21.. / 3 البداية والنهاية تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ)
مَعَ
أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ الْمُخْتَارِ: مَا كَانَ يُحَدِّثُنَا كَعْبُ الْأَحْبَارِ شَيْئًا إِلَّا وَجَدْنَاهُ إِلَّا قَوْلَهُ: إِنَّ فَتَى ثَقِيفٍ يَقْتُلُنِي، وَهَذَا رَأْسُهُ بَيْنَ يَدَيَّ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: وَلَمْ يَشْعُرْ أَنَّهُ قَدْ خُبِّئَ لَهُ الْحَجَّاجُ. وَرُوِيَ هَذَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
قُلْتُ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّ مَقْتَلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ
كَانَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَابِعَ عَشَرَ
مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَقِيلَ: الْآخِرَةِ مِنْهَا. وَعَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ
أَنَّ مَقْتَلَهُ كَانَ عَلَى رَأْسِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَالصَّحِيحُ
الْمَشْهُورُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَكَانَتْ بَيْعَتُهُ فِي سَابِعِ رَجَبٍ سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي أَوَّلِ سَنَةِ إِحْدَى مِنَ
الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ: فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَجَاوَزَ
السَّبْعِينَ قَطْعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا أُمُّهُ فَإِنَّهَا لَمْ تَعِشْ بَعْدَهُ إِلَّا مِائَةَ يَوْمٍ،
وَقِيلَ: إِنَّمَا عَاشَتْ بَعْدَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: خَمْسَةً.
وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَسَتَأْتِي تَرْجَمَتُهَا قَرِيبًا رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا.
وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ: خُبَيْبٌ وَحَمْزَةُ وَعَبَّادٌ وَثَابِتٌ،
وَأُمُّهُمْ تُمَاضِرُ بِنْتُ مَنْظُورٍ الْفَزَارِيِّ، وَهَاشِمٌ وَقَيْسٌ
وَعُرْوَةُ - قُتِلَ مَعَ أَبِيهِ - وَالزُّبَيْرُ، وَأُمُّهُمْ أُمُّ هَاشِمٍ
بِنْتُ حُلَّةَ بْنِ مَنْظُورٍ، وَعَامِرٌ وَمُوسَى وَأُمُّ حَكِيمٍ وَفَاطِمَةُ
وَفَاخِتَةُ، وَأُمُّهُمْ جُثَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ
بْنِ هِشَامٍ، وَبَكْرٌ وَرُقَيَّةُ، وَأُمُّهُمْ عَائِشَةُ بِنْتُ عُثْمَانَ بْنِ
عَفَّانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ وَمُصْعَبٌ مِنْ أُمِّ وَلَدٍ.
وَقَدْ أَسْنَدَ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا.
وَقَدْ رُثِيَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَخُوهُ مُصْعَبٌ بِمَرَاثٍ كَثِيرَةٍ حَسَنَةٍ
بَلِيغَةٍ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْمَرٍ
الذُّهْلِيِّ يَرْثِيهُمَا بِأَبْيَاتٍ:
لَعَمْرُكَ مَا أَبْقَيْتُ فِي النَّاسِ حَاجَةً وَلَا
كُنْتُ مَلْبُوسَ الْهُدَى مُتَذَبْذِبًا
غَدَاةَ دَعَانِي مُصْعَبٌ فَأَجَبْتُهُ وَقَلْتُ لَهُ أَهْلًا وَسَهْلًا
وَمَرْحَبًا
أَبُوكَ حَوَارِيُّ الرَّسُولِ وَسَيْفُهُ فَأَنْتَ بِحَمْدِ اللَّهِ مِنْ
خَيْرِنَا أَبَا
وَذَاكَ أَخُوكَ الْمُهْتَدَى بِضِيَائِهِ بِمَكَّةَ يَدْعُونَا دُعَاءً
مُثَوَّبَا
وَلَمْ أَكُ ذَا وَجْهَيْنِ وَجْهٍ لِمُصْعَبٍ مَرِيضٍ وَوَجْهٍ لِابْنِ مَرْوَانَ
إِذْ صَبَا
وَكُنْتُ امْرَأً نَاصَحْتُهُ غَيْرَ مُؤْثِرٍ عَلَيْهِ ابْنَ مَرْوَانَ وَلَا
مُتَقَرِّبَا
إِلَيْهِ بِمَا تُقْذَى بِهِ عَيْنُ مُصْعَبٍ وَلَكِنَّنِي نَاصَحْتُ فِي اللَّهِ
مُصْعَبَا
إِلَى أَنْ رَمَتْهُ الْحَادِثَاتُ بِسَهْمِهَا فَلِلَّهِ سَهْمًا مَا أَسَدَّ
وَأَصْوَبَا
فَإِنْ يَكُ هَذَا الدَّهْرُ أَوْدَى بِمُصْعَبٍ وَأَصْبَحَ عَبْدُ اللَّهِ
شِلْوًا مُلَحَّبَا
فَكُلُّ امْرِئٍ حَاسٍ مِنَ الْمَوْتِ جُرْعَةً وَإِنْ حَادَ عَنْهَا جُهْدَهُ
وَتَهَيَّبَا
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِأَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ دَمَ مَحَاجِمِهِ يُهَرِيقُهُ، فَحَسَاهُ، فَلَمَّا رَجَعَ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا صَنَعْتَ يَا
عَبْدَ اللَّهِ بِالدَّمِ ؟ قُلْتُ: جَعَلْتُهُ فِي مَكَانٍ ظَنَنْتُ أَنَّهُ
خَافٍ عَلَى النَّاسِ. قَالَ: فَلَعَلَّكَ شَرِبْتَهُ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ:
وَمَنْ أَمَرَكَ أَنْ تَشْرَبَ الدَّمَ ؟ وَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ، وَوَيْلٌ
لِلنَّاسِ مِنْكَ.
وَدَخَلَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ مَرَّةً عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ
قَائِمٌ فِي الدِّهْلِيزِ، وَمَعَهُ طَسْتٌ يَشْرَبُ مِنْهُ، فَدَخَلَ سَلْمَانُ،
وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ لَهُ: فَرَغْتَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ سَلْمَانُ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؟ قَالَ: أَعْطَيْتَهُ غُسَالَةَ مَحَاجِمِي يُهَرِيقُ مَا فِيهَا. قَالَ
سَلْمَانُ: شَرِبَهَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ. قَالَ: شَرِبْتَهُ ؟ قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ: لِمَ ؟ قَالَ: أَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ دَمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَوْفِي. فَقَالَ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ، وَقَالَ: وَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ، وَوَيْلٌ لِلنَّاسِ مِنْكَ، لَا
تَمَسُّكَ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ.
وَلَمَّا بَعَثَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ ذَلِكَ
الْقَيْدَ مِنْ ذَهَبٍ، وَسِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ، وَجَامِعَةً مِنْ فِضَّةٍ،
وَأَقْسَمَ لَتَأْتِيَنِّي فِيهَا، فَقَالُوا لَهُ: بِرَّ قَسَمَ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ:
وَلَا أَلِينُ لِغَيْرِ الْحَقِّ أَسْأَلُهُ حَتَّى يَلِينَ لِضِرْسِ الْمَاضِغِ
الْحَجَرُ
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَضَرْبَةٌ بِسَيْفٍ بِعِزٍّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ
ضَرْبَةٍ بِسَوْطٍ فِي ذُلٍّ. ثُمَّ دَعَا إِلَى نَفْسِهِ، وَأَظْهَرَ الْخِلَافَ
لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ دَخَلَ عَلَى أُمِّهِ فَقَالَ:
إِنَّ فِي الْمَوْتِ لَرَاحَةٌ. وَكَانَتْ أُمُّهُ قَدْ أَتَتْ عَلَيْهَا مِائَةُ
سَنَةٍ لَمْ يَسْقُطْ لَهَا سِنٌّ، وَلَمْ يَفْسُدْ لَهَا بَصَرٌ، فَقَالَتْ لَهُ:
مَا أُحِبُّ أَنْ أَمُوتَ حَتَّى آتِيَ عَلَى أَحَدِ طَرَفَيْكَ، إِمَّا أَنْ
تَمْلِكَ فَتَقَرَّ عَيْنِي، وَإِمَّا أَنْ تُقْتَلَ فَأَحْتَسِبَكَ. ثُمَّ خَرَجَ
عَنْهَا، وَهُوَ يَقُولُ:
وَلَسْتُ بِمُبْتَاعِ الْحَيَاةِ بِسُبَّةٍ وَلَا مُرْتَقٍ
مِنْ خَشْيَةِ الْمَوْتِ سُلَّمَا
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى آلِ الزُّبَيْرِ يَعِظُهُمْ وَيَقُولُ: لِيُكِنَّ أَحَدُكُمْ
سَيْفَهُ كَمَا يُكِنُّ وَجْهَهُ، فَيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ
امْرَأَةٌ، وَاللَّهِ مَا لَقِيتُ زَحْفًا قَطُّ إِلَّا فِي الرَّعِيلِ
الْأَوَّلِ، وَمَا أَلِمْتُ جُرْحًا إِلَّا أَلَمَ الدَّوَاءِ، ثُمَّ حَمَلَ
عَلَيْهِمْ وَمَعَهُ سَيْفَانِ، فَأَوَّلُ مَنْ لَقِيَهُ الْأَسْوَدُ، فَضَرَبَهُ
بِسَيْفِهِ حَتَّى أَطَنَّ رِجْلَهُ، فَقَالَ لَهُ الْأَسْوَدُ: أَخُّ يَابْنَ
الزَّانِيَةِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: اخْسَأْ يَابْنَ حَامٍ، أَسْمَاءُ
زَانِيَةٌ ؟ ! ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ عَلَى ظَهْرِ
الْمَسْجِدِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْوَانِهِ يَرْمُونَ أَعْدَاءَهُ بِالْآجُرِّ،
فَأَصَابَتْهُ آجُرَّةٌ مِنْ أَعْوَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فِي مَفْرِقِ
رَأْسِهِ، فَفَلَقَتْ رَأْسَهُ، فَوَقَفَ قَائِمًا وَهُوَ يَقُولُ:
لَوْ كَانَ قَرْنِي وَاحِدًا كَفَيْتُهُ
وَيَقُولُ:
وَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا
تَقْطُرُ الدِّمَا
ثُمَّ وَقَعَ، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ مَوْلَيَانِ لَهُ، وَهُمَا يَقُولَانِ:
الْعَبْدُ يَحْمِي رَبَّهُ وَيَحْتَمِي
ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَحَزُّوا رَأْسَهُ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ:
أَنَا حَاضِرٌ مَقْتَلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ، يَوْمَ قُتِلَ جَعَلَتِ الْجُيُوشُ تَدَخُلُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ،
وَكُلَّمَا دَخَلَ قَوْمٌ مِنْ بَابٍ حَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ،
فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ إِذْ جَاءَتْ شُرْفَةٌ مِنْ شُرُفَاتِ
الْمَسْجِدِ، فَوَقَعَتْ عَلَى رَأْسِهِ فَصَرَعَتْهُ، وَهُوَ يَتَمَثَّلُ
بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
أَسْمَاءُ يَا أَسْمَاءُ لَا تَبْكِينِي لَمْ يَبْقَ إِلَّا حَسَبِي وَدِينِي
وَصَارِمٌ لَانَتْ بِهِ يَمِينِي
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أُمَّهُ قَالَتْ لِلْحَجَّاجِ: أَمَا آنَ لِهَذَا الرَّاكِبِ
أَنْ يَنْزِلَ ؟ فَقَالَ الْحَجَّاجُ: ابْنُكُ الْمُنَافِقُ ؟ فَقَالَتْ:
وَاللَّهِ مَا كَانَ مُنَافِقًا، إِنْ كَانَ لَصَوَّامًا قَوَّامًا وَصُولًا
لِلرَّحِمِ. فَقَالَ: انْصَرِفِي يَا عَجُوزُ، فَإِنَّكِ قَدْ خَرِفْتِ.
فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا خَرِفْتُ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:يَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ
فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَقَدْ رَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَأَنْتَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَمَرَّ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ،
فَوَقَفَ فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ،
وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ وَقَالَ:
أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ.
وَرَوَى سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ:
ذَكَرْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: كَانَ عَفِيفًا فِي
الْإِسْلَامِ، قَارِئًا لِلْقُرْآنِ، صَوَّامًا قَوَّامًا، أَبُوهُ الزُّبَيْرُ،
وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ، وَجَدُّهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّتُهُ خَدِيجَةُ، وَجَدَّتُهُ
صَفِيَّةُ، وَخَالَتُهُ عَائِشَةُ، وَاللَّهِ لَأُحَاسِبَنَّ لَهُ بِنَفْسِي
مُحَاسَبَةً لَمْ أُحَاسِبْهَا لِأَبِي بَكْرٍ وَلَا لِعُمَرَ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا السَّاجِيُّ، ثَنَا حَوْثَرَةُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ أَبُو
سَعِيدٍ الْعَبْسِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ قَالَ:
شَهِدْتُ خُطْبَةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِالْمَوْسِمِ، خَرَجَ عَلَيْنَا قَبْلَ
التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَلَبَّى بِأَحْسَنِ تَلْبِيَةٍ
سَمِعْتُهَا قَطُّ، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا
بَعْدُ، فَإِنَّكُمْ جِئْتُمْ مِنْ آفَاقٍ شَتَّى وُفُودًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، فَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكْرِمَ وَفْدَهُ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ
يَطْلُبُ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّ طَالِبَ مَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يَخِيبُ،
فَصَدِّقُوا قَوْلَكُمْ بِفِعْلٍ، فَإِنَّ مَلَاكَ الْقَوْلِ الْفِعْلُ،
وَالنِّيَّةَ النِّيَّةَ، وَالْقُلُوبَ الْقُلُوبَ، اللَّهَ اللَّهَ فِي
أَيَّامِكُمْ هَذِهِ ; فَإِنَّهَا أَيَّامٌ تُغْفَرُ فِيهَا الذُّنُوبُ، جِئْتُمْ
مِنْ آفَاقٍ شَتَّى فِي غَيْرِ تِجَارَةٍ، وَلَا طَلَبِ مَالٍ، وَلَا دُنْيَا
تَرْجُونَهَا هَاهُنَا. ثُمَّ لَبَّى وَلَبَّى النَّاسُ، فَمَا رَأَيْتُ بَاكِيًا
أَكْثَرَ مِنْ يَوْمِئِذٍ.
وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ قَالَ: ثَنَا حِبَّانُ
بْنُ مُوسَى، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، ثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ،
عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: كُتِبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ
بِمَوْعِظَةٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ لِأَهْلِ التَّقْوَى عَلَامَاتٌ يُعْرَفُونَ
بِهَا، وَيَعْرِفُونَهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ: صِدْقُ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءُ
الْأَمَانَةِ، وَكَظْمُ الْغَيْظِ، وَصَبْرٌ عَلَى الْبَلَاءِ، وَرِضًا
بِالْقَضَاءِ، وَشُكْرٌ لِلنَّعْمَاءِ، وَذُلٌّ لِحُكْمِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا
الْإِمَامُ كَالسُّوقِ ; مَا نَفَقَ فِيهَا حُمِلَ إِلَيْهَا، إِنْ نَفَقَ
الْحَقُّ عِنْدَهُ حُمِلَ إِلَيْهِ وَجَاءَهُ أَهْلُهُ، وَإِنْ نَفَقَ الْبَاطِلُ
عِنْدَهُ حُمِلَ إِلَيْهِ وَجَاءَهُ أَهْلُهُ.
وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: ثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ
كَيْسَانَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يُعْطِي سَلَمَهُ قَطُّ
لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةِ سُلْطَانٍ وَلَا غَيْرِهِ.
وَبِهَذِهِ الْإِسْنَادَاتِ أَهْلُ الشَّامِ كَانُوا يُعَيِّرُونَ ابْنَ
الزُّبَيْرِ وَيَقُولُونَ لَهُ: يَابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ. فَقَالَتْ لَهُ
أَسْمَاءُ: يَا بُنَيَّ، إِنَّهُمْ يُعَيِّرُونَكَ بِالنِّطَاقَيْنِ، وَإِنَّمَا كَانَ
لِي نِطَاقٌ وَاحِدٌ شَقَقْتُهُ نِصْفَيْنِ ; فَجَعَلْتُ فِي سُفْرَةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدَهُمَا، وَأَوْكَيْتُ قِرْبَتَهُ
بِالْآخَرِ لَمَّا خَرَجَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ يُرِيدَانِ الْهِجْرَةَ إِلَى
الْمَدِينَةِ. فَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا عَيَّرُوهُ
بِالنِّطَاقَيْنِ يَقُولُ: إِيهًا وَاللَّهِ:
وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ قُتِلَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ بِمَكَّةَ
مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، أَبُو
صَفْوَانَ الْمَكِّيُّ
وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَبِيهِ، أَدْرَكَ حَيَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَى عَنْ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ،
وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ، وَكَانَ سَيِّدًا شَرِيفًا مُطَاعًا
حَلِيمًا، يَحْتَمِلُ الْأَذَى، لَوْ سَبَّهُ عَبْدٌ أَسْوَدُ، مَا اسْتَنْكَفَ
عَنْهُ، وَلَمْ يَقْصِدْهُ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ فَرَدَّهُ خَائِبًا، وَلَا سَمِعَ
بِمَفَازَةٍ إِلَّا حَفَرَ جُبًّا، أَوْ عَمِلَ فِيهَا بِرْكَةً، وَلَا عَقَبَةٍ
إِلَّا سَهَّلَهَا.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ قَدِمَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ
مِنَ الْعِرَاقِ، فَأَطَالَ الْخَلْوَةَ مَعَهُ، فَجَاءَ ابْنُ صَفْوَانَ فَقَالَ:
مَنْ هَذَا الَّذِي شَغَلَكَ مُنْذُ الْيَوْمِ ؟ قَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعَرَبِ
مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُهَلَّبَ. فَقَالَ
الْمُهَلَّبُ لِابْنِ الزُّبَيْرِ: وَمَنْ هَذَا الَّذِي يَسْأَلُ عَنِّي يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ: هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ. فَقَالَ:
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ. وَكَانَ ابْنُ صَفْوَانَ
كَرِيمًا جِدًّا.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ بِسَنَدِهِ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَدِمَ حَاجًّا
فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ
تَلَقَّاهُ، فَجَعَلَ يُسَايِرُ مُعَاوِيَةَ، وَجَعَلَ أَهْلُ
الشَّامِ يَقُولُونَ: مَنْ هَذَا الَّذِي يُسَايِرُ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى مَكَّةَ إِذَا الْجَبَلُ أَبْيَضُ مِنَ
الْغَنَمِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذِهِ غَنَمٌ أَجْزَرْتُكَهَا ;
تُقَسِّمُهَا بَيْنَ الْجُنْدِ. فَإِذَا هِيَ أَلَفَا شَاةٍ، فَقَالُوا: مَا
رَأَيْنَا أَكْرَمَ مِنِ ابْنِ عَمِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
ثُمَّ كَانَ ابْنُ صَفْوَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ صَبَرَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ
حِينَ حَصَرَهُ الْحَجَّاجُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنِّي قَدْ
أَقَلْتُكَ بَيْعَتِي، فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ. فَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا
قَاتَلْتُ عَنْ دِينِي. ثُمَّ صَبَّرَ نَفْسَهُ، حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ
بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ
مَثْوَاهُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ حَارِثَةَ الْقُرَشِيُّ
الْعَدَوِيُّ الْمَدَنِيُّ
وُلِدَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَحَنَّكَهُ، وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَرَوَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ
بَعْدَ الْيَوْمِ صَبْرًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَعَنْهُ ابْنَاهُ: إِبْرَاهِيمُ، وَ مُحَمَّدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِيسَى بْنُ
طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُوسَى.
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: كَانَ ابْنُ مُطِيعٍ مِنْ كِبَارِ رِجَالِ
قُرَيْشٍ جَلَدًا وَشَجَاعَةً،
وَأَخْبَرَنِي عَمِّي مُصْعَبٌ أَنَّهُ كَانَ عَلَى
قُرَيْشٍ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَقُتِلَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، وَهُوَ
الَّذِي يَقُولُ:
أَنَا الَّذِي فَرَرْتُ يَوْمَ الْحَرَّةْ وَالشَّيْخُ لَا يَفِرُّ إِلَّا مَرَّةْ
لَأُجْبُرَنَّ كَرَةً بِفَرَّةْ
رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَوْفٍ الْأَشْجَعِيُّ الْغَطَفَانِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، شَهِدَ مُؤْتَةَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَالْأُمَرَاءِ
قَبْلَهُ، وَشَهِدَ الْفَتْحَ، وَكَانَتْ مَعَهُ رَايَةُ قَوْمِهِ يَوْمَئِذٍ،
وَشَهِدَ فَتْحَ الشَّامِ، وَرَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ، وَأَبُو
هُرَيْرَةَ، وَقَدْ مَاتَ قَبْلَهُ، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَخَلِيفَةُ بْنُ
خَيَّاطٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ
وَسَبْعِينَ بِالشَّامِ.
أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
وَالِدَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ،
وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ عَامَ الْهِجْرَةِ حِينَ شَقَّتْ نِطَاقَهَا،
وَرَبَطَتْ بِهِ سُفْرَةَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي
بَكْرٍ حِينَ خَرَجَا إِلَى غَارِ ثَوْرٍ لِلْهِجْرَةِ. وَأُمُّهَا قَيْلَةُ،
وَقِيلَ: قُتَيْلَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ.
أَسْلَمَتْ أَسْمَاءُ قَدِيمًا، وَهُمْ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ،
وَهَاجَرَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا الزُّبَيْرُ، وَهِيَ حَامِلٌ مُتِمٌّ بِوَلَدِهَا
عَبْدِ اللَّهِ، فَوَضَعَتْهُ بِقُبَاءٍ، أَوَّلَ مَقْدِمِهِمِ الْمَدِينَةَ،
ثُمَّ وَلَدَتْ لِلزُّبَيْرِ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْوَةَ، وَ الْمُنْذِرَ، ثُمَّ
لَمَّا كَبُرَتْ طَلَّقَهَا الزُّبَيْرُ، وَقِيلَ: بَلْ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ
ابْنُهُ: إِنَّ مِثْلِي لَا تُوطَأُ أُمُّهُ. فَطَلَّقَهَا الزُّبَيْرُ، وَقِيلَ:
بَلِ اخْتَصَمَتْ هِيَ وَالزُّبَيْرُ، فَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ لِيُصْلِحَ
بَيْنَهُمَا، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: إِنْ دَخَلْتَ فَهِيَ طَالِقٌ. فَدَخَلْتُ
فَبَانَتْ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ عُمِّرَتْ أَسْمَاءُ دَهْرًا صَالِحًا وَأَضَرَّتْ
فِي آخِرِ عُمُرِهَا، وَقِيلَ: بَلْ كَانَتْ صَحِيحَةَ الْبَصَرِ، لَمْ يَسْقُطْ
لَهَا سِنٌّ، وَأَدْرَكَتْ قَتْلَ وَلَدِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا
ذَكَرْنَا، ثُمَّ مَاتَتْ بَعْدَهُ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: بِعَشَرَةٍ.
وَقِيلَ: بِعِشْرِينَ. وَقِيلَ: بِبِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَقِيلَ: عَاشَتْ
بَعْدَهُ مِائَةَ يَوْمٍ. وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَبَلَغَتْ مِنَ الْعُمُرِ مِائَةَ
سَنَةٍ، وَلَمْ يَسْقُطْ لَهَا سِنٌّ، وَلَمْ يُنْكَرْ لَهَا عَقْلٌ، رَحِمَهَا
اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهَا، وَقَدْ رَوَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ طَيِّبَةٍ مُبَارَكَةٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
وَرَحِمَهَا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - يَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ
- عَزَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْبَصْرَةِ،
وَأَضَافَهَا إِلَى أَخِيهِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ مَعَ الْكُوفَةِ، فَارْتَحَلَ
إِلَيْهَا بِشْرٌ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ.
وَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ الصَّائِفَةَ، فَهَزَمَ الرُّومَ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقْعَةُ عُثْمَانَ بْنِ الْوَلِيدِ
بِالرُّومِ، مِنْ نَاحِيَةِ أَرْمِينِيَّةَ، وَهُوَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ،
وَالرُّومُ فِي سِتِّينَ أَلْفًا، فَهَزَمَهُمْ، وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ.
وَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ
الثَّقَفِيُّ أَيْضًا، وَهُوَ عَلَى
مَكَّةَ وَالْيَمَنِ وَالْيَمَامَةِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ
وَالْبَصْرَةِ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ، فِي قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ، وَفِي قَوْلِ
غَيْرِهِ: عَلَى الْكُوفَةِ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ خَالِدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحُ بْنُ الْحَارِثِ.
وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ. وَعَلَى إِمْرَةِ
خُرَاسَانَ بُكَيْرُ بْنُ وِشَاحٍ، يَعْنِي الَّذِي كَانَ نَائِبًا لِعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا غَيْرُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَ ابْنِ
الزُّبَيْرِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ، وَشَهِدَ الْيَرْمُوكَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ وَالْغَزْوِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيُّ
أَبُو مُحَمَّدٍ، لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ.
مَالِكُ بْنُ مِسْمَعِ بْنِ غَسَّانَ الْبَصْرِيُّ
كَانَ شَدِيدَ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ.
ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ الْأَنْصَارِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، يُقَالُ
لَهُ: أَبُو زَيْدٍ الْأَشْهَلِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ
الْبَيْعَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: أَخْبَرَنِي
أَبُو قِلَابَةَ، أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَايَعَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَأَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا
بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ.
زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيَّةُ
رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَدَتْهَا أُمُّهَا
بِالْحَبَشَةِ، وَلَهَا رِوَايَةٌ وَصُحْبَةٌ.
تَوْبَةُ بْنُ الْحُمَيِّرِ
وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: مَجْنُونُ لَيْلَى. كَانَ تَوْبَةُ يَشُنُّ
الْغَارَاتِ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، فَرَأَى لَيْلَى، فَهَوَاهَا
وَتَهَتَّكَ بِهَا، وَهَامَ بِهَا مَحَبَّةً وَعِشْقًا، وَقَالَ فِيهَا
الْأَشْعَارَ الْكَثِيرَةَ الْقَوِيَّةَ الرَّائِقَةَ، الَّتِي لَمْ يُسْبَقْ
إِلَيْهَا، وَلَمْ يُلْحَقْ فِيهَا ; لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَعَانِي
وَالْحِكَمِ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ مَرَّةً: هَلْ كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ لَيْلَى
رِيبَةٌ قَطُّ ؟ فَقَالَ: بَرِئْتُ مِنْ شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كُنْتُ قَطُّ حَلَلْتُ سَرَاوِيلِي عَلَى مُحَرَّمٍ.
وَقَدْ دَخَلَتْ لَيْلَى عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ تَشْكُو
ظُلَامَةً، فَقَالَ لَهَا: مَاذَا رَأَى مِنْكِ تَوْبَةُ حَتَّى عَشِقَكِ هَذَا
الْعِشْقَ كُلَّهُ ؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَمْ يَكُنْ
بَيْنِي وَبَيْنَهُ قَطُّ رِيبَةٌ، وَلَا خَنَا، وَإِنَّمَا الْعَرَبُ تَعْشَقُ
وَتَعِفُّ،
وَتَقُولُ الْأَشْعَارَ فِي مَنْ تَهْوَى وَتُحِبُّ، مَعَ الْعِفَّةِ وَالصِّيَانَةِ لِأَنْفُسِهَا عَنِ الدَّنَاءَاتِ. فَأَزَالَ ظُلَامَتَهَا وَأَجَازَهَا. تُوُفِّيَ تَوْبَةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ لَيْلَى جَاءَتْ إِلَى قَبْرِهِ فَبَكَتْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَتْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ
فِيهَا عَزَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ طَارِقَ بْنَ عَمْرٍو عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ،
وَأَضَافَهَا إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ، فَقَدِمَهَا
الْحَجَّاجُ، فَأَقَامَ بِهَا شَهْرًا، ثُمَّ خَرَجَ مُعْتَمِرًا، ثُمَّ عَادَ
إِلَى الْمَدِينَةِ فِي صَفَرٍ، فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَبَنَى فِي
بَنِي سَلَمَةَ مَسْجِدًا، وَهُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْيَوْمَ،
وَيُقَالُ: إِنَّ الْحَجَّاجَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَهَذِهِ الْمُدَّةِ خَتَمَ
جَابِرًا، وَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، وَقَرَّعَهُمَا ; لِمَ لَا نَصَرَا عُثْمَانَ
بْنَ عَفَّانَ، وَخَاطَبَهُمَا خِطَابًا غَلِيظًا - قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ
- وَقَدِ اسْتَقْضَى أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ - أَظُنُّهُ - عَلَى
الْيَمَنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّ الْحَجَّاجَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَعِدَ
مِنْبَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَطَبَ النَّاسَ
وَقَالَ: يَا أَهْلَ خَبِيثَةَ - يَعْنِي طَيْبَةَ - أَنْتُمْ شَرُّ أُمَّةٍ
وَأَخَسُّ، وَلَوْلَا أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْصَانِي بِكُمْ
لَجَعَلْتُهَا مِثْلَ جَوْفِ حِمَارٍ، يَا أَهْلَ خَبِيثَةَ، تَمَنَّوْنَ، هَلْ
تَعَوَّذُونَ إِلَّا بِأَعْوَادٍ يَابِسَةٍ - يَعْنِي الْمِنْبَرَ - وَرُمَّةٍ
بَالِيَةٍ، وَأَشَارَ إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ثُمَّ نَزَلَ إِلَى سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ
تَنْصُرَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ ؟ فَقَالَ: قَدْ فَعَلَتُ. فَقَالَ:
كَذَبْتَ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَخُتِمَ فِي عُنُقِهِ
بِرَصَاصٍ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ ; خَتَمَهُ فِي يَدِهِ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي عُنُقِهِ، وَكَانَ
قَصْدُهُ يُذِلُّهُمْ بِذَلِكَ، فَقَالَ أَنَسٌ: إِنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا
يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ بِهِمْ هَذَا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا نَقَضَ الْحَجَّاجُ بُنْيَانَ الْكَعْبَةِ الَّذِي
كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بَنَاهُ، وَأَعَادَهَا عَلَى بُنْيَانِهَا الْأَوَّلِ.
قُلْتُ: الْحَجَّاجُ لَمْ يَنْقُضْ بُنْيَانَ الْكَعْبَةِ جَمِيعَهُ؛ بَلْ
إِنَّمَا هَدَمَ الْحَائِطَ الشَّامِيَّ، حَتَّى أَخْرَجَ الْحِجْرَ مِنَ
الْبَيْتِ، ثُمَّ سَدَّهُ، وَأَدْخَلَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ مَا فَضَلَ مِنَ
الْأَحْجَارِ، وَبَقِيَتِ الْحِيطَانُ الثَّلَاثَةُ بِحَالِهَا ; وَلِهَذَا بَقِيَ
الْبَابَانِ الشَّرْقِيُّ وَالْغَرْبِيُّ وَهُمَا مُلْصَقَانِ بِالْأَرْضِ، كَمَا
هُوَ الْمُشَاهَدُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَلَكِنْ سَدَّ الْغَرْبِيَّ
بِالْكُلِّيَّةِ، وَرَدَمَ أَسْفَلَ الشَّرْقِيِّ، حَتَّى جَعَلَهُ مُرْتَفِعًا
كَمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَمْ يَبْلُغِ الْحَجَّاجَ وَلَا عَبْدَ
الْمَلِكِ مَا كَانَ بَلَغَ ابْنَ الزُّبَيْرِ مِنَ الْعِلْمِ النَّبَوِيِّ،
الَّذِي كَانَتْ أَخْبَرَتْهُ بِهِ خَالَتُهُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ
بِنْتُ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ - مِنْ قَوْلِهِ:لَوْلَا أَنَّ
قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ - وَفِي رِوَايَةٍ: بِجَاهِلِيَّةٍ -
لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ، وَأَدَخَلْتُ فِيهَا الْحِجْرَ، وَجَعَلْتُ لَهَا بَابًا
شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، وَلَأَلْصَقْتُهُمَا بِالْأَرْضِ، فَإِنَّ
قَوْمَكِ قَصُرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ، فَلَمْ يُدْخِلُوا فِيهَا الْحِجْرَ،
وَلَمْ يُتَمِّمُوهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَرَفَعُوا بَابَهَا
لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا،
وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا فَلَمَّا تَمَكَّنَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ بَنَاهَا كَذَلِكَ، وَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ الْمَلِكِ هَذَا
الْحَدِيثُ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: وَدِدْنَا أَنَا تَرَكْنَاهُ وَمَا تَوَلَّى مِنْ
ذَلِكَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلِيَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ حَرْبَ
الْأَزَارِقَةِ عَنْ أَمْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ لِأَخِيهِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ
أَنْ يُجَهِّزَ الْمُهَلَّبَ إِلَى الْخَوَارِجِ الْأَزَارِقَةِ فِي جُيُوشٍ مِنْ
أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَوَجَدَ بِشْرٌ عَلَى الْمُهَلَّبِ فِي
نَفْسِهِ، حَيْثُ عَيَّنَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي كِتَابِهِ ; فَلَمْ يَجِدْ
بُدًّا مِنْ طَاعَتِهِ فِي تَأْمِيرِهِ عَلَى النَّاسِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ،
وَمَا كَانَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، غَيْرَ أَنَّهُ أَوْصَى أَمِيرَ
الْكُوفِيِّينَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مِخْنَفٍ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِالْأَمْرِ
دُونَهُ، وَأَنْ لَا يَقْبَلَ لَهُ رَأْيًا وَلَا مَشُورَةً، فَسَارَ الْمُهَلَّبُ
بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَأُمَرَاءِ الْأَرْبَاعِ مَعَهُ عَلَى مَنَازِلِهِمْ،
حَتَّى نَزَلَ بِرَامَهُرْمُزَ، فَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهَا إِلَّا عَشْرًا حَتَّى جَاءَ
نَعْيُ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ، وَأَنَّهُ مَاتَ بِالْبَصْرَةِ، وَاسْتَخْلَفَ
عَلَيْهَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَارْفَضَّ بَعْضُ الْجَيْشِ، وَرَجَعُوا
إِلَى الْبَصْرَةِ، فَبَعَثُوا فِي آثَارِهِمْ مَنْ يَرُدُّهُمْ، وَكَتَبَ خَالِدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى الْفَارِّينَ يَتَوَعَّدُهُمْ إِنْ لَمْ يَرْجِعُوا
إِلَى أَمِيرِهِمْ، وَيَتَوَعَّدُهُمْ بِسَطْوَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَعَدَلُوا
يَسْتَأْذِنُونَ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ فِي الْمَصِيرِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَكَتَبَ
إِلَيْهِمْ: إِنَّكُمْ تَرَكْتُمْ أَمِيرَكُمْ، وَأَقْبَلْتُمْ عَاصِينَ
مُخَالِفِينَ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِذَنٌ وَلَا إِمَامٌ وَلَا أُمَّانٌ. فَلَمَّا
جَاءَهُمْ ذَلِكَ، أَقْبَلُوا إِلَى رِحَالِهِمْ فَرَكِبُوهَا، ثُمَّ سَارُوا
إِلَى بَعْضِ الْبِلَادِ، فَلَمْ يَزَالُوا مُخْتَفِينَ بِهَا حَتَّى قَدِمَ الْحَجَّاجُ
وَالِيًا عَلَى الْعِرَاقِ مَكَانَ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ، كَمَا سَيَأْتِي
بَيَانُهُ قَرِيبًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بُكَيْرَ
بْنَ وِشَاحٍ التَّمِيمِيَّ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ، وَوَلَّاهَا أُمَيَّةَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ الْقُرَشِيَّ ; لِيَجْتَمِعَ عَلَيْهِ
النَّاسُ، فَإِنَّهُ قَدْ كَادَتِ الْفِتْنَةُ تَتَفَاقَمُ بِخُرَاسَانَ بَعْدَ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ، فَلَمَّا قَدِمَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
خُرَاسَانَ عَرَضَ عَلَى بُكَيْرِ بْنِ وِشَاحٍ أَنْ يَكُونَ عَلَى شُرْطَتِهِ،
فَأَبَى، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ طُخَارِسْتَانَ، فَخَوَّفُوهُ مِنْهُ
أَنْ يَخْلَعَهُ هُنَالِكَ، فَتَرَكَهُ مُقِيمًا عِنْدَهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْحَجَّاجُ، وَهُوَ عَلَى
إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالْيَمَنِ وَالْيَمَامَةِ. قَالَ ابْنُ
جَرِيرٍ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ اعْتَمَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَلَا نَعْلَمُ صِحَّةَ ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ
الْأَعْيَانِ
رَافِعُ بْنُ خَدِيجِ بْنِ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، وَصِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ،
وَكَانَ يَتَعَانَى الْمَزَارِعَ وَالْفِلَاحَةَ، تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ سِتٍّ
وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَأَسْنَدَ ثَمَانِيَةً وَسَبْعِينَ حَدِيثًا، وَأَحَادِيثُهُ
جَيِّدَةٌ، وَقَدْ أَصَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ سَهْمٌ فِي تَرْقُوَتِهِ، فَخَيَّرَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْهُ
وَبَيْنَ أَنْ
يَتْرُكَ فِيهِ الْقُطْبَةَ، وَيَشْهَدَ لَهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، فَاخْتَارَ هَذِهِ، وَانْتَقَضَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
فَمَاتَ مِنْهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ سَعْدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ، الْأَنْصَارِيُّ
الْخَزْرَجَيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، مِنْ فُقَهَاءَ الصَّحَابَةِ، اسْتُصْغِرَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ
كَانَ أَوَّلَ مَشَاهِدِهِ الْخَنْدَقُ، وَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَرَوَى عَنْهُ
أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ
خَلْقٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. كَانَ مِنْ نُجَبَاءَ
الصَّحَابَةِ وَفُضَلَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ. وَقِيلَ:
قَبْلَهَا بِعَشْرِ سِنِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا الْمِقْدَامُ بْنُ دَاوُدَ، ثَنَا خَالِدُ بْنُ
نِزَارٍ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ
بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبَى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ فَقَالَ: النَّبِيُّونَ. قُلْتُ: ثُمَّ
أَيْ ؟
قَالَ: ثُمَّ الصَّالِحُونَ، إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ
لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ إِلَّا السُّتْرَةَ - وَفِي رِوَايَةٍ:
إِلَّا الْعَبَاءَةَ - أَوْ نَحْوَهَا، وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَيُبْتَلَى فَيَقْمَلُ
حَتَّى يَنْبِذَ الْقَمْلَ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ بِالْبَلَاءِ أَشَدَّ فَرَحًا
مِنْهُ بِالرَّخَاءِ.
وَقَالَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: ثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ
عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ
أَهْلَهُ شَكَوْا إِلَيْهِ الْحَاجَةَ، فَخَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ لَهُ شَيْئًا، فَوَافَقَهُ عَلَى
الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَقُولُ:أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ
تَسْتَغْنُوا عَنِ الْمَسْأَلَةِ ; فَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ اللَّهُ،
وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا
رَزَقَ اللَّهُ عَبْدًا مِنْ رِزْقٍ أَوْسَعَ لَهُ مِنَ الصَّبْرِ، وَلَئِنْ
أَبَيْتُمْ إِلَّا أَنْ تَسْأَلُونِي لَأُعْطِيَنَّكُمْ مَا وَجَدْتُ وَقَدْ رَوَاهُ
الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبَى سَعِيدٍ نَحْوَهُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، الْقُرَشِيُّ الْعَدَوِيُّ، أَبُو
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، الْمَكِّيُّ ثُمَّ الْمَدَنِيُّ
أَسْلَمَ قَدِيمًا مَعَ أَبِيهِ، وَلَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، وَهَاجَرَ وَعُمْرُهُ
عَشْرُ سِنِينَ، وَقَدِ اسْتُصْغِرَ يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانَ ابْنَ أَرْبَعَ
عَشْرَةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ أَجَازَهُ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ
عَشْرَةَ سَنَةً، فَشَهِدَهَا وَمَا بَعْدَهَا، وَهُوَ شَقِيقُ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ،
أُمُّهُمَا زَيْنَبُ بِنْتُ مَظْعُونٍ، أُخْتُ عُثْمَانَ
بْنِ مَظْعُونٍ.
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِ، آدَمَ، لَهُ
جُمَّةٌ تَضْرِبُ إِلَى مَنْكِبَيْهِ، جَسِيمًا، يَخْضِبُ بِالصُّفْرَةِ،
وَيُحْفِي شَارِبَهُ، وَكَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَيُدْخِلُ الْمَاءَ
فِي أُصُولِ عَيْنَيْهِ، وَقَدْ أَرَادَهُ عُثْمَانُ عَلَى الْقَضَاءِ فَأَبَى
ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَبُوهُ، وَشَهِدَ الْيَرْمُوكَ وَالْقَادِسِيَّةَ
وَجَلُولَاءَ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ وَقَائِعَ الْفُرْسِ، وَشَهِدَ فَتْحَ
مِصْرَ، وَاخْتَطَّ بِهَا دَارًا، وَقَدِمَ الْبَصْرَةَ وَشَهِدَ غَزْوَ فَارِسَ،
وَوَرَدَ الْمَدَائِنَ مِرَارًا، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ إِذَا
أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ تَقَرَّبَ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
وَكَانَ عَبِيدُهُ قَدْ عَرَفُوا ذَلِكَ مِنْهُ، فَرُبَّمَا لَزِمَ أَحَدُهُمُ
الْمَسْجِدَ ; فَإِذَا رَآهُ ابْنُ عُمَرَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ أَعْتَقَهُ،
فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّهُمْ يَخْدَعُونَكَ. فَيَقُولُ: مَنْ خَدَعَنَا بِاللَّهِ
انْخَدَعْنَا لَهُ. وَكَانَ لَهُ جَارِيَةً يُحِبُّهَا كَثِيرًا، فَأَعْتَقَهَا
وَزَوَّجَهَا لِمَوْلَاهُ نَافِعٍ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: لَنْ
تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَكَانَ لَهُ نَجِيبٌ
اشْتَرَاهُ بِمَالٍ، فَأَعْجَبَهُ لَمَّا رَكِبَهُ، فَقَالَ: يَا نَافِعُ،
أَدْخِلْهُ فِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ. وَأَعْطَاهُ ابْنُ جَعْفَرٍ فِي نَافِعٍ
عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَقِيلَ لَهُ: مَا تَنْتَظِرُ بِبَيْعِهِ ؟ فَقَالَ:
مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ. وَاشْتَرَى مَرَّةً
غُلَامًا بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَأَعْتَقَهُ، فَقَالَ الْغُلَامُ: يَا
مَوْلَايَ، قَدْ أَعْتَقْتَنِي فَهَبْ لِي شَيْئًا أَعِيشُ بِهِ. فَأَعْطَاهُ
أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَاشْتَرَى مَرَّةً خَمْسَةَ عَبِيدٍ، فَقَامَ يُصَلِّي
فَقَامُوا خَلْفَهُ يُصَلُّونَ، فَقَالَ: لِمَنْ صَلَّيْتُمْ هَذِهِ الصَّلَاةَ ؟
فَقَالُوا: لِلَّهِ ! فَقَالَ: أَنْتُمْ أَحْرَارٌ لِمَنْ صَلَّيْتُمْ لَهُ.
فَأَعْتَقَهُمْ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ مَا مَاتَ حَتَّى أَعْتَقَ أَلْفَ
رَقَبَةٍ، وَرُبَّمَا تَصَدَّقَ
فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا،
وَكَانَتْ تَمْضِي عَلَيْهِ الْأَيَّامُ الْكَثِيرَةُ وَالشَّهْرُ لَا يَذُوقُ
فِيهِ لَحْمًا، وَمَا كَانَ يَأْكُلُ طَعَامَهُ إِلَّا وَعَلَى مَائِدَتِهِ
يَتِيمٌ.
وَبَعَثَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ بِمِائَةِ أَلْفٍ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَايِعَ
لِيَزِيدَ، فَمَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَكَانَ
يَقُولُ: إِنِّي لَا أَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا، فَمَا رَزَقَنِي اللَّهُ فَلَا
أَرُدُّهُ، وَكَانَ فِي مُدَّةِ الْفِتْنَةِ لَا يَأْتِي أَمِيرٌ إِلَّا صَلَّى
خَلْفَهُ، وَأَدَّى إِلَيْهِ زَكَاةَ مَالِهِ، وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ
بِمَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَكَانَ يَتَتَبَّعُ آثَارَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ مَكَانٍ صَلَّى فِيهِ، أَوْ قَعَدَ فِيهِ، حَتَّى إِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَكَانَ
ابْنُ عُمَرَ يَتَعَاهَدُهَا، وَيَصُبُّ فِي أَصْلِهَا الْمَاءَ حَتَّى لَا
تَيْبَسَ، وَكَانَ إِذَا فَاتَتْهُ الْعِشَاءُ فِي جَمَاعَةٍ أَحْيَا تِلْكَ
اللَّيْلَةَ، وَكَانَ يَقُومُ أَكْثَرَ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ وَهُوَ
فِي الْفَضْلِ مِثْلُ أَبِيهِ، وَكَانَ يَوْمَ مَاتَ خَيْرُ مَنْ بَقِيَ، وَمَكَثَ
سِتِّينَ سَنَةً يُفْتِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ.
وَرَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً،
وَرَوَى عَنِ الصِّدِّيقِ، وَعَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَسَعْدٍ، وَ ابْنِ
مَسْعُودٍ، وَحَفْصَةَ وَعَائِشَةَ أُمَّيِ الْمُؤْمِنِينَ، وَغَيْرِهِمْ،
وَعَنْهُ خَلَقٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ: مِنْهُمْ بَنُوهُ حَمْزَةُ، وَ بِلَالٌ،
وَزَيْدٌ، وَسَالِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ، وَعُمَرُ - إِنْ
كَانَ مَحْفُوظًا - وَأَسْلَمُ - مَوْلَى أَبِيهِ - وَأَنَسُ بْنُ سِيرِينَ،
وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَطَاوُسٌ،
وَعُرْوَةُ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَ ابْنُ سِيرِينَ،
وَالزُّهْرِيُّ، وَمَوْلَاهُ نَافِعٌ.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ حَفْصَةَ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ عَبْدَ
اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ ; لَوْ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَكَانَ بَعْدُ يَقُومُ
اللَّيْلَ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ مِنْ أَمْلَكِ شَبَابِ قُرَيْشٍ لِنَفْسِهِ عَنِ
الدُّنْيَا ابْنُ عُمَرَ. وَقَالَ جَابِرٌ: مَا مِنَّا أَحَدٌ أَدْرَكَ الدُّنْيَا
إِلَّا مَالَتْ بِهِ، وَمَالَ بِهَا، إِلَّا ابْنَ عُمَرَ، وَمَا أَصَابَ أَحَدٌ
مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا إِلَّا نَقَصَ مِنْ دَرَجَاتِهِ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنْ
كَانَ عَلَيْهِ كَرِيمًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: مَاتَ ابْنُ عُمَرَ
يَوْمَ مَاتَ وَمَا مِنَ الدُّنْيَا أَحَدٌ أَحَبَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ
عَمَلِهِ مِنْهُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يُعْدَلُ بِرَأْيهِ، فَإِنَّهُ
أَقَامَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتِّينَ
سَنَةً، فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ، وَلَا مَنْ أَمْرِ
أَصْحَابِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ مَالِكٌ: بَلَغَ ابْنُ عُمَرَ سِتًّا وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَأَفْتَى فِي
الْإِسْلَامِ سِتِّينَ سَنَةً، يَقْدَمُ عَلَيْهِ وُفُودُ النَّاسِ مِنْ أَقْطَارِ
الْأَرْضِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَجَمَاعَةٌ: تُوُفِّيَ ابْنُ عُمَرَ سَنَةَ
أَرْبَعٍ
وَسَبْعِينَ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَآخَرُونَ:
تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ. وَالْأَوَّلُ أَثْبَتَ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَاسْتُخْلِفَ عَلِيٌّ، أَتَاهُ
ابْنُ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إِنَّكَ مَحْبُوبٌ إِلَى النَّاسِ، فَسِرْ
إِلَى الشَّامِ فَقَدْ وَلَّيْتُكَهَا. فَقَالَ: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ وَقَرَابَتِي
وَصُحْبَتِي لِرَسُولِ اللَّهِ وَالرَّحِمِ إِلَّا مَا وَلَّيْتَ غَيْرِي
وَأَعْفَيْتَنِي. فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاسْتَعَانَ بِحَفْصَةَ أُخْتِهِ
فَكَلَّمَتْهُ، ثُمَّ سَارَ مِنْ لَيْلَتِهِ إِلَى مَكَّةَ هَارِبًا مِنْهُ.
وَقِيلَ: إِنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: أَلَا تَخْرُجُ إِلَى الشَّامِ
فَيُبَايِعُوكَ ؟ قَالَ: فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِأَهْلِ الْعِرَاقِ ؟ قَالَ:
تُقَاتِلُهُمْ بِأَهْلِ الشَّامِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي
مُلْكَ الْأَرْضِ، وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهَمْ بَايَعُونِي، وَقَدْ قُتِلَ
مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّهَا أَتَتْنِي وَرَجُلٌ يَقُولُ:
لَا، وَآخَرُ يَقُولُ: نَعَمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ الْحَجَّاجُ
وَهُوَ مَرِيضٌ فَغَمَّضَ عَيْنَيْهِ، فَكَلَّمَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ.
تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ بَعْدَ مُنْصَرَفِ النَّاسِ مِنَ الْحَجِّ فِي آخِرِ
السَّنَةِ، وَعُمْرُهُ أَرْبَعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْمُحَصَّبِ،
وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِمَكَّةَ.
وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ: أَبُو بَكْرٍ، وَ أَبُو
عُبَيْدَةَ، وَ وَاقِدٌ، وَ عَبْدُ اللَّهِ، وَ عُمَرُ وَحَفْصَةُ وَسَوْدَةُ،
أُمُّهُمْ صَفِيَّةُ بِنْتُ أَبِي عُبَيْدٍ أُخْتُ الْمُخْتَارِ، وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ، وَ سَالِمٌ، وَ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَ حَمْزَةُ، وَأُمُّهُمْ أُمُّ
وَلَدٍ، وَزَيْدٌ وَعَائِشَةُ لِأُمِّ وَلَدٍ، وَأَسْنَدَ أَلْفَيْنِ
وَسِتَّمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا.
عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ قَتَادَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ جُنْدَعِ
بْنِ لَيْثٍ، اللَّيْثِيُّ ثُمَّ الْجَنْدَعِيُّ، أَبُو عَاصِمٍ الْمَكِّيُّ
قَاصُّ أَهْلِ مَكَّةَ.
قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ: وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَرَآهُ أَيْضًا. رَوَى عَنْ أَبِيهِ -
وَلَهُ صُحْبَةٌ - وَعَنْ عُمَرَ، وَ عَلِيٍّ، وَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَ ابْنِ عُمَرَ، وَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأُمِّ سَلَمَةَ،
وَغَيْرِهِمْ.
وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَغَيْرُهُمْ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ،
وَ أَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَجْلِسُ فِي حَلْقَتِهِ وَيَبْكِي،
وَكَانَ يُعْجِبُهُ تَذْكِيرُهُ، وَكَانَ بَلِيغًا، وَكَانَ يَبْكِي حَتَّى
يَبُلَّ الْحَصَى بِدُمُوعِهِ.
قَالَ مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، قَالَ: كَانَ
عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ إِذَا آخَى أَحَدًا فِي اللَّهِ اسْتَقْبَلَ بِهِ
الْقِبْلَةَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا سُعَدَاءَ بِمَا جَاءَ بِهِ
نَبِيُّكَ، وَاجْعَلْ مُحَمَّدًا شَهِيدًا عَلَيْنَا بِالْإِيمَانِ، وَقَدْ
سَبَقَتْ لَنَا مِنْكَ الْحُسْنَى، غَيْرَ مُتَطَاوِلٍ عَلَيْنَا الْأَمَدُ، وَلَا
قَاسِيَةٍ قُلُوبُنَا وَلَا قَائِلِينَ مَا لَيْسَ لَنَا بِحَقٍّ، وَلَا
سَائِلَيْنِ مَا لَيْسَ لَنَا بِهِ عِلْمٌ.
وَحَكَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ مَاتَ
قَبْلَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أَبُو جُحَيْفَةَ وَهْبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّوَائِيُّ
صَحَابِيٌّ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ دُونَ
الْبُلُوغِ عِنْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنْ
رَوَى عَنْهُ عِدَّةَ أَحَادِيثَ، وَعَنْ عَلِيٍّ، وَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ،
وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ ; مِنْهُمْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي
خَالِدٍ، وَالْحَكَمُ، وَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، وَ الشَّعْبِيُّ، وَ أَبُو
إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، وَكَانَ قَدْ نَزَلَ الْكُوفَةَ وَابْتَنَى بِهَا
دَارًا، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ صَاحِبَ شُرْطَةِ عَلِيٍّ، وَكَانَ عَلِيٌّ إِذَا
خَطَبَ يَقُومُ أَبُو جُحَيْفَةَ تَحْتَ مِنْبَرِهِ.
سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سِنَانٍ
الْأَنْصَارِيُّ
وَهُوَ أَحَدُ مَنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَكَانَ مِنْ فُرْسَانِ
الصَّحَابَةِ، وَمِنْ عُلَمَائِهِمْ، كَانَ يُفْتِي بِالْمَدِينَةِ، وَلَهُ
مَشَاهِدُ مَعْرُوفَةٌ، فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبَعْدَهُ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ سَنَةً.
مَالِكُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ، الْأَصْبَحِيُّ الْمَدَنِيُّ
وَهُوَ جَدُّ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ فَاضِلًا عَالِمًا، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ.
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ
مُقْرِئُ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِلَا مُدَافَعَةٍ، وَاسْمُهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
حَبِيبٍ، قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَ ابْنِ مَسْعُودٍ،
وَسَمِعَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَقْرَأَ النَّاسَ
الْقُرْآنَ بِالْكُوفَةِ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ إِلَى إِمْرَةِ الْحَجَّاجِ،
قَرَأَ عَلَيْهِ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ، وَخَلْقٌ غَيْرُهُ، تُوُفِّيَ
بِالْكُوفَةِ.
أَبُو مُعْرِضٍ الْأَسَدِيُّ
اسْمُهُ مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيِّ، وُلِدَ فِي حَيَاةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ مَرْوَانَ، وَامْتَدَحَهُ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ وَيُعْرَفُ
بِالْأُقَيْشِرِ، وَكَانَ أَحْمَرَ الْوَجْهِ كَثِيرَ
الشَّعْرِ، تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَارَبَ
الثَّمَانِينَ سَنَةً.
بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ الْأُمَوِيُّ
أَخُو عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَلِي إِمْرَةَ الْعِرَاقَيْنِ لِأَخِيهِ
عَبْدِ الْمَلِكِ، وَلَهُ دَارٌ بِدِمَشْقَ عِنْدَ عَقَبَةِ الْكَتَّانِ، وَكَانَ
سَمْحًا جَوَادًا، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ دَيْرُ مَرْوَانَ عِنْدَ حَجِيرَا، وَهُوَ
الَّذِي قَتَلَ خَالِدَ بْنَ حُصَيْنٍ الْكِلَابِيَّ يَوْمَ مَرْجِ رَاهِطٍ،
وَكَانَ لَا تُغْلَقُ دُونَهُ الْأَبْوَابُ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا تَحْتَجِبُ
النِّسَاءُ. وَكَانَ طَلِيقَ الْوَجْهِ، وَكَانَ يُجِيزُ عَلَى الشِّعْرِ
بِأُلُوفٍ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ الْفَرَزْدَقُ، وَ الْأَخْطَلُ.
وَالْجَهْمِيَّةُ تَسْتَدِلُّ عَلَى الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ بِأَنَّهُ
الِاسْتِيلَاءُ بِبَيْتِ الْأَخْطَلِ، فِيمَا مَدَحَ بِهِ بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ،
وَهُوَ قَوْلُهُ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ
وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ ; فَإِنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ
كَثِيرَةٍ، وَقَدْ كَانَ الْأَخْطَلُ نَصْرَانِيًّا.
وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِ بِشْرٍ أَنَّهُ وَقَعَتِ الْقُرْحَةُ فِي يَمِينِهِ.
فَقِيلَ لَهُ: نَقْطَعُهَا
مِنَ الْمِفْصَلِ. فَجَزِعَ، فَمَا أَمْسَى حَتَّى
خَالَطَتِ الْكَتِفَ، ثُمَّ أَصْبَحَ وَقَدْ خَالَطَتِ الْجَوْفَ، ثُمَّ مَاتَ،
وَلَمَّا احْتَضَرَ جَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ
عَبْدًا أَرْعَى الْغَنَمَ فِي الْبَادِيَةِ لِبَعْضِ الْأَعْرَابِ وَلَمْ أَلِ
مَا وُلِيتُ. فَذُكِرَ قَوْلُهُ لِأَبِي حَازِمٍ - أَوْ لِسَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ - فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ
يَفِرُّونَ إِلَيْنَا، وَلَمْ يَجْعَلْنَا نَفِرُّ إِلَيْهِمْ، إِنَّا لَنَرَى
فِيهِمْ عِبَرًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ
يَتَمَلْمَلُ عَلَى سَرِيرِهِ، ثُمَّ نَزَلَ عَنْهُ إِلَى صَحْنِ الدَّارِ،
وَالْأَطِبَّاءُ حَوْلَهُ.
مَاتَ بِالْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ أَمِيرٍ مَاتَ بِهَا،
وَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ الْمَلِكِ مَوْتُهُ حَزِنَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ
الشُّعَرَاءَ أَنْ يَرْثُوهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ
فَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ - أَخُو عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ، وَهُوَ وَالِدُ مَرْوَانَ الْحِمَارِ - صَائِفَةَ الرُّومِ حِينَ
خَرَجُوا مِنْ عِنْدِ مَرْعَشٍ، وَفِيهَا وَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ
نِيَابَةَ الْمَدِينَةِ لِيَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَهُوَ
عَمُّهُ، وَعَزَلَ عَنْهَا الْحَجَّاجَ.
وَفِيهَا وَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ نِيَابَةَ الْعِرَاقِ
; الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقَالِيمِ
الْكِبَارِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ، فَرَأَى
عَبْدَ الْمَلِكِ أَنَّهُ لَا يَسُدُّ عَنْهُ أَهْلَ الْعِرَاقِ غَيْرُ
الْحَجَّاجِ ; لِسَطْوَتِهِ وَقَهْرِهِ وَقَسْوَتِهِ وَشَهَامَتِهِ، فَكَتَبَ
إِلَيْهِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ بِوِلَايَةِ الْعِرَاقِ، فَسَارَ مِنَ
الْمَدِينَةِ إِلَى الْعِرَاقِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَاكِبًا عَلَى النَّجَائِبِ،
فَنَزَلَ قَرِيبَ الْكُوفَةِ فَاغْتَسَلَ وَاخْتَضَبَ، وَلَبِسَ ثِيَابَهُ،
وَتَقَلَّدَ سَيْفَهُ، وَأَلْقَى عَذَبَةَ الْعِمَامَةَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، ثُمَّ
سَارَ فَنَزَلَ دَارَ الْإِمَارَةِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَقَدْ أَذَّنَ
الْمُؤَذِّنُ الْأَوَّلُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، فَصَعِدَ
الْمِنْبَرَ وَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَأَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ طَوِيلًا، وَقَدْ
شَخَصُوا إِلَيْهِ بِأَبْصَارِهِمْ، وَجَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ، وَتَنَاوَلُوا
الْحَصَى لِيَقْذِفُوهُ بِهَا، وَقَدْ كَانُوا حَصَبُوا الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ،
فَلَمَّا سَكَتَ أَبْهَتَهُمْ، وَأَحَبُّوا أَنْ يَسْمَعُوا كَلَامَهُ، فَكَانَ
أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ:
يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، يَا أَهْلَ الشِّقَاقِ، وَيَا
أَهْلَ النِّفَاقِ وَمَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، وَاللَّهِ إِنْ كَانَ أَمْرُكُمْ
لَيَهُمُّنِي قَبْلَ أَنْ آتَى إِلَيْكُمْ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَدْعُو اللَّهَ أَنْ
يَبْتَلِيَكُمْ بِي، فَأَجَابَ دَعْوَتِي، إِلَّا أَنِّي سِرْتُ الْبَارِحَةَ
فَسَقَطَ مِنِّي سَوْطِي الَّذِي أُؤْذِيكُمْ بِهِ، فَاتَّخَذْتُ هَذَا مَكَانَهُ
- وَأَشَارَ إِلَى سَيْفِهِ - ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَجُرَّنَّهُ فِيكُمْ
جَرَّ الْمَرْأَةِ ذَيْلَهَا، وَلَأَفْعَلَنَّ بِكُمْ وَلَأَصْنَعَنَّ، فَلَمَّا
سَمِعُوا كَلَامَهُ جَعَلَ الْحَصَى يَتَسَاقَطُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَقِيلَ:
إِنَّهُ دَخَلَ الْكُوفَةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ظُهْرًا،
فَأَتَى الْمَسْجِدَ، وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَهُوَ مُعْتَجِرٌ بِعِمَامَةٍ
حَمْرَاءَ، مُتَلَثِّمٌ بِطَرَفِهَا، ثُمَّ قَالَ: عَلَيَّ بِالنَّاسِ. فَحَسِبَهُ
النَّاسُ وَأَصْحَابَهُ مِنَ الْخَوَارِجِ، فَهَمُّوا بِهِ حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَ
النَّاسُ قَامَ وَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَ:
أَنَا ابْنُ جَلَا وَطَلَّاعُ الثَّنَايَا مَتَى أَضَعُ الْعِمَامَةَ تَعْرِفُونِي
ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْمِلُ الشَّرَّ بِحَمْلِهِ، وَأَحْذُوهُ
بِنَعْلِهِ،
وَأَجْزِيهِ بِمِثْلِهِ، وَإِنِّي لَأَرَى رُءُوسًا قَدْ
أَيْنَعَتْ وَحَانَ قِطَافُهَا، وَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى الدِّمَاءِ
تَتَرَقْرَقُ بَيْنَ الْعَمَائِمِ وَاللِّحَى:
قَدْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا فَشَمِّرِي
ثُمَّ أَنْشَدَ أَيْضًا:
هَذَا أَوَانُ الشَّدِّ فَاشْتَدِّي زِيَمْ قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ
حُطَمْ
لَسْتُ بِرَاعِي إِبِلٍ وَلَا غَنَمْ وَلَا بِجَزَّارٍ عَلَى ظَهْرِ وَضَمْ
قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِعَصْلَبِيٍّ أَرْوَعَ خَرَّاجٍ مِنَ الدَّوِّيِّ
مُهَاجِرٍ لَيْسَ بِأَعْرَابِيِّ
ثُمَّ قَالَ: إِنِّي يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ مَا أُغْمَزُ بِغِمَازٍ، وَلَا يُقَعْقَعُ لِي بِالشِّنَانِ، وَلَقَدْ فُرِرْتُ عَنْ ذَكَاءٍ، وَجَرَيْتُ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى، وَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ نَثَرَ كِنَانَتَهُ، ثُمَّ عَجَمَ عِيدَانَهَا عُودًا عُودًا، فَوَجَدَنِي أَمَرَّهَا عُودًا، وَأَصْلَبَهَا مَغْمِزًا، فَوَجَّهَنِي إِلَيْكُمْ، فَإِنَّكُمْ طَالَمَا أَوْضَعْتُمْ فِي أَوْدِيَةِ الْفِتَنِ، وَسَنَنْتُمْ سُنَنَ الْغَيِّ، أَمَا وَاللَّهِ لَأَلْحُوَنَّكُمْ لَحْيَ الْعُودِ، وَلَأَعْصِبَنَّكُمْ عَصْبَ السَّلَمَةِ، وَلَأَضْرِبَنَّكُمْ ضَرْبَ غَرَائِبِ الْإِبِلِ، إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَعِدُ إِلَّا وَفَيْتُ، وَلَا أَخْلُقُ إِلَّا فَرَيْتُ، فَإِيَّايَ وَهَذِهِ الْجَمَاعَاتِ وَقِيلًا وَقَالًا، وَاللَّهِ لَتَسْتَقِيمُنَّ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِّ، أَوْ لَأَدَعَنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ شُغْلًا فِي جَسَدِهِ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ وَجَدْتُ بَعْدَ ثَالِثَةٍ مِنْ بَعْثِ الْمُهَلَّبِ - يَعْنِي الَّذِينَ كَانُوا قَدْ رَجَعُوا عَنْهُ لَمَّا سَمِعُوا بِمَوْتِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ كَمَا تَقَدَّمَ - سَفَكْتُ دَمَهُ، وَانْتَهَبْتُ مَالَهُ، ثُمَّ نَزَلَ
فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ تَحْتَهُ
أَطَالَ السُّكُوتَ، حَتَّى إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عُمَيْرٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ
حَصًى وَأَرَادَ أَنْ يَحْصِبَهُ بِهَا، وَقَالَ: قَبَّحَهُ اللَّهُ، مَا
أَعْيَاهُ وَأَذَمَّهُ. فَلَمَّا نَهَضَ الْحَجَّاجُ وَتَكَلَّمَ بِمَا تَكَلَّمَ
بِهِ، جَعَلَ الْحَصَى يَتَنَاثَرُ مِنْ يَدِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ ; لِمَا
يَرَى مِنْ فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ.
وَيُقَالُ: إِنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ هَذِهِ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ،
إِنَّ اللَّهَ ضَرَبَ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا
رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا
اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ( النَّحْلِ: 112
)، وَأَنْتُمْ أُولَئِكَ، فَاسْتَوْثِقُوا وَاسْتَقِيمُوا، فَوَاللَّهِ
لَأُذِيقَنَّكُمُ الْهَوَانَ حَتَّى تَدِرُّوا، وَلَأَعْصِبَنَّكُمْ عَصَبَ
السَّلَمَةِ حَتَّى تَنْقَادُوا، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتُقْبِلُنَّ عَلَى
الْإِنْصَافِ، وَلَتَدَعُنَّ الْإِرْجَافَ وَكَانَ وَكَانَ، وَأَخْبَرَنِي فُلَانٌ
عَنْ فُلَانٍ، وَالْخَبَرُ وَمَا الْخَبَرُ، أَوْ لَأَهْبُرَنَّكُمْ بِالسَّيْفِ
هَبْرًا يَدَعُ النِّسَاءَ أَيَامَى، وَالْأَوْلَادَ يَتَامَى، حَتَّى تَمْشُوا
السُّمَّهَى، وَتُقْلِعُوا عَنْ هَا وَهَا. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ بَلِيغٍ غَرِيبٍ،
يَشْتَمِلُ عَلَى وَعِيدٍ شَدِيدٍ، لَيْسَ فِيهِ وَعْدٌ بِخَيْرٍ.
فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ سَمِعَ تَكْبِيرًا
فِي السُّوقِ، فَخَرَجَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ
الْعِرَاقِ، يَا أَهْلَ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ وَمَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، إِنِّي
سَمِعْتُ تَكْبِيرًا فِي الْأَسْوَاقِ، لَيْسَ بِالتَّكْبِيرِ الَّذِي يُرَادُ
بِهِ التَّرْغِيبُ، وَلَكِنَّهُ تَكْبِيرٌ يُرَادُ بِهِ التَّرْهِيبُ، وَقَدْ
عَصَفَتْ عَجَاجَةٌ تَحْتَهَا قَصْفٌ، يَا بَنِي اللَّكِيعَةِ، وَعَبِيدَ
الْعَصَا، وَأَبْنَاءَ الْإِمَاءِ وَالْأَيَامَى، أَلَا يَرْبَعُ كُلُّ رِجْلٍ
مِنْكُمْ عَلَى ظَلْعِهِ، وَيُحْسِنُ حَقْنَ دَمِهِ، وَيُبَصِرُ مَوْضِعَ
قَدَمِهِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَأُوشِكُ أَنْ أُوقِعَ بِكُمْ وَقْعَةً تَكُونُ
نَكَالًا لِمَا قَبِلَهَا، وَأَدَبًا لِمَا بَعْدَهَا. فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَيْرُ
بْنُ ضَابِئٍ التَّمِيمِيُّ ثُمَّ الْحَنْظَلِيُّ، قَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ
الْأَمِيرَ، أَنَا فِي هَذَا الْبَعْثِ، وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ وَعَلِيلٌ،
وَهَذَا ابْنِي هُوَ أَشِبُّ مِنِّي. قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: أَنَا
عُمَيْرُ بْنُ ضَابِئٍ التَّمِيمِيُّ. قَالَ: أَسَمِعْتَ كَلَامَنَا بِالْأَمْسِ ؟
قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَلَسْتَ الَّذِي غَزَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ ؟ قَالَ:
بَلَى. قَالَ: وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ: كَانَ حَبَسَ أَبِي وَكَانَ
شَيْخًا كَبِيرًا. قَالَ: أَوَلَيِسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
هَمَمْتُ وَلَمْ أَفْعَلْ وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ وَوَلَّيْتُ الْبُكَاءَ
حَلَائِلَهُ
ثُمَّ قَالَ الْحَجَّاجُ: إِنِّي لَأَحْسَبُ أَنَّ فِي
قَتْلِكَ صَلَاحُ الْمِصْرَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: قُمْ إِلَيْهِ يَا حَرَسِيُّ
فَاضْرِبْ عُنُقَهُ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَانْتَهَبَ
مَالَهُ، وَأَمَرَ مُنَادِيًا فِي النَّاسِ: أَلَا إِنَّ عُمَيْرَ بْنَ ضَابِئٍ
تَأَخَّرَ بَعْدَ سَمَاعِ النِّدَاءِ ثَلَاثًا، فَأُمِرَ بِقَتْلِهِ.
قَالَ: فَخَرَجَ النَّاسُ حَتَّى ازْدَحَمُوا عَلَى الْجِسْرِ، فَعَبَرَ عَلَيْهِ
فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ مَذْحِجٍ، وَخَرَجَتْ مَعَهُمُ
الْعُرَفَاءُ حَتَّى وَصَلُوا بِهِمْ إِلَى الْمُهَلَّبِ، وَأَخَذُوا مِنْهُ
كِتَابًا بِوُصُولِهِمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ الْمُهَلَّبُ: قَدِمَ الْعِرَاقَ
وَاللَّهِ رَجُلٌ ذَكَرٌ، الْيَوْمَ قُوتِلَ الْعَدُوُّ.
وَيُرْوَى أَنَّ الْحَجَّاجُ لَمْ يَعْرِفْ عُمَيْرَ بْنَ ضَابِئٍ حَتَّى قَالَ
لَهُ عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنَّ هَذَا جَاءَ إِلَى
عُثْمَانَ وَقَدْ قُتِلَ فَلَطَمَ وَجْهَهُ، فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ عِنْدَ ذَلِكَ
بِقَتْلِهِ.
وَبَعَثَ الْحَجَّاجُ الْحَكَمَ بْنَ أَيُّوبَ الثَّقَفِيَّ نَائِبًا عَلَى
الْبَصْرَةِ مِنْ جِهَتِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَدَّ عَلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، وَأَقَرَّ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحًا، ثُمَّ رَكِبَ الْحَجَّاجُ
إِلَى الْبَصْرَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ أَبَا يَعْفُورَ، وَوَلَّى
قَضَاءَ الْبَصْرَةِ لِزُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْكُوفَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ،
وَأَقَرَّ عَمَّهُ يَحْيَى عَلَى نِيَابَةِ الْمَدِينَةِ، وَعَلَى بِلَادِ
خُرَاسَانَ أُمَيَّةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَثَبَ النَّاسُ بِالْبَصْرَةِ عَلَى الْحَجَّاجِ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَكِبَ مِنْ
الْكُوفَةِ، بَعْدَ قَتْلِ عُمَيْرِ بْنِ ضَابِئٍ، وَقَامَ
فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِخُطْبَةٍ نَظِيرَ مَا قَامَ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنَ
الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَالتَّهْدِيدِ الْأَكِيدِ، ثُمَّ أُتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ
بَنِي يَشْكُرَ، فَقِيلَ: هَذَا عَاصٍ. فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّ بِي فَتْقًا،
وَقَدْ عَذَرَنِي بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ، وَهَذَا عَطَائِي مَرْدُودٌ عَلَى بَيْتِ
الْمَالِ. فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ، فَفَزِعَ أَهْلُ
الْبَصْرَةِ، وَخَرَجُوا مِنَ الْبَصْرَةِ حَتَّى اجْتَمَعُوا عِنْدَ قَنْطَرَةِ
رَامَهُرْمُزَ، وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَارُودِ، وَخَرَجَ
إِلَيْهِمُ الْحَجَّاجُ - وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - فِي
أُمَرَاءِ الْجَيْشِ مِنَ الْمِصْرَيْنِ، فَاقْتَتَلُوا هُنَاكَ قِتَالًا
شَدِيدًا، فَهَزَمَهُمِ الْحَجَّاجُ، وَقَتَلَ أَمِيرَهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
الْجَارُودِ فِي رُءُوسٍ مِنَ الْقَبَائِلِ مَعَهُ، وَأَمَرَ بِرُءُوسِهِمْ
فَنُصِبَتْ عِنْدَ الْجِسْرِ مِنْ رَامْهُرْمُزَ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى
الْمُهَلَّبِ فَقَوِيَ بِذَلِكَ، وَضَعُفَ أَمَرُ الْخَوَارِجِ، وَأَرْسَلَ
الْحَجَّاجُ إِلَى الْمُهَلَّبِ، وَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِخْنَفٍ
فَأَمَرَهُمَا بِمُنَاهَضَةِ الْأَزَارِقَةِ، فَنَهَضَا بِمَنْ مَعَهُمَا إِلَى
الْخَوَارِجِ الْأَزَارِقَةِ فَأَجْلَوْهُمْ عَنْ أَمَاكِنِهِمْ مِنْ
رَامْهُرْمُزَ بِأَيْسَرِ قِتَالٍ، فَهَرَبُوا إِلَى أَرْضِ كَازَرُونَ مِنْ
إِقْلِيمِ سَابُورَ، وَسَارَ النَّاسُ وَرَاءَهُمْ، فَالْتَقَوْا فِي الْعَشْرِ
الْآخَرِ مِنْ رَمَضَانَ.
فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ بَيَّتَ الْخَوَارِجُ الْمُهَلَّبَ مِنَ اللَّيْلِ،
فَوَجَدُوهُ قَدْ تَحَصَّنَ بِخَنْدَقٍ حَوْلَ مُعَسْكَرِهِ، فَجَاءُوا إِلَى
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِخْنَفٍ فَوَجَدُوهُ غَيْرَ مُحْتَرِزٍ - وَكَانَ
الْمُهَلَّبُ قَدْ أَمَرَهُ بِالِاحْتِرَازِ بِخَنْدَقٍ حَوْلَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ
- فَاقْتَتَلُوا فِي اللَّيْلِ، فَقَتَلَتِ الْخَوَارِجُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
مِخْنَفٍ وَطَائِفَةً مِنْ جَيْشِهِ، وَهَزَمُوهُمْ هَزِيمَةً مُنْكَرَةً.
وَيُقَالُ: إِنَّ الْخَوَارِجَ لَمَّا الْتَقَوْا مَعَ النَّاسِ فِي هَذِهِ
الْوَقْعَةِ كَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِعَشْرٍ بَقِينَ
مِنْ رَمَضَانَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا لَمْ
يُعْهَدْ مِثْلُهُ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَحَمَلَتِ الْخَوَارِجُ عَلَى جَيْشِ
الْمُهَلَّبِ، فَاضْطَرُّوهُ إِلَى مُعَسْكَرِهِ، فَجَعَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ مِخْنَفٍ يَمُدُّهُ بِالْخَيْلِ بَعْدَ الْخَيْلِ، وَالرِّجَالِ بَعْدَ
الرِّجَالِ، فَمَالَتِ الْخَوَارِجُ إِلَى مُعَسْكَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
مِخْنَفٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَاقْتَتَلُوا مَعَهُ إِلَى اللَّيْلِ، فَقُتِلَ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ، وَقُتِلَ مَعَهُ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ
مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ جَاءَ
الْمُهَلَّبُ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَفَنَهُ، وَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ
بِمَهْلِكِهِ، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعَزِيهِ فِيهِ،
فَنَعَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى النَّاسِ بِمِنًى، وَأَمَّرَ الْحَجَّاجُ مَكَانَهُ
عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ الْمُهَلَّبَ، فَكَرِهَ
ذَلِكَ، وَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ طَاعَةِ الْحَجَّاجِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ
مُخَالَفَتُهُ، فَسَارَ إِلَى الْمُهَلَّبِ فَجَعَلَ لَا يُطِيعُهُ إِلَّا
ظَاهِرًا، وَيَعْصِيهِ كَثِيرًا، ثُمَّ تَقَاوَلَا، فَهَمَّ الْمُهَلَّبُ أَنْ
يُوقِعَ بِعَتَّابٍ، ثُمَّ حَجَزَ بَيْنَهُمَا النَّاسُ، فَكَتَبَ عَتَّابُ إِلَى
الْحَجَّاجِ يَشْكُو الْمُهَلَّبَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَقَدَمَ عَلَيْهِ،
وَأَعْفَاهُ مِنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْمُهَلَّبُ مَكَانَهُ ابْنَهُ حَبِيبَ بْنَ
الْمُهَلَّبِ.
وَفِيهَا خَرَجَ دَاوُدُ بْنُ النُّعْمَانِ الْمَازِنِيُّ بِنَوَاحِي الْبَصْرَةِ،
فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ أَمِيرًا عَلَى سِرِّيَّةٍ فَقَتَلَهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَحَرَّكَ صَالِحُ بْنُ مُسَرِّحٍ
أَحَدُ بَنِي امْرِئِ الْقَيْسِ، وَكَانَ يَرَى رَأْيَ الصُّفْرِيَّةِ، وَقِيلَ:
إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الصُّفْرِيَّةِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ
حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَمَعَهُ شَبِيبُ بْنُ يَزِيدَ، وَ
الْبَطِينُ،
وَأَشْبَاهُهُمْ مِنْ رُءُوسِ الْخَوَارِجِ، وَاتَّفَقَ حَجُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَهَمَّ شَبِيبٌ بِالْفَتْكِ بِهِ، فَبَلَغَ عَبْدَ الْمَلِكِ ذَلِكَ مِنْ خَبَرِهِ، فَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنَ الْحَجِّ أَنَّ يَتَطَلَبَهُمْ، وَكَانَ صَالِحُ بْنُ مُسَرِّحٍ هَذَا يُكْثِرُ الدُّخُولَ إِلَى الْكُوفَةِ وَالْإِقَامَةَ بِهَا، وَكَانَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ دَارَا وَأَهْلِ الْمَوْصِلِ يُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ وَيُفَقِّهُهُمْ، وَيَقُصُّ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ مُصْفَرًّا كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، وَكَانَ إِذَا قَصَّ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُصَلِّي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَيَحُثُّ عَلَى ذِكْرِ الْمَوْتِ، ثُمَّ يَتَرَحَّمُ عَلَى الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَ عُمَرَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِمَا ثَنَاءً حَسَنًا، وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ يَذْكُرُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَسُبُّهُ وَيَنَالُ مِنْهُ، وَيُنْكِرُ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَيْهِ وَقَتَلُوهُ مِنْ فَجَرَةِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، ثُمَّ يَحُضُّ أَصْحَابَهُ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَ الْخَوَارِجِ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَلِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ الَّذِي قَدْ شَاعَ فِي النَّاسِ وَذَاعَ، وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ، وَيَذُمُّ الدُّنْيَا وَأَمْرَهَا وَيُصَغِّرُهَا، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ شَبِيبُ بْنُ يَزِيدَ الْخَارِجِيُّ يَسْتَبْطِئُهُ فِي الْخُرُوجِ، وَيَحُثُّهُ عَلَيْهِ، وَيَنْدُبُهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَدِمَ شَبِيبٌ عَلَى صَالِحٍ وَهُوَ بِدَارَا، فَتَوَاعَدُوا وَتُوَافَقُوا عَلَى الْخُرُوجِ فِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ مِنَ السَّنَةِ الْآتِيَةِ - وَهِيَ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ - وَقَدِمَ عَلَى صَالِحٍ شَبِيبٌ، وَأَخُوهُ مُصَادٌ، وَالْمُحَلَّلُ، وَالْفَضْلُ بْنُ عَامِرٍ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَبْطَالِ وَهُوَ بِدَارَا نَحْوُ
مِائَةٍ وَعَشَرَةِ أَنْفُسٍ، ثُمَّ وَثَبُوا عَلَى خَيْلٍ
لِمُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، فَأَخَذُوهَا وَتَقْوَوْا بِهَا، ثُمَّ كَانَ مِنْ
أَمَرِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الَّتِي بَعْدَهَا، إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَانَ مِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
فِي قَوْلِ أَبِي مُسْهِرٍ، وَ أَبِي عُبَيْدٍ:
الْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ السُّلَمِيُّ أَبُو نَجِيحٍ
سَكَنَ حِمْصَ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، أَسْلَمَ قَدِيمًا هُوَ وَعَمْرُو بْنُ
عَبَسَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَنَزَلَ الصُّفَّةَ، وَكَانَ مِنَ
الْبَكَّائِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ، كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا
أَسْمَاءَهُمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا
أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا
وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (
التَّوْبَةِ: 92 ).
وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خُطْبَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ،
حَتَّى قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ
فَأَوْصِنَا. قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ،
وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ،
عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي،
عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ;
فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ رَوَاهُ
أَحْمَدُ، وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ
وَغَيْرُهُ.
وَرَوَى أَيْضًا:أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يُصَلِّي عَلَى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ ثَلَاثًا، وَعَلَى الثَّانِي وَاحِدَةً.
وَقَدْ كَانَ الْعِرْبَاضُ شَيْخًا كَبِيرًا، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَقْبِضَهُ
اللَّهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَدْعُو: اللَّهُمَّ كَبِرَتْ سِنِّي، وَوَهَنَ
عَظْمِي، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ. وَرَوَى أَحَادِيثَ.
أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَغَزَا حُنَيْنًا، وَكَانَ
مِمَّنْ نَزَلَ الشَّامَ بِدَارَيَّا غَرْبِيِّ دِمَشْقَ إِلَى جِهَةِ
الْقِبْلَةِ، وَقِيلَ: بِبَلَاطِ - قَرْيَةٍ شَرْقِيِّ دِمَشْقَ - فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ، وَاسْمِ أَبِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ،
وَالْأَشْهُرُ مِنْهَا: جُرْثُومُ بْنُ نَاشِرٍ.
وَقَدْ رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ،
وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ ;
مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَ مَكْحُولٌ الشَّامِيُّ، وَأَبُو إِدْرِيسَ
الْخَوْلَانِيُّ، وَأَبُو قِلَابَةَ الْجَرْمِيُّ.
وَكَانَ مِمَّنْ يُجَالِسُ كَعْبَ الْأَحْبَارِ، وَكَانَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ
يَخْرُجُ، فَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَتَفَكَّرُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى
الْمَنْزِلِ فَيَسْجُدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنِّي
لَأَرْجُوَ أَنْ
لَا يَخْنُقَنِي اللَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ كَمَا أَرَاكُمْ
تَخْتَنِقُونَ. فَبَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ إِذْ قُبِضَتْ
رُوحُهُ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَرَأَتِ ابْنَتُهُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ أَبَاهَا قَدْ
مَاتَ، فَانْتَبَهَتْ مَذْعُورَةً، فَقَالَتْ لِأُمِّهَا: أَيْنَ أَبِي ؟ قَالَتْ:
هُوَ فِي مُصَلَّاهُ. فَنَادَتْهُ فَلَمْ يُجِبْهَا، فَجَاءَتْهُ فَحَرَّكَتْهُ
فَسَقَطَ لِجَنْبِهِ، فَإِذَا هُوَ مَيِّتٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، وَخَلِيفَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ:
كَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ: كَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي أَوَّلِ إِمْرَةِ مُعَاوِيَةَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ:
الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ
صَاحِبُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ، مِنْ
كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَمِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْ
كِبَارِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ، وَقَدْ ذَهَبَتْ عَيْنُهُ
مِنْ كَثْرَةِ الصَّوْمِ، وَقَدْ حَجَّ الْبَيْتَ ثَمَانِينَ حَجَّةً وَعُمْرَةً،
وَكَانَ يُهِلُّ مِنَ الْكُوفَةِ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ
يَصُومُ حَتَّى يَخْضَرَّ وَيَصْفَرَّ، فَلَمَّا احْتَضَرَ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ:
مَا هَذَا الْجَزَعُ ؟ فَقَالَ: مَا لِيَ لَا أَجْزَعُ ؟ وَمَنْ أَحَقُّ بِذَلِكَ
مِنِّي ؟ وَاللَّهِ لَوْ أُنْبِئْتُ بِالْمَغْفِرَةِ مِنَ اللَّهِ لَأَهَمَّنِي
الْحَيَاءُ مِنْهُ مِمَّا قَدْ صَنَعْتُ، إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الرَّجُلِ الذَّنَبُ الصَّغِيرُ فَيَعْفُو عَنْهُ، فَلَا يَزَالُ
مُسْتَحْيِيًا مِنْهُ.
حُمْرَانُ بْنُ أَبَانٍ، مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
كَانَ مِنْ سَبْيِ عَيْنِ التَّمْرِ، اشْتَرَاهُ عُثْمَانُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ
يَأْذَنُ لِلنَّاسِ عَلَى عُثْمَانَ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ
وَكَانَ فِي أَوَّلِهَا فِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ مِنْهَا لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ
اجْتِمَاعُ صَالِحِ بْنِ مُسَرِّحٍ أَمِيرِ الصُّفْرِيَّةِ، وَشَبِيبِ بْنِ
يَزِيدَ أَحَدِ شُجْعَانِ الْخَوَارِجِ، فَقَامَ فِيهِمْ صَالِحُ بْنُ مُسَرِّحٍ،
فَأَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، وَأَنْ لَا
يُقَاتِلُوا أَحَدًا حَتَّى يَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ مَعَهُمْ.
ثُمَّ مَالُوا إِلَى دَوَابِّ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، نَائِبِ الْجَزِيرَةِ
لِأَخِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَخَذُوهَا فَتَقْوَوْا بِهَا، وَأَقَامُوا
بِأَرْضِ دَارَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَتَحَصَّنَ مِنْهُمْ أَهْلُ دَارَا
وَنَصِيبِينَ وَسِنْجَارَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ نَائِبُ
الْجَزِيرَةِ خَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ، عَلَيْهِمْ عَدِيُّ بْنُ عَدِيِّ بْنِ
عُمَيْرَةَ، ثُمَّ زَادَهُ خَمْسَمِائَةٍ أُخْرَى، فَسَارَ فِي أَلْفٍ مِنْ
حَرَّانَ إِلَيْهِمْ، وَكَأَنَّمَا يُسَاقُ إِلَى الْمَوْتِ وَهُوَ يَنْظُرُ ;
لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَلَدِ الْخَوَارِجِ وَقُوَّتِهِمْ وَشِدَّةِ بِأَسِهِمْ،
فَلَمَّا الْتَقَى مَعَ الْخَوَارِجِ هَزَمُوهُ هَزِيمَةً شَنِيعَةً بَالِغَةً،
وَاحْتَوَوْا عَلَى مَا فِي مُعَسْكَرِهِ، وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى
مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ فَغَضِبَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ مَعَ الْحَارِثِ بْنِ جَعْوَنَةَ، وَأَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ مَعَ خَالِدِ بْنِ جَزْءٍ السُّلَمِيِّ، وَقَالَ لَهُمَا: أَيُّكُمَا سَبَقَ إِلَيْهِمْ فَهُوَ الْأَمِيرُ عَلَى النَّاسِ. فَسَارُوا إِلَيْهِمْ فِي ثَلَاثَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَالْخَوَارِجُ فِي نَحْوٍ مِنْ مِائَةِ نَفْسٍ، وَعَشَرَةِ أَنْفُسٍ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى آمِدَ تَوَجَّهَ صَالِحٌ إِلَى خَالِدِ بْنِ جَزْءٍ فِي شَطْرِ النَّاسِ، وَوَجَّهَ شَبِيبًا إِلَى الْحَارِثِ بْنِ جَعْوَنَةَ فِي الْبَاقِينَ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ فِي هَذَا الْيَوْمِ قِتَالًا شَدِيدًا إِلَى اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ انْكَفَّ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْخَوَارِجِ نَحْوَ السَّبْعِينَ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَرْوَانَ نَحْوَ الثَّلَاثِينَ، وَهَرَبَتِ الْخَوَارِجُ فِي اللَّيْلِ، فَخَرَجُوا مِنَ الْجَزِيرَةِ، وَأَخَذُوا فِي أَرْضِ الْمَوْصِلِ، وَمَضَوْا حَتَّى قَطَعُوا الدَّسْكَرَةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمِ الْحَجَّاجُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ مَعَ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرَةَ، فَسَارَ نَحْوَهُمْ حَتَّى لَحِقَهُمْ بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ، وَلَيْسَ مَعَ صَالِحٍ سِوَى تِسْعِينَ رَجُلًا، فَالْتَقَى مَعَهُمْ،
وَقَدْ جَعَلَ صَالِحٌ أَصْحَابَهُ ثَلَاثَةَ كَرَادِيسَ ;
فَهُوَ فِي كُرْدُوسٍ، وَشَبِيبٌ عَنْ يَمِينِهِ فِي كُرْدُوسٍ، وَسُوَيْدُ بْنُ
سُلَيْمَانَ عَنْ يَسَارِهِ فِي كُرْدُوسٍ، وَحَمَلَ عَلَيْهِمُ الْحَارِثُ بْنُ
عُمَيْرَةَ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ أَبُو الرَّوَّاغِ الشَّاكِرِيُّ، وَعَلَى
مَيْسَرَتِهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْأَرْوَحِ التَّمِيمِيُّ، فَصَبَرَتِ
الْخَوَارِجُ عَلَى قِلَّتِهِمْ صَبْرًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْكَشَفَ وَسُوَيْدُ
بْنُ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ قُتِلَ صَالِحُ بْنُ مُسَرِّحٍ أَمِيرُهُمْ، وَصُرِعَ
شَبِيبٌ عَنْ فَرَسِهِ، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْخَوَارِجَ حَتَّى
احْتَمَلُوهُ، فَدَخَلُوا بِهِ حِصْنًا هُنَالِكَ، وَقَدْ بَقِيَ مَعَهُمْ
سَبْعُونَ رَجُلًا، فَأَحَاطَ بِهِمُ الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرَةَ، وَأَمَرَ
أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْرِقُوا الْبَابَ، فَفَعَلُوا، وَرَجَعَ النَّاسُ إِلَى
مُعَسْكَرِهِمْ يَنْتَظِرُونَ حَرِيقَ الْبَابَ، فَيَأْخُذُونَ الْخَوَارِجَ
قَهْرًا، فَلَمَّا رَجَعَ النَّاسُ وَاطْمَأَنُّوا خَرَجَتْ عَلَيْهِمُ
الْخَوَارِجُ مِنَ الْبَابِ عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ، فَبَيَّتُوا جَيْشَ
الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرَةَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَهَرَبَ
النَّاسُ سِرَاعًا إِلَى الْمَدَائِنِ، وَاحْتَازَ شَبِيبٌ وَأَصْحَابُهُ مَا فِي
مُعَسْكَرِهِمْ، فَكَانَ جَيْشُ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرَةَ أَوَّلَ جَيْشٍ
هَزَمَهُ شَبِيبٌ، وَكَانَ مَقْتَلُ صَالِحِ بْنِ مُسَرِّحٍ فِي يَوْمِ
الثُّلَاثَاءِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا دَخَلَ شَبِيبٌ الْكُوفَةَ وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ غَزَالَةُ، وَذَلِكَ
أَنَّ شَبِيبًا جَرَتْ لَهُ
فُصُولٌ يَطُولُ تَفْصِيلُهَا بَعْدَ مَقْتَلِ صَالِحِ بْنِ مُسَرِّحٍ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْخَوَارِجُ وَبَايَعُوهُ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ جَيْشًا آخَرَ، فَقَاتَلُوهُ فَهَزَمُوهُ ثُمَّ هَزَمَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَارَ فَحَاصَرَ الْمَدَائِنَ، فَلَمْ يَنَلْ مِنْهَا شَيْئًا، فَسَارَ فَأَخَذَ دَوَابَّ لِلْحَجَّاجِ مِنْ كَلْوَاذَا، وَمِنْ عَزْمِهِ أَنْ يُبَيِّتَ أَهْلَ الْمَدَائِنِ، فَهَرَبَ مَنْ فِيهَا مِنَ الْجُنْدِ إِلَى الْكُوفَةِ فَلَمَّا وَصَلَ الْفَلُّ إِلَى الْحَجَّاجِ جَهَّزَ جَيْشًا أَرْبَعَةَ آلَافِ مُقَاتِلٍ إِلَى شَبِيبٍ، فَمَرُّوا عَلَى الْمَدَائِنِ، ثُمَّ سَارُوا فِي طَلَبِ شَبِيبٍ، فَجَعَلَ شَبِيبٌ يَسِيرُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَهُوَ يُرِيهِمْ أَنَّهُ خَائِفٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ يَكُرُّ فِي كُلِّ وَقْتٍ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ فَيَكْسِرُهَا، وَيَنْهَبُ مَا فِيهَا، وَلَا يُوَاجِهُ أَحَدًا إِلَّا هَزَمَهُ، وَالْحَجَّاجُ يُلِحُّ فِي طَلَبِهِ، وَيُجَهِّزُ إِلَيْهِ السَّرَايَا وَالْبُعُوثَ وَالْمَدَدَ، وَشَبِيبٌ لَا يُبَالِي بِأَحَدٍ، وَإِنَّ مَا مَعَهُ مِائَةٌ وَسِتُّونَ فَارِسًا، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ، ثُمَّ سَارَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى حَتَّى وَاجَهَ الْكُوفَةَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُحَاصِرَهَا، فَخَرَجَ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ إِلَى السَّبَخَةِ لِقِتَالِهِ، وَبِلَغَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يُبَالِ بِهِمْ، وَانْزَعَجَ النَّاسُ، وَخَافُوا مِنْهُ وَفَرِقُوا، وَهَمُّوا أَنْ يَدْخُلُوا الْكُوفَةَ خَوْفًا مِنْهُ، فَيَتَحَصَّنُوا فِيهَا مِنْهُ، حَتَّى قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ سُوَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي آثَارِهِمْ، وَقَدِ اقْتَرَبَ مِنْهُمْ، وَشَبِيبٌ نَازِلٌ بِالْكُوفَةِ بِالدَّيْرِ، لَيْسَ عِنْدَهُ خَبَرٌ مِنْهُمْ وَلَا خَوْفٌ، وَقَدْ أَمَرَ بِطَعَامٍ وَشِوَاءٍ أَنْ يُصْنَعَ لَهُ، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ جَاءَكَ الْجُنْدُ فَأَدْرِكْ نَفْسَكَ. فَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى ذَلِكَ وَلَا يَكْتَرِثُ بِهِمْ، وَيَقُولُ لِلدِّهْقَانِ
الَّذِي يَصْنَعُ لَهُ الطَّعَامَ: عَجِّلْ بِهِ. فَلَمَّا اسْتَوَى أَكَلَهُ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةً تَامَّةً بِتَطْوِيلٍ وَطُمَأْنِينَةٍ، ثُمَّ لَبِسَ دِرْعَهُ، وَتَقَلَّدَ سَيْفَيْنِ، وَأَخَذَ عَمُودَ حَدِيدٍ، ثُمَّ قَالَ: أَسْرِجُوا لِي الْبَغْلَةَ. فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ مُصَادٌ: أَفِي هَذَا الْيَوْمِ تَرْكَبُ بَغْلَةً، وَقَدْ أَحَاطَ بِكَ الْأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَرَكِبَهَا، ثُمَّ فَتَحَ بَابَ الدَّيْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا أَبُو الْمُدَلَّهِ، لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَى أَمِيرِ الْجَيْشِ الَّذِي تَقَدَّمُوا إِلَيْهِ، فَضَرَبَهُ بِالْعَمُودِ الْحَدِيدِ فَقَتَلَهُ، وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ الْمُجَالِدِ، وَحَمَلَ عَلَى الْجَيْشِ الْآخَرِ الْكَثِيفِ فَصَرَعَ أَمِيرَهُ، وَهَرَبَ النَّاسُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلَجَئُوا إِلَى الْكُوفَةِ، وَمَضَى شَبِيبٌ حَتَّى أَغَارَ عَلَى أَسْفَلِ الْفُرَاتِ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً هُنَاكَ، وَخَرَجَ الْحَجَّاجُ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، ثُمَّ اقْتَرَبَ شَبِيبٌ مِنَ الْكُوفَةِ يُرِيدُ دُخُولَهَا، فَأَعْلَمَ الدَّهَاقِينُ عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَأَسْرَعَ الْحَجَّاجُ الْخُرُوجَ مِنَ الْبَصْرَةِ، وَقَصَدَ الْكُوفَةَ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ، وَبَادَرَهُ شَبِيبٌ إِلَى الْكُوفَةِ، فَسَبَقَهُ الْحَجَّاجُ إِلَيْهَا، فَدَخَلَهَا الْعَصْرَ، وَوَصَلَ شَبِيبٌ إِلَى الْمِرْبَدِ عِنْدَ الْغُرُوبِ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ دَخَلَ شَبِيبٌ الْكُوفَةَ، وَقَصَدَ
قَصْرَ الْإِمَارَةِ، فَضَرَبَ بَابَهُ بِعَمُودِهِ
الْحَدِيدِ، فَأَثَّرَتْ ضَرْبَتُهُ فِي الْبَابِ، فَكَانَتْ تُعْرَفُ بَعْدَ
ذَلِكَ؛ يُقَالُ: هَذِهِ ضَرْبَةُ شَبِيبٍ، وَسَلَكَ فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ،
وَتَقَصَّدَ مَحَالَّ الْقَبَائِلِ، وَقَتَلَ رِجَالًا مِنْ رُؤَسَاءِ أَهْلِ
الْكُوفَةِ وَأَشْرَافِهِمْ، مِنْهُمْ أَبُو سُلَيْمٍ وَالِدُ لَيْثِ بْنِ أَبِي
سُلَيْمٍ، وَعَدِيُّ بْنِ عَمْرٍو، وَأَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيُّ،
فِي طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ مَعَ شَبِيبٍ
امْرَأَتُهُ غَزَالَةُ، وَكَانَتْ مَعْرُوفَةً بِالشَّجَاعَةِ، فَدَخَلَتْ
مَسْجِدَ الْكُوفَةِ، وَجَلَسَتْ عَلَى مِنْبَرِهِ، وَجَعَلَتْ تَذُمُّ بَنِي
مَرْوَانَ.
وَنَادَى الْحَجَّاجُ فِي النَّاسِ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي وَأَبْشِرِي.
فَخَرَجَ شَبِيبٌ مِنَ الْكُوفَةِ، فَجَهَّزَ الْحَجَّاجُ فِي أَثَرِهِ سِتَّةَ
آلَافِ مُقَاتِلٍ، فَسَارُوا وَرَاءَهُ، وَهُوَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، يَنْعَسُ
وَيَهُزُّ رَأْسَهُ، وَفِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ يَكُرُّ عَلَيْهِمْ شَبِيبٌ،
فَيَقْتُلُ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، حَتَّى قَتَلَ مَنْ جَيْشِ الْحَجَّاجِ خَلْقًا
كَثِيرًا، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ، مِنْهُمْ: زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ
- قَتَلَهُ شَبِيبٌ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ الْمُخْتَارِ - فَوَجَّهَ الْحَجَّاجُ
مَكَانَهُ لِحَرْبِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ، فَلَمْ يُقَابِلْ
شَبِيبًا وَرَجَعَ، فَوَجَّهَ مَكَانَهُ عُثْمَانَ بْنَ قَطَنٍ الْحَارِثِيَّ،
فَالْتَقَوْا فِي آخِرِ السَّنَةِ، فَقُتِلَ عُثْمَانُ بْنُ قَطَنٍ، وَانْهَزَمَتْ
جُمُوعُهُ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ سِتُّمِائَةِ نَفْسٍ، فَمِنْ
أَعْيَانِهِمْ عَقِيلُ بْنُ شَدَّادٍ السَّلُولِيُّ،
وَخَالِدُ بْنُ نَهِيكٍ الْكِنْدِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ
رَبِيعَةَ.
وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ شَبِيبٍ، وَتَزَلْزَلَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
مَرْوَانَ، وَ الْحَجَّاجُ، وَسَائِرُ الْأُمَرَاءِ، وَخَافَ عَبْدُ الْمَلِكِ
مِنْهُ خَوْفًا شَدِيدًا، فَبَعَثَ لَهُ جَيْشًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَقَدِمُوا
فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَإِنَّ مَا مَعَ شَبِيبٍ شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ، وَقَدْ
مَلَأَ قُلُوبَ النَّاسِ رُعْبًا، وَجَرَتْ خُطُوبٌ كَثِيرَةٌ لَهُ مَعَهُمْ،
وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ وَدَأْبَهُمْ حَتَّى اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ
السَّنَةُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ نَقَشَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
مَرْوَانَ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ نَقَشَهَا.
وَقَالَ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ " الْأَحْكَامِ
السُّلْطَانِيَّةِ ": اخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ ضَرَبَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ
فِي الْإِسْلَامِ ; فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ
الدَّرَاهِمَ الْمَنْقُوشَةَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَكَانَتِ
الدَّنَانِيرُ رُومِيَّةٌ، وَالدَّرَاهِمُ كِسْرَوِيَّةٌ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ
وَكَانَ نَقْشُهُ لَهَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ. وَقَالَ
الْمَدَائِنِيُّ: خَمْسٍ وَسَبْعِينَ. وَضُرِبَتْ فِي الْآفَاقِ سَنَةَ سِتَّةٍ
وَسَبْعِينَ. وَذَكَرَ أَنَّهُ ضُرِبَ عَلَى الْجَانِبِ الْوَاحِدِ مِنْهَا "
اللَّهُ أَحَدٌ "، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ " اللَّهُ
الصَّمَدُ "، قَالَ: وَحَكَى يَحْيَى بْنُ النُّعْمَانِ
الْغِفَارِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ الدَّرَاهِمَ مُصْعَبُ
بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَمْرِ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، سَنَةَ
سَبْعِينَ، عَلَى ضَرْبِ الْأَكَاسِرَةِ، وَعَلَيْهَا " الْمُلْكُ بَرَكَةٌ
" مِنْ جَانِبٍ، وَ " لِلَّهِ " مِنْ جَانِبٍ، ثُمَّ غَيَّرَهَا
الْحَجَّاجُ، وَكَتَبَ اسْمَهُ عَلَيْهَا مِنْ جَانِبٍ، ثُمَّ خَلَّصَهَا بَعْدَهُ
يُوسُفُ بْنُ هُبَيْرَةَ فِي أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ
خَلَّصَهَا أَجْوَدَ مِنْهَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ فِي
أَيَّامِ هِشَامٍ، ثُمَّ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ أَجْوَدَ مِنْهُمْ كُلِّهِمْ.
وَلِذَلِكَ كَانَ الْمَنْصُورُ لَا يَقْبَلُ مِنْهَا إِلَّا الْهُبَيْرِيَّةَ
وَالْخَالِدِيَّةَ وَالْيُوسُفِيَّةَ.
وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِلنَّاسِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ، مِنْهَا الدِّرْهَمُ
الْبَغْلِيُّ، وَكَانَ ثَمَانِيَةَ دَوَانِقَ، وَالطَّبَرِيُّ وَكَانَ أَرْبَعَةَ
دَوَانِقَ، وَالْمِصْرِيُّ ثَلَاثَةَ دَوَانِقَ، وَالْيَمَنِيُّ دَانَقًا،
فَجَمَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْنَ الْبَغْلِيِّ وَالطَّبَرِيِّ، ثُمَّ أَخَذَ
نِصْفَهَا فَجَعَلَهُ الدِّرْهَمَ الشَّرْعِيَّ، وَهُوَ نِصْفُ مِثْقَالٍ وَخُمْسُ
مِثْقَالٍ، وَذَكَرُوا أَنَّ الْمِثْقَالَ لَمْ يُغَيِّرُوا وَزْنَهُ فِي
جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا وُلِدَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَهُوَ
مَرْوَانُ
الْحِمَارُ، آخِرُ مَنْ تَوَلَّى الْخِلَافَةَ مِنْ بَنِي
أُمَيَّةَ بِالشَّامِ، وَمِنْهُ أَخَذَهَا بَنُو الْعَبَّاسِ.
وَفِيهَا وَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ نِيَابَةَ الْمَدِينَةِ
لَأَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، وَعَزَلَ عَنْهَا يَحْيَى بْنَ مَرْوَانَ عَمَّهُ،
وَاسْتَدْعَاهُ إِلَى الشَّامِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ نَائِبَ
الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَلَى إِمْرَةِ الْعِرَاقِ الْحَجَّاجُ، وَعَلَى خُرَاسَانَ
أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ الْقُضَاعِيُّ
اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلَّ، أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَزَا جَلُولَاءَ وَالْقَادِسِيَّةَ وَتُسْتَرَ
وَنَهَاوَنْدَ وَأَذْرَبِيجَانَ وَغَيْرَهَا، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ،
زَاهِدًا عَالِمًا، يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ، تُوُفِّيَ وَعُمْرُهُ
مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً بِالْكُوفَةِ.
صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ الْعَدَوِيُّ
مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ ذَا فَضْلٍ وَوَرَعٍ
وَعِبَادَةٍ وَزُهْدٍ، كُنْيَتُهُ أَبُو الصَّهْبَاءِ، كَانَ يُصَلِّي حَتَّى مَا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْتِيَ الْفِرَاشَ إِلَّا حَبْوًا، وَلَهُ مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ
جِدًّا، مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَمُرُّ عَلَيْهِ شَبَابٌ يَلْهُونَ
وَيَلْعَبُونَ، فَيَقُولُ: أَخْبِرُونِي عَنْ قَوْمٍ
أَرَادُوا سَفَرًا، فَحَادُوا فِي النَّهَارِ عَنِ الطَّرِيقِ، وَنَامُوا
اللَّيْلَ، فَمَتَى يَقْطَعُونَ سَفَرَهُمْ ؟ فَقَالَ لَهُمْ يَوْمًا هَذِهِ
الْمَقَالَةَ، فَقَالَ شَابٌّ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ يَا قَوْمِ إِنَّهُ مَا يَعْنِي
بِهَذَا غَيْرَنَا، نَحْنُ بِالنَّهَارِ نَلْهُو وَبِاللَّيْلِ نَنَامُ. ثُمَّ
تَبِعَ صِلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَعَبَّدُ مَعَهُ حَتَّى مَاتَ، وَمَرَّ عَلَيْهِ
فَتًى يَجُرُّ ثَوْبَهُ، فَهَمَّ أَصْحَابُهُ أَنْ يَأْخُذُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ،
فَقَالَ: دَعُونِي أَكْفِكُمْ أَمْرَهُ. ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ: يَابْنَ أَخَى،
لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ. قَالَ: وَمَا حَاجَتُكَ ؟ قَالَ: أَنْ تَرَفَعَ إِزَارَكَ.
قَالَ: نَعَمْ، وَنِعْمَتْ عَيْنٌ. فَرَفَعَ إِزَارَهُ، فَقَالَ صِلَةُ: هَذَا
أَمْثَلُ مِمَّا أَرَدْتُمْ، لَوْ شَتَمْتُمُوهُ لَشَتَمَكُمْ.
وَمِنْهَا مَا حَكَاهُ جَعْفَرُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي غَزَاةٍ، وَفَى
الْجَيْشِ صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ، فَنَزَلَ النَّاسُ عِنْدَ الْعَتَمَةِ، فَقُلْتُ:
لَأَرْمُقَنَّ عَمَلَهُ اللَّيْلَةَ. فَدَخَلَ غَيْضَةً، وَدَخَلْتُ فِي أَثَرِهِ،
فَقَامَ يُصَلِّي، وَجَاءَ الْأَسَدُ حَتَّى دَنَا مِنْهُ، وَصَعِدْتُ أَنَا فِي
شَجَرَةٍ. قَالَ: فَتُرَاهُ الْتَفَتَ، أَوْ عَدَّهُ جِرْوًا حَتَّى سَجَدَ ؟
فَقُلْتُ: الْآنَ يَفْتَرِسُهُ. فَجَلَسَ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَالَ: أَيُّهَا
السَّبْعُ، إِنْ كُنْتَ أُمِرْتَ بِشَيْءٍ فَافْعَلْ، وَإِلَّا فَاطْلُبِ
الرِّزْقَ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ. فَوَلَّى الْأَسَدُ وَإِنَّ لَهُ لَزَئِيرًا
تَصَّدَّعُ مِنْهُ الْجِبَالُ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصَّبَاحِ جَلَسَ فَحَمِدَ
اللَّهَ بِمَحَامِدَ لَمْ أَسْمَعْ بِمِثْلِهَا، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي
أَسْأَلُكَ أَنْ تُجِيرَنِي مِنَ النَّارِ، أَوَ مِثْلِي يَجْتَرِئُ أَنْ
يَسْأَلَكَ الْجَنَّةَ ؟ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْجَيْشِ، فَأَصْبَحَ كَأَنَّهُ
بَاتَ عَلَى الْحَشَايَا، وَأَصْبَحْتُ وَبِي مِنَ الْفَتْرَةِ شَيْءٌ اللَّهُ
بِهِ عَلِيمٌ.
قَالَ: وَذَهَبَتْ بِغْلَتُهُ بِثِقَلِهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ
أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ بَغْلَتِي
بِثِقَلِهَا. فَجَاءَتْ حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ.
قَالَ: فَلَمَّا الْتَقَيْنَا الْعَدُوَّ حَمَلَ هُوَ وَهِشَامُ بْنُ عَامِرٍ،
فَصَنَعَا بِهِمْ طَعْنًا وَضَرْبًا، فَقَالَ الْعَدُوُّ: رَجُلَانِ مِنَ
الْعَرَبِ صَنَعَا بِنَا هَذَا؛ فَكَيْفَ لَوْ قَاتَلُونَا كُلُّهُمْ ؟ أَعْطُوا
الْمُسْلِمِينَ حَاجَتَهُمْ. يَعْنِي انْزِلُوا عَلَى حُكْمِهِمْ.
وَقَالَ صِلَةُ: جُعْتُ مَرَّةً فِي غَزَاةٍ جَوْعًا شَدِيدًا، فَبَيْنَمَا أَنَا
أَسِيرُ أَدْعُو رَبِّي وَأَسْتَطْعِمُهُ، إِذْ سَمِعْتُ وَجْبَةً مِنْ خَلْفِي،
فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِمِنْدِيلٍ أَبْيَضَ، فَإِذَا فِيهِ دَوْخَلَةٌ
مَلْآنَةٌ رُطَبًا، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى شَبِعْتُ، وَأَدْرَكَنِي الْمَسَاءُ،
فَمِلْتُ إِلَى دَيْرِ رَاهِبٍ فَحَدَّثْتُهُ الْحَدِيثَ، فَاسْتَطْعَمَنِي مِنَ
الرُّطَبِ فَأَطْعَمْتُهُ، ثُمَّ إِنِّي مَرَرْتُ عَلَى ذَلِكَ الرَّاهِبِ بَعْدَ
زَمَانٍ فَإِذَا نَخَلَاتٌ حِسَانٌ، فَقَالَ: إِنَّهُنَّ لَمِنَ الرُّطَبَاتِ
الَّتِي أَطْعَمْتَنِي. وَجَاءَ بِذَلِكَ الْمِنْدِيلِ إِلَى امْرَأَتِهِ
فَكَانَتْ تُرِيهُ لِلنَّاسِ.
وَلَمَّا أُهْدِيَتْ مُعَاذَةُ إِلَى صِلَةَ، أَدْخَلَهُ ابْنُ أَخِيهِ
الْحَمَّامَ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ بَيْتَ الْعَرُوسِ ; بَيْتًا مُطَيَّبًا، فَقَامَ
يُصَلِّي، فَقَامَتْ تُصَلِّي مَعَهُ، فَلَمْ يَزَالَا يُصَلِّيَانِ حَتَّى بَرَقَ
الصُّبْحُ. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ لَهُ: أَيْ عَمِّ، أَهْدَيْتُ إِلَيْكَ
ابْنَةَ عَمِّكَ اللَّيْلَةَ، فَقُمْتَ تُصَلِّي وَتَرَكْتَهَا. قَالَ: إِنَّكَ
أَدَخَلْتَنِي بَيْتًا أَوَّلَ النَّهَارِ أَذْكَرْتَنِي بِهِ النَّارَ،
وَأَدْخَلْتَنِي بَيْتًا آخِرَ النَّهَارِ أَذْكَرْتَنِي بِهِ الْجَنَّةَ، فَلَمْ
تَزَلْ فِكْرَتِي فِيهِمَا حَتَّى أَصْبَحْتُ. الْبَيْتُ الَّذِي أَذْكَرَهُ بِهِ
النَّارَ هُوَ الْحَمَّامُ، وَالْبَيْتُ الَّذِي أَذْكَرَهُ بِهِ الْجَنَّةَ هُوَ
بَيْتُ الْعَرُوسِ.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ادْعُ اللَّهَ لِي. فَقَالَ:
رَغَّبَكَ اللَّهُ فِيمَا يَبْقَى، وَزَهَّدَكَ فِيمَا يَفْنَى، وَرَزَقَكَ
الْيَقِينَ الَّذِي لَا تَرْكَنُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا تُعَوِّلُ فِي الدِّينِ
إِلَّا عَلَيْهِ. وَكَانَ صِلَةُ فِي غَزَاةٍ، وَمَعَهُ ابْنُهُ، فَقَالَ لَهُ:
أَيْ بُنَيَّ، تَقَدَّمْ فَقَاتِلْ حَتَّى أَحْتَسِبَكَ. فَحَمَلَ فَقَاتَلَ
حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ صِلَةُ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَاجْتَمَعَ النِّسَاءُ
عِنْدَ امْرَأَتِهِ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ، فَقَالَتْ: إِنْ كُنْتُنَّ
جِئْتُنَّ لِتُهَنِّئْنَنِي فَمَرْحَبًا بِكُنَّ، وَإِنْ كُنْتُنَّ جِئْتُنَّ
لِغَيْرِ ذَلِكَ فَارْجِعْنَ.
تُوُفِّيَ صِلَةُ فِي غَزَاةٍ هُوَ وَابْنُهُ نَحْوَ بِلَادِ فَارِسَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
زُهَيْرُ بْنُ قَيْسٍ الْبَلَوِيُّ
شَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ وَسَكَنَهَا، لَهُ صُحْبَةٌ، قَتَلَتْهُ الرُّومُ بِبَرْقَةَ
مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّرِيخَ أَتَى الْحَاكِمَ بِمِصْرَ -
وَهُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ - أَنَّ الرُّومَ نَزَلُوا بَرْقَةَ،
فَأَمَرَهُ بِالنُّهُوضِ إِلَيْهِمْ، فَسَاقَ زُهَيْرٌ وَمَعَهُ أَرْبَعُونَ
نَفْسًا، فَوَجَدَ الرُّومَ، فَأَرَادَ أَنْ يَكُفَّ عَنِ الْقِتَالِ حَتَّى
يَلْحَقَهُ الْعَسْكَرُ، فَقَالُوا: يَا أَبَا شَدَّادٍ، احْمِلْ بِنَا عَلَيْهِمْ.
فَحَمَلُوا، فَقُتِلُوا جَمِيعًا.
الْمُنْذِرُ بْنُ الْجَارُودِ
مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. تَوَلَّى بَيْتَ الْمَالِ، وَوَفَدَ عَلَى
مُعَاوِيَةَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ
فِيهَا أَخْرَجَ الْحَجَّاجُ مُقَاتِلَةَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَانُوا
أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَانْضَافَ عَلَيْهِمْ عَشَرَةُ آلَافٍ، فَصَارُوا خَمْسِينَ
أَلْفًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْصِدَ
لِشَبِيبِ بْنِ يَزِيدَ أَيْنَ كَانَ، وَأَنْ يُصَمِّمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ
مَعَهُ، وَكَانُوا قَدْ تَجَمَّعُوا أَلْفَ رَجُلٍ، وَأَنْ لَا يَفْعَلُوا كَمَا
كَانُوا يَفْعَلُونَ قَبْلَهَا مِنَ الْفِرَارِ وَالْهَزِيمَةِ.
وَلَمَّا بَلَغَ شَبِيبًا مَا بَعَثَ بِهِ الْحَجَّاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْجُنُودِ،
لَمْ يَعْبَأْ بِهِمْ شَيْئًا، بَلْ قَامَ فِي أَصْحَابِهِ خَطِيبًا، فَوَعَظَهُمْ
وَذَكَّرَهُمْ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الصَّبْرِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَمُنَاجَزَةِ
الْأَعْدَاءِ، ثُمَّ سَارَ شَبِيبٌ بِأَصْحَابِهِ نَحْوَ عَتَّابِ بْنِ وَرْقَاءَ،
فَالْتَقَيَا فِي آخِرِ النَّهَارِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَأَمَرَ شَبِيبٌ
مُؤَذِّنَهُ سَلَّامَ بْنَ سَيَّارٍ الشَّيْبَانِيَّ فَأَذَّنَ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ
صَلَّى شَبِيبٌ بِأَصْحَابِهِ الْمَغْرِبَ، وَصَفَّ عَتَّابٌ أَصْحَابَهُ -
وَكَانَ قَدْ خَنْدَقَ حَوْلَ جَيْشِهِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ - فَلَمَّا صَلَّى
شَبِيبٌ بِأَصْحَابِهِ الْمَغْرِبَ انْتَظَرَ حَتَّى طَلَعَ الْقَمَرُ وَأَضَاءَ،
تَأَمَّلَ الْمَيْمَنَةَ وَالْمَيْسَرَةَ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى أَصْحَابِ رَايَاتِ
عَتَّابٍ، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا شَبِيبٌ أَبُو الْمُدَلَّهِ، لَا حُكْمَ إِلَّا
لِلَّهِ. فَهَزَمَهُمْ، وَقُتِلَ أَمِيرُهُمْ قَبِيصَةُ بْنُ وَالِقٍ، وَجَمَاعَةٌ
مِنَ الْأُمَرَاءِ مَعَهُ، ثُمَّ كَرَّ عَلَى الْمَيْمَنَةِ وَعَلَى
الْمَيْسَرَةِ، فَفَرَّقَ شَمْلَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ قَصَدَ
الْقَلْبَ، فَمَا زَالَ حَتَّى قُتِلَ الْأَمِيرُ عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ،
وَزَهْرَةُ بْنُ حَوِيَّةَ، وَوَلَّى عَامَّةُ الْجَيْشِ
مُدْبِرِينَ، وَدَاسُوا الْأَمِيرَ عَتَّابًا، وَزَهْرَةُ، فَوَطِئَتْهُ
الْخَيْلُ، وَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ عَمَّارُ بْنُ يَزِيدَ الْكَلْبِيُّ، ثُمَّ
قَالَ شَبِيبٌ لِأَصْحَابِهِ: لَا تَتَبَّعُوا مُنْهَزِمًا. وَانْهَزَمَ جَيْشُ
الْحَجَّاجِ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ رَاجِعِينَ إِلَى الْكُوفَةِ.
وَكَانَ شَبِيبٌ لَمَّا احْتَوَى عَلَى الْمُعَسْكَرِ أَخَذَ مِمَّنْ بَقِيَ
مِنْهُمُ الْبَيْعَةَ لَهُ بِالْإِمَارَةِ وَقَالَ لَهُمْ: إِلَى سَاعَةٍ
تَهْرُبُونَ ؟ ثُمَّ احْتَوَى عَلَى مَا فِي الْمُعَسْكَرِ مِنَ الْأَمْوَالِ
وَالْحَوَاصِلِ، وَاسْتَدْعَى بِأَخِيهِ مُصَادٍ مِنَ الْمَدَائِنِ، ثُمَّ قَصَدَ
نَحْوَ الْكُوفَةِ، وَقَدْ وَفَدَ إِلَى الْحَجَّاجِ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ
الْكَلْبِيُّ، وَحَبِيبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَكَمِيُّ مِنْ مَذْحِجٍ فِي
سِتَّةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَمَعَهُمَا خَلْقٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَاسْتَغْنَى
الْحَجَّاجُ بِهِمْ عَنْ نُصْرَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَامَ فِي النَّاسِ
خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، يَا
أَهْلَ الْكُوفَةِ لَا أَعَزَّ اللَّهُ مَنْ أَرَادَ بِكُمُ الْعِزَّ، وَلَا
نَصَرَ مَنْ أَرَادَ بِكُمُ النَّصْرَ، اخْرُجُوا عَنَّا فَلَا تَشْهَدُوا مَعَنَا
قِتَالَ عَدُّوِّنَا، الْحَقُوا بِالْحِيرَةِ فَانْزِلُوا مَعَ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى، فَلَا يُقَاتِلَنَّ مَعَنَا إِلَّا مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلًا،
وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ قِتَالَ عَتَّابِ بْنِ وَرَقَاءَ. وَعَزَمَ الْحَجَّاجُ
عَلَى قِتَالِ شَبِيبٍ بِنَفْسِهِ، وَسَارَ شَبِيبٌ حَتَّى بَلَغَ الصَّرَاةَ،
وَخَرَجَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الشَّامِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ،
فَلَمَّا تَوَاجَهَ الْفَرِيقَانِ نَظَرَ الْحَجَّاجُ إِلَى شَبِيبٍ وَهُوَ فِي
سِتِّمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَخَطَبَ الْحَجَّاجُ أَهْلَ الشَّامِ وَقَالَ:
يَا أَهْلَ الشَّامِ،
أَنْتُمْ أَهْلُ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَالصَّبْرِ
وَالْيَقِينِ، لَا يَغْلِبَنَّ بَاطِلُ هَؤُلَاءِ الْأَرْجَاسِ حَقَّكُمْ، غُضُّوا
الْأَبْصَارَ، وَاجْثُوا عَلَى الرُّكَبِ، وَاسْتَقْبِلُوا بِأَطْرَافِ
الْأَسِنَّةِ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ.
وَأَقْبَلَ شَبِيبٌ وَقَدْ عَبَّأَ أَصْحَابَهُ ثَلَاثَ فِرَقٍ ; وَاحِدَةٌ
مَعَهُ، وَأُخْرَى مَعَ سُوَيْدِ بْنِ سُلَيْمٍ، وَأُخْرَى مَعَ الْمُجَلَّلِ بْنِ
وَائِلٍ، وَأَمَرَ شَبِيبٌ سُوَيْدًا أَنْ يَحْمِلَ، فَحَمَلَ عَلَى جَيْشِ
الْحَجَّاجِ، فَصَبَرُوا لَهُ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ وَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةً
وَاحِدَةً، فَانْهَزَمَ عَنْهُمْ، فَنَادَى الْحَجَّاجُ: يَا أَهْلَ السَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ، هَكَذَا فَافْعَلُوا. ثُمَّ أَمَرَ الْحَجَّاجُ فَقُدِّمَ
كُرْسِيُّهُ الَّذِي هُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ إِلَى الْأَمَامِ، ثُمَّ أَمَرَ
شَبِيبٌ الْمُجَلَّلَ أَنْ يَحْمِلَ، فَحَمَلَ، فَفَعَلُوا بِهِ كَمَا فَعَلُوا
بِسُوِيدٍ، وَقَالَ لَهُمِ الْحَجَّاجُ كَمَا قَالَ لِأُولَئِكَ، وَقَدَّمَ
كُرْسِيَّهُ إِلَى أَمَامٍ، ثُمَّ إِنَّ شَبِيبًا حَمَلَ عَلَيْهِمْ فِي
كَتِيبَتِهِ فَثَبَتُوا لَهُ، حَتَّى إِذَا غَشَّى أَطْرَافَ الْأَسِنَّةِ
وَثَبُوا فِي وَجْهِهِ فَقَاتَلَهُمْ طَوِيلًا، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الشَّامِ
طَاعَنُوهُ قُدُمًا حَتَّى أَلْحَقُوهُ بِأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَأَى صَبْرَهُمْ
نَادَى: يَا سُوَيْدُ، احْمِلْ فِي خَيْلِكَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ السِّكَّةِ ;
لَعَلَّكَ تُزِيلُ أَهْلَهَا عَنْهَا، فَأْتِ الْحَجَّاجَ مِنْ وَرَائِهِ،
وَنَحْمِلُ نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ أَمَامِهِ. فَحَمَلَ فَلَمْ يُفِدْ ذَلِكَ
شَيْئًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ قَدْ جَعَلَ عُرْوَةَ بْنَ
الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ رِدْءًا لَهُ مِنْ
وَرَائِهِ ; لِئَلَّا يُؤْتُوا مِنْ خَلْفِهِمْ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ بَصِيرًا
بِالْحَرْبِ أَيْضًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ حَرَّضَ شَبِيبٌ أَصْحَابَهُ عَلَى
الْحَمْلَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِهَا، فَفَهِمَ ذَلِكَ الْحَجَّاجُ، فَنَادَى: يَا
أَهْلَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، اصْبِرُوا لِهَذِهِ الشِّدَّةِ الْوَاحِدَةِ،
ثُمَّ وَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَا شَيْءٌ دُونَ الْفَتْحِ. فَجَثَوْا
عَلَى الرُّكَبِ، وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ شَبِيبٌ بِجَمِيعِ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا
غَشِيَهُمْ نَادَى
الْحَجَّاجُ بِجَمَاعَةِ النَّاسِ، فَوَثَبُوا فِي وَجْهِهِ، فَمَا زَالُوا يَطْعَنُونَ وَيُطْعَنُونَ، وَهُمْ مُسْتَظْهِرُونَ عَلَى شَبِيبٍ وَأَصْحَابِهِ حَتَّى رَدُّوهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ إِلَى مَا وَرَاءَهَا، فَنَادَى شَبِيبٌ فِي أَصْحَابِهِ: يَا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، الْأَرْضَ الْأَرْضَ. ثُمَّ نَزَلَ وَنَزَلَ أَصْحَابُهُ، وَنَادَى الْحَجَّاجُ: يَا أَهْلَ الشَّامِ، يَا أَهْلَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، هَذَا أَوَّلُ النَّصْرِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ. وَصَعِدَ مَسْجِدًا هُنَالِكَ لِشَبِيبٍ، وَمَعَهُ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ رَجُلًا مَعَهُمُ النَّبْلُ، وَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا عَامَّةَ النَّهَارِ، مِنْ أَشَدِّ قِتَالٍ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَالْحَجَّاجُ يَنْظُرُ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنْ مَكَانِهِ، ثُمَّ إِنَّ خَالِدَ بْنَ عَتَّابٍ اسْتَأْذَنَ الْحَجَّاجَ فِي أَنْ يَرْكَبَ فِي جَمَاعَةٍ فَيَأْتِيَ الْخَوَارِجَ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُ، فَانْطَلَقَ فِي جَمَاعَةٍ مَعَهُ نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَدَخْلَ عَسْكَرَ الْخَوَارِجِ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَقَتَلَ مُصَادًا أَخَا شَبِيبٍ، وَغَزَالَةَ امْرَأَةَ شَبِيبٍ ; قَتَلَهَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: فَرْوَةُ بْنُ دَفَّانَ الْكَلْبِيُّ. وَخَرَقَ فِي جَيْشِ شَبِيبٍ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ الْحَجَّاجُ وَأَصْحَابُهُ وَكَبَّرُوا، وَانْصَرَفَ شَبِيبٌ وَأَصْحَابُهُ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى فَرَسٍ، فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ النَّاسَ أَنْ يَنْطَلِقُوا فِي تَطَلُّبِهِمْ، فَشَدُّوا عَلَيْهِمْ فَهَزَمُوهُمْ، وَتَخْلَّفَ شَبِيبٌ فِي حَامِيَةِ النَّاسِ، ثُمَّ انْطَلَقَ وَاتَّبَعَهُ الطَّلَبُ، فَجَعَلَ يَنْعَسُ وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ حَتَّى يَخْفِقَ بِرَأْسِهِ، وَدَنَا مِنْهُ الطَّلَبُ، فَجَعَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَنْهَاهُ عَنِ النُّعَاسِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ، فَجَعَلَ لَا يَكْتَرِثُ بِهِمْ، وَيَعُودُ فَتَخْفِقُ رَأْسُهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ بَعَثَ الْحَجَّاجُ إِلَى أَصْحَابِهِ يَقُولُ: دَعُوهُ فِي
حَرَقِ النَّارِ. فَتَرَكُوهُ وَرَجَعُوا.
ثُمَّ دَخَلَ الْحَجَّاجُ الْكُوفَةَ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ:
إِنَّ شَبِيبًا لَمْ يُهْزَمْ قَبْلَهَا. ثُمَّ قَصَدَ شَبِيبٌ الْكُوفَةَ،
فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ سَرِيَّةٌ مِنْ جَيْشِ الْحَجَّاجِ، فَالْتَقَوْا مَعَهُ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ، فَهُزِمَ الْخَوَارِجُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَسَارَتِ
الْخَوَارِجُ هَارِبِينَ.
وَكَانَ عَلَى سَرِيَّةِ الْحَجَّاجِ الْحَارِثُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الثَّقَفِيُّ
فِي أَلْفِ فَارِسٍ مَعَهُ، فَحَمَلَ شَبِيبٌ عَلَى الْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ،
فَكَسَرَهُ وَمَنْ مَعَهُ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ، وَدَخَلَ النَّاسُ
الْكُوفَةَ هَارِبِينَ، وَحَصَّنَ النَّاسُ السِّكَكَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُو
الْوَرْدِ مَوْلَى الْحَجَّاجِ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ، فَقَاتِلَ حَتَّى
قُتِلَ، ثُمَّ هَرَبَ أَصْحَابُهُ، وَدَخَلُوا الْكُوفَةَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِ
أَمِيرٌ آخَرُ فَانْكَسَرَ أَيْضًا، ثُمَّ سَارَ شَبِيبٌ بِأَصْحَابِهِ نَحْوَ
السَّوَادِ، فَمَرُّوا بِعَامِلِ الْحَجَّاجِ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ
فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ خَطَبَ أَصْحَابَهُ وَقَالَ: اشْتَغَلْتُمْ بِالدُّنْيَا عَنِ
الْآخِرَةِ. ثُمَّ رَمَى بِالْمَالِ فِي الْفُرَاتِ، ثُمَّ سَارَ بِهِمْ حَتَّى
افْتَتَحَ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَلَا يَبْرُزُ لَهُ أَحَدٌ إِلَّا قَتَلَهُ، ثُمَّ
خَرَجَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ عَلَى بَعْضِ الْمُدُنِ، فَقَالَ
لَهُ: يَا شَبِيبُ ابْرُزْ إِلَيَّ وَأَبْرُزُ إِلَيْكَ - وَكَانَ صَدِيقَهُ -
فَقَالَ لَهُ شَبِيبٌ: إِنِّي لَا أَحِبُّ قَتْلَكَ. فَقَالَ لَهُ: لَكِنِّي
أُحِبُّ قَتْلَكَ، فَلَا تَغُرَّنَّكَ نَفْسُكَ وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ
الْوَقَائِعِ. ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ شَبِيبٌ عَلَى رَأْسِهِ، فَهَمَسَ
رَأْسَهُ حَتَّى اخْتَلَطَ دِمَاغُهُ بِلَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، ثُمَّ كَفَّنَهُ
وَدَفَنَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ أَنْفَقَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً عَلَى
الْجُيُوشِ وَالْعَسَاكِرِ فِي طَلَبِ شَبِيبٍ فَلَمْ يُطِيقُوهُ وَلَمْ يَقْدِرُوا
عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَوْتًا قَدَرًا
مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِمْ، وَلَا صُنْعِهِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
ذِكْرُ مَقْتَلِ شَبِيبٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عِنْدَ
ابْنِ الْكَلْبِيِّ
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ عَلَى
الْبَصْرَةِ ; الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي عَقِيلٍ، وَهُوَ
زَوْجُ ابْنَةِ الْحَجَّاجِ، يَأْمُرُهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا أَرْبَعَةَ آلَافٍ
يَتَطَلَّبُونَ شَبِيبًا، وَيَكُونُونَ تَبَعًا لِسُفْيَانَ بْنِ الْأَبْرَدِ،
فَفِعْلَ فَالْتَقَوْا فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَصَبَرَ كُلٌّ مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ لِصَاحِبِهِ، ثُمَّ عَزَمَ أَصْحَابُ الْحَجَّاجِ فَحَمَلُوا عَلَى
الْخَوَارِجِ، فَفَرُّوا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ذَاهِبِينَ حَتَّى اضْطَرُّوهُمْ
إِلَى جِسْرٍ هُنَاكَ، فَوَقَفَ عِنْدَهُ شَبِيبٌ فِي مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ،
وَعَجَزَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ، وَرَدِّهِ عَنْ
مَوْقِفِهِ هَذَا بَعْدَمَا تَقَاتَلُوا نَهَارًا كَامِلًا أَشَدَّ قِتَالٍ
يَكُونُ، ثُمَّ أَمَرَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ الرُّمَاةَ مِنْ أَصْحَابِهِ
فَرَشَقُوهُمْ بِالنَّبْلِ رَشْقًا وَاحِدًا، فَفَرَّتِ الْخَوَارِجُ، ثُمَّ
كَرَّتْ عَلَى الرُّمَاةِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ رَجُلًا،
مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَبْرَدِ، وَجَاءَ اللَّيْلُ
بِظَلَامِهِ، فَكَفَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَبَاتَ كُلٌّ مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ مُصِرًّا عَلَى مُنَاهَضَةِ الْآخَرِ، فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ
عَبَرَ شَبِيبٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْجِسْرِ، فَبَيْنَمَا شَبِيبٌ عَلَى مَتْنِ
الْجِسْرِ، وَهُوَ عَلَى حِصَانٍ لَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ فَرَسٌ أُنْثَى، فَنَزَا
فَرَسُهُ وَهُوَ عَلَى الْجِسْرِ، وَنَزَلَ حَافِرُ فَرَسِ شَبِيبٍ عَلَى حَرْفِ
السَّفِينَةِ فَسَقَطَ فِي الْمَاءِ، فَقَالَ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ
مَفْعُولًا. ثُمَّ انْغَمَرَ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ ارْتَفَعَ وَهُوَ يَقُولُ:
ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فَغَرِقَ.
وَلَمَّا تَحَقَّقَتِ الْخَوَارِجُ سُقُوطَهُ فِي الْمَاءِ كَرُّوا، وَانْصَرَفُوا
ذَاهِبِينَ مُفَرَّقِينَ فِي الْبِلَادِ، وَجَاءَ أَمِيرُ جَيْشِ الْحَجَّاجِ،
فَاسْتَخْرَجَ شَبِيبًا مِنَ الْمَاءِ، وَعَلَيْهِ دِرْعُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ
فَشُقَّ صَدْرُهُ، فَاسْتُخْرِجَ قَلْبُهُ، فَإِذَا هُوَ مُجْتَمِعٌ صُلْبٌ
كَأَنَّهُ صَخْرَةٌ، وَكَانُوا يَضْرِبُونَ بِهِ الْأَرْضَ فَيَثِبُ قَامَةَ
الْإِنْسَانِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ قَدْ أَبْغَضُوهُ لِمَا
أَصَابَ مِنْ عَشَائِرِهِمْ، فَلَمَّا تَخَلَّفَ فِي السَّاقَةِ اشْتَوَرُوا
وَقَالُوا: نَقْطَعُ الْجِسْرَ بِهِ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَمَالَتِ السُّفُنُ
بِالْجِسْرِ، وَنَفَرَ فَرَسُهُ، فَسَقَطَ فِي الْمَاءِ فَغَرِقَ، فَنَادَوْا:
غَرِقَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَعَرَفَ جَيْشُ الْحَجَّاجِ ذَلِكَ فَجَاءُوا
فَاسْتَخْرَجُوهُ.
وَلَمَّا نُعِيَ شَبِيبٌ إِلَى أُمِّهِ، قَالَتْ: صَدَّقْتُمْ، إِنِّي كُنْتُ
رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ وَأَنَا حَامِلٌ بِهِ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنِّي شِهَابٌ
مِنْ نَارٍ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَا يُطْفِئُهُ إِلَّا الْمَاءُ.
وَكَانَتْ أُمُّهُ جَارِيَةٌ اسْمُهَا جَهِيزَةُ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً، وَكَانَتْ
مِنْ أَشْجَعِ
النِّسَاءِ، تُقَاتِلُ مَعَ ابْنِهَا فِي الْحُرُوبِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهَا قُتِلَتْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ،
وَكَذَلِكَ قُتِلَتْ زَوْجَتُهُ غَزَالَةُ. وَكَانَتْ شَدِيدَةَ الْبَأْسِ
خَارِجِيَّةً، وَكَانَ الْحَجَّاجُ مَعَ هَيْبَتِهِ يَخَافُ مِنْهَا أَشَدَّ
خَوْفٍ، حَتَّى قَالَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
أَسَدٌ عَلَيَّ وَفِي الْحُرُوبِ نَعَامَةٌ فَتْخَاءُ تَنْفِرُ مِنْ صَفِيرِ
الصَّافِرِ
هَلَّا بَرَزْتَ إِلَى غَزَالَةَ فِي الْوَغَى بَلْ كَانَ قَلْبُكَ فِي جَنَاحَيْ
طَائِرِ
قَالَ: وَقَدْ كَانَ شَبِيبُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ الصَّلْتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَرَاحِيلَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ
شَيْبَانَ الشَّيْبَانِيُّ - يَدَّعِي الْخِلَافَةَ، وَيَتَسَمَّى بِأَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَهَرَهُ بِمَا قَهَرَهُ بِهِ
مِنَ الْغَرَقِ لَنَالَ الْخِلَافَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ
أَحَدٌ، وَإِنَّمَا قَهَرَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيِ الْحَجَّاجِ، لَمَّا أَرْسَلَ
إِلَيْهِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِعَسَاكِرَ لِقِتَالِهِ،
فَهَرَبَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَلَمَّا أَلْقَاهُ جَوَادُهُ عَلَى الْجِسْرِ فِي
نَهْرِ دُجَيْلٍ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَغَرَقًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟
قَالَ: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ قَالَ:
ثُمَّ أُخْرِجَ، وَحُمِلَ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَأَمَرَ فَنُزِعَ قَلْبُهُ مِنْ
صَدْرِهِ، فَإِذَا هُوَ مِثْلُ الْحَجَرِ.
وَكَانَ شَبِيبٌ رَجُلًا طَوِيلًا أَشْمَطَ جَعْدَا، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي
يَوْمِ عِيدِ النَّحْرِ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ، وَقَدْ أُمْسِكَ رَجُلٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ، فَحُمِلَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ:
أَلَسْتَ الْقَائِلَ:
فَإِنْ يَكُ مِنْكُمْ كَانَ مَرْوَانُ وَابْنُهُ وَعَمْرٌو وَمِنْكُمْ هَاشِمٌ، وَ
حَبِيبُ
فَمِنَّا حُصَيْنٌ، وَ الْبَطِينُ وَقَعْنَبٌ وَمِنَّا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
شَبِيبُ
فَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ: وَمِنَّا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ شَبِيبُ. فَأَعْجَبَهُ
اعْتِذَارُهُ وَأَطْلَقَهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا بَيْنَ الْمُهَلَّبِ
بْنِ أَبِي صُفْرَةَ نَائِبِ الْحَجَّاجِ، وَبَيْنَ الْخَوَارِجِ مِنَ
الْأَزَارِقَةِ، وَأَمِيرِهِمْ قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ، وَكَانَ أَيْضًا مِنَ
الْفُرْسَانِ الشُّجْعَانِ الْمَذْكُورِينَ الْمَشْهُورِينَ، وَقَدْ تَفَرَّقَ
عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَنَفَرُوا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَمَّا هُوَ فَشَرَدَ فِي
الْأَرْضِ لَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ، وَقَدْ جَرَتْ بَيْنَهُمْ مُنَاوَشَاتٌ
وَمُجَاوَلَاتٌ يَطُولُ بَسْطُهَا وَاسْتِقْصَاؤُهَا، وَقَدْ بَالَغَ ابْنُ
جَرِيرٍ فِي ذِكْرِهَا.
قَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَارَ بُكَيْرُ بْنُ وِشَاحٍ الَّذِي كَانَ نَائِبَ
خُرَاسَانَ، عَلَى
نَائِبِهَا أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ
بْنِ أُسَيْدٍ - كَمَا سَيَأْتِي - وَذَلِكَ أَنْ بُكَيْرًا اسْتَجَاشَ عَلَيْهِ
النَّاسَ، وَغَدَرَ بِهِ وَقَتَلَهُ، وَقَدْ جَرَتْ بَيْنَهُمَا خُطُوبٌ
طَوِيلَةٌ، قَدِ اسْتَقْصَاهَا أَبُو جَعْفَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي
تَارِيخِهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَفَاةُ شَبِيبِ بْنِ يَزِيدَ الْخَارِجِيِّ -
كَمَا قَدَّمْنَا - وَقَدْ كَانَ مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالْفُرُوسِيَّةِ عَلَى
جَانِبٍ كَبِيرٍ، لَمْ أَرَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مِثْلَهُ، وَمِثْلَ الْأَشْتَرِ
وَابْنِهُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ،
وَمِمَّنْ يُنَاطُ بِهَؤُلَاءِ فِي الشَّجَاعَةِ ; مِثْلَ قَطَرِيِّ بْنِ
الْفُجَاءَةِ مِنَ الْأَزَارِقَةِ الْخَوَارِجِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيُّ
كَانَ كَبِيرًا مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ، وَلَهُ بِالْمَدِينَةِ دَارٌ كَبِيرَةٌ
بِالْمُصَلَّى، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ كَاتِبَ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى
الرَّسَائِلِ، تُوُفِّيَ بِالشَّامِ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ
كَانَتْ أُخْتُهُ تَحْتَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَوَلَّاهُ سِجِسْتَانَ، فَلَمَّا
سَارَ إِلَيْهَا قِيلَ لَهُ: إِنَّ شَبِيبًا فِي طَرِيقِكَ، وَقَدْ أَعْيَا
النَّاسَ،
فَاعْدِلْ إِلَيْهِ لَعَلَّكَ أَنْ تَقْتُلَهُ، فَيَكُونَ
ذِكْرُ ذَلِكَ وَشُهْرَتُهُ لَكَ إِلَى الْأَبَدِ. فَلَمَّا سَارَ لَقِيَهُ
شَبِيبٌ فَاقْتَتَلَ مَعَهُ، فَقَتَلَهُ شَبِيبٌ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عِيَاضُ بْنُ عَمْرٍو الْأَشْعَرِيُّ
شَهِدَ الْيَرْمُوكَ، وَحَدَّثَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ،
تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُطَرِّفُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ
وَقَدْ كَانُوا إِخْوَةً ; عُرْوَةُ، وَ مُطَرِّفٌ، وَ حَمْزَةُ، وَقَدْ كَانُوا
يَمِيلُونَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ، فَاسْتَعْمَلَهُمِ الْحَجَّاجُ عَلَى
أَقَالِيمَ، فَاسْتَعْمَلَ عُرْوَةَ عَلَى الْكُوفَةِ، وَ مُطَرِّفًا عَلَى
الْمَدَائِنِ،، وَ حَمْزَةَ عَلَى هَمْدَانَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ
فَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِبِلَادِ الرُّومِ،
فَفَتَحُوا إِرْقِيلِيَّةَ، فَلَمَّا رَجَعُوا أَصَابَهُمْ مَطَرٌ عَظِيمٌ
وَثَلْجٌ وَبَرَدٌ، فَأُصِيبَ بِسَبَبِهِ نَاسٌ كَثِيرٌ.
وَفِيهَا وَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ مُوسَى بْنَ نُصَيْرٍ غَزْوَ بِلَادِ
الْمَغْرِبِ جَمِيعِهِ، فَسَارَ إِلَى طَنْجَةَ وَقَدَّمَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ
طَارِقًا، فَقَتَلُوا مُلُوكَ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَبَعْضُهُمْ قَطَعُوا أَنْفَهُ
وَنَفَوْهُ.
وَفِيهَا عَزَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ أُمَيَّةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ إِمْرَةِ
خُرَاسَانَ، وَأَضَافَهَا إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ مَعَ
سِجِسْتَانَ أَيْضًا، وَرَكِبَ الْحَجَّاجُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ شَأْنِ شَبِيبٍ
مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْكَوْفَةِ
الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ الْحَضْرَمِيَّ، فَقَدِمَ
الْمُهَلَّبُ عَلَى الْحَجَّاجِ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ، وَقَدْ فَرَغَ مِنْ شَأْنِ
الْأَزَارِقَةِ أَيْضًا، فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَاسْتَدْعَى
بِأَصْحَابِ الْبَلَاءِ مِنْ جَيْشِهِ، فَمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ الْمُهَلَّبُ
أَجْزَلَ الْحَجَّاجُ لَهُ الْعَطِيَّةَ، ثُمَّ وَلَّى الْحَجَّاجُ الْمُهَلَّبَ
إِمْرَةَ سِجِسْتَانَ، وَوَلَّى عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ إِمْرَةَ
خُرَاسَانَ، ثُمَّ نَاقَلَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ خُرُوجِهِمَا مِنْ عِنْدِهِ،
فَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ بِإِشَارَةِ الْمُهَلَّبِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْتَعَانَ
بِصَاحِبِ الشُّرْطَةِ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ طَارِقٍ
الْعَبْشَمِيُّ، حَتَّى
أَشَارَ عَلَى الْحَجَّاجِ بِذَلِكَ، فَأَجَابَهُ
الْحَجَّاجُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَلْزَمَ الْمُهَلَّبَ بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ;
لِكَوْنِهِ اعْتَرَضَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ، وَكَانَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ، وَأَمِيرُ
الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ وَتِلْكَ النَّوَاحِي كُلِّهَا
الْحَجَّاجَ، وَنَائِبُهُ عَلَى خُرَاسَانَ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ
وَنَائِبُهُ عَلَى سِجِسْتَانَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ
الثَّقَفِيَّ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحٌ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ
مُوسَى بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ.
وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ، صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَشَهِدَ
الْعَقَبَةَ، وَأَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ بَدْرًا فَمَنَعَهُ أَبُوهُ، وَخَلَّفَهُ
عَلَى أَخَوَاتِهِ وَإِخْوَتِهِ، وَكَانُوا تِسْعَةً، وَقِيلَ: إِنَّهُ ذَهَبَ
بَصَرُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ. تُوُفِّيَ جَابِرٌ بِالْمَدِينَةِ، وَعُمْرُهُ أَرْبَعٌ
وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَأَسْنَدَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ حَدِيثًا.
شُرَيْحُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ، أَبُو أُمَيَّةَ، الْكِنْدِيُّ
وَهُوَ قَاضِي الْكُوفَةِ، وَقَدْ
تَوَلَّى الْقَضَاءَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،
وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ
عَلِيٌّ، ثُمَّ وَلَّاهُ مُعَاوِيَةُ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ فِي الْقَضَاءِ، إِلَى
أَنْ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ رِزْقُهُ عَلَى الْقَضَاءِ فِي كُلِّ
شَهْرٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ: خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَكَانَ إِذَا خَرَجَ
إِلَى الْقَضَاءِ يَقُولُ: سَيَعْلَمُ الظَّالِمُ حَظَّ مَنْ نَقَصَ. وَقِيلَ:
إِنَّهُ كَانَ إِذَا جَلَسَ لِلْقَضَاءِ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: يَا دَاوُدُ
إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ
وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى ( ص: 26 ) الْآيَةَ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ الظَّالِمَ
يَنْتَظِرُ الْعِقَابَ، وَالْمَظْلُومَ يَنْتَظِرُ النَّصْرَ، أَوِ الْمَثُوبَةَ.
وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ ؟ فَقَالَ: كَيْفَ يُصْبِحُ حَالُ مَنْ شَطْرُ
النَّاسِ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ؟ وَقِيلَ: إِنَّهُ مَكَثَ قَاضِيًا نَحْوَ سَبْعِينَ
سَنَةً. وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْتُعْفِيَ مِنَ الْقَضَاءِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ،
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَصْلُهُ مِنْ أَوْلَادِ الْفَرَسِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْيَمَنِ، وَقَدِمَ
الْمَدِينَةَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَتُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ، وَعُمْرُهُ مِائَةٌ وَثَمَانِ سِنِينَ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيُّ
نَزِيلُ فِلَسْطِينَ، وَقَدْ رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقِيلَ:
إِنَّ لَهُ صُحْبَةٌ. وَقَدْ بَعَثَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الشَّامِ ;
لِيُفَقِّهَ أَهْلَهَا فِي الدِّينِ، وَكَانَ مِنَ الْعُبَّادِ الصَّالِحِينَ.
جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ الْأَزْدِيُّ
شَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى غَزْوِ الْبَحْرِ لِمُعَاوِيَةَ،
وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالشَّجَاعَةِ وَالْخَيْرِ، تُوُفِّيَ بِالشَّامِ وَقَدْ
قَارَبَ الثَّمَانِينَ.
الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ الْبَصْرِيُّ
كَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْعُبَّادِ، مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ كَثِيرَ
الْخَوْفِ وَالْوَرَعِ، وَكَانَ يَعْتَزِلُ فِي بَيْتِهِ، وَلَا يُخَالِطُ
النَّاسَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْبُكَاءِ، لَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى عَمِيَ، وَلَهُ
مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ، تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
سُرَاقَةُ بْنُ مِرْدَاسٍ الْأَزْدِيُّ
كَانَ شَاعِرًا مُطْبِقًا، هَجَا الْحَجَّاجَ فَنَفَاهُ إِلَى
الشَّامِ، فَتُوُفِّيَ بِهَا.
النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ الشَّاعِرُ
السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ الْكِنْدِيُّ
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
سُفْيَانُ بْنُ سَلَمَةَ الْأَسَدِيُّ
مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ الْبَصْرِيُّ
زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ
فَفِيهَا وَقَعَ طَاعُونٌ عَظِيمٌ بِالشَّامِ، حَتَّى كَادُوا يَفْنُونَ مَنْ
شِدَّتِهُ، وَلَمْ يَغْزُ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ ; لِضَعْفِهِمْ
وَقِلَّتِهِمْ، وَوَصَلَتِ الرُّومُ فِيهَا أَنْطَاكِيَّةَ، فَأَصَابُوا خَلْقًا
مِنْ أَهْلِهَا ; لِعِلْمِهِمْ بِضَعْفِ الْجُنُودِ وَالْمُقَاتِلَةِ.
وَفِيهَا غَزَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ رُتْبِيلَ مَلِكَ التُّرْكِ
حَتَّى أَوْغَلَ فِي بِلَادِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ
فِي كُلِّ سَنَةٍ.
وَفِيهَا قَتَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ الْحَارِثَ بْنَ سَعِيدٍ
الْمُتَنَبِّئَ الْكَذَّابَ، وَيُقَالُ لَهُ: الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ سَعِيدٍ الدِّمَشْقِيُّ، مَوْلَى أَبِي الْجُلَاسِ الْعَبْدَرِيِّ.
وَيُقَالُ: مَوْلَى الْحَكَمِ بْنِ مَرْوَانَ. كَانَ أَصْلُهُ مِنَ الْحُولَةِ،
فَنَزَلَ دِمَشْقَ، وَتَعَبَّدَ بِهَا، وَتَنَسَّكَ وَتَزَهَّدَ، ثُمَّ مُكِرَ
بِهِ، وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى عَلَى عَقِبِهِ، وَانْسَلَخَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَفَارَقَ حِزْبَ اللَّهِ الْمُفْلِحِينَ، وَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ
فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَمْ يَزَلِ الشَّيْطَانُ يَزُخُّ فِي قَفَاهُ حَتَّى
أَخْسَرَهُ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ، وَأَخْزَاهُ وَأَشْقَاهُ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ
إِلَّا بِاللَّهِ.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا عَبْدُ
الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ الْحَوْطِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُبَارَكٍ،
ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ، قَالَ:
كَانَ الْحَارِثُ الْكَذَّابُ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ، وَكَانَ مَوْلًى لِأَبِي
الْجُلَاسِ، وَكَانَ لَهُ أَبٌ بِالْحُولَةِ، فَعَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ وَكَانَ
رَجُلًا مُتَعَبِّدًا زَاهِدًا، لَوْ لَبِسَ جُبَّةً مِنْ ذَهَبٍ لَرُئِيَتْ
عَلَيْهِ الزَّهَادَةُ وَالْعِبَادَةُ، وَكَانَ إِذَا أَخَذَ فِي التَّحْمِيدِ
لَمْ يَسْمَعِ السَّامِعُونَ مِثْلَ تَحْمِيدِهِ، وَلَا أَحْسَنَ مِنْ كَلَامِهِ،
فَكَتَبَ إِلَى أَبِيهِ، وَكَانَ بِالْحُولَةِ: يَا أَبَتَاهُ، أَعْجِلْ عَلَيَّ،
فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَشْيَاءَ أَتَخَوَّفُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ قَدْ
عَرَضَ لِي. قَالَ: فَزَادَهُ أَبُوهُ غَيًّا عَلَى غَيِّهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ
أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ، أَقْبِلْ عَلَى مَا أُمِرْتَ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يَقُولُ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى
كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ وَلَسْتَ بِأَفَّاكٍ وَلَا أَثِيمٍ، فَامْضِ لِمَا
أُمِرْتَ بِهِ. فَكَانَ يَجِيءُ إِلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ رَجُلًا رَجُلًا
فُيُذَاكِرُهُمْ أَمْرَهُ، وَيَأْخُذُ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، إِنْ
هُوَ يَرَى مَا يَرْضَى قَبِلَ وَإِلَّا كَتَمَ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَكَانَ يُرِيهِمُ الْأَعَاجِيبَ ; كَانَ يَأْتِي إِلَى رُخَامَةٍ فِي
الْمَسْجِدِ، فَيَنْقُرُهَا بِيَدِهِ فَتُسَبِّحُ تَسْبِيحًا بَلِيغًا، حَتَّى
يَضِجَّ مِنْ ذَلِكَ الْحَاضِرُونَ. قُلْتُ: وَقَدْ سَمِعْتُ شَيْخَنَا
الْعَلَّامَةَ أَبَا الْعَبَّاسِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، يَقُولُ: كَانَ
يَنْقُرُ هَذِهِ الرُّخَامَةَ الْحَمْرَاءَ الَّتِي فِي الْمَقْصُورَةِ
فَتُسَبِّحُ، وَكَانَ زِنْدِيقًا.
قَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي رِوَايَةٍ: وَكَانَ
الْحَارِثُ يُطْعِمُهُمْ فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَفَاكِهَةَ
الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ: اخْرُجُوا حَتَّى أُرِيَكُمُ
الْمَلَائِكَةَ. فَيَخْرُجُ بِهِمْ إِلَى دَيْرِ الْمُرَّانِ، فَيُرِيهِمْ
رِجَالًا عَلَى خَيْلٍ، فَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ بِشْرٌ كَثِيرٌ، وَفَشَا أَمَرُهُ
فِي الْمَسْجِدِ، وَكَثُرَ أَصْحَابُهُ وَأَتْبَاعُهُ، حَتَّى وَصَلَ الْأَمْرُ
إِلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، قَالَ: فَعَرَضَ عَلَى الْقَاسِمِ أَمْرَهُ،
وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ ; إِنْ هُوَ رَضِيَ أَمْرًا قَبِلَهُ،
وَإِنْ كَرِهَهُ كَتَمَهُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ: إِنِّي نَبِيٌّ. فَقَالَ
الْقَاسِمُ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، مَا أَنْتَ نَبِيٌّ.
وَفِي رِوَايَةٍ: وَلَكِنَّكَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ الدَّجَّالِينَ الَّذِينَ
أَخْبَرَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ السَّاعَةَ لَا
تَقُومُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ، دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ
أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنْتَ أَحَدُهُمْ وَلَا عَهْدَ لَكَ. قَالَ: ثُمَّ قَامَ
فَخَرَجَ إِلَى أَبِي إِدْرِيسَ - وَكَانَ عَلَى الْقَضَاءِ بِدِمَشْقَ -
فَأَعْلَمَهُ بِمَا سَمِعَ مِنَ الْحَارِثِ، فَقَالَ أَبُو إِدْرِيسَ: نَعْرِفُهُ.
ثُمَّ أَعْلَمَ أَبُو إِدْرِيسَ عَبْدَ الْمَلِكِ بِذَلِكَ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ مَكْحُولًا، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي
زَكَرِيَّا دَخْلَا عَلَى الْحَارِثِ فَدَعَاهُمَا إِلَى نُبُوَّتِهِ،
فَكَذَّبَاهُ وَرَدَّا عَلَيْهِ مَا قَالَ، وَدَخَلَا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ
فَأَعْلَمَاهُ بِأَمْرِهِ، فَتَطَلَّبَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ طَلَبًا حَثِيثًا،
وَاخْتَفَى الْحَارِثُ، وَصَارَ إِلَى دَارٍ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، يَدْعُو إِلَى
نَفْسِهِ سِرًّا، وَاهْتَمَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بِشَأْنِهِ، حَتَّى رَكِبَ إِلَى
الصِّنَّبْرَةِ فَنَزَلَهَا، فَوَرَدَ عَلَيْهِ هُنَاكَ رَجُلٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، مِمَّنْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْحَارِثِ
وَهُوَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَعْلَمَهُ بِأَمْرِهِ وَأَيْنَ هُوَ، وَسَأَلَ
مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْجُنْدِ
الْأَتْرَاكِ لِيَحْتَاطَ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ طَائِفَةً وَكَتَبَ إِلَى
نَائِبِ الْقُدْسِ ; لِيَكُونَ فِي طَاعَةِ هَذَا الرَّجُلِ، وَيَفْعَلَ مَا
يَأْمُرُهُ
بِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ الرَّجُلُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ
بِمَنْ مَعَهُ انْتَدَبَ نَائِبَ الْقُدْسِ لِخِدْمَتِهِ، فَأَمْرَهُ أَنْ
يَجْمَعَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّمُوعِ، وَيَجْعَلُ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ
شَمْعَةً، فَإِذَا أَمَرَهُمْ بِإِشْعَالِهَا فِي اللَّيْلِ أَشْعَلُوهَا
كُلُّهُمْ فِي سَائِرِ الطُّرُقِ وَالْأَزِقَّةِ، حَتَّى لَا يَخْفَى أَمْرُهُ،
وَذَهَبَ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ، فَدَخَلَ الدَّارَ الَّتِي فِيهَا الْحَارِثُ،
فَقَالَ لِبَوَّابِهِ: اسْتَأْذِنْ لِي عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ. فَقَالَ: فِي
هَذِهِ السَّاعَةِ لَا يُؤْذَنُ عَلَيْهِ حَتَّى يُصْبِحَ. فَصَاحَ الْبَصْرِيُّ:
أَسْرِجُوا. فَأَسْرَجَ النَّاسُ شُمُوعَهُمْ حَتَّى صَارَ اللَّيْلُ كَأَنَّهُ
النَّهَارُ، وَهَجَمَ الْبَصْرِيُّ عَلَى الْحَارِثِ، فَاخْتَفَى مِنْهُ فِي
سِرْبٍ هُنَاكَ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: هَيْهَاتَ، تُرِيدُونَ أَنْ تَصِلُوا إِلَى
نَبِيِّ اللَّهِ، إِنَّهُ قَدْ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ.
قَالَ: فَأَدْخَلَ الْبَصْرِيُّ يَدَهُ فِي ذَلِكَ السِّرْبِ فَإِذَا بِثَوْبِهِ،
فَاجْتَرَّهُ فَأَخْرَجَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلْفَرْغَانِيِّينَ مِنْ أَتْرَاكِ
الْخَلِيفَةِ: تَسَلَّمُوا. قَالَ: فَأَخَذُوهُ فَرَبَطُوهُ فَقَيَّدُوهُ،
فَيُقَالُ: إِنَّ الْقُيُودَ وَالْجَامِعَةَ سَقَطَتْ مِنْ عُنُقِهِ مِرَارًا،
وَيُعِيدُونَهَا، وَجَعَلَ يَقْرَأُ: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى
نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ
قَرِيبٌ [ سَبَأٍ: 50 ]، وَقَالَ لِأُولَئِكَ الْأَتْرَاكِ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا
أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [ غَافِرٍ: 28 ] فَقَالُوا لَهُ بِلِسَانِهِمْ
وَلُغَتِهِمْ: هَذَا كُرَانُنَا فَهَاتِ كُرَانَكَ. أَيْ: هَذَا قُرْآنُنَا
فَهَاتِ قُرْآنَكَ. فَلَمَّا انْتَهَوْا بِهِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ أَمَرَ
بِصَلْبِهِ عَلَى خَشَبَةٍ، وَأَمَرَ رَجُلًا فَطَعَنَهُ بِحَرْبَةٍ، فَانْثَنَتْ
فِي ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَيْحَكَ،
أَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ حِينَ طَعَنْتَهُ ؟ فَقَالَ: نَسِيتُ. فَقَالَ:
وَيْحَكَ، سَمِّ اللَّهَ، ثُمَّ اطْعَنْهُ. قَالَ: فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ
طَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ
حَبَسَهُ قَبْلَ صَلْبِهِ، وَأَمَرَ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ أَنْ يَعِظُوهُ وَيُعْلِمُوهُ أَنَّ هَذَا الَّذِي بِهِ
مِنَ الشَّيْطَانِ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ، فَصَلَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ،
وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْعَدْلِ وَالدِّينِ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ جَابِرٍ، فَحَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ
عُتْبَةَ الْأَعْوَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْعَلَاءَ بْنَ زِيَادٍ الْعَدَوِيَّ
يَقُولُ: مَا غَبَطْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بِشَيْءٍ مِنْ وِلَايَتِهِ إِلَّا
بِقَتْلِهِ حَارِثًا ; حُدِّثْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ دَجَّالُونَ
كَذَّابُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَمَنْ قَالَهُ فَاقْتُلُوهُ،
وَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ أَحَدًا فَلَهُ الْجَنَّةُ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: بَلَغَنِي أَنَّ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ قَالَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: لَوْ حَضَرْتُكَ مَا أَمَرْتُكَ
بِقَتْلِهِ. قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالَ إِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ بِهِ الْمَذْهَبُ،
فَلَوْ جَوَّعَتَهُ لَذَهَبَ ذَلِكَ عَنْهُ. وَقَالَ الْوَلِيدُ، عَنِ الْمُنْذِرِ
بْنِ نَافِعٍ: سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ اللَّجْلَاجِ يَقُولُ لِغَيْلَانَ: وَيْحَكَ
يَا غَيْلَانُ، أَلَمْ يَأْخُذْكَ فِي شَبِيبَتِكَ تُرَامِي النِّسَاءَ فِي شَهْرِ
رَمَضَانَ بِالتُّفَّاحِ، ثُمَّ صِرْتَ حَارِثِيًّا يَحْجُبُ امْرَأَتَهُ،
وَيَزْعُمُ أَنَّهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ تَحَوَّلْتَ فَصِرْتَ قَدَرِيًّا
زِنْدِيقًا.
وَفِيهَا غَزَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ رُتْبِيلَ - مَلِكَ
التُّرْكِ الْأَعْظَمَ فِيهِمْ - وَقَدْ كَانَ يُصَانِعُ الْمُسْلِمِينَ تَارَةً،
وَيَتَمَرَّدُ أُخْرَى، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى ابْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي بَكْرَةَ أَنْ نَاجِزْهُ بِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَسْتَبِيحَ أَرْضَهُ، وَتَهْدِمَ قِلَاعَهُ، وَتَقْتُلَ مُقَاتِلَتَهُ. فَخَرَجَ فِي جَمْعٍ مِنَ الْجُنُودِ مِنْ بِلَادِهِ، وَخَلْقٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، ثُمَّ الْتَقَى مَعَ رُتْبِيلَ - مَلِكِ التُّرْكِ - فَكَسَرَهُ، وَهَدَمَ أَرْكَانَهُ بِسَطْوَةٍ بِتَّارَةٍ، وَجَاسَ ابْنُ أَبِي بَكْرَةَ وَجُنْدُهُ خِلَالَ دِيَارِهِمْ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَقَالِيمِهِ وَمُدُنِهِ وَأَمْصَارِهِ، وَتَبَّرَ مَا هُنَالِكَ تَتْبِيرًا، ثُمَّ إِنَّ رُتْبِيلَ تَقَهْقَرَ مِنْهُ مُنْشَمِرًا، وَمَا زَالَ يَتْبَعُهُ حَتَّى اقْتَرَبَ مِنْ مَدِينَتِهِ الْعُظْمَى، حَتَّى كَانُوا مِنْهَا عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَخَافَتِ الْأَتْرَاكُ مِنْهُمْ خَوْفًا شَدِيدًا، ثُمَّ إِنَّ التُّرْكَ أَخَذَتْ عَلَيْهِمُ الطُّرُقَ وَالشِّعَابَ، وَضَيَّقُوا عَلَيْهِمُ الْمَسَالِكَ، حَتَّى ظَنَّ كُلٌّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا مَحَالَةَ هَالِكٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ طَلَبَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَنْ يُصَالِحَ رُتْبِيلَ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ سَبْعَمِائَةِ أَلْفٍ، وَيَفْتَحُوا لِلْمُسْلِمِينَ طَرِيقًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ، وَيَرْجِعُونَ عَنْهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَانْتَدَبَ شُرَيْحَ بْنَ هَانِئٍ الْحَارِثِيَّ - وَكَانَ صَحَابِيًّا، وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ أَصْحَابِ عَلَيٍّ، وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ - فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى الْقِتَالِ وَالْمُصَابَرَةِ، وَالنِّزَالِ وَالْجِلَادِ بِالسُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ وَالنِّبَالِ، فَنَهَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ فَلَمْ يَنْتَهِ، وَأَجَابَهُ شِرْذِمَةٌ مِنَ النَّاسِ مِنَ الشُّجْعَانِ وَأَهْلِ الْحَفَائِظِ، فَمَا زَالَ يُقَاتِلُ بِهِمِ التَّرْكَ حَتَّى فَنِيَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. قَالُوا: وَجَعَلَ شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ يَرْتَجِزُ، وَيَقُولُ:
أَصْبَحْتُ ذَا بَثٍّ أُقَاسِيَ الْكِبَرَا قَدْ عِشْتُ
بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ أَعْصُرَا ثُمَّتَ أَدْرَكْتُ النَّبِيَّ الْمُنْذِرَا
وَبَعْدَهُ صِدِّيقَهُ وَعُمَرَا وَيَوْمَ مِهْرَانَ وَيَوْمَ تُسْتَرَا
وَالْجَمْعَ فِي صِفِّينِهِمْ وَالنَّهَرَا هَيْهَاتَ مَا أَطْوَلَ هَذَا عُمُرَا
ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقُتِلَ مَعَهُ خَلْقٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ، ثُمَّ خَرَجَ مَنْ خَرَجَ مِنَ النَّاسِ صُحْبَةَ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي بَكْرَةَ مِنْ أَرْضِ رُتْبِيلَ، وَهُمْ قَلِيلٌ، وَبَلَغَ ذَلِكَ
الْحَجَّاجَ فَأَخْذَهُ مَا تَقَدَّمَ، وَمَا تَأَخَّرَ، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ
الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَيَسْتَشِيرُهُ فِي بَعْثِ جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَى
بِلَادِ رُتْبِيلَ ; لِيَنْتَقِمُوا مِنْهُ بِسَبَبِ مَا حَلَّ بِالْمُسْلِمِينَ
فِي بِلَادِهِ، فَحِينَ وَصَلَ الْبَرِيدُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ كَتَبَ إِلَى
الْحَجَّاجِ بِالْمُوَافَقَةِ عَلَى مَا رَأَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ،
وَأَنْ يُعَجِّلَ ذَلِكَ سَرِيعًا، فَحِينَ وَصَلَ الْبَرِيدُ إِلَى الْحَجَّاجِ
بِذَلِكَ أَخَذَ فِي جَمْعِ الْجُيُوشِ، فَجَهَّزَ جَيْشًا كَثِيفًا لِذَلِكَ،
عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَهَا. وَقِيلَ:
إِنَّهُ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ ثَلَاثُونَ
أَلْفًا، وَابْتِيعَ الرَّغِيفُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِدِينَارٍ، وَقَاسَوْا
شَدَائِدَ، وَمَاتَ بِسَبَبِ الْجُوعِ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ أَيْضًا، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَقَدْ قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ
التُّرْكِ خَلْقًا كَثِيرًا أَيْضًا، قَتَلُوا أَضْعَافَهَمْ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْفَى شُرَيْحٌ مِنَ الْقَضَاءِ
فَأَعْفَاهُ الْحَجَّاجُ مِنْ ذَلِكَ، وَوَلَّى مَكَانَهُ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ
أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ
تَرْجَمَةُ شُرَيْحٍ عِنْدَ وَفَاتِهِ فِي السَّنَةِ
الْمَاضِيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ:
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ أَمِيرُ
الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ التَّمِيمِيُّ، أَبُو
نَعَامَةَ الْخَارِجِيُّ، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْمَشَاهِيرِ، وَيُقَالُ:
إِنَّهُ مَكَثَ عِشْرِينَ سَنَةً يُسَلِّمُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ بِالْخِلَافَةِ،
وَقَدْ جَرَتْ لَهُ خُطُوبٌ وَحُرُوبٌ مَعَ جَيْشِ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي
صُفْرَةَ مِنْ جِهَةِ الْحَجَّاجِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْهَا طَرَفًا
صَالِحًا فِي أَمَاكِنِهِ.
وَكَانَ خُرُوجُهُ فِي زَمَنِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَتَغَلَّبَ عَلَى
قِلَاعٍ كَثِيرَةٍ وَأَقَالِيمَ وَغَيْرِهَا، وَوَقَائِعُهُ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ
أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ جُيُوشًا كَثِيرَةً فَهَزَمَهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ
بَرَزَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْضِ الْحَرُورِيَّةِ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ
أَعْجَفَ، وَبِيَدِهِ عَمُودُ حَدِيدٍ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُ كَشَفَ قَطَرِيٌّ
عَنْ وَجْهِهِ، فَوَلَّى الرَّجُلُ هَارِبًا، فَقَالَ لَهُ قَطَرِيٌّ: إِلَى
أَيْنَ ؟ أَمَا تَسْتَحِي أَنْ تَفِرَّ وَلَمْ تَرَ طَعْنًا وَلَا ضَرْبًا ؟
فَقَالَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْتَحِي أَنْ يَفِرَّ مِنْ مِثْلِكَ.
ثُمَّ إِنَّهُ فِي آخِرِ أَمْرِهِ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ
الْكَلْبِيُّ فِي جَيْشٍ، فَاقْتَتَلُوا بِطَبَرِسْتَانَ، فَعَثَرَ بِقَطَرِيٍّ
فَرَسُهُ فَوَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ، فَتَكَاثَرُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ،
وَحَمَلُوا رَأْسَهُ إِلَى الْحَجَّاجِ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي قَتَلَهُ سَوْدَةُ
بْنُ الْحُرِّ الدَّارِمِيُّ.
وَكَانَ قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ - مَعَ شَجَاعَتِهِ
الْمُفَرِطَةِ وَإِقْدَامِهِ - مِنْ خُطَبَاءَ الْعَرَبِ الْمَشْهُورِينَ
بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، وَجَوْدَةِ الْكَلَامِ، وَالشِّعْرِ الْحَسَنِ،
فَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ يُشَجِّعُ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ، وَمَنْ
سَمِعَهَا انْتَفَعَ بِهَا:
أَقُولُ لَهَا وَقَدْ طَارَتْ شَعَاعًا مِنَ الْأَبْطَالِ وَيْحَكِ لَنْ تُرَاعِي
فَإِنَّكِ لَوْ سَأَلْتِ بَقَاءَ يَوْمٍ عَلَى الْأَجَلِ الَّذِي لَكَ لِمَ
تُطَاعِي
فَصَبْرًا فِي مَجَالِ الْمَوْتِ صَبْرًا فَمَا نَيْلُ الْخُلُودِ بِمُسْتَطَاعِ
وَلَا ثَوْبُ الْحَيَاةِ بِثَوْبِ عِزٍّ فَيُطْوَى عَنْ أَخِي الْخَنَعِ
الْيَرَاعِ
سَبِيلُ الْمَوْتِ غَايَةُ كُلِّ حَيٍّ وَدَاعِيهِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ دَاعِي
وَمَنْ لَا يَغْتَبِطْ يَسْأَمْ وَيَهْرَمْ وَتُسْلِمْهُ الْمَنُونُ إِلَى
انْقِطَاعِ
وَمَا لِلْمَرْءِ خَيْرٌ فِي حَيَاةٍ إِذَا مَا عُدَّ مِنْ سَقَطِ الْمَتَاعِ
ذَكَرَهَا صَاحِبُ الْحَمَاسَةِ، وَاسْتَحْسَنَهَا ابْنُ خَلِّكَانَ فِي
تَارِيخِهِ كَثِيرًا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَهُوَ أَمِيرُ الْجَيْشِ الَّذِي دَخَلَ بِلَادَ التُّرْكِ، وَقَاتَلُوا
رُتْبِيلَ - مَلِكَ التُّرْكِ - وَقَدْ قُتِلَ مِنْ جَيْشِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مَعَ
شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
وَقَدْ دَخَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ عَلَى الْحَجَّاجِ مَرَّةً،
وَفِي يَدِهِ خَاتَمٌ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: كَمْ خَتَمْتَ بِخَاتَمِكَ هَذَا
؟ قَالَ: عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ. قَالَ: فَفِيمَ أَنْفَقْتَهَا
؟ قَالَ: فِي اصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ، وَرَدِّ الْمَلْهُوفِ، وَالْمُكَافَأَةِ
بِالصَّنَائِعِ، وَتَزْوِيجِ الْعَقَائِلِ.
وَقِيلَ: إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ عَطَشَ يَوْمًا
فَأَخْرَجَتْ لَهُ امْرَأَةٌ كُوزَ مَاءٍ بَارِدٍ،
فَأَعْطَاهَا ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَقِيلَ: إِنَّهُ أُهْدِيَ إِلَيْهِ وَصَيْفٌ
وَوَصِيفَةٌ، وَهُوَ جَالِسٌ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ:
خُذْهُمَا لَكَ. ثُمَّ فَكَّرَ، وَقَالَ: وَاللَّهِ، إِنَّ إِيثَارَ بَعْضِ الْجُلَسَاءِ
عَلَى بَعْضٍ لَشُحٌّ قَبِيحٌ، وَدَنَاءَةٌ رَدِيئَةٌ، ثُمَّ قَالَ: يَا غُلَامُ،
ادْفَعْ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جُلَسَائِي وَصَيْفًا وَوَصِيفَةً. فَأُحْصِيَ
ذَلِكَ فَكَانُوا ثَمَانِينَ وَصَيْفًا وَوَصِيفَةً.
تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ بِبُسْتَ. وَقِيلَ: بِذَرِيحَ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ مِنَ
الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا كَانَ السَّيْلُ الْجُحَافُ بِمَكَّةَ ; لِأَنَّهُ حَجَفَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ مَرَّ بِهِ، وَحَمَلَ الْحُجَّاجَ مِنْ بَطْنِ مَكَّةَ وَالْجِمَالَ بِمَا
عَلَيْهَا، وَالرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُنْقِذَهُمْ
مِنْهُ، وَبَلَغَ الْمَاءُ إِلَى الْحَجُونِ وَغَرِقَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقِيلَ:
إِنَّهُ ارْتَفَعَ حَتَّى كَادَ أَنْ يُغَطِّيَ الْبَيْتَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ بِالْبَصْرَةِ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ الطَّاعُونُ الْجَارِفُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمَشْهُورُ
أَنَّهُ كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِيهَا قَطَعَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ نَهْرَ بَلْخَ، وَأَقَامَ
بِكَشَّ سَنَتَيْنِ صَابِرًا مُصَابِرًا لِلْأَعْدَاءِ مِنَ الْأَتْرَاكِ،
وَجَرَتْ لَهُ مَعَهُمْ هُنَاكَ فُصُولٌ يُطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدِمَ عَلَيْهِ فِي
غُبُونِ هَذِهِ الْمُدَّةِ كِتَابُ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِخَلْعِهِ الْحَجَّاجَ،
فَبَعَثَهُ الْمُهَلَّبُ بِرُمَّتِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ حَتَّى قَرَأَهُ، ثُمَّ
كَانَ مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا بَعْدُ مِنْ حُرُوبِ ابْنِ
الْأَشْعَثِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ الْحَجَّاجُ الْجُيُوشَ مِنَ الْبَصْرَةِ
وَالْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمَا ; لِقِتَالِ
رُتْبِيلَ مَلِكِ التُّرْكِ ; لِيَقْتَصُّوا مِنْهُ مَا
كَانَ مِنْ قَتْلِ جَيْشِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ فِي السَّنَةِ
الْمَاضِيَةِ، فَجَهَّزَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنْ كُلٍّ مِنَ الْمِصْرَيْنِ
عِشْرِينَ أَلْفًا، وَأَمَّرَ عَلَى الْجَمِيعِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُحَمَّدِ
بْنِ الْأَشْعَثِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ الْحَجَّاجُ يُبْغِضُهُ جِدًّا، حَتَّى
إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ إِلَّا هَمَمْتُ بِقَتْلِهِ.
وَدَخَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ يَوْمًا عَلَى الْحَجَّاجِ وَعِنْدَهُ عَامِرٌ
الشَّعْبِيُّ، فَقَالَ: انْظُرْ إِلَى مِشْيَتِهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ
أَضْرِبَ عُنُقَهُ. فَأَسَرَّهَا الشَّعْبِيُّ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَقَالَ
ابْنُ الْأَشْعَثِ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَأَجْهَدَنَّ أَنْ أُزِيلَهُ عَنْ
سُلْطَانِهِ إِنْ طَالَ بِي وَبِهِ الْبَقَاءُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْحَجَّاجَ أَخْذَ فِي اسْتِعْرَاضِ هَذِهِ الْجُيُوشِ،
وَبَذَلِ فِيهِمُ الْعَطَاءَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ رَأْيُهُ فِيمَنْ يُؤَمِّرُ
عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَقَعَ اخْتِيَارُهُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ الْأَشْعَثِ، فَقَدَّمَهُ عَلَيْهِمْ، فَأَتَى عَمُّهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ
الْأَشْعَثِ، فَقَالَ لِلْحَجَّاجِ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ تُؤَمِّرَهُ فَلَا يَرَى
لَكَ طَاعَةً إِذَا جَاوَزَ جِسْرَ الْفُرَاتِ. فَقَالَ: لَيْسَ هُوَ هُنَالِكَ،
هُوَ لِي أَهْيَبُ، وَمِنِّي أَرْهَبُ أَنْ يُخَالِفَ أَمْرِي، أَوْ يَخْرُجَ عَنْ
طَاعَتِي، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ، فَسَارَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِالْجُيُوشِ نَحْوَ
أَرْضِ رُتْبِيلَ، فَلَمَّا بَلَغَ رُتْبِيلَ مَجِيءُ ابْنِ الْأَشْعَثِ
بِالْجُنُودِ إِلَيْهِ كَتَبَ إِلَيْهِ رُتْبِيلَ يَعْتَذِرُ مِمَّا أَصَابَ
الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ
لِذَلِكَ كَارِهًا،
وَأَنَّهُمْ أَلْجَئُوهُ إِلَى قِتَالِهِمْ، وَسَأَلَ مِنَ
ابْنِ الْأَشْعَثِ أَنْ يُصَالِحَهُ، وَأَنْ يَبْذُلَ لِلْمُسْلِمِينَ الْخَرَاجَ،
فَلَمْ يُجِبْهُ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى ذَلِكَ، وَصَمَّمَ عَلَى دُخُولِ
بِلَادِهِ، وَجَمَعَ رُتْبِيلُ جُنُودَهُ، وَتَهَيَّأَ لَهُ وَلِحَرْبِهِ،
وَجَعَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ كَلَّمَا دَخَلَ بَلَدًا أَوْ مَدِينَةً، أَوْ أَخَذَ
قَلْعَةً مِنْ بِلَادِ رُتْبِيلَ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا نَائِبًا مِنْ جِهَتِهِ،
وَجَعَلَ مَعَهُ مَنْ يَحْفَظُهَا، وَجَعَلَ الْمَسَالِحَ عَلَى كُلِّ أَرْضٍ
وَمَكَانٍ مَخُوفٍ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى بِلَادٍ وَمُدُنٍ كَثِيرَةٍ مِنْ بِلَادِ
رُتْبِيلَ، وَغَنِمَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً جَزِيلَةً، وَسَبَى خَلْقًا كَثِيرَةً،
ثُمَّ حَبَسَ النَّاسَ عَنِ التَّوَغُّلِ فِي بِلَادِ رُتْبِيلَ حَتَّى يُصْلِحُوا
مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْبِلَادِ، وَيَتَقَوَّوْا بِمَا فِيهَا مِنَ
الْمُغَلَّاتِ وَالْحَوَاصِلِ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُوا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ
إِلَى أَعْدَائِهِمْ، فَلَا يَزَالُونَ يُجَوِّزُونَ الْأَرَاضِيَ وَالْأَقَالِيمَ
حَتَّى يُحَاصِرُوهُمْ فِي مَدِينَتِهِمْ - مَدِينَةِ الْعُظَمَاءِ - عَلَى
الْكُنُوزِ وَالْأَمْوَالِ وَالذَّرَّارِي حَتَّى يَغْنَمُوهَا، ثُمَّ يَقْتُلُونَ
مُقَاتِلَتَهُمْ، وَعَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ هَذَا هُوَ الرَّأْيُ.
وَكَتَبَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى الْحَجَّاجِ يُخْبِرُهُ بِمَا وَقَعَ مِنَ
الْفَتْحِ، وَمَا صَنَعَ اللَّهُ لَهُمْ، وَبِهَذَا الرَّأْيِ الَّذِي رَآهُ
لَهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ وَجَّهَ هِمْيَانَ بْنَ
عَدِيٍّ السَّدُوسِيَّ إِلَى كَرْمَانَ مَسْلَحَةً لِأَهْلِهَا ; لِيَمُدَّ
عَامِلَ سِجِسْتَانَ وَالسِّنْدِ إِنِ احْتَاجَا إِلَى ذَلِكَ، فَعَصَى هِمْيَانُ
وَمَنْ مَعَهُ، فَوَجَّهَ الْحَجَّاجُ إِلَيْهِ ابْنَ الْأَشْعَثِ، فَهَزَمَهُ
وَأَقَامَ بِمَنْ مَعَهُ.
وَمَاتَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، فَكَتَبَ
الْحَجَّاجُ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ بِإِمْرَةِ سِجِسْتَانَ مَكَانَ ابْنِ أَبِي
بَكْرَةَ، وَجَهَّزَ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ جَيْشًا أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَلْفَيْ
أَلْفٍ سِوَى أُعْطِيَاتِهِمْ، وَكَانَ يُدْعَى هَذَا الْجَيْشُ جَيْشَ
الطَّوَاوِيسِ، وَأَمَرَهُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى رُتْبِيلَ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ
مَعَهُ مَا تَقَدَّمَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَ أَبُو مَعْشَرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: بَلْ حَجَّ بِهِمْ سُلَيْمَانُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ. وَكَانَ عَلَى الصَّائِفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْوَلِيدُ
بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَعَلَى الْمَدِينَةِ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَعَلَى
الْمَشْرِقِ بِكَمَالِهِ الْحَجَّاجُ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ أَبُو بُرْدَةَ
بْنُ أَبِي مُوسَى، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ مُوسَى بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَسْلَمُ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ:
وَهُوَ أَبُو زَيْدِ بْنُ أَسْلَمَ، أَصْلُهُ مِنْ سَبْيِ عَيْنِ التَّمْرِ،
اشْتَرَاهُ عُمَرُ بِمَكَّةَ لَمَّا حَجَّ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَتُوُفِّيَ
وَعُمْرُهُ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَرَوَى عَنْ عُمَرَ عِدَّةَ
أَحَادِيثَ، وَرَوَى عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَيْضًا، وَلَهُ مَنَاقِبُ
كَثِيرَةٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرِ بْنِ مَالِكٍ الْحَضْرَمِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَاءِ
أَهْلِ الشَّامِ، وَكَانَ مَشْهُورًا بِالْعِبَادَةِ
وَالْعِلْمِ، تُوُفِّيَ بِالشَّامِ وَعُمْرُهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً،
وَقِيلَ أَكْثَرُ، وَقِيلَ أَقَلُّ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:
وُلِدَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ وَهُوَ آخِرُ
مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ
وَفَاةً، سَكَنَ الْمَدِينَةَ، وَلَمَّا اسْتُشْهِدَ أَبُوهُ جَعْفَرٌ بِمُؤْتَةَ
أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّهِمْ فَقَالَ:
ائْتُونِي بِبَنِي أَخِي. فَأُتِيَ بِهِمْ كَأَنَّهُمْ أَفْرُخٌ، فَدَعَا
بِالْحَلَّاقِ فَحَلَقَ رُءُوسَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا
فِي أَهْلِهِ، وَبَارِكْ لِعَبْدِ اللَّهِ فِي صَفْقَتِهِ فَجَاءَتْ أُمُّهُمْ
فَذَكَرَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ
شَيْءٌ، فَقَالَ: أَنَا لَهُمْ عِوَضًا مِنْ أَبِيهِمْ. وَقَدْبَايَعَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعُمْرُهُمَا سَبْعُ سِنِينَ، وَهَذَا لَمْ يَتَّفِقْ
لِغَيْرِهِمَا.
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ مِنْ أَسْخَى النَّاسِ، يُعْطِي الْجَزِيلَ
الْكَثِيرَ وَيَسْتَقِلُّهُ، وَقَدْ تَصَدَّقَ مَرَّةً بِأَلْفَيْ أَلْفٍ،
وَأَعْطَى مَرَّةً رَجُلًا سِتِّينَ أَلْفًا، وَمَرَّةً أَعْطَى رَجُلًا
أَرْبَعَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَقِيلَ: إِنَّ رَجُلًا جَلَبَ مَرَّةً سُكَّرًا
إِلَى الْمَدِينَةِ فَكَسَدَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَشْتَرِهِ أَحَدٌ، فَأَمَرَ ابْنُ
جَعْفَرٍ قَيِّمَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، وَأَنْ يَهَبَهُ لِلنَّاسِ. وَقِيلَ: إِنَّ
مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَجَّ وَنَزَلَ الْمَدِينَةَ فِي دَارِ مَرْوَانَ قَالَ
يَوْمًا لِحَاجِبِهِ: انْظُرْ هَلْ تَرَى بِالْبَابِ الْحَسَنَ أَوِ الْحُسَيْنَ
أَوِ ابْنَ جَعْفَرٍ أَوْ فُلَانًا - وَعَدَّ جَمَاعَةً - فَخَرَجَ فَلَمْ يَرَ
أَحَدًا، فَقِيلَ لَهُ: هُمْ مُجْتَمِعُونَ عِنْدَ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ يَتَغَدَّوْنَ. فَأَتَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ:
مَا أَنَا إِلَّا كَأَحَدِهِمْ. ثُمَّ أَخَذَ عَصًا فَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا، ثُمَّ
أَتَى بَابَ ابْنِ جَعْفَرٍ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، وَدَخَلَ فَأَجْلَسَهُ فِي
صَدْرِ فِرَاشِهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَيْنَ غَدَاؤُكَ يَا ابْنَ جَعْفَرٍ
؟ فَقَالَ: وَمَا تَشْتَهِي مِنْ شَيْءٍ فَادْعُ بِهِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
أَطْعِمْنَا مُخًّا. فَقَالَ: يَا غُلَامُ هَاتِ مُخًّا. فَجَاءَ بِصَحْفَةٍ
فَأَكَلَ مُعَاوِيَةُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ لِغُلَامِهِ: هَاتِ مُخًّا.
فَجَاءَ بِصَحْفَةٍ أُخْرَى مَلْآنَةً مُخًّا، إِلَى أَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ، فَتَعَجَّبَ مُعَاوِيَةُ وَقَالَ: يَا ابْنَ جَعْفَرٍ مَا يَسَعُكَ
إِلَّا الْكَثِيرُ مِنَ الْعَطَاءِ. فَلَمَّا خَرَجَ مُعَاوِيَةُ أَمَرَ لَهُ
بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَكَانَ ابْنُ جَعْفَرٍ صَدِيقًا لِمُعَاوِيَةَ،
وَكَانَ يَفِدُ عَلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ فَيُعْطِيهِ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ،
وَيَقْضِي لَهُ مِائَةَ حَاجَةٍ، وَلَمَّا حَضَرَتْ مُعَاوِيَةَ الْوَفَاةُ
أَوْصَى ابْنَهُ يَزِيدَ بِهِ. فَلَمَّا قَدِمَ ابْنُ جَعْفَرٍ عَلَى يَزِيدَ
قَالَ لَهُ: كَمْ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يُعْطِيكَ كُلَّ سَنَةٍ ؟ قَالَ:
أَلْفَ أَلْفٍ. فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَضَعَفْنَاهَا لَكَ. وَكَانَ يُعْطِيهِ
أَلْفَيْ أَلْفٍ كُلَّ سَنَةٍ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ:
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا قُلْتُهَا لِأَحَدٍ قَبْلَكَ، وَلَا أَقُولُهَا
لِأَحَدٍ بَعْدَكَ. فَقَالَ يَزِيدُ: وَلَا أَعْطَاكَهَا أَحَدٌ قَبْلِي، وَلَا
يُعْطِيكَهَا أَحَدٌ بَعْدِي.
وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ عِنْدَ ابْنِ جَعْفَرٍ جَارِيَةٌ تُغَنِّيهِ تُسَمَّى
عِمَارَةَ، وَكَانَ يُحِبُّهَا مَحَبَّةً عَظِيمَةً، فَحَضَرَ عِنْدَهُ يَزِيدُ
بْنُ مُعَاوِيَةَ يَوْمًا، فَغَنَّتِ الْجَارِيَةُ، فَلَمَّا سَمِعَهَا يَزِيدُ
افْتُتِنَ بِهَا وَلَمْ يَجْسُرْ عَلَى ابْنِ جَعْفَرٍ أَنْ
يَطْلُبَهَا مِنْهُ، خَوْفًا أَنْ يَمْنَعَهُ إِيَّاهَا، فَلَمْ يَزَلْ فِي نَفْسِ
يَزِيدَ مِنْهَا حَتَّى مَاتَ أَبُوهُ مُعَاوِيَةُ، فَبَعَثَ يَزِيدُ رَجُلًا مِنْ
أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ تِجَارَةً، وَأَمَرَهُ أَنَّ يَتَلَطَّفَ
فِي أَمْرِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ، فَقَدِمَ الرَّجُلُ الْمَدِينَةَ، وَنَزَلَ
جِوَارَ ابْنِ جَعْفَرٍ، وَأَهْدَى إِلَيْهِ هَدَايَا وَتُحَفًا كَثِيرَةً،
وَأَنِسَ بِهِ، وَلَا زَالَ حَتَّى أَخَذَ الْجَارِيَةَ، وَأَتَى بِهَا يَزِيدَ،
وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَذُمُّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ عَلَى
سَمَاعِهِ الْغِنَاءَ وَاللَّهْوِ، وَشِرَائِهِ الْمُوَلَّدَاتِ، وَيَقُولُ: أَمَا
يَكْفِيهِ هَذَا الْأَمْرُ الْقَبِيحُ الَّذِي هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ مِنْ هَذِهِ
الْأَشْيَاءِ وَغَيْرِهَا ؟ حَتَّى زَوَّجَ الْحَجَّاجَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ يَقُولُ: إِنَّمَا
تَزَوَّجْتُهَا لِأَذِلَّ بِهَا آلَ أَبِي طَالِبٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَصِلْ
إِلَيْهَا. وَقَدْ كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا
فَطَلَّقَهَا. أَسْنَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ حَدِيثًا
. أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ
اسْمُهُ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، لَهُ أَحْوَالٌ وَمَنَاقِبُ، كَانَ
يَقُولُ: قَلْبٌ نَقِيٌّ فِي ثِيَابٍ دَنِسَةٍ خَيْرٌ مِنْ قَلْبٍ دَنِسٍ فِي
ثِيَابٍ نَقِيَّةٍ. وَقَدْ تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا
تَرْجَمَتَهُ فِي كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ ".
مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ الْقَدَرِيُّ
يُقَالُ: إِنَّهُ مَعْبَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ رَاوِي
حَدِيثِ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا
عَصَبٍ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ. سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمُعَاوِيَةَ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ،
وَغَيْرِهِمْ، وَشَهِدَ يَوْمَ التَّحْكِيمِ، وَسَأَلَ أَبَا مُوسَى فِي ذَلِكَ،
وَوَصَّاهُ، ثُمَّ اجْتَمَعَ بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَوَصَّاهُ فِي ذَلِكَ،
فَقَالَ لَهُ: إِيهًا يَا تَيْسَ جُهَيْنَةَ، مَا أَنْتَ مِنْ أَهْلِ السِّرِّ
وَلَا الْعَلَانِيَةِ، وَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُكَ الْحَقُّ وَلَا يَضُرُّكُ
الْبَاطِلُ. وَهَذَا تَوَسُّمٌ فِيهِ مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ; وَلِهَذَا
كَانَ هُوَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقَدَرِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَخَذَ
ذَلِكَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يُقَالُ لَهُ: سَوْسَنُ.
وَأَخَذَ غَيْلَانُ الْقَدَرَ مِنْ مَعْبَدٍ.
وَقَدْ كَانَتْ لِمَعْبَدٍ عِبَادَةٌ، وَفِيهِ زَهَادَةٌ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ
مَعِينٍ وَغَيْرُهُ فِي حَدِيثِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِيَّاكُمْ وَمَعْبَدًا ; فَإِنَّهُ ضَالٌّ
مُضِلٌّ. وَكَانَ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَعَاقَبَهُ الْحَجَّاجُ
عُقُوبَةً عَظِيمَةً بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ، ثُمَّ قَتَلَهُ، وَقَالَ سَعِيدُ
بْنُ عُفَيْرٍ: بَلْ صَلَبَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فِي سَنَةِ
ثَمَانِينَ بِدِمَشْقَ، ثُمَّ قَتَلَهُ. وَقَالَ
خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: مَاتَ قَبْلَ التِّسْعِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ
فَفِيهَا: فَتَحَ عَبِيدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ مَدِينَةَ
قَالِيقَلَا، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَفِيهَا
قُتِلَ بُكَيْرُ بْنُ وِشَاحٍ ; قَتَلَهُ بُحَيْرُ بْنُ وَرْقَاءَ الصُّرَيْمِيُّ،
وَكَانَ بُكَيْرٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ الشُّجْعَانِ، ثُمَّ ثَارَ لَبُكَيْرِ بْنِ
وِشَاحٍ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يُقَالُ لَهُ: صَعْصَعَةُ بْنُ حَرْبٍ الْعَوْفِيُّ
الصُّرَيْمِيُّ. فَقَتَلَ بُحَيْرَ بْنَ وَرْقَاءَ الَّذِي قَتَلَ بُكَيْرًا ;
طَعْنُهُ بِخِنْجَرٍ، وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ،
فَحُمِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ، فَبَعَثَ الْمُهْلَّبُ
بِصَعْصَعَةَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْهُ بُحَيْرُ بْنُ وَرْقَاءَ قَالَ:
ضَعُوا رَأْسَهُ عِنْدَ رِجْلِي. فَوَضَعُوهُ، فَطَعَنَهُ بَحِيرٌ بِحَرْبَتِهِ
حَتَّى قَتَلَهُ، وَمَاتَ عَلَى إِثْرِهِ. وَقَدْ قَالَ لَهُ أَنَسُ بْنُ طَارِقٍ:
اعْفُ عَنْهُ، فَقَدْ قَتَلْتَ بُكَيْرَ بْنَ وِشَاحٍ. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ،
لَا أَمُوتُ وَهَذَا حَيٌّ. ثُمَّ قَتَلَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا
قُتِلَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فِتْنَةُ ابْنِ الْأَشْعَثِ
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: كَانَ ابْتِدَاؤُهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ
الْوَاقِدِيُّ: فِي سَنَةِ
ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ، وَقَدْ سَاقَهَا ابْنُ جَرِيرٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَوَافَقْنَاهُ فِي ذَلِكَ.
وَكَانَ سَبَبَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ أَنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ كَانَ الْحَجَّاجُ
يُبْغِضُهُ، وَكَانَ هُوَ يَفْهَمُ ذَلِكَ، وَيُضْمِرُ لَهُ السُّوءَ وَزَوَالَ الْمُلْكِ
عَنْهُ، فَلَمَّا أَمَّرَهُ الْحَجَّاجُ عَلَى ذَلِكَ الْجَيْشِ الْمُتَقَدِّمِ
ذِكْرُهُ، وَأَمَرَهُ بِدُخُولِ بِلَادِ رُتْبِيلَ مَلِكِ التُّرْكِ، فَمَضَى
وَصَنَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَخْذِهِ بَعْضَ بِلَادِ التُّرْكِ، ثُمَّ رَأَى
لِأَصْحَابِهِ أَنْ يُقِيمُوا حَتَّى يَتَقَوَّوْا إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ،
فَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ يَسْتَهْجِنُ
رَأْيَهُ فِي ذَلِكَ، وَيَسْتَضْعِفُ عَقْلَهُ، وَيَقْرَعُهُ بِالْجُبْنِ
وَالنُّكُولِ عَنِ الْحَرْبِ، وَيَأْمُرُهُ حَتْمًا بِدُخُولِ بِلَادِ رُتْبِيلَ،
ثُمَّ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِكِتَابٍ ثَانٍ ثُمَّ ثَالِثٍ، فَلَمَّا تَوَارَدَتْ
كُتُبُ الْحَجَّاجِ إِلَيْهِ يَحُثُّهُ عَلَى التَّوَغُّلِ فِي بِلَادِ رُتْبِيلَ،
جَمَعَ مَنْ مَعَهُ، وَقَامَ فِيهِمْ، فَأَعْلَمَهُمْ بِمَا كَانَ رَأَى مِنَ
الرَّأْيِ فِي ذَلِكَ، وَبِمَا كَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ مِنَ الْأَمْرِ
بِمُعَاجَلَةِ رُتْبِيلَ، فَثَارَ
إِلَيْهِ النَّاسُ، وَقَالُوا: لَا، بَلْ نَأْبَى عَلَى
عَدُوِّ اللَّهِ الْحَجَّاجِ، وَلَا نَسْمَعُ لَهُ وَلَا نُطِيعُ. قَالَ أَبُو
مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي مُطَرِّفُ بْنُ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ الْكِنَانِيُّ،
أَنَّ أَبَاهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ شَاعِرًا
خَطِيبًا، وَكَانَ مِمَّا قَالَ: إِنَّ مَثَلَ الْحَجَّاجِ فِي هَذَا الرَّأْيِ
وَمَثَلَنَا كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ لِأَخِيهِ: احْمِلْ عَبْدَكَ عَلَى الْفَرَسِ،
فَإِنْ هَلَكَ هَلَكَ، وَإِنْ نَجَا فَلَكَ. إِنَّكُمْ إِنْ ظَفِرْتُمْ كَانَ
ذَلِكَ زِيَادَةً فِي سُلْطَانِهِ، وَإِنْ هَلَكْتُمْ كُنْتُمُ الْأَعْدَاءَ
الْبُغَضَاءُ. ثُمَّ قَالَ: اخْلَعُوا عَدُوَّ اللَّهِ الْحَجَّاجَ - وَلَمْ
يَذْكُرْ خَلْعَ عَبْدِ الْمَلِكِ - وَبَايِعُوا لِأَمِيرِكُمْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ الْأَشْعَثِ، فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَوَّلُ خَالِعٍ لِلْحَجَّاجِ.
فَقَالَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ: خَلَعْنَا عَدُوَّ اللَّهِ. وَوَثَبُوا
إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ فَبَايَعُوهُ عِوَضًا عَنِ
الْحَجَّاجِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا خَلْعَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.
وَبَعَثَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى رُتْبِيلَ، فَصَالَحَهُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ
ظَفِرَ بِالْحَجَّاجِ فَلَا خَرَاجَ عَلَى رُتْبِيلَ أَبَدًا، ثُمَّ سَارَ ابْنُ
الْأَشْعَثِ بِالْجُنُودِ الَّذِينَ مَعَهُ مُقْبِلًا مِنْ سِجِسْتَانَ إِلَى
الْحَجَّاجِ ; لِيُقَاتِلَهُ وَيَأْخُذَ مِنْهُ الْعِرَاقَ، ثُمَّ لَمَّا
تَوَسَّطُوا الطَّرِيقَ قَالُوا: إِنَّ خَلْعَنَا لِلْحَجَّاجِ خَلْعٌ لِابْنِ
مَرْوَانَ. فَخَلَعُوهُمَا جَمِيعًا، وَجَدَّدُوا الْبَيْعَةَ لِابْنِ
الْأَشْعَثِ، فَبَايَعَهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسِنَةِ رَسُولِهِ، وَخَلْعِ
أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ وَجِهَادِ الْمُحِلِّينَ. فَإِذَا قَالُوا: نَعَمْ.
بَايَعَهُمْ. فَلَمَّا بَلَغَ الْحَجَّاجَ مَا صَنَعُوا مِنْ خَلْعِهِ وَخَلْعِ
ابْنِ مَرْوَانَ، كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ
بِذَلِكَ، وَيَسْتَعْجِلُهُ فِي بَعْثِهِ الْجُنُودَ إِلَيْهِ، وَجَاءَ
الْحَجَّاجُ حَتَّى نَزَلَ الْبَصْرَةَ، وَبَلَغَ الْمُهَلَّبَ خَبَرُ ابْنِ
الْأَشْعَثِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَدْعُوهُ إِلَى ذَلِكَ فَأَبَى عَلَيْهِ،
وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ، وَكَتَبَ الْمُهَلَّبُ إِلَى ابْنِ
الْأَشْعَثِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّكَ يَا ابْنَ الْأَشْعَثِ قَدْ وَضَعْتَ رَجْلَكَ
فِي رِكَابٍ طَوِيلٍ، أَبْقِ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، اللَّهَ اللَّهَ، انْظُرْ لِنَفْسِكَ فَلَا تُهْلِكْهَا، وَدِمَاءِ
الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَسْفِكْهَا، وَالْجَمَاعَةِ فَلَا تُفَرِّقْهَا،
وَالْبَيْعَةِ فَلَا تَنْكُثْهَا، فَإِنْ قُلْتَ: أَخَافُ النَّاسَ عَلَى نَفْسِي،
فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخَافَهُ مِنَ النَّاسِ، فَلَا تُعَرِّضْهَا لِلَّهِ فِي
سَفْكِ الدِّمَاءِ، أَوِ اسْتِحْلَالِ مُحَرَّمٍ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ.
وَكَتَبَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْحَجَّاجِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَهْلَ
الْعِرَاقِ قَدْ أَقْبَلُوا إِلَيْكَ مِثْلَ السَّيْلِ الْمُنْحَدِرِ مِنْ عَلِ،
لَيْسَ شَيْءٌ يَرُدُّهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى قَرَارِهِ، وَإِنَّ لِأَهْلِ
الْعِرَاقِ شِرَّةً فِي أَوَّلِ مَخْرَجِهِمْ وَصَبَابَةً إِلَى أَبْنَائِهِمْ
وَنِسَائِهِمْ، فَلَيْسَ شَيْءٌ يَرُدُّهُمْ حَتَّى يَصِلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ، وَيَشَمُّوا
أَوْلَادَهُمْ، ثُمَّ وَاقِعْهُمْ عِنْدَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكَ
عَلَيْهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَلَمَّا قَرَأَ الْحَجَّاجُ كِتَابَهُ قَالَ: فَعَلَ
اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ، لَا وَاللَّهِ مَا لِي نَظَرَ، وَلَكِنْ لِابْنِ عَمِّهِ
نَصَحَ. وَلَمَّا وَقَعَ كِتَابُ الْحَجَّاجِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ هَالَهُ
ذَلِكَ، ثُمَّ نَزَلَ عَنْ سَرِيرِهِ، وَبَعَثَ إِلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ، فَأَقْرَأَهُ كِتَابَ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ كَانَ هَذَا الْحَدَثُ مِنْ قِبَلِ خُرَاسَانَ فَخَفْهُ،
وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ سِجِسْتَانَ فَلَا تَخَفْهُ.
ثُمَّ أَخَذَ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي تَجْهِيزِ الْجُنُودِ مِنَ الشَّامِ إِلَى
الْعِرَاقِ فِي نُصْرَةِ الْحَجَّاجِ، وَتَجْهِيزِ الْحَجَّاجِ لِلْخُرُوجِ إِلَى
ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَعَصَى رَأْيَ الْمُهَلَّبِ فِيمَا أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِ،
وَكَانَ فِيهِ النُّصْحُ وَالصِّدْقُ، وَجُعِلَتْ كُتُبُ الْحَجَّاجِ لَا
تَنْقَطِعُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بِخَبَرِ ابْنِ الْأَشْعَثِ صَبَاحًا وَمَسَاءً
; أَيْنَ نَزَلَ ؟ وَمِنْ أَيْنَ ارْتَحَلَ ؟ وَأَيُّ النَّاسِ إِلَيْهِ أَسْرَعُ
؟ وَجَعَلَ النَّاسُ يَلْتَفُّونَ عَلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ،
حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ سَارَ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ فَارِسٍ،
وَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ رَاجِلٍ، وَخَرَجَ الْحَجَّاجُ فِي جُنُودِ الشَّامِ
مِنَ الْبَصْرَةِ نَحْوَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَنَزَلَ تُسْتَرَ، وَقَدَّمَ بَيْنَ
يَدَيْهِ مُطَهِّرَ بْنَ حَيٍّ الْعَكِّيَّ أَمِيرًا عَلَى الْمُقَدِّمَةِ،
وَمَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زُمَيْتٍ أَمِيرًا آخَرَ، فَانْتَهَوْا إِلَى
دُجَيْلٍ، فَإِذَا مُقَدِّمَةُ ابْنِ الْأَشْعَثِ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ
عَلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبَانٍ الْحَارِثِيُّ، فَالْتَقَوْا فِي يَوْمِ
الْأَضْحَى عِنْدَ نَهْرِ دُجَيْلٍ، فَهُزِمَتْ مُقَدِّمَةُ الْحَجَّاجِ، وَقَتَلَ
أَصْحَابُ ابْنِ الْأَشْعَثِ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، نَحْوَ أَلْفٍ
وَخَمْسِمِائَةٍ،
وَاحْتَازُوا مَا فِي مُعَسْكَرِهِمْ مِنْ خُيُولٍ
وَقُمَاشٍ وَأَمْوَالٍ، وَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى الْحَجَّاجِ بِهَزِيمَةِ
أَصْحَابِهِ، فَأَخَذَهُ مَا دَبَّ وَدَرَجَ، وَقَدْ كَانَ قَائِمًا يَخْطُبُ،
فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، ارْجِعُوا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُ أَرْفَقُ
بِالْجُنْدِ، فَرَجَعَ بِالنَّاسِ، وَاتَّبَعَتْهُمْ خُيُولُ ابْنِ الْأَشْعَثِ
لَا يُدْرِكُونَ مِنْهُمْ شَاذًّا إِلَّا قَتَلُوهُ، وَلَا فَاذًّا إِلَّا
أَهْلَكُوهُ، وَمَضَى الْحَجَّاجُ هَارِبًا لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ، حَتَّى
أَتَى الزَّاوِيَةَ، فَعَسْكَرَ عِنْدَهَا، وَجَعَلَ يَقُولُ: لِلَّهِ دَرُّ
الْمُهَلَّبِ ! أَيُّ صَاحِبِ حَرْبٍ هُوَ ؟ ! قَدْ أَشَارَ عَلَيْنَا
بِالرَّأْيِ، وَلَكِنَّا لَمْ نَقْبَلْ.
وَأَنْفَقَ الْحَجَّاجُ عَلَى جَيْشِهِ - وَهُوَ بِهَذَا الْمَكَانِ - مِائَةً
وَخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَخَنْدَقَ حَوْلَ جَيْشِهِ خَنْدَقًا،
وَجَاءَ أَهْلُ الْعِرَاقِ فَدَخَلُوا الْبَصْرَةَ، وَاجْتَمَعُوا بِأَهَالِيهِمْ
وَشَمُّوا أَوْلَادَهُمْ، وَدَخَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ الْبَصْرَةَ، فَخَطَبَ
النَّاسَ بِهَا، وَبَايَعَهُمْ وَبَايَعُوهُ عَلَى خَلْعِ عَبْدِ الْمَلِكِ
وَنَائِبِهِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، وَقَالَ لَهُمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ: لَيْسَ
الْحَجَّاجُ بِشَيْءٍ، وَلَكِنِ اذْهَبُوا بِنَا إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ
لِنُقَاتِلَهُ. وَوَافَقَهُ عَلَى خَلْعِهِمَا جَمِيعُ مَنْ بِالْبَصْرَةِ مِنَ
الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَالشُّيُوخِ وَالشَّبَابِ، ثُمَّ أَمَرَ ابْنُ
الْأَشْعَثِ بِخَنْدَقٍ حَوْلَ الْبَصْرَةِ فَعَمِلَ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي
أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِيمَا ذَكَرَهُ
الْوَاقِدِيُّ وَأَبُو
مَعْشَرٍ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَفِيهَا غَزَا مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ أَمِيرُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ مِنْ جِهَةِ
عَبْدِ الْمَلِكِ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ، فَافْتَتَحَ مُدُنًا كَثِيرَةً،
وَأَرَاضِيَ عَامِرَةً، وَأَوْغَلَ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ إِلَى أَنْ وَصَلَ
إِلَى الزُّقَاقِ الْمُنْبَثِقِ مِنَ الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ الْمُحِيطِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بُحَيْرُ بْنُ وَرْقَاءَ الصُّرَيْمِيُّ الْبَصْرِيُّ
أَحَدُ الْأَشْرَافِ بِخُرَاسَانَ، وَالْقُوَّادِ وَالْأُمَرَاءِ، وَهُوَ الَّذِي
حَارَبَ ابْنَ خَازِمٍ وَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ بُكَيْرَ بْنَ وِشَاحٍ.
ثُمَّ قُتِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ:
سُوِيدُ بْنُ غَفْلَةَ بْنِ عَوْسَجَةَ بْنِ عَامِرٍ
أَبُو أُمَيَّةَ الْجَعَفِيُّ الْكُوفِيُّ، شَهِدَ الْيَرْمُوكَ، وَحَدَّثَ عَنْ
جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْمُخَضْرَمِينَ، وَيُقَالُ:
إِنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى مَعَهُ،
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ عَامَ وُلِدَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وُلِدَ بَعْدَهُ
بِسَنَتَيْنِ. وَعَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، لَمْ يُرَ يَوْمًا مُحْتَبِيًا
وَلَا مُتَسَانِدًا، وَافْتَضَّ بِكْرًا عَامَ وَفَاتِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقِيلَ:
إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ
وَثَمَانِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ
كَانَ مِنَ الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ الْعُلَمَاءِ، وَلَهُ وَصَايَا وَكَلِمَاتٌ
حِسَانٌ، وَقَدْ رَوَى عِدَّةَ أَحَادِيثَ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَعَنْهُ خَلْقٌ
مِنَ التَّابِعِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَبُو
الْقَاسِمِ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
الْحَنَفِيَّةِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَمَةً سَوْدَاءَ سِنْدِيَّةً مِنْ سَبْيِ
بَنِي حَنِيفَةَ، اسْمُهَا خَوْلَةُ.
وُلِدَ مُحَمَّدٌ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَوَفَدَ عَلَى
مُعَاوِيَةَ، وَعَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَقَدْ صَرَعَ مَرْوَانَ
يَوْمَ الْجَمَلِ، وَقَعَدَ عَلَى صَدْرِهِ، وَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَنَاشَدَهُ
مَرْوَانُ بِاللَّهِ، وَتَذَلَّلَ لَهُ فَأَطْلَقَهُ، فَلَمَّا وَفَدَ عَلَى
عَبْدِ الْمَلِكِ ذَكَّرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: عَفْوًا يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ. فَعَفَا عَنْهُ، وَأَجْزَلَ لَهُ الْجَائِزَةَ، وَكَانَ مُحَمَّدُ
بْنُ عَلِيٍّ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ، وَمِنَ الشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ،
وَمِنَ الْأَقْوِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَلَمَّا بُويِعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ
لَمْ يُبَايِعْهُ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا شَرٌّ عَظِيمٌ، حَتَّى هَمَّ ابْنُ
الزُّبَيْرِ بِهِ وَبِأَهْلِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَبَايَعَهُ ابْنُ عُمَرَ،
تَابَعَهُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ
السَّنَةِ. وَقِيلَ: فِي الَّتِي قَبِلَهَا، أَوْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا. وَدُفِنَ
بِالْبَقِيعِ، وَالرَّافِضَةُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ بِجَبَلِ رَضْوَى، وَأَنَّهُ
حَيٌّ يُرْزَقُ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ، وَقَدْ قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ فِي
ذَلِكَ:
أَلَا إِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ وُلَاةُ الْحَقِّ أَرْبَعَةٌ سَوَاءُ
عَلَيٌّ وَالثَّلَاثَةُ مِنْ بَنِيهِ
هُمُ الْأَسْبَاطُ لَيْسَ بِهِمْ خَفَاءُ فَسِبْطٌ سِبْطُ إِيمَانٍ وَبِرٍّ
وَسِبْطٌ غَيَّبَتْهُ كَرْبُلَاءُ
وَسِبْطٌ لَا تَرَاهُ الْعَيْنُ حَتَّى
يَقُودَ الْخَيْلَ يَقْدُمُهَا لِوَاءُ تَغَيَّبَ لَا يُرَى عَنْهُمْ زَمَانًا
بِرَضْوَى عِنْدَهُ عَسَلٌ وَمَاءُ
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: كَانَتْ شِيعَتُهُ
تَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَفِيهِ يَقُولُ السَّيِّدُ:
أَلَا قُلْ لِلْوَصِيِّ فَدَتْكَ نَفْسِي أَطَلْتَ بِذَلِكَ الْجَبَلِ الْمُقَامَا
أَضَرَّ بِمَعْشَرٍ وَالَوْكَ مِنَّا وَسَمَّوْكَ الْخَلِيفَةَ وَالْإِمَامَا
وَعَادَوْا فِيكَ أَهْلَ الْأَرْضِ طُرًّا مَقَامُكَ عَنْهُمُ سِتِّينَ عَامَا
وَمَا ذَاقَ ابْنُ خَوْلَةَ طَعْمَ مَوْتٍ وَلَا وَارَتْ لَهُ أَرْضٌ عِظَامَا
لَقَدْ أَمْسَى بِمُورِقِ شِعْبِ رَضْوَى تُرَاجِعُهُ الْمَلَائِكَةُ الْكَلَامَا
وَإِنَّ لَهُ بِهِ لَمَقِيلَ صِدْقٍ وَأَنْدِيَةً تُحَدِّثُهُ كِرَامَا
هَدَانَا اللَّهُ إِذْ حُزْتُمْ لِأَمْرٍ بِهِ وَعَلَيْهِ نَلْتَمِسُ الْتَمَامَا
تَمَامَ مَوَدَّةِ الْمَهْدِيِّ حَتَّى تَرَوْا رَايَاتِهِ تَتْرَى نِظَامَا
وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الرَّافِضَةِ إِلَى إِمَامَتِهِ، وَأَنَّهُ
يُنْتَظَرُ خُرُوجُهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، كَمَا يَنْتَظِرُ طَائِفَةٌ أُخْرَى
مِنْهُمُ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيَّ، الَّذِي يَخْرُجُ فِي زَعْمِهِمْ
مِنْ سِرْدَابِ سَامَرَّا، وَهَذَا مِنْ خُرَافَاتِهِمْ وَهَذَيَانِهِمْ
وَجَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ وَبُهْتَانِهِمْ، وَسَنَزِيدُ ذَلِكَ وُضُوحًا فِي
مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَثَمَانِينَ
فَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الزَّاوِيَةِ بَيْنَ ابْنِ
الْأَشْعَثِ وَالْحَجَّاجِ فِي آخِرِهِ، وَكَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ لِأَهْلِ
الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، ثُمَّ تَوَاقَعُوا يَوْمًا آخَرَ، فَحَمَلَ
سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ - أَحَدُ أُمَرَاءِ أَهْلِ الشَّامِ - عَلَى
مَيْمَنَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ فَهَزَمَهَا، وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ
الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَخَرَّ
الْحَجَّاجُ لِلَّهِ سَاجِدًا بَعْدَمَا كَانَ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَسَلَّ
شَيْئًا مِنْ سَيْفِهِ، وَجَعَلَ يَتَرَحَّمُ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ
وَيَقُولُ: مَا كَانَ أَكْرَمَهُ حِينَ صَبَرَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ.
وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ: أَبُو
الطُّفَيْلِ بْنُ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ اللَّيْثِيُّ. وَلَمَّا فَرَّ أَصْحَابُ
ابْنِ الْأَشْعَثِ رَجَعَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ، وَمَنِ
اتَّبَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ الْكُوفَةَ، فَعَمَدَ
أَهْلُ الْبَصْرَةِ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَبَايَعُوهُ، فَقَاتَلَ الْحَجَّاجَ خَمْسَ
لَيَالٍ أَشَدَّ الْقِتَالِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَحِقَ بِابْنِ الْأَشْعَثِ،
وَتَبِعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَاسْتَنَابَ الْحَجَّاجُ عَلَى
الْبَصْرَةِ أَيُّوبَ بْنَ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي عَقِيلٍ،
وَدَخَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ الْكُوفَةَ، فَبَايَعَهُ
أَهْلُهَا عَلَى خَلْعِ الْحَجَّاجِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ،
وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَكَثُرَ مُتَابِعُو ابْنِ الْأَشْعَثِ عَلَى ذَلِكَ،
وَاشْتَدَّ الْحَالُ، وَتَفَرَّقَتِ الْكَلِمَةُ جِدًّا، وَعَظُمَ الْخَطْبُ،
وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا الْتَقَى جَيْشُ الْحَجَّاجِ وَجَيْشُ ابْنِ
الْأَشْعَثِ بِالزَّاوِيَةِ، جَعَلَ جَيْشُ الْحَجَّاجِ يَحْمِلُ عَلَيْهِمْ
مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَقَالَ الْقُرَّاءُ - وَكَانَ عَلَيْهِمْ جَبَلَةُ بْنُ
زَحْرٍ -: أَيُّهَا النَّاسُ، لَيْسَ الْفِرَارُ مِنْ أَحَدٍ بِأَقْبَحَ مِنْهُ
مِنْكُمْ، فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: قَاتِلُوهُمْ عَلَى جَوْرِهِمْ،
وَاسْتِذْلَالِهِمُ الضُّعَفَاءَ، وَإِمَاتَتِهِمُ الصَّلَاةَ. ثُمَّ حَمَلَتِ
الْقُرَّاءُ - وَهُمُ الْعُلَمَاءُ - عَلَى جَيْشِ الْحَجَّاجِ حَمْلَةً
صَادِقَةً، فَبَدَّعُوا فِيهِمْ، ثُمَّ رَجَعُوا فَإِذَا هُمْ بِمُقَدَّمِهِمْ
جَبَلَةُ بْنُ زَحْرٍ صَرِيعًا، فَهَدَّهُمْ ذَلِكَ، فَنَادَاهُمْ جَيْشُ
الْحَجَّاجِ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ، قَدْ قَتَلْنَا طَاغِيَتَكُمْ. ثُمَّ حَمَلَ
سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ - وَهُوَ عَلَى خَيْلِ الْحَجَّاجِ - عَلَى مَيْسَرَةِ
ابْنِ الْأَشْعَثِ - وَعَلَيْهَا الْأَبْرَدُ بْنُ قُرَّةَ التَّمِيمِيُّ -
فَانْهَزَمُوا، وَلَمْ يُقَاتِلُوا كَثِيرَ قِتَالٍ، فَأَنْكَرَ النَّاسُ مِنْهُمْ
ذَلِكَ، وَكَانَ أَمِيرُ مَيْسَرَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ - الْأَبْرَدُ - شُجَاعًا
لَا يَفِرُّ، وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ خَامَرَ، فَنُقِضَتِ الصُّفُوفُ، وَرَكِبَ
النَّاسُ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَانَ ابْنُ الْأَشْعَثِ يُحَرِّضُ
النَّاسَ عَلَى الْقِتَالِ، فَلَمَّا رَأَى مَا النَّاسُ فِيهِ أَخَذَ مَنِ
اتَّبَعَهُ وَذَهَبَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَبَايَعَهُ أَهْلُهَا.
ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ.
وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ لَمَّا قَصَدَ الْكُوفَةَ خَرَجَ إِلَيْهِ
أَهْلُهَا، فَتَلَقَّوْهُ، وَحَفَوْا بِهِ، وَدَخَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، غَيْرَ
أَنَّ شِرْذِمَةً قَلِيلَةً أَرَادَتْ أَنْ تُقَاتِلَهُ دُونَ مَطَرِ بْنِ
نَاجِيَةَ نَائِبِ الْحَجَّاجِ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَعَدَلُوا
إِلَى الْقَصْرِ، فَلَمَّا وَصَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى الْكُوفَةِ أَمَرَ
بِالسَّلَالِيمِ فَنُصِبَتْ عَلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ، فَأَخَذَهُ، وَاسْتَنْزَلَ
مَطَرَ بْنَ نَاجِيَةَ، وَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَقَالَ لَهُ: اسْتَبْقِنِي; فَإِنِّي
خَيْرٌ مِنْ فُرْسَانِكَ. فَحَبَسَهُ، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ فَأَطْلَقَهُ
وَبَايَعَهُ، وَاسْتَوْثَقَ لِابْنِ الْأَشْعَثِ أَمْرُ الْكُوفَةِ، وَانْضَمَّ
إِلَيْهِ مَنْ جَاءَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ مِمَّنْ قَدِمَ عَلَيْهِ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،
وَأَمَرَ بِالْمَسَالِحِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَحُفِظَتِ الثُّغُورُ وَالطُّرُقُ
وَالْمَسَالِكُ.
ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ رَكِبَ فَيْمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ الشَّامِيَّةِ
مِنَ الْبَصْرَةِ فِي الْبَرِّ، حَتَّى مَرَّ بَيْنَ الْقَادِسِيَّةِ
وَالْعُذَيْبِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ الْأَشْعَثِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
الْعَبَّاسِ فِي خَيْلٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْمَصْرَيْنِ، فَمَنَعُوا الْحَجَّاجَ
مِنْ نُزُولِ الْقَادِسِيَّةِ، فَسَارَ الْحَجَّاجُ حَتَّى نَزَلَ دَيْرَ قُرَّةَ،
وَجَاءَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ الْبَصْرِيَّةِ
وَالْكُوفِيَّةِ حَتَّى نَزَلَ دَيْرَ الْجَمَاجِمِ، وَمَعَهُ جُنُودٌ كَثِيرَةٌ،
وَفِيهِمُ الْقُرَّاءُ مِنَ الْمِصْرَيْنِ، وَخَلْقٌ مِنَ
الصَّالِحِينَ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: قَاتَلَ اللَّهُ ابْنَ الْأَشْعَثِ، أَمَا كَانَ يَزْجُرُ الطَّيْرَ حَيْثُ رَآنِي قَدْ نَزَلْتُ دَيْرَ قُرَّةَ، وَنَزَلَ هُوَ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ. وَكَانَ جُمْلَةُ مَنِ اجْتَمَعَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ مِائَةُ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، مِمَّنْ يَأْخُذُ الْعَطَاءَ، وَمَعَهُمْ مِثْلُهُمْ مِنْ مَوَالِيهِمْ، وَقَدِمَ عَلَى الْحَجَّاجِ فِي غُبُونِ ذَلِكَ أَمْدَادٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الشَّامِ، وَخَنْدَقَ كُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى نَفْسِهِ وَحَوْلَ جَيْشِهِ خَنْدَقًا، يُمْتَنَعُ بِهِ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، غَيْرَ أَنَّ النَّاسَ كَانَ يَبْرُزُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَيَقْتَتِلُونَ قِتَالًا شَدِيدًا فِي كُلِّ يَوْمٍ، حَتَّى أُصِيبَ مِنْ رُءُوسِ النَّاسِ خَلْقٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَمَرَّ هَذَا الْحَالُ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَاجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ مِنْ أَهْلِ الْمَشُورَةِ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَقَالُوا لَهُ: إِنْ كَانَ أَهْلُ الْعِرَاقِ يُرْضِيهِمْ مِنْكَ أَنْ تَعْزِلَ عَنْهُمُ الْحَجَّاجَ فَهُوَ أَيْسَرُ مِنْ قِتَالِهِمْ وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ، فَاسْتَحْضَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ عِنْدَ ذَلِكَ أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ، وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَمَعَهُمَا جُنُودٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَتَبَ مَعَهُمَا كِتَابًا إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ يَقُولُ لَهُمْ: إِنْ كَانَ يُرْضِيكُمْ مِنِّي عَزْلُ الْحَجَّاجِ عَنْكُمْ عَزَلْتُهُ، وَأَبْقَيْتُ عَلَيْكُمْ أُعْطِيَّاتِكُمْ مِثْلَ أَهْلِ الشَّامِ، وَلْيَخْتَرِ ابْنُ الْأَشْعَثِ أَيَّ بَلَدٍ شَاءَ يَكُونُ عَلَيْهِ أَمِيرًا مَا عَاشَ وَعِشْتُ، وَتَكُونُ إِمْرَةُ الْعِرَاقِ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ. وَقَالَ فِي عَهْدِهِ هَذَا: فَإِنْ لَمْ يُجِبْ أَهْلُ الْعِرَاقِ إِلَى ذَلِكَ فَالْحَجَّاجُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ إِمْرَةُ الْحَرْبِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي طَاعَتِهِ وَتَحْتَ أَمْرِهِ، لَا يَخْرُجُونَ
عَنْ رَأْيِهِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ.
وَلَمَّا بَلَغَ الْحَجَّاجَ مَا كَتَبَ بِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى أَهْلِ
الْعِرَاقِ مِنْ عَزْلِهِ إِنْ رَضُوا بِهِ، شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ مَشَقَّةً
عَظِيمَةً جِدًّا، وَعَظُمَ شَأْنُ هَذَا الرَّأْيِ عِنْدَهُ، وَكَتَبَ إِلَى
عَبْدِ الْمَلِكِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ لَئِنْ أَعْطَيْتَ
أَهْلَ الْعِرَاقِ نَزْعِي عَنْهُمْ لَا يَلْبَثُونَ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى
يُخَالِفُوكَ وَيَسِيرُوا إِلَيْكَ، وَلَا يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا جُرْأَةً
عَلَيْكَ، أَلَمْ تَرَ وَتَسْمَعْ بِوُثُوبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَعَ الْأَشْتَرِ
النَّخَعِيِّ عَلَى ابْنِ عَفَّانَ فَلَمَّا سَأَلَهُمْ: مَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا:
نَزْعَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَلَمَّا نَزَعَهُ لَمْ تَتِمَّ لَهُمُ السَّنَةُ
حَتَّى سَارُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ؟ وَإِنَّ الْحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ،
كَانَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا ارْتَأَيْتَ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ.
قَالَ: فَأَبَى عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَّا عَرْضَ هَذِهِ الْخِصَالِ عَلَى أَهْلِ
الْعِرَاقِ كَمَا أَمَرَ، فَتَقَدَّمَ عَبْدُ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ، فَنَادَى
عَبْدُ اللَّهِ: يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَإِنَّهُ يَعْرِضُ
عَلَيْكُمْ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَذَكَرَ مَا كَتَبَ بِهِ أَبُوهُ مَعَهُ إِلَيْهِمْ
مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ: وَأَنَا رَسُولُ أَخِي
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْكُمْ بِذَلِكَ. فَقَالُوا: نَنْظُرُ فِي أَمْرِنَا
غَدًا، وَنَرُدُّ عَلَيْكُمُ الْخَبَرَ عَشِيَّةً، ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَاجْتَمَعَ
جَمِيعُ الْأُمَرَاءِ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا،
وَنَدَبَهُمْ إِلَى قَبُولِ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ
عَزْلِ الْحَجَّاجِ عَنْهُمْ، وَبَيْعَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَإِبْقَاءِ
الْأُعْطِيَّاتِ، وَإِمْرَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ عَلَى الْعِرَاقِ بَدَلَ
الْحَجَّاجِ. فَنَفَرَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا
نَقْبَلُ ذَلِكَ; نَحْنُ أَكْثَرُ عَدَدًا وَعُدَدًا، وَهُمْ فِي ضِيقٍ مِنَ
الْحَالِ، وَقَدْ حَكَّمْنَا عَلَيْهِمْ وَذَلُّوا لَنَا، وَاللَّهِ لَا نُجِيبُ
إِلَى ذَلِكَ أَبَدًا. ثُمَّ جَدَّدُوا خَلْعَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
ثَانِيَةً، وَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ كُلُّهُمْ.
فَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ وَعَمَّهُ مُحَمَّدَ بْنَ
مَرْوَانَ الْخَبَرُ قَالَا لِلْحَجَّاجِ: شَأْنُكَ بِهِمْ إِذًا، فَنَحْنُ فِي
طَاعَتِكَ كَمَا أَمَرَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَكَانَا إِذَا لَقِيَاهُ
سَلَّمَا عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ، وَيُسَلِّمُ هُوَ أَيْضًا عَلَيْهِمْ
بِالْإِمْرَةِ، وَتَوَلَّى الْحَجَّاجُ أَمْرَ الْحَرْبِ وَتَدْبِيرَهَا، كَمَا كَانَ
قَبْلَ ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ بَرَزَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِلْقِتَالِ
وَالْحَرْبِ، فَجَعَلَ الْحَجَّاجُ عَلَى مَيْمَنَتِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
سُلَيْمَانَ الْكَلْبِيَّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ عُمَارَةَ بْنَ تَمِيمٍ
اللَّخْمِيَّ، وَعَلَى الْخَيْلِ سُفْيَانَ بْنَ الْأَبْرَدِ، وَعَلَى
الرَّجَّالَةِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَبِيبٍ الْحَكَمِيَّ، وَجَعَلَ ابْنُ
الْأَشْعَثِ عَلَى مَيْمَنَتِهِ الْحَجَّاجَ بْنَ حَارِثَةَ الْخَثْعَمِيَّ،
وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ الْأَبْرَدَ بْنَ قُرَّةَ التَّمِيمِيَّ، وَعَلَى الْخَيَّالَةِ
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَعَلَى الرَّجَّالَةِ
مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍّ الزُّهْرِيَّ، وَعَلَى الْقُرَّاءِ
جَبَلَةَ بْنَ زَحْرِ بْنِ قَيْسٍ الْجُعْفِيَّ، وَكَانَ فِي الْقُرَّاءِ سَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى،
وَكُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ - وَكَانَ شُجَاعًا فَاتِكًا عَلَى
كِبَرِ سِنِّهِ - وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيُّ
وَغَيْرُهُمْ.
وَجَعَلُوا يَقْتَتِلُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ تَأْتِيهِمُ
الْمِيرَةُ مِنَ الرَّسَاتِيقِ وَالْأَقَالِيمِ، مِنَ الْعَلَفِ وَالطَّعَامِ
وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّامِ الَّذِينَ مَعَ الْحَجَّاجِ فَفِي ضِيقٍ
مِنَ الْعَيْشِ، وَقِلَّةٍ مِنَ الطَّعَامِ، وَقَدْ فَقَدُوا اللَّحْمَ
بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَجِدُونَهُ، وَمَا زَالَتِ الْحَرْبُ فِي هَذِهِ
الْمُدَّةِ كُلِّهَا، حَتَّى انْسَلَخَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُمْ عَلَى حَالِهِمْ
وَقِتَالِهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ، أَوْ يَوْمٍ بَعْدَ يَوْمٍ، وَالدَّائِرَةُ
لِأَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ فِي أَكْثَرِ الْأَيَّامِ، وَقَدْ
قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَجَّاجِ زِيَادُ بْنُ غَنْمٍ، وَكَسَرَ بِسْطَامُ بْنُ
مِصْقَلَةَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ جُفُونَ سُيُوفِهِمْ، وَاسْتَقْتَلُوا،
وَكَانُوا مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَفَاةُ الْمُهَلَّبِ
بْنِ أَبِي صُفْرَةَ
وَهُوَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ ظَالِمٌ، أَبُو سَعِيدٍ الْأَزْدِيُّ،
أَحَدُ أَشْرَافِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَوُجُوهِهِمْ وَدُهَاتِهِمْ
وَأَجْوَادِهِمْ وَكُرَمَائِهِمْ، وُلِدَ عَامَ الْفَتْحِ، وَكَانُوا يَنْزِلُونَ
فِيمَا بَيْنَ عُمَانَ وَالْبَحْرَيْنِ، وَقَدِ ارْتَدَّ قَوْمُهُ فَقَاتَلَهُمْ
عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَظَفِرَ بِهِمْ، وَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى
الصِّدِّيقِ، وَفِيهِمْ أَبُو صُفْرَةَ، وَابْنُهُ
الْمُهَلَّبُ غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغِ الْحِنْثَ، ثُمَّ نَزَلَ الْمُهَلَّبُ
الْبَصْرَةَ وَقَدْ غَزَا فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ أَرْضَ الْهِنْدِ سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَوَلِيَ الْجَزِيرَةِ لِابْنِ الزُّبَيْرِ سَنَةَ
ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، ثُمَّ وَلِيَ حَرْبَ الْخَوَارِجِ أَوَّلَ دَوْلَةِ
الْحَجَّاجِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ فِي وَقْعَةٍ وَاحِدَةٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ
وَثَمَانَمِائَةٍ، فَعَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ الْحَجَّاجِ. وَكَانَ فَاضِلًا
شُجَاعًا كَرِيمًا، يُحِبُّ الْمَدْحَ، وَلَهُ كَلَامٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ: نِعْمَ
الْخَصْلَةُ السَّخَاءُ، تَسْتُرُ عَوْرَةَ الشَّرِيفِ، وَتَلْحَقُ خَسِيسَةَ
الْوَضِيعِ، وَتُحَبِّبُ الْمَزْهُودَ فِيهِ. وَقَالَ: يُعْجِبُنِي فِي الرَّجُلِ
خَصْلَتَانِ: أَنْ أَرَى عَقْلَهُ زَائِدًا عَلَى لِسَانِهِ، وَلَا أَرَى
لِسَانَهُ زَائِدًا عَلَى عَقْلِهِ.
تُوُفِّيَ الْمُهَلَّبُ غَازِيًا بِمَرْوِ الرُّوذِ، وَعُمْرُهُ سِتَّةٌ
وَسَبْعُونَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ لَهُ عَشْرَةٌ مِنَ الْوَلَدِ
وَهُمْ: يَزِيدُ، وَزِيَادٌ، وَالْمُفَضَّلُ، وَمُدْرِكٌ، وَحَبِيبٌ،
وَالْمُغِيرَةُ، وَقَبِيصَةُ، وَمُحَمَّدٌ، وَهِنْدٌ، وَفَاطِمَةُ.
تُوُفِّيَ الْمُهَلَّبُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ،
وَلَهُ مَوَاقِفُ حَمِيدَةٌ، وَغَزَوَاتٌ مَشْهُورَةٌ فِي التُّرْكِ
وَالْأَزَارِقَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَوَارِجِ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ
مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ عَلَى إِمْرَةِ خُرَاسَانَ،
فَأَمْضَى لَهُ ذَلِكَ الْحَجَّاجُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا عَزَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ عَنْ
إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ، وَوَلَّى
عَلَيْهَا هِشَامَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيَّ، وَكَانَتْ وِلَايَةُ
أَبَانٍ عَلَى الْمَدِينَةِ سَبْعَ سِنِينَ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ
عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ عَلَى إِمْرَةِ بِلَادِ الْمَشْرِقِ بِكَمَالِهِ
الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، وَالنُّوَّابُ فِي الْأَقَالِيمِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ،
وَهُوَ مَشْغُولٌ عَنْ تَدْبِيرِ الْمَمَالِكِ بِحَرْبِ ابْنِ الْأَشْعَثِ فِي
هَذِهِ الْمُدَّةِ كُلِّهَا.
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبَانُ بْنُ
عُثْمَانَ الَّذِي كَانَ نَائِبَ الْمَدِينَةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَسْمَاءُ بْنُ خَارِجَةَ الْفَزَارِيُّ الْكُوفِيُّ
كَانَ جَوَادًا مُمَدَّحًا، حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى يَوْمًا شَابًّا عَلَى
بَابِ دَارِهِ جَالِسًا، فَسَأَلَهُ عَنْ قُعُودِهِ عَلَى بَابِهِ، فَقَالَ:
حَاجَةٌ لَا أَسْتَطِيعُ ذِكْرَهَا. فَأَلَحَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: جَارِيَةٌ
رَأَيْتُهَا دَخَلَتْ هَذِهِ الدَّارَ لَمْ أَرَ أَحْسَنَ مِنْهَا، وَقَدْ
خَطَفَتْ قَلْبِي مَعَهَا، فَأَخَذَ بِيَدِهِ، وَأَدْخَلَهُ دَارَهُ، وَعَرَضَ
عَلَيْهِ كُلَّ جَارِيَةٍ عِنْدَهُ، حَتَّى مَرَّتْ تِلْكَ الْجَارِيَةُ، فَقَالَ:
هَذِهِ. فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ فَاجْلِسْ عَلَى الْبَابِ مَكَانَكَ. فَخَرَجَ
الشَّابُّ فَجَلَسَ مَكَانَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِ بَعْدَ سَاعَةٍ
وَالْجَارِيَةُ مَعَهُ، قَدْ أَلْبَسَهَا أَنْوَاعَ الْحُلِيِّ، وَقَالَ لَهُ: مَا
مَنَعَنِي أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَيْكَ وَأَنْتَ دَاخِلَ الدَّارِ إِلَّا أَنَّ
الْجَارِيَةَ كَانَتْ لِأُخْتِي، وَكَانَتْ ضَنِينَةً بِهَا، فَاشْتَرَيْتُهَا
لَكَ مِنْهَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَأَلْبَسْتُهَا هَذَا الْحُلِيَّ، فَهِيَ لَكَ
بِمَا عَلَيْهَا، فَأَخَذَهَا الشَّابُّ وَانْصَرَفَ.
الْمُغِيرَةُ بْنُ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ
كَانَ جَوَادًا مُمَدَّحًا شُجَاعًا، لَهُ مَوَاقِفُ مَشْهُورَةٌ.
الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِقُبَاعٍ، وَلِيَ إِمْرَةَ الْبَصْرَةِ لِابْنِ الزُّبَيْرِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ
كَانَ مِنْ فُضَلَاءِ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ وَأَعْقَلِهِمْ، تُوُفِّيَ
بِالْمَدِينَةِ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ
وَالِدُ الْفَقِيهِ إِسْحَاقَ، حَمَلَتْ بِهِ أُمُّهُ أُمُّ سُلَيْمٍ لَيْلَةَ
مَاتَ ابْنُهَا، فَأَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ فَأَعْلَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعَرَسْتُمْ؟
بَارَكَ اللَّهُ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا وَلَمَّا وُلِدَ حَنَّكَهُ
بِتَمَرَاتٍ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ
كَانَ قَائِدَ كَعْبٍ حِينَ عَمِيَ، لَهُ رِوَايَاتٌ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ
هَذِهِ السَّنَةَ.
سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ أَبُو أَيْمَنَ، الْخَوْلَانِيُّ
الْمِصْرِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَغَزَا الْمَغْرِبَ، وَسَكَنَ مِصْرَ، وَبِهَا مَاتَ.
جَمِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ صَبَّاحِ بْنِ ظَبْيَانَ بْنِ
الْحَسَنِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَرَامِ بْنِ ضِنَّةَ بْنِ عَبْدِ بْنِ كَثِيرِ
بْنِ عُذْرَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْمِ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ سُودِ بْنِ
أَسْلَمَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ، أَبُو عَمْرٍو الشَّاعِرُ
صَاحِبُ بُثَيْنَةَ، كَانَ قَدْ خَطَبَهَا فَمُنِعَتْ مِنْهُ، فَتَغَزَّلَ فِيهَا
وَاشْتَهَرَ بِهَا، وَكَانَ أَحَدَ عُشَّاقِ الْعَرَبِ، كَانَتْ إِقَامَتُهُ
بِوَادِي الْقُرَى، وَكَانَ عَفِيفًا صَيِّنًا،
دَيِّنًا شَاعِرًا إِسْلَامِيًّا، مِنْ أَفْصَحِ
الشُّعَرَاءِ فِي زَمَانِهِ.
وَكَانَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ رَاوِيَتَهُ، وَهُوَ يَرْوِي عَنْ هُدْبَةَ بْنِ
خَشْرَمٍ، عَنِ الْحُطَيْئَةِ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى، وَابْنِهِ
كَعْبٍ. قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ: كَانَ جَمِيلٌ أَشْعَرَ الْعَرَبِ، حَيْثُ
يَقُولُ:
وَخَبَّرْتُمَانِي أَنَّ تَيْمَاءَ مَنْزِلٌ لِلَيْلَى إِذَا مَا الصَّيْفُ
أَلْقَى الْمَرَاسِيَا فَهَذِي شُهُورُ الصَّيْفِ عَنَّا قَدِ انْقَضَتْ
فَمَا لِلنَّوَى تَرْمِي بِلَيْلَى الْمَرَامِيَا
وَمِنْهَا قَوْلُهُ:
وَمَا زِلْتِ بِي يَا بُثْنُ حَتَّى لَوَ انَّنِي مِنَ الشَّوْقِ أَسَتَبْكِي
الْحَمَامَ بَكَى لِيَا
وَمَا زَادَنِي الْوَاشُونَ إِلَّا صَبَابَةً وَلَا كَثْرَةُ النَّاهِينَ إِلَّا
تَمَادِيَا
وَمَا أَحْدَثَ النَّأْيُ الْمُفَرِّقُ بَيْنَنَا سُلُوًّا وَلَا طُولُ
اللَّيَالِي تَقَالِيَا
أَلَمْ تَعْلَمِي يَا عَذْبَةَ الرِّيقِ أَنَّنِي أَظَلُّ إِذَا لَمْ أَلْقَ
وَجْهَكِ صَادِيَا
لَقَدْ خِفْتُ أَنْ أَلْقَى الْمَنِيَّةَ بَغْتَةً وَفِي النَّفْسِ حَاجَاتٌ
إِلَيْكِ كَمَا هِيَا
وَمِمَّا أَوْرَدَهُ لَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي الْوَفِيَّاتِ قَوْلُهُ:
إِنِّي لَأَحْفَظُ غَيْبَكُمْ وَيَسُرُّنِي لَوْ
تَعْلَمِينَ بِصَالِحٍ أَنْ تَذْكُرِي
إِلَى أَنْ قَالَ:
مَا أَنْتِ وَالْوَعْدُ الَّذِي تَعِدِينَنِي إِلَّا كَبَرْقِ سَحَابَةٍ لَمْ
تُمْطِرِ
وَقَوْلُهُ - وَرُوِيَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ -:
مَا زِلْتُ أَبْغِي الْحَيَّ أَتْبَعُ فَلَّهُمْ حَتَّى دُفِعْتُ إِلَى رَبِيبَةِ
هَوْدَجِ
فَدَنَوْتُ مُخْتَفِيًا أُلِمُّ بِبَيْتِهَا حَتَّى وَلَجْتُ إِلَى خَفِيِّ
الْمَوْلِجِ
قَالَتْ وَعَيْشِ أَخِي وَنِعْمَةِ وَالِدِي لَأُنَبِّهَنَّ الْحَيَّ إِنْ لَمْ
تَخْرُجِ
فَتَنَاوَلَتْ رَأْسِي لِتَعْرِفَ مَسَّهُ بِمُخَضَّبِ الْأَطْرَافِ غَيْرِ
مُشَنَّجِ
فَخَرَجْتُ خِيفَةَ أَهْلِهَا فَتَبَسَّمَتْ فَعَلِمْتُ أَنَّ يَمِينَهَا لَمْ
تَحَرَّجِ
فَلَثَمْتُ فَاهَا آخِذًا بِقُرُونِهَا شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ
الْحَشْرَجِ
قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ: لَقِيَنِي جَمِيلُ بُثَيْنَةَ،
فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ فَقُلْتُ: مِنْ عِنْدِ هَذِهِ الْحَبِيبَةِ.
فَقَالَ: وَإِلَى أَيْنَ؟ فَقُلْتُ: إِلَى هَذِهِ الْحَبِيبَةِ - يَعْنِي عَزَّةَ
- فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمَا رَجَعْتَ إِلَى بُثَيْنَةَ فَوَاعَدْتَهَا
لِي; فَإِنَّ لِي مِنْ أَوَّلِ الصَّيْفِ مَا رَأَيْتُهَا، وَكَانَ آخِرُ عَهْدِي
بِهَا بِوَادِي الْقُرَى، وَهِيَ تَغْسِلُ هِيَ وَأُمُّهَا ثَوْبًا،
فَتَحَادَثْنَا إِلَى الْغُرُوبِ. قَالَ كُثَيِّرٌ: فَرَجَعْتُ حَتَّى أَنَخْتُ
بِهِمْ، فَقَالَ أَبُو بُثَيْنَةَ: مَا رَدَّكَ يَا ابْنَ أَخِي؟ فَقُلْتُ:
أَبْيَاتٌ قُلْتُهَا، فَرَجَعْتُ لِأَعْرِضَهَا عَلَيْكَ، فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟
فَأَنْشَدْتُهُ، وَبُثَيْنَةُ تَسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ:
فَقُلْتُ لَهَا يَا عَزُّ أَرْسَلَ صَاحِبِي إِلَيْكِ رَسُولًا وَالرَّسُولُ
مُوَكَّلُ
بِأَنْ تَجْعَلِي بَيْنِي وَبَيْنَكِ مَوْعِدًا وَأَنْ تَأْمُرِينِي مَا الَّذِي
فِيهِ أَفْعَلُ
وَآخِرُ عَهْدِي مِنْكِ يَوْمَ لَقِيتِنِي بِأَسْفَلِ وَادِي الدَّوْمِ
وَالثَّوْبُ يُغْسَلُ
قَالَ: فَضَرَبَتْ بُثَيْنَةُ جَانِبَ خَدْرِهَا،
وَقَالَتِ: اخْسَأْ، اخْسَأْ. فَقَالَ أَبُوهَا: مَهْيَمْ؟ فَقَالَتْ: كَلْبٌ
يَأْتِينَا إِذَا نَامَ النَّاسُ، مِنْ وَرَاءِ الرَّابِيَةِ. ثُمَّ قَالَتْ
لِجَارِيَتِهَا: ابْغِينَا مِنَ الدَّوْمَاتِ حَطَبًا لِيُشْوَى بِهِ لِكُثَيِّرٍ
شَاةٌ. فَقُلْتُ: أَنَا أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ. وَانْطَلَقْتُ إِلَى جَمِيلٍ،
فَقُلْتُ: مَوْعِدُكُ الدَّوْمَاتُ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَقْبَلَتْ
بُثَيْنَةُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَاعَدَتْهُ إِلَيْهِ، وَجَاءَ جَمِيلٌ،
وَكُنْتُ مَعَهُمْ، فَمَا رَأَيْتُ لَيْلَةً أَعْجَبَ مِنْهَا، وَلَا أَحْسَنَ
مُنَادِمَاتٍ، وَانْفَضَّ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ وَمَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَفْهَمُ
لِمَا فِي ضَمِيرِ صَاحِبِهِ مِنْهُ.
وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ السَّاعِدِيِّ
أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى جَمِيلٍ وَهُوَ يَمُوتُ فَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي
رَجُلٍ لَمْ يَشْرَبِ الْخَمْرَ قَطُّ، وَلَمْ يَزْنِ قَطُّ، وَلَمْ يَسْرِقْ،
وَلَمْ يَقْتُلِ النَّفْسَ، وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
قَالَ: أَظُنُّهُ قَدْ نَجَا، وَأَرْجُو لَهُ الْجَنَّةَ، فَمَنْ هَذَا؟ قَالَ:
أَنَا. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَظُنُّكَ سَلِمْتَ، وَأَنْتَ تُشَبِّبُ مُنْذُ
عِشْرِينَ سَنَةً بِبُثَيْنَةَ. فَقَالَ: لَا نَالَتْنِي شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ
الْآخِرَةِ وَآخَرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا إِنْ كُنْتُ
وَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهَا بِرِيبَةٍ. قَالَ: فَمَا
بَرِحْنَا حَتَّى مَاتَ.
قُلْتُ: كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ قَدِمَ عَلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ
بْنِ مَرْوَانَ، فَأَكْرَمَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ حُبِّهِ بُثَيْنَةَ، فَقَالَ:
شَدِيدٌ، وَاسْتَنْشَدَهُ مِنْ أَشْعَارِهِ وَمَدَائِحِهِ فَأَنْشَدَهُ،
فَوَعَدَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَعَاجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ فِي
سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ آمِينَ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ رَجُلٍ، أَنَّ جَمِيلًا قَالَ لَهُ: هَلْ
أَنْتَ مُبْلِغٌ عَنِّي رِسَالَةً إِلَى حَيِّ بُثَيْنَةَ، وَلَكَ مَا عِنْدِي؟
قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَارْكَبْ نَاقَتِي، وَالْبَسْ حُلَّتِي
هَذِهِ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ أَبْيَاتًا مِنْهَا قَوْلُهُ:
قُومِي بُثَيْنَةَ فَانْدُبِي بِعَوِيلِ وَابْكِ خَلِيلًا دُونَ كُلِّ خَلِيلِ
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى حَيِّهِمْ أَنْشَدَ الْأَبْيَاتَ، قَالَ: فَخَرَجَتْ
بُثَيْنَةُ كَأَنَّهَا بَدْرٌ بَدَا فِي دُجْنَةٍ، وَهِيَ تَتَثَنَّى فِي
مَرْطِهَا، فَقَالَتْ لَهُ: وَيْحَكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ قَتَلْتَنِي،
وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَقَدْ فَضَحْتَنِي. فَقُلْتُ: بَلَى، وَاللَّهِ صَادِقٌ،
وَهَذِهِ حُلَّتُهُ وَنَاقَتُهُ. فَلَمَّا تَحَقَّقَتْ ذَلِكَ صَاحَتْ بِأَعْلَى
صَوْتِهَا، وَصَكَّتْ وَجْهَهَا، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ الْحَيِّ إِلَيْهَا
يَبْكِينَ مَعَهَا، ثُمَّ صَعِقَتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، ثُمَّ أَفَاقَتْ، وَهِيَ
تَقُولُ:
وَإِنَّ سُلُوِّي عَنْ جَمِيلٍ لِسَاعَةٍ مِنَ الدَّهْرِ
مَا حَانَتْ وَلَا حَانَ حِينُهَا
سَوَاءٌ عَلَيْنَا يَا جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ إِذَا مُتَّ بَأْسَاءُ الْحَيَاةِ
وَلِينُهَا
قَالَ الرَّجُلُ: فَمَا رَأَيْتُ أَكْثَرَ بَاكِيًا وَلَا بَاكِيَةً مِنْ
يَوْمئِذٍ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ بِدِمَشْقَ: لَوْ تَرَكْتَ
الشِّعْرَ وَحَفِظْتَ الْقُرْآنَ؟ فَقَالَ: هَذَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يُخْبِرُنِي
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ
مِنَ الشِّعْرِ لِحِكْمَةً.
عُمَرُ بْنُ عَبِيدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ عُثْمَانَ، أَبُو حَفْصٍ الْقُرَشِيُّ
التَّمِيمِيُّ
أَحَدُ الْأَجْوَادِ، وَالْأُمَرَاءِ الْأَمْجَادِ، فُتِحَتْ عَلَى يَدَيْهِ
بُلْدَانٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ نَائِبًا لِابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى الْبَصْرَةِ،
وَقَدْ فَتَحَ كَابُلَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ
قُطْرِيَّ بْنَ الْفُجَاءَةِ.
رَوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي
رَبَاحٍ، وَابْنُ عَوْنٍ. وَوَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَتُوُفِّيَ
بِدِمَشْقَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ، قَالَهُ الْمَدَائِنِيُّ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق