْ تُحَدِّثُنَا أَنَّا
سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ ؟ قَالَ: " بَلَى أَفَأَخْبَرْتُكَ
أَنَّكَ تَأْتِيهِ عَامَكَ هَذَا ؟ " قَالَ: لَا. قَالَ: " فَإِنَّكَ
آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ وَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ رَوَاحَةَ حِينَ دَخَلَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ، يَوْمَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَهُوَ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي
الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَأَوِيلِهِ كَمَا
ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
أَيْ هَذَا تَأْوِيلُ الرُّؤْيَا الَّتِي كَانَ رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَقَامَ بِهَا شَهْرَيْ رَبِيعٍ وَجُمَادَيَيْنَ
وَرَجَبًا وَشَعْبَانَ وَشَهْرَ رَمَضَانَ وَشَوَّالًا، يَبْعَثُ فِيمَا بَيْنَ
ذَلِكَ سَرَايَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فِي الشَّهْرِ الَّذِي
صَدَّهُ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ، مُعْتَمِرًا عُمْرَةَ الْقَضَاءِ، مَكَانَ
عُمْرَتِهِ الَّتِي صَدُّوهُ عَنْهَا - قَالَابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى
الْمَدِينَةِ عُوَيْفَ بْنَ الْأَضْبَطِ الدُّئِلِيَّ - وَيُقَالُ لَهَا: عُمْرَةُ
الْقِصَاصِ، لِأَنَّهُمْ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ،
فَاقْتَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ، فَدَخَلَ
مَكَّةَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ الَّذِي صَدُّوهُ فِيهِ
مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ. بَلَغَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ.
وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ فِي " مَغَازِيهِ ":
لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ
أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ وَبَعَثَ سَرَايَاهُ، حَتَّى اسْتَهَلَّ ذِي الْقِعْدَةِ،
فَنَادَى فِي النَّاسِ أَنْ يَتَجَهَّزُوا لِلْعُمْرَةِ. فَتَجَهَّزُوا وَخَرَجُوا
إِلَى مَكَّةَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِمَّنْ كَانَ صُدَّ
مَعَهُ فِي عُمْرَتِهِ
تِلْكَ، وَهِيَ سَنَةُ
سَبْعٍ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ خَرَجُوا عَنْهُ، وَتَحَدَّثَتْ
قُرَيْشٌ بَيْنَهَا أَنْ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ فِي عُسْرَةٍ وَجَهْدٍ
وَشِدَّةٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَفُّوا لَهُ عِنْدَ دَارِ النَّدْوَةِ، لِيَنْظُرُوا
إِلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ، اضْطَبَعَ بِرِدَائِهِ، وَأَخْرَجَ عَضُدَهُ
الْيُمْنَى، ثُمَّ قَالَ: " رَحِمَ اللَّهُ امَرَأً أَرَاهُمُ الْيَوْمَ مِنْ
نَفْسِهِ قُوَّةً ". ثُمَّ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، وَخَرَجَ يُهَرْوِلُ،
وَيُهَرْوِلُ أَصْحَابُهُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا وَارَاهُ الْبَيْتُ مِنْهُمْ
وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ، مَشَى حَتَّى يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ
الْأَسْوَدَ، ثُمَّ هَرْوَلَ كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى سَائِرَهَا
فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كَانَ النَّاسُ يَظُنُّونَ أَنَّهَا لَيْسَتْ
عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِنَّمَا صَنَعَهَا لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ، لِلَّذِي بَلَغَهُ عَنْهُمْ،
حَتَّى حَجَّ حِجَّةَ الْوَدَاعِ، فَلَزِمَهَا، فَمَضَتِ السُّنَّةُ بِهَا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا حَمَّادٌ، هُوَ
ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ،
فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَفْدٌ وَهَنَهُمْ حُمَّى
يَثْرِبَ.
فَأَمْرَهُمُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ، وَأَنْ
يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ
يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءَ عَلَيْهِمْ قَالَ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ: وَزَادَ ابْنُ سَلَمَةَ - يَعْنِي حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ - عَنْ
أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَامِهِمُ الَّذِي اسْتَأْمَنَ قَالَ: "
ارْمُلُوا ". لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ قُوَّتَهُمْ، وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ
قِبَلِ قُعَيْقِعَانَ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيِّ،
عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ. وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ طَرِيقَ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا سُفْيَانُ،
ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، سَمِعَ ابْنَ أَبِي أَوْفَى يَقُولُ:لَمَّا
اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَتَرْنَاهُ مِنْ
غِلْمَانِ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْهُمْ، أَنْ يُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا
الْمَقَامِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي
تِلْكَ الْعُمْرَةِ، دَخَلَهَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بِخِطَامِ
نَاقَتِهِ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ خَلُّوا فَكُلُّ الْخَيْرِ فِي
رَسُولِهِ
يَا رَبِّ إِنِّي
مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ أَعْرِفُ حَقَّ اللَّهِ فِي قَبُولِهِ
نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ. إِلَى آخَرِ
الْأَبْيَاتِ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ. يَعْنِي يَوْمَ
صِفِّينَ. قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالدَّلِيلُ عَلَى
ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ رَوَاحَةَ إِنَّمَا أَرَادَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُشْرِكُونَ
لَمْ يُقِرُّوا بِالتَّنْزِيلِ، وَإِنَّمَا يُقْتَلُ عَلَى التَّأْوِيلِ مَنْ
أَقَرَّ بِالتَّنْزِيلِ.
وَفِيمَا قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْحَافِظَ الْبَيْهَقِيَّ رَوَى
مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَيْنَ
يَدَيْهِ - وَفِي رِوَايَةٍ: وَهُوَ آخِذٌ بِغَرْزِهِ - وَهُوَ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ قَدْ نَزَّلَ الْرَحْمَنُ فِي
تَنْزِيلِهِ
بِأَنَّ خَيْرَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِهِ نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ
وَفِي رِوَايَةٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ:
خَلُّوا بَنِي
الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ
يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ
أَسْلَمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَامَ
الْقَضِيَّةِ مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ عَلَى نَاقَتِهِ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ
بِمِحْجَنِهِ - قَالَ هِشَامٌ: مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ - وَالْمُسْلِمُونَ يَشْتَدُّونَ
حَوْلَهُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَقُولُ:
بِسْمِ الَّذِي لَا دِينَ إِلَّا دِينُهُ بِسْمِ الَّذِي مُحَمَّدٌ رَسُولُهُ
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ مِنْ عَامِ
الْحُدَيْبِيَةِ مُعْتَمِرًا، فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، وَهُوَ
الشَّهْرُ الَّذِي صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، حَتَّى
إِذَا بَلَغَ يَأْجَجَ وَضَعَ الْأَدَاةَ كُلَّهَا، الْحَجَفَ وَالْمَجَانَّ
وَالرِّمَاحَ وَالنَّبْلَ، وَدَخَلُوا بِسِلَاحِ الرَّاكِبِ، السُّيُوفِ، وَبَعَثَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ جَعْفَرَ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ إِلَى مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ
الْعَامِرِيَّةِ، فَخَطَبَهَا
عَلَيْهِ، فَجَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَى الْعَبَّاسِ، وَكَانَ تَحْتَهُ أُخْتُهَا
أُمُّ الْفَضْلِ بِنْتُ الْحَارِثِ، فَزَوَّجَهَا الْعَبَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: " اكْشِفُوا عَنِ
الْمَنَاكِبِ، وَاسْعَوْا فِي الطَّوَافِ ". لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ
جَلَدَهُمْ وَقُوَّتَهُمْ، وَكَانَ يُكَايِدُهُمْ بِكُلِّ مَا اسْتَطَاعَ،
فَاسْتَكَفَّ أَهْلُ مَكَّةَ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ،
يَنْظُرُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابِهِ، وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ
يَرْتَجِزُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُتَوَشِّحًا بِالسَّيْفِ وَهُوَ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ أَنَا الشَّهِيدُ أَنَّهُ رَسُولُهُ
قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهِ فِي صُحُفٍ تُتْلَى عَلَى رَسُولِهِ
فَالْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ كَمَا ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى
تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ
قَالَ: وَتَغَيَّبَ رِجَالٌ مِنْ أَشْرَافِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَيْظًا، وَحَنَقًا،
وَنَفَاسَةً، وَحَسَدًا، وَخَرَجُوا إِلَى الْخَنْدَمَةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَأَقَامَ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَكَانَ
ذَلِكَ آخِرَ الْقَضِيَّةِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ مِنَ
الْيَوْمِ الرَّابِعِ أَتَاهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ
الْعُزَّى، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسِ
الْأَنْصَارِ يَتَحَدَّثُ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَصَاحَ حُوَيْطِبُ بْنُ
عَبْدِ الْعُزَّى: نُنَاشِدُكَ اللَّهَ وَالْعَقْدَ لَمَا خَرَجْتَ مِنْ
أَرْضِنَا، فَقَدْ مَضَتِ الثَّلَاثُ. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ كَذَبْتَ،
لَا أُمَّ لَكَ، لَيْسَ بِأَرْضِكَ وَلَا
بِأَرْضِ آبَائِكَ،
وَاللَّهِ لَا يَخْرُجُ. ثُمَّ نَادَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سُهَيْلًا وَحُوَيْطِبًا فَقَالَ: " إِنِّي قَدْ نَكَحْتُ فِيكُمُ
امْرَأَةً، فَمَا يَضُرُّكُمْ أَنْ أَمْكُثَ حَتَّى أَدْخُلَ بِهَا، وَنَصْنَعَ
الطَّعَامَ فَنَأْكُلُ وَتَأْكُلُونَ مَعَنَا ؟ ". فَقَالُوا: نُنَاشِدُكَ
اللَّهَ وَالْعَقْدَ إِلَّا خَرَجْتَ عَنَّا. فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا رَافِعٍ فَأَذَّنَ بِالرَّحِيلِ، وَرَكِبَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ بَطْنَ سَرِفٍ،
وَأَقَامَ الْمُسْلِمُونَ، وَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَبَا رَافِعٍ لِيَحْمِلَ مَيْمُونَةَ، وَأَقَامَ بِسَرِفٍ حَتَّى
قَدِمَتْ عَلَيْهِ مَيْمُونَةُ، وَقَدْ لَقِيَتْ مَيْمُونَةُ وَمَنْ مَعَهَا
عَنَاءً وَأَذًى مِنْ سُفَهَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْ صِبْيَانِهِمْ، فَقَدِمَتْ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَرِفٍ، فَبَنَى
بِهَا، ثُمَّ أَدْلَجَ، فَسَارَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَقَدَّرَ اللَّهُ
أَنْ يَكُونَ مَوْتُ مَيْمُونَةَ بِسَرَفٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِحِينٍ، فَمَاتَتْ
حَيْثُ بَنَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ
ذَكَرَ قِصَّةَ ابْنَةِ حَمْزَةَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ، فِي تِلْكَ الْعُمْرَةِ: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ
وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَاعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ الَّذِي صُدَّ فِيهِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ
لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ نَحْوًا مِنْ
هَذَا السِّيَاقِ.
وَلِهَذَا السِّيَاقِ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ مِنْ أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ، فَفِي
" صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ طَرِيقِ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ،
عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْبَيْتِ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأَسَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَقَاضَاهُمْ
عَلَى أَنْ يَعْتَمِرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ، وَلَا يَحْمِلَ سِلَاحًا
إِلَّا سُيُوفًا، وَلَا
يُقِيمَ بِهَا إِلَّا مَا أَحَبُّوا، فَاعْتَمَرَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ،
فَدَخَلَهَا كَمَا كَانَ صَالَحَهُمْ، فَلَمَّا أَنْ أَقَامَ بِهَا ثَلَاثًا
أَمَرُوهُ أَنْ يَخْرُجَ فَخَرَجَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمْ تَكُنْ هَذِهِ عُمْرَةَ قَضَاءٍ، وَإِنَّمَا
كَانَتْ شَرْطًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْتَمِرُوا مِنْ قَابِلٍ، فِي
الشَّهْرِ الَّذِي صَدَّهُمْ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا النُّفَيْلِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، سَمِعْتُ أَبَا
حَاضِرٍ الْحِمْيَرِيَّ يُحَدِّثُ أَبِي مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ قَالَ: خَرَجْتُ
مُعْتَمِرًا عَامَ حَاصَرَ أَهْلُ الشَّامِ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، وَبَعَثَ
مَعِي رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي بِهَدْيٍ. قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى أَهْلِ
الشَّامِ، مَنَعُونَا أَنْ نَدْخُلَ الْحَرَمَ. قَالَ: فَنَحَرْتُ الْهَدْيَ
مَكَانِي، ثُمَّ أَحْلَلْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ
الْمُقْبِلِ خَرَجْتُ لِأَقْضِيَ عُمْرَتِي، فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ
فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: أَبْدِلِ الْهَدْيَ،فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُبْدِلُوا الْهَدْيَ الَّذِي
نَحَرُوا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو
دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَاضِرٍ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ الْحِمْيَرِيِّ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا الْحَاكِمُ، أَنْبَأَنَا
الْأَصَمُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ
بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ قَالَ:
كَانَ أَبِي يَسْأَلُ
كَثِيرًا: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْدَلَ
هَدْيَهُ الَّذِي نَحَرَ، حِينَ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ ؟ وَلَا
يَجِدُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، حَتَّى سَمِعْتُهُ يَسْأَلُ أَبَا حَاضِرٍ
الْحِمْيَرِيَّ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ، حَجَجْتُ
عَامَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْحَصْرِ الْأَوَّلِ، فَأَهْدَيْتُ هَدْيًا،
فَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَحَرْتُ فِي الْحَرَمِ، وَرَجَعْتُ
إِلَى الْيَمَنِ، وَقُلْتُ: لِي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ. فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَجَجْتُ، فَلَقِيتُ
ابْنَ عَبَّاسٍ، فَسَأَلْتُهُ عَمَّا نَحَرْتُ: عَلَيَّ بَدَلَهُ أَمْ لَا ؟
قَالَ: نَعَمْ فَأَبْدِلْ،فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ قَدْ أَبْدَلُوا الْهَدْيَ الَّذِي نَحَرُوا عَامَ
صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَأَبْدَلُوا ذَلِكَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ فَعَزَّتِ
الْإِبِلُ عَلَيْهِمْ، فَرَخَّصَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْبَقَرِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي غَانِمُ بْنُ أَبِي غَانِمٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيَّ عَلَى
هَدْيِهِ، يَسِيرُ بِالْهَدْيِ أَمَامَهُ، يَطْلُبُ الرَّعْيَ فِي الشَّجَرِ،
مَعَهُ أَرْبَعَةُ فِتْيَانٍ مِنْ أَسْلَمَ، وَقَدْ سَاقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ سِتِّينَ بَدَنَةً.
فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ صَاحِبِ الْبُدْنِ أَسُوقُهَا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُلَبِّي وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ يُلَبُّونَ، وَمَضَى مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ
بِالْخَيْلِ إِلَى مَرِّ الظَّهْرَانِ، فَيَجِدُ بِهَا نَفَرًا مِنْ
قُرَيْشٍ، فَسَأَلُوا مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَبِّحُ هَذَا الْمَنْزِلَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَرَأَوْا سِلَاحًا كَثِيرًا مَعَ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ، فَخَرَجُوا سِرَاعًا حَتَّى أَتَوْا قُرَيْشًا، فَأَخْبَرُوهُمْ بِالَّذِي رَأَوْا مِنَ السِّلَاحِ وَالْخَيْلِ، فَفَزِعَتْ قُرَيْشٌ وَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَحْدَثْنَا حَدَثًا، وَإِنَّا عَلَى كِتَابِنَا وَهُدْنَتِنَا، فَفِيمَ يَغْزُونَا مُحَمَّدٌ فِي أَصْحَابِهِ ؟ وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ الظَّهْرَانِ، وَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّلَاحَ إِلَى بَطْنِ يَأْجَجَ، حَيْثُ يَنْظُرُ إِلَى أَنْصَابِ الْحَرَمِ، وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ مِكْرَزَ بْنَ حَفْصِ بْنِ الْأَحْنَفِ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، حَتَّى لَقُوهُ بِبَطْنِ يَأْجَجَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ وَالْهَدْيِ وَالسِّلَاحِ، قَدْ تَلَاحَقُوا، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، مَا عُرِفْتَ صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا بِالْغَدْرِ، تَدْخُلُ بِالسِّلَاحِ فِي الْحَرَمِ عَلَى قَوْمِكَ، وَقَدْ شَرَطْتَ لَهُمْ أَنْ لَا تَدْخُلَ إِلَّا بِسِلَاحِ الْمُسَافِرِ، السُّيُوفِ فِي الْقُرُبِ ؟! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي لَا أُدْخِلُ عَلَيْهِمُ السِّلَاحَ ". فَقَالَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ: هَذَا الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ، الْبِرُّ وَالْوَفَاءُ. ثُمَّ رَجَعَ سَرِيعًا بِأَصْحَابِهِ إِلَى مَكَّةَ فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَا يَدْخُلُ بِسِلَاحٍ، وَهُوَ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي شَرَطَ لَكُمْ. فَلَمَّا أَنْ جَاءَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ يُخْبِرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَجَتْ قُرَيْشٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَخَلَّوْا مَكَّةَ، وَقَالُوا: لَا نَنْظُرُ إِلَيْهِ وَلَا إِلَى أَصْحَابِهِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَدْيِ أَمَامَهُ حَتَّى حُبِسَ بِذِي طُوًى، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ، وَهُمْ مُحْدِقُونَ بِهِ يُلَبُّونَ، وَهُمْ مُتَوَشِّحُونَ السُّيُوفَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى ذِي طُوًى، وَقَفَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ، وَالْمُسْلِمُونَ حَوْلَهُ، ثُمَّ دَخَلَ مِنَ الثَّنِيَّةِ الَّتِي تُطْلِعُهُ عَلَى الْحَجُونِ عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ، وَابْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بِزِمَامِهَا، وَهُوَ يَرْتَجِزُ
بِشِعْرِهِ وَيَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ
إِلَى آخِرِهِ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:قَدِمَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ
رَابِعَةٍ - يَعْنِي مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ - فَقَالَ
الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَفْدٌ قَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى
يَثْرِبَ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ،
وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءُ
عَلَيْهِمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، ثَنَا
إِسْمَاعِيلُ، يَعْنِي ابْنَ زَكَرِيَّا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ،
عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرَانِ فِي عُمْرَتِهِ،
بَلَغَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ
قُرَيْشًا تَقُولُ: مَا يَتَبَاعَثُونَ مِنَ الْعَجَفِ. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: لَوِ
انْتَحَرْنَا مِنْ ظَهْرِنَا، فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ، وَحَسَوْنَا مِنْ
مَرَقِهِ، أَصْبَحْنَا غَدًا حِينَ نَدْخُلُ عَلَى الْقَوْمِ وَبِنَا جَمَامَةٌ.
فَقَالَ: " لَا تَفْعَلُوا، وَلَكِنِ اجْمَعُوا لِي مِنْ أَزْوَادِكُمْ
".
فَجَمَعُوا لَهُ،
وَبَسَطُوا الْأَنْطَاعَ، فَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوا، وَحَثَا كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ فِي جِرَابِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَقَعَدَتْ قُرَيْشٌ نَحْوَ الْحِجْرِ،
فَاضْطَبَعَ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ: " لَا يَرَى الْقَوْمُ فِيكُمْ
غَمِيزَةً ". فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ ثُمَّ رَمَلَ، حَتَّى إِذَا تَغَيَّبَ
بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ مَشَى إِلَى الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ:
مَا يَرْضَوْنَ بِالْمَشْيِ، أَمَا إِنَّهُمْ لَيَنْقُزُونَ نَقْزَ الظِّبَاءِ!
فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، فَكَانَتْ سُنَّةً قَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ:
وَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ
هَذَا الْوَجْهِ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا أَبُو سَلَمَةَ مُوسَى، ثَنَا حَمَّادٌ - يَعْنِي
ابْنَ سَلَمَةَ - أَنْبَأَنَا أَبُو عَاصِمٍ الْغَنَوِيُّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ
قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: يَزْعُمُ قَوْمُكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَمَلَ بِالْبَيْتِ، وَأَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ.
فَقَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا. قُلْتُ: مَا صَدَقُوا وَمَا كَذَبُوا ؟! قَالَ:
صَدَقُوا، رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَبُوا
لَيْسَ بِسُنَّةٍ، إِنَّ قُرَيْشًا زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ قَالَتْ: دَعُوا
مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ حَتَّى يَمُوتُوا مَوْتَ النَّغَفِ. فَلَمَّا صَالَحُوهُ
عَلَى أَنْ يَجِيئُوا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَيُقِيمُوا بِمَكَّةَ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ قِبَلِ قُعَيْقِعَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: " ارْمُلُوا بِالْبَيْتِ ثَلَاثًا
". قَالَ: وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ
حَدِيثِ سَعِيدٍ
الْجُرَيْرِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ،
وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبْجَرَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي
الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِهِ نَحْوَهُ.
وَكَوْنُ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ سُنَّةً مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، فَإِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ فِي عُمْرَةِ
الْقَضَاءِ، وَفِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ أَيْضًا، كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ
أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَهُ. وَثَبَتَ فِي حَدِيثِ
جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَمَلَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ فِي الطَّوَافِ. وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ: فِيمَ الرَّمَلَانُ وَقَدْ أَطَّأَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ ؟ وَمَعَ
هَذَا لَا نَتْرُكُ شَيْئًا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَمَوْضِعُ تَقْرِيرِ هَذَا كِتَابُ " الْأَحْكَامِ ".
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَا يَرَى ذَلِكَ سُنَّةً، كَمَا
ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:إِنَّمَا
سَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، لِيُرِيَ
الْمُشْرِكِينَ
قُوَّتَهُ. لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نُسُكَهُ فِي الْقَضَاءِ، دَخَلَ الْبَيْتَ، فَلَمْ يَزَلْ فِيهِ حَتَّى
أَذَّنَ بِلَالٌ الظُّهْرَ فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ
أَبِي جَهْلٍ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ أَبَا الْحَكَمِ حَيْثُ لَمْ يَسْمَعْ
هَذَا الْعَبْدَ يَقُولُ مَا يَقُولُ. وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ أَبِي قَبْلَ أَنْ يَرَى هَذَا. وَقَالَ
خَالِدُ بْنُ أَسِيدٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَاتَ أَبِي وَلَمْ يَشْهَدْ
هَذَا الْيَوْمَ، حِينَ يَقُومُ بِلَالُ ابْنُ أُمِّ بِلَالٍ يَنْهَقُ فَوْقَ
الْكَعْبَةِ. وَأَمَّا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَرِجَالٌ مَعَهُ، لَمَّا سَمِعُوا
بِذَلِكَ غَطَّوْا وُجُوهَهُمْ. قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: قَدْ أَكْرَمَ
اللَّهُ أَكْثَرَهُمْ بِالْإِسْلَامِ.
قُلْتُ: كَذَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ، أَنَّ هَذَا
كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي عَامِ
الْفَتْحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قِصَّةُ
تَزْوِيجِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بِمَيْمُونَةَ
فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ
الْحَارِثِ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ وَهُوَ حَرَامٌ، وَكَانَ الَّذِي زَوَّجَهُ
إِيَّاهَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: كَانَتْ
جَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَى أُخْتِهَا أُمِّ الْفَضْلِ، فَجَعَلَتْ أُمُّ الْفَضْلِ
أَمْرَهَا إِلَى زَوْجِهَا الْعَبَّاسِ، فَزَوَّجَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْدَقَهَا عَنْهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَتْ إِلَيْهَا خِطْبَةُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا وَهِيَ رَاكِبَةٌ بَعِيرًا
قَالَتِ: الْجَمَلُ وَمَا عَلَيْهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. قَالَ: وَفِيهَا نَزَلَتِ الْآيَةُ: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ
وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا
خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ( الْأَحْزَابِ: 50 ).
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ
مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَمَاتَتْ بِسَرَفٍ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ:
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَسْوَدِ يَتِيمِ عُرْوَةَ،
وَمِنْ طَرِيقِ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍأَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ
حَلَالٌ، قَالَ: وَتَأَوَّلُوا رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأُولَى أَنَّهُ كَانَ
مُحْرِمًا، أَيْ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا فَدَعَا فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَخْذُولَا
أَيْ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ.
قُلْتُ: وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ مُتَظَافِرَةٌ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا قَوْلُهُ: تَزَوَّجَهَا
وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَقَدْ كَانَ فِي شَهْرِ ذِي
الْقَعْدَةِ أَيْضًا، وَهُوَ شَهْرٌ حَرَامٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ:
قَالَ لِيَ الثَّوْرِيُّ: لَا تَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ،
أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍأَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. قَالَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ: رَوَى سُفْيَانُ
الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَابْنِ خُثَيْمٍ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ خُثَيْمٍ
فَحَدَّثَنَا هَاهُنَا - يَعْنِي بِالْيَمَنِ - وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرٍو
فَحَدَّثَنَا ثَمَّ - يَعْنِي بِمَكَّةَ - وَأَخْرَجَاهُ فِي "
الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِهِ.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ،
أَنْبَأَنَا عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: وَهِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِنْ كَانَتْ
خَالَتَهُ، مَا تَزَوَّجَهَا إِلَّا بَعْدَ مَا أَحَلَّ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي ثِقَةٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، يَزْعُمُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ
مُحْرِمٌ. فَذَكَرَ كَلِمَتَهُ: إِنَّمَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، فَكَانَ الْحِلُّ وَالنِّكَاحُ جَمِيعًا، فَشُبِّهَ
ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ
وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ الْعَامِرِيِّ،عَنْ
خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ: تُزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ حَلَالَانِ بِسَرِفٍ. لَكِنْ قَالَ
التِّرْمِذِيُّ: رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ
الْأَصَمِّ مُرْسَلًا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ،
أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْأَصْفَهَانِيُّ الزَّاهِدُ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي،
ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، ثَنَا مَطَرٌ
الْوَرَّاقُ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُلَيْمَانَ
بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ:تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ،
وَكُنْتُ الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا، وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، بِهِ.
ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ غَيْرَ
حَمَّادٍ، عَنْ مَطَرٍ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ
مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ رَبِيعَةَ
مُرْسَلًا.
قُلْتُ: وَكَانَتْ وَفَاتُهَا بِسَرِفٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَيُقَالُ:
سَنَةَ سِتِّينَ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
ذِكْرُ خُرُوجِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ عُمْرَتِهِ
قَدْ تَقَدَّمَ مَا ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا
إِلَيْهِ حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ
لِيَرْحَلَ عَنْهُمْ، كَمَا وَقَعَ بِهِ الشَّرْطُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ
يَعْمَلَ وَلِيمَةَ عُرْسِهِ بِمَيْمُونَةَ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ
تَأْلِيفَهُمْ بِذَلِكَ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَقَالُوا: بَلِ اخْرُجْ عَنَّا.
فَخَرَجَ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ
إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ:اعْتَمَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ
أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ، حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمُوا بِهَا
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَتَبُوا الْكِتَابَ، كَتَبُوا: هَذَا مَا قَاضَى
عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. قَالُوا: لَا نُقِرُّ بِهَذَا، لَوْ نَعْلَمُ
أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا مَنَعْنَاكَ شَيْئًا، وَلَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: " أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ ". ثُمَّ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: " امْحُ
رَسُولَ اللَّهِ ". قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَمْحُوكَ أَبَدًا. فَأَخَذَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِتَابَ، وَلَيْسَ يُحْسِنُ
يَكْتُبُ، فَكَتَبَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
لَا يُدْخِلُ مَكَّةَ إِلَّا السَّيْفَ فِي الْقِرَابِ، وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ
أَهْلِهَا بِأَحَدٍ أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَهُ،
وَأَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ
أَصْحَابِهِ أَحَدًا أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا. فَلَمَّا دَخَلَهَا وَمَضَى
الْأَجَلُ، أَتَوْا عَلِيًّا فَقَالُوا: قُلْ لِصَاحِبِكَ: اخْرُجْ عَنَّا، فَقَدْ
مَضَى الْأَجَلُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَتَبِعَتْهُ ابْنَةُ حَمْزَةَ تُنَادِي: يَا عَمُّ، يَا عَمُّ. فَتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ
فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ: دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكِ،
فَحَمَلَتْهَا، فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ:
أَنَا أَخَذْتُهَا وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي. وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّي،
وَخَالَتُهَا تَحْتِي. وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي. فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالَتِهَا وَقَالَ: " الْخَالَةُ
بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ ". وَقَالَ لِعَلِيٍّ: " أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا
مِنْكَ ". وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: " أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي "
وَقَالَ لِزَيْدٍ: " أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا ". قَالَ عَلِيٌّ:
أَلَا تَتَزَوَّجُ ابْنَةَ حَمْزَةَ ؟ قَالَ: " إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ
الرَّضَاعَةِ تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ قِصَّةَ ابْنَةِ حَمْزَةَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ
أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ،أَنَّ عُمَارَةَ ابْنَةَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأُمَّهَا
سَلْمَى بِنْتُ عُمَيْسٍ، كَانَتْ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " عَلَامَ نَتْرُكُ ابْنَةَ
عَمِّنَا يَتِيمَةً بَيْنَ ظَهَرَانَيِ الْمُشْرِكِينَ ؟ فَلَمْ يَنْهَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِخْرَاجِهَا، فَخَرَجَ بِهَا،
فَتَكَلَّمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَكَانَ وَصِيَّ حَمْزَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ آخَى بَيْنَهُمَا حِينَ آخَى بَيْنَ
الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا، ابْنَةُ أَخِي. فَلَمَّا سَمِعَ
بِذَلِكَ جَعْفَرٌ قَالَ: الْخَالَةُ وَالِدَةٌ، وَأَنَا أَحَقُّ بِهَا لِمَكَانِ
خَالَتِهَا عِنْدِي أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ وَقَالَ عَلِيٌّ: أَلَا أَرَاكُمْ
تَخْتَصِمُونَ! هِيَ ابْنَةُ عَمِّي، وَأَنَا أَخْرَجْتُهَا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ
الْمُشْرِكِينَ، وَلَيْسَ
لَكُمْ إِلَيْهَا سَبَبٌ
دُونِي، وَأَنَا أَحَقُّ بِهَا مِنْكُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا أَحْكُمُ بَيْنَكُمْ، أَمَّا أَنْتَ يَا زَيْدُ
فَمَوْلَى اللَّهِ وَمَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا عَلِيُّ
فَأَخِي وَصَاحِبِي، وَأَمَّا أَنْتَ يَا جَعْفَرُ فَتُشْبِهُ خَلْقِي وَخُلُقِي،
وَأَنْتَ يَا جَعْفَرُ أَوْلَى بِهَا، تَحْتَكَ خَالَتُهَا، وَلَا تُنْكَحُ
الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى عَمَّتِهَا " فَقَضَى بِهَا
لِجَعْفَرٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ:فَلَمَّا قَضَى بِهَا لِجَعْفَرٍ، قَامَ جَعْفَرٌ فَحَجَلَ
حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " مَا
هَذَا يَا جَعْفَرُ ؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَانَ النَّجَاشِيُّ
إِذَا أَرْضَى أَحَدًا، قَامَ فَحَجَلَ حَوْلَهُ. فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَزَوَّجْهَا. فَقَالَ: " ابْنَةُ أَخِي مِنَ
الرَّضَاعَةِ ". فَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَلَمَةَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " هَلْ جَزَيْتُ سَلَمَةَ ؟.
قُلْتُ: لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ هُوَ الَّذِي زَوَّجَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمِّهِ أُمِّ سَلَمَةَ،
لِأَنَّهُ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ أَخِيهِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي ذِي
الْحِجَّةِ، وَتَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ تِلْكَ الْحِجَّةَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْعُمْرَةِ، فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ( الْفَتْحِ: 27 ) يَعْنِي خَيْبَرَ.
فَصْلٌ سَرِيَّةُ ابْنِ
أَبِي الْعَوْجَاءِ السُّلَمِيِّ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ
ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ هَاهُنَا سَرِيَّةَ ابْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ السُّلَمِيِّ
إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ، ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ عَنِ الْوَاقِدِيِّ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: لَمَّا
رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُمْرَةِ
الْقَضِيَّةِ، رَجَعَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ، فَبَعَثَ ابْنَ
أَبِي الْعَوْجَاءِ السُّلَمِيَّ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا، فَخَرَجَ إِلَى بَنِي
سُلَيْمٍ، وَكَانَ عَيْنُ بَنِي سُلَيْمٍ مَعَهُ، فَلَمَّا فَصَلَ مِنَ
الْمَدِينَةِ، خَرَجَ الْعَيْنُ إِلَى قَوْمِهِ، فَحَذَّرَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ، فَجَمَعُوا
جَمْعًا كَثِيرًا، وَجَاءَهُمُ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ وَالْقَوْمُ مُعِدُّونَ،
فَلَمَّا أَنْ رَآهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَرَأَوْا جَمْعَهُمْ، دَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَرَشَقُوهُمْ
بِالنَّبْلِ وَلَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَهُمْ، وَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى
مَا دَعَوْتُمْ إِلَيْهِ، فَرَمَوْهُمْ سَاعَةً، وَجَعَلَتِ الْأَمْدَادُ تَأْتِي،
حَتَّى أَحْدَقُوا بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَقَاتَلَ الْقَوْمُ قِتَالًا
شَدِيدًا، حَتَّى قُتِلَ عَامَّتُهُمْ، وَأُصِيبَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ
بِجِرَاحَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَتَحَامَلَ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِمَنْ
بَقِيَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ صَفَرٍ سَنَةَ
ثَمَانٍ.
فَصْلٌ رَدُّ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى زَوْجِهَا
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - يَعْنِي سَنَةَ
سَبْعٍ - رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَتَهُ
زَيْنَبَ عَلَى زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ - وَقَدْ قَدَّمْنَا
الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ - وَفِيهَا قَدِمَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ مِنْ
عِنْدِ الْمُقَوْقِسِ وَمَعَهُ مَارِيَةُ وَسِيرِينُ، وَقَدْ أَسْلَمَتَا فِي
الطَّرِيقِ، وَغُلَامٌ خَصِيٌّ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا اتَّخَذَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْبَرَهُ دَرَجَتَيْنِ وَمَقْعَدَهُ.
قَالَ: وَالثَّبَتُ عِنْدَنَا أَنَّهُ عُمِلَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ.
بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ
سَنَةُ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ ف
فَصْلٌ فِي إِسْلَامِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ
وَعُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَكَانَ قُدُومُهُمْ
أَوَائِلَ سَنَةِ ثَمَانٍ، عَلَى مَا سَيَأْتِي
قَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنْ ذَلِكَ، فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بَعْدَ
مَقْتَلِ أَبِي رَافِعٍ الْيَهُودِيِّ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ مِنَ
الْهِجْرَةِ. وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ هَاهُنَا بَعْدَ
عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، فَرَوَى مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ
الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ
كُنْتُ لِلْإِسْلَامِ مُجَانِبًا
مُعَانِدًا حَضَرْتُ بَدْرًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَنَجَوْتُ، ثُمَّ حَضَرْتُ أُحُدًا فَنَجَوْتُ، ثُمَّ حَضَرْتُ الْخَنْدَقَ فَنَجَوْتُ، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كَمْ أُوضِعُ! وَاللَّهِ لَيَظْهَرَنَّ مُحَمَّدٌ عَلَى قُرَيْشٍ. فَلَحِقْتُ بِمَالِي بِالْوَهْطِ، وَأَقْلَلْتُ مِنَ النَّاسِ - أَيْ مِنْ لِقَائِهِمْ - فَلَمَّا حَضَرَ الْحُدَيْبِيَةُ، وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصُّلْحِ، وَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ إِلَى مَكَّةَ، جَعَلْتُ أَقُولُ: يَدْخُلُ مُحَمَّدٌ قَابِلًا مَكَّةَ بِأَصْحَابِهِ، مَا مَكَّةُ بِمَنْزِلٍ وَلَا الطَّائِفُ، وَلَا شَيْءَ خَيْرٌ مِنَ الْخُرُوجِ. وَأَنَا بَعْدُ نَاءٍ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَأَرَى لَوْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ كُلُّهَا لَمْ أُسْلِمْ، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَجَمَعْتُ رِجَالًا مِنْ قَوْمِي، وَكَانُوا يَرَوْنَ رَأْيِي، وَيَسْمَعُونَ مِنِّي، وَيُقَدِّمُونَنِي فِيمَا نَابَهُمْ، فَقُلْتُ لَهُمْ: كَيْفَ أَنَا فِيكُمْ ؟ قَالُوا: ذُو رَأْيِنَا وَمِدْرَهُنَا فِي يُمْنِ نَقِيبَةٍ وَبَرَكَةِ أَمْرٍ، قَالَ: قُلْتُ: تَعْلَمُونَ أَنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى أَمْرَ مُحَمَّدٍ أَمْرًا يَعْلُو الْأُمُورَ عُلُوًّا مُنْكَرًا، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا. قَالُوا: وَمَا هُوَ ؟ قُلْتُ: نَلْحَقُ بِالنَّجَاشِيِّ فَنَكُونُ مَعَهُ، فَإِنْ يَظْهَرْ مُحَمَّدٌ كُنَّا عِنْدَ النَّجَاشِيِّ، فَنَكُونُ تَحْتَ يَدِ النَّجَاشِيِّ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدِ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ تَظْهَرْ قُرَيْشٌ فَنَحْنُ مَنْ قَدْ عَرَفُوا، قَالُوا: هَذَا الرَّأْيُ. قَالَ: قُلْتُ: فَاجْمَعُوا مَا نَهْدِيهِ لَهُ. وَكَانَ أَحَبَّ مَا يُهْدَى إِلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الْأَدَمُ، فَجَمَعْنَا أَدَمًا كَثِيرًا، ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَوَاللَّهِ إِنَّا
لِعِنْدَهُ إِذْ جَاءَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَعَثَهُ بِكِتَابٍ كَتَبَهُ، يُزَوِّجُهُ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي: هَذَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، وَلَوْ قَدْ دَخَلْتُ عَلَى النَّجَاشِيِّ فَسَأَلْتُهُ إِيَّاهُ فَأَعْطَانِيهِ فَضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ سَرَرْتُ قُرَيْشًا، وَكُنْتُ قَدْ أَجَزَأْتُ عَنْهَا حِينَ قَتَلْتُ رَسُولَ مُحَمَّدٍ. فَدَخَلْتُ عَلَى النَّجَاشِيِّ فَسَجَدْتُ لَهُ كَمَا كُنْتُ أَصْنَعُ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِصَدِيقِي، أَهْدَيْتَ لِي مِنْ بِلَادِكِ شَيْئًا ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ أَيُّهَا الْمَلِكُ، أَهْدَيْتُ لَكَ أَدَمًا كَثِيرًا. ثُمَّ قَدَّمْتُهُ فَأَعْجَبَهُ، وَفَرَّقَ مِنْهُ شَيْئًا بَيْنَ بَطَارِقَتِهِ، وَأَمَرَ بِسَائِرِهِ فَأُدْخِلَ فِي مَوْضِعٍ، وَأَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ وَيُحْتَفَظَ بِهِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ طِيبَ نَفْسِهِ قُلْتُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ، وَهُوَ رَسُولُ عَدُوٍّ لَنَا قَدْ وَتَرَنَا، وَقَتَلَ أَشْرَافَنَا وَخِيَارَنَا، فَأَعْطِنِيهِ فَأَقْتُلَهُ. فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَرَفَعَ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا أَنْفِي ضَرْبَةً ظَنَنْتُ أَنَّهُ كَسَرَهُ، فَابْتَدَرَ مَنْخَرَايَ، فَجَعَلْتُ أَتَلَقَّى الدَّمَ بِثِيَابِي، فَأَصَابَنِي مِنَ الذُّلِّ مَا لَوِ انْشَقَّتْ بِيَ الْأَرْضُ دَخَلْتُ فِيهَا، فَرَقًا مِنْهُ. ثُمَّ قُلْتُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَكْرَهُ مَا قُلْتُ مَا سَأَلَتُكَ. قَالَ: فَاسْتَحْيَا وَقَالَ: يَا عَمْرُو، تَسْأَلُنِي أَنْ أُعْطِيَكَ رَسُولَ مَنْ يَأْتِيهِ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، وَالَّذِي كَانَ يَأْتِي عِيسَى لِتَقْتُلَهُ ؟! قَالَ عَمْرُو: فَغَيَّرَ اللَّهُ قَلْبِي عَمَّا كُنْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: عَرَفَ هَذَا الْحَقَّ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ وَتُخَالِفُ أَنْتَ ؟! ثُمَّ قُلْتُ: أَتَشْهَدُ أَيُّهَا الْمَلِكُ بِهَذَا ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَشْهَدُ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ يَا عَمْرُو، فَأَطِعْنِي وَاتَّبِعْهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَعَلَى الْحَقِّ،
وَلَيَظْهَرَنَّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ. قُلْتُ: أَتُبَايِعُنِي لَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعَنِي عَلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ دَعَا بِطَسْتٍ، فَغَسَلَ عَنِّي الدَّمَ وَكَسَانِي ثِيَابًا، وَكَانَتْ ثِيَابِي قَدِ امْتَلَأَتْ بِالدَّمِ فَأَلْقَيْتُهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ عَلَى أَصْحَابِي، فَلَمَّا رَأَوْا كِسْوَةَ النَّجَاشِيِّ سُرُّوا بِذَلِكَ وَقَالُوا: هَلْ أَدْرَكْتَ مِنْ صَاحِبِكَ مَا أَرَدْتَ ؟ فَقُلْتُ لَهُمْ: كَرِهْتُ أَنْ أُكَلِّمَهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، وَقُلْتُ: أَعُودُ إِلَيْهِ. فَقَالُوا: الرَّأْيُ مَا رَأَيْتَ. قَالَ: فَفَارَقْتُهُمْ وَكَأَنِّي أَعْمِدُ لِحَاجَةٍ، فَعَمَدْتُ إِلَى مَوْضِعِ السُّفُنِ، فَأَجِدُ سَفِينَةً قَدْ شُحِنَتْ تُدْفَعُ. قَالَ: فَرَكِبْتُ مَعَهُمْ وَدَفَعُوهَا، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الشُّعَيْبَةِ، وَخَرَجْتُ مِنَ السَّفِينَةِ وَمَعِي نَفَقَةٌ، فَابْتَعْتُ بَعِيرًا، وَخَرَجْتُ أُرِيدَ الْمَدِينَةَ، حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مَرِّ الظَّهْرَانِ، ثُمَّ مَضَيْتُ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِالْهَدَةِ، فَإِذَا رَجُلَانِ قَدْ سَبَقَانِي بِغَيْرِ كَثِيرٍ يُرِيدَانِ مَنْزِلًا، وَأَحَدُهُمَا دَاخِلٌ فِي الْخَيْمَةِ، وَالْآخَرُ يُمْسِكُ الرَّاحِلَتَيْنِ. قَالَ: فَنَظَرْتُ فَإِذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ: قُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ: مُحَمَّدًا، دَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ بِهِ طَعْمٌ، وَاللَّهِ لَوْ أَقَمْتُ لَأُخِذَ بِرِقَابِنَا كَمَا يُؤْخَذُ بِرَقَبَةِ الضَّبُعِ فِي مَغَارَتِهَا. قُلْتُ: وَأَنَا وَاللَّهِ قَدْ أَرَدْتُ مُحَمَّدًا، وَأَرَدْتُ الْإِسْلَامَ. فَخَرَجَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَرَحَّبَ بِي، فَنَزَلْنَا جَمِيعًا فِي الْمَنْزِلِ، ثُمَّ تُرَافَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا
الْمَدِينَةَ، فَمَا
أَنْسَى قَوْلَ رَجُلٍ لَقِينَاهُ بِبِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ يَصِيحُ: يَا رَبَاحُ،
يَا رَبَاحُ، يَا رَبَاحُ فَتَفَاءَلْنَا بِقَوْلِهِ وَسُرِرْنَا، ثُمَّ نَظَرَ
إِلَيْنَا فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ: قَدْ أَعْطَتْ مَكَّةُ الْمُقَادَةَ بَعْدَ
هَذَيْنِ. فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِينِي وَيَعْنِي خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ،
وَوَلَّى مُدْبِرًا إِلَى الْمَسْجِدِ سَرِيعًا، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَشَّرَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُدُومِنَا، فَكَانَ كَمَا
ظَنَنْتُ، وَأَنَخْنَا بِالْحَرَّةِ، فَلَبِسْنَا مِنْ صَالِحِ ثِيَابِنَا، ثُمَّ
نُودِيَ بِالْعَصْرِ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ وَإِنَّ
لِوَجْهِهِ تَهَلُّلًا، وَالْمُسْلِمُونَ حَوْلَهُ قَدْ سُرُّوا بِإِسْلَامِنَا،
فَتَقَدَّمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَبَايَعَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ عُثْمَانُ بْنُ
طَلْحَةَ فَبَايَعَ، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ
جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَرْفَعَ طَرَفِي إِلَيْهِ
حَيَاءً مِنْهُ. قَالَ: فَبَايَعْتُهُ عَلَى أَنْ يُغْفَرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِي، وَلَمْ يَحْضُرْنِي مَا تَأَخَّرَ فَقَالَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ
مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَالْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا قَالَ:
فَوَاللَّهِ مَا عَدَلَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي أَمْرٍ حَزَبَهُ مُنْذُ
أَسْلَمْنَا، وَلَقَدْ كُنَّا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ،
وَلَقَدْ كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بِتِلْكَ الْحَالَةِ، وَكَانَ عُمَرُ عَلَى خَالِدٍ
كَالْعَاتِبِ.
قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ شَيْخُ الْوَاقِدِيِّ: فَذَكَرْتُ هَذَا
الْحَدِيثَ لِيَزِيدَ بْنِ
أَبِي حَبِيبٍ، فَقَالَ:
أَخْبَرَنِي رَاشِدٌ مَوْلَى حَبِيبِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ
مَوْلَاهُ حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ نَحْوَ ذَلِكَ.
قُلْتُ: كَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي
حَبِيبٍ، عَنْ رَاشِدٍ، عَنْ مَوْلَاهُ حَبِيبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ
الْعَاصِ مِنْ فِيهِ. فَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ بَعْدَ مَقْتَلِ
أَبِي رَافِعٍ. وَسِيَاقُ الْوَاقِدِيِّ أَبْسَطُ وَأَحْسَنُ. قَالَ
الْوَاقِدِيُّ، عَنْ شَيْخِهِ عَبْدِ الْحَمِيدِ: فَقُلْتُ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي
حَبِيبٍ: وَقَّتَ لَكَ مَتَى قَدِمَ عَمْرٌو وَخَالِدٌ ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا
أَنَّهُ قَالَ: قَبْلَ الْفَتْحِ. قُلْتُ: فَإِنَّ أَبِي أَخْبَرَنِي أَنَّ
عَمْرًا وَخَالِدًا وَعُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ قَدِمُوا لِهِلَالِ صَفَرٍ سَنَةَ
ثَمَانٍ.
وَسَيَأْتِي عِنْدَ وَفَاةِ عَمْرٍو مِنْ " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مَا
يَشْهَدُ لِسِيَاقِ إِسْلَامِهِ، وَكَيْفِيَّةِ حُسْنِ صُحْبَتِهِ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَكَيْفَ مَاتَ
وَهُوَ يَتَأَسَّفُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فِي مُدَّةِ مُبَاشَرَتِهِ
الْإِمَارَةَ بَعْدَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَصِفَةُ مَوْتِهِ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
طَرِيقُ إِسْلَامِ
خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ
خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ بِي مَا أَرَادَ مِنَ
الْخَيْرِ، قَذَفَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامَ، وَحَضَرَنِي رُشْدِي، فَقُلْتُ: قَدْ
شَهِدْتُ هَذِهِ الْمَوَاطِنَ كُلَّهَا عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَلَيْسَ فِي مَوْطِنٍ أَشْهَدُهُ إِلَّا أَنْصَرِفُ وَأَنَا أَرَى فِي
نَفْسِي أَنِّي مَوْضِعٌ فِي غَيْرِ شَيْءٍ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا سَيَظْهَرُ،
فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ
خَرَجْتُ فِي خَيْلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ بَعُسْفَانَ، فَقُمْتُ بِإِزَائِهِ
وَتَعَرَّضْتُ لَهُ، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الظُّهْرَ أَمَامَنَا، فَهَمَمْنَا
أَنْ نُغِيرَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ لَمْ يُعْزَمْ لَنَا - وَكَانَتْ فِيهِ خِيَرَةٌ -
فَاطَّلَعَ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِنَا مِنَ الْهَمِّ بِهِ، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ
صَلَاةَ الْعَصْرِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَوَقْعَ ذَلِكَ مِنَّا مَوْقِعًا،
وَقُلْتُ: الرَّجُلُ مَمْنُوعٌ فَاعْتَزَلَنَا وَعَدَلَ عَنْ سَنَنِ خَيْلِنَا،
وَأَخَذَ ذَاتَ الْيَمِينِ، فَلَمَّا صَالَحَ قُرَيْشًا بِالْحُدَيْبِيَةَ،
وَدَافَعَتْهُ قُرَيْشٌ بِالرَّاحِ، قَلْتُ فِي نَفْسِي: أَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ ؟
أَيْنَ الْمَذْهَبُ ؟ إِلَى
النَّجَاشِيِّ ؟ فَقَدِ اتَّبَعَ مُحَمَّدًا، وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ آمِنُونَ، فَأَخْرُجُ إِلَى هِرَقْلَ ؟ فَأَخْرُجُ مِنْ دِينِي إِلَى نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ يَهُودِيَّةٍ، فَأُقِيمُ فِي عَجَمٍ تَابِعًا، فَأُقِيمُ فِي دَارِي فِيمَنْ بَقِيَ ؟ فَأَنَا فِي ذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، فَتَغَيَّبْتُ وَلَمْ أَشْهَدْ دُخُولَهُ، وَكَانَ أَخِي الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَدْ دَخَلَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، فَطَلَبَنِي فَلَمْ يَجِدْنِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ كِتَابًا، فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ أَعْجَبَ مِنْ ذَهَابِ رَأْيِكَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَعَقْلُكَ عَقْلُكَ! وَمِثْلُ الْإِسْلَامِ جَهِلَهُ أَحَدٌ ؟! وَقَدْ سَأَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْكَ، وَقَالَ: " أَيْنَ خَالِدٌ ؟ " فَقُلْتُ: يَأْتِي اللَّهُ بِهِ. فَقَالَ: " مَا مِثْلُهُ جَهِلَ الْإِسْلَامَ، وَلَوْ كَانَ جَعَلَ نِكَايَتَهُ وَحَدَّهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَقَدَّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ ". فَاسْتَدْرِكْ يَا أَخِي مَا قَدْ فَاتَكَ، فَقَدْ فَاتَكَ مَوَاطِنُ صَالِحَةٌ. قَالَ: فَلَمَّا جَاءَنِي كِتَابُهُ نَشِطْتُ لِلْخُرُوجِ، وَزَادَنِي رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، وَسَرَّنِي سُؤَالُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِّي، وَأَرَى فِي النَّوْمِ كَأَنِّي فِي بِلَادٍ ضَيِّقَةٍ مُجْدِبَةٍ، فَخَرَجْتُ إِلَى بِلَادٍ خَضْرَاءَ وَاسِعَةٍ، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذِهِ لَرُؤْيَا فَلَمَّا أَنْ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ قُلْتُ: لَأَذْكُرَنَّهَا لِأَبِي بَكْرٍ. فَقَالَ: مَخْرَجُكَ الذى هَدَاكَ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ، وَالضِّيقُ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ. قَالَ: فَلَمَّا أَجْمَعْتُ الْخُرُوجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: مَنْ أُصَاحِبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَلَقِيتُ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ،
فَقُلْتُ: يَا أَبَا وَهْبٍ، أَمَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، إِنَّمَا نَحْنُ أَكَلَةُ رَأْسٍ، وَقَدْ ظَهَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَلَوْ قَدِمْنَا عَلَى مُحَمَّدٍ وَاتَّبَعْنَاهُ، فَإِنَّ شَرَفَ مُحَمَّدٍ لَنَا شَرَفٌ. فَأَبَى أَشَدَّ الْإِبَاءِ، فَقَالَ: لَوْ لَمْ يَبْقَ غَيْرِي مَا اتَّبَعْتُهُ أَبَدًا. فَافْتَرَقْنَا، وَقُلْتُ: هَذَا رَجُلٌ قُتِلَ أَخُوهُ وَأَبُوهُ بِبَدْرٍ. فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ، فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ مَا قُلْتُ لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، قَلْتُ: فَاكْتُمْ عَلَيَّ. قَالَ: لَا أَذْكُرُهُ. فَخَرَجْتُ إِلَى مَنْزِلِي، فَأَمَرْتُ بِرَاحِلَتِي، فَخَرَجْتُ بِهَا إِلَى أَنْ لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا لِي صَدِيقٌ، فَلَوْ ذَكَرْتُ لَهُ مَا أَرْجُو. ثُمَّ ذَكَرْتُ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِهِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُذَكِّرَهُ، ثُمَّ قُلْتُ: وَمَا عَلَيَّ وَأَنَا رَاحِلٌ مِنْ سَاعَتِي. فَذَكَرْتُ لَهُ مَا صَارَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا نَحْنُ بِمَنْزِلَةِ ثَعْلَبٍ فِي جُحْرٍ، لَوْ صُبَّ فِيهِ ذَنُوبٌ مِنْ مَاءٍ لَخَرَجَ. وَقُلْتُ لَهُ نَحْوًا مِمَّا قُلْتُ لِصَاحِبِي، فَأَسْرَعَ الْإِجَابَةَ، وَقَالَ: إِنِّي غَدَوْتُ الْيَوْمَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْدُوَ، وَهَذِهِ رَاحِلَتِي بِفَخٍّ مُنَاخَةٍ. قَالَ: فَاتَّعَدْتُ أَنَا وَهُوَ يَأْجَجَ، إِنْ سَبَقَنِي أَقَامَ، وَإِنْ سَبَقْتُهُ أَقَمْتُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَدْلَجْنَا سَحَرًا، فَلَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ حَتَّى الْتَقَيْنَا بِيَأْجَجَ، فَغَدَوْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الْهَدَةِ، فَنَجِدُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بِهَا فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ، فَقُلْنَا: وَبِكَ. فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ مَسِيرُكُمْ ؟ فَقُلْنَا: وَمَا أَخْرَجَكَ. فَقَالَ: وَمَا أَخْرَجَكُمْ ؟ قُلْنَا: الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعُ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَذَاكَ الَّذِي أَقْدَمَنِي. فَاصْطَحَبْنَا جَمِيعًا حَتَّى دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ، فَأَنَخْنَا بِظَهْرِ الْحَرَّةِ رِكَابَنَا، فَأُخْبِرَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسُرَّ بِنَا، فَلَبِسْتُ مِنْ صَالِحِ ثِيَابِي، ثُمَّ عَمَدْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيَنِي أَخِي، فَقَالَ: أَسْرِعْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُخْبِرَ بِكَ، فَسُرَّ بِقُدُومِكَ، وَهُوَ يَنْتَظِرُكُمْ. فَأَسْرَعْنَا الْمَشْيَ، فَاطَّلَعْتُ عَلَيْهِ، فَمَا زَالَ يَتَبَسَّمُ إِلَيَّ حَتَّى وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، فَقُلْتُ: إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ: " تَعَالَ ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ، قَدْ كُنْتُ أَرَى لَكَ عَقْلًا رَجَوْتُ أَنْ لَا يُسْلِمَكَ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ رَأَيْتَ مَا كُنْتُ أَشْهَدُ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ عَلَيْكَ مُعَانِدًا لِلْحَقِّ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَهَا لِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ كُلَّ مَا أَوْضَعَ فِيهِ مِنْ صَدٍّ عَنْ سَبِيلِكَ ". قَالَ خَالِدٌ: وَتَقَدَّمَ عُثْمَانُ وَعَمْرٌو فَبَايَعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَكَانَ قُدُومُنَا فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْدِلُ بِي أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِيمَا حَزَبَهُ.
سَرِيَّةُ شُجَاعِ بْنِ
وَهْبٍ الْأَسَدِيِّ إِلَى نَفَرٍ مِنْ هَوَازِنَ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: بَعَثَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ فِي
أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا إِلَى جَمْعٍ مِنْ هَوَازِنَ، وَأَمَرَهُ أَنْ
يُغِيرَ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ وَكَانَ يَسِيرُ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُ النَّهَارَ،
حَتَّى صَبَّحَهُمْ غَارِّينَ، وَقَدْ أَوْعَزَ إِلَى أَصْحَابِهِ أَنْ لَا
يُمْعِنُوا فِي الطَّلَبِ، فَأَصَابُوا نَعَمًا كَثِيرًا وَشَاءً، فَاسْتَاقُوا
ذَلِكَ حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، فَكَانَتْ سِهَامُهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ
بَعِيرًا، كُلَّ رَجُلٍ.
وَزَعَمَ غَيْرُهُ أَنَّهُمْ أَصَابُوا سَبْيًا أَيْضًا، وَأَنَّ الْأَمِيرَ
اصْطَفَى مِنْهُ جَارِيَةً وَضِيئَةً، ثُمَّ قَدِمَ أَهْلُوهُمْ مُسْلِمِينَ،
فَشَاوَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِيرَهُمْ فِي
رَدِّهِنَّ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: نَعَمْ. فَرَدُّوهُنَّ، وَخَيَّرَ الَّتِي
عِنْدَهُ فَاخْتَارَتِ الْمُقَامَ عِنْدَهُ.
وَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ
السَّرِيَّةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِيمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، عَنْ مَالِكٍ،
عَنْ نَافِعٍ،عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَكَانَ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ قَالَ: فَأَصَبْنَا إِبِلًا كَثِيرًا، فَبَلَغَتْ سِهَامُنَا اثْنَيْ
عَشَرَ بَعِيرًا، وَنَفَّلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَعِيرًا بَعِيرًا. أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ
مَالِكٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، وَمِنْ حَدِيثِ
عُبَيْدِ اللَّهِ، كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إِلَى نَجْدٍ، فَخَرَجْتُ فِيهَا،
فَأَصَبْنَا نَعَمًا كَثِيرًا، فَنَفَّلَنَا أَمِيرُنَا بَعِيرًا بَعِيرًا لِكُلِّ
إِنْسَانٍ، ثُمَّ قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَسَمَ بَيْنِنَا غَنِيمَتَنَا، فَأَصَابَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا
اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا بَعْدَ الْخُمُسِ، وَمَا حَاسَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي أَعْطَانَا صَاحِبُنَا، وَلَا عَابَ
عَلَيْهِ مَا صَنَعَ، فَكَانَ لِكُلٍّ مِنَّا ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا
بِنَفْلِهِ.
سَرِيَّةُ كَعْبِ بْنِ
عُمَيْرٍ إِلَى بَنِي قُضَاعَةَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَعْبَ بْنَ عُمَيْرٍ الْغِفَارِيَّ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، حَتَّى
انْتَهَوْا إِلَى ذَاتِ أَطْلَاحٍ مِنَ الشَّامِ، فَوَجَدُوا جَمْعًا مِنْ
جَمْعِهِمْ كَثِيرًا، فَدَعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا
لَهُمْ وَرَشَقُوهُمْ بِالنَّبْلِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَاتَلُوهُمْ أَشَدَّ الْقِتَالِ حَتَّى
قُتِلُوا، فَأَفْلَتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ جَرِيحٌ فِي الْقَتْلَى، فَلَمَّا أَنْ
بَرَدَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ تَحَامَلَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَمَّ بِالْبَعْثَةِ إِلَيْهِمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّهُمْ
سَارُوا إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ.
غَزْوَةُ مُؤْتَةَ
وَهِيَ سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فِي نَحْوٍ مَنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ، إِلَى
الْبَلْقَاءِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بَعْدَ قِصَّةِ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ: فَأَقَامَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ بَقِيَّةَ ذِي
الْحِجَّةِ - وَوَلِيَ تِلْكَ الْحِجَّةَ الْمُشْرِكُونَ - وَالْمُحَرَّمَ
وَصَفَرًا وَشَهْرَيْ رَبِيعٍ، وَبَعَثَ فِي جُمَادَى الْأُولَى بَعْثَهُ إِلَى
الشَّامِ، الَّذِينَ أُصِيبُوا بِمُؤْتَةَ، فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ
بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثَهُ إِلَى مُؤْتَةَ فِي جُمَادَى
الْأُولَى مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ،
وَقَالَ: " إِنْ أُصِيبَ زَيْدٌ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى
النَّاسِ، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ عَلَى
النَّاسِ ". فَتَجَهَّزَ النَّاسُ ثُمَّ تَهَيَّئُوا لِلْخُرُوجِ، وَهُمْ
ثَلَاثَةُ آلَافٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْحَكَمِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ النُّعْمَانُ بْنُ فُنْحُصٍ الْيَهُودِيُّ،
فَوَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَعَ النَّاسِ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ
أَمِيرُ النَّاسِ، فَإِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنْ
قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَإِنْ قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ رَوَاحَةَ فَلْيَرْتَضِ الْمُسْلِمُونَ بَيْنَهُمْ رَجُلًا، فَلْيَجْعَلُوهُ عَلَيْهِمْ
". فَقَالَ النُّعْمَانُ: أَبَا الْقَاسِمِ، إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا، فَلَوْ
سَمَّيْتَ مَنْ سَمَّيْتَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، أُصِيبُوا جَمِيعًا، إِنَّ
الْأَنْبِيَاءَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا إِذَا سَمَّوُا الرَّجُلَ عَلَى
الْقَوْمِ، فَقَالُوا: إِنْ أُصِيبَ فُلَانٌ فَفُلَانٌ، فَلَوْ سَمَّوْا مِائَةً
أُصِيبُوا جَمِيعًا. ثُمَّ جَعَلَ الْيَهُودِيُّ يَقُولُ لِزَيْدٍ: اعْهَدْ
فَإِنَّكَ لَا تَرْجِعُ أَبَدًا، إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا. فَقَالَ زَيْدٌ:
أَشْهَدُ أَنَّهُ نَبِيٌّ صَادِقٌ بَارٌّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا حَضَرَ خُرُوجُهُمْ، وَدَّعَ النَّاسُ أُمَرَاءَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمُوا عَلَيْهِمْ،
فَلَمَّا وُدِّعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ مَعَ مَنْ وُدِّعَ بَكَى،
فَقَالُوا: مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ ؟ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا بِي
حُبُّ الدُّنْيَا وَلَا صَبَابَةٌ بِكُمْ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ يَذْكُرُ
فِيهَا النَّارَ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا
مَقْضِيًّا ( مَرْيَمَ: 71 )، فَلَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ لِي بِالصَّدَرِ بَعْدَ
الْوُرُودِ ؟ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: صَحِبَكُمُ اللَّهُ وَدَفَعَ عَنْكُمْ،
وَرَدَّكُمْ إِلَيْنَا صَالِحِينَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ:
لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ
الزَّبَدَا
أَوْ طَعْنَةً بِيَدَيْ
حَرَّانَ مُجْهِزَةً
بِحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الْأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا حَتَّى يُقَالَ إِذَا مَرُّوا
عَلَى جَدَثِي
أَرْشَدَهُ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ تَهَيَّئُوا لِلْخُرُوجِ، فَأَتَى
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَوَدَّعَهُ ثُمَّ قَالَ:
فَثَبَّتَ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا كَالَّذِي
نُصِرُوا
إِنِّي تَفَرَّسْتُ فِيكَ الْخَيْرَ نَافِلَةً اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي ثَابِتُ
الْبَصَرِ
أَنْتَ الرَّسُولُ فَمَنْ يُحْرَمْ نَوَافِلَهُ وَالْوَجْهَ مِنْهُ فَقَدْ أَزْرَى
بِهِ الْقَدَرُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ الْقَوْمُ وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَيِّعُهُمْ، حَتَّى إِذَا وَدَّعَهُمْ وَانْصَرَفَ
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ:
خَلَفَ السَّلَامُ عَلَى امْرِئٍ وَدَّعْتُهُ فِي النَّخْلِ خَيْرِ مُشَيِّعٍ
وَخَلِيلِ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا
أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَعَثَ
إِلَى مُؤْتَةَ
فَاسْتَعْمَلَ زَيْدًا، فَإِنَّ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، فَإِنَّ قُتِلَ
جَعْفَرٌ فَابْنُ رَوَاحَةَ، فَتَخَلَّفَ ابْنُ رَوَاحَةَ، فَجَمَّعَ مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَآهُ فَقَالَ: " مَا
خَلَّفَكَ ؟ " فَقَالَ: أُجَمِّعُ مَعَكَ. قَالَ: " لَغَدْوَةٌ أَوْ
رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ".
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، ثَنَا الْحَجَّاجُ، عَنِ الْحَكَمِ،
عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فِي سَرِيَّةٍ، فَوَافَقَ
ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. قَالَ: فَقَدِمَ أَصْحَابَهُ، وَقَالَ: أَتَخَلَّفُ
فَأُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَةَ،
ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ. قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَآهُ فَقَالَ: " مَا مَنَعَكَ أَنْ تَغْدُوَ مَعَ أَصْحَابِكَ ؟
" قَالَ: فَقَالَ أَرَدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ مَعَكَ الْجُمُعَةَ، ثُمَّ
أَلْحَقُهُمْ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَدْرَكْتَ غَدْوَتَهُمْ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ،
عَنِ الْحَجَّاجِ - وَهُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ - ثُمَّ عَلَّلَهُ التِّرْمِذِيُّ
بِمَا حَكَاهُ عَنْ شُعْبَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَسْمَعِ الْحَكَمُ عَنْ
مِقْسَمٍ إِلَّا خَمْسَةَ أَحَادِيثَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا.
قُلْتُ: وَالْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ فِي رِوَايَتِهِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ، أَنَّهُ يَقْتَضِي
أَنَّ خُرُوجَ الْأُمَرَاءِ إِلَى مُؤْتَةَ كَانَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ مَضَوْا حَتَّى نَزَلُوا مَعَانٍ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فَبَلَغَ النَّاسَ أَنَّ هِرَقْلَ قَدْ نَزَلَ مَآبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ، فِي مِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الرُّومِ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامٍ وَالْقَيْنِ وَبَهْرَاءَ وَبَلِيٍّ مِائَةُ أَلْفٍ مِنْهُمْ، عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنَ بَلِيٍّ، ثُمَّ أَحَدُ إِرَاشَةَ، يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ زَافِلَةَ - وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَبَلَغَهُمْ أَنَّ هِرَقْلَ نَزَلَ بِمَآبَ، فِي مِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الرُّومِ وَمِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْمُسْتَعْرِبَةِ. وَقِيلَ: كَانَ الرُّومُ مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَمَنْ عَدَاهُمْ خَمْسُونَ أَلْفًا. وَأَقَلُّ مَا قِيلَ: إِنَّ الرُّومَ كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ، وَمِنَ الْعَرَبِ خَمْسُونَ أَلْفًا. حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ - فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ أَقَامُوا عَلَى مَعَانٍ لَيْلَتَيْنِ يَنْظُرُونَ فِي أَمْرِهِمْ، وَقَالُوا: نَكْتُبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخْبِرُهُ بِعَدَدِ عَدُّونَا، فَإِمَّا أَنْ يَمُدَّنَا بِالرِّجَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَنَا بِأَمْرِهِ فَنَمْضِيَ لَهُ. قَالَ: فَشَجَّعَ النَّاسَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَقَالَ: يَا قَوْمِ، وَاللَّهِ إِنَّ الَّتِي تَكْرَهُونَ لَلَّتِي خَرَجْتُمْ تَطْلُبُونَ، الشَّهَادَةُ، وَمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ بِعَدَدٍ وَلَا قُوَّةٍ وَلَا كَثْرَةٍ، مَا نُقَاتِلُهُمْ إِلَّا بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِهِ، فَانْطَلِقُوا فَإِنَّمَا هِيَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إِمَّا ظُهُورٌ وَإِمَّا شَهَادَةٌ. قَالَ: فَقَالَ
النَّاسُ: قَدْ وَاللَّهِ
صَدَقَ ابْنُ رَوَاحَةَ. فَمَضَى النَّاسُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ
فِي مَحْبِسِهِمْ ذَلِكَ:
جَلَبْنَا الْخَيْلَ مِنْ أَجَأٍ وَفَرْعٍ تُغَرُّ مِنَ الْحَشِيشِ لَهَا
الْعُكُومُ
حَذَوْنَاهَا مِنَ الصَّوَّانِ سِبْتًا أَزَلَّ كَأَنَّ صَفْحَتَهُ أَدِيمُ
أَقَامَتْ لَيْلَتَيْنِ عَلَى مَعَانٍ فَأُعْقِبَ بَعْدَ فَتْرَتِهَا جُمُومُ
فَرُحْنَا وَالْجِيَادُ مُسَوَّمَاتٌ تَنَفَّسُ فِي مَنَاخِرِهَا السَّمُومُ
فَلَا وَأَبِي مَآبَ لَنَأْتِيَنْهَا وَإِنْ كَانَتْ بِهَا عَرَبٌ وَرُومُ
فَعَبَّأْنَا أَعِنَّتَهَا فَجَاءَتْ عَوَابِسَ وَالْغُبَارُ لَهَا بَرِيمُ
بِذِي لَجَبٍ كَأَنَّ الْبِيضَ فِيهِ إِذَا بَرَزَتْ قَوَانِسُهَا النُّجُومُ
فَرَاضِيَةُ الْمَعِيشَةِ
طَلَّقَتْهَا
أَسِنَّتُنَا فَتَنْكِحُ أَوْ تَئِيمُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ
حَدَّثَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنْتُ يَتِيمًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
رَوَاحَةَ فِي حِجْرِهِ، فَخَرَجَ بِي فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ، مُرْدِفِي عَلَى
حَقِيبَةِ رَحْلِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَيَسِيرُ لَيْلَةً إِذْ سَمِعْتُهُ
وَهُوَ يُنْشِدُ أَبْيَاتَهُ هَذِهِ:
إِذَا أَدَّيْتِنِي وَحَمَلْتِ رَحْلِي مَسِيرَةَ أَرْبَعٍ بَعْدَ الْحِسَاءِ
فَشَأْنُكِ أَنْعُمٌ وَخَلَاكِ ذَمٌّ وَلَا أَرْجِعْ إِلَى أَهْلِي وَرَائِي
وَجَاءَ الْمُسْلِمُونَ وَغَادَرُونِي بِأَرْضِ الشَّامِ مُشْتَهِيَ الثَّوَاءِ
وَرَدَّكَ كُلُّ ذِي نَسَبٍ قَرِيبٍ إِلَى الرَّحْمَنِ مُنْقَطِعَ الْإِخَاءِ
هُنَالِكَ لَا أُبَالِي طَلْعَ بَعْلٍ وَلَا نَخْلٍ أَسَافِلُهَا رِوَاءِ
قَالَ: فَلَمَّا
سَمِعْتُهُنَّ مِنْهُ بَكَيْتُ، فَخَفَقَنِي بِالدِّرَّةِ وَقَالَ: مَا عَلَيْكَ
يَا لُكَعُ أَنْ يَرْزُقَنِي اللَّهُ الشَّهَادَةَ، وَتَرْجِعَ بَيْنَ شُعْبَتَيِ
الرَّحْلِ ؟! ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فِي بَعْضِ سَفَرِهِ
ذَلِكَ وَهُوَ يَرْتَجِزُ:
يَا زَيْدُ زَيْدَ الْيَعْمَلَاتِ الذُّبَّلِ تَطَاوَلَ اللَّيْلُ هُدِيتَ
فَانْزِلِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ مَضَى النَّاسُ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِتُخُومِ
الْبَلْقَاءِ لَقِيَتْهُمْ جُمُوعُ هِرَقْلَ مِنَ الرُّومِ وَالْعَرَبِ،
بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْبَلْقَاءِ يُقَالُ لَهَا: مَشَارِفُ. ثُمَّ دَنَا
الْعَدُوُّ، وَانْحَازَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: مُؤْتَةُ.
فَالتَقَى النَّاسُ عِنْدَهَا، فَتَعَبَّأَ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَجَعَلُوا
عَلَى مَيْمَنَتِهِمْ رَجُلًا مِنْ بَنِي عُذْرَةَ يُقَالُ لَهُ: قُطْبَةُ بْنُ
قَتَادَةَ. وَعَلَى مَيْسَرَتِهِمْ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ:
عَبَايَةُ بْنُ مَالِكٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنِ
الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: شَهِدْتُ مُؤْتَةَ، فَلَمَّا دَنَا
مِنَّا الْمُشْرِكُونَ، رَأَيْنَا مَا لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ بِهِ، مِنَ الْعُدَّةِ،
وَالسِّلَاحِ، وَالْكُرَاعِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْحَرِيرِ، وَالذَّهَبِ، فَبَرِقَ
بَصَرِي، فَقَالَ لِي ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، كَأَنَّكَ
تَرَى جُمُوعًا كَثِيرَةً! قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَشْهَدْ مَعَنَا
بَدْرًا، إِنَّا لَمْ نُنْصَرْ بِالْكَثْرَةِ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
ثُمَّ الْتَقَى النَّاسُ فَاقْتَتَلُوا، فَقَاتَلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ
بِرَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى شَاطَ فِي
رِمَاحِ الْقَوْمِ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ، فَقَاتَلَ بِهَا، حَتَّى إِذَا
أَلْحَمَهُ الْقِتَالُ، اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ فَعَقَرَهَا، ثُمَّ
قَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ فَكَانَ جَعْفَرٌ أَوَّلَ رَجُلٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ عَقَرَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ، حَدَّثَنِي أَبِي الَّذِي أَرْضَعَنِي،
وَكَانَ أَحَدَ بَنِي مُرَّةَ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ
غَزْوَةِ مُؤْتَةَ قَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى جَعْفَرٍ حِينَ
اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ ثُمَّ عَقَرَهَا، ثُمَّ قَاتَلَ الْقَوْمَ
حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ يَقُولُ:
يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا طَيِّبَةً وَبَارِدًا شَرَابُهَا
وَالرُّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا كَافِرَةٌ بَعِيدَةٌ أَنْسَابُهَا
عَلَيَّ إِنْ لَاقَيْتُهَا ضِرَابُهَا
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ،
وَلَمْ يَذْكُرِ الشِّعْرَ
. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ
مَنْ جَوَّزَ قَتْلَ الْحَيَوَانِ خَشْيَةَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ الْعَدُوُّ،
كَمَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْأَغْنَامِ إِذَا لَمْ تَتْبَعْ فِي
السَّيْرِ، وَيُخْشَى مِنْ لُحُوقِ الْعَدُوِّ لَهَا وَانْتِفَاعِهِمْ بِهَا،
أَنَّهَا تُذْبَحُ وَتُحَرَّقُ، لِيُحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ عَلَى جَعْفَرٍ، فَدَلَّ عَلَى
جَوَازِهِ إِذَا خِيفَ أَخْذُ الْعَدُوِّ لَهُ، وَلَا يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي
النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْحَيَوَانِ عَبَثًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ
جَعْفَرًا أَخَذَ اللِّوَاءِ بِيَمِينِهِ فَقُطِعَتْ، فَأَخَذَهُ بِشَمَالِهِ
فَقُطِعَتْ، فَاحْتَضَنَهُ بِعَضُدَيْهِ، حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ
وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَأَثَابَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ جَنَاحَيْنِ فِي الْجَنَّةِ
يَطِيرُ بِهِمَا حَيْثُ شَاءَ، وَيُقَالُ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الرُّومِ ضَرَبَهُ
يَوْمَئِذٍ ضَرْبَةً فَقَطَعَهُ بِنِصْفَيْنِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي الَّذِي
أَرْضَعَنِي، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي مُرَّةَ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: فَلَمَّا قُتِلَ
جَعْفَرٌ، أَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ الرَّايَةَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ
بِهَا وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ، فَجَعَلَ يَسْتَنْزِلُ نَفْسَهُ، وَيَتَرَدَّدُ
بَعْضَ التَّرَدُّدِ، ثُمَّ قَالَ:
أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلِنَّهْ لَتَنْزِلِنَّ أَوْ لَتُكْرَهِنَّهْ
إِنْ أَجْلَبَ النَّاسُ
وَشَدُّوا الرَّنَّهْ مَا لِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الْجَنَّهْ
قَدْ طَالَ مَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّهْ هَلْ أَنْتِ إِلَّا نُطْفَةٌ فِي
شَنَّهْ
وَقَالَ أَيْضًا:
يَا نَفْسُ إِنْ لَا تُقْتَلِي تَمُوتِي هَذَا حِمَامُ الْمَوْتِ قَدْ صَلِيتِ
وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيتِ إِنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا هُدِيتِ
يُرِيدُ صَاحِبَيْهِ، زَيْدًا وَجَعْفَرًا، ثُمَّ نَزَلَ، فَلَمَّا نَزَلَ أَتَاهُ
ابْنُ عَمٍّ لَهُ بِعَرْقٍ مِنْ لَحَمَ فَقَالَ: شُدَّ بِهَذَا صُلْبَكَ،
فَإِنَّكَ قَدْ لَقِيتَ فِي أَيَّامِكَ هَذِهِ مَا لَقِيتَ. فَأَخَذَهُ مِنْ
يَدِهِ، فَانْتَهَسَ مِنْهُ نَهْسَةً، ثُمَّ سَمِعَ الْحَطْمَةَ فِي نَاحِيَةِ
النَّاسِ فَقَالَ: وَأَنْتَ فِي الدُّنْيَا ؟! ثُمَّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ
أَخَذَ سَيْفَهُ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ. قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ، أَخُو بَنِي
الْعَجْلَانِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، اصْطَلِحُوا عَلَى رَجُلٍ
مِنْكُمْ. قَالُوا: أَنْتَ. قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. فَاصْطَلَحَ النَّاسُ
عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَلَمَّا أَخَذَ الرَّايَةَ دَافَعَ الْقَوْمَ
وَحَاشَى بِهِمْ، ثُمَّ انْحَازَ وَانْحِيزَ عَنْهُ حَتَّى انْصَرَفَ بِالنَّاسِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا أُصِيبَ الْقَوْمُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنِي
:أَخَذَ الرَّايَةَ
زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَقَاتَلَ بِهَا حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا، ثُمَّ أَخَذَهَا
جَعْفَرٌ، فَقَاتَلَ بِهَا حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا ". قَالَ: ثُمَّ صَمَتَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَغَيَّرَتْ وُجُوهُ
الْأَنْصَارِ، وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ
بَعْضُ مَا يَكْرَهُونَ، ثُمَّ قَالَ: " ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
رَوَاحَةَ فَقَاتَلَ بِهَا حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا " ثُمَّ قَالَ: "
لَقَدْ رُفِعُوا إِلَيَّ فِي الْجَنَّةِ، فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، عَلَى سُرُرٍ
مِنْ ذَهَبٍ، فَرَأَيْتُ فِي سَرِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ ازْوِرَارًا
عَنْ سَرِيرَيْ صَاحِبَيْهِ، فَقُلْتُ: عَمَّ هَذَا ؟ " فَقِيلَ لِي:
مَضَيَا، وَتَرَدَّدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَعْضَ التَّرَدُّدِ ثُمَّ
مَضَى هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ هَذَا مُنْقَطِعًا.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ وَاقِدٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ
زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى زَيْدًا
وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ،
فَقَالَ: أَخْذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ
فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ - وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ
- حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ، وَرَوَاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَقَالَ
فِيهِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: " وَمَا
يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ
عِنْدَنَا ".
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، ثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ - الْمَخْزُومِيُّ، وَلَيْسَ بِالْحِزَامِيِّ - عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ،عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:
أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ
زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ
فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ " قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كُنْتُ فِيهِمْ فِي
تِلْكَ الْغَزْوَةِ، فَالْتَمَسْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَوَجَدْنَاهُ
فِي الْقَتْلَى، وَوَجَدْنَا فِي جَسَدِهِ بِضْعًا وَتِسْعِينَ مِنْ طَعْنَةٍ
وَرَمْيَةٍ. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ
عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ - وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ
اللَّيْثِيُّ - قَالَ: وَأَخْبَرَنِي نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ
أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ قَتِيلٌ،
فَعَدَدْتُ بِهِ
خَمْسِينَ، بَيْنَ
طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ، لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ فِي دُبُرِهِ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ
أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ. وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ
وَالَّتِي قَبْلَهَا، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اطَّلَعَ
عَلَى هَذَا الْعَدَدِ، وَغَيْرَهُ اطَّلَعَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. أَوْ
أَنَّ هَذِهِ فِي قُبُلِهِ أُصِيبَهَا قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ، فَلَمَّا صُرِعَ
إِلَى الْأَرْضِ ضَرَبُوهُ أَيْضًا ضَرَبَاتٍ فِي ظَهْرِهِ، فَعَدَّ ابْنُ عُمَرَ
مَا كَانَ فِي قُبُلِهِ وَهُوَ فِي وُجُوهِ الْأَعْدَاءِ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَمِمَّا يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ مِنْ قَطْعِ يَمِينِهِ وَهِيَ
مُمْسِكَةٌ اللِّوَاءَ، ثُمَّ شِمَالِهِ، مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ أَبِي بَكْرٍ، ثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي
خَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا حَيَّا ابْنَ جَعْفَرٍ
قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ ذِي الْجَنَاحَيْنِ. وَرَوَاهُ أَيْضًا فِي
الْمَنَاقِبِ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ
الْوَلِيدِ يَقُولُ: لَقَدِ انْقَطَعَتْ فِي يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ
أَسْيَافٍ، فَمَا بَقِيَ فِي يَدِي إِلَّا صَفِيحَةٌ يَمَانِيَةٌ
.
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ،
حَدَّثَنِي قَيْسٌ سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ يَقُولُ: لَقَدْ دُقَّ فِي
يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، وَصَبَرَتْ فِي يَدِي صَفِيحَةٌ
يَمَانِيَةٌ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ
قَتَادَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، ثَنَا أَبُو خَلِيفَةَ
الْفَضْلُ بْنُ الْحُبَابِ الْجُمَحِيُّ، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا
الْأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سُمَيْرٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبَاحٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ تُفَقِّهُهُ،
فَغَشِيَهُ النَّاسُ، فَغَشِيتُهُ فِي مَنْ غَشِيَهُ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو
قَتَادَةَ، فَارِسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشَ
الْأُمَرَاءِ، وَقَالَ: " عَلَيْكُمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ
زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ
". قَالَ: فَوَثَبَ جَعْفَرٌ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كُنْتُ
أَرْهَبُ أَنْ تَسْتَعْمِلَ زَيْدًا عَلَيَّ. قَالَ: " امْضِ، فَإِنَّكَ لَا
تَدْرِي أَيُّ ذَلِكَ خَيْرٌ " فَانْطَلَقُوا، فَلَبِثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ،
فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ،
فَأَمَرَ فَنُودِيَ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أُخْبِرُكُمْ عَنْ
جَيْشِكُمْ هَذَا، إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا فَلَقُوا الْعَدُوَّ، فَقُتِلَ زَيْدٌ
شَهِيدًا - فَاسْتَغْفَرَ لَهُ - ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ جَعْفَرٌ، فَشَدَّ عَلَى
الْقَوْمِ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا - شَهِدَ لَهُ بِالشَّهَادَةِ وَاسْتَغْفَرَ
لَهُ - ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَأَثْبَتَ
قَدَمَيْهِ حَتَّى
قُتِلَ شَهِيدًا -
فَاسْتَغْفَرَ لَهُ - ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَلَمْ
يَكُنْ مِنَ الْأُمَرَاءِ، هُوَ أَمَّرَ نَفْسَهُ " ثُمَّ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ إِنَّهُ سَيْفٌ
مِنْ سُيُوفِكَ، فَأَنْتَ تَنْصُرُهُ ". فَمِنْ يَوْمَئِذٍ سُمِّيَ خَالِدٌ
سَيْفَ اللَّهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمُبَارَكِ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ شَيْبَانَ، بِهِ نَحْوَهُ. وَفِيهِ زِيَادَةٌ
حَسَنَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا اجْتَمَعَ
إِلَيْهِ النَّاسُ قَالَ: " ثَابَ خَبَرٌ، ثَابَ خَبَرٌ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عِمَارَةَ بْنِ
غَزِيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ
قَالَ: لَمَّا الْتَقَى النَّاسُ بِمُؤْتَةَ، جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَكَشَفَ اللَّهُ لَهُ مَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّامِ، فَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى مُعْتَرَكِهِمْ، فَقَالَ:
" أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ، فَحَبَّبَ
إِلَيْهِ الْحَيَاةَ، وَكَرَّهَ إِلَيْهِ الْمَوْتَ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِ
الدُّنْيَا، فَقَالَ: الْآنَ حِينَ اسْتَحْكَمَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِ
الْمُؤْمِنِينَ، تُحَبِّبُ إِلَيَّ الدُّنْيَا ؟! فَمَضَى قُدُمًا حَتَّى
اسْتُشْهِدَ " فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَالَ: " اسْتَغْفِرُوا لَهُ، فَقَدْ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ
يَسْعَى.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمَّا قُتِلَ زَيْدٌ أَخَذَ
الرَّايَةَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَجَاءَهُ الشَّيْطَانُ، فَحَبَّبَ إِلَيْهِ
الْحَيَاةَ، وَكَرَّهَ إِلَيْهِ الْمَوْتَ، وَمَنَّاهُ الدُّنْيَا، فَقَالَ:
الْآنَ حِينَ اسْتَحْكَمَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ تُمَنِّينِي
الدُّنْيَا ؟! ثُمَّ مَضَى قُدُمًا حَتَّى اسْتُشْهِدَ ". فَصَلَّى عَلَيْهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: "
اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، فَإِنَّهُ شَهِيدٌ، دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ يَطِيرُ
فِي الْجَنَّةِ بِجَنَاحَيْنِ مِنْ يَاقُوتٍ، حَيْثُ يَشَاءُ مِنَ الْجَنَّةِ
" قَالَ: " ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ،
فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ مُعْتَرَضًا " فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى
الْأَنْصَارِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا اعْتَرَضَهُ ؟ قَالَ: "
لَمَّا أَصَابَتْهُ الْجِرَاحُ نَكَلَ، فَعَاتَبَ نَفْسَهُ فَتَشَجَّعَ،
وَاسْتُشْهِدَ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ ". فَسُرِّيَ عَنْ قَوْمِهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ
الْفُضَيْلِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا أَخَذَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ
الرَّايَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ ".
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَحَدَّثَنِي الْعَطَّافُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ
ابْنُ رَوَاحَةَ مَسَاءً، بَاتَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ،
غَدَا وَقَدْ جَعَلَ مُقَدِّمَتَهُ سَاقَتَهُ، وَسَاقَتَهُ مُقَدِّمَتَهُ،
وَمَيْمَنَتَهُ مَيْسَرَتَهُ. قَالَ: فَأَنْكَرُوا مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ مِنْ
رَايَاتِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، وَقَالُوا: قَدْ جَاءَهُمْ مَدَدٌ. فَرُعِبُوا
وَانْكَشَفُوا مُنْهَزِمِينَ. قَالَ: فَقُتِلُوا مَقْتَلَةً لَمْ يُقْتَلْهَا
قَوْمٌ. وَهَذَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ،
فِي
" مَغَازِيهِ " فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ: ثُمَّ صَدَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَكَثَ بِهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ إِنَّهُ بَعَثَ جَيْشًا إِلَى مُؤْتَةَ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَقَالَ: " إِنْ أُصِيبَ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُهُمْ، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ أَمِيرُهُمْ ". فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا لَقُوا ابْنَ أَبِي سَبْرَةَ الْغَسَّانِيَّ بِمُؤْتَةَ، وَبِهَا جُمُوعٌ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ وَالرُّومِ، بِهَا تَنُوخُ وَبَهْرَاءُ، فَأَغْلَقَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ دُونَ الْمُسْلِمِينَ الْحِصْنَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ خَرَجُوا فَالْتَقَوْا عَلَى [ رَدْغٍ ] أَحْمَرَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَأَخَذَ اللِّوَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَقُتِلَ، ثُمَّ أَخَذَهُ جَعْفَرٌ فَقُتِلَ، ثُمَّ أَخَذَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقُتِلَ، ثُمَّ اصْطَلَحَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ أُمَرَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيِّ، فَهَزَمَ اللَّهُ الْعَدُوَّ، وَأَظْهَرَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: وَبَعَثَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُمَادَى الْأُولَى، يَعْنِي سَنَةَ ثَمَانٍ. قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَرَّ عَلَيَّ جَعْفَرٌ فِي الْمَلَائِكَةِ، يَطِيرُ كَمَا يَطِيرُونَ، وَلَهُ جَنَاحَانِ " قَالَ: وَزَعَمُوا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرِ أَهْلِ مُؤْتَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ شِئْتَ فَأَخْبِرْنِي، وَإِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ ". قَالَ: أَخْبِرْنِي يَا
رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:
فَأَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَهُمْ
كُلَّهُ، وَوَصَفَهُ لَهُمْ. فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا تَرَكْتَ
مِنْ حَدِيثِهِمْ حَرْفًا لَمْ تَذْكُرْهُ، وَإِنَّ أَمْرَهُمْ لَكَمَا ذَكَرْتَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ
رَفَعَ لِيَ الْأَرْضَ حَتَّى رَأَيْتُ مُعْتَرَكَهُمْ ".
فَهَذَا السِّيَاقُ فِيهِ فَوَائِدٌ كَثِيرَةٌ لَيْسَتْ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ،
وَفِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، مِنْ أَنَّ خَالِدًا
إِنَّمَا حَاشَى بِالْقَوْمِ، حَتَّى تَخَلَّصُوا مِنَ الرُّومِ وَعَرَبِ
النَّصَارَى فَقَطْ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَالْوَاقِدِيُّ مُصَرِّحَانِ
بِأَنَّهُمْ هَزَمُوا جُمُوعَ الرُّومِ وَالْعَرَبِ الَّذِينَ مَعَهُمْ، وَهُوَ
ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ
سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ ". رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ وَمَالَ إِلَيْهِ الْحَافِظُ
الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ حِكَايَةِ الْقَوْلَيْنِ، لِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْحَدِيثِ.
قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَبَيْنِ قَوْلِ
الْبَاقِينَ، وَهُوَ أَنَّ خَالِدًا لَمَّا أَخَذَ الرَّايَةَ حَاشَى بِالْقَوْمِ
الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى خَلَّصَهُمْ مِنْ أَيْدِي الْكَافِرِينَ مِنَ الرُّومِ
وَالْمُسْتَعْرِبَةِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَحَوَّلَ الْجَيْشَ مَيْمَنَةً
وَمَيْسَرَةً، وَمُقَدِّمَةً وَسَاقَةً، كَمَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ، تَوَهَّمَ
الرُّومُ أَنَّ ذَلِكَ عَنْ مَدَدٍ جَاءَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا حَمَلَ
عَلَيْهِمْ خَالِدٌ، هَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ
عُرْوَةَ قَالَ: لَمَّا أَقْبَلَ أَصْحَابُ مُؤْتَةَ، تَلَقَّاهُمْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ قَالَ:
وَلَقِيَهُمُ الصِّبْيَانُ يَشْتَدُّونَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلٌ مَعَ الْقَوْمِ عَلَى دَابَّةٍ، فَقَالَ: "
خُذُوا الصِّبْيَانَ فَاحْمِلُوهُمْ، وَأَعْطُونِي ابْنَ جَعْفَرٍ ". فَأُتِي
بِعَبْدِ اللَّهِ، فَأَخَذَهُ فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: وَجَعَلَ
النَّاسُ يَحْثُونَ عَلَيْهِمْ بِالتُّرَابِ وَيَقُولُونَ: يَا فُرَّارُ،
فَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسُوا بِالْفُرَّارِ، وَلَكِنَّهُمُ الْكُرَّارُ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ". وَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ،
وَفِيهِ غَرَابَةٌ. وَعِنْدِي أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ قَدْ وَهِمَ فِي هَذَا
السِّيَاقِ، فَظَنَّ أَنَّ هَذَا لِجُمْهُورِ الْجَيْشِ، وَإِنَّمَا كَانَ
لِلَّذِينِ فَرُّوا حِينَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، وَأَمَّا بَقِيَّتُهُمْ فَلَمْ
يَفِرُّوا، بَلْ نُصِرُوا، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فِي
قَوْلِهِ: ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، فَفَتَحَ اللَّهُ
عَلَى يَدَيْهِ ". فَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ لِيُسَمُّوهُمْ فُرَّارًا
بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَلَقَّوْهُمْ، إِكْرَامًا لَهُمْ وَإِعْظَامًا،
وَإِنَّمَا كَانَ التَّأْنِيبُ وَحَثْيُ التُّرَابِ لِلَّذِينِ فَرُّوا
وَتَرَكُوهُمْ هُنَالِكَ، وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، ثَنَا زُهَيْرٌ، ثَنَا
يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ
، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ
فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً، وَكُنْتُ فِيمَنْ حَاصَ، فَقُلْنَا: كَيْفَ نَصْنَعُ
وَقَدْ فَرَرْنَا مِنَ الزَّحْفِ وَبُؤْنَا بِالْغَضَبِ ؟ ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ
دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ فَبِتْنَا. ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ عَرَضْنَا أَنْفُسَنَا
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَتْ لَنَا
تَوْبَةٌ، وَإِلَّا ذَهَبْنَا. فَأَتَيْنَاهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، فَخَرَجَ
فَقَالَ: " مَنِ الْقَوْمُ ؟ " قَالَ: فَقُلْنَا: نَحْنُ
الْفَرَّارُونَ. فَقَالَ: " لَا، بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ، أَنَا
فِئَتُكُمْ، وَأَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ ". قَالَ: فَأَتَيْنَاهُ حَتَّى
قَبَّلْنَا يَدَهُ.
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ غُنْدُرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ،
عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا فِي سَرِيَّةٍ
فَفَرَرْنَا، فَأَرَدْنَا أَنْ نَرْكَبَ الْبَحْرَ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَحْنُ
الْفَرَّارُونَ. فَقَالَ: " لَا، بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ وَرَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ
أَبِي زِيَادٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ
حَدِيثِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى وَأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ
قَالَا: حَدَّثَنَا
شَرِيكٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ
أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
سَرِيَّةٍ، فَلَمَّا لَقِينَا الْعَدُوَّ انْهَزَمْنَا فِي أَوَّلِ غَادِيَةٍ،
فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فِي نَفَرٍ لَيْلًا فَاخْتَفَيْنَا، ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ
خَرَجْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاعْتَذَرْنَا إِلَيْهِ. فَخَرَجْنَا إِلَيْهِ، ثُمَّ لَقِينَاهُ قُلْنَا: نَحْنُ
الْفَرَّارُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ،
وَأَنَا فِئَتُكُمْ " قَالَ الْأَسْوَدُ: " وَأَنَا فِئَةُ كُلِّ
مُسْلِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ
بَعْضِ آلِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَهُمْ أَخْوَالُهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ
زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لِامْرَأَةِ
سَلَمَةَ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: مَا لِي لَا أَرَى سَلَمَةَ يَحْضُرُ
الصَّلَاةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ
الْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَتْ: مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْرُجَ، كُلَّمَا خَرَجَ صَاحَ
بِهِ النَّاسُ: يَا فُرَّارُ، فَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ ! حَتَّى قَعَدَ
فِي بَيْتِهِ مَا يَخْرُجُ. وَكَانَ فِي غَزَاةِ مُؤْتَةَ.
قُلْتُ: لَعَلَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ فَرُّوا لَمَّا عَايَنُوا كَثْرَةَ جُمُوعِ
الْعَدُوِّ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، فَإِنَّ
الصَّحَابَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، كَانُوا ثَلَاثَةَ
آلَافٍ، وَكَانَ
الْعَدُوُّ - عَلَى مَا ذَكَرُوهُ - مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَمِثْلُ هَذَا يُسَوِّغُ
الْفِرَارَ، عَلَى مَا قَدْ تَقَرَّرَ، فَلَمَّا فَرَّ هَؤُلَاءِ، ثَبَتَ
بَاقِيهُمْ، وَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَتَخَلَّصُوا مِنْ أَيْدِي أُولَئِكَ،
وَقَتَّلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، كَمَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ وَمُوسَى
بْنُ عُقْبَةَ مِنْ قَبْلِهِ.
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ وَيُشَاكِلُهُ بِالصِّحَّةِ، مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَوْفِ بْنِ
مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ مَنْ خَرَجَ مَعَ زَيْدِ بْنِ
حَارِثَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، وَرَافَقَنِي مَدَدِيٌّ
مِنَ الْيَمَنِ، لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ سَيْفِهِ، فَنَحَرَ رَجُلٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ جَزُورًا، فَسَأَلَهُ الْمَدَدِيُّ طَائِفَةً مِنْ جِلْدِهِ،
فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَاتَّخَذَهُ كَهَيْئَةِ الدَّرَقَةِ، وَمَضَيْنَا
فَلَقِينَا جُمُوعَ الرُّومِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ لَهُ أَشْقَرَ،
عَلَيْهِ سَرْجٌ مُذَهَّبٌ وَسِلَاحٌ مُذَهَّبٌ، فَجَعَلَ الرُّومِيُّ يُغْرِي
بِالْمُسْلِمِينَ، وَقَعَدَ لَهُ الْمَدَدِيُّ خَلْفَ صَخْرَةٍ، فَمَرَّ بِهِ
الرُّومِيُّ فَعَرْقَبَ فَرَسَهُ، فَخَرَّ وَعَلَاهُ، فَقَتَلَهُ، وَحَازَ
فَرَسَهُ وَسِلَاحَهُ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ
لِلْمُسْلِمِينَ، بَعَثَ
إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَخَذَ مِنْهُ السَّلَبَ. قَالَ عَوْفٌ:
فَأَتَيْتَهُ فَقُلْتُ: يَا خَالِدُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ ؟ قَالَ: بَلَى،
وَلَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ. فَقُلْتُ: لَتَرُدَّنَّهُ إِلَيْهِ أَوْ
لَأُعَرِّفَنَّكَهَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ. قَالَ عَوْفٌ: فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّةَ
الْمَدَدِيِّ وَمَا فَعَلَ خَالِدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا خَالِدُ، رُدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذْتَ مِنْهُ
". قَالَ عَوْفٌ: فَقُلْتُ: دُونَكَ يَا خَالِدُ، أَلَمْ أَفِ لَكَ ؟!
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَا ذَاكَ ؟
" فَأَخْبَرْتُهُ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَالَ: " يَا خَالِدُ، لَا تَرُدَّ عَلَيْهِ، هَلْ أَنْتُمْ
تَارِكُو لِي أُمَرَائِي، لَكُمْ صِفْوَةُ أَمْرِهِمْ وَعَلَيْهِمْ كَدَرُهُ قَالَ
الْوَلِيدُ: سَأَلْتُ ثَوْرًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَحَدَّثَنِي عَنْ خَالِدِ
بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ عَوْفٍ بِنَحْوِهِ. وَرَوَاهُ
مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ عَوْفِ بْنِ
مَالِكٍ، بِهِ نَحْوَهُ.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَنِمُوا مِنْهُمْ، وَسَلَبُوا مِنْ أَشْرَافِهِمْ،
وَقَتَلُوا مِنْ أُمَرَائِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
أَنَّ خَالِدًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: انْدَقَّتْ فِي يَدِي يَوْمَ
مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، وَمَا ثَبَتَ فِي يَدِي إِلَّا صَفِيحَةٌ
يَمَانِيَةٌ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَثْخَنُوا فِيهِمْ قَتْلًا، وَلَوْ لَمْ
يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا قَدَرُوا عَلَى التَّخَلُّصِ
مِنْهُمْ، وَهَذَا
وَحْدَهُ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَالْوَاقِدِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ،
وَحَكَاهُ ابْنُ هِشَامٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَغَازِي فِي
فِرَارِهِمْ وَانْحِيَازِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ
مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ ظَهَرُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ
الْمُشْرِكِينَ انْهَزَمُوا قَالَ: وَحَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدٌ،
فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ ". يَدُلُّ عَلَى ظُهُورِهِمْ عَلَيْهِمْ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ قُطْبَةَ بْنَ قَتَادَةَ
الْعُذْرِيَّ، وَكَانَ رَأْسَ مَيْمَنَةِ الْمُسْلِمِينَ، حَمَلَ عَلَى مَالِكِ
بْنِ زَافِلَةَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: رَافِلَةُ. بِالرَّاءِ - وَهُوَ
أَمِيرُ أَعْرَابِ النَّصَارَى، فَقَتَلَهُ، وَقَالَ يَفْتَخِرُ بِذَلِكَ:
طَعَنْتُ ابْنَ رَافِلَةَ بْنِ الْإِرَاشِ بِرُمْحٍ مَضَى فِيهِ ثُمَّ انْحَطَمْ
ضَرَبْتُ عَلَى جِيدِهِ
ضَرْبَةً فَمَالَ كَمَا مَالَ غُصْنُ السَّلَمْ
وَسُقْنَا نِسَاءَ بَنِي عَمِّهِ غَدَاةَ رَقُوقَيْنِ سَوْقَ النَّعَمْ
وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا نَحْنُ فِيهِ، لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ أَمِيرِ الْجَيْشِ
إِذَا قُتِلَ، أَنْ يَفِرَّ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ إِنَّهُ صَرَّحَ فِي شِعْرِهِ
بِأَنَّهُمْ سَبَوْا مِنْ نِسَائِهِمْ، وَهَذَا وَاضِحٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ
لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْمُخَاشَاةُ وَالتَّخَلُّصُ مِنْ أَيْدِي الرُّومِ، وَسَمَّى
هَذَا نَصْرًا وَفَتْحًا، أَيْ بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ إِحَاطَةِ
الْعَدُوِّ بِهِمْ، وَتَرَاكُمِهِمْ وَتَكَاثُرِهِمْ وَتَكَاثُفِهِمْ عَلَيْهِمْ،
فَكَانَ مُقْتَضَى الْعَادَةِ أَنْ يُصْطَلَمُوا بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَمَّا
تَخَلَّصُوا مِنْهُمْ وَانْحَازُوا عَنْهُمْ، كَانَ هَذَا غَايَةَ الْمُرَامِ فِي
هَذَا الْمُقَامِ، وَهَذَا مُحْتَمَلٌ، لَكِنَّهُ خِلَافَ الظَّاهِرِ مِنْ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
".
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ يَسْتَدِلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
فَقَالَ: وَقَدْ قَالَ - فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، وَأَمْرِ خَالِدِ
بْنِ الْوَلِيدِ، وَمُخَاشَاتِهِ بِالنَّاسِ وَانْصِرَافِهِ
بِهِمْ قَيْسُ بْنُ
الْمُحَسَّرِ الْيَعْمُرِيُّ، يَعْتَذِرُ مِمَّا صَنَعَ يَوْمَئِذٍ وَصَنَعَ
النَّاسُ:
فَوَاللَّهِ لَا تَنْفَكُّ نَفْسِي تَلُومُنِي عَلَى مَوْقِفِي وَالْخَيْلُ
قَابِعَةٌ قُبْلُ
وَقَفْتُ بِهَا لَا مُسْتَجِيرًا فَنَافِذًا وَلَا مَانِعًا مَنْ كَانَ حُمَّ لَهُ
الْقَتْلُ
عَلَى أَنَّنِي آسَيْتُ نَفْسِي بِخَالِدٍ أَلَا خَالِدٌ فِي الْقَوْمِ لَيْسَ
لَهُ مِثْلُ
وَجَاشَتْ إِلَيَّ النَّفْسُ مِنْ نَحْوِ جَعْفَرٍ بِمُؤْتَةَ إِذْ لَا يَنْفَعُ
النَّابِلَ النَّبْلُ
وَضَمَّ إِلَيْنَا حُجْزَتَيْهِمْ كِلَيْهِمَا مُهَاجِرَةٌ لَا مُشْرِكُونَ وَلَا
عُزْلُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَيَّنَ قَيْسٌ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ
ذَلِكَ فِي شِعْرِهِ، أَنَّ الْقَوْمَ حَاجَزُوا وَكَرِهُوا الْمَوْتَ، وَحَقَّقَ
انْحِيَازَ خَالِدٍ بِمَنْ مَعَهُ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَمَّا الزُّهْرِيُّ
فَقَالَ، فِيمَا بَلَغَنَا عَنْهُ: أَمَّرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ خَالِدَ
بْنَ الْوَلِيدِ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَتَّى رَجَعَ
إِلَى الْمَدِينَةِ.
فَصْلٌ إِخْبَارُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْتِشْهَادِ جَعْفَرٍ وَصَاحِبَيْهِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أُمِّ
عِيسَى الْخُزَاعِيَّةِ، عَنْ أُمِّ جَعْفَرٍ بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، عَنْ جَدَّتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: لَمَّا
أُصِيبَ جَعْفَرٌ وَأَصْحَابُهُ، دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ دَبَغْتُ أَرْبَعِينَ مَنًّا، وَعَجَنْتُ عَجِينِي،
وَغَسَّلْتُ بَنِيَّ وَدَهَّنْتُهُمْ وَنَظَّفْتُهُمْ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ائْتِنِي بِبَنِي جَعْفَرٍ
". فَأَتَيْتُهُ بِهِمْ فَشَمَّهُمْ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا يُبْكِيكَ، أَبَلَغَكَ عَنْ جَعْفَرٍ
وَأَصْحَابِهِ شَيْءٌ ؟ قَالَ: " نَعَمْ، أُصِيبُوا هَذَا الْيَوْمَ "
قَالَتْ: فَقُمْتُ أَصِيحُ، وَاجْتَمَعَ إِلَيَّ النِّسَاءُ، وَخَرَجَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ: " لَا
تَغْفُلُوا عَنْ آلِ جَعْفَرٍ أَنْ تَصْنَعُوا لَهُمْ طَعَامًا، فَإِنَّهُمْ قَدْ
شُغِلُوا بِأَمْرِ صَاحِبِهِمْ وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ
حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْحَاقَ،، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أُمِّ عِيسَى، عَنْ
أُمِّ عَوْنٍ بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَسْمَاءَ، فَذَكَرَ الْأَمْرَ
بِعَمَلِ الطَّعَامِ. وَالصَّوَابُ أَنَّهَا أُمُّ
جَعْفَرٍ وَأُمُّ عَوْنٍ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ خَالِدٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: لَمَّا جَاءَ نَعْيُ
جَعْفَرٍ حِينَ قُتِلَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ يَشْغَلُهُمْ
أَوْ: أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ
جَعْفَرِ بْنِ خَالِدِ بْنِ سَارَةَ الْمَخْزُومِيِّ الْمَكِّيِّ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ.
ثُمَّ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ:لَمَّا أَتَى نَعْيُ جَعْفَرٍ، عَرَفْنَا فِي وَجْهِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُزْنَ. قَالَتْ: فَدَخَلَ
عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ النِّسَاءَ عَنَّيْنَنَا
وَفَتَنَّنَا. قَالَ: " ارْجِعْ إِلَيْهِنَّ فَأَسْكِتْهُنَّ " قَالَتْ:
فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَتْ: وَرُبَّمَا ضَرَّ
التَّكَلُّفُ. يَعْنِي أَهْلَهُ. قُلْتُ: قَالَ: " فَاذْهَبْ
فَأَسْكِتْهُنَّ، فَإِنْ أَبَيْنَ فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ ".
قَالَتْ: وَقُلْتُ
فِي نَفْسِي: أَبْعَدَكَ
اللَّهُ، فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتَ نَفْسَكَ، وَمَا أَنْتَ بِمُطِيعٍ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتْ: وَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ
عَلَى أَنْ يَحْثِيَ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ انْفَرَدَ بِهِ ابْنُ
إِسْحَاقَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، سَمِعْتُ
يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ
تَقُولُ: لَمَّا قُتِلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْحُزْنُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَأَنَا أَطَّلِعُ
مِنْ صَائِرِ الْبَابِ - شَقٍّ - فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ،
إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ. وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ.
قَالَتْ: فَذَهَبَ الرَّجُلُ، ثُمَّ أَتَى فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنَا.
فَزَعَمَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
" فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ مِنَ التُّرَابِ " قَالَتْ عَائِشَةُ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، فَوَاللَّهِ مَا
أَنْتَ تَفْعَلُ، وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنَ الْعَنَاءِ وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ
وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ
عَمْرَةَ، عَنْهَا
.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، ثَنَا أَبِي،
سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي يَعْقُوبَ يُحَدِّثُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشًا، اسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ،
وَقَالَ: " إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ أَوِ اسْتُشْهِدَ فَأَمِيرُكُمْ جَعْفَرٌ،
فَإِنْ قُتِلَ أَوِ اسْتُشْهِدَ فَأَمِيرُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ
". فَلَقُوا الْعَدُوَّ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَقَاتَلَ حَتَّى
قُتِلَ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرٌ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ
أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ أَخَذَ
الرَّايَةَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَتَى خَبَرُهُمُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ، فَحَمِدَ
اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّ إِخْوَانَكُمْ لَقُوا الْعَدُوَّ،
وَإِنَّ زَيْدًا أَخَذَ الرَّايَةَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ أَوِ اسْتُشْهِدَ،
ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ بَعْدَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَاتَلَ حَتَّى
قُتِلَ أَوِ اسْتُشْهِدَ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ
فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ أَوِ اسْتُشْهِدَ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ
سُيُوفِ اللَّهِ، خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ ".
قَالَ: ثُمَّ أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ ثَلَاثًا أَنْ يَأْتِيَهُمْ، ثُمَّ أَتَاهُمْ
فَقَالَ: " لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ، ادْعُوَا لِيَ
ابْنَيْ أَخِي ". قَالَ: فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّنَا أَفْرُخٌ، فَقَالَ: "
ادْعُوا لِيَ الْحَلَّاقَ " فَجِيءَ بِالْحَلَّاقِ، فَحَلَقَ رُءُوسَنَا،
ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا مُحَمَّدٌ فَشَبِيهُ عَمِّنَا أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا
عَبْدُ اللَّهِ فَشَبِيهُ خَلْقِي وَخُلُقِي " ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي
فَأَشَالَهَا وَقَالَ: " اللَّهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي أَهْلِهِ، بَارِكْ
لِعَبْدِ اللَّهِ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ ". قَالَهَا
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ:
فَجَاءَتْ أُمُّنَا فَذَكَرَتْ لَهُ يُتْمَنَا، وَجَعَلَتْ تُفْرِحُ لَهُ،
فَقَالَ: " الْعَيْلَةَ تَخَافِينَ عَلَيْهِمْ وَأَنَا وَلِيُّهُمْ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِبَعْضِهِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي
السِّيَرِ بِتَمَامِهِ مِنْ حَدِيثِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، بِهِ وَهَذَا يَقْتَضِي
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرْخَصَ لَهُمْ فِي الْبُكَاءِ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْهُ بَعْدَهَا.
وَلَعَلَّهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، مِنْ
حَدِيثِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا لَمَّا أُصِيبَ
جَعْفَرٌ: " تَسَلَّبِي ثَلَاثًا ثُمَّ اصْنَعِي مَا شِئْتِ تَفَرَّدَ بِهِ
أَحْمَدُ. فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهَا فِي التَّسَلُّبِ، وَهُوَ
الْمُبَالَغَةُ فِي الْبُكَاءِ وَشَقِّ الثِّيَابِ، وَيَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ
التَّخْصِيصِ لَهَا بِهَذَا، لِشِدَّةِ حُزْنِهَا عَلَى جَعْفَرٍ أَبِي
أَوْلَادِهَا، وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لَهَا بِالتَّسَلُّبِ،
وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِحْدَادِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ تَصْنَعُ
بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَتْ، مِمَّا يَفْعَلُهُ الْمُعْتَدَّاتُ عَلَى
أَزْوَاجِهِنَّ، مِنَ الْإِحْدَادِ الْمُعْتَادِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُرْوَى
: " تَسَلَّيْ
ثَلَاثًا ". أَيْ تَصَبَّرِي ثَلَاثًا، وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ
الْأُخْرَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ،
ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ، ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَوْمَ الثَّالِثَ مِنْ
قَتْلِ جَعْفَرٍ فَقَالَ: " لَا تُحِدِّي بَعْدَ يَوْمِكِ هَذَا فَإِنَّهُ
مِنْ أَفْرَادِ أَحْمَدَ أَيْضًا، وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَكِنَّهُ
مُشْكِلٌ إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي "
الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ
تُحِدَّ عَلَى مَيِّتِهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِنْ كَانَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ
مَحْفُوظًا، فَتَكُونُ مَخْصُوصَةً بِذَلِكَ، أَوْ هُوَ أَمْرٌ بِالْمُبَالَغَةِ
فِي الْإِحْدَادِ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَرَثَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ زَوْجَهَا بِقَصِيدَةٍ تَقُولُ
فِيهَا:
فَآلَيْتُ لَا تَنْفَكُّ نَفْسِي حَزِينَةً عَلَيْكَ وَلَا يَنْفَكُّ جِلْدِيَ
أَغْبَرَا فَلَلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِثْلَهُ فَتًى
أَكَرَّ وَأَحْمَى فِي الْهِيَاجِ وَأَصْبَرَا
ثُمَّ لَمْ تَنْشَبْ أَنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَخَطَبَهَا أَبُو بَكْرٍ
الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَتَزَوَّجَهَا، فَأَوْلَمَ، وَجَاءَ
النَّاسُ لِلْوَلِيمَةِ، فَكَانَ فِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
، فَلَمَّا ذَهَبَ
النَّاسُ اسْتَأْذَنَ عَلِيٌّ أَبَا بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فِي أَنْ
يُكَلِّمَ أَسْمَاءَ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنَ
السِّتْرِ نَفَحَهُ رِيحُ طِيبِهَا، فَقَالَ لَهَا عَلِيٌّ، عَلَى وَجْهِ
الْبَسْطِ: مَنِ الْقَائِلَةُ فِي شِعْرِهَا:
فَآلَيْتُ لَا تَنْفَكُّ نَفْسِي حَزِينَةً عَلَيْكَ وَلَا يَنْفَكُّ جِلْدِيَ
أَغْبَرَا
قَالَتْ: دَعْنَا مِنْكَ يَا أَبَا الْحَسَنِ، فَإِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ دُعَابَةٌ.
فَوَلَدَتْ لِلصِّدِّيقِ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَلَدَتْهُ بِالشَّجَرَةِ
بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذَاهِبٌ إِلَى حِجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُهِلَّ،
وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ، ثُمَّ لَمَّا تُوُفِّيَ الصِّدِّيقُ، تَزَوَّجَهَا
بَعْدَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وَعَنْهَا وَعَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ اسْتِقْبَالُ رَسُولِ اللَّهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ،
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ
تَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُسْلِمُونَ، قَالَ: وَلَقِيَهُمُ الصِّبْيَانُ يَشْتَدُّونَ، وَرَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلٌ مَعَ الْقَوْمِ عَلَى
دَابَّةٍ، فَقَالَ: " خُذُوا الصِّبْيَانَ فَاحْمِلُوهُمْ وَأَعْطُونِي ابْنَ
جَعْفَرٍ ". فَأُتِيَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَأَخَذَهُ فَحَمَلَهُ
بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: وَجَعَلَ النَّاسُ يَحْثُونَ عَلَى الْجَيْشِ التُّرَابِ
وَيَقُولُونَ: يَا فُرَّارُ، فَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟! قَالَ: فَيَقُولُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسُوا
بِالْفُرَّارِ، وَلَكِنَّهُمُ الْكُرَّارُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا مُرْسَلٌ
.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، ثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ
مُوَرِّقٍ الْعِجْلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ تُلُقِّيَ
بِالصِّبْيَانِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَإِنَّهُ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَسُبِقَ بِي
إِلَيْهِ. قَالَ: فَحَمَلَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: ثُمَّ جِيءَ بِأَحَدِ
ابْنَيْ فَاطِمَةَ، إِمَّا حَسَنٌ وَإِمَّا حُسَيْنٌ، فَأَرْدَفَهُ خَلْفَهُ،
فَدَخَلْنَا الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةً عَلَى دَابَّةٍ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمٍ
الْأَحْوَلِ، عَنْ مُوَرِّقٍ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، ثَنَا
جَعْفَرُ بْنُ خَالِدِ بْنِ سَارَةَ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَالَ: لَوْ رَأَيْتَنِي وَقُثَمَ وَعُبَيْدَ اللَّهِ
ابْنَيِ الْعَبَّاسِ وَنَحْنُ صِبْيَانٌ نَلْعَبُ، إِذْ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دَابَّةٍ فَقَالَ: " ارْفَعُوا هَذَا
إِلَيَّ ". فَحَمَلَنِي أَمَامَهُ وَقَالَ لِقُثَمَ: " ارْفَعُوا هَذَا
إِلَيَّ ". فَجَعَلَهُ وَرَاءَهُ، وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَحَبَّ إِلَى
عَبَّاسٍ مِنْ قُثَمَ، فَمَا اسْتَحَى مِنْ عَمِّهِ أَنْ حَمَلَ قُثَمَ وَتَرَكَهُ.
قَالَ: ثُمَّ مَسَحَ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثًا. وَقَالَ كُلَّمَا مَسَحَ: "
اللَّهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي وَلَدِهِ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ: مَا
فَعَلَ قُثَمُ ؟ قَالَ: اسْتُشْهِدَ. قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ
بِالْخَيْرِ. قَالَ: أَجَلْ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي " الْيَوْمِ
وَاللَّيْلَةِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، بِهِ
.
وَهَذَا كَانَ بَعْدَ الْفَتْحِ، فَإِنَّ الْعَبَّاسَ إِنَّمَا قَدِمَ
الْمَدِينَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ، ثَنَا حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ:قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ لِابْنِ
الزُّبَيْرِ: أَتَذْكُرُ إِذْ تَلَقَّيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَأَنْتَ وَابْنُ عَبَّاسٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَحَمَلَنَا
وَتَرَكَكَ.
هَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي الْمُسْنَدِ، وَكَأَنَّهُ غَلَطٌ فِي النُّسْخَةِ،
فَإِنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَصَوَابُهُ:قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ: أَتَذْكُرُ إِذْ
تَلَقَّيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَأَنْتَ
وَابْنُ عَبَّاسٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَمَلَنَا وَتَرَكَكَ. وَبِهَذَا اللَّفْظِ
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، وَهَذَا
يُعَدُّ مِنَ الْأَجْوِبَةِ الْمُسْكِتَةِ، وَيُرْوَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عَبَّاسٍ أَجَابَ بِهِ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَيْضًا، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ قِصَّةٌ
أُخْرَى كَانَتْ بَعْدَ الْفَتْحِ، كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
فَصْلٌ فِي فَضْلِ
هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءِ الثَّلَاثَةِ زَيْدٍ وَجَعْفَرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ
أَمَّا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى
بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَامِرِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ
وُدِّ بْنِ عَوْفِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُذْرَةَ بْنِ
زَيْدِ اللَّاتِ بْنِ رُفَيْدَةَ بْنِ ثَوْرِ بْنِ كَلْبِ بْنِ وَبَرَةَ بْنِ
تَغْلِبَ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ
الْكَلْبِيُّ الْقُضَاعِيُّ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّهُ ذَهَبَتْ تَزُورُ أَهْلَهَا، فَأَغَارَتْ
عَلَيْهِمْ خَيْلُ بَلْقَيْنِ فَأَخَذُوهُ، فَاشْتَرَاهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ
لِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ. وَقِيلَ: اشْتَرَاهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا، فَوَهَبَتْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، فَوَجَدَهُ أَبُوهُ،
فَاخْتَارَ الْمُقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَأَعْتَقَهُ وَتَبَنَّاهُ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ. وَكَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا،
وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمَوَالِي، وَنَزَلَ فِيهِ آيَاتٍ مِنَ
الْقُرْآنِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ
أَبْنَاءَكُمْ ( الْأَحْزَابِ: 4 ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ
هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ( الْأَحْزَابِ: 5 ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ
مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ( الْأَحْزَابِ: 40 ) وَقَوْلُهُ: وَإِذْ
تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ
عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ
وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ
مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا
الْآيَةَ ( الْأَحْزَابِ:
37 ). أَجْمَعُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ أُنْزِلَتْ فِيهِ، وَمَعْنَى أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِ أَيْ بِالْإِسْلَامِ، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَيْ بِالْعِتْقِ،
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي " التَّفْسِيرِ ".
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُسَمِّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ
فِي الْقُرْآنِ غَيْرَهُ، وَهَدَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَعْتَقَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَوَّجَهُ مَوْلَاتَهُ أُمَّ
أَيْمَنَ، وَاسْمُهَا بَرَكَةُ، فَوَلَدَتْ لَهُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَكَانَ
يُقَالُ لَهُ: الْحِبُّ بْنُ الْحِبِّ، ثُمَّ زَوَّجَهُ بِابْنَةِ عَمَّتِهِ
زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَآخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمِّهِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، وَقَدَّمَهُ فِي الْإِمْرَةِ عَلَى ابْنِ عَمِّهِ جَعْفَرِ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ مُؤْتَةَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ
أَبِي شَيْبَةَ - وَهَذَا لَفْظُهُ -: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ
وَائِلِ بْنِ دَاوُدَ، سَمِعْتُ الْبَهِيَّ يُحَدِّثُ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ
تَقُولُ:مَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ
بْنَ حَارِثَةَ فِي سَرِيَّةٍ إِلَّا أَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ بَقِيَ
بَعْدَهُ لَاسْتَخْلَفَهُ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيِّ، بِهِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ
قَوِيٌّ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا سُلَيْمَانُ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنِي
ابْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بَعْثًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ
أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِمْرَتِهِ، فَقَامَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " إِنْ تَطْعَنُوا فِي
إِمْرَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمْرَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ،
وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ
أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ.
وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ - هُوَ ابْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْمَدَنِيُّ - عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ.
وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ اسْتَغْرَبَهُ
مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: ثَنَا عُمَرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ مُجَالِدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ
مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:لَمَّا أُصِيبَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، جِيءَ
بِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَأُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَأُخِّرَ، ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ
فَقَالَ: " أُلَاقِي مِنْكَ الْيَوْمَ مَا لَقِيتُ مِنْكَ أَمْسِ وَهَذَا
الْحَدِيثُ فِيهِ غَرَابَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ
مُصَابَهُمْ وَهُوَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَوْقَ الْمِنْبَرِ،
جَعَلَ يَقُولُ: " أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا
جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ،
ثُمَّ أَخَذَهَا سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ".
قَالَ: وَإِنَّ عَيْنَيْهِ لَتَذْرِفَانِ. وَقَالَ: " وَمَا يَسُرُّهُمْ
أَنَّهُمْ عِنْدَنَا وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّهُ شَهِدَ لَهُمْ
بِالشَّهَادَةِ، فَهُمْ مِمَنْ يُقْطَعُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ.
وَقَدْ قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَرْثِي زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَابْنَ
رَوَاحَةَ:
عَيْنُ جُودِي بِدَمْعِكِ الْمَنْزُورِ وَاذْكُرِي فِي الرَّخَاءِ أَهَلَ
الْقُبُورِ وَاذْكُرِي مُؤْتَةَ وَمَا كَانَ فِيهَا
يَوْمَ رَاحُوا فِي وَقَعْةِ التَّغْوِيرِ حِينَ رَاحُوا وَغَادَرُوا ثَمَّ
زَيْدًا
نِعْمَ مَأْوَى الضَّرِيكِ وَالْمَأْسُورِ حِبَّ خَيْرِ الْأَنَامِ طُرًّا
جَمِيعًا
سَيِّدِ النَّاسِ حُبُّهُ فِي الصُّدُورِ ذَاكُمُ أَحْمَدُ الَّذِي لَا سِوَاهُ
ذَاكَ حُزْنِي لَهُ مَعًا وَسُرُورِي
إِنَّ زَيْدًا قَدْ كَانَ
مِنَّا بِأَمْرٍ
لَيْسَ أَمْرَ الْمُكَذَّبِ الْمَغْرُورِ ثُمَّ جُودِي لِلْخَزْرَجِيِّ بِدَمْعٍ
سَيِّدًا كَانَ ثَمَّ غَيْرَ نَزُورِ قَدْ أَتَانَا مِنْ قَتْلِهِمْ مَا كَفَانَا
فَبِحُزْنٍ نَبِيتُ غَيْرَ سُرُورِ
وَأَمَّا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ،
فَهُوَ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ
أَكْبَرُ مِنْ أَخِيهِ عَلِيٍّ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَ عَقِيلٌ أَسَنَّ مِنْ
جَعْفَرٍ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَ طَالِبٌ أَسَنَّ مِنْ عَقِيلٍ بِعَشْرِ
سِنِينَ، أَسْلَمَ جَعْفَرٌ قَدِيمًا، وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَكَانَتْ
لَهُ هُنَالِكَ مَوَاقِفُ مَشْهُورَةٌ، وَمَقَامَاتٌ مَحْمُودَةٌ، وَأَجْوِبَةٌ
سَدِيدَةٌ، وَأَحْوَالٌ رَشِيدَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي هِجْرَةِ
الْحَبَشَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَدْ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ:مَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا أَنَا أُسَرُّ، أَبِقُدُومِ جَعْفَرٍ، أَمْ
بِفَتْحِ خَيْبَرَ ؟ وَقَامَ إِلَيْهِ وَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَ بَيْنِ عَيْنَيْهِ،
وَقَالَ لَهُ يَوْمَ خَرَجُوا مِنْ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ: أَشْبَهْتَ خَلْقِي
وَخُلُقِي فَيُقَالُ: إِنَّهُ حَجَلَ عِنْدَ ذَلِكَ فَرَحًا. كَمَا تَقَدَّمَ
ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَلَمَّا بَعَثَهُ
إِلَى مُؤْتَةَ جَعَلَهُ فِي الْإِمْرَةِ مُصَلِّيًا - أَيْ ثَانِيًا - لِزَيْدِ
بْنِ حَارِثَةَ، وَلَمَّا قُتِلَ وَجَدُوا فِيهِ بِضْعًا وَتِسْعِينَ مَا بَيْنَ
ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ، وَطَعْنَةٍ بِرُمْحٍ، وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ
كُلِّهِ مُقْبِلٌ غَيْرَ مُدْبِرٍ، وَكَانَتْ قَدْ
قُطِعَتْ يَدُهُ
الْيُمْنَى ثُمَّ الْيُسْرَى وَهُوَ مُمْسِكٌ اللِّوَاءَ، فَلَمَّا فَقَدَهُمَا
احْتَضَنَهُ حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ كَذَلِكَ. فَيُقَالُ: إِنْ رَجُلًا مِنَ
الرُّومِ ضَرَبَهُ بِسَيْفٍ فَقَطَعَهُ بِاثْنَتَيْنِ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْ
جَعْفَرٍ وَلَعَنَ قَاتِلَهُ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ شَهِيدٌ، فَهُوَ مِمَّنْ يُقْطَعُ لَهُ
بِالْجَنَّةِ. وَجَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ تَسْمِيَتُهُ بِذِي الْجَنَاحَيْنِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَلَّمَ عَلَى
ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ ذِي
الْجَنَاحَيْنِ. وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نَفْسِهِ،
وَالصَّحِيحُ مَا فِي " الصَّحِيحِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ. قَالُوا:
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَوَّضَهُ عَنْ يَدَيْهِ بِجَنَاحَيْنِ فِي الْجَنَّةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ،
ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ جَعْفَرًا يَطِيرُ فِي الْجَنَّةِ مَعَ
الْمَلَائِكَةِ وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُتِلَ
وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي "
الْغَابَةِ ": كَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ قُتِلَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
قَالَ: وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَعَلَى مَا قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ أَسَنَّ مِنْ عَلِيٍّ بِعَشْرِ سِنِينَ
يَقْتَضِي أَنَّ
عُمْرَهُ يَوْمَ قُتِلَ
تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، لِأَنَّ عَلِيًّا أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ
سِنِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً،
وَهَاجَرَ وَعُمْرُهُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَيَوْمُ مُؤْتَةَ كَانَ فِي
سَنَةِ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ كَانَ يُقَالُ
لِجَعْفَرٍ بَعْدَ قَتْلِهِ: الطَّيَّارُ. لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَانَ كَرِيمًا
جَوَادًا مُمَدَّحًا، وَكَانَ لِكَرَمِهِ يُقَالُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ: أَبُو
الْمَسَاكِينِ لِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا وُهَيْبٌ، ثَنَا خَالِدٌ،
عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا احْتَذَى النِّعَالَ وَلَا
انْتَعَلَ، وَلَا رَكِبَ الْمَطَايَا، وَلَا لَبِسَ الثِّيَابَ مِنْ رَجُلٍ بَعْدَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ مِنْ جَعْفَرِ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَأَنَّهُ
إِنَّمَا يُفَضِّلُهُ فِي الْكَرَمِ، فَأَمَّا فِي الْفَضِيلَةِ الدِّينِيَّةِ
فَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّدِّيقَ وَالْفَارُوقَ بَلْ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ
أَفْضَلُ مِنْهُ، وَأَمَّا أَخُوهُ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مُتَكَافِئَانِ، أَوْ عَلِيٌّ أَفْضَلُ مِنْهُ.
وَإِنَّمَا أَرَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ تَفْضِيلَهُ فِي الْكَرَمِ، بِدَلِيلِ مَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي
ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّاسَ
كَانُوا يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَإِنِّي كُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِبَعِ بَطْنِي حِينَ لَا آكُلُ
الْخَمِيرَ، وَلَا أَلْبَسُ الْحَرِيرَ، وَلَا يَخْدُمُنِي فُلَانٌ وَفُلَانَةُ،
وَكُنْتُ أُلْصِقُ بَطْنِي بِالْحَصْبَاءِ مِنَ
الْجُوعِ، وَإِنِّي
كُنْتُ لَأَسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الْآيَةَ هِيَ مَعِي، كَيْ يَنْقَلِبَ بِي
فَيُطْعِمَنِي، وَكَانَ خَيْرَ النَّاسِ لِلْمَسَاكِينِ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ، وَكَانَ يَنْقَلِبُ بِنَا فَيُطْعِمُنَا مَا كَانَ فِي بَيْتِهِ، حَتَّى
إِنْ كَانَ لَيُخْرِجُ إِلَيْنَا الْعُكَّةَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ
فَنَشُقُّهَا فَنَلْعَقُ مَا فِيهَا. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَرْثِي جَعْفَرًا:
وَلَقَدْ بَكَيْتُ وَعَزَّ مَهْلِكُ جَعْفَرٍ حِبِّ النَّبِيِّ عَلَى الْبَرِيَّةِ
كُلِّهَا
وَلَقَدْ جَزِعْتُ وَقُلْتُ حِينَ نُعِيتَ لِي مَنْ لِلْجِلَادِ لَدَى الْعُقَابِ
وَظِلِّهَا
بِالْبِيضِ حِينَ تُسَلُّ مِنْ أَغْمَادِهَا ضَرْبًا وَإِنْهَالِ الرِّمَاحِ
وَعَلِّهَا
بَعْدَ ابْنِ فَاطِمَةَ الْمُبَارَكِ جَعْفَرٍ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا
وَأَجَلِّهَا
رُزْءًا وَأَكْرَمِهَا جَمَيْعًا مَحْتِدًا وَأَعَزِّهَا مُتَظَلِّمًا
وَأَذَلِّهَا
لِلْحَقِّ حِينَ يَنُوبُ غَيْرَ تَنَحُّلٍ كَذِبًا وَأَنْدَاهَا يَدًا
وَأَقَلِّهَا
فُحْشًا وَأَكْثَرِهَا إِذَا مَا يُجْتَدَى فَضْلًا وَأَبْذَلِهَا نَدًى
وَأَبَلِّهَا
بِالْعُرْفِ غَيْرَ
مُحَمَّدٍ لَا مِثْلُهُ حَيٌّ مِنَ احْيَاءِ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا
وَأَمَّا ابْنُ رَوَاحَةَ، فَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ
بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ الْأَكْبَرِ بْنِ
مَالِكِ بْنِ الْأَغَرِّ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ أَبُو مُحَمَّدٍ - وَيُقَالُ: أَبُو رَوَاحَةَ.
وَيُقَالُ: أَبُو عَمْرٍو - الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، وَهُوَ خَالُ
النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أُخْتُهُ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ، أَسْلَمَ
قَدِيمًا وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَكَانَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ لَيْلَتَئِذٍ لِبَنِي
الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ
وَالْحُدَيْبِيَةَ وَخَيْبَرَ، وَكَانَ يَبْعَثُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى خَرْصِهَا كَمَا قَدَّمْنَا، وَشَهِدَ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ،
وَدَخَلَ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ مُمْسِكٌ بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: بِغَرْزِهَا. يَعْنِي الرِّكَابَ - وَهُوَ
يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ
الْأَبْيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَانَ أَحَدَ الْأُمَرَاءِ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ
مُؤْتَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ شَجَّعَ الْمُسْلِمِينَ لِلِقَاءِ الرُّومِ
حِينَ اشْتَوَرُوا فِي ذَلِكَ، وَشَجَّعَ نَفْسَهُ أَيْضًا حَتَّى نَزَلَ
بَعْدَمَا قُتِلَ صَاحِبَاهُ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّهَادَةِ، فَهُوَ مِمَّنْ يُقْطَعُ لَهُ بِدُخُولِ
الْجَنَّةِ. وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا أَنْشَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِعْرَهُ، حِينَ وَدَّعَهُ، الَّذِي يَقُولُ فِيهِ:
فَثَبَّتَ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا كَالَّذِي
نُصِرُوا
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:وَأَنْتَ
فَثَبَّتَكَ اللَّهُ قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: فَثَبَّتَهُ اللَّهُ حَتَّى
قُتِلَ شَهِيدًا وَدَخَلَ الْجَنَّةَ
.
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
لَيْلَى، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ فَسَمِعَهُ يَقُولُ: " اجْلِسُوا
". فَجَلَسَ مَكَانَهُ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ، حَتَّى فَرَغَ النَّبِيُّ
مِنْ خُطْبَتِهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: " زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا عَلَى طَوَاعِيَةِ اللَّهِ وَطَوَاعِيَةِ
رَسُولِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ": وَقَالَ مُعَاذٌ: اجْلِسْ
بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً.
وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ فِي ذَلِكَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
رَوَاحَةَ بِنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ
الصَّمَدِ، عَنْ عِمَارَةَ، عَنْ زِيَادٍ النُّمَيْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِذَا لَقِيَ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ
يَقُولُ: تَعَالَ نُؤْمِنْ بِرَبِّنَا سَاعَةً. فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِرَجُلٍ،
فَغَضِبَ الرَّجُلُ فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَرَى ابْنَ
رَوَاحَةَ يَرْغَبُ عَنْ إِيمَانِكَ إِلَى إِيمَانِ سَاعَةٍ ! فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ رَوَاحَةَ،
إِنَّهُ يُحِبُّ الْمَجَالِسَ الَّتِي تَتَبَاهَى بِهَا الْمَلَائِكَةُ وَهَذَا
حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: ثَنَا الْحَاكِمُ، ثَنَا أَبُو بَكْرٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ أَيُّوبَ، ثَنَا أَحْمَدُ
بْنُ يُونُسَ، ثَنَا
شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ
بْنِ يَسَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ قَالَ لِصَاحِبٍ لَهُ: تَعَالَ
حَتَّى نُؤْمِنَ سَاعَةً. قَالَ: أَوَلَسْنَا بِمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ: بَلَى،
وَلَكِنَّا نَذْكُرُ اللَّهَ فَنَزْدَادُ إِيمَانًا.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي
الْيَمَانِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ كَانَ يَأْخُذُ بِيَدِ الرَّجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ
فَيَقُولُ: قُمْ بِنَا نُؤَمِّنْ سَاعَةً فَنَجْلِسُ فِي مَجْلِسِ ذِكْرٍ. وَهَذَا
مُرْسَلٌ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ عَلَى
ذَلِكَ فِي أَوَّلِ " شَرْحِ الْبُخَارِيِّ ". وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنَّا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ،
وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ كَانَ مِنْ
شُعَرَاءِ الصَّحَابَةِ الْمَشْهُورِينَ، وَمِمَّا نَقَلَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ
شِعْرِهِ قَوْلُهُ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ
الْفَجْرِ سَاطِعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ
الْمَضَاجِعُ
أَتَى بِالْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ
وَاقِعُ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ:
حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ
حُصَيْنٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي:
وَاجَبَلَاهُ، وَاكَذَا، وَاكَذَا. تُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ:
مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلَّا قِيلَ لِي: أَنْتَ كَذَلِكَ ؟ !
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا عَبْثَرٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ
النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ،
بِهَذَا، فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا رَثَاهُ بِهِ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ مَعَ غَيْرِهِ.
وَقَالَ شَاعِرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ رَجَعَ مِنْ مُؤْتَةَ مَعَ مَنْ
رَجَعَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ:
كَفَى حَزَنًا أَنِّي رَجَعْتُ وَجَعْفَرٌ وَزَيْدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ فِي رَمْسِ
أَقْبُرِ
قَضَوْا نَحْبَهُمْ لَمَّا مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ وَخُلِّفْتُ لِلْبَلْوَى مَعَ
الْمُتَغَبِّرِ
وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَقِيَّةُ مَا رُثِيَ بِهِ هَؤُلَاءِ
الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُ مِنْ شِعْرِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَكَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَرْضَاهُمَا.
فَصْلٌ فِي مَنِ
اسْتُشْهِدَ يَوْمَ مُؤْتَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
فَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ، جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَمَوْلَاهُمْ زَيْدُ بْنُ
حَارِثَةَ الْكَلْبِيُّ، وَمَسْعُودُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ
نَضْلَةَ الْعَدَوِيُّ، وَوَهْبُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، فَهَؤُلَاءِ
أَرْبَعَةُ نَفَرٍ. وَمِنَ الْأَنْصَارِ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ
وَعَبَّادُ بْنُ قَيْسٍ الْخَزْرَجِيَّانِ، وَالْحَارِثُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ
إِسَافِ بْنِ نَضْلَةَ النَّجَّارِيُّ، وَسُرَاقَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطِيَّةَ
بْنِ خَنْسَاءَ الْمَازِنِيُّ، أَرْبَعَةُ نَفَرٍ. فَمَجْمُوعُ مَنْ قُتِلَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ هَؤُلَاءِ الثَّمَانِيَةُ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ
إِسْحَاقَ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَمِمَّنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ مُؤْتَةَ،
فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، أَبُو كُلَيْبٍ وَجَابِرٌ ابْنَا
عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولٍ الْمَازِنِيَّانِ، وَهُمَا
شَقِيقَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَعَمْرٌو وَعَامِرٌ ابْنَا سَعْدِ بْنِ الْحَارِثِ
بْنِ عَبَّادِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ
أَفْصَى. فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَيْضًا، فَالْمَجْمُوعُ عَلَى
الْقَوْلَيْنِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا أَنْ يَتَقَاتَلَ
جَيْشَانِ مُتَعَادِيَانِ فِي الدِّينِ، أَحَدُهُمَا، وَهُوَ الْفِئَةُ الَّتِي
تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَأُخْرَى
كَافِرَةٌ عِدَّتُهَا
مِائَتَا أَلْفِ مُقَاتِلٍ، مِنَ الرُّومِ مِائَةُ أَلْفٍ، وَمِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ مِائَةُ أَلْفٍ، يَتَبَارَزُونَ وَيَتَصَاوَلُونَ، ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَا يُقْتَلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ. هَذَا خَالِدٌ وَحَدَهُ يَقُولُ: لَقَدِ انْدَقَّتْ فِي يَدِي يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، وَمَا صَبَرَتْ فِي يَدِي إِلَّا صَفِيحَةٌ يَمَانِيَةٌ. فَمَاذَا تُرَى قَدْ قُتِلَ بِهَذِهِ الْأَسْيَافِ كُلِّهَا ؟! دَعْ غَيْرَهُ مِنَ الْأَبْطَالِ وَالشُّجْعَانِ، مِنْ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَحَكَّمُوا فِي عَبَدَةِ الصُّلْبَانِ، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ الرَّحْمَنِ، فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَفِي كُلِّ أَوَانٍ. وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ( آلِ عِمْرَانَ: 13 ).
حَدِيثٌ فِيهِ فَضِيلَةٌ
عَظِيمَةٌ لِأُمَرَاءِ هَذِهِ السَّرِيَّةِ
وَهُمْ، زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ رَوَاحَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَالَ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْحَافِظُ أَبُو زُرْعَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبْدِ الْكَرِيمِ الرَّازِيُّ، نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ، فِي كِتَابِهِ "
دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ " - وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلٌ -: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ
بْنُ صَالِحٍ الدِّمَشْقِيُّ، ثَنَا الْوَلِيدُ، ثَنَا ابْنُ جَابِرٍ، ( ح )
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِيُّ، ثَنَا
الْوَلِيدُ وَعَمْرٌو - يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْوَاحِدِ - قَالَا: ثَنَا ابْنُ
جَابِرٍ، سَمِعْتُ سُلَيْمَ بْنَ عَامِرٍ الْخَبَائِرِيَّ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي
أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ:بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلَانِ، فَأَخَذَا
بِضَبْعَيَّ فَأَتَيَا بِي جَبَلًا وَعْرًا فَقَالَا: اصْعَدْ. فَقُلْتُ: لَا
أُطِيقُهُ. فَقَالَا: إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ. قَالَ: فَصَعِدْتُ حَتَّى إِذَا
كُنْتُ فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذَا أَنَا بِأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ، فَقُلْتُ: مَا
هَؤُلَاءِ الْأَصْوَاتُ ؟ فَقَالَا: عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ. ثُمَّ انْطَلَقَا
بِي، فَإِذَا
بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةٍ أَشْدَاقُهُمْ، تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا، فَقُلْتُ: مَا هَؤُلَاءِ ؟ فَقَالَا: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ ". فَقَالَ: خَابَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. قَالَ سُلَيْمٌ: لَا أَدْرِي أَسَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ مِنْ رَأْيِهِ " ثُمَّ انْطَلَقَا بِي، فَإِذَا قَوْمٌ أَشَدُّ شَيْءٍ انْتِفَاخًا، وَأَنْتَنُ شَيْءٍ رِيحًا، كَأَنَّ رِيحَهُمُ الْمَرَاحِيضُ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَا: هَؤُلَاءِ قَتْلَى الْكُفَّارِ. ثُمَّ انْطَلَقَا بِي، فَإِذَا بِقَوْمٍ أَشَدِّ شَيْءٍ انْتِفَاخًا، وَأَنْتَنِ شَيْءٍ رِيحًا، كَأَنَّ رِيحَهُمُ الْمَرَاحِيضُ. قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الزَّانُونَ وَالزَّوَانِي. ثُمَّ انْطَلَقَا بِي، فَإِذَا بِنِسَاءٍ تَنْهَشُ ثُدِيَّهُنَّ الْحَيَّاتُ، فَقُلْتُ: مَا بَالُ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَا: هَؤُلَاءِ اللَّاتِي يَمْنَعْنَ أَوْلَادَهُنَّ أَلْبَانَهُنَّ. ثُمَّ انْطَلَقَا بِي، فَإِذَا بِغِلْمَانٍ يَلْعَبُونَ بَيْنَ بَحْرَيْنِ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَا: هَؤُلَاءِ ذَرَارِيُّ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ أَشْرَفَا بِي شَرَفًا، فَإِذَا بِنَفَرٍ ثَلَاثَةٍ يَشْرَبُونَ مِنْ خَمْرٍ لَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَا: هَؤُلَاءِ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ. ثُمَّ أَشْرَفَا بِي شَرَفًا آخَرَ، فَإِذَا أَنَا بِنَفَرٍ ثَلَاثَةٍ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَا: هَؤُلَاءِ إِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ.
فَصْلٌ فِيمَا قِيلَ مِنَ
الْأَشْعَارِ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مِمَّا بُكِيَ بِهِ أَصْحَابُ مُؤْتَةَ قَوْلُ
حَسَّانَ:
تَأَوَّبَنِي لَيْلٌ بِيَثْرِبَ أَعْسَرُ وَهَمٌّ إِذَا مَا نَوَّمَ النَّاسُ
مُسْهِرُ لِذِكْرَى حَبِيبٍ هَيَّجَتْ لِيَ عَبْرَةً
سَفُوحًا وَأَسْبَابُ الْبُكَاءِ التَّذَكُّرُ بَلَى إِنَّ فُقْدَانَ الْحَبِيبِ بَلِيَّةٌ
وَكَمْ مِنْ كَرِيمٍ يُبْتَلَى ثُمَّ يَصْبِرُ رَأَيْتُ خِيَارَ الْمُسْلِمِينَ
تَوَارَدُوا
شُعُوبًا وَخَلْفًا بَعْدَهُمْ يَتَأَخَّرُ فَلَا يُبْعِدَنَّ اللَّهُ قَتْلَى
تَتَابَعُوا
بِمُؤْتَةَ مِنْهُمْ ذُو الْجَنَاحَيْنِ جَعْفَرُ وَزَيْدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ حِينَ
تَتَابَعُوا
جَمِيعًا وَأَسْبَابُ الْمَنِيَّةِ تَخْطِرُ غَدَاةَ مَضَوْا بِالْمُؤْمِنِينَ
يَقُودُهُمْ
إِلَى الْمَوْتِ مَيْمُونُ النَّقِيبَةِ أَزْهَرُ
أَغَرُّ كَضَوْءِ
الْبَدْرِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ
أَبِيٌّ إِذَا سِيمَ الظُّلَامَةَ مِجْسَرُ فَطَاعَنَ حَتَّى مَالَ غَيْرَ
مُوَسَّدٍ
بِمُعْتَرَكٍ فِيهِ الْقَنَا مُتَكَسِّرُ فَصَارَ مَعِ الْمُسْتَشْهِدِينَ
ثَوَابُهُ
جِنَانٌ وَمُلْتَفُّ الْحَدَائِقِ أَخْضَرُ وَكُنَّا نَرَى فِي جَعْفَرٍ مِنْ
مُحَمَّدٍ
وَفَاءً وَأَمْرًا حَازِمًا حِينَ يَأْمُرُ وَمَا زَالَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ آلِ
هَاشِمٍ
دَعَائِمُ عِزٍّ لَا يَزُلْنَ وَمَفْخَرُ هُمُ جَبَلُ الْإِسْلَامِ وَالنَّاسُ
حَوْلَهُمْ
رِضَامٌ إِلَى طَوْدٍ يَرُوقُ وَيَقْهَرُ بِهَالِيلُ مِنْهُمْ جَعْفَرٌ وَابْنُ
أُمِّهِ
عَلِيٌّ وَمِنْهُمْ أَحْمَدُ الْمُتَخَيَّرُ وَحَمْزَةُ وَالْعَبَّاسُ مِنْهُمْ
وَمِنْهُمُ
عَقِيلٌ وَمَاءُ الْعُودِ مِنْ حَيْثُ يُعْصَرُ بِهِمْ تُفْرَجُ اللَّأْوَاءُ فِي
كُلِّ مَأْزِقٍ
عَمَاسٍ إِذَا مَا ضَاقَ بِالنَّاسِ مَصْدَرُ هُمُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ أَنْزَلَ
حُكْمَهُ
عَلَيْهِمْ وَفِيهِمْ ذَا الْكِتَابُ الْمُطَهَّرُ
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
:
نَامَ الْعُيُونُ وَدَمْعُ عَيْنِكَ يَهْمُلُ سَحًّا كَمَا وَكَفَ الطِّبَابُ
الْمُخْضِلُ
فِي لَيْلَةٍ وَرَدَتْ عَلَيَّ هُمُومُهَا طَوْرًا أَحِنُّ وَتَارَةً أَتَمَلْمَلُ
وَاعَتَادَنِي حُزْنٌ فَبِتُّ كَأَنَّنِي بِبَنَاتِ نَعْشٍ وَالسِّمَاكِ مُوَكَّلُ
وَكَأَنَّمَا بَيْنَ الْجَوَانِحِ وَالْحَشَا مِمَّا تَأَوَّبَنِي شِهَابٌ
مُدْخَلُ
وَجْدًا عَلَى النَّفَرِ الَّذِينَ تَتَابَعُوا يَوْمًا بِمُؤْتَةَ أُسْنِدُوا
لَمْ يُنْقَلُوا
صَلَّى الْإِلَهُ عَلَيْهُمُ مِنْ فِتْيَةٍ وَسَقَى عِظَامَهُمُ الْغَمَامُ
الْمُسْبِلُ
صَبَرُوا بِمُؤْتَةَ لِلْإِلَهِ نُفُوسَهُمْ حَذَرَ الرَّدَى وَمَخَافَةً أَنْ
يَنْكُلُوا
فَمَضَوْا أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ كَأَنَّهُمْ فُنُقٌ عَلَيْهِنَّ الْحَدِيدُ
الْمُرْفَلُ
إِذْ يَهْتَدُونَ بِجَعْفَرٍ وَلِوَائِهِ قُدَّامَ أَوَّلِهِمْ فَنِعْمَ
الْأَوَّلُ
حَتَّى تَفَرَّجَتِ الصُّفُوفُ وَجَعْفَرٌ حَيْثُ الْتَقَى وَعْثُ الصُّفُوفِ
مُجَدَّلُ
فَتَغَيَّرَ الْقَمَرُ
الْمُنِيرُ لِفَقْدِهِ وَالشَّمْسُ قَدْ كَسَفَتْ وَكَادَتْ تَأْفِلُ
قَرْمٌ عَلَا بُنْيَانُهُ مِنْ هَاشِمٍ فَرْعًا أَشَمَّ وَسُؤْدَدًا مَا يُنْقَلُ
قَوْمٌ بِهِمْ عَصَمَ الِإِلَهُ عِبَادَهُ وَعَلَيْهِمُ نَزَلَ الْكِتَابُ
الْمُنْزَلُ
فَضَلُوا الْمَعَاشِرَ عِزَّةً وَتَكُرُّمَا وَتَغَمَّدَتْ أَحْلَامَهُمْ مَنْ
يَجْهَلُ
لَا يُطْلِقُونَ إِلَى السَّفَاهِ حُبَاهُمُ وَيُرَى خَطِيبُهُمُ بِحَقٍّ يَفْصِلُ
بِيضُ الْوُجُوهِ تَرَى بُطُونَ أَكُفِّهِمْ تَنْدَى إِذَا اعْتَذَرَ الزَّمَانُ
الْمُمْحِلُ
وَبِهَدْيِهِمْ رَضِيَ الْإِلَهُ لِخَلْقِهِ وَبِجِدِّهِمْ نُصِرَ النَّبِيُّ
الْمُرْسَلُ
بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كِتَابُ بَعْثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُلُوكِ
الْآفَاقِ وَكَتْبِهِ إِلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ، إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
وَإِلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ
ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ ذَلِكَ فِي آخِرِ سَنَةِ سِتٍّ فِي ذِي الْحِجَّةِ،
بَعْدَ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْفَصْلَ فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ، بَعْدَ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا خِلَافَ
بَيْنَهُمْ أَنَّ بَدْءَ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ وَبَعْدَ
الْحُدَيْبِيَةِ، لِقَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ لِهِرَقْلَ حِينَ سَأَلَهُ: هَلْ
يَغْدِرُ ؟ فَقَالَ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ
صَانِعٌ فِيهَا. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: وَذَلِكَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي
مَادَّ فِيهَا أَبُو سُفْيَانَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ ذَلِكَ مَا بَيْنَ الْحُدَيْبِيَةِ
وَوَفَاتِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَنَحْنُ نَذْكُرُ ذَلِكَ
هَاهُنَا، وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْوَاقِدِيِّ مُحْتَمَلًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ حَمَّادٍ الْمَعْنِيِّ، عَنْ عَبْدِ
الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ قَبْلَ مَوْتِهِ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَإِلَى
النَّجَاشِيِّ، وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ، يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ
وَجَلَّ، وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي
الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ، مِنْ فِيهِ إِلَى
فِيَّ، قَالَ: كُنَّا قَوْمًا تُجَّارًا، وَكَانَتِ الْحَرْبُ قَدْ حَصَرَتْنَا
حَتَّى نَهَكَتْ أَمْوَالَنَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْهُدْنَةُ - هُدْنَةُ
الْحُدَيْبِيَةِ - بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ نَأْمَنْ أَنْ وَجَدْنَا أَمْنًا، فَخَرَجْتُ تَاجِرًا إِلَى
الشَّامِ مَعَ رَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ بِمَكَّةَ امْرَأَةً
وَلَا رَجُلًا إِلَّا وَقَدْ حَمَّلَنِي بِضَاعَةً، وَكَانَ وَجْهُ مَتْجَرِنَا
مِنَ الشَّامِ غَزَّةَ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، فَخَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَاهَا،
وَذَلِكَ حِينَ ظَهَرَ قَيْصَرُ صَاحِبُ الرُّومِ عَلَى مَنْ كَانَ فِي بِلَادِهِ
مِنَ الْفُرْسِ، فَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ صَلِيبَهُ الْأَعْظَمَ،
وَقَدْ كَانَ اسْتَلَبُوهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا أَنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ
مَنْزِلُهُ بِحِمْصَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فَخَرَجَ مِنْهَا يَمْشِي مُتَشَكِّرًا
إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
لِيُصَلِّيَ فِيهِ، تُبْسَطُ لَهُ الْبُسُطُ، وَتُطْرَحُ لَهُ عَلَيْهَا الرَّيَاحِينُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى إِيلِيَاءَ فَصَلَّى بِهَا، فَأَصْبَحَ ذَاتَ غَدَاةٍ وَهُوَ مَهْمُومٌ، يُقَلِّبُ طَرَفَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَتْ بِطَارِقَتُهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، لَقَدْ أَصْبَحْتَ مَهْمُومًا. فَقَالَ: أَجَلْ. فَقَالُوا: وَمَا ذَاكَ ؟ فَقَالَ: أُرِيتُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَنَّ مَلِكَ الْخِتَانِ ظَاهِرٌ. فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ تَخْتَتِنُ إِلَّا الْيَهُودَ، وَهُمْ تَحْتَ يَدَيْكَ وَفِي سُلْطَانِكَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ هَذَا فِي نَفْسِكَ مِنْهُمْ، فَابْعَثْ فِي مَمْلَكَتِكَ كُلِّهَا، فَلَا يَبْقَى يَهُودِيٌّ إِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، فَتَسْتَرِيحُ مِنْ هَذَا الْهَمِّ، فَإِنَّهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِمْ يُدَبِّرُونَهُ، إِذْ أَتَاهُمْ رَسُولُ صَاحِبِ بُصْرَى بِرَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ قَدْ وَقَعَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ أَهْلِ الشَّاءِ وَالْإِبِلِ، يُحَدِّثُكَ عَنْ حَدَثٍ كَانَ بِبِلَادِهِ، فَاسْأَلْهُ عَنْهُ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ، قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: سَلْهُ مَا هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي كَانَ فِي بِلَادِهِ ؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ قُرَيْشٍ، خَرَجَ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَقَدِ اتَّبَعَهُ أَقْوَامٌ وَخَالَفَهُ آخَرُونَ، وَقَدْ كَانَتْ بَيْنَهُمْ مَلَاحِمُ فِي مَوَاطِنَ، فَخَرَجْتُ مِنْ بِلَادِي وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا أَخْبَرَهُ الْخَبَرَ قَالَ: جَرِّدُوهُ. فَإِذَا هُوَ مَخْتُونٌ، فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي قَدْ أُرِيتُ، لَا مَا تَقُولُونَ، أَعْطِهِ ثَوْبَهُ، انْطَلِقْ لِشَأْنِكَ. ثُمَّ إِنَّهُ دَعَا صَاحِبَ شُرْطَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: قَلِّبْ لِيَ الشَّامَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، حَتَّى تَأْتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ قَوْمِ هَذَا أَسْأَلُهُ عَنْ شَأْنِهِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَاللَّهِ إِنِّي وَأَصْحَابِي لَبِغَزَّةَ، إِذْ هَجَمَ عَلَيْنَا، فَسَأَلَنَا: مِمَّنْ أَنْتُمْ ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ، فَسَاقَنَا إِلَيْهِ جَمِيعًا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِنْ رَجُلٍ قَطُّ أَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ أَدْهَى مِنْ ذَلِكَ الْأَغْلَفِ - يُرِيدُ هِرَقْلَ - قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ قَالَ:
أَيُّكُمْ أَمَسُّ بِهِ رَحِمًا ؟ فَقُلْتُ: أَنَا. قَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي. قَالَ: فَأَجْلَسَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ أَمَرَ بِأَصْحَابِي، فَأَجْلَسَهُمْ خَلَفِي، وَقَالَ: إِنْ كَذَبَ فَرُدُّوا عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَقَدْ عَرَفْتُ أَنِّي لَوْ كَذِبْتُ مَا رَدُّوا عَلَيَّ، وَلَكِنِّي كُنْتُ امْرَأً سَيِّدًا، أَتَكَرَّمُ وَأَسْتَحِي مِنَ الْكَذِبِ، وَعَرَفْتُ أَنَّ أَدْنَى مَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَرْوُوهُ عَنِّي، ثُمَّ يَتَحَدَّثُوا بِهِ عَنِّي بِمَكَّةَ، فَلَمْ أَكْذِبْهُ. فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي خَرَجَ فِيكُمْ. فَزَهَّدْتُ لَهُ شَأْنَهُ، وَصَغَّرْتُ لَهُ أَمْرَهُ، فَوَاللَّهِ مَا الْتَفَتَ إِلَى ذَلِكَ مِنِّي، وَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِهِ. فَقُلْتُ: سَلْنِي عَمَّا بَدَا لَكَ ؟ فَقَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ ؟ فَقُلْتُ: مَحْضًا، مِنْ أَوْسَطِنَا نَسَبًا. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي هَلْ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَحَدٌ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِ، فَهُوَ يَتَشَبَّهُ بِهِ ؟ فَقُلْتُ: لَا. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي هَلْ كَانَ لَهُ مُلْكٌ فَاسْتَلَبْتُمُوهُ إِيَّاهُ، فَجَاءَ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِتَرُدُّوهُ عَلَيْهِ ؟ فَقُلْتُ: لَا. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَتْبَاعِهِ مَنْ هُمْ ؟ فَقُلْتُ: الْأَحْدَاثُ وَالضُّعَفَاءُ وَالْمَسَاكِينُ فَأَمَّا أَشْرَافُهُمْ وَذَوُو الْأَسْنَانِ فَلَا. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَمَّنْ يَصْحَبُهُ، أَيُحِبُّهُ وَيَلْزَمُهُ، أَمْ يَقْلِيهِ وَيُفَارِقُهُ ؟ قُلْتُ: قَلَّ مَا صَحِبَهُ رَجُلٌ فَفَارَقَهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ ؟ فَقُلْتُ:
سِجَالٌ، يُدَالُ عَلَيْنَا وَنُدَالُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي هَلْ يَغْدِرُ ؟ فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَغُرُّهُ بِهِ إِلَّا هِيَ، قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ، وَلَا نَأْمَنُ غَدْرَهُ فِيهَا. فَوَاللَّهِ مَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا مِنِّي. قَالَ: فَأَعَادَ عَلَيَّ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: زَعَمْتَ أَنَّهُ مِنْ أَمْحَضِكُمْ نَسَبًا، وَكَذَلِكَ يَأْخُذُ اللَّهُ النَّبِيَّ إِذَا أَخَذَهُ، لَا يَأْخُذُهُ إِلَّا مِنْ أَوْسَطِ قَوْمِهِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَحَدٌ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِ فَهُوَ يَتَشَبَّهُ بِهِ، فَقُلْتَ: لَا. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ لَهُ مُلْكٌ فَاسْتَلَبْتُمُوهُ إِيَّاهُ، فَجَاءَ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِتَرُدُّوا عَلَيْهِ مُلْكَهُ، فَقُلْتَ: لَا. وَسَأَلْتُكُ عَنْ أَتْبَاعِهِ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُمُ الْأَحْدَاثُ وَالْمَسَاكِينُ وَالضُّعَفَاءُ، وَكَذَلِكَ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَسَأَلْتُكَ عَمَّنْ يَتَّبِعُهُ، أَيُحِبُّهُ وَيَلْزَمُهُ، أَمْ يَقْلِيهِ وَيُفَارِقُهُ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ قَلَّ مَنْ يَصْحَبُهُ فَيُفَارِقُهُ، وَكَذَلِكَ حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ، لَا تَدْخُلُ قَلْبًا فَتَخْرُجُ مِنْهُ، وَسَأَلْتُكَ كَيْفَ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، فَزَعَمْتَ أَنَّهَا سِجَالٌ، يُدَالُ عَلَيْكُمْ وَتُدَالُونَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ تَكُونُ حَرْبُ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَهُمْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ لَا يَغْدِرُ، فَلَئِنْ كُنْتَ صَدَقْتَنِي، لَيَغْلِبَنَّ عَلَى مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي عِنْدَهُ فَأَغْسِلُ عَنْ قَدَمَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: الْحَقْ بِشَأْنِكَ، قَالَ: فَقُمْتُ وَأَنَا أَضْرِبُ إِحْدَى يَدَيَّ عَلَى الْأُخْرَى، وَأَقُولُ: يَا عِبَادَ اللَّهِ، لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ
أَبِي كَبْشَةَ !
أَصْبَحَ مُلُوكُ بَنِي الْأَصْفَرِ يَخَافُونَهُ فِي سُلْطَانِهِمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أُسْقُفٌّ
مِنَ النَّصَارَى، قَدْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ قَالَ: قَدِمَ دِحْيَةُ بْنُ
خَلِيفَةَ عَلَى هِرَقْلَ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ
اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى،
أَمَّا بَعْدُ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ
مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ إِثْمَ الْأَكَّارِينَ عَلَيْكَ قَالَ:
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ كِتَابُهُ وَقَرَأَهُ، أَخَذَهُ فَجَعَلَهُ بَيْنَ فَخِذِهِ
وَخَاصِرَتِهِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ رُومِيَّةَ، كَانَ يَقْرَأُ
مِنَ الْعِبْرَانِيَّةِ مَا يَقْرَأُ، يُخْبِرُهُ عَمَّا جَاءَهُ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّهُ
النَّبِيُّ الَّذِي يُنْتَظَرُ لَا شَكَّ فِيهِ، فَاتَّبِعْهُ. فَأَمَرَ
بِعُظَمَاءِ الرُّومِ، فَجُمِعُوا لَهُ فِي دَسْكَرَةِ مُلْكِهِ، ثُمَّ أَمَرَ
بِهَا فَأُشْرِجَتْ عَلَيْهِمْ، وَاطَّلَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ عِلِّيَّةٍ لَهُ
وَهُوَ مِنْهُمْ خَائِفٌ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، إِنَّهُ قَدْ جَاءَنِي
كِتَابُ أَحْمَدَ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ النَّبِيُّ الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُ
وَنَجِدُ ذِكْرَهُ فِي كِتَابِنَا، نَعْرِفُهُ بِعَلَامَاتِهِ وَزَمَانِهِ،
فَأَسْلِمُوا وَاتَّبِعُوهُ تَسْلَمْ لَكُمْ دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتُكُمْ.
فَنَخَرُوا
نَخْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَابْتَدَرُوا أَبْوَابَ الدَّسْكَرَةِ فَوَجَدُوهَا مُغْلَقَةً دُونَهُمْ، فَخَافَهُمْ وَقَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ. فَرَدُّوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، إِنِّي إِنَّمَا قُلْتُ لَكُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ أَخْتَبِرُكُمْ بِهَا، لِأَنْظُرَ كَيْفَ صَلَابَتُكُمْ فِي دِينِكُمْ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ مِنْكُمْ مَا سَرَّنِي. فَوَقَعُوا لَهُ سُجَّدًا، ثُمَّ فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ الدَّسْكَرَةِ