الثلاثاء، 3 أغسطس 2021

35//1-البداية والنهاية تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

  35//1-البداية والنهاية عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

... ==تَمُرُ، وَهُمْ كُلُّهُمْ فِي لَبْسٍ وَأَسْلِحَةٍ تَامَّةٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا خَائِفٌ مِنَ الْآخَرِ أَنْ يُمْسِكَهُ، فَدَخَلَ هَذَا دَارَ السَّعَادَةِ، وَرَاحَ الْآخَرُ إِلَى الْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، وَلَمَّا كَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ قَدِمَ مَنْجَكُ وَأَسَنْدَمُرُ نَائِبَا السَّلْطَنَةِ بِدِمَشْقَ - كَانَا - وَهُمَا مَغْلُوبَانِ قَدْ كَسَرَهُمَا مَنْ كَانَ قَدِمَ عَلَى مَنْجَكَ مِنَ الْعَسَاكِرِ الَّتِي جَهَّزَهَا بَيْدَمُرُ إِلَى مَنْجَكَ قُوَّةً لَهُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى يَدَيِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ تَمُرَ حَاجِبِ الْحُجَّابِ، وَيُعْرَفُ بِالْمَهْمَنْدَارِ، قَالَ لِمَنْجَكَ: كُلُّنَا فِي خِدْمَةِ مَنْ بِمِصْرَ، وَنَحْنُ لَا نُطِيعُكَ عَلَى نُصْرَةِ بَيْدَمُرَ، فَتَقَاوَلَا ثُمَّ تَقَاتَلَا، فَهُزِمَ مَنْجَكُ، وَذَهَبَ تَمُرُ وَمَنْجَكُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا كَابْنِ صُبْحٍ، وَطَيْدَمُرَ إِلَى الْمِصْرِيِّينَ. وَلَمَّا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ مِنْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ خَامِسَ عَشَرَ لَمْ يُوجَدْ لِتُومَانَ تَمُرَ، وَطُنَيْرِقَ، وَلَا أَحَدٍ مِنْ أُمَرَاءِ دِمَشْقَ عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ، بَلْ قَدْ ذَهَبُوا كُلُّهُمْ إِلَى طَاعَةِ صَاحِبِ مِصْرَ، وَلَمْ يَبْقَ بِدِمَشْقَ مِنَ أُمَرَائِهَا سِوَى ابْنِ قَرَاسُنْقُرَ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْمُقَدَّمِينَ، وَسِوَى بَيْدَمُرَ، وَمَنْجَكَ، وَأَسَنْدَمُرَ، وَالْقَلْعَةُ قَدْ هُيِّئَتْ، وَالْمَجَانِيقُ مَنْصُوبَةٌ عَلَى حَالِهَا، وَالنَّاسُ فِي خَوْفٍ شَدِيدٍ مِنْ دُخُولِ بَيْدَمُرَ إِلَى الْقَلْعَةِ، فَيَحْصُلُ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ قُدُومِ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ حِصَارٌ، وَتَعَبٌ، وَمَشَقَّةٌ عَلَى النَّاسِ، وَاللَّهُ يُحْسِنُ الْعَاقِبَةَ.
وَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ نَهَارِ الِاثْنَيْنِ خَامِسَ عَشَرَهُ دَقَّتِ الْبَشَائِرُ فِي الْقَلْعَةِ، وَأُظْهِرَ أَنْ يَلْبُغَا الْخَاصِّكِيَّ قَدْ نَفَاهُ السُّلْطَانُ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ ضُرِبَتْ وَقْتَ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ أَيْضًا، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يَرْكَبُ الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُمَنْجَكُ، وَبَيْدَمُرُ، وَأَسَنْدَمُرُ مُلْبِسِينَ، وَيَخْرُجُونَ إِلَى خَارِجِ الْبَلَدِ ثُمَّ يَعُودُونَ، وَالنَّاسُ فِيمَا يُقَالُ مَا بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ، وَلَكِنْ قَدْ شُرِعَ إِلَى تَسْتِيرِ الْقَلْعَةِ  - وَتَهَيُّؤِ الْحِصَارِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْبَشَائِرَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، فَاهْتَمَّ فِي عَمَلِ سَتَائِرِ الْقَلْعَةِ، وَحَمْلِ الزَّلَطِ، وَالْأَحْجَارِ، وَالْأَغْنَامِ وَالْحَوَاصِلِ إِلَيْهَا، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ الرِّكَابَ الشَّرِيفَ السُّلْطَانِيَّ وَصُحْبَتَهُ يَلْبُغَا فِي جَمِيعِ جَيْشِ مِصْرَ قَدْ عَدَّا غَزَّةَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ خَرَجَ الصَّاحِبُ، وَكَاتِبُ السِّرِّ، وَالْقَاضِي الشَّافِعِيُّ، وَنَاظِرُ الْجَيْشِ، وَنُقَبَاؤُهُ، وَمُتَوَلِّي الْبَلَدِ، وَتَوَجَّهُوا تِلْقَاءَ حَمَاةَ لِتَلَقِّي الْأَمِيرِ عَلِيٍّ الَّذِي قَدْ جَاءَهُ تَقْلِيدُ دِمَشْقَ، وَبَقِيَ الْبَلَدُ شَاغِرًا عَنْ حَاكِمٍ فِيهَا سِوَى الْمُحْتَسِبِ، وَبَعْضِ الْقُضَاةِ، وَالنَّاسُ كَغَنَمٍ لَا رَاعِيَ لَهُمْ، وَمَعَ هَذَا الْأَحْوَالُ صَالِحَةٌ، وَالْأُمُورُ سَاكِنَةٌ، لَا يَعْدُو أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ فِيمَا بَلَغْنَا هَذَا، وَبَيْدَمُرُ وَمَنْجَكُ وَأَسَنْدَمُرُ فِي تَحْصِينِ الْقَلْعَةِ، وَتَحْصِيلِ الْعُدَدِ وَالْأَقْوَاتِ فِيهَا، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ [ يُوسُفَ: 21 ] أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [ النِّسَاءِ: 78 ]، وَالسَّتَائِرُ تُعْمَلُ فَوْقَ الْأَبْرَجَةِ، وَصَلَّى الْأَمِيرُ بَيْدَمُرُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ تَاسِعَ عَشَرَ الشَّهْرِ فِي الشُّبَّاكِ الْكَمَالِيِّ فِي مَشْهَدِ عُثْمَانَ، وَصَلَّى عِنْدَهُ مَنْجَكُ إِلَى جَانِبِهِ دَاخِلَ مَوْضِعِ الْقُضَاةِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ أَحَدٌ مِنَ الْحَجَبَةِ، وَلَا مِنَ النُّقَبَاءِ، وَلَيْسَ فِي الْبَلَدِ أَحَدٌ مِنَ الْمُبَاشِرِينَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَا مِنَ الْجُنْدِ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ سَافَرُوا إِلَى نَاحِيَةِ السُّلْطَانِ، وَالْمُبَاشِرُونَ إِلَى نَاحِيَةِ حَمَاةَ لِتَلَقِّي الْأَمِيرِ عَلِيٍّ نَائِبِ الشَّامِ الْمَحْرُوسِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَلَمْ يَحْضُرِ الصَّلَاةَ أَسَنْدَمُرُ; لِأَنَّهُ قِيلَ: كَانَ مُنْقَطِعًا; قَدْ صَلَّى فِي الْقَلْعَةِ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ الْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ وَصَلَ الْبَرِيدُ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ مِنْ أَبْنَاءِ

الرَّسُولِ إِلَى نَائِبِ دِمَشْقَ يَسْتَعْلِمُ طَاعَتَهُ أَوْ مُخَالَفَتَهُ، وَتَعَتَّبَ عَلَيْهِ فِيمَا اعْتَمَدَهُ مِنَ اسْتِحْوَاذِهِ عَلَى الْقَلْعَةِ وَتَحْصِينِهَا، وَادِّخَارِ الْآلَاتِ وَالْأَطْعِمَاتِ فِيهَا، وَنَصْبِ الْمَجَانِيقِ وَالسَّتَائِرِ عَلَيْهَا، وَكَيْفَ تَصَرَّفَ فِي الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ وَالْمُلُوكِ، فَتَنَصَّلَ مَلِكُ الْأُمَرَاءِ مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرْصَدَ فِي الْقَلْعَةِ جَنَادِتَهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْهَا، وَأَنَّ أَبْوَابَهَا مَفْتُوحَةٌ، وَهِيَ قَلْعَةُ السُّلْطَانِ، وَإِنَّمَا لَهُ غَرِيمٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ الشَّرْعُ وَالْقُضَاةُ الْأَرْبَعَةُ - يَعْنِي بِذَلِكَ يَلْبُغَا - وَكَتَبَ بِالْجَوَابِ وَأَرْسَلَهُ صُحْبَةَ الْبَرِيدِيِّ، وَهُوَ كَيْكَلِدِي مَمْلُوكُ يَقْطِيَةَ الدَّوَادَارِ، وَأَرْسَلَ فِي صُحْبَتِهِ الْأَمِيرَ صَارِمَ الدِّينِ أَحَدَ أُمَرَاءِ الْعَشَرَاتِ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ تُصْبِحُ أَبْوَابُ الْبَلَدِ مُغْلَقَةً إِلَى قُرَيْبِ الظُّهْرِ، وَلَيْسَ ثُمَّ مَفْتُوحٌ سِوَى بَابَيِ النَّصْرِ وَالْفَرَجِ، وَالنَّاسُ فِي حَصْرٍ شَدِيدٍ وَانْزِعَاجٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلَكِنْ قَدِ اقْتَرَبَ وُصُولُ السُّلْطَانِ وَالْعَسَاكِرِ الْمَنْصُورَةِ. وَفِي صَبِيحَةِ الْأَرْبِعَاءِ أَصْبَحَ الْحَالُ كَمَا كَانَ وَأَزِيدَ، وَنَزَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ يَلْبُغَا الْخَاصِّكِيُّ بِقُبَّةِ يَلْبُغَا، وَامْتَدَّ طُلْبُهُ مِنْ سَيْفِ دَارَيًا إِلَى الْقُبَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَهَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، وَتَأَخَّرَ الرِّكَابُ الشَّرِيفُ بِتَأَخُّرِهِ عَنِ الصَّنَمَيْنِ بَعْدُ، وَدَخَلَ بَيْدَمُرُ فِي هَذَا الْيَوْمِ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَتَحَصَّنَ بِهَا، وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ اسْتَمَرَّتِ الْأَبْوَابُ كُلُّهَا مُغَلَّقَةً سِوَى بَابَيِ النَّصْرِ وَالْفَرَجِ، وَضَاقَ النِّطَاقُ، وَانْحَصَرَ النَّاسُ جِدًّا، وَقَطَعَ الْمِصْرِيُّونَ نَهْرَ بَانَاسَ

وَالْفَرْعَ الدَّاخِلَ إِلَيْهَا، وَإِلَى دَارِ السَّعَادَةِ مِنَ الْقَنَوَاتِ، وَاحْتَاجُوا لِذَلِكَ أَنْ يَقْطَعُوا الْقَنَوَاتِ لِيَسُدُّوا الْفَرْعَ الْمَذْكُورَ، فَانْزَعَجَ أَهْلُ الْبَلَدِ لِذَلِكَ، وَمَلَئُوا مَا فِي بُيُوتِهِمْ مِنْ بِرَكِ الْمَدَارِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَبِيعَتِ الْقِرْبَةُ بِدِرْهَمٍ، وَالْحُقُّ بِنِصْفٍ، ثُمَّ أُرْسِلَتِ الْقَنَوَاتُ وَقْتَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمَئِذٍ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ - فَانْشَرَحَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَأَصْبَحَ الصَّبَاحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْأَبْوَابُ مُغْلَقَةٌ، وَلَمْ يُفْتَحْ بَابَا النَّصْرِ وَالْفَرَجِ إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِزَمَانٍ، فَأَرْسَلَ يَلْبُغَا مِنْ جِهَتِهِ أَرْبَعَةَ أُمَرَاءَ، وَهُمُ الْأَمِيرُ زَيْنُ الدِّينِ زُبَالَةُ الَّذِي كَانَ نَائِبَ الْقَلْعَةِ، وَالْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ بْنُ الْكَامِلِ، وَالشَّيْخُ عَلِيٌّ الَّذِي كَانَ نَائِبَ الرَّحْبَةِ مِنْ جِهَةِ بَيْدَمُرَ، وَأَمِيرٌ آخَرُ، فَدَخَلُوا الْبَلَدَ، وَكَسَرُوا أَقْفَالَ أَبْوَابِ الْبَلَدِ وَفَتَحُوا الْأَبْوَابَ، فَلَمَّا رَأَى بَيْدَمُرُ ذَلِكَ أَرْسَلَ مَفَاتِيحَ الْبَلَدِ إِلَيْهِمْ.

وُصُولُ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ إِلَى الْمِصْطَبَةِ غَرْبِيَّ عَقَبَةِ سُجُورَا
كَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي جَحَافِلَ عَظِيمَةِ كَالْجِبَالِ، فَنَزَلَ عِنْدَ الْمِصْطَبَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى عَمِّ أَبِيهِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ خَلِيلِ بْنِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، وَجَاءَتِ الْأُمَرَاءُ وَنُوَّابُ الْبِلَادِ لِتَقْبِيلِ يَدِهِ وَالْأَرْضِ بَيْنَ يَدَيْهِ; كَنَائِبِ حَلَبَ، وَنَائِبِ حَمَاةَ وَهُوَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ الْمَارِدَانِيُّ، وَقَدْ عُيِّنَ لِنِيَابَةِ دِمَشْقَ، وَكُتِبَ تَقْلِيدُهُ بِذَلِكَ، وَأُرْسِلَ إِلَيْهِ وَهُوَ بِحَمَاةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ

السَّبْتِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ خَلَعَ عَلَى الْأَمِيرِ عَلَاءِ الدِّينِ عَلِيٍّ الْمَارِدَانِيِّ بِنِيَابَةِ دِمَشْقَ، وَأُعِيدَ إِلَيْهَا عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ، ثُمَّ هَذِهِ الْكَرَّةُ الثَّالِثَةُ، وَقَبَّلَ يَدَ السُّلْطَانِ، وَرَكِبَ عَنْ يَمِينِهِ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْبَلَدِ لِتَهْنِئَتِهِ، هَذَا وَالْقَلْعَةُ مُحَصَّنَةٌ بِيَدِ بَيْدَمُرَ، وَقَدْ دَخَلَهَا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَاحْتَمَى بِهَا هُوَ، وَمَنْجَكُ، وَأَسَنْدَمُرُ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَعْوَانِ بِهَا، وَلِسَانُ حَالِ الْقَدَرِ يَقُولُ: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [ النِّسَاءِ: 78 ].
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ طُلِبَ قُضَاةُ الْقُضَاةِ، وَأُرْسِلُوا إِلَى بَيْدَمُرَ وَذَوِيهِ بِالْقَلْعَةِ لِيُصَالِحُوهُ عَلَى شَيْءٍ يَشْتَرِطُونَهُ، فَكَانَ مَا سَنَذْكُرُهُ.

سَبَبُ خُرُوجِ بَيْدَمُرَ مِنَ الْقَلْعَةِ وَصِفَةُ ذَلِكَ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ أُرْسِلَ قُضَاةُ الْقُضَاةِ، وَمَعَهُمُ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ الْحَنْبَلِيُّ، وَالشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ الْهِنْدِيُّ الْحَنَفِيُّ قَاضِي الْعَسْكَرِ الْمِصْرِيِّ لِلْحَنَفِيَّةِ - إِلَى بَيْدَمُرَ وَمَنْ مَعَهُ لِيَتَكَلَّمُوا مَعَهُمْ فِي الصُّلْحِ لِيَنْزِلُوا عَلَى مَا يَشْتَرِطُونَ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعُوا فِي الْحِصَارِ بِالرِّجَالِ وَالْمَجَانِيقِ الَّتِي قَدِ اسْتُدْعِيَ بِهَا مِنْ صَفَدَ وَبَعْلَبَكَّ، وَأُحْضِرَ مِنْ رِجَالِ النَّقَّاعِينَ نَحْوٌ مِنْ سِتَّةِ آلَافِ رَامٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ الْقُضَاةُ وَمَنْ مَعَهُمْ وَأَخْبَرُوهُ عَنِ السُّلْطَانِ، وَأَعْيَانِ الْأُمَرَاءِ بِأَنَّهُمْ قَدْ كَتَبُوا لَهُ أَمَانًا إِنْ أَنَابَ إِلَى الْمُصَالَحَةِ، فَطَلَبَ أَنْ يَكُونَ بِأَهْلِهِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَطَلَبَ أَنْ يُعْطَى مَنْجَكُ كَذَا بِنَاحِيَةِ بِلَادِ سِيسَ لِيَسْتَرْزِقَ هُنَالِكَ، وَطَلَبَ أَسَنْدَمُرُ أَنْ يَكُونَ

بَشْمَقْدَارُ لِلْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ يَلْبُغَا الْخَاصِّكِيِّ، فَرَجَعَ الْقُضَاةُ إِلَى السُّلْطَانِ، وَمَعَهُمُ الْأَمِيرُ زَيْنُ الدِّينِ جِبْرِيلُ الْحَاجِبُ - كَانَ - فَأَخْبَرُوا السُّلْطَانَ وَالْأُمَرَاءَ بِذَلِكَ، فَأَجِيبُوا إِلَى مَا طَلَبُوا، وَخَلَعَ السُّلْطَانُ وَالْأُمَرَاءُ عَلَى جِبْرِيلَ خِلَعًا، فَرَجَعَ فِي خِدْمَةِ الْقُضَاةِ، وَمَعَهُمُ الْأَمِيرُ أَسَنْبُغَا بْنُ الْأَبُو بَكْرِيٍّ، فَدَخَلُوا الْقَلْعَةَ، وَبَاتُوا هُنَالِكَ كُلُّهُمْ، وَانْتَقَلَ الْأَمِيرُ بَيْدَمُرُ بِأَهْلِهِ وَأَثَاثِهِ إِلَى دَارِهِ بِالْمُطَرِّزِينَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ خَرَجَ الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُ مِنَ الْقَلْعَةِ وَمَعَهُمْ جِبْرِيلُ، فَدَخَلَ الْقُضَاةُ، وَسَلَّمُوا الْقَلْعَةَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْحَوَاصِلِ إِلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أَسَنْبُغَا بْنِ الْأَبُوبَكْرِيٍّ.

دُخُولَ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ أَمِيرِ حَاجِّ ابْنِ الْمَلِكِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ قَلَاوُونَ إِلَى دِمَشْقَ فِي جَيْشِهِ وَأُمَرَائِهِ
لَمَّا كَانَ صَبِيحَةُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ رَجَعَ الْقُضَاةُ إِلَى الْوِطَاقِ الشَّرِيفِ، وَفِي صُحْبَتِهِمُ الْأُمَرَاءُ الَّذِينَ كَانُوا بِالْقَلْعَةِ، وَقَدْ أُعْطُوا الْأَمَانَ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ وَمَنْ مَعَهُمْ وَذَوِيهِمْ، فَدَخَلَ الْقُضَاةُ وَحُجِبَ الْأُمَرَاءُ الْمَذْكُورُونَ، فَخُلِعَ عَلَى الْقُضَاةِ الْأَرْبَعَةِ، وَانْصَرَفُوا رَاجِعِينَ مَجْبُورِينَ، وَأَمَّا الْأُمَرَاءُ الْمَذْكُورُونَ فَإِنَّهُمْ أُرْكِبُوا عَلَى خَيْلٍ ضَعِيفَةٍ، وَخَلْفَ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وُشَاقِيٌّ آخِذٌ بِوَسَطِهِ، قِيلَ: وَفِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوُشَاقِيَّةِ خِنْجَرٌ كَبِيرٌ

مَسْلُولٌ لِئَلَّا يَسْتَنْقِذَهُ مِنْهُ أَحَدٌ فَيَقْتُلَهُ بِهَا - فَدَخَلَ جَهْرَةً بَيْنَ النَّاسِ لَبِزِّهِمْ وَذِلَّتِهِمُ الَّتِي قَدْ لَبِسَتْهُمْ، وَقَدْ أَحْدَقَ النَّاسُ بِالطَّرِيقِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَقَامَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ، إِلَّا أَنَّهُمْ قَدْ يُقَارِبُونَ الْمِائَةَ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ عَلَيْهَا، فَرَأَى النَّاسُ مَنْظَرًا فَظِيعًا، فَدَخَلَ بِهِمُ الْوُشَاقِيَّةُ إِلَى الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ الَّذِي فِيهِ الْقَصْرُ، فَأُجْلِسُوا هُنَالِكَ وَهُمْ سِتَّةُ نَفَرٍ; الثَّلَاثَةُ النُّوَّابُ، وَجِبْرِيلُ، وَابْنُ أَسَنْدَمُرَ، وَسَادِسٌ، وَظَنَّ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ فَاقِرَةٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَأُرْسِلَتِ الْجُيُوشُ دَاخِلَةً إِلَى دِمَشْقَ أَطْلَابًا أَطْلَابًا فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ - وَلُبْسُ الْحَرْبِ يَبْهَرُ الْبَصَرَ - وَخُيُولٍ، وَأَسْلِحَةٍ، وَرِمَاحٍ، ثُمَّ دَخَلَ السُّلْطَانُ فِي آخِرِ ذَلِكَ كُلِّهِ بَعْدَ الْعَصْرِ بِزَمَنٍ، وَعَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَلَابِسِ قَبَاءٌ زِنْجَارَيٌّ، وَالْقُبَّةُ وَالطَّيْرُ، يَحْمِلُهُمَا عَلَى رَأْسِهِالْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ تُومَانَ تَمُرُ الَّذِي كَانَ نَائِبَ طَرَابُلُسَ، وَالْأُمَرَاءُ مُشَاةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْبُسُطُ تَحْتَ قَدَمِي فَرَسِهِ، وَالْبَشَائِرُ تُضْرَبُ خَلْفَهُ، فَدَخَلَ الْقَلْعَةَ الْمَنْصُورَةَ الْمَنْصُورِيَّةَ لَا الْبَدْرِيَّةَ، وَرَأَى مَا قَدْ أُرْصِدَ بِهَا مِنَ الْمَجَانِيقِ وَالْأَسْلِحَةِ فَاشْتَدَّ حَنَقُهُ عَلَى بَيْدَمُرَ وَأَصْحَابِهِ كَثِيرًا، وَنَزَلَ الطَّارِمَةَ، وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ، وَوَقَفَ الْأُمَرَاءُ وَالنُّوَّابُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرَجَعَ الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ، وَقَدْ كَانَ بَيْنَ دُخُولِهِ وَدُخُولِ عَمِّهِ الصَّالِحِ صَالَحٍ إِلَى دِمَشْقَ فِي قَضِيَّةِ بَيْبُغَا آرُوسَ تِسْعُ سِنِينَ، وَكَانَ دُخُولُهُمَا إِلَيْهَا فِي رَمَضَانَ; الصَّالِحُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَهَذَا فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ سَلْخَهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَشَرَعَ النَّاسُ فِي الزِّينَةِ.

وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَلْخَ الشَّهْرِ نُقِلَ الْأُمَرَاءُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِيمَا كَانُوا أَبْرَمُوهُ مِنْ ضَمِيرِ سُوءٍ لِلْمُسْلِمِينَ - إِلَى الْقَلْعَةِ، فَأُنْزِلُوا فِي أَبْرَاجِهَا مُهَانِينَ مُفَرَّقًا بَيْنَهُمْ، بَعْدَ مَا كَانُوا بِهَا آمِنِينَ حَاكِمِينَ أَصْبَحُوا مُعْتَقَلِينَ مُهَانِينَ خَائِفِينَ، فَخَارُوا بَعْدَ مَا كَانُوا رُؤَسَاءَ، وَأَصْبَحُوا بَعْدَ عِزِّهِمْ أَذِلَّاءَ، وَبَقِيَتْ أَعْيَانُ أَصْحَابِ هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءِ، وَنُودِيَ عَلَيْهِمْ فِي الْبَلَدِ، وَوُعِدَ مَنْ دَلَّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ بِمَالٍ جَزِيلٍ، وَوِلَايَةِ إِمْرَةٍ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَرُسِمَ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى الرَّئِيسِ أَمِينِ الدِّينِ بْنِ الْقَلَانِسِيِّ كَاتِبِ السِّرِّ، وَطُلِبَ مِنْهُ أَلْفُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَسُلِّمَ إِلَى الْأَمِيرِ زَيْنِ الدِّينِ زُبَالَةَ نَائِبِ الْقَلْعَةِ، وَقَدْ أُعِيدَ إِلَيْهَا، وَأُعْطِيَ تَقْدِمَةَ ابْنِ قَرَاسُنْقُرَ، وَأَمَرَهُ أَنَّ يُعَاقِبَهُ إِلَى أَنْ يَزِنَ هَذَا الْمَبْلَغَ. وَصَلَّى السُّلْطَانُ، وَأُمَرَاؤُهُ بِالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ صَلَاةَ الْعِيدِ; ضُرِبَ لَهُ خَامٌ عَظِيمٌ، وَصَلَّى بِهِ خَطِيبًا الْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ الْمُنَاوِيُّ الشَّافِعِيُّ قَاضِي الْعَسَاكِرِ الْمَنْصُورَةِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَدَخَلَ الْأُمَرَاءُ مَعَ السُّلْطَانِ لِلْقَلْعَةِ مِنْ بَابِ الْمَدْرَسَةِ، وَمَدَّ لَهُمْ سِمَاطًا هَائِلًا أَكَلُوا مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى دُورِهِمْ وَقُصُورِهِمْ، وَحَمَلَ الْجِتْرَ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى رَأْسِ السُّلْطَانِ الْأَمِيرُ عَلِيٌّ نَائِبُ دِمَشْقَ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ خِلْعَةٌ هَائِلَةٌ. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ مُسِكَ الْأَمِيرُ تُومَانُ تَمُرُ الَّذِي كَانَ نَائِبَ طَرَابُلُسَ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى بَيْدَمُرَ فَكَانَ مَعَهُ ثُمَّ قَفَلَ إِلَى الْمِصْرِيِّينَ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ، فَعَذَرُوهُ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَدَخَلَ وَهُوَ حَامِلٌ الْجِتْرَ عَلَى رَأْسِ السُّلْطَانِ يَوْمَ الدُّخُولِ، ثُمَّ وَلَّوْهُ نِيَابَةَ حِمْصَ فَصَغَّرُوهُ، وَحَقَّرُوهُ، ثُمَّ لَمَّا اسْتَمَرَّ ذَاهِبًا إِلَيْهَا فَكَانَ عِنْدَ الْقَابُونِ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَأَمْسَكُوهُ وَرَدُّوهُ، وَطُلِبَ مِنْهُ الْمِائَةُ أَلْفٍ الَّتِي كَانَ قَبَضَهَا مِنْ بَيْدَمُرَ، ثُمَّ رَدُّوهُ إِلَى نِيَابَةِ حِمْصَ.

وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ اشْتَهَرَ الْخَبَرُ بِأَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْجَيْشِ بِمِصْرَ مِنْ طَوَاشِيَّةٍ وَخَاصِّكِيَّةٍ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ حُسَيْنَ بْنَ النَّاصِرِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَاقْتَتَلُوا، وَأَنَّ الْأَمْرَ قَدِ انْفَصَلَ، وَرُدَّ حُسَيْنٌ لِلْمَحَلِّ الَّذِي كَانَ مُعْتَقَلًا فِيهِ، وَأَطْفَأَ اللَّهَ شَرَّ هَذِهِ الطَّائِفَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَفِي آخِرِ هَذَا الْيَوْمِ لَبِسَ الْقَاضِي نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ يَعْقُوبَ خِلْعَةَ كِتَابَةِ السِّرِّ الشَّرِيفِيَّةَ، وَالْمَدْرَسَتَيْنِ، وَمَشْيَخَةِ الشُّيُوخِ - عِوَضًا عَنِ الرَّئِيسِ عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ الْقَلَانِسِيِّ، عُزِلَ وَصُودِرَ، وَرَاحَ النَّاسُ لِتَهْنِئَتِهِ بِالْعُودِ إِلَى وَظِيفَتِهِ كَمَا كَانَ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَالِثِ شَوَّالٍ مُسِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ الشَّامِيِّينَ; مِنْهُمُ الْحَاجِبَانِ صَلَاحُ الدِّينِ وَحُسَامُ الدِّينِ وَالْمَهْمَنْدَارُ ابْنُ أَخِي الْحَاجِبِ الْكَبِيرِ تَمُرَ، وَنَاصِرُ الدِّينِ ابْنُ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ بْنِ الْكَامِلِ، وَابْنُ حَمْزَةَ، وَالطَّرْخَانِيُّ، وَاثْنَانِ أَخَوَانِ; وَهَمَا طَيْبُغَا زَفَرَ، وَبُلْجَكُ، كُلُّهُمْ طَبْلَخَانَاهْ، وَأَخْرَجُوا خِيرُوتَمُرَ حَاجِبَ الْحُجَّابِ، وَكَذَلِكَ الْحَجُوبِيَّةُ أَيْضًا، وَأَعْطَوْا إِقْطَاعَهُ لِابْنِ الْقَشْتَمَرِيِّ الَّذِي كَانَ نَائِبَ حَلَبَ، وَأَعْطَوُا الْحَجُوبِيَّةَ لِقُمَارَيِّ أَحَدِ أُمَرَاءِ مِصْرَ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَابِعِ شَوَّالٍ مُسِكَ سِتَّةَ عَشَرَ أَمِيرًا مِنْ أُمَرَاءِ الْعَرَبِ بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ; مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ مُوسَى بْنِ مُهَنَّا الْمُلَقَّبُ بِالْمُصَمَّعِ، الَّذِي كَانَ أَمِيرَ الْعَرَبِ

فِي وَقْتٍ، وَمُعَيْقِلُ بْنُ فَضْلِ بْنِ مُهَنَّا، وَآخَرُونَ، وَذَكَرُوا أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ آلِ فَضْلٍ عَرَضُوا لِلْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ الْأَحْمَدِيِّ الَّذِي اسْتَنَابُوهُ عَلَى حَلَبَ وَأَعْمَالِهَا، وَأَخَذُوا مِنْهُ شَيْئًا مِنْ بَعْضِ الْأَمْتِعَةِ، وَكَادَتِ الْحَرْبُ تَقَعُ بَيْنَهُمْ. وَفِي لَيْلَةِ الْخَمِيسِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ حُمِلَ تِسْعَةَ عَشَرَ أَمِيرًا مِنَ الْأَتْرَاكِ وَالْعَرَبِ عَلَى الْبَرِيدِ مُقَيَّدِينَ فِي الْأَغْلَالِ أَيْضًا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، مِنْهُمْ بَيْدَمُرُ، وَمَنْجَكُ، وَأَسَنْدَمُرُ، وَجِبْرِيلُ، وَصَلَاحُ الدِّينِ الْحَاجِبُ، وَحُسَامُ الدِّينِ أَيْضًا، وَبُلْجَكُ، وَغَيْرُهُمْ، وَمَعَهُمْ نَحْوٌ مِنْ مِائَتَيْ فَارِسٍ مُلْبِسِينَ بِالسِّلَاحِ مُتَوَكِّلِينَ بِحِفْظِهِمْ، وَسَارُوا بِهِمْ نَحْوَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَمَرُوا جَمَاعَةً مِنَ الْبَطَّالَيْنِ، مِنْهُمْ أَوْلَادُ الْأَقْوَشِ. وَأُطْلِقَ الرَّئِيسُ أَمِينُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ مِنَ الْمُصَادَرَةِ وَالتَّرْسِيمِ بِالْقَلْعَةِ، بَعْدَ مَا وُزِنَ بَعْضُ مَا طُلِبَ مِنْهُ، وَصَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَهَنَّأَهُ النَّاسُ.

خُرُوجُ السُّلْطَانِ مِنْ دِمَشْقَ قَاصِدًا مِصْرَ
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ عَاشِرُ شَهْرِ شَوَّالٍ خَرَجَ طُلْبُ يَلْبُغَا الْخَاصِّكِيِّ صَبِيحَتَهُ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ لَمْ يَرَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْمُدَدِ مِثْلَهُ; مِنْ نَجَائِبَ، وَجَنَائِبَ، وَمَمَالِيكَ، وَعَظَمَةٍ هَائِلَةٍ، وَكَانَتْ عَامَّةُ الْأَطْلَابِ قَدْ تَقَدَّمَتْ قَبْلَهُ بِيَوْمٍ، وَحَضَرَ السُّلْطَانُ إِلَى الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ قَبْلَ أَذَانِ الظُّهْرِ، فَصَلَّى فِي مَشْهَدِ عُثْمَانَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أُمَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَنَائِبُ الشَّامِ، وَخَرَجَ مِنْ فَوْرِهِ مِنْ بَابِ النَّصْرِ ذَاهِبًا نَحْوَ الْكُسْوَةِ، وَالنَّاسُ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْأَسْطِحَةِ عَلَى الْعَادَةِ، وَكَانَتِ الزِّينَةُ قَدْ بَقِيَ أَكْثَرُهَا فِي الصَّاغَةِ وَالْخَوَّاصِينَ وَبَابِ الْبَرِيدِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، فَاسْتَمَرَّتْ نَحْوَ الْعَشَرَةِ أَيَّامٍ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ حَادِيَ عَشَرَ شَوَّالٍ خُلِعَ عَلَى الشَّيْخِ عَلَاءِ الدِّينِ الْأَنْصَارِيِّ

بِإِعَادَةِ الْحِسْبَةِ إِلَيْهِ، وَعُزِلَ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ الشَّيْرَجِيِّ، وَخَرَجَ الْمَحْمَلُ يَوْمَ الْخَمِيسِ سَادِسَ عَشَرَ شَوَّالٍ عَلَى الْعَادَةِ، وَالْأَمِيرُ مُصْطَفَى الْبِيزِيُّ.
وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعَةُ أُمَرَاءَ بِدِمَشْقَ، وَهُمْ قَشْتَمُرْزَفَرُ، وَطَيْبُغَا الْفِيلُ، وَنَوْرُوزُ أَحَدُ مُقَدَّمِي الْأُلُوفِ، وَتَمُرُ الْمَهْمَنْدَارُ وَقَدْ كَانَ مُقَدَّمَ أَلْفٍ، وَحَاجِبَ الْحُجَّابِ وَعَمِلَ نِيَابَةَ غَزَّةَ فِي وَقْتٍ، ثُمَّ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ الْمِصْرِيُّونَ، فَعَزَلُوهُ عَنِ الْإِمْرَةِ، وَكَانَ مَرِيضًا، فَاسْتَمَرَّ مَرِيضًا، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَدُفِنَ يَوْمَ السَّبْتِ بِتُرْبَتِهِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بِالصُّوفِيَّةِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُدْفَنْ فِيهَا بَلْ عَلَى بَابِهَا، كَأَنَّهُ تَوَرَّعَ أَوْ نَدِمَ عَلَى بِنَائِهَا فَوْقَ قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ.
وَتُوُفِّيَ الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الْأَقْوَشِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ، وَدُفِنَ بِالْقُبَيْبَاتِ، وَقَدْ نَابَ بِبَعْلَبَكَّ وَبِحِمْصَ، ثُمَّ قُطِعَ خُبْزُهُ هُوَ وَأَخُوهُ كُجْكُنُ، وَنُفُوا عَنِ الْبَلَدِ إِلَى بُلْدَانٍ شَتَّى، ثُمَّ رَضِيَ عَنْهُمُ الْأَمِيرُ يَلْبُغَا، وَأَعَادَ عَلَيْهِمْ أَخَبَّازَا بِطَبْلَخَانَاهْ، فَمَا لَبِثَ نَاصِرُ الدِّينِ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى تُوُفِّيَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَثَّرَ آثَارًا حَسَنَةً كَثِيرَةً مِنْهَا عِنْدَ عَقَبَةِ الرُّمَّانَةِ خَانٌ مَلِيحٌ نَافِعٌ، وَلَهُ بِبَعْلَبَكَّ جَامِعٌ وَحَمَّامٌ وَخَانٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ سِتٌّ وَخَمْسُونَ سَنَةً.

وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ دَرَّسَ الْقَاضِي نُورُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ بَهَاءِ الدِّينِ بْنِ أَبِي الْبَقَاءِ الشَّافِعِيُّ بِالْمَدْرَسَةِ الْأَتَابَكِيَّةِ، نَزَلَ لَهُ عَنْهَا وَالِدُهُ بِتَوْقِيعٍ سُلْطَانِيٍّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ، وَأَخَذَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [ الْبَقَرَةِ: 197 ]، وَفِي هَذَا الْيَوْمِ دَرَّسَ الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّابُلُسِيُّ الشَّافِعِيُّ - الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْجَابِي - بِالْمَدْرَسَةِ الْعَصْرُونِيَّةِ، اسْتَنْزَلَ لَهُ عَنْهَا الْقَاضِي أَمِينُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ فِي مُصَادَرَاتِهِ. وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ دَرَّسَ الْقَاضِي وَلِيُّ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْقَاضِي بَهَاءِ الدِّينِ أَبِي الْبَقَاءِ بِالْمَدْرَسَتَيْنِ الرَّوَاحِيَّةِ ثُمَّ الْقَيْمَرِيَّةِ; نَزَلَ لَهُ عَنْهُمَا وَالِدُهُ الْمَذْكُورُ بِتَوْقِيعٍ سُلْطَانِيٍّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ فِيهِمَا الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْخَمِيسِ سَلْخِ شَوَّالٍ شُهِّرَ الشَّيْخُ أَسَدٌ ابْنُ الشَّيْخِ الْكُرْدِيِّ عَلَى جَمَلٍ، وَطِيفَ بِهِ فِي حَوَاضِرِ الْبَلَدِ، وَنُودِيَ عَلَيْهِ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ يُخَامِرُ عَلَى السُّلْطَانِ، وَيُفْسِدُ نُوَّابَ السُّلْطَانِ، ثُمَّ أُنْزِلَ عَنِ الْجَمَلِ، وَحُمِلَ عَلَى حِمَارٍ، وَطِيفَ بِهِ فِي الْبَلَدِ، وَنُودِيَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، ثُمَّ أُلْزِمَ السِّجْنَ، وَطُلِبَ مِنْهُ مَالٌ جَزِيلٌ، وَقَدْ كَانَ الْمَذْكُورُ مِنْ أَعْوَانِ بَيْدَمُرَ - الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ - وَأَنْصَارِهِ، وَكَانَ هُوَ الْمُتَسَلِّمَ لِلْقَلْعَةِ فِي أَيَّامِهِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ حَادِيَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ خُلِعَ عَلَى قَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرِ الدِّينِ بْنِ أَبِي الْفَتْحِ بِقَضَاءِ الْعَسْكَرِ الَّذِي كَانَ مُتَوَفِّرًا عَنْ عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ شَمَرْنُوخَ، وَهَنَّأَهُ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَرَكِبَ الْبَغْلَةَ بِالزُّنَّارِيِّ مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ نِيَابَةِ

الْحُكْمِ، وَالتَّدْرِيسِ. وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ عَشَرَهُ أُعِيدَ تَدْرِيسُ الرُّكْنِيَّةِ بِالصَّالِحِيَّةِ إِلَى قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفِ الدِّينِ الْكَفْرِيِّ الْحَنَفِيِّ; اسْتَرْجَعَهَا بِمَرْسُومٍ شَرِيفٍ سُلْطَانِيٍّ مِنْ يَدِ الْقَاضِي عِمَادِ الدِّينِ بْنِ الْعِزِّ، وَخُلِعَ عَلَى الْكَفْرِيِّ، وَذَهَبَ النَّاسُ إِلَيْهِ لِلتَّهْنِئَةِ بِالْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَفِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ اشْتَهَرَ وُقُوعُ فِتَنٍ بَيْنَ الْفَلَّاحِينَ بِنَاحِيَةِ عَجْلُونَ، وَأَنَّهُمُ اقْتَتَلُوا فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْيَمَنِيِّ - وَالْقَيْسِيِّ - طَائِفَةٌ، وَأَنَّ عَيْنَ حِينَا الَّتِي هِيَ شَرْقِيُّ عَجْلُونَ دُمِّرَتْ وَخُرِّبَتْ، وَقُطِعَ أَشْجَارُهَا، وَدُمِّرَتْ بِالْكُلِّيَّةِ. وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ السَّبْتِ الثَّانِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لَمْ تُفْتَحْ أَبْوَابُ دِمَشْقَ إِلَى مَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَكَانَ سَبَبُهُ الِاحْتِيَاطُ عَلَى أَمِيرٍ يُقَالُ لَهُ: كَسَغَا، كَانَ يُرِيدُ الْهَرَبَ إِلَى بِلَادِ الشَّرْقِ، فَاحْتِيطَ عَلَيْهِ حَتَّى أَمْسَكُوهُ.
وَفِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ قَدِمَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طَازْ مِنَ الْقُدْسِ فَنَزَلَ بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، وَقَدْ عَمِيَ مِنَ الْكُحْلِ حِينَ كَانَ مَسْجُونًا بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَأُطْلِقَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَنَزَلَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ مُدَّةً، ثُمَّ جَاءَهُ تَقْلِيدٌ بِأَنَّهُ يَكُونُ طَرْخَانًا يَنْزِلُ حَيْثُ شَاءَ مِنْ بِلَادِ السُّلْطَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ دِيَارَ مِصْرَ، فَجَاءَ فَنَزَلَ بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، وَجَاءَ النَّاسُ إِلَيْهِ عَلَى طَبَقَاتِهِمْ; نَائِبُ السَّلْطَنَةِ فَمَنْ دُونَهُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يُبْصِرُ شَيْئًا، وَهُوَ عَلَى عَزْمٍ أَنْ يَشْتَرِيَ أَوْ يَسْتَكْرِيَ لَهُ دَارًا بِدِمَشْقَ يَسْكُنُهَا.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالشَّامِيَّةِ، وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَمَا وَالَاهُمَا مِنَ الْمَمَالِكِ الْإِسْلَامِيَّةِ - السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ صَلَاحُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ ابْنُ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ أَمِيرِ حَاجِّ ابْنِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، وَهُوَ شَابٌّ دُونَ الْعِشْرِينَ، وَمُدَبِّرُ الْمَمَالِكِ بَيْنَ يَدَيْهِ الْأَمِيرُ يَلْبُغَا، وَنَائِبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ قُشْتُمُرُ، وَقُضَاتُهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَالْوَزِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قَرَوِينَةُ، وَهُوَ مَرِيضٌ مُدْنِفٌ، وَنَائِبُ الشَّامِ بِدِمَشْقَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ الْمَارِدَانِيُّ، وَقُضَاتُهُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَكَذَلِكَ الْخَطِيبُ، وَوَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ، وَالْمُحْتَسِبُ عَلَاءُ الدِّينِ الْأَنْصَارِيُّ، عَادَ إِلَيْهَا فِي السَّنَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، وَحَاجِبُ الْحُجَّابِ قُمَارِيُّ، وَالَّذِي يَلِيهِ السُّلَيْمَانِيُّ، وَآخَرُ مِنْ مِصْرَ أَيْضًا، وَكَاتِبُ السِّرِّ الْقَاضِي نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْحَلَبِيُّ، وَنَاظِرُ الْجَامِعِ الْقَاضِي تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ مَرَاجِلٍ. وَأَخْبَرَنِي قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ

جُدِّدَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ قَاضٍ حَنَفِيٍّ بِمَدِينَةِ صَفَدَ الْمَحْرُوسَةِ مَعَ الشَّافِعِيِّ، فَصَارَ فِي كُلٍّ مِنْ حَمَاةَ وَطَرَابُلُسَ وَصَفَدَ قَاضِيَانِ; شَافِعِيٌّ، وَحَنَفِيٌّ.
وَفِي ثَانِي الْمُحَرَّمِ قَدِمَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بَعْدَ غَيْبَةِ نَحْوٍ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَدْ أَوَطَأَ بِلَادَ قُرْيَرَ بِالرُّعْبِ، وَأَخَذَ مِنْ مُقَدَّمِيهِمْ طَائِفَةً فَأَوْدَعَهُمُ الْحَبْسَ، وَكَانَ قَدِ اشْتَهَرَ أَنَّهُ قَصَدَ الْعَشِيرَاتِ الْمُوَاسِينَ بِبِلَادِ عَجْلُونَ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ حِينَ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ نَاحِيَةَ قُرْيَرَ، وَأَنَّ الْعَشِيرَاتِ قَدِ اصْطَلَحُوا، وَاتَّفَقُوا، وَأَنَّ التَّجْرِيدَةَ عِنْدَهُمْ هُنَاكَ، وَقَدْ كَبَسَ الْأَعْرَابُ مِنْ حَرَمِ التُّرْكِ فَهَزَمَهُمُ التَّرْكُ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ ظَهَرَ لِلْعَرَبِ كَمِينٌ فَلَجَأَ التُّرْكُ إِلَى وَادٍ حَرِجٍ فَحَصَرُوهُمْ هُنَالِكَ، ثُمَّ وَلَّتِ الْأَعْرَابُ فِرَارًا، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ التُّرْكِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا جُرِحَ مِنْهُمْ أَمِيرٌ وَاحِدٌ فَقَطْ، وَقُتِلَ مِنَ الْأَعْرَابِ فَوْقَ الْخَمْسِينَ نَفْسًا.
وَقَدِمَ الْحُجَّاجُ يَوْمَ الْأَحَدِ الثَّانِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَدَخَلَ الْمَحْمَلُ السُّلْطَانِيُّ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَلَمْ يُحْتَفَلْ لِدُخُولِهِ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ; وَذَلِكَ لِشِدَّةِ مَا نَالَ الرَّكْبِ فِي الرَّجْعَةِ مِنْ زَيْزَاءَ إِلَى هُنَا مِنَ الْبَرْدِ الشَّدِيدِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ مِنْهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ نَحْوَ الْمِائَةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلَكِنْ أَخْبَرُوا بِرُخْصٍ كَثِيرٍ، وَأَمْنٍ، وَبِمَوْتِ ثُقْبَةَ أَخِي عَجْلَانَ صَاحِبِ مَكَّةَ، وَقَدِ اسْتَبْشَرَ بِمَوْتِهِ

أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ لِبَغْيِهِ عَلَى أَخِيهِ عَجْلَانَ الْعَادِلِ فِيهِمْ.

مَنَامٌ غَرِيبٌ جِدًّا
وَرَأَيْتُ - يَعْنِي الْمُصَنِّفَ - فِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ الثَّانِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ الشَّيْخَ مُحْيِيَ الدِّينِ النَّوَاوِيَّ، رَحِمَهُ اللَّهُ فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَيِّدِي الشَّيْخُ، لِمَ لَا أَدْخَلْتَ فِي شَرْحِكَ " الْمُهَذَّبِ " شَيْئًا مِنْ مُصَنَّفَاتِ ابْنِ حَزْمٍ، فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّهُ، فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ مَعْذُورٌ فِيهِ، فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ طَرَفَيِ النَّقِيضَيْنِ فِي أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، أَمَّا هُوَ فِي الْفُرُوعِ فَظَاهِرِيٌّ جَامِدٌ يَابِسٌ، وَفِي الْأُصُولِ تَوَلٌ مَائِعٌ، قَرْمَطَةُ الْقَرَامِطَةِ، وَهُرْمُسُ الْهَرَامِسَةِ، وَرَفَعْتُ بِهَا صَوْتِي حَتَّى سُمِعْتُ وَأَنَا نَائِمٌ، ثُمَّ أَشَرْتُ لَهُ إِلَى أَرْضٍ خَضْرَاءَ تُشْبِهُ النَّجِيلَ بَلْ هِيَ أَرْدَأُ شَكْلًا مِنْهُ، لَا يُنْتَفَعُ بِهَا فِي اسْتِغْلَالٍ وَلَا رَعْيٍ، فَقُلْتُ لَهُ: هَذِهِ أَرْضُ ابْنِ حَزْمٍ الَّتِي زَرَعَهَا، قَالَ: انْظُرْ هَلْ تَرَى فِيهَا شَجَرًا مُثْمِرًا أَوْ شَيْئًا يُنْتَفَعُ بِهِ ؟ فَقُلْتُ: إِنَّمَا تَصْلُحُ لِلْجُلُوسِ عَلَيْهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ. فَهَذَا حَاصِلُ مَا رَأَيْتُهُ، وَوَقَعَ فِي خَلَدِي أَنَّ ابْنَ حَزْمٍ كَانَ حَاضِرَنَا عِنْدَمَا أَشَرْتُ لِلشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ إِلَى الْأَرْضِ الْمَنْسُوبَةِ لِابْنِ حَزْمٍ، وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ.

وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ خُلِعَ عَلَى الْقَاضِي عِمَادِ الدِّينِ بْنِ الشَّيْرَجِيِّ بِعَوْدِ الْحِسْبَةِ إِلَيْهِ; بِسَبَبِ ضَعْفِ عَلَاءِ الدِّينِ الْأَنْصَارِيِّ عَنِ الْقِيَامِ بِهَا; لِشُغْلِهِ بِالْمَرَضِ الْمُدْنِفِ، وَهَنَّأَهُ النَّاسُ عَلَى الْعَادَةِ.
وَفِي لَيْلَةِ السَّبْتِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْأَنْصَارِيُّ، الْمَذْكُورُ بِالْمَدْرَسَةِ الْأَمِينِيَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ الظُّهْرَ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ خَلْفَ مِحْرَابِ جَامِعِ جَرَاحٍ، فِي تُرْبَةٍ هُنَالِكَ، وَقَدْ جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَدَرَّسَ فِي الْأَمِينِيَّةِ، وَفِي الْحِسْبَةِ مَرَّتَيْنِ، وَتَرَكَ أَوْلَادًا صِغَارًا، وَأَمْوَالًا جَزِيلَةً، سَامَحَهُ اللَّهُ وَرَحِمَهُ، وَوَلِيَ الْمَدْرَسَةَ بَعْدَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ بْنُ السُّبْكِيِّ بِمَرْسُومٍ كَرِيمٍ شَرِيفٍ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ صَفَرٍ بَلَغَنَا وَفَاةُ قَاضِي قُضَاةِ الْمَالِكِيَّةِ الْأَخْنَائِيِّ بِمِصْرَ، وَتَوْلِيَةُ أَخِيهِ بُرْهَانِ الدِّينِ ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ عَلَمِ الدِّينِ الْأَخْنَائِيِّ الشَّافِعِيِّ أَبُوهُ - قَاضِيًا مَكَانَ أَخِيهِ، وَقَدْ كَانَ عَلَى الْحِسْبَةِ بِمِصْرَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ فِيهَا، وَأُضِيفَ إِلَيْهِ نَظَرُ الْخِزَانَةِ كَمَا كَانَ أَخُوهُ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَحَدِ رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ كَانَ ابْتِدَاءُ حُضُورِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ أَبِي نَصْرٍ عَبْدِ الْوَهَّابِ ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْكَافِي السُّبْكِيِّ الشَّافِعِيِّ - تَدْرِيسَ الْأَمِينِيَّةِ عِوَضًا عَنِ الشَّيْخِ

عَلَاءِ الدِّينِ الْمُحْتَسِبِ، بِحُكْمِ وَفَاتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا ذَكَرْنَا، وَحَضَرَ عِنْدَهُ خَلْقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْأُمَرَاءِ، وَالْفُقَهَاءِ، وَالْعَامَّةِ، وَكَانَ دَرْسًا حَافِلًا، أَخَذَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا [ النِّسَاءِ: 54 ]. فَاسْتَنْبَطَ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، وَذَكَرَ ضَرْبًا مِنَ الْعُلُومِ بِعِبَارَةٍ طَلْقَةٍ جَارِيَةٍ مَعْسُولَةٍ، أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَلَعْثُمٍ، وَلَا تَلَجْلُجٍ، وَلَا تَكَلُّفٍ، فَأَجَادَ، وَأَفَادَ، وَشَكَرَهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ مِنَ الْحَاضِرِينَ، وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ دَرْسًا مِثْلَهُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ تُوُفِّيَ الصَّدْرُ بُرْهَانُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ لُؤْلُؤٍ الْحَوْضِيُّ، فِي دَارِهِ بِالْقَصَّاعِينَ، وَلَمْ يَمْرَضْ إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَخَرَجُوا بِهِ مِنْ بَابِ النَّصْرِ، فَخَرَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ عَلِيٌّ، فَصَلَّى عَلَيْهِ إِمَامًا خَارِجَ بَابِ النَّصْرِ، ثُمَّ ذَهَبُوا بِهِ فَدَفَنُوهُ بِمَقَابِرِهِمْ بِبَابِ الصَّغِيرِ، فَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ مُرُوءَةٌ، وَقِيَامٌ مَعَ النَّاسِ، وَلَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ الدَّوْلَةِ، وَقَبُولٌ عِنْدَ نُوَّابِ السَّلْطَنَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَيُحِبُّ الْعُلَمَاءَ وَأَهْلَ الْخَيْرِ، وَيُوَاظِبُ عَلَى سَمَاعِ مَوَاعِيدِ الْحَدِيثِ وَالْخَيْرِ، وَكَانَ لَهُ مَالٌ، وَثَرْوَةٌ، وَمَعْرُوفٌ، وَقَارَبَ الثَّمَانِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَجَاءَ الْبَرِيدُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَأَخْبَرَ بِمَوْتِ الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ

النَّقَّاشِ الْمِصْرِيِّ بِهَا، وَكَانَ وَاعِظًا بَاهِرًا، وَفَقِيهًا بَارِعًا، نَحْوِيًّا شَاعِرًا، لَهُ يَدٌ طُولَى فِي فُنُونٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَقُدْرَةٌ عَلَى نَسْجِ الْكَلَامِ، وَدُخُولٌ عَلَى الدَّوْلَةِ وَتَحْصِيلُ الْأَمْوَالِ، وَهُوَ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَرْبَعِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَأَخْبَرَ الْبَرِيدُ بِوِلَايَةِ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفِ الدِّينِ الْمَالِكِيِّ الْبَغْدَادِيِّ، الَّذِي كَانَ قَاضِيًا بِالشَّامِ لِلْمَالِكِيَّةِ، ثُمَّ عُزِلَ بِنَظَرِ الْخِزَانَةِ بِمِصْرَ، فَإِنَّهُ رُتِّبَ لَهُ مَعْلُومٌ وَافِرٌ يَكْفِيهِ، وَيَفْضُلُ عَنْهُ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ مَنْ يُحِبُّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ تُوُفِّيَ الرَّئِيسُ أَمِينُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّدْرِ جَمَالِ الدِّينِ أَحْمَدَ ابْنِ الرَّئِيسِ شَرَفِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَلَانِسِيِّ، أَحَدُ مَنْ بَقِيَ مِنْ رُؤَسَاءِ الْبَلَدِ وَكُبَرَائِهَا، وَقَدْ كَانَ بَاشَرَ مُبَاشَرَاتٍ كِبَارًا كَأَبِيهِ وَعَمِّهِ عَلَاءِ الدِّينِ، وَلَكِنْ فَاقَ هَذَا عَلَى أَسْلَافِهِ; فَإِنَّهُ بَاشَرَ وَكَالَةَ بَيْتِ الْمَالِ مُدَّةً، وَوَلِيَ قَضَاءَ الْعَسَاكِرِ أَيْضًا، ثُمَّ وَلِيَ كِتَابَةَ السِّرِّ مَعَ مَشْيَخَةِ الشُّيُوخِ، وَتَدْرِيسِ النَّاصِرِيَّةِ، وَالشَّامِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ، وَكَانَ قَدْ دَرَّسَ فِي الْعَصْرُونِيَّةِ مِنْ قَبْلِ سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ السُّلْطَانُ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ

عُزِلَ عَنْ مَنَاصِبِهِ الْكِبَارِ، وَصُودِرَ بِمَبْلَغٍ كَثِيرٍ يُقَارِبُ مِائَتَيْ أَلْفٍ، فَبَاعَ كَثِيرًا مِنْ أَمْلَاكِهِ، وَمَا بَقِيَ بِيَدِهِ مِنْ وَظَائِفِهِ شَيْءٌ، وَبَقِيَ خَامِلًا مُدَّةً إِلَى يَوْمِهِ هَذَا، فَتُوُفِّيَ بَغْتَةً، وَكَانَ قَدْ تَشَوَّشَ قَلِيلًا لَمْ يَشْعُرْ بِهِ أَحَدٌ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ الْعَصْرَ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَخَرَجُوا بِهِ مِنْ بَابِ النَّاطَفَانِيِّينَ إِلَى تُرْبَتِهِمُ الَّتِي بِسَفْحِ قَاسِيُونَ - رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ عَشَرَهُ خُلِعَ عَلَى الْقَاضِي جَمَالِ الدِّينِ ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفِ الدِّينِ الْكَفْرِيِّ الْحَنَفِيِّ، وَجُعِلَ مَعَ أَبِيهِ شَرِيكًا فِي الْقَضَاءِ، وَلُقِّبَ فِي التَّوْقِيعِ الْوَارِدِ صُحْبَةَ الْبَرِيدِ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ: قَاضِي الْقُضَاةِ. فَلَبِسَ الْخِلْعَةَ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَجَاءَ وَمَعَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ إِلَى النُّورِيَّةِ، فَقَعَدَ فِي الْمَسْجِدِ، وَوُضِعَتِ الرَّبْعَةُ فَقُرِئَتْ، وَقُرِئَ الْقُرْآنُ، وَلَمْ يَكُنْ دَرْسًا، وَجَاءَتِ النَّاسُ لِلتَّهْنِئَةِ بِمَا حَصَلَ مِنَ الْوِلَايَةِ لَهُ مَعَ أَبِيهِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ الْخَاشِعُ فَتْحُ الدِّينِ ابْنُ الشَّيْخِ زَيْنِ الدِّينِ الْفَارِقِيُّ، إِمَامُ دَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ، وَخَازِنُ الْأَثَرِ بِهَا، وَمُؤَذِّنٌ فِي الْجَامِعِ، وَقَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ تِسْعُونَ سَنَةً فِي خَيْرٍ وَصِيَانَةٍ وَتِلَاوَةٍ وَصَلَاةٍ كَثِيرَةٍ، وَانْجِمَاعٍ عَنِ النَّاسِ، صُلِّيَ عَلَيْهِ صَبِيحَةَ يَوْمَئِذٍ، وَخُرِجَ بِهِ مِنْ بَابِ النَّصْرِ إِلَى نَحْوِ الصَّالِحِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ عَاشِرِ جُمَادَى الْأُولَى وَرَدَ الْبَرِيدُ - وَهُوَ قَرَابُغَا دَوَادَارَ نَائِبُ الشَّامِ الصَّغِيرُ - وَمَعَهُ تَقْلِيدٌ بِقَضَاءِ قُضَاةِ الْحَنَفِيَّةِ لِلشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ

يُوسُفَ ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفِ الدِّينِ الْكَفْرِيِّ، بِمُقْتَضَى نُزُولِ أَبِيهِ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَبِسَ الْخِلْعَةَ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَأُجْلِسَ تَحْتَ الْمَالِكِيِّ، ثُمَّ جَاءُوا إِلَى الْمَقْصُورَةِ مِنَ الْجَامِعِ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ هُنَالِكَ، قَرَأَهُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ السُّبْكِيِّ نَائِبُ الْحِسْبَةِ، وَاسْتَنَابَ اثْنَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِمْ; وَهُمَا شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مَنْصُورٍ، وَبَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْجُوَاشِنِيِّ، ثُمَّ جَاءَ مَعَهُ الْقُضَاةُ إِلَى النُّورِيَّةِ فَدَرَّسَ بِهَا، وَلَمْ يَحْضُرْهُ وَالِدُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

مَوْتُ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ
كَانَ ذَلِكَ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى بِالْقَاهِرَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ، أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ الشَّافِعِيُّ، عَنْ كِتَابِ أَخِيهِ الشَّيْخِ بَهَاءِ الدِّينِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

خِلَافَةُ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ
ثُمَّ بُويِعَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ عَلِيٌّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ

أَبِي بَكْرٍ أَبِي الْفَتْحِ بْنِ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ أَبِي الرَّبِيعِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ، رَحِمَ اللَّهُ أَسْلَافَهُ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى تَوَجَّهَ الرَّسُولُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَمَعَهُ سَنَاجِقُ خَلِيفَتِيَّةٌ، وَسُلْطَانِيَّةٌ، وَتَقَالِيدُ، وَخِلَعُ، وَتُحَفٌ لِصَاحِبَيِ الْمَوْصِلِ وَسِنْجَارَ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ مِصْرَ لِيَخْطَبَ لَهُ فِيهِمَا، وَوَلَّى قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ الشَّافِعِيُّ السُّبْكِيُّ الْحَاكِمُ بِدِمَشْقَ لِقَاضِيهِمَا مِنْ جِهَتِهِ تَقْلِيدَيْنِ - حَسَبَ مَا أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ - وَأُرْسِلَا مَعَ مَا أَرْسَلَ بِهِ السُّلْطَانُ إِلَى الْبَلَدَيْنِ، وَهَذَا أَمْرٌ غَرِيبٌ لَمْ يَقَعْ مِثْلُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ فِيمَا أَعْلَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ خَرَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ إِلَى مَرْجِ الْغَسُولَةِ، وَمَعَهُ حَجَبَتُهُ، وَنُقَبَاءُ النُّقَبَاءِ، وَكَاتِبُ السِّرِّ وَذَوُوهُ، وَمِنْ عَزْمِهِمُ الْإِقَامَةُ مُدَّةً، فَقَدِمَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَمِيرٌ عَلَى الْبَرِيدِ، فَأَسْرَعُوا الْأَوْبَةَ، فَدَخَلُوا فِي صَبِيحَةِ الْأَحَدِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، وَأَصْبَحَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ فَحَضَرَ الْمَوْكِبَ عَلَى الْعَادَةِ، وَخَلَعَ عَلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ يَلْبُغَا الصَّالِحِيِّ، وَجَاءَ النَّصُّ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِخِلْعَةِ دَوَادَارَ، عِوَضًا عَنْ سَيْفِ الدِّينِ كُجْكُنَ، وَخُلِعَ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى الصَّدْرِ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ مَزِيَ بِتَوْقِيعِ الدَّسْتِ، وُجِهَاتٍ أُخَرَ، قُدِمَ بِهَا مِنَ الدِّيَارِ

الْمِصْرِيَّةِ، فَانْتَشَرَ الْخَبَرُ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِإِجْلَاسِ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الْكَفْرِيِّ الْحَنَفِيِّ، فَوْقَ قَاضِي الْقُضَاةِ الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنْ لَمْ يَحْضُرْ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا قَدْ أُمِرَ بِإِجْلَاسِ الْمَالِكِيِّ فَوْقَهُ.
وَفِي ثَانِي رَجَبٍ تُوُفِّيَ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْعَالِمُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مُفْلِحٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، نَائِبُ مَشْيَخَةِ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيِّ الْحَنْبَلِيِّ، وَزَوْجُ ابْنَتِهِ، وَلَهُ مِنْهَا سَبْعَةُ أَوْلَادٍ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ، وَكَانَ بَارِعًا فَاضِلًا مُتَفَنِّنًا فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ، وَلَا سِيَّمَا عَلِمُ الْفُرُوعِ، كَانَ غَايَةً فِي نَقْلِ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَجَمَعَ مُصَنَّفَاتٍ كَثِيرَةً; مِنْهَا عَلَى كِتَابِ " الْمُقْنِعِ " نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ مُجَلَّدًا، كَمَا أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ عَنْهُ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ، وَعَلَّقَ عَلَى مَحْفُوظِهِ أَحْكَامَ الشَّيْخِ مَجْدِ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مُجَلَّدَيْنِ، وَلَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالتَّعْلِيقَاتِ - رَحِمَهُ اللَّهُ. تُوُفِّيَ عَنْ نَحْوِ خَمْسِينَ سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَانِيَ الشَّهْرِ بِالْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الشَّيْخِ الْمُوَفَّقِ، وَكَانَتْ لَهُ جِنَازَةٌ حَافِلَةٌ حَضَرَهَا الْقُضَاةُ كُلُّهُمْ، وَخَلْقٌ مِنَ الْأَعْيَانِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ السَّبْتِ رَابِعِ رَجَبٍ ضَرَبَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ

قَبْرِ عَاتِكَةَ أَسَاءُوا الْأَدَبَ عَلَى النَّائِبِ وَمَمَالِيكِهِ، بِسَبَبِ جَامِعٍ لِلْخُطْبَةِ جُدِّدَ بِنَاحِيَتِهِمْ، فَأَرَادَ بَعْضُ الْفُقَرَاءِ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ الْجَامِعَ، وَيَجْعَلَهُ زَاوِيَةً لِلرَّقَّاصِينَ، فَحَكَمَ الْقَاضِي الْحَنْبَلِيُّ بِجَعْلِهِ جَامِعًا قَدْ نُصِبَ فِيهِ مِنْبَرٌ، وَقَدْ قَدِمَ شَيْخٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ عَلَى يَدَيْهِ مَرْسُومٌ شَرِيفٌ بِتَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ، فَأَنِفَتْ أَنْفُسُ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ مِنْ عَوْدِهِ زَاوِيَةً بَعْدَ مَا كَانَ جَامِعًا، وَأَعْظَمُوا ذَلِكَ، فَتَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ بِكَلَامٍ سَيِّئٍ فَاسْتَحْضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ طَائِفَةً مِنْهُمْ، وَضَرَبَهُمْ بِالْمُقَارِعِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَنُودِيَ عَلَيْهِمْ فِي الْبَلَدِ، فَأَرَادَ بَعْضُ الْعَامَّةِ إِنْكَارًا لِذَلِكَ، وَحُدِّدَ مِيعَادُ حَدِيثٍ يُقْرَأُ بَعْدَ الْمَغْرِبِ تَحْتَ قُبَّةِ النَّسْرِ عَلَى الْكُرْسِيِّ الَّذِي يُقْرَأُ عَلَيْهِ الْمُصْحَفُ، رَتَّبَهُ أَحَدُ أَوْلَادِ الْقَاضِي عِمَادِ الدِّينِ بْنِ الشِّيرَازِيِّ، وَحَدَّثَ فِيهِ الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ السَّرَّاجِ، وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَقَرَأَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ خَطِّي، وَذَلِكَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ.

أُعْجُوبَةٌ مِنَ الْعَجَائِبِ
وَحَضَرَ شَابٌّ عَجَمِيٌّ مِنْ بِلَادِ تَبْرِيزَ وَخُرَاسَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَحْفَظُ " الْبُخَارِيَّ "، وَ " مُسْلِمًا "، وَ " جَامِعَ الْمَسَانِيدِ "، وَ " الْكَشَّافَ " لِلزَّمَخْشَرِيِّ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ

مَحَافِيظَ فِي فُنُونٍ أُخَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ سَلْخَ شَهْرِ رَجَبٍ قَرَأَ - فِي الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ بِالْحَائِطِ الشَّمَالِيِّ مِنْهُ عِنْدَ بَابِ الْكَلَّاسَةِ - عَلَيَّ مِنْ أَوَّلِ " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " إِلَى أَثْنَاءِ كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْهُ مِنْ حِفْظِهِ، وَأَنَا أُقَابِلُ عَلَيْهِ مِنْ نُسْخَةٍ بِيَدِي فَأَدَّى جَيِّدًا، غَيْرَ أَنَّهُ يُصَحِّفُ بَعْضَ الْكَلِمَاتِ لِعُجْمٍ فِيهِ، وَرُبَّمَا لَحَنَ أَيْضًا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَاجْتَمَعَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحْدَثِينَ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ جَمَاعَةً كَثِيرِينَ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: إِنْ سَرَدَ بَقِيَّةَ الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ لَعَظِيمٌ جِدًّا، ثُمَّ اجْتَمَعْنَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي - وَهُوَ مُسْتَهَلُّ شَعْبَانَ - فِي الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ، وَحَضَرَ قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّافِعِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُضَلَاءِ، وَاجْتَمَعَ الْعَامَّةُ مُحْدِقِينَ، فَقَرَأَ عَلَى الْعَادَةِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُطَوِّلْ كَأَوَّلِ يَوْمٍ، وَسَقَطَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ، وَصَحَّفَ، وَلَحَنَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ، ثُمَّ جَاءَ الْقَاضِيَانِ - الْحَنَفِيُّ وَالْمَالِكِيُّ - فَقَرَأَ بِحَضْرَتِهِمَا أَيْضًا بَعْضَ الشَّيْءِ، هَذَا وَالْعَامَّةُ مُحْتَفُونَ بِهِ مُتَعَجِّبُونَ مِنْ أَمْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَقَرَّبُ بِتَقْبِيلِ يَدَيْهِ، وَفَرِحَ بِكِتَابَتِي لَهُ بِالسَّمَاعِ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَقَالَ: أَنَا مَا خَرَجْتُ مِنْ بِلَادِي إِلَّا إِلَى الْقَصْدِ إِلَيْكَ، وَأَنْ تُجِيزَنِي، وَذِكْرُكَ فِي بِلَادِنَا مَشْهُورٌ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِصْرَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ كَارَمَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ بِشَيْءٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ يُقَارِبُ الْأَلْفَ.

عَزْلُ الْأَمِيرِ عَلِيٍّ عَنْ نِيَابَةِ دِمَشْقَ
فِي يَوْمِ الْأَحَدِ حَادِيَ عَشَرَ شَعْبَانَ وَرَدَ الْبَرِيدُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَعَلَى يَدَيْهِ مَرْسُومٌ شَرِيفٌ بِعَزْلِ الْأَمِيرِ عَلِيٍّ عَنْ نِيَابَةِ دِمَشْقَ، فَأُحْضِرَ الْأُمَرَاءُ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، وَقُرِئَ الْمَرْسُومُ الشَّرِيفُ عَلَيْهِمْ بِحُضُورِهِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ خِلْعَةٌ وَرَدَتْ مَعَ الْبَرِيدِ، وَرُسِمَ لَهُ بِقَرْيَةِ دُومَةَ، وَأُخْرَى فِي بِلَادِ طَرَابُلُسَ عَلَى سَبِيلِ الرَّاتِبِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي أَيِّ الْبِلَادِ شَاءَ مِنْ دِمَشْقَ أَوِ الْقُدْسِ أَوِ الْحِجَازِ، فَانْتَقَلَ مِنْ يَوْمِهِ مِنْ دَارِ السَّعَادَةِ وَبِبَاقِي أَصْحَابِهِ وَمَمَالِيكِهِ، وَاسْتَقَرَّ نُزُولُهُ فِي دَارِ الْخَلِيلِيِّ بِالْقَصَّاعِينَ الَّتِي جَدَّدَهَا وَزَادَ فِيهَا دُوَيْدَارُهْ يَلْبُغَا، وَهِيَ دَارٌ هَائِلَةٌ، وَرَاحَ النَّاسُ لِلتَّأَسُّفِ عَلَيْهِ وَالْحُزْنِ لَهُ.

طَلَبُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ السُّبْكِيِّ الشَّافِعِيِّ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَعْزُولًا عَنْ قَضَاءِ دِمَشْقَ
وَرَدَ الْبَرِيدُ بِطَلَبِهِ مِنْ أَخَرِ نَهَارِ الْأَحَدِ بَعْدَ الْعَصْرِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ

ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ حَاجِبُ الْحُجَّابِ قُمَارِيُّ، وَهُوَ نَائِبُ الْغَيْبَةِ أَنْ يُسَافِرَ مِنْ يَوْمِهِ، فَاسْتَنْظَرَهُمْ إِلَى الْغَدِ فَأُمْهِلَ، وَقَدْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِوِلَايَةِ أَخِيهِ الشَّيْخِ بَهَاءِ الدِّينِ بْنِ السُّبْكِيِّ بِقَضَاءِ دِمَشْقَ عِوَضًا عَنْ أَخِيهِ تَاجِ الدِّينِ، وَأَرْسَلَ يَسْتَنِيبُ ابْنَ أُخْتِهِمَا قَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرَ الدِّينِ فِي التَّأَهُّبِ وَالسَّيْرِ، وَجَاءَ النَّاسُ إِلَيْهِ لِيُوَدِّعُوهُ وَيَسْتَوْحِشُونَ لَهُ، وَرَكِبَ مِنْ بُسْتَانِهِ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَانِيَ عَشَرَ شَعْبَانَ مُتَوَجِّهًا عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ قُضَاةُ الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ، حَتَّى قَاضِي الْقُضَاةِ بَهَاءُ الدِّينِ أَبُو الْبَقَاءِ السُّبْكِيُّ، حَتَّى رَدَّهُمْ قَرِيبًا مِنَ الْجَسُورَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَاوَزَهَا، وَاللَّهُ الْمَسْئُولُ فِي حُسْنِ الْخَاتِمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

أُعْجُوبَةٌ أُخْرَى غَرِيبَةٌ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ الْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ دُعِيتُ إِلَى بُسْتَانِ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الشَّرِيشِيِّ شَيْخِ الشَّافِعِيَّةِ، وَحَضَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ مِنْهُمُ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْمَوْصِلِيِّ الشَّافِعِيُّ، وَالشَّيْخُ الْإِمَامُ

الْعَلَّامَةُ صَلَاحُ الدِّينِ الصَّفَدَيُّ وَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ، وَالشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ الْمَوْصِلِيُّ الشَّافِعِيُّ، وَالشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ مَجْدُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الشِّيرَازِيُّ مِنْ ذُرِّيَّةِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَيْرُوزَابَادِيِّ، وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَوِيِّينَ، وَالْخَطِيبُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ صَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْعِزِّ الْحَنَفِيُّ أَحَدُ الْبُلَغَاءِ الْفُضَلَاءِ، وَالشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ نُورُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ الصَّارِمِ أَحَدُ الْقُرَّاءِ الْمُحَدِّثِينَ الْبُلَغَاءِ، وَأَحْضَرُوا نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ مُجَلَّدًا مِنْ كِتَابِ " الْمُنْتَهَى " فِي اللُّغَةِ لِلتَّمِيمِيِّ الْبَرْمَكِيِّ، وَقْفَ النَّاصِرِيَّةِ، وَحَضَرَ وَلَدُ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الشِّرِيشِيِّ، وَهُوَ الْعَلَّامَةُ بَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ، وَاجْتَمَعْنَا كُلُّنَا عَلَيْهِ، وَأَخَذَ كُلٌّ مِنَّا مُجَلَّدًا بِيَدِهِ مِنْ تِلْكَ الْمُجَلَّدَاتِ، ثُمَّ أَخَذْنَا نَسْأَلُهُ عَنْ بُيُوتِ الشِّعْرِ الْمُسْتَشْهَدِ عَلَيْهَا بِهَا، فَيَنْشُرُ كُلًّا مِنْهَا، وَيَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ بِكَلَامٍ مُبِينٍ مُفِيدٍ، فَجَزَمَ الْحَاضِرُونَ وَالسَّامِعُونَ أَنَّهُ يَحْفَظُ جَمِيعَ شَوَاهِدِ اللُّغَةِ، وَلَا يَشِذُّ عَنْهُ مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيلُ الشَّاذُّ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَائِبِ، وَأَبْلَغِ الْإِغْرَابِ.

دُخُولُ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ سَيْفُ الدِّينِ قُشْتُمُرَ
كَانَ ذَلِكَ فِي مُسْتَهَلِّ رَمَضَانَ يَوْمَ السَّبْتِ ضُحًى، قَدِمَ وَالْحَجَبَةُ بَيْنَ

يَدَيْهِ، وَالْجَيْشُ بِكَمَالِهِ، فَتَقَدَّمَ إِلَى سُوقِ الْخَيْلِ، فَأَوْكَبَ فِيهِ ثُمَّ جَاءَ، وَنَزَلَ عِنْدَ بَابِ النَّصْرِ، وَقَبَّلَ الْعَتَبَةَ، ثُمَّ مَشَى إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، وَالنَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ حَكَمَ فِيهِ أَنْ أَمَرَ بِصَلْبِ الَّذِي كَانَ قَتَلَ بِالْأَمْسِ وَالِيَ الصَّالِحِيَّةِ - وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ - ثُمَّ هَرَبَ فَتَبِعَهُ النَّاسُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ آخَرَ، وَجَرَحَ آخَرِينَ، ثُمَّ تَكَاثَرُوا عَلَيْهِ فَمُسِكَ، وَلَمَّا صُلِبَ طَافُوا بِهِ عَلَى جَمَلٍ إِلَى الصَّالِحِيَّةِ، فَمَاتَ هُنَاكَ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَقَاسَى أَمْرًا شَدِيدًا مِنَ الْعُقُوبَاتِ، وَقَدْ ظَهَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.

قُدُومُ قَاضِي الْقُضَاةِ بَهَاءِ الدِّينِ أَحْمَدَ ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ عِوَضًا عَنْ أَخِيهِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ عَبْدِ الْوَهَّابِ
قَدِمَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ قَبْلَ الْعَصْرِ، فَبَدَأَ بِمَلِكِ الْأُمَرَاءِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَمِيرِ عَلِيٍّ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ الْمَعْزُولِ، وَهُوَ بِدَارِهِ بِالْقَصَّاعِينَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَشَى إِلَى دَارِ الْحَدِيثِ، فَصَلَّى هُنَاكَ، ثُمَّ مَشَى إِلَى الْمَدْرَسَةِ الرُّكْنِيَّةِ، فَنَزَلَ بِهَا عِنْدَ ابْنِ أُخْتِهِ قَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرِ الدِّينِ بْنِ أَبِي الْفَتْحِ - قَاضِي الْعَسَاكِرِ - وَذَهَبَ النَّاسُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَكْرَهُ مَنْ يُلَقِّبُهُ بِقَاضِي الْقُضَاةِ، وَعَلَيْهِ تَوَاضُعٌ، وَتَقَشُّفٌ، وَيَظْهَرُ

عَلَيْهِ تَأَسُّفٌ عَلَى مُفَارَقَةِ بَلَدِهِ وَوَطَنِهِ، وَوَلَدِهِ، وَأَهْلِهِ، وَاللَّهُ الْمَسْئُولُ الْمَأْمُولُ أَنْ يُحْسِنَ الْعَاقِبَةَ.
وَخَرَجَ الْمَحْمَلُ السُّلْطَانِيُّ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَانِيَ عَشَرَ شَوَّالٍ، وَأَمِيرُ الْحَاجِّ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ ابْنُ الْمَلِكِ الْكَامِلِ بْنِ السَّعِيدِ ابْنِ الْعَادِلِ الْكَبِيرِ، وَقَاضِيَهُ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ سَبُعٍ - مُدَرِّسُ الْأَمِينِيَّةِ بِبَعْلَبَكَّ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ وَقَعَ الْحُكْمُ بِعَوْدِ مَا يَخُصُّ الْمُجَاهِدِينَ مِنْ وَقْفِ الْمَدْرَسَةَ التَّقْوِيَّةِ إِلَيْهِمْ، وَأَذِنَ الْقُضَاةُ الْأَرْبَعَةُ إِلَيْهِمْ بِحَضْرَةِ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ فِي ذَلِكَ.
وَفِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ سَادِسِ شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ تُوُفِّيَ الْقَاضِي نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ كَاتِبُ السِّرِّ، وَشَيْخُ الشُّيُوخِ، وَمُدَرِّسُ النَّاصِرِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ، وَالشَّامِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ بِدِمَشْقَ، وَمُدَرِّسُ الْأَسَدِيَةِ بِحَلَبَ، وَقَدْ بَاشَرَ كِتَابَةَ السِّرِّ بِحَلَبَ أَيْضًا، وَقَضَاءَ الْعَسَاكِرِ، وَأَفْتَى مِنْ زَمَانِ وِلَايَةِ الشَّيْخِ كَمَالِ الدِّينِ بْنِ الزَّمَلْكَانِيِّ قَضَاءَ حَلَبَ، أُذِنَ لَهُ هُنَالِكَ فِي حُدُودِ سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَقَدْ قَرَأَ " التَّنْبِيهَ "، وَ " مُخْتَصَرَ ابْنِ الْحَاجِبِ " فِي الْأُصُولِ وَفِي الْعَرَبِيَّةِ، وَكَانَ عِنْدَهُ نَبَاهَةٌ وَمُمَارَسَةٌ لِلْعِلْمِ، وَفِيهِ جَوْدَةُ طِبَاعٍ وَإِحْسَانٌ بِحَسَبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يُتَوَسَّمُ مِنْهُ سُوءٌ، وَفِيهِ دِيَانَةٌ وَعِفَّةٌ، حَلَفَ لِي فِي وَقْتٍ بِالْأَيْمَانِ الْمُغَلَّظَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مِنْهُ فَاحِشَةُ اللِّوَاطِ، وَلَا خَطَرَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَزِنِ، وَلَمْ يَشْرَبْ مُسْكِرًا، وَلَا أَكَلَ حَشِيشَةً، فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ. صُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الظُّهْرِ يَوْمَئِذٍ،

وَخَرَجُوا بِالْجِنَازَةِ مِنْ بَابِ النَّصْرِ، فَخَرَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ مِنْ دَارِ السَّعَادَةِ، فَحَضَرَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ هُنَالِكَ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةٍ لَهُمْ بِالصُّوفِيَّةِ، وَتَأَسَّفُوا عَلَيْهِ، وَتَرَحَّمُوا، وَتَزَاحَمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي طَلَبِ مَدَارِسِهِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الْإِسْلَامِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالشَّامِيَّةِ، وَالْحِجَازِيَّةِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقَالِيمِ وَالرَّسَاتِيقِ - الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ صَلَاحُ الدِّينِ مُحَمَّدُ ابْنُ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ حَاجِّي ابْنِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ الصَّالِحِيُّ، وَمُدَبِّرُ الْمَمَالِكِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَتَابِكُ الْعَسَاكِرِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ يَلْبُغَا، وَقُضَاةُ مِصْرَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، غَيْرَ أَنَّ ابْنَ جَمَاعَةَ قَاضِي الشَّافِعِيَّةِ، وَمُوَفَّقَ الدِّينِ قَاضِي الْحَنَابِلَةِ فِي الْحِجَازِ الشَّرِيفِ. وَنَائِبُ دِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُشْتُمُرُ الْمَنْصُورِيُّ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ الشَّافِعِيَّةِ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ، وَأَخُوهُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ مُقِيمٌ بِمِصْرَ، وَقَاضِي قُضَاةِ الْحَنَفِيَّةِ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفِ الدِّينِ الْكَفْرِيِّ; آثَرَهُ وَالِدَهُ بِالْمَنْصِبِ، وَأَقَامَ عَلَى تَدْرِيسِ الرُّكْنِيَّةِ يَتَعَبَّدُ وَيَتْلُو، وَيَنْجَمِعُ عَلَى الْعِبَادَةِ. وَقَاضِي قُضَاةِ الْمَالِكِيَّةِ جَمَالُ الدِّينِ الْمَسَلَّاتِيُّ، وَقَاضِي قُضَاةِ الْحَنَابِلَةِ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ الْمَرْدَاوَيُّ، وَوَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ الشَّيْخُ صَلَاحُ الدِّينِ الصَّفَدَيُّ، وَخَطِيبُ الْبَلَدِ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ جُمْلَةَ، وَمُحْتَسِبُ الْبَلَدِ الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ

ابْنُ الشَّيْرَجِيِّ، وَكَاتِبُ السِّرِّ جَمَالُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَثِيرِ، قَدِمَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عِوَضًا عَنْ نَاصِرِ الدِّينِ بْنِ يَعْقُوبَ، وَكَانَ قُدُومُهُ يَوْمَ سَلْخِ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَنَاظِرُ الدَّوَاوِينِ بَدْرُ الدِّينِ حَسَنُ بْنُ النَّابُلُسِيِّ، وَنَاظِرُ الْخِزَانَةِ الْقَاضِي تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ أَبِي الطَّيِّبِ، وَنَاظِرُ الْجَيْشِ عَلَمُ الدِّينِ دَاوُدُ، وَنَاظِرُ الْجَامِعِ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ مَرَاجِلٍ، وَدَخَلَ الْمَحْمَلُ السُّلْطَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّانِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ بَعْدَ الْعَصْرِ خَوْفًا مِنَ الْمَطَرِ، وَكَانَ وَقَعَ مَطَرٌ شَدِيدٌ قَبْلَ أَيَّامٍ، فَتَلِفَ مِنْهُ غَلَّاتٌ كَثِيرَةٌ بِحَوْرَانَ، وَغَيْرِهَا، وَمَشَاطِيخُ زَبِيبٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَقَبْلَ دَقَّةِ الْقَلْعَةِ - دَخَلَ فَارِسٌ مِنْ نَاحِيَةِ بَابِ الْفَرَجِ إِلَى نَاحِيَةِ بَابِ الْقَلْعَةِ الْجَوَّانِيَّةِ، وَمِنْ نَاحِيَةِ الْبَابِ الْمَذْكُورِ سِلْسِلَةٌ، وَمِنْ نَاحِيَةِ بَابِ النَّصْرِ أُخْرَى، جُدِّدَتَا لِئَلَّا يَمُرَّ رَاكِبٌ عَلَى بَابِ الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، فَسَاقَ هَذَا الْفَارِسُ الْمَذْكُورُ عَلَى السِّلْسِلَةِ الْوَاحِدَةِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ مَرَّ عَلَى الْأُخْرَى فَقَطَعَهَا، وَخَرَجَ مِنْ بَابِ النَّصْرِ، وَلَمْ يُعْرَفْ; لِأَنَّهُ مُلَثَّمٌ.
وَفِي حَادِيَ عَشَرَ صَفَرٍ، وَقَبْلَهُ بِيَوْمٍ، قَدِمَ الْبَرِيدُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِطَلَبِ الْأَمِيرِ زَيْنِ الدِّينِ زُبَالَةَ - أَحَدِ أُمَرَاءِ الْأُلُوفِ - إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُكَرَّمًا، وَقَدْ كَانَ عُزِلَ عَنْ نِيَابَةِ الْقَلْعَةِ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ، وَجَاءَ الْبَرِيدُ أَيْضًا وَمَعَهُ التَّوَاقِيعُ الَّتِي كَانَتْ بِأَيْدِي

نَاسٍ كَثِيرٍ، زِيَادَاتٌ عَلَى الْجَامِعِ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ، وَأُقِرُّوا عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ نَاظِرُ الْجَامِعِ الصَّاحِبُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ مَرَاجِلَ قَدْ سَعَى فِي رَفْعِ مَا زِيدَ بَعْدَ التَّذْكِرَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي أَيَّامِ صَرْغَتْمُشَ، فَلَمْ يَفِ ذَلِكَ، وَتَوَجَّهَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ السُّبْكِيِّ قَاضِي قُضَاةِ الشَّامِ الشَّافِعِيُّ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ يَوْمَ الْأَحَدِ سَادِسَ عَشَرَ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَخَرَجَ الْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ لِتَوْدِيعِهِ، وَقَدْ كَانَ أَخْبَرَنَا عِنْدَ تَوْدِيعِهِ بِأَنَّ أَخَاهُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجَ الدِّينِ قَدْ لَبِسَ خِلْعَةَ الْقَضَاءِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الشَّامِ عِنْدَ وُصُولِهِ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ، وَهَذَا مَسْرُورٌ جِدًّا بِذَهَابِهِ إِلَى مِصْرَ، وَذَكَرَ لَنَا أَنَّ أَخَاهُ كَارِهٌ لِلشَّامِ. وَأَنْشَدَنِي الْقَاضِي صَلَاحُ الدِّينِ الصَّفَدِيُّ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ رَابِعَ عَشَرَهُ لِنَفْسِهِ، فِيمَا عَكَسَ عَلَى الْمُتَنَبِّي فِي يَدَيْهِ مِنْ قَصِيدَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
إِذَا اعْتَادَ الْفَتَى خَوْضَ الْمَنَايَا فَأَيْسَرُ مَا يَمُرُّ بِهِ الْوُحُولُ
، وَقَالَ:
دُخُولُ دِمَشْقَ يُكْسِبُنَا نُحُولًا كَأَنَّ لَهَا دُخُولًا فِي الْبَرَايَا
إِذَا اعْتَادَ الْغَرِيبُ الْخَوْضَ فِيهَا فَأَيْسَرُ مَا يَمُرُّ بِهِ الْمَنَايَا

وَهَذَا شِعْرٌ قَوِيٌّ، وَعَكْسٌ جَلِيٌّ لَفْظًا وَمَعْنَى.
وَفِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ عُمِلَتْ خَيْمَةٌ حَافِلَةٌ بِالْبِيمَارَسْتَانِ الدَّقَّاقِيِّ جِوَارَ الْجَامِعِ; بِسَبَبِ تَكَامُلِ تَجْدِيدِهِ قَرِيبَ السَّقْفِ مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ حَتَّى قَنَاطِرِهِ الْأَرْبَعِ بِالْحِجَارَةِ الْبُلْقِ، وَجُعِلَ فِي أَعَالِيهِ قَمَرِيَّاتٌ كِبَارٌ مُضِيئَةٌ، وَفَتَقَ فِي قِبْلَتِهِ إِيوَانًا حَسَنًا زَادَ فِي أَعْمَاقِهِ أَضْعَافَ مَا كَانَ، وَبَيَّضَهُ جَمِيعَهُ بِالْجِصِّ الْحَسَنِ الْمَلِيحِ، وَجُدِّدَتْ فِيهِ خَزَائِنُ، وَمَصَالِحُ، وَفُرُشٌ، وَلُحُفٌ جُدُدٌ، وَأَشْيَاءُ حَسَنَةٌ فَأَثَابَهُ اللَّهُ، وَأَحْسَنَ جَزَاءَهُ، آمِينَ.
وَحَضَرَ الْخَيْمَةَ جَمَاعَاتٌ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْخَاصِّ وَالْعَوَّامِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الْأُخْرَى دَخَلَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَأَعْجَبَهُ مَا شَاهَدَهُ مِنَ الْعِمَارَاتِ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَالُهُ قَبْلَ هَذِهِ الْعِمَارَةِ، فَاسْتَجَادَ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ النَّاظِرِ الْمَذْكُورِ.
وَفِي أَوَّلِ رَبِيعٍ الْآخِرِ قَدِمَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى قَضَاءِ الشَّامِ، عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ، يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ رَابِعَ عَشَرَهُ، فَبَدَأَ بِالسَّلَامِ عَلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ بِدَارِ السَّعَادَةِ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى دَارِ الْأَمِيرِ عَلِيٍّ بِالْقَصَّاعِينَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى الْعَادِلِيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَجَاءَهُ النَّاسُ مِنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، وَيُهَنِّئُونَهُ بِالْعَوْدِ، وَهُوَ يَتَوَدَّدُ وَيَتَرَحَّبُ بِهِمْ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ صُبْحُ يَوْمِ الْخَمِيسِ سَادِسَ عَشَرَهُ لَبِسَ الْخِلْعَةَ بِدَارِ السَّعَادَةِ، ثُمَّ جَاءَ فِي أُبَّهَةٍ هَائِلَةٍ لَابِسَهَا إِلَى الْعَادِلِيَّةِ فَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بِهَا بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ، وَهَنَّأَهُ النَّاسُ، وَالشُّعَرَاءُ، وَالْمُدَّاحُ.

وَأَخْبَرَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ بِمَوْتِ حُسَيْنٍ ابْنِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ بَنِيهِ لِصُلْبِهِ سِوَاهُ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَكِبَارِ الدَّوْلَةِ; لِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ حِدَّةٍ، وَارْتِكَابِ أُمُورٍ مُنْكَرَةٍ.
وَأَخْبَرَ بِمَوْتِ الْقَاضِي فَخْرِ الدِّينِ سُلَيْمَانَ ابْنِ الْقَاضِي فَخْرِ الدِّينِ سُلَيْمَانَ ابْنِ الْقَاضِي عِمَادِ الدِّينِ بْنِ الشَّيْرَجِيِّ، وَكَانَ قَدِ اتَّفَقَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ أَنَّهُ قُلِّدَ حِسْبَةَ دِمَشْقَ عِوَضًا عَنْ أَبِيهِ; نَزَلَ لَهُ عَنْهَا بِاخْتِيَارِهِ لِكِبَرِهِ وَضَعْفِهِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَرْكَبَ عَلَى الْبَرِيدِ، فَتَمَرَّضَ يَوْمًا، وَثَانِيًا، وَتُوُفِّيَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَتَأَلَّمَ وَالِدُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ تَأَلُّمًا عَظِيمًا، وَعَزَاهُ النَّاسُ فِيهِ، وَوَجَدْتُهُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا بَاكِيًا مُسْتَرْجِعًا مُتَوَجِّعًا.

بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ بِوَضْعِ الشَّطْرِ مِنْ مَكْسِ الْغَنَمِ
مَعَ وِلَايَةِ الصَّاحِبِ سَعْدِ الدِّينِ مَاجِدِ بْنِ التَّاجِ إِسْحَاقَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى نَظَرِ الدَّوَاوِينِ بِالشَّامِ الْمَحْرُوسِ، وَرُبَّمَا خُوطِبَ بِالْوِزَارَةِ عِوَضًا عَنِ الْبَدْرِ حَسَنِ بْنِ النَّابُلُسِيِّ الَّذِي كَانَ نَاظِرَ الدَّوَاوِينِ قَبْلَهُ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِوِلَايَةِ هَذَا وَقُدُومِهِ، وَبِعَزْلِ الْأَوَّلِ وَانْصِرَافِهِ عَنِ الْبَلَدِ فَرَحًا شَدِيدًا، وَمَعَهُ مَرْسُومٌ شَرِيفٌ بِوَضْعِ نِصْفِ

مَكْسِ الْغَنَمِ، وَكَانَ عَبْرَتُهُ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَنِصْفًا، فَصَارَ إِلَى دِرْهَمَيْنِ وَرُبْعِ دِرْهَمٍ، وَقَدْ نُودِيَ بِذَلِكَ فِي الْبَلَدِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَتَضَاعَفَتْ أَدْعِيَتُهُمْ لِمَنْ كَانَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَكْثُرُ الْجَلَبُ بِرُخْصِ اللَّحْمِ عَلَى النَّاسِ، وَيَأْخُذُ الدِّيوَانُ نَظِيرَ مَا كَانَ يُؤْخَذُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى قُدُومَ وُفُودٍ وَقُفُولٍ بِتَجَائِرَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَأَخَذَ مِنْهَا الدِّيوَانُ السُّلْطَانِيُّ فِي الزَّكَاةِ وَالْوِكَالَةِ، وَقَدِمَ مَوَاكِبُ كَثِيرَةٌ، فَأُخِذَ مِنْهَا فِي الْعُشْرِ أَضْعَافُ مَا أُطْلِقَ مِنَ الْمَكْسِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، ثُمَّ قُرِئَ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الْعَصْرِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْعِشْرِينَ مِنْهُ ضُرِبَ الْفَقِيهُ شَمْسُ الدِّينِ الصَّفَدِيُّ بِدَارِ السَّعَادَةِ بِسَبَبِ خَانَقَاهُ الطَّوَاوِيسِ، فَإِنَّهُ جَاءَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ يَتَظَلَّمُونَ مِنْ كَاتِبِ السِّرِّ الَّذِي هُوَ شَيْخُ الشُّيُوخِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ مَعَهُمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ مِمَّا فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَيْهِمْ، فَتَكَلَّمَ الصَّفَدِيُّ الْمَذْكُورُ بِكَلَامٍ فِيهِ غِلَظٌ، فَبُطِحَ لِيُضْرَبَ، فَشُفِعَ فِيهِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ فَشُفِعَ فِيهِ، ثُمَّ بُطِحَ الثَّالِثَةَ فَضُرِبَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ إِلَى السِّجْنِ، ثُمَّ أُخْرِجَ بَعْدَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَحَدِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ دَرَّسَ قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّافِعِيُّ بِمَدَارِسِهِ، وَحَضَرَ دَرْسَ النَّاصِرِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ بِمُقْتَضَى شَرْطِ الْوَاقِفِ الَّذِي أَثْبَتَهُ أَخُوهُ بَعْدَ مَوْتِ الْقَاضِي نَاصِرِ الدِّينِ كَاتِبِ السِّرِّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ

وَبَعْضُ الْقُضَاةِ، وَأَخَذَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ، قُرِئَ عَلَيْهِ مِنْ تَفْسِيرِ وَالِدِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [ الْفَتْحِ: 1 ].
وَفِي مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْأُولَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ - مَعَ الْإِمَامِ الْكَبِيرِ - صُلِّيَ عَلَى الْقَاضِي قُطْبِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُحْسِنِ الْحَاكِمِ بِحِمْصَ، جَاءَ إِلَى دِمَشْقَ لِتَلَقِّي أَخِي زَوْجَتِهِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ الشَّافِعِيِّ، فَتَمَرَّضَ مُدَّةً ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ، فَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَخَارِجَ بَابِ الْفَرَجِ، ثُمَّ صَعِدُوا بِهِ إِلَى سَفْحِ جَبَلِ قَاسِيُونَ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ بِسَنَتَيْنِ، وَقَدْ حَدَّثَ وَرَوَى شَيْئًا يَسِيرًا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ قَدِمَ قَاضِيَا قُضَاةِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِحَلَبَ، وَالْخَطِيبُ بِهَا، وَالشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ الْأَذْرَعِيُّ، وَالشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ الْبَارِينِيُّ، وَآخَرُونَ مَعَهُمْ، فَنَزَلُوا بِالْمَدْرَسَةِ الْإِقْبَالِيَّةِ، وَهُمْ وَقَاضِي قُضَاتِهِمُ الشَّافِعِيُّ - وَهُوَ كَمَالُ الدِّينِ الْمِصْرِيُّ - مَطْلُوبُونَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَتَحَرَّرَ مَا ذَكَرُوهُ عَنْ قَاضِيهِمْ، وَمَا نَقَمُوهُ عَلَيْهِ مِنَ السِّيرَةِ السَّيِّئَةِ فِيمَا يَذْكُرُونَ فِي الْمَوَاقِفِ الشَّرِيفَةِ بِمِصْرَ، وَتَوَجَّهُوا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ يَوْمَ السَّبْتِ عَاشِرِهِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ قَدِمَ الْأَمِيرُ زَيْنُ الدِّينِ زُبَالَةَ نَائِبُ الْقَلْعَةِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى الْبَرِيدِ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ هَائِلٍ، وَتَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالشُّمُوعِ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، وَنَزَلَ بِدَارِ الذَّهَبِ، وَرَاحَ النَّاسُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ وَتَهْنِئَتِهِ بِالْعَوْدِ إِلَى نِيَابَةِ

الْقَلْعَةِ عَلَى عَادَتِهِ، وَهَذِهِ ثَالِثُ مَرَّةٍ وَلِيَهَا; لِأَنَّهُ مَشْكُورُ السِّيرَةِ فِيهَا، وَلَهُ فِيهَا سَعْيٌ مَحْمُودٌ فِي أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ حَادِيَ عَشَرَهُ صَلَّى نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْقَاضِيَانِ الشَّافِعِيُّ وَالْحَنَفِيُّ، وَكَاتِبُ السِّرِّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَالْأَعْيَانِ - بِالْمَقْصُورَةِ، وَقُرِئَ كِتَابُ السُّلْطَانِ عَلَى السُّدَّةِ بِوَضْعٍ مَكْسِ الْغَنَمِ إِلَى كُلِّ رَأْسٍ بِدِرْهَمَيْنِ، فَتَضَاعَفَتِ الْأَدْعِيَةُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ، وَلِمَنْ كَانَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ.

غَرِيبَةٌ مِنَ الْغَرَائِبِ، وَعَجِيبَةٌ مِنَ الْعَجَائِبِ
وَقَدْ كَثُرَتِ الْمِيَاهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَزَادَتِ الْأَنْهَارُ زِيَادَةً كَثِيرَةً جِدًّا، بِحَيْثُ إِنَّهُ فَاضَ الْمَاءُ فِي سُوقِ الْخَيْلِ مِنْ نَهْرِ بَرَدَى حَتَّى عَمَّ جَمِيعَ الْعَرْصَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِمَوْقِفِ الْمَوْكِبِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ أُجْرِيَتْ فِيهِ الْمَرَاكِبُ بِالْكِرَا، وَرَكِبَتْ فِيهِ الْمَارَّةُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ جُمَعًا مُتَعَدِّدَةً، وَامْتَنَعَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْجَيْشُ مِنَ الْوُقُوفِ هُنَاكَ، وَرُبَّمَا وَقَفَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بَعْضَ الْأَيَّامِ تَحْتَ الطَّارِمَةِ تُجَاهَ بَابِ الْإِسْطَبْلِ السُّلْطَانِيِّ، وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ، وَلَا رَأَيْتُهُ قَطُّ فِي مُدَّةِ عُمْرِي، وَقَدْ سَقَطَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ بِنَايَاتٌ وَدُورٌ كَثِيرَةٌ، وَتَعَطَّلَتْ طَوَاحِينُ كَثِيرَةٌ غَمَرَهَا الْمَاءُ.
وَفِي لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ الْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى تُوُفِّيَ الصَّدْرُ شَمْسُ الدِّينِ

عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ مُنَجَّا التَّنُوخِيُّ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَدُفِنَ بِالسَّفْحِ.
وَفِي صَبِيحَةِ هَذَا الْيَوْمِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُونَوِيُّ الْحَنَفِيُّ، خَطِيبُ جَامِعِ يَلْبُغَا، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ عَقِيبَ صَلَاةِ الظُّهْرِ أَيْضًا، وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ، وَقَدْ بَاشَرَ عِوَضَهُ الْخَطَابَةَ وَالْإِمَامَةَ، قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ الْكَفْرِيُّ الْحَنَفِيُّ.
وَفِي عَصْرِ هَذَا الْيَوْمِ تُوُفِّيَ الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ ابْنُ الْقَاضِي شَرَفِ الدِّينِ ابْنِ الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الشِّهَابِ مَحْمُودٍ الْحَلَبِيُّ، أَحَدُ مُوَقِّعِي الدَّسْتِ بِدِمَشْقَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَدُفِنَ بِالسَّفْحِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ خَطَبَ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ الْكَفْرِيُّ الْحَنَفِيُّ بِجَامِعِ يَلْبُغَا عِوَضًا عَنِ الشَّيْخِ نَاصِرِ الدِّينِ بْنِ الْقُونَوِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَحَضَرَ عِنْدَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُشْتُمُرُ، وَصَلَّى مَعَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ الشَّافِعِيُّ بِالشُّبَّاكِ الْغَرْبِيِّ الْقِبْلِيِّ مِنْهُ، وَحَضَرَ خَلْقٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَعْيَانِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَخَطَبَ ابْنُ نُبَاتَةَ بِأَدَاءٍ حَسَنٍ، وَفَصَاحَةٍ بَلِيغَةٍ، هَذَا مَعَ عِلْمِ أَنَّ كُلَّ مَرْكَبٍ صَعْبٌ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ خَامِسَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ تَوَجَّهَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ

الْقَاضِي الْحَنْبَلِيُّ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِطَلَبِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ يَلْبُغَا فِي كِتَابٍ كَتَبَهُ إِلَيْهِ يَسْتَدْعِيهِ، وَيَسْتَحِثُّهُ فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ثَانِي شَهْرِ رَجَبٍ سَقَطَ اثْنَانِ سُكَارَى مِنْ سَطْحٍ بِحَارَةِ الْيَهُودِ، أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ وَالْآخَرُ يَهُودِيٌّ، فَمَاتَ الْمُسْلِمُ مِنْ سَاعَتِهِ، وَانْقَلَعَتْ عَيْنُ الْيَهُودِيِّ وَانْكَسَرَتْ يَدُهُ، لَعَنَهُ اللَّهُ، وَحُمِلَ إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ فَلَمْ يُحِرْ جَوَابًا.
وَرَجَعَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ بَعْدَمَا قَارَبَ غَزَّةَ ; لِمَا بَلَغَهُ مِنَ الْوَبَاءِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَعَادَ إِلَى الْقُدْسِ الشَّرِيفِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى وَطَنِهِ فَأَصَابَ السُّنَّةَ، وَقَدْ وَرَدَتْ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ تُخْبِرُ بِشِدَّةِ الْوَبَاءِ وَالطَّاعُونِ بِمِصْرَ، وَأَنَّهُ يُضْبَطُ مِنْ أَهْلِهَا فِي النَّهَارِ نَحْوَ الْأَلْفِ، وَأَنَّهُ مَاتَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ يُعْرَفُونَ كَوَلَدَيْ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ الْمُنَاوِيِّ، وَكَاتِبِ الْحَكَمِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ أَجْمَعِينَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَجَاءَ الْخَبَرُ فِي أَوَاخِرِ شَهْرِ رَجَبٍ بِمَوْتِ جَمَاعَةٍ بِمِصْرَ ; مِنْهُمْ أَبُو حَاتِمٍ ابْنُ الشَّيْخِ بَهَاءِ الدِّينِ السُّبْكِيُّ الْمِصْرِيُّ بِمِصْرَ، وَهُوَ شَابٌّ لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْعِشْرِينَ، وَقَدْ دَرَّسَ بِعِدَّةِ جِهَاتٍ بِمِصْرَ وَخَطَبَ، فَفَقَدَهُ وَالِدُهُ، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَعَزَّوْا فِيهِ عَمَّهُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجَ الدِّينِ السُّبْكِيَّ قَاضِي الشَّافِعِيَّةِ بِدِمَشْقَ. وَجَاءَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ قَاضِي الْقُضَاةِ شِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ الرَّبَاحِيِّ الْمَالِكِيِّ، كَانَ بِحَلَبَ، وَلِيَهَا مَرَّتَيْنِ ثُمَّ عُزِلَ، فَقَصَدَ مِصْرَ، وَاسْتَوْطَنَهَا مُدَّةً لِيَتَمَكَّنَ مِنَ السَّعْيِ فِي الْعَوْدَةِ، فَأَدْرَكَتْهُ مَنِيَّتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْفَنَاءِ، وَوَلَدَانِ لَهُ مَعَهُ أَيْضًا.

وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ سَادِسِ شَعْبَانَ تَوَجَّهَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ فِي صُحْبَةِ جُمْهُورِ الْأُمَرَاءِ إِلَى نَاحِيَةِ تَدْمُرَ; لِأَجْلِ الْأَعْرَابِ وَأَصْحَابِ حَيَّارِ بْنِ مُهَنَّا وَمَنِ الْتَفَّ عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَقَدْ دَمَّرَ بَعْضُهُمْ بَلَدَ تَدْمُرَ، وَحَرَّقُوا كَثِيرًا مِنْ أَشْجَارِهَا وَرَعَوْهَا، وَانْتَهَبُوا شَيْئًا كَثِيرًا، وَخَرَجُوا عَنِ الطَّاعَةِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ قَطْعِ إِقْطَاعَاتِهِمْ، وَتَمَلُّكِ أَمْلَاكِهِمْ، وَالْحَيْلُولَةِ عَلَيْهِمْ، فَرَكِبَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِمَنْ مَعَهُ - كَمَا ذَكَرْنَا - لِطَرْدِهِمْ عَنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَفِي صُحْبَتِهِمُ الْأَمِيرُ حَمْزَةُ بْنُ الْخَيَّاطِ أَحَدُ أُمَرَاءِ الطَّبْلَخَانَاهْ، وَقَدْ كَانَ حَاجِبًا لِحَيَّارٍ قَبْلَ ذَلِكَ، فَرَجَعَ عَنْهُ، وَأَلَّبَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَمِيرِ الْكَبِيرِ يَلْبُغَا الْخَاصِّكِيِّ، وَوَعَدَهُ إِنْ هُوَ أَمَّرَهُ وَكَبَّرَهُ أَنْ يَظْفَرَ بِحَيَّارٍ، وَأَنْ يَأْتِيَهُ بِرَأْسِهِ، فَفَعَلَ مَعَهُ ذَلِكَ، فَقَدِمَ إِلَى دِمَشْقَ وَمَعَهُ مَرْسُومٌ بِرُكُوبِ الْجَيْشِ مَعَهُ إِلَى حَيَّارٍ وَأَصْحَابِهِ، فَسَارُوا كَمَا ذَكَرْنَا، فَوَصَلُوا إِلَى تَدْمُرَ، وَهَرَبَتِ الْأَعْرَابُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ نَائِبِ الشَّامِ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَلَمْ يُوَاجِهُوهُ هَيْبَةً لَهُ، وَلَكِنَّهُمْ يَتَحَرَّفُونَ عَلَى حَمْزَةَ بْنِ الْخَيَّاطِ، ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُمْ بَيَّتُوا الْجَيْشَ، فَقَتَلُوا مِنْهُ طَائِفَةً، وَجَرَحُوا آخَرِينَ، وَأَسَرُوا آخَرِينَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

سَلْطَنَةُ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ نَاصِرِ الدِّينِ شَعْبَانَ بْنِ حُسَيْنٍ ابْنِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ خَامِسَ عَشَرَ شَعْبَانَ
لَمَّا كَانَ عَشِيَّةَ السَّبْتِ تَاسِعَ عَشَرَ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ - قَدِمَ أَمِيرٌ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَنَزَلَ بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، وَأَخْبَرَ

بِزَوَالِ مَمْلَكَةِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ بْنِ الْمُظَفَّرِ حَاجِّي ابْنِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ، وَمُسِكَ، وَاعْتُقِلَ، وَبُويِعَ لِلْمَلِكِ الْأَشْرَفِ شَعْبَانَ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ النَّاصِرِ بْنِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ قَرِيبُ الْعَشْرِ، فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ يَوْمَ الْأَحَدِ فِي الزِّينَةِ. وَأَخْبَرَنِي قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ وَالصَّاحِبُ سَعْدُ الدِّينِ مَاجِدٌ نَاظِرُ الدَّوَاوِينِ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ عُزِلَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ، وَأُودِعَ مَنْزِلَهُ، وَأُجْلِسَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ نَاصِرُ الدِّينِ شَعْبَانُ عَلَى سَرِيرِ الْمَلِكِ، وَبُويِعَ لِذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ رَعْدٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَمَطَرٌ كَثِيرٌ، وَجَرَتِ الْمَزَارِيبُ، فَصَارَ غُدْرَانًا فِي الطُّرُقَاتِ، وَذَلِكَ فِي خَامِسِ حُزَيْرَانَ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ، هَذَا وَقَدْ وَقَعَ وَبَاءٌ فِي مِصْرَ فِي أَوَّلِ شَعْبَانَ فَتَزَايِدَ، وَجُمْهُورُهُ فِي الْيَهُودِ، وَقَدْ وَصَلُوا إِلَى الْخَمْسِينَ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَابِعِهِ اشْتَهَرَ الْخَبَرُ عَنِ الْجَيْشِ بِأَنَّ الْأَعْرَابَ اعْتَرَضُوا التَّجْرِيدَةَ الْقَاصِدِينَ إِلَى الرَّحْبَةِ، وَأَوْقَفُوهُمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ، وَنَهَبُوا، وَجَرَحُوا، وَقَدْ سَارَ الْبَرِيدُ خَلْفَ النَّائِبِ وَالْأُمَرَاءِ لِيَقْدَمُوا إِلَى الْبَلَدِ لِأَجْلِ الْبَيْعَةِ لِلسُّلْطَانِ الْجَدِيدِ، جَعَلَهُ اللَّهُ مُبَارَكًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَدِمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْمُنْهَزِمِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ فِي أَسْوَأِ حَالٍ وَذِلَّةٍ، ثُمَّ جَاءَ الْبَرِيدُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِرَدِّهِمْ إِلَى الْعَسْكَرِ الَّذِي مَعَ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ عَلَى تَدْمُرَ، مُتَوَعِّدِينَ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، وَقَطْعِ الْإِقْطَاعَاتِ.
وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَفَاقَمَ الْحَالُ بِسَبَبِ الطَّاعُونِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،

وَجُمْهُورُهُ فِي الْيَهُودِ، لَعَلَّهُ قَدْ فُقِدَ مِنْهُمْ مِنْ مُسْتَهَلِّ شَعْبَانَ إِلَى مُسْتَهَلِّ رَمَضَانَ نَحْوَ الْأَلْفِ نَسَمَةٍ خَبِيثَةٍ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ الْقَاضِي صَلَاحُ الدِّينِ الصَّفَدِيُّ وَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ فِيهِمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ جِدًّا، وَغَدَتِ الْعِدَّةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالذِّمَّةِ ثَمَانِينَ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ حَادِيَ عَشَرَهُ صَلَّيْنَا بَعْدَ الظُّهْرِ عَلَى الشَّيْخِ الْمُعَمَّرِ الصَّدْرِ بَدْرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ الزَّقَّاقِ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ الْجَوُخِيِّ، وَعَلَى الشَّيْخِ صَلَاحِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرِ الْكُتْبِيِّ، تَفَرَّدَ فِي صِنَاعَتِهِ، وَجَمَعَ تَارِيخًا مُفِيدًا نَحْوًا مِنْ عَشْرِ مُجَلَّدَاتٍ، وَكَانَ يَحْفَظُ وَيُذَاكِرُ وَيُفِيدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَسَامَحَهُ.

وَفَاةُ الْخَطِيبِ جَمَالِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ جُمْلَةَ الْمَحَجِّيِّ الشَّافِعِيِّ وَمُبَاشَرَةُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ الشَّافِعِيِّ بَعْدَهُ
كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ قَرِيبًا مِنَ الْعَصْرِ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ

بِالْمِحْرَابِ صَلَاةَ الْعَصْرِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ الشَّافِعِيُّ عِوَضًا عَنْهُ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ الصُّبْحَ أَيْضًا، وَقَرَأَ بِآخِرِ " الْمَائِدَةِ " مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [ الْمَائِدَةِ: 109 ] ثُمَّ لَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَزَالَ وَقْتُ الْكَرَاهَةِ صُلِّيَ عَلَى الْخَطِيبِ جَمَالِ الدِّينِ عِنْدَ بَابِ الْخَطَابَةِ، وَكَانَ الْجَمْعُ فِي الْجَامِعِ كَثِيرًا، وَخُرِجَ بِجَنَازَتِهِ مِنْ بَابِ الْبَرِيدِ، وَخَرَجَ مَعَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَوَامِّ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ حَضَرَ جَنَازَتَهُ بِالصَّالِحِيَّةِ عَلَى - مَا ذُكِرَ - جَمٌّ غَفِيرٌ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ، وَنَالَ قَاضِيَ الْقُضَاةِ الشَّافِعِيَّ مِنْ بَعْضِ الْجَهَلَةِ إِسَاءَةُ أَدَبٍ، فَأُخِذَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ وَأُدِّبُوا، وَحَضَرَ هُوَ بِنَفْسِهِ صَلَاةَ الظُّهْرِ يَوْمَئِذٍ، وَكَذَا بَاشَرَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ; يَأْتِي لِلْجَامِعِ فِي مَحْفِلٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأَعْيَانِ وَغَيْرِهِمْ ذَهَابًا وَإِيَابًا، وَخَطَبَ عَنْهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الزَّبَدَانِيِّ، وَكَذَلِكَ يَوْمَ الْعِيدِ بِالْمُصَلَّى، وَخُطْبَةَ الْجُمُعَةِ يَوْمَئِذٍ، وَامَتَنَعَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ، حَتَّى يَأْتِيَ التَّشْرِيفُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ صُلِّيَ عَلَى الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَعْلَبَكِّيِّ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ النَّقِيبِ، وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ، وَقَدْ قَارَبَ السَّبْعِينَ أَوْ جَاوَزَهَا، وَكَانَ بَارِعًا فِي الْقِرَاءَاتِ، وَالنَّحْوِ، وَالتَّصْرِيفِ، وَالْعَرَبِيَّةِ، وَلَهُ يَدٌ فِي الْفِقْهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَوَلِيَ مَكَانَهُ مَشْيَخَةَ الْإِقْرَاءِ بِأُمِّ الصَّالِحِ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ اللَّبَّانِ، وَبِالتُّرْبَةِ الْأَشْرَفِيَّةِ الشَّيْخُ أَمِينُ الدِّينِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ السَّلَّارِ.
وَقَدِمَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ مِنْ نَاحِيَةِ الرَّحْبَةِ وَتَدْمُرَ، وَفِي صُحْبَتِهِ الْجَيْشُ الَّذِينَ كَانُوا

مَعَهُ بِسَبَبِ مُحَارَبَتِهِ آلِ مُهَنَّا، وَذَوِيهِمْ مِنَ الْأَعْرَابِ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَادِسِ شَوَّالٍ.
وَفِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ عَاشِرِهِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ صَلَاحُ الدِّينِ خَلِيلُ بْنُ أَيْبَكَ وَكَيْلُ بَيْتِ الْمَالِ وَمُوَقِّعُ الدَّسْتِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ صَبِيحَةَ الْأَحَدِ بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ، وَقَدْ كَتَبَ الْكَثِيرَ مِنَ التَّارِيخِ، وَاللُّغَةِ، وَالْأَدَبِ، وَلَهُ الْأَشْعَارُ الْفَائِقَةُ، وَالْفُنُونُ الْمُتَنَوِّعَةُ، وَجَمَعَ، وَصَنَّفَ، وَكَتَبَ مَا يُقَارِبُ مِئِينَ مِنَ الْمُجَلَّدَاتِ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ عَاشِرِهِ جُمِعَ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَكَتَبُوا خُطُوطَهُمْ بِالرِّضَا بِخَطَابَةِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَكَاتَبَ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ فِي ذَلِكَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ حَادِيَ عَشَرَهُ اسْتَقَرَّ عَزْلُ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ سَيْفِ الدِّينِ قُشْتُمُرَ عَنْ نِيَابَةِ دِمَشْقَ، وَأُمِرَ بِالْمَسِيرِ إِلَى نِيَابَةِ صَفَدَ، فَأَنْزَلَ أَهْلَهُ بِدَارِ طَيْبُغَا حَاجِّي مِنَ الشَّرَفِ الْأَعْلَى، وَبَرَزَ هُوَ إِلَى سَطْحِ الْمِزَّةِ ذَاهِبًا إِلَى نَاحِيَةِ صَفَدَ.
وَخَرَجَ الْمَحْمَلُ صُحْبَةَ الْحَجِيجِ، وَهُمْ جَمٌّ غَفِيرٌ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ - يَوْمَ الْخَمِيسِ رَابِعَ عَشَرَ شَوَّالٍ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ تُوُفِّيَ الْقَاضِي أَمِينُ الدِّينِ أَبُو حَيَّانِ ابْنُ أَخِي قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالِ الدِّينِ الْمَسَلَّاتِيُّ الْمَالِكِيُّ، وَزَوْجُ ابْنَتِهِ وَنَائِبُهُ فِي الْحُكْمِ مُطْلَقًا، وَفِي الْقَضَاءِ وَالتَّدْرِيسِ - فِي غَيْبَتِهِ، فَعَالَجَتْهُ الْمَنِيَّةُ.

وَمِنْ غَرِيبِ مَا وَقَعَ فِي أَوَاخِرِ هَذَا الشَّهْرِ أَنَّهُ اشْتَهَرَ بَيْنَ النِّسَاءِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْعَوَامِّ أَنَّ رَجُلًا رَأَى مَنَامًا فِيهِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ شَجَرَةِ تُوتَةٍ عِنْدَ مَسْجِدِ ضِرَارٍ خَارِجَ بَابِ شَرْقِيِّ، فَتَبَادَرَ النِّسَاءُ إِلَى تَخْلِيقِ تِلْكَ التُّوتَةِ، وَأَخَذُوا أَوْرَاقَهَا لِلِاسْتِشْفَاءِ مِنَ الْوَبَاءِ، وَلَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ صِدْقُ ذَلِكَ الْمَنَامِ، وَلَا يَصِحُّ عَمَّنْ يَرْوِيهِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَابِعِ شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ خَطَبَ بِجَامِعِ دِمَشْقَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ خُطْبَةً بَلِيغَةً فَصِيحَةً أَدَّاهَا أَدَاءً حَسَنًا، وَقَدْ كَانَ يَخْشَى مِنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَوَامِّ أَنْ يُشَوِّشُوا، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، بَلْ ضَجُّوا عِنْدَ الْمَوْعِظَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَعْجَبَهُمُ الْخَطِيبُ وَخَطَبَتُهُ، وَأَدَاؤُهُ، وَتَبْلِيغُهُ، وَمَهَابَتُهُ، وَاسْتَمَرَّ يَخْطُبُ هُوَ بِنَفْسِهِ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ثَامِنَ عَشَرَهُ تُوُفِّيَ الصَّاحِبُ تَقِيُّ الدِّينِ سُلَيْمَانُ بْنُ مَرَاجِلٍ، نَاظِرُ الْجَامِعُ الْأُمَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ بَاشَرَ نَظَرَ الْجَامِعِ فِي أَيَّامِ تَنْكِزَ، وَعَمَرَ الْجَانِبَ الْغَرْبِيَّ مِنَ الْحَائِطِ الْقِبْلِيِّ، وَكَمَّلَ رُخَامَهُ كُلَّهُ، وَفَتَقَ مِحْرَابًا لِلْحَنَفِيَّةِ فِي الْحَائِطِ الْقِبْلِيِّ، وَمِحْرَابًا لِلْحَنَابِلَةِ فِيهِ أَيْضًا فِي غَرْبَيِّهِ، وَأَثَّرَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً فِيهِ، وَكَانَتْ لَهُ هِمَّةٌ، وَيُنْسَبُ إِلَى أَمَانَةٍ، وَصَرَامَةٍ، وَمُبَاشَرَةٍ مَشْكُورَةٍ مَشْهُورَةٍ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةٍ أَنْشَأَهَا تُجَاهَ دَارِهِ بِالْقُبَيْبَاتِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ تَاسِعَ عَشَرَهُ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ عَبْدُ الْوَهَّابِ الْإِخْمِيمِيُّ الْمِصْرِيُّ، إِمَامُ مَسْجِدِ دَرْبِ الْحَجَرِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَصْرِ

بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَدُفِنَ بِقَصْرِ ابْنِ الْحَلَّاجِ عِنْدَ الطَّيُورِيِّينَ بِزَاوِيَةٍ لِبَعْضِ الْفُقَرَاءِ الْخَزَنَةِ هُنَاكَ، وَقَدْ كَانَ لَهُ يَدٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَصَنَّفَ فِي الْكَلَامِ كِتَابًا مُشْتَمِلًا عَلَى أَشْيَاءَ مَقْبُولَةٍ وَغَيْرِ مَقْبُولَةٍ.

دُخُولُ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ مَنْكَلِي بُغَا
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ دَخَلَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ مَنْكَلِي بُغَا مِنْ حَلَبَ إِلَى دِمَشْقَ نَائِبًا عَلَيْهَا فِي تَجَمُّلٍ هَائِلٍ، وَلَكِنَّهُ مُسْتَمْرِضٌ فِي بَدَنِهِ بِسَبَبِ مَا كَانَ نَالَهُ مِنَ التَّعَبِ فِي مُصَابَرَةِ الْأَعْرَابِ، فَنَزَلَ دَارَ السَّعَادَةِ عَلَى الْعَادَةِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ مُسْتَهَلِّ ذِي الْحِجَّةِ خُلِعَ عَلَى قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ الشَّافِعِيِّ لِلْخَطَابَةِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ يَخْطُبُ بِنَفْسِهِ كُلَّ جُمُعَةٍ. وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ثَانِيهِ قَدِمَ الْقَاضِي فَتْحُ الدِّينِ بْنُ الشَّهِيدِ، وَلَبِسَ الْخِلْعَةَ، وَرَاحَ النَّاسُ لِتَهْنِئَتِهِ. وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ حَضَرَ الْقَاضِي فَتْحُ الدِّينِ بْنُ الشَّهِيدِ - كَاتِبُ السِّرِّ - مَشْيَخَةَ السُّمَيْسَاطِيَّةِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ لِذَلِكَ أَيْضًا، وَحَضَرَ فِيهَا مِنَ الْغَدِ عَلَى الْعَادَةِ، وَخُلِعَ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى وَكِيلِ بَيْتِ الْمَالِ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الرَّهَاوِيِّ، وَعَلَى الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ الزُّهْرِيِّ بِفُتْيَا دَارِ الْعَدْلِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالشَّامِيَّةِ، وَالْحَرَمَيْنِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ - الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ نَاصِرُ الدِّينِ شَعْبَانُ ابْنُ سَيِّدِي حُسَيْنٍ ابْنِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ الصَّالِحِيُّ، وَهُوَ فِي عُمْرِ عَشْرِ سِنِينَ، وَمُدَبِّرُ الْمَمَالِكِ بَيْنَ يَدَيْهِ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ نِظَامُ الْمُلْكِ سَيْفُ الدِّينِ يَلْبُغَا الْخَاصِّكِيُّ، وَقُضَاةُ مِصْرَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَوَزِيرُهَا فَخْرُ الدِّينِ بْنُ قَرَوِينَهَ، وَنَائِبُ دِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ مَنْكَلِي بُغَا الشَّمْسِيُّ، وَهُوَ مَشْكُورِ السِّيرَةِ، وَقُضَاتُهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَنَاظِرُ الدَّوَاوِينِ بِهَا الصَّاحِبُ سَعْدُ الدِّينِ مَاجِدٌ، وَنَاظِرُ الْجَيْشِ عَلَمُ الدِّينِ دَاوُدُ، وَكَاتِبُ السِّرِّ الْقَاضِي فَتْحُ الدِّينِ بْنُ الشَّهِيدِ، وَوَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الرَّهَاوِيِّ.
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَدَاءُ الْفَنَاءِ مَوْجُودٌ فِي النَّاسِ، إِلَّا أَنَّهُ خَفَّ وَقَلَّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ تَوَجَّهَ قَاضِي الْقُضَاةِ - وَكَانَ بَهَاءَ الدِّينِ أَبَا الْبَقَاءِ السُّبْكِيَّ - إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَطْلُوبًا مِنْ جِهَةِ الْأَمِيرِ يَلْبُغَا، وَفِي الْكِتَابِ إِجَابَتُهُ لَهُ إِلَى مَا سَأَلَ. وَتَوَجَّهَ بَعْدَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ - الْحَاكِمُ بِدِمَشْقَ وَخَطِيبُهَا - يَوْمَ

الِاثْنَيْنِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ عَلَى خَيْلِ الْبَرِيدِ. وَتَوَجَّهَ بَعْدَهُمَا الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ الْحَنْبَلِيُّ، مَطْلُوبًا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَكَذَلِكَ تَوَجَّهَ الشَّيْخُ وَلِيُّ الدِّينِ الْمَنْفَلُوطِيُّ مَطْلُوبًا.
وَتُوُفِّيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنَ الْمُحَرَّمِ صَاحَبُنَا الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْعَطَّارِ الشَّافِعِيُّ، كَانَ لَدَيْهِ فَضِيلَةٌ، وَاشْتِغَالٌ، وَلَهُ فَهْمٌ، وَعَلَّقَ بِخَطِّهِ فَوَائِدَ جَيِّدَةً، وَكَانَ إِمَامًا بِالسِّجْنِ مَنَّ مَشْهَدِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَمُصَدَّرًا بِالْجَامِعِ، وَفَقِيهًا بِالْمَدَارِسِ، وَلَهُ مَشْيَخَةُ الْحَدِيثِ الْوَادِعِيَّةِ، وَجَاوَزَ الْخَمْسِينَ بِسَنَوَاتٍ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ قَطُّ. وَقَدِمَ الرَّكْبُ الشَّافِعِيُّ إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ الرَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَهُمْ شَاكِرُونَ مُثْنُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ عَنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَمْنًا وَرُخْصًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ حَادِيَ عَشَرَ صَفَرٍ دَرَسَ بِالْمَدْرَسَةِ الْفَتْحِيَّةِ صَاحِبُنَا الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيفَةَ الْحُسْبَانِيُّ الشَّافِعِيُّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْفُضَلَاءِ، وَأَخَذَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا [ التَّوْبَةِ: 36 ].
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ خَامِسَ عَشَرَهُ نُودِيَ فِي الْبَلَدِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ بِإِلْزَامِهِمْ بِالصِّغَارِ، وَتَصْغِيرِ الْعَمَائِمِ، وَأَنْ لَا يُسْتَخْدَمُوا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَأَنْ لَا

يَرْكَبُوا الْخَيْلَ، وَلَا الْبِغَالَ، وَيَرْكَبُونَ الْحَمِيرَ بِالْأَكُفِّ بِالْعَرْضِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي رِقَابِهِمْ وَرِقَابِ نِسَائِهِمْ فِي الْحَمَّامَاتِ الْأَجْرَاسُ، وَأَنْ يَكُونَ أَحَدُ النَّعْلَيْنِ أَسْوَدَ مُخَالِفًا لِلَوْنِ الْأُخْرَى، فَفَرِحَ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ، وَدَعَوْا لِلْآمِرِ بِذَلِكَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ ثَالِثِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قَدِمَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُسْتَمِرًّا عَلَى الْقَضَاءِ، وَالْخَطَابَةِ، فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ، وَهَنَّئُوهُ بِالْعَوْدِ وَالسَّلَامَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَابِعِهِ لَبِسَ الْقَاضِي الصَّاحِبُ الْبَهْنَسِيُّ الْخِلْعَةَ لِنَظْرِ الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ، وَهَنَّأَهُ النَّاسُ، وَبَاشَرَ بِصَرَامَةٍ، وَاسْتَعْمَلَ فِي غَالِبِ الْجِهَاتِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ حَادِيَ عَشَرَهُ رَكِبَ قَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ عَلَى خَيْلِ الْبَرِيدِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ; لِتَوَلِّيهِ قَضَاءَ قُضَاةِ الشَّافِعِيَّةِ بِدِمَشْقَ عَنْ رِضًى مِنْ خَالَةِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ، وَنُزُولِهِ عَنْ ذَلِكَ.
وَفِي لَيْلَةِ الْخَمِيسِ خَامِسِ رَبِيعٍ الْآخِرِ احْتَرَقَتِ الْبَاشُورَةُ الَّتِي ظَاهِرَ بَابِ الْفَرَجِ عَلَى الْجِسْرِ، وَنَالَ حِجَارَةَ الْبَابِ شَيْءٌ مِنْ حَرِيقِهَا فَاتَّسَعَتْ، وَقَدْ حَضَرَ طَفْأَهَا نَائِبُ السَّلْطَنَةِ، وَالْحَاجِبُ الْكَبِيرُ، وَنَائِبُ الْقَلْعَةِ، وَالْوُلَاةُ، وَغَيْرُهُمْ. وَفِي صَبِيحَةِ هَذَا الْيَوْمِ زَادَ النَّهْرُ زِيَادَةً عَظِيمَةً بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْأَمْطَارِ، وَذَلِكَ فِي أَوَائِلِ كَانُونَ الثَّانِي، وَرَكِبَ الْمَاءُ سُوقَ الْخَيْلِ بِكَمَالِهِ، وَوَصَلَ إِلَى ظَاهِرِ بَابِ الْفَرَادِيسِ،

وَتِلْكَ النَّوَاحِي، وَكَسَرَ جِسْرَ الْخَشَبِ الَّذِي عِنْدَ جَامِعِ يَلْبُغَا، وَجَاءَ فَصُدِمَ بِهِ جِسْرُ الزَّلَابِيَّةِ فَكَسَرَهُ أَيْضًا. وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَانِيَ عَشَرَهُ صُرِفَ حَاجِبُ الْحُجَّابِ قُمَارِيُّ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَأُخِذَتِ الْقُضَاةُ مِنْ يَدِهِ، وَانْصَرَفَ إِلَى دَارِهِ فِي قُلٍّ مِنَ النَّاسِ، وَاسْتَبْشَرَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ; لِكَثْرَةِ مَا كَانَ يَفْتَاتُ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَفِي أَوَاخِرِهِ اشْتَهَرَ مَوْتُ الْقَاضِي تَاجِ الدِّينِ الْمُنَاوِيِّ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَوِلَايَةِ قَاضِي الْقُضَاةِ بَهَاءِ الدِّينِ أَبِي الْبَقَاءِ السُّبْكِيِّ مَكَانَهُ بِقَضَاءِ الْعَسَاكِرِ بِهَا، وَوَكَالَةِ السُّلْطَانِ أَيْضًا، وَرُتِّبَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ كِفَايَتُهُ. وَتَوَلَّى فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الشَّيْخُسِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقَيْنِيُّ إِفْتَاءَ دَارِ الْعَدْلِ مَعَ الشَّيْخِ بَهَاءِ الدِّينِ أَحْمَدَ ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ السُّبْكِيِّ بِالشَّامِ، وَقَدْ وَلِي هُوَ أَيْضًا قَضَاءَ الشَّامِ، كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مِصْرَ مُوَقَّرًا مُكَرَّمًا، وَعَادَ أَخُوهُ تَاجُ الدِّينِ إِلَى الشَّامِ، وَكَذَلِكَ وَلَّوْا مَعَ الْبُلْقَيْنِيِّ إِفْتَاءَ دَارِ الْعَدْلِ لِحَنَفِيٍّ يُقَالُ لَهُ: الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الصَّائِغِ، وَهُوَ مُفْتٍ حَنَفِيٌّ أَيْضًا.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَابِعِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ نُورُ الدِّينِ مُحَمَّدُ ابْنُ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرِ ابْنِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ ابْنِ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرِ بْنِ قَوَامٍ بِزَاوِيَتِهِمْ بِسَفْحِ جَبَلِ قَاسِيُونَ، وَغَدَا النَّاسُ إِلَى جَنَازَتِهِ. وَقَدْ كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْفُضَلَاءِ الْفُقَهَاءِ بِمَذْهَبِ

الشَّافِعِيِّ، دَرَّسَ بِالنَّاصِرِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ مُدَّةَ سِنِينَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَبِالرِّبَاطِ الدَّوَيْدَارِيِّ دَاخِلَ بَابِ الْفَرَجِ، وَكَانَ يَحْضُرُ الْمَدَارِسَ، وَنَزَلَ عِنْدَنَا بِالْمَدْرَسَةِ النَّجِيبِيَّةِ، وَكَانَ يُحِبُّ السُّنَّةَ وَيَفْهَمُهَا جَيِّدًا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْأُولَى وَلِيَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ الشَّافِعِيُّ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي فُتِحَتْ بِدَرْبِ الْقِلَى، وَكَانَتْ دَارًا لَوَاقِفِهَا جَمَالِ الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى التَّدْمُرِيِّ الَّذِي كَانَ اسْتَاذًا لِلْأَمِيرِ طَازْ، وَجُعِلَ فِيهَا دَرْسٌ لِلْحَنَابِلَةِ، وَجُعِلَ الْمُدَرِّسُ لَهُمُ الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ قَيَّمِ الْجَوْزِيَّةِ، وَحَضَرَ الدَّرْسَ وَحَضَرَ عِنْدَهُ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بِالدَّرْسِ، ثُمَّ جَرَتْ أُمُورٌ يَطُولُ بَسْطُهَا. وَاسْتَحْضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ شُهُودَ الْحَنَابِلَةِ بِالدَّرْسِ، وَاسْتَفْرَدَ كُلًّا مِنْهُمْ، وَسَأَلَهُ كَيْفَ شَهِدَ فِي أَصْلِ الْكِتَابِ - الْمَحْضَرِ - الَّذِي أَثْبَتُوهُ لَهُمْ، فَاضْطَرَبُوا فِي الشَّهَادَاتِ، وَضُبِطَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ مُخَالَفَةٌ كَثِيرَةٌ لِمَا شَهِدُوا بِهِ فِي أَصْلِ الْمَحْضَرِ، وَشَنَّعَ عَلَيْهِمْ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. ثُمَّ ظَهَرَتْ دُيُونٌ كَثِيرَةٌ لِبَيْتِ طَازْ عَلَى جَمَالِ الدِّينِ التَّدْمُرِيِّ الْوَاقِفِ، وَطُلِبَ مِنَ الْقَاضِي الْمَالِكِيِّ أَنْ يَحْكُمَ بِإِبْطَالِ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَنْبَلِيُّ، فَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ. وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ قُرِئَ كِتَابُ السُّلْطَانِ بِصَرْفِ الْوُكَلَاءِ مِنْ أَبْوَابِ الْقُضَاةِ الْأَرْبَعَةِ، فَصُرِفُوا.
وَفِي شَهْرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ شَيْخُ الْحَنَابِلَةِ بِالصَّالِحِيَّةِ - وَيُعْرَفُ بِالتَّتَرِيِّ - يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَامِنِهِ. صُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ

بَعْدَ الْعَصْرِ، وَدُفِنَ بِالسَّفْحِ، وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ.
وَفِي الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْهُ عُقِدَ بِدَارِ السَّعَادَةِ مَجْلِسٌ حَافِلٌ اجْتَمَعَ فِيهِ الْقُضَاةُ الْأَرْبَعَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفْتِينَ، وَطُلِبْتُ فَحَضَرْتُ مَعَهُمْ بِسَبَبِ الْمَدْرَسَةِ التَّدْمُرِيَّةِ وَقَرَابَةِ الْوَاقِفِ، وَدَعْوَاهُمْ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَيْهِمُ الثُّلُثَ، فَوَقَفَ الْحَنْبَلِيُّ فِي أَمْرِهِمْ، وَدَافَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الدِّفَاعِ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنْ رَجَبٍ وُجِدَ جَرَادٌ كَثِيرٌ مُنْتَشِرٌ، ثُمَّ تَزَايِدَ، وَتَرَاكَمْ، وَتَضَاعَفَ، وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ بِسَبَبِهِ، وَسَدَّ الْأَرْضَ كَثْرَةً، وَعَاثَ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَأَفْسَدَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْكُرُومِ، وَالْمَقَاثِي، وَالزُّرُوعَاتِ النَّفِيسَةِ، وَأَتْلَفَ لِلنَّاسِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَالِثِ شَعْبَانَ تَوَجَّهَ الْقُضَاةُ، وَوَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى بَابِ كَيْسَانَ، فَوَقَفُوا عَلَيْهِ وَعَلَى هَيْئَتِهِ، وَمِنْ نِيَّةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ فَتْحُهُ لِيَتَفَرَّجَ النَّاسُ بِهِ.
وَعُدِمَ لِلنَّاسِ غَلَّاتٌ كَثِيرَةٌ، وَأَشْيَاءُ مِنْ أَنْوَاعِ الزُّرُوعِ; بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْجَرَادِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ كَثُرَ الْوَبَاءُ وَالْفَنَاءُ فِي النَّاسِ، وَبَلَغَتِ الْعِدَّةُ إِلَى السَّبْعِينَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

فَتْحُ بَابِ كَيْسَانَ بَعْدَ غَلْقِهِ نَحْوًا مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ اجْتَمَعَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْقُضَاةُ عِنْدَ بَابِ كَيْسَانَ، وَشَرَعَ الصُّنَّاعُ فِي فَتْحِهِ عَنْ مَرْسُومِ السُّلْطَانِ الْوَارِدِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَمْرِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَإِذْنِ الْقُضَاةِ فِي ذَلِكَ، وَاسْتَهَلَّ رَمَضَانُ وَهُمْ فِي الْعَمَلِ فِيهِ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ شَعْبَانَ تُوُفِّيَ الشَّرِيفُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ حَمْزَةَ الْحُسَيْنِيُّ، الْمُحَدِّثُ الْمُحَصِّلُ، الْمُؤَلِّفُ لِأَشْيَاءَ مُهِمَّةٍ فِي الْحَدِيثِ، قَرَأَ، وَسَمِعَ، وَجَمَعَ، وَكَتَبَ أَسْمَاءَ رِجَالٍ بِ " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ "، وَاخْتَصَرَ كِتَابًا فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ مُفِيدًا، وَوَلِيَ مَشْيَخَةَ الْحَدِيثِ الَّتِي وَقَفَهَا فِي دَارِهِ بَهَاءُ الدِّينِ الْقَاسِمُ بْنُ عَسَاكِرَ دَاخِلَ بَابِ تُومَاءَ.
وَخُتِمَتِ الْبُخَارِيَّاتُ فِي آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَوَقَعَ بَيْنَ الشَّيْخِ عِمَادِ الدِّينِ بْنِ السَّرَّاجِ قَارِئِ " الْبُخَارِيِّ " عِنْدَ مِحْرَابِ الصَّحَابَةِ، وَبَيْنَ الشَّيْخِ بَدْرِ الدِّينِ ابْنِ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الشَّرِيشِيِّ، وَتَهَاتَرَا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ بِسَبَبِ لَفْظَةِ " يَبْتَئِرُ " بِمَعْنَى ( يَدَّخِرُ )، وَفِي نُسْخَةٍ " يَبْتَئِزُ "، فَحَكَى ابْنُ السَّرَّاجِ عَنِ الْحَافِظِ الْمِزِّيِّ أَنَّ

الصَّوَابَ " يَبْتَئِزُ " مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: مَنْ عَزَّ بَزَّ. وَصَدَقَ فِي ذَلِكَ، فَكَأَنَّ مُنَازِعَهُ خَطَّأَ الْمِزِّيَّ، فَانْتَصَرَ الْآخَرُ لِلْحَافِظِ الْمِزِّيِّ، فَنَالَ مِنْهُ بِالْقَوْلِ ثُمَّ قَامَ وَالِدُهُ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ، فَكَشَفَ رَأْسَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الصُّوفِيَّةِ، فَكَأَنَّ ابْنَ السَّرَّاجِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَتَدَافَعُوا إِلَى الْقَاضِي الشَّافِعِيِّ، فَانْتَصَرَ لِلْحَافِظِ الْمِزِّيِّ، وَجَرَتْ أُمُورٌ ثُمَّ اصْطَلَحُوا غَيْرَ مَرَّةٍ، وَعَزَمَ أُولَئِكَ عَلَى كَتْبِ مَحْضَرٍ عَلَى ابْنِ السَّرَّاجِ، ثُمَّ انْطَفَأَتْ تِلْكَ الشُّرُورُ. وَكَثُرَ الْمَوْتُ فِي أَثْنَاءِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَقَارَبَتِ الْعِدَّةُ مِائَةً، وَرُبَّمَا جَاوَزَتِ الْمِائَةَ، وَرُبَّمَا كَانَتْ أَقَلَّ مِنْهَا وَهُوَ الْغَالِبُ، وَمَاتَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَصْحَابِ وَالْمَعَارِفِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَكَثُرَ الْجَرَادُ فِي الْبَسَاتِينِ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ بِسَبَبِهِ، وَأَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْغَلَّاتِ، وَالثِّمَارِ، وَالْخُضْرَاوَاتِ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ، وَقَلَّتِ الثِّمَارُ، وَارْتَفَعَتْ قِيَمُ الْأَشْيَاءِ، فَبِيعَ الدِّبْسُ بِمَا فَوْقَ الْمِائَتَيْنِ الْقِنْطَارُ، وَالرُّزُّ بِأَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ.
وَتَكَامَلَ فَتْحُ بَابِ كَيْسَانَ وَسَمَّوْهُ الْبَابَ الْقِبْلِيَّ، وَوُضِعَ الْجِسْرُ مِنْهُ إِلَى الطَّرِيقِ السَّالِكَةِ، وَعَرْضُهُ أَزْيَدُ مِنْ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ بِالنَّجَّارِيِّ لِأَجْلِ عَمَلِ الْبَاشُورَةِ جَنَبَتَيْهِ، وَدَخَلَتِ الْمَارَّةُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُشَاةِ وَالرُّكْبَانِ، وَجَاءَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَسَلَكَ النَّاسُ فِي حَارَاتِ الْيَهُودِ، وَانْكَشَفَ دَخَلُهُمْ، وَأَمِنَ النَّاسُ مِنْ دَخَنِهِمْ، وَغِشِّهِمْ، وَمَكْرِهِمْ،

وَخُبْثِهِمْ، وَانْفَرَجَ النَّاسُ بِهَذَا الْبَابِ الْمُبَارَكِ.
وَاسْتَهَلَّ شَوَّالٌ وَالْجَرَادُ قَدْ أَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْبِلَادِ، وَرَعَى الْخَضْرَاوَاتِ، وَالْأَشْجَارَ، وَأَوْسَعَ أَهْلَ الشَّامِ فِي الْفَسَادِ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ، وَاسْتَمَرَّ الْفَنَاءُ، وَكَثُرَ الضَّجِيجُ وَالْبُكَاءُ، وَفَقَدْنَا كَثِيرًا مِنَ الْأَصْحَابِ وَالْأَصْدِقَاءِ. وَقَدْ تَنَاقَصَ الْفَنَاءُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَقَلَّ الْوَقْعُ، وَتَنَاقَصَ لِلْخَمْسِينَ. وَفِي شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ تَقَاصَرَ الْفَنَاءُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَنَزَلَ الْعَدَدُ إِلَى الْعِشْرِينَ فَمَا حَوْلَهَا. وَفِي رَابِعِهِ دُخِلَ بِالْفِيلِ وَالزَّرَافَةِ إِلَى مَدِينَةِ دِمَشْقَ مِنَ الْقَاهِرَةِ، فَأُنْزِلَا فِي الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ قَرِيبًا مِنَ الْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، وَذَهَبَ النَّاسُ لِلنَّظَرِ إِلَيْهِمَا عَلَى الْعَادَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ تَاسِعِهِ صُلِّيَ عَلَى الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ خَلِيلٍ الْبَغْدَادِيِّ، الْمَعْرُوفِ بِابْنِ الْخُضَرِيِّ، مُحَدِّثِ بَغْدَادَ وَوَاعِظِهَا، كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

تَجْدِيدُ خُطْبَةٍ ثَانِيَةٍ دَاخِلَ سُوَرِ دِمَشْقَ وَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ فِيمَا أَعْلَمُ مُنْذُ فُتُوحِ الشَّامِ إِلَى الْآنَ.
اتَّفَقَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّالِثِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِالْجَامِعِ الَّذِي جَدَّدَ بِنَاءَهُ نَائِبُ الشَّامِ سَيْفُ الدِّينِ مَنْكَلِي بُغَا

بِدَرْبِ الْبَلَاغَةِ قِبْلِيَّ مَسْجِدِ دَرْبِ الْحَجَرِ دَاخِلَ بَابِ كَيْسَانَ الْمُجَدَّدِ فَتْحُهُ فِي هَذَا الْحِينِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ بِمَسْجِدِ الشَّاذُورِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي " تَارِيخِ ابْنِ عَسَاكِرَ " مَسْجِدُ الشَّهْرَزُورِيِّ، وَقَدْ كَانَ الْمَسْجِدُ رَثَّ الْهَيْئَةِ قَدْ تَقَادَمَ عَهْدُهُ مَدَّ دَهْرٍ، وَهُجِرَ فَلَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا قَلِيلٌ، فَوَسَّعَهُ مِنْ قِبْلِيِّهِ، وَسَقَفَهُ جَدِيدًا، وَجَعَلَ لَهُ صَرْحَةً شَمَالِيَّةً مُبَلَّطَةً، وَرِوَاقَاتٍ عَلَى هَيْئَةِ الْجَوَامِعِ، وَالدَّاخِلُ بِأَبْوَابِهِ عَلَى الْعَادَةِ، وَدَاخِلُ ذَلِكَ رِوَاقٌ كَبِيرٌ لَهُ جَنَاحَانِ شَرْقِيٌّ وَغَرْبِيٌّ بِأَعْمِدَةِ وَقَنَاطِرَ، وَقَدْ كَانَ قَدِيمًا كَنِيسَةً، فَأُخِذَتْ مِنْهُمْ قَبْلَ الْخَمْسِمِائَةِ، وَعُمِلَتْ مَسْجِدًا، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ إِلَى هَذَا الْحِينِ، فَلَمَّا كَمَلَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَسِيقَ إِلَيْهِ الْمَاءُ مِنَ الْقَنَوَاتِ، وَوُضِعَ فِيهِ مِنْبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ كَذَلِكَ - فَيَوْمَئِذٍ رَكِبَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ، وَدَخَلَ الْبَلَدَ مِنْ بَابِ كَيْسَانَ، وَانْعَطَفَ عَلَى حَارَةِ الْيَهُودِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْجَامِعِ الْمَذْكُورِ، وَقَدِ اسْتَكَفَّ النَّاسُ عِنْدَهُ مِنْ قُضَاةٍ، وَأَعْيَانٍ، وَخَاصَّةٍ، وَعَامَّةٍ، وَقَدْ عُيِّنَ لِخَطَابَتِهِ الشَّيْخُ صَدْرُ الدِّينِ بْنُ مَنْصُورٍ الْحَنَفِيُّ مُدَرِّسُ التَّاجِيَّةِ، وَإِمَامُ الْحَنَفِيَّةِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، فَلَمَّا أُذِّنَ الْأَذَانُ الْأَوَّلُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْ بَيْتِ الْخَطَابَةِ، قِيلَ: لِمَرَضٍ عَرَضَ لَهُ. وَقِيلَ: لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حَصْرٍ أَوْ نَحْوِهُ. فَخَطَبَ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ الْكَفْرِيُّ، خِدْمَةً لِنَائِبِ السَّلْطَنَةِ.
وَاسْتَهَلَّ شَهْرُ ذِي الْحِجَّةِ وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ الْوَبَاءَ عَنْ دِمَشْقَ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَأَهْلُ الْبَلَدِ يَمُوتُونَ عَلَى الْعَادَةِ، وَلَا يَمْرَضُ أَحَدٌ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ، وَلَكِنِ الْمَرَضُ الْمُعْتَادَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالسُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ نَاصِرُ الدِّينِ شَعْبَانُ، وَالدَّوْلَةُ بِمِصْرَ وَالشَّامِ هُمْ هُمْ. وَدَخَلَ الْمَحْمَلُ السُّلْطَانِيُّ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ نَالَهُمْ فِي الرَّجْعَةِ شِدَّةٌ شَدِيدَةٌ مِنَ الْغَلَاءِ، وَمَوْتِ الْجِمَالِ، وَهَرَبِ الْجَمَّالِينَ، وَقَدِمَ مَعَ الرَّكْبِ الشَّامِيِّ مِمَّنْ خَرَجَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ قَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ، وَقَدْ سَبَقَهُ التَّقْلِيدُ بِقَضَاءِ الْقُضَاةِ مَعَ خَالِهِ تَاجِ الدِّينِ، يَحْكُمُ فِيمَا يَحْكُمُ فِيهِ مُسْتَقِلًّا مَعَهُ مُنْفَرِدًا بَعْدَهُ.
وَفِي شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ رَسَمَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِتَخْرِيبِ قَرْيَتَيْنِ مِنْ وَادِي التَّيْمَ، وَهُمَا مَشْغَرَا وَتَلْفِيَّتَا، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا عَاصِيَانِ، وَأَهْلُهُمَا مُفْسِدَانِ فِي الْأَرْضِ وَالْبَلَدَانِ وَالْأَرْضُ حَصِينَانِ لَا يَصِلُ إِلَيْهِمَا إِلَّا بِكُلْفَةٍ كَثِيرَةٍ، لَا يَرْتَقِي إِلَيْهِمَا إِلَّا فَارِسٌ فَارِسٌ، فَخُرِّبَتَا، وَعُمِّرَ بَدَلَهُمَا فِي أَسْفَلِ الْوَادِي، بِحَيْثُ يَصِلُ إِلَيْهِمَا حُكْمُ الْحَاكِمِ، وَالطَّلَبُ بِسُهُولَةٍ، فَأَخْبَرَنِي الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ بْنُ الْكَامِلِ

أَنَّ بَلْدَةَ تَلَفِيَّتَا عَمِلَ فِيهَا أَلْفُ فَارِسٍ، وَنَقَلَ بَعْضَهَا إِلَى أَسْفَلِ الْوَادِي خَمْسَمِائَةِ حِمَارٍ عِدَّةَ أَيَّامٍ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَادِسِ صَفَرٍ بَعْدَ الصَّلَاةِ صُلِّيَ عَلَى قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالِ الدِّينِ يُوسُفَ ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفِ الدِّينِ أَحْمَدَ ابْنِ أَقْضَى الْقُضَاةِ الْحُسَيْنِ الْكَفْرِيِّ الْحَنَفِيِّ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ مَرَضٍ قَرِيبٍ مِنْ شَهْرٍ، وَقَدْ جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ بِثَلَاثٍ مِنَ السِّنِينَ، وَلِيَ قَضَاءَ قُضَاةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَخَطَبَ بِجَامِعِ يَلْبُغَا، وَحَضَرَ مَشْيَخَةَ النَّفِيسِيَّةِ، وَدَرَّسَ بِأَمَاكِنَ مِنْ مَدَارِسِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ بِالْجَامِعِ الْمُسْتَجَدِّ دَاخِلَ بَابِ كَيْسَانَ بِحَضْرَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ.
وَفِي صَفَرٍ كَانَتْ وَفَاةُ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ عُمَرَ ابْنِ الْقَاضِي عَبْدِ الْمُحْيِي بْنِ إِدْرِيسَ الْحَنَفِيِّ مُحْتَسِبِ بَغْدَادَ، وَقَاضِي الْحَنَابِلَةِ بِهَا، فَتَعَصَّبَتْ عَلَيْهِ الرَّوَافِضُ حَتَّى ضُرِبَ بَيْنَ يَدَيِ الْوِزَارَةِ ضَرْبًا مُبَرِّحًا كَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ سَرِيعًا، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ مِنَ الْقَائِمِينَ بِالْحَقِّ، الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ، مِنْ أَكْبَرِ الْمُنْكِرِينَ عَلَى الرَّوَافِضِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَبَلَّ بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ تَاسِعِ صَفَرٍ حَضَرَ مَشْيَخَةَ النَّفِيسِيَّةِ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ سَنَدٍ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ، وَأَوْرَدَ حَدِيثَ

عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ:لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. أَسْنَدَهُ عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ.
وَجَاءَ الْبَرِيدُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِطَلَبِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ إِلَى هُنَاكَ، فَسَيَّرَ أَهْلَهُ قَبْلَهُ عَلَى الْجِمَالِ، وَخَرَجُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَادِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِمْ لِزِيَارَةِ أَهْلِيهِمْ هُنَاكَ، فَأَقَامَ هُوَ بَعْدَهُمْ حَتَّى قَدِمَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ مِنَ الرَّحْبَةِ، وَرَكِبَ عَلَى الْبَرِيدِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ خَامِسَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ رَجَعَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى الْبَرِيدِ، وَتَلَقَّاهُ النَّاسُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، وَاحْتَفَلُوا لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ وَتَهْنِئَتِهِ بِالسَّلَامَةِ.

قَتْلُ الرَّافِضِيِّ الْخَبِيثِ
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَامِنَ عَشَرَهُ أَوَّلَ النَّهَارِ وُجِدَ رَجُلٌ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ اسْمُهُ مَحْمُودُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشِّيرَازِيُّ وَهُوَ يَسُبُّ الشَّيْخَيْنِ، وَيُصَرِّحُ بِلَعْنَتِهِمَا، فَرُفِعَ إِلَى الْقَاضِي الْمَالِكِيِّ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالِ الدِّينِ الْمَسَلَّاتِيِّ، فَاسْتَتَابَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَحْضَرَ الضَّرَّابَ، فَأَوَّلَ ضَرْبَةٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، عَلِيٌّ وَلِيُّ اللَّهِ ! وَلَمَّا

ضُرِبَ الثَّانِيَةَ لَعَنَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَالْتَهَمَهُ الْعَامَّةُ فَأَوْسَعُوهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا بِحَيْثُ كَادَ يَهْلِكُ، فَجَعَلَ الْقَاضِي يَسْتَكِفُّهُمْ عَنْهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ، فَجَعَلَ الرَّافِضِيُّ يَسُبُّ وَيَلْعَنُ الصَّحَابَةَ، وَقَالَ: كَانُوا عَلَى الضَّلَالَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ حُمِلَ إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الضَّلَالَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ حَكَمَ عَلَيْهِ الْقَاضِي بِإِرَاقَةِ دَمِهِ، فَأُخِذَ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَأَحْرَقَتْهُ الْعَامَّةُ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَكَانَ مِمَّنْ يَقْرَأُ بِمَدْرَسَةِ أَبِي عُمَرَ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ الرَّفْضُ، فَسَجَنَهُ الْحَنْبَلِيُّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَلَمْ يَنْفَعْ ذَلِكَ، وَمَا زَالَ يُصَرِّحُ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ يَأْمُرُ فِيهِ بِالسَّبِّ حَتَّى كَانَ يَوْمُهُ هَذَا أَظْهَرَ مَذْهَبَهُ فِي الْجَامِعِ، وَكَانَ سَبَبَ قَتْلِهِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ كَمَا قَبَّحَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَقُتِلَ كَقَتْلِهِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ.

اسْتِنَابَهُ وَلِيِّ الدِّينِ بْنِ أَبِي الْبَقَاءِ السُّبْكِيِّ
وَفِي آخِرِ هَذَا الْيَوْمِ - أَعْنِي يَوْمَ الْخَمِيسَ ثَامِنَ عَشَرَهُ - حَكَمَ أَقْضَى الْقُضَاةِ وَلِيُّ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ بَهَاءُ الدِّينِ أَبِي الْبَقَاءِ بِالْمَدْرَسَةِ الْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ نِيَابَةً عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ مَعَ اسْتِنَابَةِ أَقَضَى الْقُضَاةِ شَمْسِ الدِّينِ الْعِزِّيِّ،

وَأَقْضَى الْقُضَاةِ بَدْرِ الدِّينِ بْنِ وُهَيْبَةَ، وَأَمَّا قَاضَى الْقُضَاةِ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ فَهُوَ نَائِبٌ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ بِتَوْقِيعٍ شَرِيفٍ أَنَّهُ يَحْكُمُ مُسْتَقِلًّا مَعَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ اسْتَحْضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرَ نَاصِرَ الدِّينِ بْنَ الْعَاوِيِّ مُتَوَلِّيَ الْبَلَدِ، وَنَقَمَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ، وَأَمْرٌ بِضَرْبِهِ، فَضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى أَكْتَافِهِ ضَرْبًا لَيْسَ بِمُبَرِّحٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ، وَاسْتَدْعَى بِالْأَمِيرِ عَلَمِ الدِّينِ سُلَيْمَانَ أَحَدِ الْأُمَرَاءِ الْعَشْرَاوَاتِ ابْنِ الْأَمِيرِ صَفِيِّ الدِّينِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الْبُصْرَاوِيِّ أَحَدِ أُمَرَاءِ الطَّبْلَخَانَاهْ، كَانَ قَدْ وَلِيَ شَدَّ الدَّوَاوِينِ، وَنَظَرَ الْقُدْسِ وَالْخَلِيلِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْوِلَايَاتِ الْكِبَارِ، وَهُوَ ابْنُ الشَّيْخِ فَخْرُ الدِّينِ عُثْمَانُ ابْنُ الشَّيْخِ صَفِيِّ الدِّينِ أَبِي الْقَاسِمِ التَّمِيمِيُّ الْحَنَفِيُّ، وَبِأَيْدِيهِمْ تَدْرِيسُ الْأَمِينِيَّةِ الَّتِي بِبُصْرَى، وَالْحَكِيمِيَّةِ أَزْيَدَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ، فَوَلَّاهُ الْبَلَدَ عَلَى تَكَرُّهٍ مِنْهُ فَأَلْزَمَهُ بِهَا، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ وَلِيَهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ، وَشُكِرَ سَعْيُهُ لِدِيَانَتِهِ، وَأَمَانَتِهِ، وَعِفَّتِهِ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

وِلَايَةُ قَاضِي الْقُضَاةِ بَهَاءُ الدِّينِ أَبِي الْبَقَاءِ السُّبْكِيَّ قَضَاءَ مِصْرَ بَعْدَ عَزْلِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ نَفْسَهُ
وَرَدَ الْخَبَرُ مَعَ الْبَرِيدِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِأَنَّ قَاضِيَ الْقُضَاةِ عِزَّ الدِّينِ عَبْدَ الْعَزِيزِ ابْنَ قَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرِ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ - عَزَلَ نَفْسَهُ عَنِ الْقَضَاءِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ، وَصَمَّمَ عَلَى ذَلِكَ، فَبَعَثَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ يَلْبُغَا إِلَيْهِ الْأُمَرَاءَ يَسْتَرْضُونَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ، فَرَكِبَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَمَعَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ،

فَتَلَطَّفُوا بِهِ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَصَمَّمَ عَلَى الِانْعِزَالِ، فَقَالَ لَهُ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ: فَعَيِّنْ لَنَا مَنْ يَصْلُحُ بَعْدَكَ. قَالَ: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَوَلَّى رَجُلٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ وَلُّوا مَنْ شِئْتُمْ. فَأَخْبَرَنِي قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ قَالَ: لَا تُوَلُّوا ابْنَ عَقِيلٍ. فَعَيَّنَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ قَاضِيَ الْقُضَاةِ بَهَاءَ الدِّينِ أَبَا الْبَقَاءِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ أَظْهَرَ الِامْتِنَاعَ، ثُمَّ قَبِلَ وَلَبِسَ الْخِلْعَةَ. وَبَاشَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَتَوَلَّى قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ قَضَاءَ الْعَسَاكِرِ الَّذِي كَانَ بِيَدِ أَبِي الْبَقَاءِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَابِعِ رَجَبٍ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْمُرَاوِحِيُّ الْبَغْدَادِيُّ خَادِمُ الشَّيْخِ أَسَدٍ الْمُرَاوِحِيِّ الْبَغْدَادِيِّ، وَكَانَ فِيهِ مُرُوءَةٌ كَبِيرَةٌ، وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَدْخُلُ عَلَى النُّوَّابِ، وَيُرْسِلُ إِلَى الْوُلَاةِ فَتُقْبَلُ رِسَالَتُهُ، وَلَهُ قَبُولٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَفِيهِ بَرٌّ، وَصَدَقَةٌ، وَإِحْسَانٌ إِلَى الْمَحَاوِيجِ، وَبِيَدِهِ مَالٌ جَيِّدٌ يُتَّجَرُ لَهُ فِيهِ، تَعَلَّلَ مُدَّةً طَوِيلِهً، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَصُلِّيَ عَلَيْهِ الظُّهْرُ بِالْجَامِعِ ثُمَّ حُمِلَ إِلَى سَفْحِ قَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ قَدِمَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْدَمُرُ الَّذِي كَانَ نَائِبَ الشَّامِ فَنَزَلَ بِدَارِهِ عِنْدَ مِئْذَنَةِ فَيْرُوزَ، وَذَهَبَ النَّاسُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ عَلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَقَدْ رَسَمَ لَهُ بِطَبْلَخَانَتَيْنِ وَتَقْدِمَةِ أَلْفٍ، وَوِلَايَةِ الْوُلَاةِ مِنْ غَزَّةَ إِلَى أَقْصَى بِلَادِ الشَّامِ،

وَأَكْرَمَهُ مَلِكُ الْأُمَرَاءِ إِكْرَامًا زَائِدًا، وَفَرِحَتِ الْعَامَّةُ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا بِعَوْدِهِ إِلَى الْوِلَايَةِ.
وَخُتِمَتِ الْبُخَارِيَّاتُ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ وَغَيْرِهِ فِي عِدَّةِ أَمَاكِنَ; مِنْ ذَلِكَ سِتَّةُ مَوَاعِيدَ تُقْرَأُ عَلَى الشَّيْخِ عِمَادِ الدِّينِ بْنِ كَثِيرٍ فِي الْيَوْمِ، أَوَّلُهَا بِمَسْجِدِ ابْنِ هِشَامٍ بُكْرَةً قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، ثُمَّ تَحْتَ النَّسْرِ، ثُمَّ بِالْمَدْرَسَةِ النُّورِيَّةِ، وَبَعْدَ الظُّهْرِ بِجَامِعِ تَنْكِزَ، ثُمَّ بِالْمَدْرَسَةِ الْعِزِّيَّةِ، ثُمَّ بِالْكُوشْكِ لِأُمِّ الزَّوْجَةِ السِّتِّ أَسْمَاءَ بِنْتِ الْوَزِيرِ ابْنِ السَّلْعُوسِ إِلَى أَذَانِ الْعَصْرِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ الْعَصْرِ بِدَارِ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ أَمِيرِ عَلِيٍّ بِمَحَلَّةِ الْقَصَّاعِينَ إِلَى قَرِيبِ الْغُرُوبِ، وَيُقْرَأُ " صَحِيحُ مُسْلِمٍ " بِمِحْرَابِ الْحَنَابِلَةِ دَاخِلَ بَابِ الزِّيَارَةِ بَعْدَ قُبَّةِ النَّسْرِ وَقَبْلَ النُّورِيَّةِ، وَاللَّهُ الْمَسْئُولُ، وَهُوَ الْمُعِينُ الْمُيَسِّرُ الْمُسَهِّلُ. وَقَدْ قُرِئَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي عِدَّةِ أَمَاكِنَ أُخَرَ مِنْ دُورِ الْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يُعْهَدْ مِثْلَ هَذَا فِي السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ عَاشِرِ شَوَّالٍ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ نُورُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ الصَّارِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْهَيْجَاءِ الْكَرْكِيُّ الشُّوبَكِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ الشَّافِعِيُّ، كَانَ مَعَنَا فِي الْمَقْرَأِ وَالْكُتَّابِ، وَخَتَمْتُ أَنَا وَهُوَ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَنَشَأَ فِي صِيَانَةٍ، وَعَفَافٍ، وَقَرَأَ عَلَى الشَّيْخِ بَدْرِ الدِّينِ بْنِ سَيْحَانَ لِلسَّبْعِ، وَلَمْ يُكْمِلْ عَلَيْهِ خَتْمَةً، وَاشْتَغَلَ فِي " الْمِنْهَاجِ " لِلنَّوَاوِيِّ، فَقَرَأَ كَثِيرًا مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَهُ، وَكَانَ يَنْقُلُ مِنْهُ وَيَسْتَحْضِرُ، وَكَانَ خَفِيفَ الرُّوحِ تُحِبُّهُ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَيَرْغَبُونَ فِي عِشْرَتِهِ لِذَلِكَ،

رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ يَسْتَحْضِرُ الْمُتَشَابِهَ فِي الْقُرْآنِ اسْتِحْضَارًا حَسَنًا مُتْقَنًا، كَثِيرَ التِّلَاوَةِ لَهُ، حَسَنَ الصَّلَاةِ، يَقُومُ اللَّيْلَ، وَقَرَأَ عَلَيَّ " صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ " بِمَشْهَدِ ابْنِ هِشَامٍ عِدَّةَ سِنِينَ، وَمَهَرَ فِيهِ، وَكَانَ صَوْتُهُ جَهْوَرِيًّا فَصِيحَ الْعِبَارَةِ، ثُمَّ وَلِيَ مَشْيَخَةَ الْحَلَبِيَّةِ بِالْجَامِعِ، وَقَرَأَ فِي عِدَّةِ كَرَاسٍ بِالْحَائِطِ الشَّمَالِيِّ، وَكَانَ مَقْبُولًا عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَكَانَ يُدَاوِمُ عَلَى قِيَامِ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ فِي مِحْرَابِ الصَّحَابَةِ مَعَ عِدَّةِ قُرَّاءٍ، يَتَنَاوَبُونَ فِيهِ، وَيُحْيُونَ اللَّيْلَ، وَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَحْيَا لَيْلَةَ الْعِيدِ وَحْدَهُ بِالْمِحْرَابِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ مَرِضَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ الظُّهْرِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ عَاشِرَ شَوَّالٍ بِدَرْبِ الْعَمِيدِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ الْعَصْرَ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الْبَابِ الصَّغِيرِ عِنْدَ وَالِدِهِ فِي تُرْبَةٍ لَهُمْ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَبَلَّ بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ، وَقَدْ قَارَبَ خَمْسًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَتَرَكَ بِنْتًا سُبَاعِيَّةً اسْمُهَا عَائِشَةُ، وَقَدْ أَقْرَأَهَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَى " تَبَارَكَ "، وَحَفَّظَهَا " الْأَرْبَعِينَ النَّوَاوِيَّةَ "، جَبَرَهَا رَبُّهَا وَرَحِمَ أَبَاهَا، آمِينَ.
وَخَرَجَ الْمَحْمَلُ الشَّامِيُّ وَالْحَجِيجُ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَانِيَ عَشَرَهُ، وَأَمِيرُهُمُ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ عَلَمِ الدِّينِ الْهِلَالِيِّ أَحَدُ أُمَرَاءِ الطَّبْلَخَانَاهْ.
وَتُوُفِّيَ الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ الْمَلْطِيُّ يَوْمَ السَّبْتِ رَابِعَ عَشَرَهُ، وَكَانَ مَشْهُورًا

بِالْمُجَاوَرَةِ بِالْكَلَّاسَةِ فِي الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، لَهُ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مِنَ الطَّرَارِيحِ وَالْآلَاتِ الْفَقِيرِيَّةِ، وَيَلْبَسُ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَرِيرِيَّةِ، وَشَكْلُهُ مُزْعِجٌ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ كَانَ يَعْتَقِدُ فِيهِ الصَّلَاحَ، وَكُنْتُ مِمَّنْ يَكْرَهُهُ طَبْعًا وَشَرْعًا أَيْضًا.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ قَدِمَ الْبَرِيدُ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ، وَمَعَهُمْ قَمَاقِمُ مَاءٍ مِنْ عَيْنٍ هُنَاكَ مِنْ خَاصِيَّتِهِ أَنَّهُ يَتْبَعُهُ طَيْرٌ يُسَمَّى السَّمَرْمَرُ، أَصْفَرُ الرِّيشِ، قَرِيبٌ مِنْ شَكْلِ الْخُطَّافِ، مِنْ شَأْنِهِ إِذَا قَدِمَ الْجَرَادُ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ أَنَّهُ يُفْنِيهِ، وَيَأْكُلُهُ أَكْلًا سَرِيعًا، فَلَا يَلْبَثُ الْجَرَادُ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى يَرْحَلَ أَوْ يُؤْكَلَ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَلَمْ أُشَاهِدْ ذَلِكَ.
وَفِي الْمُنْتَصَفِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ كَمَلَ بِنَاءُ الْقَيْسَارِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَعْمَلًا بِالْقُرْبِ مِنْ دَارِ الْحِجَارَةِ قِبْلِيَّ سُوقِ الدَّهْشَةِ الَّذِي لِلرِّجَالِ، وَفُتِحَتْ وَأُكْرِيَتْ دَهْشَةٌ لِقُمَاشِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِمَرْسُومِ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ نَاظِرِ الْجَامِعِ الْمَعْمُورِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَخْبَرَنِي الصَّدْرُ عِزُّ الدِّينِ السِّيرْجِيُّ الْمُشَارِفُ بِالْجَامِعِ أَنَّهُ غُرِمَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِ الْجَامِعِ قَرِيبُ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.

طَرْحُ مَكْسِ الْقُطْنِ الْمَغْزُولِ الْبَلَدِيِّ وَالْمَجْلُوبِ
وَفِي أَوَاخِرِ هَذَا الشَّهْرِ جَاءَ الْمَرْسُومُ الشَّرِيفُ بِطَرْحِ مَكْسِ الْقُطْنِ الْمَغْزُولِ الْبَلَدِيِّ وَالْجَلْبِ أَيْضًا، وَنُودِيَ بِذَلِكَ فِي الْبَلَدِ، فَكَثُرَتِ الدَّعَوَاتُ لِمَنْ أَمَرَ بِذَلِكَ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالشَّامِيَّةِ، وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقَالِيمِ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ بْنُ الْحُسَيْنِ ابْنُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ، وَعُمْرُهُ عَشْرُ سِنِينَ فَمَا فَوْقَهَا، وَأَتَابِكُ الْعَسَاكِرِ وَمُدَبِّرُ مَمَالِكِهِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ يَلْبُغَا الْخَاصِّكِيُّ، وَقَاضِي قُضَاةِ الشَّافِعِيَّةِ بِمِصْرَ بَهَاءُ الدِّينِ أَبُو الْبَقَاءِ السُّبْكِيُّ، وَبَقِيَّةُ الْقُضَاةِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَنَائِبُ دِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ مَنْكَلِي بُغَا، وَقُضَاةُ دِمَشْقَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا سِوَى الْحَنَفِيِّ، فَإِنَّهُ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ السَّرَّاجِ شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْخَطَابَةُ بِيَدِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ الشَّافِعِيِّ، وَكَاتِبُ السِّرِّ وَشَيْخُ الشُّيُوخِ الْقَاضِي فَتْحُ الدِّينِ بْنُ الشَّهِيدِ، وَوَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الرَّهَاوِيِّ. وَدَخَلَ الْمَحْمَلُ السُّلْطَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ قَرِيبَ الْغُرُوبِ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَذَلِكَ لِغَيْبَةِ النَّائِبِ فِي الرَّحْبَةِ مِمَّا يَلِي نَاحِيَةَ الْفُرَاتِ; لِيَكُونَ كَالرَّدِّ لِلتَّجْرِيدَةِ الَّتِي تَعَيَّنَتْ لِتَخْرِيبِ الْكَنِيسَاتِ الَّتِي هِيَ إِقْطَاعُ حَيَّارِ بْنِ مُهَنَّا مِنْ أَرْضِ السُّلْطَانِ أُوَيْسٍ مَلِكِ الْعِرَاقِ.

اسْتِيلَاءُ الْفِرَنْجِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ عَلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ
وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ احْتِيطَ عَلَى الْفِرَنْجِ بِمَدِينَةِ دِمَشْقَ، وَأُودِعُوا فِي الْحُبُوسِ فِي الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَاشْتَهَرَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ مَدِينَةَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مُحَاصَرَةٌ بِعِدَّةِ شَوَانٍ، وَذُكِرَ أَنَّ صَاحِبَ قُبْرُسَ مَعَهُمْ، وَأَنَّ الْجَيْشَ الْمِصْرِيَّ صَمَدُوا إِلَى حِرَاسَةِ مَدِينَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَصَانَهَا وَحَمَاهَا، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ أَمْرِهَا فِي الشَّهْرِ الْآتِي، فَإِنَّهُ وَضَحَ لَنَا فِيهِ، وَمَكَثَ الْقَوْمُ بَعْدَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِأَيَّامٍ فِيمَا بَلَغَنَا، بَعْدَ ذَلِكَ حَاصَرَهَا أَمِيرٌ مِنَ التَّتَارِ يُقَالُ لَهُ: مَامِيَهْ، وَاسْتَعَانَ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْفِرِنْجِ فَفَتَحُوهَا قَسْرًا، وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا، وَغَنِمُوا شَيْئًا كَثِيرًا، وَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُ مَامَيْهِ مَلِكًا عَلَيْهَا.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَلْخِ هَذَا الشَّهْرِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ بِبُسْتَانِهِ بِالْمَزَّةِ، وَنُقِلَ إِلَى عِنْدِ وَالِدِهِ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ، فَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ بِجَامِعِ جَرَّاحٍ، وَحَضَرَ جَنَازَتَهُ الْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ، وَخَلْقٌ مِنَ التُّجَّارِ وَالْعَامَّةِ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً، وَقَدْ بَلَغَ مِنَ الْعُمْرِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ بَارِعًا فَاضِلًا فِي النَّحْوِ، وَالْفِقْهِ، وَفُنُونٍ أُخَرَ عَلَى

طَرِيقَةِ وَالِدِهِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ مُدَرِّسًا بِالصَّدْرِيَّةِ، وَالتَّدْمُرِيَّةِ، وَلَهُ تَصْدِيرٌ بِالْجَامِعِ، وَخَطَابَةٌ بِجَامِعِ ابْنِ خِلِّيخَانَ، وَتَرَكَ مَالًا جَزِيلًا يُقَارِبُ الْمِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
ثُمَّ دَخَلَ شَهْرُ صَفَرٍ وَأَوَّلُهُ الْجُمُعَةُ، أَخْبَرَنِي بَعْضُ عُلَمَاءِ السِّيَرِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْيَوْمِ - مُسْتَهَلِّ هَذَا الشَّهْرِ - الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ سِوَى الْمِرِّيخِ فِي بُرْجِ الْعَقْرَبِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ مِثْلُ هَذَا مِنْ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةٍ، فَأَمَّا الْمِرِّيخُ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ سَبَقَ إِلَى بُرْجِ الْقَوْسِ.
فِيهِ وَوَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ الْفَظِيعِ بِمَدِينَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مِنَ الْفِرِنْجِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ، وَصَلُوا إِلَيْهَا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ، فَلَمْ يَجِدُوا بِهَا نَائِبًا، وَلَا جَيْشًا، وَلَا حَافِظًا لِلْبَحْرِ، وَلَا نَاصِرًا، فَدَخَلُوهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بُكْرَةَ النَّهَارِ بَعْدَ مَا حَرَقُوا أَبْوَابًا كَبِيرَةً مِنْهَا، وَعَاثُوا فِي أَهْلِهَا فَسَادًا; يَقْتُلُونَ الرِّجَالَ، وَيَأْخُذُونَ الْأَمْوَالَ، وَيَأْسِرُونَ النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ، وَأَقَامُوا بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالسَّبْتِ، وَالْأَحَدِ، وَالِاثْنَيْنِ، وَالثُّلَاثَاءِ، فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَةُ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ قَدِمَ الشَّالِيشُ الْمِصْرِيُّ، فَأَقْلَعَتِ الْفِرَنْجُ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - عَنْهَا وَقَدْ أَسَرُوا خَلْقًا كَثِيرًا يُقَارِبُونَ الْأَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَأَخَذُوا مِنَ الْأَمْوَالِ ذَهَبًا، وَحَرِيرًا، وَبُهَارًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوَصَفُ، وَقَدِمَ السُّلْطَانُ وَالْأَمِيرُ الْكَبِيرُ يَلْبُغَا ظُهْرَ يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ تَفَارَطَ الْحَالُ، وَتَحَوَّلَتِ الْغَنَائِمُ كُلُّهَا إِلَى الشَّوَانِي بِالْبَحْرِ، فَسُمِعَ لِلْأَسَارَى مِنَ الْعَوِيلِ وَالْبُكَاءِ وَالشَّكْوَى وَالْجَأْرِ إِلَى اللَّهِ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِ وَبِالْمُسْلِمِينَ - مَا قَطَّعَ الْأَكْبَادَ، وَذَرَفَتْ لَهُ الْعُيُونُ،

وَأَصَمَّ الْأَسْمَاعَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَلَمَّا بَلَغَتِ الْأَخْبَارُ إِلَى أَهْلِ دِمَشْقَ شَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ جِدًّا، وَذَكَرَ ذَلِكَ الْخَطِيبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَتَبَاكَى النَّاسُ كَثِيرًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَجَاءَ الْمَرْسُومُ الشَّرِيفُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ بِمَسْكِ النَّصَارَى مِنَ الشَّامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَأَنْ يُأْخَذَ مِنْهُمْ رُبْعَ أَمْوَالِهِمْ لِعِمَارَةِ مَا خُرِّبَ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَلِعِمَارَةِ مَرَاكِبَ تَغْزُو الْفِرِنْجَ، فَأَهَانُوا النَّصَارَى، وَطُلِبُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ بِعُنْفٍ، وَخَافُوا أَنْ يُقْتَلُوا، وَلَمْ يَفْهَمُوا مَا يُرَادُ بِهِمْ، فَهَرَبُوا كُلَّ مَهْرَبٍ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْحَرَكَةُ شَرْعِيَّةً، وَلَا يَجُوزُ اعْتِمَادُهَا شَرْعًا، وَقَدْ طُلِبْتُ يَوْمَ السَّبْتِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ إِلَى الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ لِلِاجْتِمَاعِ بِنَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَكَانَ اجْتَمَاعُنَا بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَئِذٍ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ لَعِبِ الْكُرَةِ، فَرَأَيْتُ مِنْهُ أُنْسًا كَثِيرًا، وَرَأَيْتُهُ كَامِلَ الرَّأْيِ وَالْفَهْمِ، حَسَنَ الْعِبَارَةِ، كَرِيمَ الْمُجَالَسَةِ، فَذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ اعْتِمَادُهُ فِي النَّصَارَى، فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ فُقَهَاءِ مِصْرَ أَفْتَى لِلْأَمِيرِ الْكَبِيرِ بِذَلِكَ، فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا مِمَّا لَا يَسُوغُ شَرْعًا، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ بِهَذَا، وَمَتَى كَانُوا بَاقِينَ عَلَى الذِّمَّةِ، يُؤَدُّونَ إِلَيْنَا الْجِزْيَةَ، مُلْتَزِمِينَ بِالذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ، وَأَحْكَامُ الْمِلَّةِ قَائِمَةٌ - لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمُ الدِّرْهَمُ الْوَاحِدُ الْفَرْدُ فَوْقَ مَا يَبْذُلُونَهُ مِنَ الْجِزْيَةِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى الْأَمِيرِ، فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ وَقَدْ وَرَدَ الْمَرْسُومُ بِذَلِكَ، وَلَا يُمْكِنُنِي أَنْ أُخَالِفَهُ ؟ وَذَكَرْتُ لَهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِمَّا يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ فِي حَقِّ أَهْلِ قُبْرُسَ مِنَ الْإِرْهَابِ، وَوَعِيدِ الْعِقَابِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا يَتَوَعَّدُهُمْ بِهِ، كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ:ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقَّهُ نِصْفَيْنِ كَمَا هُوَ الْحَدِيثُ مَبْسُوطٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، فَجَعَلَ

يُعْجِبُهُ هَذَا جِدًّا، وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي قَلْبِهِ، وَأَنِّي كَاشَفْتُهُ بِهَذَا، وَأَنَّهُ كَتَبَ بِهِ مُطَالَعَةً إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَسَيَأْتِي جَوَابُهَا بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَتَجِيءُ حَتَّى تَقِفَ عَلَى الْجَوَابِ، وَظَهَرَ مِنْهُ إِحْسَانٌ، وَقَبُولٌ وَإِكْرَامٌ زَائِدٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ. ثُمَّ اجْتَمَعْتُ بِهِ فِي دَارِ السَّعَادَةِ فِي أَوَائِلِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَبَشَّرَنِي أَنَّهُ قَدْ رُسِمَ بِعَمَلِ الشَّوَانِي وَالْمَرَاكِبِ لِغَزْوِ الْفِرَنْجِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. ثُمَّ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَحَدِ طُلِبَ النَّصَارَى الَّذِينَ اجْتَمَعُوا فِي كَنِيسَتِهِمْ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ، وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ، فَحَلَّفَهُمْ: كَمْ أَمْوَالُهُمْ ؟ وَأَلْزَمَهُمْ بِأَدَاءِ الرُّبُعِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَقَدْ أَمَرُوا إِلَى الْوُلَاةِ بِإِحْضَارِ مَنْ فِي مُعَامَلَتِهِمْ، وَوَالِي الْبَرِّ قَدْ خَرَجَ إِلَى الْقَرَايَا بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَجُرِّدَتْ أُمَرَاءُ إِلَى النَّوَاحِي لِاسْتِخْلَاصِ الْأَمْوَالِ مِنَ النَّصَارَى فِي الْقُدْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِي أَوَّلِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ كَانَ سَفَرُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ الشَّافِعِيِّ إِلَى الْقَاهِرَةِ. وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ خَامِسِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ اجْتَمَعْتُ بِنَائِبِ السَّلْطَنَةِ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَسَأَلْتُهُ عَنْ جَوَابِ الْمُطَالَعَةِ، فَذَكَرَ لِي أَنَّهُ جَاءَ الْمَرْسُومُ الشَّرِيفُ السُّلْطَانِيُّ بِعَمَلِ الشَّوَانِي وَالْمَرَاكِبِ; لِغَزْوِ قُبْرُسَ، وَقِتَالِ الْفِرَنْجِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَأَمَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِتَجْهِيزِ الْقَطَّاعِينَ، وَالنَّشَّارِينَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى الْغَابَةِ الَّتِي بِالْقُرْبِ مِنْ بَيْرُوتَ، وَأَنْ يُشْرَعَ فِي عَمَلِ الشَّوَانِي. وَفِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ - وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ - فُتِحَتْ دَارُ الْقُرْآنِ الَّتِي وَقَفَهَا الشَّرِيفُ التَّفْتَازَانِيُّ إِلَى جَانِبِ حَمَّامِ الْكَاسِ شَمَالِيَّ الْمَدْرَسَةِ الْبَادَرَائِيَّةِ، وَعُمِلَ فِيهَا

وَظِيفَةُ حَدِيثٍ، وَحُضِرَ عِنْدَ وَاقِفِهَا يَوْمِيَّةُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ.

عَقْدُ مَجْلِسٍ بِسَبَبِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عُقِدَ مَجْلِسٌ حَافِلٌ بِدَارِ السَّعَادَةِ ; بِسَبَبِ مَا رُمِيَ بِهِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ الشَّافِعِيُّ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ، وَكُنْتُ مِمَّنْ طُلِبَ إِلَيْهِ، فَحَضَرْتُهُ فِيمَنْ حَضَرَ، وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ الْقُضَاةُ الثَّلَاثَةُ، وَخَلْقٌ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَآخَرُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ - بِحَضْرَةِ نَائِبِ الشَّامِ سَيْفِ الدِّينِ مَنْكَلِي بُغَا، وَكَانَ قَدْ سَافَرَ هُوَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى الْأَبْوَابِ الشَّرِيفَةِ، وَاسْتَنْجَزَ كِتَابًا إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ لِجَمْعِ هَذَا الْمَجْلِسِ لِيَسْأَلَ عَنْهُ النَّاسَ، وَكَانَ قَدْ كُتِبَ فِيهِ مَحْضَرَانِ مُتَعَاكِسَانِ; أَحَدُهُمَا لَهُ وَالْآخَرُ عَلَيْهِ، وَفِي الَّذِي عَلَيْهِ خَطُّ الْقَاضِيَيْنِ الْمَالِكِيِّ وَالْحَنْبَلِيِّ، وَجَمَاعَةٍ آخَرِينَ، وَفِيهِ عَظَائِمُ، وَأَشْيَاءُ مُنْكَرَةٌ جِدًّا يَنْبُو السَّمْعُ عَنِ اسْتِمَاعِهِ، وَفِي الْآخَرِ خُطُوطُ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ خَطِّي بِأَنِّي مَا رَأَيْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا. وَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَمَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِأَنْ يَمْتَازَ هَؤُلَاءِ عَنْ هَؤُلَاءِ فِي الْمَجَالِسِ، فَصَارَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ وَحْدَهَا، وَتَحَاوَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَنَاضَلَ عَنْهُ نَائِبُهُ

الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ الْغَزِّيُّ، وَالنَّائِبُ الْآخَرُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ وُهَيْبَةَ، وَغَيْرُهُمَا، وَصَرَّحَ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ الْحَنْبَلِيُّ بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُ مَا كَتَبَ بِهِ خَطُّهُ فِيهِ، وَأَجَابَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ مِنْهُمْ بِدَائِمِ النُّفُوذِ، فَبَادَرَ الْقَاضِي الْغَزِّيُّ، فَقَالَ لِلْحَنْبَلِيِّ: أَنْتَ قَدْ ثَبَتَتْ عَدَاوَتُكَ لِقَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ.
فَكَثُرَ الْقَوْلُ، وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ، وَكَثُرَ الْجِدَالُ وَالْمَقَالُ، وَتَكَلَّمَ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ الْمَالِكِيُّ أَيْضًا بِنَحْوِ مَا قَالَ الْحَنْبَلِيُّ، فَأُجِيبُ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَيْضًا، وَطَالَ الْمَجْلِسُ، فَانْفَصَلُوا عَلَى مَثَلِ ذَلِكَ، وَلَمَّا بَلَغْتُ الْبَابَ أَمَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِرُجُوعِي إِلَيْهِ، فَإِذَا بَقِيَّةُ النَّاسِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَالْقُضَاةُ الثَّلَاثَةُ جُلُوسٌ، فَأَشَارَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِالصُّلْحِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ - يَعْنِي: وَأَنْ يَرْجِعَ الْقَاضِيَانِ عَمَّا قَالَا - فَأَشَارَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ وَأَشَرْتُ أَنَا أَيْضًا بِذَلِكَ، فَلَانَ الْمَالِكِيُّ وَامْتَنَعَ الْحَنْبَلِيُّ، فَقُمْنَا وَالْأَمْرُ بَاقٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ اجْتَمَعْنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدَ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ عَنْ طَلَبِهِ، فَتَرَاضَوْا كَيْفَ يَكُونُ جَوَابُ الْكِتَابَاتِ مَعَ مُطَالَعَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، فَفُعِلَ ذَلِكَ، وَسَارَ الْبَرِيدُ بِذَلِكَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، ثُمَّ اجْتَمَعْنَا أَيْضًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَحَضَرَ الْقُضَاةُ الثَّلَاثَةُ وَجَمَاعَةٌ آخَرُونَ، وَاجْتَهَدَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ فِي الصُّلْحِ بَيْنَ الْقُضَاةِ وَقَاضِي الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ بِمِصْرَ، فَحَصَلَ خُلْفٌ وَكَلَامٌ طَوِيلٌ، ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ أَنْ سَكَنَتْ أَنْفُسُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ إِلَى ذَلِكَ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الشَّهْرِ الْآتِي.
وَفِي مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْآخِرِ كَانَتْ وَفَاةُ الْمُعَلِّمِ دَاوُدَ الَّذِي كَانَ مُبَاشِرًا لِنِظَارَةِ

الْجَيْشِ، وَأُضِيفَ إِلَيْهِ نَظَرُ الدَّوَاوِينِ إِلَى آخِرِ وَقْتٍ فَاجْتَمَعَ لَهُ هَاتَانِ الْوَظِيفَتَانِ، وَلَمْ يَجْتَمِعَا لِأَحَدٍ قَبْلَهُ كَمَا فِي عِلْمِي، وَكَانَ مِنْ أَخْبَرِ النَّاسِ بِنَظَرِ الْجَيْشِ، وَأَعْلَمِهِمْ بِأَسْمَاءِ رِجَالِهِ وَمَوَاضِعِ الْإِقْطَاعَاتِ، وَقَدْ كَانَ وَالِدُهُ نَائِبًا لِنُظَّارِ الْجُيُوشِ، وَكَانَ يَهُودِيًّا قَرَّائِيًّا، فَأَسْلَمَ وَلَدُهُ هَذَا قَبْلَ وَفَاةِ نَفْسِهِ بِسَنَوَاتٍ عَشْرٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَقَدْ كَانَ ظَاهِرُهُ جَيِّدًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِسِرِّهِ وَسَرِيرَتِهِ، وَقَدْ تَمَرَّضَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ أَوْ نَحْوِهِ، حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ تُجَاهَ النَّسْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى تُرْبَةٍ لَهُ أَعَدَّهَا فِي بُسْتَانِهِ بِجَوُبَرَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ قَرِيبُ الْخَمْسِينَ.
وَفِي أَوَائِلِ هَذَا الشَّهْرِ وَرَدَ الْمَرْسُومُ الشَّرِيفُ السُّلْطَانِيُّ بِالرَّدِّ عَلَى نِسَاءِ النَّصَارَى مَا كَانَ أُخِذَ مِنْهُنَّ مَعَ الْجِبَايَةِ الَّتِي كَانَ تَقَدَّمَ أَخْذُهَا مِنْهُنَّ، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ ظُلْمًا، وَلَكِنِ الْأَخْذُ مِنَ النِّسَاءِ أَفْحَشُ وَأَبْلَغُ فِي الظُّلْمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْهُ أَمَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ - أَعَزَّهُ اللَّهُ - بِكَبْسِ بَسَاتِينِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَوُجِدَ فِيهَا مِنَ الْخَمْرِ الْمُعْتَصَرِ مِنَ الْخَوَابِيِّ وَالْحِبَابِ، فَأُرِيقَتْ عَنْ آخِرِهَا - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ - بِحَيْثُ جَرَتْ فِي الْأَزِقَّةِ وَالطُّرُقَاتِ، وَفَاضَ نَهْرُ ثَوْرَا مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِمُصَادَرَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الَّذِينَ وُجِدَ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ بِمَالٍ جَزِيلٍ وَهُمْ تَحْتَ الْجِبَايَةِ، وَبَعْدَ أَيَّامٍ نُودِيَ فِي الْبَلَدِ بِأَنَّ نِسَاءَ

أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تَدْخُلُ الْحَمَّامَاتِ مَعَ الْمُسَلَّمَاتِ، بَلْ تَدْخُلُ حَمَّامَاتٍ تَخْتَصُّ بِهِنَّ، وَمَنْ دَخَلَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الرِّجَالِ مَعَ الرِّجَالِ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ فِي رِقَابِ الْكُفَّارِ عَلَامَاتٌ يُعْرَفُونَ بِهَا مِنْ أَجْرَاسٍ، وَخَوَاتِيمَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَرَ نِسَاءَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِأَنْ تَلْبَسَ الْمَرْأَةُ خُفَّيْهَا مُخَالَفَيْنِ فِي اللَّوْنِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَبْيَضَ، وَالْآخَرُ أَصْفَرَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ - أَعْنِي: رَبِيعًا الْآخِرَ - طُلِبَ الْقُضَاةُ الثَّلَاثَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفْتِينَ; فَمِنْ نَاحِيَةِ الشَّافِعِيِّ نَائِبَاهُ، وَهُمَا الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ الْغَزِّيُّ، وَالْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ بْنُ وُهَيْبَةَ، وَالشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الزَّبَدَانِيِّ، وَالْمُصَنِّفُ الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ كَثِيرٍ، وَالشَّيْخُ بَدْرُ الدِّينِ حَسَنُ الزُّرَعِيُّ، وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْفَارِقِيُّ، وَمِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ قَاضِيَا الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ الْمَالِكِيُّ وَالْحَنْبَلِيُّ، وَالشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ الْحَنْبَلِيُّ، وَالشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّرِيشِيِّ، وَالشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ حَمْزَةَ ابْنِ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ، وَعِمَادُ الدِّينِ الْأَخْنَائِيُّ، فَاجْتَمَعْتُ مَعَ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ بِالْقَاعَةِ الَّتِي فِي صَدْرِ إِيوَانِ دَارِ السَّعَادَةِ، وَجَلَسَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ فِي صَدْرِ الْمَكَانِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا قَالَ: كُنَّا نَحْنُ التُّرْكَ وَغَيْرُنَا إِذَا اخْتَلَفْنَا وَاخْتَصَمْنَا نَجِيءُ بِالْعُلَمَاءِ فَيُصْلِحُونَ بَيْنَنَا، فَصِرْنَا نَحْنُ إِذَا اخْتَلَفَتِ الْعُلَمَاءُ وَاخْتَصَمُوا، فَمَنْ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ ؟! وَشَرَعَ فِي تَأْنِيبِ مَنْ شَنَّعَ عَلَى الشَّافِعِيِّ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفَاعِيلِ الَّتِي كُتِبَتْ فِي تِلْكَ الْأَوْرَاقِ وَغَيْرِهَا، وَأَنَّ هَذَا يَشْفِي الْأَعْدَاءَ بِنَا، وَأَشَارَ بِالصُّلْحِ بَيْنَ الْقُضَاةِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، فَصَمَّمَ بَعْضُهُمْ،

وَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَجَرَتْ مُنَاقَشَاتٌ مِنْ بَعْضِ الْحَاضِرِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ حَصَلَ بَحْثٌ فِي مَسَائِلَ، ثُمَّ قَالَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ أَخِيرًا: أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ [ الْمَائِدَةِ: 95 ]. فَلَانَتِ الْقُلُوبُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَأَمَرَ كَاتِبَ السِّرِّ أَنْ يَكْتُبَ مَضْمُونَ ذَلِكَ فِي مُطَالَعَةٍ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، ثُمَّ خَرَجْنَا عَلَى ذَلِكَ.

عَوْدَةُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ إِلَى دِمَشْقَ
فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى قَدِمَ مِنْ نَاحِيَةِ الْكُسْوَةِ، وَقَدْ تَلَقَّاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ إِلَى الصَّنَمَيْنِ وَمَا فَوْقَهَا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْكُسْوَةِ كَثُرَ النَّاسُ جَدًّا، وَقَارَبَهَا قَاضِي قُضَاةِ الْحَنَفِيَّةِ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ السَّرَّاجِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ مِنْ عَقَبَةِ سَجَوْرَا تَلَقَّاهُ خَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَأُشْعِلَتِ الشُّمُوعُ حَتَّى مَعَ النِّسَاءِ، وَالنَّاسُ فِي سُرُورٍ عَظِيمٍ، فَلَمَّا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْجَسُورَةِ تَلَقَّتْهُ السَّنَاجِقُ الْخَلِيفَتِيَّةُ مَعَ الْجَوَامِعِ، وَالْمُؤَذِّنُونَ يُكَبِّرُونَ، وَالنَّاسُ فِي سُرُورٍ كَثِيرٍ، وَلَمَّا قَارَبَ بَابَ النَّصْرِ وَقْعَ مَطَرٌ عَظِيمٌ، وَالنَّاسُ مَعَهُ لَا تَسَعُهُمُ الطُّرُقَاتُ، يَدْعُونَ لَهُ، وَيَفْرَحُونَ بِقُدُومِهِ، فَدَخَلَ دَارَ السَّعَادَةِ، وَسَلَّمَ عَلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، ثُمَّ دَخَلَ الْجَامِعَ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَمَعَهُ شُمُوعٌ عَظِيمَةٌ، وَالرُّؤَسَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الْعَامَّةِ. وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثَانِيَ شَهْرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ رَكِبَ قَاضِي الْقُضَاةِ السُّبْكِيُّ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، وَقَدِ اسْتَدْعَى نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِالْقَاضِيَيْنِ; الْمَالِكِيِّ وَالْحَنْبَلِيِّ، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ ثَلَاثَتُهُمْ يَتَمَاشَوْنَ إِلَى الْجَامِعِ، فَدَخَلُوا دَارَ الْخَطَابَةِ فَاجْتَمَعُوا هُنَاكَ، وَضَيَّفَهُمَا الشَّافِعِيُّ،

ثُمَّ حَضَرَا خُطْبَتَهُ الْحَافِلَةَ الْبَلِيغَةَ الْفَصِيحَةَ، ثُمَّ خَرَجُوا ثَلَاثَتُهُمْ مِنْ جَوَّا إِلَى دَارِ الْمَالِكِيِّ، فَاجْتَمَعُوا هُنَالِكَ، وَضَيَّفَهُمُ الْمَالِكِيُّ هُنَالِكَ مَا تَيَسَّرَ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
وَفِي أَوَائِلِ هَذَا الشَّهْرِ وَرَدَتِ الْمَرَاسِيمُ الشَّرِيفَةُ السُّلْطَانِيَّةُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِأَنْ يُجْعَلَ لِلْأَمِيرِ مِنْ إِقْطَاعِهِ النِّصْفُ خَاصًّا لَهُ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَكُونُ لِأَجْنَادِهِ، فَحَصَلَ بِهَذَا رِفْقٌ عَظِيمٌ بِالْجُنْدِ وَعَدَلٌ كَثِيرٌ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - وَأَنْ يَتَجَهَّزَ الْأَجْنَادُ وَيُحَرَّضُوا عَلَى السَّبْقِ، وَالرَّمْيِ بِالنُّشَّابِ، وَأَنْ يَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ، مَتَى اسْتُنْفِرُوا نَفَرُوا، فَاسْتَعَدُّوا لِذَلِكَ، وَتَأَهَّبُوا لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ الْآيَةَ [ الْأَنْفَالِ: 60 ]. وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ:أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:ارْمُوا وَارْكَبُوا، وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ عُقِدَ مَجْلِسٌ بِدَارِ السَّعَادَةِ لِلْكَشْفِ عَلَى قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالِ الدِّينِ الْمَرْدَاوِيِّ الْحَنْبَلِيِّ بِمُقْتَضَى مَرْسُومٍ شَرِيفٍ وَرَدَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِذَلِكَ; وَذَلِكَ بِسَبَبِ مَا يَعْتَمِدُهُ كَثِيرٌ مِنْ شُهُودِ مَجْلِسِهِ مِنْ بَيْعِ أَوْقَافٍ لَمْ يَسْتَوْفِ فِيهَا شَرَائِطَ الْمَذْهَبِ، وَإِثْبَاتِ إِعْسَارَاتٍ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

الْوَقْعَةُ بَيْنَ الْأُمَرَاءِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْأَمِيرَ الْكَبِيرَ يَلْبُغَا

الْخَاصِّكِيَّ خَرَجَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ مَعَ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ طَيْبُغَا الطَّوِيلِ، فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ إِلَى قُبَّةِ النَّصْرِ، فَالْتَقَوْا مَعَهُ هُنَالِكَ، فَقَتَلَ جَمَاعَةً وَجَرَحَ آخَرِينَ، وَانْفَصَلَ الْحَالُ عَلَى مَسْكِ طَيْبُغَا الطَّوِيلِ وَهُوَ جَرِيحٌ، وَمُسِكَ أَرْغُونَ الْإِسْعِرْدِيُّ الدَّوَادَارُ، وَخَلْقٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْأُلُوفِ وَالطَّبْلَخَانَاهْ، وَجَرَتْ خَبْطَةٌ عَظِيمَةٌ اسْتَمَرَّ فِيهَا الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ يَلْبُغَا عَلَى عِزِّهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَنَصْرِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي ثَانِي رَجَبٍ يَوْمِ السَّبْتِ تَوَجَّهَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْدَمُرُ الَّذِي كَانَ نَائِبَ دِمَشْقَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِطَلَبِ الْأَمِيرِ يَلْبُغَا; لِيُؤَكِّدَ أَمْرَهُ فِي دُخُولِ الْبَحْرِ لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ وَفَتْحِ قُبْرُسَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ بَغْدَادَ
أَخْبَرَنِي الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْبَغْدَادِيُّ أَحَدُ رُؤَسَاءِ بَغْدَادَ، وَأَصْحَابِ التِّجَارَاتِ، وَالشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ الْعَطَّارُ السِّمْسَارُ فِي الشَّرْبِ - بَغْدَادِيٌّ أَيْضًا - أَنَّ بَغْدَادَ اسْتَعَادَهَا أُوَيْسٌ مَلِكُ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ مِنْ يَدِ الطَّوَاشِيِّ مَرْجَانَ، وَاسْتَحْضَرَهُ فَأَكْرَمَهُ، وَأَطْلَقَ لَهُ، وَاتَّفَقَا أَنَّ أَصْلَ الْفِتْنَةِ مِنَ الْأَمِيرِ أَحْمَدَ أَخِي الْوَزِيرِ، فَأَحْضَرَهُ السُّلْطَانُ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ، وَضَرَبَهُ بِسِكِّينٍ فِي كَرِشِهِ فَشَقَّهُ، وَأَمَرَ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ فَقَتَلَهُ، فَانْتَصَرَ أَهْلُ السُّنَّةِ لِذَلِكَ نُصْرَةً عَظِيمَةً، وَأَخَذَ جُثَّتَهُ أَهِلُ بَابِ الْأَزَجِ فَأَحْرَقُوهُ، وَسَكَنَتِ الْأُمُورُ، وَتَشَفَّوْا بِمَقْتَلِ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ الْأَنْبَارِيِّ الَّذِي قَتَلَهُ الْوَزِيرُ الرَّافِضِيُّ فَأَهْلَكَهُ اللَّهُ بَعْدَهُ سَرِيعًا.

وَفَاةُ قَاضِي الْقُضَاةِ عِزِّ الدِّينِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حَاتِمٍ الشَّافِعِيِّ
وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنْ شَهْرِ شَعْبَانَ قَدِمَ كِتَابٌ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِوَفَاةِ قَاضِي الْقُضَاةِ عِزِّ الدِّينِ ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ جَمَاعَةَ بِمَكَّةَ - شَرَّفَهَا اللَّهُ - فِي الْعَاشِرِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ فِي الْحَادِيَ عَشَرَ فِي بَابِ الْمُعَلَّى، وَذَكَرُوا أَنَّهُ تُوُفِّيَ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَأَخْبَرَنِي صَاحِبُنَا الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ الرَّحْبِيُّ - حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ كَثِيرًا: أَشْتَهِي أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَعْزُولٌ، وَأَنْ تَكُونَ وَفَاتِي بِأَحَدِ الْحَرَمَيْنِ. فَأَعْطَاهُ اللَّهُ مَا تَمَنَّاهُ; عَزَلَ نَفْسَهُ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَهَاجَرَ إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ لِزِيَارَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَّةَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِهَا فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ، وَبَلَّ بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ.
وَقَدْ كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ، فَتُوُفِّيَ عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَقَدْ نَالَ الْعِزُّ عِزًّا فِي الدُّنْيَا، وَرِفْعَةً هَائِلَةً، وَمَنَاصِبَ، وَتَدَارِيسَ كِبَارًا، ثُمَّ عَزَلَ نَفْسَهُ، وَتَفَرَّغَ لِلْعِبَادَةِ وَالْمُجَاوَرَةِ بِالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، فَيُقَالُ لَهُ مَا قُلْتُهُ فِي بَعْضِ الْمَرَاثِي:
فَكَأَنْ قَدْ أُعْلِمْتَ بِالْمَوْتِ حَتَّى قَدْ تَزَوَّدْتَ مِنْ خِيَارِ الزَّادِ

وَحَضَرَ عِنْدِي فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ تَاسِعِ شَوَّالٍ الْبَتْرَكُ بِشَارَةُ الْمُلَقَّبُ بِمِيخَائِيلَ النَّصْرَانِيِّ الْمَلْكِيُّ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّ الْمَطَارِنَةَ بِالشَّامِ بَايَعُوهُ عَلَى أَنْ جَعَلُوهُ بَتْرَكًا بِدِمَشْقَ عِوَضًا عَنِ الْبَتْرَكِ بِأَنْطَاكِيَّةَ، فَذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مُبْتَدَعٌ فِي دِينِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا تَكُونُ الْبَتَارِكَةُ إِلَّا أَرْبَعَةً; بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَبِالْقُدْسِ، وَبِأَنْطَاكِيَّةَ، وَبِرُومِيَّةَ، فَنُقِلَ بَتْرَكُ رُومِيَّةَ إِلَى إِسْطَنْبُولَ وَهِيَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِذْ ذَاكَ، فَهَذَا الَّذِي ابْتَدَعُوهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ ! لَكِنِ اعْتَذَرَ بِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ عَنْ أَنْطَاكِيَّةَ، وَإِنَّمَا أُذِنَ لَهُ فِي الْمُقَامِ بِالشَّامِ الشَّرِيفِ; لِأَجْلِ أَنَّهُ أَمَرَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ أَنْ يَكْتُبَ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ إِلَى صَاحِبِ قُبْرُسَ، يَذْكُرُ لَهُ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْخِزْيِ، وَالنَّكَالِ، وَالْجِنَايَةِ بِسَبَبِ عُدْوَانِ صَاحِبِ قُبْرُسَ عَلَى مَدِينَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَأَحْضَرَ لِي الْكُتُبَ إِلَيْهِ وَإِلَى مَلِكِ إِسْطَنْبُولَ، وَقَرَأَهَا عَلَيَّ مِنْ لَفْظِهِ - لَعَنَهُ اللَّهُ وَلَعَنَ الْمَكْتُوبَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا - وَقَدْ تَكَلَّمْتُ مَعَهُ فِي دِينِهِمْ وَنُصُوصِ مَا يَعْتَقِدُهُ كُلٌّ مِنَ الطَّوَائِفِ الثَّلَاثِ; وَهُمُ الْمَلْكِيَّةُ، وَالْيَعْقُوبِيَّةُ - وَمِنْهُمُ الْإِفْرِنْجُ وَالْقِبْطُ - وَالنَّسْطُورِيَّةُ، فَإِذَا هُوَ يَفْهَمُ بَعْضَ الشَّيْءِ، وَلَكِنَّ حَاصِلَهُ أَنَّهُ حِمَارٌ مِنْ أَكْفَرِ الْكُفَّارَ، لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ بَلَغَنَا اسْتِعَادَةُ السُّلْطَانِ أُوَيْسٍ ابْنِ الشَّيْخِ حَسَنٍ مَلِكِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ لِبَغْدَادَ مِنْ يَدِ الطَّوَاشِيِّ مَرْجَانَ الَّذِي كَانَ نَائِبَهُ عَلَيْهَا وَامْتَنَعَ مِنْ طَاعَةِ أُوَيْسٍ، فَجَاءَ إِلَيْهِ فِي جَحَافِلَ كَثِيرَةٍ، فَهَرَبَ مَرْجَانُ، وَدَخَلَ

أُوَيْسٌ إِلَى بَغْدَادَ دُخُولًا هَائِلًا، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ قَدِمَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْدَمُرُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى الْبَرِيدِ أَمِيرَ مِائَةٍ مُقَدَّمَ أَلْفٍ، وَعَلَى نِيَابَةِ يَلْبُغَا فِي جَمِيعِ دَوَاوِينِهِ بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهَا، وَعَلَى إِمَارَةِ الْبَحْرِ وَعَمَلِ الْمَرَاكِبِ، فَلَمَّا قَدِمَ أَمَرَ بِجَمْعِ جَمِيعِ النَّشَّارِينَ، وَالنَّجَّارِينَ، وَالْحَدَّادِينَ، وَتَجْهِيزِهِمْ لِبَيْرُوتَ لِقَطْعِ الْأَخْشَابِ، فَسُيِّرُوا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِيَ رَمَضَانَ، وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى اللَّحَاقِ بِهِمْ إِلَى هُنَالِكَ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ، ثُمَّ أُتْبِعُوا بِآخَرِينَ مِنْ نَجَّارِينَ، وَحَدَّادِينَ، وَعَتَّالِينَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَجَعَلُوا كُلَّ مَنْ وَجَدُوهُ مِنْ رُكَّابِ الْحَمِيرِ يُنْزِلُونَهُ وَيَرْكَبُوا إِلَى نَاحِيَةِ الْبِقَاعِ، وَسَخَّرُوا لَهُمْ مِنَ الصُّنَّاعِ وَغَيْرِهِمْ، وَجَرَتْ خُطْبَةٌ عَظِيمَةٌ، وَتَبَاكَى عَوَائِلُهُمْ وَأَطْفَالُهُمْ، وَلَمْ يُسْلَفُوا شَيْئًا مِنْ أُجُورِهِمْ، وَكَانَ مِنَ اللَّائِقِ أَنْ يُسْلَفُوهُ حَتَّى يَتْرُكُوهُ إِلَى أَوْلَادِهِمْ.
وَخَطَبَ بُرْهَانُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنَفِيُّ بِجَامِعِ يَلْبُغَا عِوَضًا عَنْ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفِ الدِّينِ الْكَفْرِيِّ، بِمَرْسُومٍ شَرِيفٍ وَمَرْسُومِ نَائِبِ صَفَدَ أَسَنْدَمُرَ أَخِي يَلْبُغَا، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى جَدِّهِ وَجَمَاعَتِهِمْ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الرَّابِعَ مِنْ رَمَضَانَ، هَذَا وَحَضَرَ عِنْدَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ قُرِئَ تَقْلِيدُ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفِ الدِّينِ ابْنِ قَاضِي الْجَبَلِ لِقَضَاءِ الْحَنَابِلَةِ، عِوَضًا عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالِ الدِّينِ الْمَرْدَاوِيِّ، عُزِلَ هُوَ وَالْمَالِكِيُّ مَعَهُ أَيْضًا; بِسَبَبِ أُمُورٍ تَقَدَّمَ نِسْبَتُهَا لَهُمَا، وَقُرِئَ التَّقْلِيدُ بِمِحْرَابِ الْحَنَابِلَةِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الشَّافِعِيُّ، وَالْحَنَفِيُّ، وَكَانَ الْمَالِكِيُّ مُعْتَكِفًا بِالْقَاعَةِ

مِنَ الْمَنَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ; لِأَنَّهُ مَعْزُولٌ أَيْضًا بِسَرِيِّ الدِّينِ قَاضِي حَمَاةَ، وَقَدْ وَقَعَتْ شُرُورٌ وَتَخْبِيطٌ بِالصَّالِحِيَّةِ وَغَيْرِهَا.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ خُلِعَ عَلَى قَاضِي الْقُضَاةِ سَرِيِّ الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ الْمَالِكِيِّ - قَدِمَ مِنْ حَمَاةَ عَلَى قَضَاءِ الْمَالِكِيَّةِ - عِوَضًا عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالِ الدِّينِ الْمَسَلَّاتِيِّ - عُزِلَ عَنِ الْمَنْصِبِ - وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بِمَقْصُورَةِ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الْجَامِعِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعِ شَوَّالٍ قَدِمَ الْأَمِيرُ حَيَّارُ بْنُ مُهَنَّا إِلَى دِمَشْقَ سَامِعًا مُطِيعًا، بَعْدَ أَنْ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُيُوشِ حُرُوبٌ مُتَطَاوِلَةٌ، كُلُّ ذَلِكَ لِيَطَأَ الْبِسَاطَ، فَأَبَى خَوْفًا مِنَ الْمَسْكِ وَالْحَبْسِ أَوِ الْقَتْلِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ قَدِمَ هَذَا الْيَوْمَ قَاصِدًا الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ; لِيَصْطَلِحَ مَعَ الْأَمِيرِ الْكَبِيرِ يَلْبُغَا، فَتَلَقَّاهُ الْحَجَبَةُ، وَالْمَهْمَنْدَارِيَّةُ، وَالْخَلْقُ، وَخَرَجَ النَّاسُ لِلْفُرْجَةِ، فَنَزَلَ الْقَصْرَ الْأَبْلَقَ، وَقَدِمَ مَعَهُ نَائِبُ حَمَاةَ عُمَرُ شَاهْ فَنَزَلَ مَعَهُ ثَانِيَ يَوْمٍ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ. وَأَقْرَأَنِي الْقَاضِي وَلِيُّ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ وَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ كِتَابَ وَالِدِهِ قَاضِي الْقُضَاةِ بَهَاءِ الدِّينِ أَبِي الْبَقَاءِ قَاضِي قُضَاةِ الشَّافِعِيَّةِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ; أَنَّ الْأَمِيرَ الْكَبِيرَ جَدَّدَ دَرْسًا بِجَامِعِ ابْنِ طُولُونَ فِيهِ سَبْعَةُ مُدَرِّسِينَ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَجَعَلَ لَكُلِّ فَقِيهٍ مِنْهُمْ فِي الشَّهْرِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَإِرْدَبَّ قَمْحٍ، وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ انْتَقَلُوا إِلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لِيَنْزِلُوا فِي هَذَا الدَّرْسِ.

دَرْسُ التَّفْسِيرِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ حَضَرَ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ كَثِيرٍ دَرْسَ التَّفْسِيرِ الَّذِي أَنْشَأَهُ مَلِكُ الْأُمَرَاءِ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ مَنْكَلِي بُغَا، مِنْ أَوْقَافِ الْجَامِعِ الَّتِي جَدَّدَهَا فِي حَالِ نَظَرِهِ عَلَيْهِ، أَثَابَهُ اللَّهُ، وَجَعَلَ مِنَ الطَّلَبَةِ مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ خَمْسَةَ عَشَرَ طَالِبًا، لِكُلِّ طَالِبٍ فِي الشَّهْرِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَلِلْمُعِيدِ عِشْرُونَ، وَلِكَاتِبِ الْغَيْبَةِ عِشْرُونَ، وَلِلْمُدَرِّسِ ثَمَانُونَ، وَتَصَدَّقَ حِينَ دَعَوْتُهُ لِحُضُورِ الدَّرْسِ، فَحَضَرَ، وَاجْتَمَعَ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَأَخَذْتُ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ " الْفَاتِحَةِ "، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَقَاضِي قُضَاةِ الْحَنَابِلَةِ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ ابْنِ قَاضِي الْجَبَلِ الْمَقْدِسِيُّ، وَنَاظِرُ الدَّوَاوِينِ سَعْدُ الدِّينِ بْنُ التَّاجِ إِسْحَاقَ، وَكَاتِبُ السِّرِّ فَتْحُ الدِّينِ بْنُ الشَّهِيدِ، وَهُوَ شَيْخُ الشُّيُوخِ أَيْضًا، وَنَاظِرُ الْجُيُوشِ الشَّامِيَّةِ بُرْهَانُ الدِّينِ بْنُ الْحِلِّيِّ، وَوَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ الْقَاضِي وَلِيُّ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ بَهَاءِ الدِّينِ أَبِي الْبَقَاءِ.

سَفَرُ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
لَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ قَدِمَ طَشْتَمُرُ دَوَادَارُ يَلْبُغَا عَلَى الْبَرِيدِ، فَنَزَلَ بِدَارِ السَّعَادَةِ، ثُمَّ رَكِبَ هُوَ وَنَائِبُ السَّلْطَنَةِ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ فِي الْمَشَاعِلِ، وَالْحَجَبَةُ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا، وَالْخَلَائِقُ يَدْعُونَ لِنَائِبِهِمْ، وَاسْتَمَرُّوا كَذَلِكَ ذَاهِبِينَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَأَكْرَمُهُ يَلْبُغَا وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَكُونَ بِبِلَادِ حَلَبَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَعَادَ فَنَزَلَ بِدَارِ سَنْجَرَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَارْتَحَلَ مِنْهَا إِلَى حَلَبَ، وَقَدِ اجْتَمَعْتُ بِهِ هُنَالِكَ، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَنَابَ فِي الْغَيْبَةِ الْأَمِيرُ

سَيْفُ الدِّينِ زُبَالَةَ، إِلَى أَنْ قَدِمَ النَّائِبُ الْمُعِزُّ السَّيْفِيُّ أَقْتَمُرُ عَبْدُ الْغَنِيِّ، عَلَى مَا سَيَأْتِي.
وَتُوُفِّيَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مَنْصُورٍ الْحَنَفِيُّ الَّذِي كَانَ نَائِبَ الْحَكَمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَوْمَ السَّبْتِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ بِالْبَابِ الصَّغِيرِ، وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ أَوِ الَّذِي بَعْدَهُ تُوُفِّيَ الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ الْوَزَوَازَةِ، نَاظِرُ الْأَوْقَافِ بِالصَّالِحِيَّةِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَالِثِ صَفَرٍ نُودِيَ فِي الْبَلَدِ أَنْ لَا يَتَخَلَّفَ أَحَدٌ مِنْ أَجْنَادِ الْحَلْقَةِ عَنِ النَّفِيرِ إِلَى بَيْرُوتَ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ لِذَلِكَ، فَبَادَرَ النَّاسُ وَالْجَيْشُ مُلْبِسِينَ إِلَى سَطْحِ الْمِزَّةِ، وَخَرَجَ مَلِكُ الْأُمَرَاءِ أَمِيرُ عَلِيٌّ - نَائِبُ الشَّامِ - مِنْ دَارِهِ دَاخِلَ بَابِ الْجَابِيَةِ فِي جَمَاعَتِهِ مُلْبِسِينَ فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، وَتَجَمُّلٍ هَائِلٍ، وَوَلَدُهُ الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ، وَطُلْبُهُ مَعَهُ، وَقَدْ جَاءَ نَائِبُ الْغَيْبَةِ وَالْحَجَبَةُ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ إِلَى وِطَاقِهِ، وَشَاوَرُوهُ فِي الْأَمْرِ، فَقَالَ: لَيْسَ لِي هَاهُنَا أَمْرٌ، وَلَكِنْ إِذَا حَضَرَ الْحَرْبُ وَالْقِتَالُ، فَلِي هُنَاكَ أَمْرٌ. وَخَرَجَ خَلْقٌ مِنَ النَّاسِ مُتَبَرِّعِينَ، وَخَطَبَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ الشَّافِعِيُّ بِالنَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْعَادَةِ، وَحَرَّضَ النَّاسَ عَلَى الْجِهَادِ، وَقَدْ أَلْبَسَ جَمَاعَةً مِنْ غِلْمَانِهِ اللَّأْمَةَ وَالْخُوَذَ، وَهُوَ عَلَى عَزْمِ الْمَسِيرِ مَعَ النَّاسِ إِلَى بَيْرُوتَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ رَجَعَ النَّاسُ إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَقَدْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْمَرَاكِبَ الَّتِي رُئِيَتْ فِي الْبَحْرِ إِنَّمَا هِيَ مَرَاكِبُ تُجَّارٍ لَا مَرَاكِبَ قِتَالٍ،

فَطَابَتْ قُلُوبُ النَّاسِ، وَلَكِنْ ظَهَرَ مِنْهُمُ اسْتِعْدَادٌ عَظِيمٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ خَامِسِ صَفَرٍ قُدِمَ بِالْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ شَرْشَيٍّ - الَّذِي كَانَ إِلَى آخِرِ وَقْتٍ نَائِبَ حَلَبَ - مُحْتَاطًا عَلَيْهِ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ بِدِمَشْقَ، فَسُيِّرَ مَعْزُولًا عَنْ حَلَبَ إِلَى طَرَابُلُسَ بَطَّالًا، وَبُعِثَ فِي سَرْجَيْنِ صُحْبَةَ الْأَمِيرِ عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ صُبْحٍ.
وَبَلَغَنَا وَفَاةُ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ نُبَاتَةَ حَامِلِ لِوَاءِ شُعَرَاءِ زَمَانِهِ بِدِيَارِ مِصْرَ بِمَرِسْتَانِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، وَذَلِكَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ سَابِعَ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي لَيْلَةِ ثَامِنِهِ هَرَبَ أَهْلُ حَبْسِ السُّدِّ مِنْ سِجْنِهِمْ، وَخَرَجَ أَكْثَرُهُمْ، فَأَرْسَلَ الْوُلَاةُ صَبِيحَةَ يَوْمَئِذٍ فِي إِثْرِهِمْ، فَمُسِكَ كَثِيرٌ مِمَّنْ هَرَبَ، فَضَرَبُوهُمْ أَشَدَّ الضَّرْبِ، وَرَدُّوهُمْ إِلَى شَرِّ الْمُنْقَلَبِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ خَامِسَ عَشَرَهُ نُودِيَ بِالْبُلْدَانِ أَنْ لَا يُعَامَلَ الْفِرِنْجُ الْبَنَادِقَةُ، وَالْجَنَوِيَّةُ، وَالْكَنْبَلَانُ، وَاجْتَمَعْتُ فِي آخِرِ هَذَا الْيَوْمِ بِالْأَمِيرِ زَيْنِ الدِّينِ زُبَالَةَ نَائِبِ الْغَيْبَةِ النَّازِلِ بِدَارِ الذَّهَبِ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ الْبَرِيدِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ صَاحِبَ قُبْرُسَ رَأَى فِي النُّجُومِ أَنَّ قُبْرُسَ مَأْخُوذَةٌ، فَجَهَّزَ مَرْكَبَيْنِ مِنَ الْأَسْرَى الَّذِينَ عِنْدَهُ مِنَ

الْمُسْلِمِينَ إِلَى يَلْبُغَا، وَنَادَى فِي بِلَادِهِ أَنَّ مَنْ كَتَمَ مُسْلِمًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا قُتِلَ، وَكَانَ مِنْ عَزْمِهِ أَنْ لَا يُبْقِيَ أَحَدًا مِنَ الْأُسَارَى إِلَّا أَرْسَلَهُ.
وَفِي آخِرِ نَهَارِ الْأَرْبِعَاءِ خَامِسَ عَشَرَهُ قَدِمَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ الْمَسَلَّاتِيُّ الْمَالِكِيُّ الَّذِي كَانَ قَاضِيَ الْمَالِكِيَّةِ، فَعُزِلَ فِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ مِنَ الْعَامِ الْمَاضِي، فَحَجَّ، ثُمَّ قَصَدَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ فَدَخَلَهَا لَعَلَّهُ يَسْتَغِيثُ، فَلَمْ يُصَادِفْهُ قَبُولٌ، فَادَّعَى عَلَيْهِ بَعْضُ الْحُجَّابِ، وَحَصَلَ لَهُ مَا يَسُوؤُهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، فَجَاءَ فَنَزَلَ فِي التُّرْبَةِ الْكَامِلِيَّةِ شَمَالِيَّ الْجَامِعِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مَنْزِلِ ابْنَتِهِ مُتَمَرِّضًا، وَالْطُلَابَاتُ وَالدَّعَاوَى وَالْمُصَالَحَاتُ عَنْهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَأَحْسَنَ اللَّهُ عَاقِبَتَهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ بَعْدَ الْعَصْرِ دَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طَيْبُغَا الطَّوِيلُ مِنَ الْقُدْسِ الشَّرِيفِ إِلَى دِمَشْقَ، فَنَزَلَ بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، وَرَحَلَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ إِلَى نِيَابَةِ حَمَاةَ - حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى - بِتَقْلِيدٍ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِتَوْلِيَةِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ مَنْكَلِي بُغَا نِيَابَةَ حَلَبَ عِوَضًا عَنْ نِيَابَةِ دِمَشْقَ، وَأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مِنَ التَّشْرِيفِ، وَالتَّكْرِيمِ، وَالتَّشَارِيفِ بِدِيَارِ مِصْرَ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَمَالٌ جَزِيلٌ، وَخُيُولٌ، وَأَقْمِشَةٌ، وَتُحَفٌ يَشُقُّ حَصْرُهَا، وَأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ بِدِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَقْتَمُرُ عَبْدُ الْغَنِيِّ الَّذِي كَانَ حَاجِبَ الْحُجَّابِ بِمِصْرَ، وَعُوِّضَ عَنْهُ فِي الْحُجُوبِيَّةِ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ طَيْبُغَا أُسْتَاذُ دَارِ يَلْبُغَا، وَخُلِعَ عَلَى الثَّلَاثَةِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ حَادِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ اشْتُهِرَ فِي الْبَلَدِ قَضِيَّةُ الْفِرِنْجِ أَيْضًا بِمَدِينَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَقَدِمَ بَرِيدِيٌّ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِذَلِكَ، وَاحْتِيطَ عَلَى مَنْ

كَانَ بِدِمَشْقَ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَسُجِنُوا بِالْقَلْعَةِ، وَأُخِذَتْ حَوَاصِلُهُمْ، وَأَخْبَرَنِي قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ الشَّافِعِيُّ يَوْمَئِذَ أَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ أَنَّ سَبْعَةَ مَرَاكِبَ مِنَ التُّجَّارِ مِنَ الْبَنَادِقَةِ مِنَ الْفِرَنْجِ قَدِمُوا إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَبَاعُوا بِهَا وَاشْتَرَوْا، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْأَمِيرِ الْكَبِيرِ يَلْبُغَا أَنَّ مَرْكَبًا مِنْ هَذِهِ السَّبْعَةِ لِصَاحِبِ قُبْرُسَ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْفِرَنْجِ يَقُولُ لَهُمْ أَنْ يُسَلِّمُوا هَذِهِ الْمَرْكَبَ، فَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَبَادَرُوا إِلَى مَرَاكِبِهِمْ، فَأَرْسَلَ فِي آثَارِهِمْ سِتَّةَ شَوَانٍ مَشْحُونَةً بِالْمُقَاتِلَةِ، فَالْتَقَوْا هُمْ وَالْفِرِنْجُ فِي الْبَحْرِ، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ، وَلَكِنْ مِنَ الْفِرَنْجِ أَكْثَرُ، وَهَرَبُوا فَارِّينَ بِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْبَضَائِعِ.
فَجَاءَ الْأَمِيرُ عَلِيٌّ الَّذِي كَانَ نَائِبَ دِمَشْقَ أَيْضًا فِي جَيْشٍ مُبَارَكٍ، وَمَعَهُ وَلَدُهُ وَمَمَالِيكُهُ فِي تَجَمُّلٍ هَائِلٍ، فَرَجَعَ الْأَمِيرُ عَلِيٌّ، وَاسْتَمَرَّ نَائِبُ السُّلْطَنَةِ حَتَّى وَقَفَ عَلَى بَيْرُوتَ، وَنَظَرَ فِي أَمْرِهَا وَعَادَ سَرِيعًا. وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الْفِرِنْجَ جَاءُوا طَرَابُلُسَ غُزَاةً، وَأَخَذُوا مَرْكَبًا لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمِينَا وَحَرَّقُوهُ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَهُمْ، وَلَا مَنْعَهُمْ، وَأَنَّ الْفِرَنْجَ كَرُّوا رَاجِعِينَ، وَقَدْ أَسَرُوا ثَلَاثَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. انْتَهَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَقْتَلُ يَلْبُغَا الْأَمِيرِ الْكَبِيرِ
جَاءَ الْخَبَرُ بِقَتْلِهِ إِلَيْنَا بِدِمَشْقَ فِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مَعَ أَسِيرَيْنِ جَاءَا عَلَى الْبَرِيدِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَأَخْبَرَا بِمَقْتَلِهِ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِيَ

عَشَرَ هَذَا الشَّهْرِ; تَمَالَأَ عَلَيْهِ مَمَالِيكُهُ حَتَّى قَتَلُوهُ يَوْمَئِذٍ، وَتَغَيَّرَتِ الدَّوْلَةُ، وَمُسِكَ مِنْ أُمَرَاءِ الْأُلُوفِ وَالطَّبْلَخَانَاهْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، وَاخْتَبَطَتِ الْأُمُورُ جِدًّا، وَجَرَتْ أَحْوَالٌ صَعْبَةٌ، وَقَامَ بِأَعْبَاءِ الْقَضِيَّةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طُغَيْتَمُرُ النِّظَامِيُّ، وَقَوِيَ جَانِبُ السُّلْطَانِ وَرَشَدَ، وَفَرِحَ أَكْثَرُ الْأُمَرَاءِ بِمِصْرَ بِمَا وَقَعَ، وَقَدِمَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ إِلَى دِمَشْقَ مِنْ بَيْرُوتَ، فَأَمَرَ بِدَقِّ الْبَشَائِرِ وَتَزْيِينِ الْبَلَدِ، فَفُعِلَ ذَلِكَ، وَأُطْلِقَتِ الْفِرَنْجُ الَّذِينَ كَانُوا بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، فَلَمْ يَهُنْ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ.
وَهَذَا آخِرُ مَا وُجِدَ مِنَ التَّارِيخِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَصَلَوَاتُهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

[كِتَابُ الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اللَّهُمَّ يَسِّرْ وَأَعِنْ.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ أَبُو الْفِدَاءِ عِمَادُ الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ كَثِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا كِتَابُ الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ الْوَاقِعَةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذِكْرِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَالْأُمُورِ الْعِظَامِ الَّتِي تَكُونُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا. الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَدْ أَخْبَرَ بِهَا، وَهُوَ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا إِخْبَارَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ، وَبَسَطْنَاهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَيَّامِ النَّاسِ إِلَى زَمَانِنَا، وَأَتْبَعْنَا ذَلِكَ بِذِكْرِ سِيرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيَّامِهِ، وَذِكْرِ شَمَائِلِهِ وَدَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ، وَذَكَرْنَا فِيهَا مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنَ الْغُيُوبِ الَّتِي وَقَعَتْ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طِبْقَ إِخْبَارِهِ، كَمَا شُوهِدَ ذَلِكَ عِيَانًا قَبْلَ زَمَانِنَا هَذَا، وَقَدْ أَوْرَدْنَا جُمْلَةَ ذَلِكَ فِي آخِرِ كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مِنْ سِيرَتِهِ، وَذَكَرْنَا عِنْدَ كُلِّ زَمَانٍ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْحَدِيثِ الْخَاصِّ بِهِ عِنْدَ ذِكْرِ حَوَادِثِ الزَّمَانِ، وَوَفَيَاتِ الْأَعْيَانِ، كَمَا بَسَطْنَا فِي كُلِّ سَنَةٍ مَا حَدَثَ فِيهَا مِنَ الْأُمُورِ الْغَرِيبَةِ، وَتَرْجَمْنَا مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنْ مَشَاهِيرِ النَّاسِ; مِنَ الصِّحَابَةِ وَالْخُلَفَاءِ، وَالْمُلُوكِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، وَالشُّعَرَاءِ وَالنُّحَاةِ وَالْأُدَبَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ ذَوِي الْآرَاءِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ النُّبَلَاءِ، وَلَوْ أَعَدْنَا الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ

فِيمَا تَقَدَّمَ لَطَالَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ نُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ، إِشَارَةً لَطِيفَةً، ثُمَّ نَعُودُ إِلَى مَا قَصَدْنَا لَهُ هَاهُنَا وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
فَمِنْ ذَلِكَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِي قَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَجِدْكَ؟ كَأَنَّهَا تُرِيدُ الْمَوْتَ، فَقَالَ: " إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، فَكَانَ الْقَائِمَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ لِلصِّدِّيقِ كِتَابًا بِالْخِلَافَةِ فَتَرَكَهُ; لِعِلْمِهِ أَنَّ أَصْحَابَهُ لَا يَعْدِلُونَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ إِلَى غَيْرِهِ; لِعِلْمِهِمْ بِسَابِقَتِهِ وَأَفْضَلِيَّتِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ ". وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي، أَبِي بَكْرٍ، وَعُمْرَ ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا فِي فَضَائِلِ الشَّيْخَيْنِ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ وَقَعَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؟ وَلِيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ الْخِلَافَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ وَلِيَهَا بَعْدَهُ عُمَرُ، كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ.
وَرَوَى مَالِكٌ وَاللَّيْثُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنٍ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا افْتَتَحْتُمْ مِصْرَ فَاسْتَوْصُوا بِالْقِبْطِ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا ". وَقَدِ افْتَتَحَهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ

فِي سَنَةِ عِشْرِينَ، أَيَّامَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا; فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا ".
وَقَدْ مُصِّرَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْمِصْرانِ; الْبَصْرَةُ وَالْكُوفَةُ. فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، ثَنَا مُوسَى الْحَنَّاطُ - لَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا أَنَسُ، إِنَّ النَّاسَ يُمَصِّرُونَ أَمْصَارًا، وَإِنَّ مِصْرًا مِنْهَا يُقَالُ لَهُ: الْبَصْرَةُ - أَوِ الْبُصَيْرَةُ - فَإِنْ أَنْتَ مَرَرْتَ بِهَا أَوْ دَخَلْتَهَا فَإِيَّاكَ وَسِبَاخَهَا وَكَلَّاءَهَا، وَسُوقَهَا وَأَبْوَابَ أُمَرَائِهَا، وَعَلَيْكَ بِضَوَاحِيهَا; فَإِنَّهُ يَكُونُ بِهَا خَسْفٌ وَقَذْفٌ وَرَجْفٌ، وَقَوْمٌ يُمْسَخُونَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ ".

خَبَرُ الْأُبُلَّةِ:
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ صَالِحِ بْنِ دِرْهَمٍ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: انْطَلَقْنَا حَاجِّينَ، فَإِذَا رَجُلٌ، فَقَالَ لَنَا: مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟

فَقُلْنَا: مِنْ بَلَدِ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: إِنَّ بِجَنْبِكُمْ قَرْيَةً يُقَالُ لَهَا: الْأُبُلَّةُ؟ فَقُلْنَا: نَعَمْ. فَقَالَ: مَنْ يَضْمَنُ أَنْ يُصَلِّيَ لِي فِي مَسْجِدِ الْعَشَّارِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا، وَيَقُولُ: هَذِهِ لِأَبِي هُرَيْرَةَ؟ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مِنْ مَسْجِدِ الْعَشَّارِ شُهَدَاءَ لَا يَقُومُ مَعَ شُهَدَاءِ بَدْرٍ غَيْرُهُمْ ".
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ". وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمْرَ، وَعُثْمَانَ; انْزَاحَتْ يَدُ قَيْصَرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ - وَاسْمُهُ هِرَقْلُ - عَنْ بِلَادِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ، وَثَبَتَ مُلْكُهُ مَقْصُورًا عَلَى بِلَادِ الرُّومِ فَقَطُّ، وَالْعَرَبُ إِنَّمَا كَانُوا يُسَمُّونَ قَيْصَرَ لِمَنْ مَلَكَ بِلَادَ الرُّومِ مَعَ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَهْلِ الشَّامِ; وَهُوَ أَنَّ يَدَ مَلِكِ الرُّومِ لَا تَعُودُ إِلَيْهَا أَبَدَ الْآبِدِينَ. وَسَنُورِدُ هَذَا الْحَدِيثَ قَرِيبًا بِإِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا كِسْرَى فَإِنَّهُ سُلِبَ عَامَّةَ مُلْكِهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، ثُمَّ اسْتُؤْصِلَ بَاقِيهُ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَقُتِلَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ مُطَوَّلًا فِيمَا سَلَفَ، وَقَدْدَعَا عَلَى كِسْرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّهُ مَزَّقَ كِتَابَهُ، بِأَنْ يُمَزَّقَ مُلْكُهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ، فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، وَجَامِعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ

شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ،عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتْنَةِ؟ قُلْتُ: أَنَا. قَالَ: هَاتِ إِنَّكَ لِجَرِيءٌ. فَقُلْتُ: ذَكَرَ فِتْنَةَ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ. فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا أَعْنِي، إِنَّمَا أَعْنِي الَّتِي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا. فَقَالَ: وَيْحَكَ ! أَيُفْتَحُ الْبَابُ أَمْ يُكْسَرُ؟ قُلْتُ: بَلْ يُكْسَرُ. قَالَ: إِذًا لَا يُغْلَقُ أَبَدًا. قُلْتُ: أَجَلْ. فَقُلْنَا لِحُذَيْفَةَ: أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ مَنِ الْبَابُ؟ قَالَ: نَعَمْ; إِنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ. قَالَ: فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَ حُذَيْفَةَ: مَنِ الْبَابُ؟ فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ: سَلْهُ. فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: هُوَ عُمَرُ. وَهَكَذَا وَقَعَ الْأَمْرُ سَوَاءً بَعْدَ مَقْتَلِ عُمَرَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ; وَقَعَتِ الْفِتَنُ بَيْنَ النَّاسِ بَعْدَ مَقْتَلِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ انْتِشَارِهَا بَيْنَهُمْ.
وَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ، فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ; حُصِرَ وَقُتِلَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا شَهِيدًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا عِنْدَ مَقْتَلِهِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي وَرَدَتْ بِالْإِنْذَارِ بِذَلِكَ، وَالْإِعْلَامِ بِهِ قَبْلَ كَوْنِهِ; فَوَقَعَ طِبْقَ ذَلِكَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ. وَذَكَرْنَا مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الْإِخْبَارُ بِمَقْتَلِ عَمَّارٍ. وَمَا وَرَدَ فِي

الْأَحَادِيثِ بِمَقْتَلِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَصَفَتِهِمْ، وَنَعْتِ ذِي الثُّدَيَّةِ مِنْهُمْ. كُلُّ ذَلِكَ قَدْ حَرَّرْنَاهُ فِيمَا سَلَفَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَذَكَرْنَا عِنْدَ مَقْتَلِ عَلِيٍّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي ذَلِكَ بِطُرُقِهِ، وَأَلْفَاظِهِ، وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ، عَنْ سَفِينَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا ". وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الثَّلَاثُونَ سَنَةً عَلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعُمَرَ الْفَارُوقِ، وَعُثْمَانَ الشَّهِيدِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الشَّهِيدِ أَيْضًا، وَكَانَ تَمَامُهَا وَخِتَامُهَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلِيَهَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ بَعْدَ أَبِيهِ، وَعِنْدَ تَمَامِ الثَّلَاثِينَ نَزَلَ عَنِ الْأَمْرِ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَصْفَقَتِ الْبَيْعَةُ لِمُعَاوِيَةَ وَسُمِّيَ ذَلِكَ عَامَ الْجَمَاعَةِ، وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُسَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ - وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَانِبِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ -: " إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ". وَهَكَذَا وَقَعَ.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ أَنَّ نَاسًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَغْزُونَ الْبَحْرَ مَرَّتَيْنِ، وَأَنَّهَا تَكُونُ مَعَ الْأَوَّلِينَ، فَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، مَعَ مُعَاوِيَةَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، حِينَ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانَ فِي غَزْوِ قُبْرُسَ،

فَأَذِنَ لَهُ فَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْمَرَاكِبَ إِلَيْهَا وَفَتَحُوهَا قَسْرًا، وَتُوُفِّيَتْ أُمُّ حَرَامٍ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ مَعَ زَوْجِهَا عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَكَانَ مَعَ مُعَاوِيَةَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ زَوْجَتُهُ فَاخِتَةُ بِنْتُ قَرَظَةَ. وَأَمَّا غَزْوَةُ الْبَحْرِ الثَّانِيَةُ فَكَانَتْ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ أَيْضًا، غَزَاهَا ابْنُهُ يَزِيدُ وَمَعَهُ الْجُنُودُ فَدَخَلُوا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَكَانَ مَعَهُ فِي هَذَا الْجَيْشِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَمَاتَ هُنَالِكَ وَأَوْصَى إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، أَنْ يَدْفِنَهُ تَحْتَ سَنَابِكِ الْخَيْلِ، وَأَنْ يُوغِلَ بِهِ إِلَى أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَهِيَ بِهِ إِلَى نَحْوِ جِهَةِ الْعَدُوِّ، فَفَعَلَ ذَلِكَ.
وَتَفَرَّدَ الْبُخَارِيُّ بِمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ، عَنْ أُمِّ حَرَامٍ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا ". قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا فِيهِمْ؟ قَالَ: " أَنْتِ فِيهِمْ ". ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ ". قُلْتُ: أَنَا فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " لَا ".

ذِكْرُ قِتَالِ الْهِنْدِ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا الْبَرَاءُ، عَنِ الْحَسَنِ،عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي خَلِيلِي الصَّادِقُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْثٌ إِلَى السِّنْدِ وَالْهِنْدِ ". فَإِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُ فَاسْتُشْهِدْتُ فَذَاكَ، وَإِنْ أَنَا - فَذَكَرَ كَلِمَةً - رَجَعْتُ، فَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ الْمُحَرَّرُ; قَدْ أَعْتَقَنِي مِنَ النَّارِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ سَيَّارٍ، عَنْ جَبْرِ بْنِ عُبَيْدَةَ،عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَعَدَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ الْهِنْدِ، فَإِنِ اسْتُشْهِدْتُ، كُنْتُ مِنْ خَيْرِ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ رَجَعْتُ فَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ الْمُحَرَّرُ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ هُشَيْمٍ وَزَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ سَيَّارٍ، عَنْ جَبْرٍ - وَيُقَالُ: جُبَيْرٌ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَهُ. وَقَدْ غَزَا الْمُسْلِمُونَ الْهِنْدَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، فِي إِمَارَةِ مُعَاوِيَةَ أَيْضًا، فَجَرَتْ هُنَالِكَ أُمُورٌ قَدْ ذَكَرْنَاهَا مَبْسُوطَةً فِيمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ غَزَاهَا الْمَلِكُ السَّعِيدُ الْمَحْمُودُ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ صَاحِبُ غَزْنَةَ وَمَا وَالَاهَا، فِي حُدُودِ أَرْبَعِمِائَةٍ، فَفَعَلَ هُنَالِكَ أَفْعَالًا مَشْهُورَةً، وَأُمُورًا مَشْكُورَةً؟ كَسَرَ الصَّنَمَ الْأَعْظَمَ الْمُسَمَّى بِسُومَنَاتَ، وَأَخَذَ قَلَائِدَهُ وَجَوَاهِرَهُ وَذَهَبَهُ وَشُنُوفَهُ، وَأَخَذَ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا

يُحْصَى، وَرَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ سَالِمًا مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا.
وَقَدْ كَانَ نُوَّابُ بَنِي أُمَيَّةَ يُقَاتِلُونَ الْأَتْرَاكَ، فِي أَقْصَى بِلَادِ السِّنْدِ وَالصِّينِ، وَقَهَرُوا مَلِكَهُمْ الْقَانَ الْأَعْظَمَ، وَمَزَّقُوا عَسَاكِرَهُ، وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِذِكْرِ صِفَتِهِمْ وَنَعْتِهِمْ، وَلْنَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَازِ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ، وَحَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ; صِغَارَ الْأَعْيُنِ، حُمْرَ الْوُجُوهِ، ذُلْفَ الْأُنُوفِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ، وَتَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ أَشَدَّهُمْ كَرَاهِيَةً لِهَذَا الْأَمْرِ، حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ، وَالنَّاسُ مَعَادِنُ; خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ زَمَانٌ لَأَنْ يَرَانِي أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ ". تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ. ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا خُوزًا وَكَرْمَانَ مِنَ الْأَعَاجِمِ، حُمْرَ الْوُجُوهِ فُطْسَ الْأُنُوفِ، كَأَنَّ

وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ، نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ ". وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ، نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ "، وَأَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ سِوَى النَّسَائِيِّ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: وَهُمْ أَهْلُ الْبَارَزِ. كَذَا قَالَ سُفْيَانُ، وَلَعَلَّهُ: الْبَازَرُ، وَهُوَ سُوقُ الْفُسُوقِ الَّذِي لَهُمْ.
حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ: وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، سَمِعْتُ الْحَسَنَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ " أَوْ: " يَنْتَعِلُونَ الشَّعَرَ " - وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا قَوْمًا عِرَاضَ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ ". وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ.

وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيِّ. قَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا بَشِيرُ بْنُ الْمُهَاجِرِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ أُمَّتِي يَسُوقُهَا قَوْمٌ صِغَارُ الْأَعْيُنِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْحَجَفُ، ثَلَاثَ مِرَارٍ " حَتَّى يُلْحِقُوهُمْ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ; أَمَّا السِّيَاقَةُ الْأُولَى فَيَنْجُو مَنْ هَرَبَ مِنْهُمْ، أَمَّا الثَّانِيَةُ فَيَنْجُو بَعْضٌ وَيَهْلِكُ بَعْضٌ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَيُصْطَلَمُونَ كُلُّهُمْ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: " التُّرْكُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِيَرْبِطُنَّ خُيُولَهُمْ بِسَوَارِي مَسْجِدِ الْمُسْلِمِينَ ". قَالَ: فَكَانَ بُرَيْدَةُ لَا يُفَارِقُهُ بَعِيرَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ وَمَتَاعٌ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْهَرَبِ; لِمَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْبَلَاءِ فِي التُّرْكِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْمَلَاحِمِ مِنْ " سُنَنِهِ " عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُسَافِرٍ، عَنْ خَلَّادِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ بَشِيرِ بْنِ الْمُهَاجِرِ. وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْهُ، بِهِ، وَفِيهِ: قَوْمٌ صِغَارُ الْعُيُونِ، عِرَاضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْحَجَفُ، يُلْحِقُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ بِمَنَابِتِ

الشِّيحِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ; أَمَّا الْمَرَّةُ الْأُولَى فَيَنْجُو مَنْ هَرَبَ، وَأَمَّا الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ فَيَنْجُو بَعْضٌ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَيَهْلِكُونَ جَمِيعًا، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَقَدْ رَبَطُوا خُيُولَهُمُ بِسَوَارِي الْمَسْجِدِ ". قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " هُمُ التُّرْكُ ".
حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ الثَّقَفِيِّ فِي ذَلِكَ:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، ثَنَا الْحَشْرَجُ بْنُ نُبَاتَةَ الْقَيْسِيُّ الْكُوفِيُّ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، حَدَّثَنِي أَبِي فِي هَذَا الْمَسْجِدِ مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِتَنْزِلَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي أَرْضًا يُقَالُ لَهَا: الْبَصْرَةُ. فَيَكْثُرُ بِهَا عَدَدُهُمْ وَنَخْلُهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ بَنُو قَنْطُورَاءَ، عِرَاضُ الْوُجُوهِ، صِغَارُ الْعُيُونِ، حَتَّى يَنْزِلُوا عَلَى جِسْرٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: دِجْلَةَ. فَيَفْتَرِقَ الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثَ فِرَقٍ؟ فَأَمَّا فِرْقَةٌ فَتَأْخُذُ بِأَذْنَابِ الْإِبِلِ فَتَلْحَقُ بِالْبَادِيَةِ، فَهَلَكَتْ، وَأَمَّا فِرْقَةٌ فَتَأْخُذُ عَلَى أَنْفُسِهَا، فَكَفَرَتْ، فَهَذِهِ وَتِلْكَ سَوَاءٌ، وَأَمَّا فِرْقَةٌ فَيَجْعَلُونَ عِيَالَهُمْ خَلْفَ ظُهُورِهِمْ وَيُقَاتِلُونَ، فَقَتْلَاهُمْ شُهَدَاءُ، وَيَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى بَقِيَّتِهِمْ ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَلَاحِمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ، عَنْ

عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ، ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَنْزِلُ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي بِغَائِطٍ يُسَمُّونَهُ الْبَصْرَةَ عِنْدَ نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ: دِجْلَةُ. يَكُونُ عَلَيْهِ جِسْرٌ، يَكْثُرُ أَهْلُهَا، وَتَكُونُ مِنْ أَمْصَارِ الْمُهَاجِرِينَ - وَفِي لَفْظٍ: الْمُسْلِمِينَ - فَإِذَا كَانَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ جَاءَ بَنُو قَنْطُورَاءَ عِرَاضُ الْوُجُوهِ صِغَارُ الْأَعْيُنِ، حَتَّى يَنْزِلُوا عَلَى شَطِّ النَّهْرِ، فَيَتَفَرَّقَ الْمُهَاجِرُونَ ثَلَاثَ فِرَقٍ، فِرْقَةٌ تَأْخُذُ بِأَذْنَابِ الْبَقَرِ وَالْبَرِّيَّةِ وَهَلَكُوا، وَفِرْقَةٌ يَأْخُذُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَكَفَرُوا، وَفِرْقَةٌ يَجْعَلُونَ ذَرَارِيَّهَمْ خَلْفَ ظُهُورِهِمْ، وَيُقَاتِلُونَهُمْ، وَهُمُ الشُّهَدَاءُ ".
وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي ذِكْرِ الْبَصْرَةِ، الَّتِي مُصِّرَتْ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ يَعْقُوبَ الْإِسْكَنْدَرَانِيِّ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ التُّرْكَ، قَوْمًا كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ، يَلْبَسُونَ الشَّعَرَ ". وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ.

وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، فَقَالَ أَحْمَدُ ثَنَا عَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ ابْنُ أُخْتِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا صِغَارَ الْأَعْيُنِ، عِرَاضَ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ أَعْيُنَهُمْ حَدَقُ الْجَرَادِ، وَكَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ، يَنْتَعِلُونَ الشَّعَرَ، وَيَتَّخِذُونَ الدَّرَقَ حَتَّى يَرْبِطُوا خُيُولَهُمْ بِالنَّخْلِ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.

حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فِي قِتَالِ التُّرْكِ:
قَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْبَصْرِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْغَمْرِ، مَوْلَى سَمُوكٍ، ثَنَا أَبِي، عَنْ جَدِّي، سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ حُدَيْجٍ يَقُولُ: كُنْتُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ إِذْ جَاءَهُ كِتَابُ عَامِلِهِ يُخْبِرُ أَنَّهُ أَوْقَعَ بِالتُّرْكِ وَهَزَمَهُمْ، وَبِكَثْرَةِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ وَكَثْرَةِ مَا غُنِمَ مِنْهُمْ، فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ إِلَيْهِ: قَدْ فَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ مِمَّا قَتَلْتَ وَغَنِمْتَ فَلَا أَعْلَمَنَّ أَنَّكَ عُدْتَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا تُقَاتِلْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ

أَمْرِي. فَقُلْتُ لَهُ: وَلِمَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ التُّرْكَ تُحَارِبُ الْعَرَبَ حَتَّى تُلْحِقَهَا بِمَنَابِتِ الشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ ". فَأَكْرَهُ قِتَالَهُمْ لِذَلِكَ. طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ مُعَاوِيَةَ: قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْعَلَّافُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ الْحَرَّانِيُّ، ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ التَّنُوخِيِّ، ثَنَا حَسَّانُ بْنُ كُرَيْبٍ الْحِمْيَرِيُّ، سَمِعْتُ ابْنَ ذِي الْكَلَاعِ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اتْرُكُوا التُّرْكَ. مَا تَرَكُوكُمْ ". وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ فِي كِتَابِ " الْمَلَاحِمِ "، ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْعَطَّارُ وَأَبُو الْمُغِيرَةِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: يَنْزِلُ التُّرْكُ آمِدَ وَيَشْرَبُونَ مِنْ نَهْرِ الدِّجْلَةِ وَالْفُرَاتِ، سَبْعُونَ أَلْفًا، وَيَسْعَوْنَ فِي الْجَزِيرَةِ وَأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فِي الْحِيرَةِ، لَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ شَيْئًا، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثَلْجًا بِغَيْرِ كَيْلٍ فِيهِ صِرٌّ مِنْ رِيحٍ شَدِيدَةٍ وَجَلِيدٍ، فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ. فَيَرْجِعُونَ فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَهُمْ وَكَفَاكُمُ الْعَدُوَّ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، قَدْ هَلَكُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ التُّرْكَ قَاتَلَهُمُ الصَّحَابَةُ، فَهَزَمُوهُمْ، وَغَنِمُوهُمْ، وَسَبَوْا نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ قِتَالَهُمْ يَكُونُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ،

وَأَشْرَاطُهَا لَا تَكُونُ إِلَّا بَيْنَ يَدَيْهَا قَرِيبًا مِنْهَا، فَقَدْ يَكُونُ هَذَا وَاقِعًا مَرَّةً أُخْرَى عَظِيمَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالتُّرْكِ، حَتَّى يَكُونَ آخِرَ ذَلِكَ قِتَالُهُمْ مَعَ الدَّجَّالِ، وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهَا قَرِيبًا مِنْهَا، أَوْ يَكُونَ مِمَّا يَقَعُ فِي الْجُمْلَةِ، حَتَّى وَلَوْ تَقْدَّمَ قَبْلَهَا بِدَهْرٍ طَوِيلٍ، إِلَّا أَنَّهُ مِمَّا يَقَعُ بَعْدَ زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ بَعْدَ تَأَمُّلِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، كَمَا تَرَى ذَلِكَ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا وَرَدَ فِي مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بِكَرْبَلَاءَ، فِي أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، كَمَا سَلَفَ. وَمَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي ذِكْرِ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ وَأُغَيْلِمَةِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ; قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، أَخْبَرَنِي جَدِّي سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: هَلَكَةُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ ". فَقَالَ مَرْوَانُ، وَهُوَ مَعَنَا فِي الْحَلْقَةِ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ شَيْئًا: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ غِلْمَةً. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَشَاءُ أَنْ أَقُولَ بَنِي فَلَانٍ، وَبَنِي فَلَانٍ لَفَعَلْتُ. قَالَ: فَكُنْتُ أَخْرُجُ مَعَ أَبِي وَجَدِّي إِلَى بَنِي مَرْوَانَ بَعْدَ مَا مَلَكُوا، فَإِذَا هُمْ يُبَايِعُونَ

الصِّبْيَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُبَايَعُ لَهُ وَهُوَ فِي خِرْقَةٍ. قَالَ لَنَا: هَلْ عَسَى أَصْحَابُكُمْ هَؤُلَاءِ أَنْ يَكُونُوا الَّذِينَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَذْكُرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُلُوكَ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِنَحْوِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ حَرَّرْنَاهَا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.
وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي ذِكْرِ الْكَذَّابِ وَالْمُبِيرِ مِنْ ثَقِيفٍ، فَالْكَذَّابُ هُوَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ الَّذِي ظَهَرَ بِالْكُوفَةِ أَيَّامَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ رَافِضِيًّا خَبِيثًا،. بَلْ كَانَ يُنْسَبُ إِلَى الزَّنْدَقَةِ، وَادَّعَى أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، وَقَدْ قَتَلَهُ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَأُمَّا الْمُبِيرُ فَهُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ، الَّذِي قَتَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ نَاصِبِيًّا جَبَّارًا عَنِيدًا، عَكْسَ الْأَوَّلِ فِي الرَّفْضِ. وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ الرَّايَاتِ السُّودِ الَّتِي جَاءَ بِهَا بَنُو الْعَبَّاسِ مِنْ خُرَاسَانَ لَمَّا اسْتَلَبُوا الْمُلْكَ مِنْ أَيْدِي بَنِي أُمَيَّةَ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، أَخَذُوا الْخِلَافَةَ مِنْ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ الْعَاصِ وَيُعَرَفُ بِمَرْوَانَ الْحِمَارِ الْجَعْدِيِّ; لِاشْتِغَالِهِ عَلَى الْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ الْمُعْتَزِلِيِّ، وَكَانَ آخِرَ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، فَصَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى السَّفَّاحِ أَوَّلِ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِاسْمِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ

عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَدَأَ هَذَا الْأَمْرَ نُبُوَّةً وَرَحْمَةً، وَكَائِنًا خِلَافَةً وَرَحْمَةً، وَكَائِنًا مُلْكًا عَضُوضًا، وَكَائِنًا عِزَّةً وَجَبْرِيَّةً وَفَسَادًا فِي الْأُمَّةِ، يَسْتَحِلُّونَ الْفُرُوجَ، وَالْخُمُورَ، وَالْحَرِيرَ، وَيُنْصَرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَيُرْزَقُونَ أَبَدًا، حَتَّى يَلْقَوُا اللَّهَ ". وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ الْجُمَحِيِّ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَكُونُ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ خُلَفَاءُ يَعْمَلُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَعْدِلُونَ فِي عِبَادِ اللَّهِ، ثُمَّ يَكُونُ مِنْ بَعْدِ الْخُلَفَاءِ مُلُوكٌ يَأْخُذُونَ بِالثَّأْرِ، وَيَقْتُلُونَ الرِّجَالَ، وَيَصْطَفُونَ الْأَمْوَالَ، فَمُغَيِّرٌ بِيَدِهِ، وَمُغَيِّرٌ بِلِسَانِهِ، وَمُغَيِّرٌ بِقَلْبِهِ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ ".
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ، عَنْ

أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ; كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ ". قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ; فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ ".
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كَانَ نَبِيٌّ إِلَّا كَانَ لَهُ حَوَارِيُّونَ يَهْدُونَ بِهَدْيهِ، وَيَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِهِ، ثُمَّ يَكُونُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَعْمَلُونَ مَا يُنْكِرُونَ ".
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَكُونُ اثَنَا عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ ". وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا حَتَّى يَكُونَ اثَنَا عَشَرَ خَلِيفَةً ". وَفِي رِوَايَةٍ: لَا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ مُسْتَقِيمًا أَمْرُهَا، ظَاهِرَةً عَلَى عَدُوِّهَا، حَتَّى يَمْضِيَ مِنْهُمُ اثَنَا عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ ". قَالُوا: ثُمَّ يَكُونُ مَاذَا؟ قَالَ: " يَكُونُ الْهَرْجُ ".
فَهَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءُ الْمُبَشَّرُ بِهِمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسُوا بِالْاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ تَزْعُمُهُمُ

الرَّوَافِضُ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ مِنْهُمْ، لِأَنَّ أَكْثَرَ أُولَئِكَ لَمْ يَلِ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي خِلَافَةٍ، بَلْ وَلَا فِي بَلَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ، وَإِنَّمَا وَلِىَ مِنْهُمْ عَلَيٌّ وَابْنُهُ الْحَسَنُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَؤُلَاءِ الِاثْنَيْ عَشْرَ الَّذِينَ تَتَابَعَتْ وِلَايَتُهُمْ سَرْدًا إِلَى أَثَنَاءِ دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ; لِأَنَّ حَدِيثَ سَفِينَةَ: الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ". يَمْنَعُ مِنْ هَذَا الْمَسْلَكِ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْهَقِيُّ قَدْ رَجَّحَهُ، وَقَدْ بَحَثَنَا مَعَهُ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ الِاثْنَيْ عَشَرَ وُجِدَ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ، وَابْنُهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، كَمَا هُوَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَجُمْهُورِ الْأُمَّةِ، وَكَذَلِكَ وُجِدَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَسَيُوجَدُ بَقِيَّتُهُمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ، حَتَّى يَكُونَ مِنْهُمُ الْمَهْدِيُّ الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِيهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهَا، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ.

حَدِيثُ عُبَادَةَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا بَعْدَ الْمِائَةِ سَنَةٍ:
قَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي عَطَاءٍ يَزِيدَ بْنِ عَطَاءٍ السَّكْسَكِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ شَقْرَاءَ، عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، أَنَّهُ سَمِعَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ يَذْكُرُأَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مُدَّةُ أُمَّتِكَ فِي الرَّخَاءِ؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، حَتَّى سَأَلَهُ ثَلَاثَ مِرَارٍ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ الرَّجُلُ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَيْنَ السَّائِلُ " ؟ فَرَدُّوهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ:

" سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي; مُدَّةُ أُمَّتِي مِنَ الرَّخَاءِ مِائَةُ سَنَةٍ ". قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ أَمَارَةٍ أَوْ عَلَامَةٍ أَوْ آيَةٍ؟ فَقَالَ: " نَعَمْ، الْخَسْفُ وَالرَّجْفُ وَإِرْسَالُ الشَّيَاطِينِ الْمُجْلِبَةِ عَلَى النَّاسِ ". وَفِي " مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى "، وَالْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ مُصْعَبِ بْنِ مُصْعَبٍ، وَلَا أَعْرِفُهُ إِلَّا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُرْفَعُ زِينَةُ الدُّنْيَا سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ ". هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا.

حَدِيثٌ فِيمَا بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ قَالَ
ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ عُمَارَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى بْنِ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْآيَاتُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ ". ثُمَّ أَوْرَدَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ، وَلَا يَصِحُّ، وَلَوْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا وَقَعَ مِنَ الْفِتْنَةِ بِسَبَبِ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَمِحْنَةِ الْإِمَامِ

أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ هُنَالِكَ.
وَرَوَى رَوَّادُ بْنُ الْجَرَّاحِ - وَهُوَ مُنْكَرُ الرِّوَايَةِ - عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: " خَيْرُكُمْ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ خَفِيفُ الْحَاذِ ". قَالُوا: وَمَا خَفِيفُ الْحَاذِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " مَنْ لَا أَهْلَ لَهُ، وَلَا مَالَ وَلَا وَلَدَ ". وَهَذَا مُنْكَرٌ.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنْ زَهْدَمِ بْنِ مُضَرِّبٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ". قَالَ عِمْرَانُ: فَلَا أَدْرِي ذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةً: " ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ ". لَفَظُ الْبُخَارِيِّ.

ذِكْرُ سَنَةِ خَمْسِمِائَةٍ
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنِي صَفْوَانُ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:

إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا تَعْجِزَ أُمَّتِي عِنْدَ رَبِّهَا أَنْ يُؤَخِّرَهَا نِصْفَ يَوْمٍ ". قِيلَ لِسَعْدٍ: وَكَمْ نِصْفُ يَوْمٍ؟ قَالَ: خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ. تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ مِنْ قَوْلِهِ مِثْلَ ذَلِكَ. وَهَذَا التَّحْدِيدُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ لَا يَنْفِي مَا يَزِيدُ عَلَيْهَا، إِنْ صَحَّ رَفْعُ الْحَدِيثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا مَا يُورِدُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعَامَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يُؤَلَّفُ تَحْتَ الْأَرْضِ. فَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَكَلَامِهِمْ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ وَلَا ذِكْرٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَلَا سَمِعْنَاهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَبْسُوطَاتِ، وَالْأَجْزَاءِ الْمُخْتَصَرَاتِ، وَلَا ثَبَتَ فِي حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَدَّ السَّاعَةَ بِمُدَّةٍ مَحْصُورَةٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَشْرَاطِهَا وَأَمَارَاتِهَا وَعَلَامَاتِهَا، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

ذِكْرُ الْخَبَرِ الْوَارِدِ فِي ظُهُورِ نَارٍ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ أَضَاءَتْ لَهَا أَعْنَاقُ الْإِبِلِ بِبُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، أَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ تُضِيءُ أَعْنَاقَ الْإِبِلِ بِبُصْرَى ".
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْتُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ رَافِعِ بْنِ بِشْرٍ السَّلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَخْرُجُ نَارٌ تُضِيءُ أَعْنَاقَ الْإِبِلِ بِبُصْرَى، تَسِيرُ سَيْرَ بَطِيئَةِ الْإِبِلِ، تَسِيرُ النَّهَارَ وَتُقِيمُ اللَّيْلَ، تَغْدُو وَتَرُوحُ، فَيُقَالُ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ غَدَتِ النَّارُ فَاغْدُوا. أَوْ: قَالَتِ النَّارُ أَيُّهَا النَّاسُ فَقِيلُوا. غَدَتِ النَّارُ أَيُّهَا النَّاسُ فَرُوحُوا. مَنْ أَدْرَكَتْهُ أَكَلَتْهُ ". هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَهُوَ

فِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ " مِنْ رِوَايَةِ رَافِعِ بْنِ بِشْرٍ السَّلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ إِلَى: " تُضِيءُ أَعْنَاقَ الْإِبِلِ بِبُصْرَى ". وَهُوَ الصَّوَابُ; فَإِنَّ هَذِهِ النَّارَ الَّتِي ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ هِيَ النَّارُ الَّتِي تَسُوقُ النَّاسَ إِلَى أَرْضِ الْمَحْشَرِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ قَرِيبًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، ثَنَا أَبِي، سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ يُحَدِّثُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ حِمَازٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ:أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَتَعَجَّلَتْ رِجَالٌ مِنَّا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبَاتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ سَأَلَ عَنْهُمْ، فَقِيلَ: تَعَجَّلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ. فَقَالَ: " تَعَجَّلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَالنِّسَاءِ، أَمَا إِنَّهُمْ سَيَدَعُونَهَا أَحْسَنَ مَا كَانَتْ ". ثُمَّ قَالَ: " لَيْتَ شِعْرِي، مَتَى تَخْرُجُ نَارٌ مِنَ الْيَمَنِ مِنْ جَبَلِ الْوَرَاقِ تُضِيءُ لَهَا أَعْنَاقُ الْإِبِلِ بُرُوكًا بِبُصْرَى كَضَوْءِ النَّهَارِ ". وَهَذَا الْإِسْنَادُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَأَنَّهُ مِمَّا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ، فَإِنَّ النَّارَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ مِنَ الْيَمَنِ، هِيَ الَّتِي تَسُوقُ النَّاسَ الْمَوْجُودِينَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ إِلَى الْمَحْشَرِ، وَأَمَّا النَّارُ الَّتِي تُضِيءُ لَهَا أَعْنَاقُ الْإِبِلِ، فَتِلْكَ تَخْرُجُ مِنْ أَرْضِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ - وَكَانَ شَيْخَ الْمُحَدِّثِينَ فِي زَمَانِهِ،

وَأُسْتَاذَ الْمُؤَرِّخِينَ فِي أَوَانِهِ - أَنَّ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةَ خَامِسِ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا ظَهَرَتْ نَارٌ بِأَرْضِ الْحِجَازِ فِي أَرْضِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَوْدِيَةِ، طُولَ أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ وَعَرْضَ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ، تُسِيلُ الصَّخْرَ، حَتَّى يَبْقَى مِثْلَ الْآنُكِ، ثُمَّ يَصِيرُ مِثْلَ الْفَحْمِ الْأَسْوَدِ، وَأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَسِيرُونَ عَلَى ضَوْئِهَا بِاللَّيْلِ إِلَى تَيْمَاءَ، وَأَنَّهَا اسْتَمَرَّتْ شَهْرًا، وَقَدْ ضَبَطَ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَعَمِلُوا فِيهَا أَشْعَارًا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَأَخْبَرَنِي قَاضِي الْقُضَاةِ صَدَرُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الْحَنَفِيُّ، قَاضِيهِمْ بِدِمَشْقَ، عَنْ وَالِدِهِ الشَّيْخِ صَفِيِّ الدِّينِ مُدَرِّسِ الْحَنَفِيَّةِ بِبُصْرَى، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْرَابِ صَبِيحَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، مِمَّنْ كَانَ بِحَاضِرَةِ بَلَدِ بُصْرَى، أَنَّهُمْ شَاهَدُوا أَعْنَاقَ الْإِبِلِ فِي ضَوْءِ هَذِهِ النَّارِ الَّتِي ظَهَرَتْ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

ذِكْرُ إِخْبَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ بَعْدَ زَمَانِنَا هَذَا
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ، حَدَّثَنَا عِلْبَاءُ بْنُ أَحْمَرَ الْيَشْكُرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ:صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، ثُمَّ نَزَلَ

فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا، حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، فَحَدَّثَنَا بِمَا كَانَ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ، فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُنْفَرِدًا بِهِ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ مِنْ " صَحِيحِهِ "، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيِّ، وَحَجَّاجِ بْنِ الشَّاعِرِ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الضَّحَّاكِ بْنِ مَخْلَدٍ النَّبِيلِ، عَنْ عَزْرَةَ، عَنْ عِلْبَاءَ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ - وَهُوَ عَمْرُو بْنُ أَخْطَبَ. بْنِ رِفَاعَةَ - الْأَنْصَارِيِّ بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ " صَحِيحِهِ ": رُوِيَ عَنْ عِيسَى بْنِ مُوسَى غُنْجَارٍ، عَنْ رَقَبَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ:قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَامًا، فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ، حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مُنَازِلَهُمْ، وَأَهْلُ النَّارِ مُنَازِلَهُمْ، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ عَنْ عِيسَى غُنْجَارٍ، عَنْ رَقَبَةَ وَهُوَ ابْنُ مَصْقَلَةَ، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ فِي " الْأَطْرَافِ ": وَإِنَّمَا رَوَاهُ عِيسَى غُنْجَارٌ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ رَقَبَةَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْفِتَنِ مِنْ " سُنَنِهِ ": حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ،عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا، فَمَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا حَدَّثَهُ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ فَأَذْكُرُهُ كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ، ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ:صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ ذَاتَ يَوْمٍ بِنَهَارٍ، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَنَا إِلَى أَنْ غَابَتِ الشَّمْسُ، فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِمَّا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا حَدَّثَنَاهُ، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَ، وَنَسِيَ ذَلِكَ مَنْ نَسِيَ، فَكَانَ مِمَّا قَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ ". وَذَكَرَ تَمَامَهَا إِلَى أَنْ قَالَ: " وَقَدْ دَنَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ، وَإِنَّ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا مِثْلُ مَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ ".
عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ التَّيْمِيُّ لَهُ غَرَائِبُ وَمُنْكَرَاتٌ، وَلَكِنْ لِهَذَا الْحَدِيثِ

شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "، مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بَعْضُهُ، وَفِيهِ الدِّلَالَةُ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْطُوعُ بِهِ; أَنَّ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مَضَى مِنْهَا شَيْءٌ يَسِيرٌ جِدًّا، وَمَعَ هَذَا لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ مَا بَقِيَ عَلَى التَّعْيِينِ وَالتَّحْدِيدِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ مَا مَضَى مِنْهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَالَّذِي فِي كُتُبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ تَحْدِيدِ مَا سَلَفَ بِأُلُوفٍ وَمِئِينَ مِنَ السِّنِينَ قَدْ نَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَخْطِئَتِهِمْ فِيهِ، وَتَغْلِيطِهِمْ، وَهُمْ جَدِيرُونَ بِذَلِكَ حَقِيقُونَ بِهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ: " الدُّنْيَا جُمْعَةٌ مِنْ جُمَعِ الْآخِرَةِ ". وَلَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ. وَكَذَا كُلُّ حَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ تَحْدِيدٌ بِوَقْتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى التَّعْيِينِ، لَا يَثْبُتُ إِسْنَادُهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ ضُحَاهَا [ النَّازِعَاتِ: 42 - 44 ] وَقَالَ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [ الْأَعْرَافِ: 187 ]، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [ الْقَمَرِ: 1 ].
وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ،

قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " إِنْ كَادَتْ لَتَسْبِقُنِي ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اقْتِرَابِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا، وَقَالَ تَعَالَى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 1 ]، وَقَالَ تَعَالَى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [ النَّحْلِ: 1 ] وَقَالَ تَعَالَى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ [ الشُّورَى: 18 ].
وَفِي " الصَّحِيحِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: " إِنَّهَا كَائِنَةٌ، فَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا " ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أُعِدَّ لَهَا كَثِيرَ صَلَاةٍ وَلَا عَمَلٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. فَقَالَ: " أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ". فَمَا فَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ.
وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَسُئِلَ عَنِ السَّاعَةِ، فَنَظَرَ إِلَى غُلَامٍ فَقَالَ: " لَنْ يُدْرِكَ هَذَا الْهَرَمُ حَتَّى تَأْتِيَكُمْ سَاعَتُكُمْ ". وَالْمُرَادُ: انْخِرَامُ قَرْنِهِمْ، وَدُخُولُهُمْ فِي عَالَمِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ فَقَدْ دَخَلَ فِي حُكْمِ الْآخِرَةِ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ. وَهَذَا الْكَلَامُ بِهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ، وَقَدْ يَقُولُ هَذَا بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ، وَيُشِيرُونَ بِهِ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الزَّنْدَقَةِ وَالْبَاطِلِ. فَأَمَّا السَّاعَةُ الْعُظْمَى وَهُوَ اجْتِمَاعُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَهَذَا مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِ وَقْتِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: خَمْسٌ لَا

يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ". ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [ لُقْمَانَ: 34 ]. وَقَدْ سَأَلَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِسْلَامِ فَأَخْبَرَهُ بِهِ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنِ الْإِيمَانِ فَأَخْبَرَهُ بِهِ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنِ الْإِحْسَانِ فَأَخْبَرَهُ بِهِ، فَلَمَّا سَأَلَهُ عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ لَهُ: " مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ". قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَشْرَاطِهَا. فَأَخْبَرَهُ عَنْ ذَلِكَ. كَمَا سَيَأْتِي إِيرَادُهُ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ، مَعَ أَمْثَالِهِ وَأَشْكَالِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ.

بَابُ ذِكْرُ الْفِتَنِ جُمْلَةً ثُمَّ نُفَصِّلُ ذِكْرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنِي ابْنُ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ، أَنَّهُسَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ; مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مَنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: " نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ ". قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: " قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ ". قُلْتُ: فَهَلْ

بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: " نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا. قَالَ: " هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا ". قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: " تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ ". قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: " فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ ". ثُمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، بِهِ نَحْوَهُ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ; فَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ طَرِيقِ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ خَالِدٍ الْيَشْكُرِيِّ الْكُوفِيِّ، عَنْهُ مَبْسُوطًا، وَفِيهِ تَفْسِيرٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مُشْكِلٍ، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قُرْطٍ، عَنْهُ. وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: تَعَلَّمَ أَصْحَابِي الْخَيْرَ، وَتَعَلَّمْتُ اَلشَّرَّ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ

غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ". قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ " النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ ". وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ، أَنَّ أَبَا حَازِمٍ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنٍ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ الْإِيمَانَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى يَوْمئِذٍ لِلْغُرَبَاءِ، إِذَا فَسَدَ النَّاسُ، وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ لِيَأْرِزَنَّ الْإِيمَانُ بَيْنَ هَذَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا ".
وَقَالَ أَحْمَدُ، ثَنَا حَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى، ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، ثَنَا جَمِيلٌ الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا يُدْرِكْنِي زَمَانٌ - أَوْ قَالَ: لَا تُدْرِكُوا زَمَانًا - لَا يُتَّبَعُ فِيهِ الْعَلِيمُ وَلَا يُسْتَحَيَا فِيهِ مِنَ الْحَلِيمِ، قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الْأَعَاجِمِ، وَأَلْسِنَتُهُمْ أَلْسِنَةُ الْعَرَبِ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.

بَابُ افْتِرَاقِ الْأُمَمِ
وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتْ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ". وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ وَهَبِ بْنِ بَقِيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: " الْجَمَاعَةُ ". تَفَرَّدَ بِهِ، وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ.

وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، هُوَ ابْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ قَوِيٌّ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ. وَأَبِي سَعِيدٍ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ وَفُرْقَةٌ، وَقَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ، وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ ". الْحَدِيثَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، هُوَ ابْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَزْهَرُ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَرَازِيُّ - قَالَ أَحْمَدُ - عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْهَوْزَنِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، أَنَّهُ قَامَ فَقَالَ:أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا، فَقَالَ: " أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ

الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَفِي " مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا سَأَلُوهُ عَنِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: " مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوْدَاةَ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِثْلًا بِمِثْلٍ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ".
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ أَنَّ الْمَخْلَصَ مِنَ الْفِتَنِ عِنْدَ وُقُوعِهَا اتِّبَاعُ الْجَمَاعَةِ وَلُزُومُ الْإِمَامِ بِالطَّاعَةِ إِذَا كَانُوا عَلَى حَقٍّ وَاتِّبَاعِ الشَّرْعِ، وَإِذَا فَسَدُوا فَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، فَإِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا خَالَفْتُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عُثْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا مُعَانُ بْنُ رِفَاعَةَ السَّلَامِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَلَفٍ الْأَعْمَى، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى

ضَلَالَةٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الِاخْتِلَافَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ ". وَلَكِنْ هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ; لِأَنَّ مُعَانَ بْنَ رِفَاعَةَ السَّلَامِيَّ قَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ; الْحَقِّ وَأَهْلِهِ ". وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَقُولُ: السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ الطُّوسِيُّ. وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْحَقِّ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ هُمْ أَكْثَرَ الْأُمَّةِ; فَكَانَ لَا يُوجَدُ فِيهِمْ مُبْتَدِعٌ لَا فِي الْأَقْوَالِ وَلَا الْأَفْعَالِ، وَفِي الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ فَقَدْ يَجْتَمِعُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ عَلَى بِدْعَةٍ، وَقَدْ يَخْلُو الْحَقُّ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ عِصَابَةٍ يَقُومُونَ بِهِ، كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ:فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِمَامٌ وَلَا جَمَاعَةٌ؟ قَالَ لَهُ: " فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ ". وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ ". وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ ".
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَتِ الْفِتَنُ، فَإِنَّهُ يَسُوغُ اعْتِزَالُ النَّاسِ حِينَئِذٍ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيهِ، فَعَلَيْكَ بِخُوَيْصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامِّ ".
وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً فَعَلَيْكَ

بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، فَإِنَّ مِنْ بَعْدِكُمْ زَمَانَ الصَّبْرِ، صَبْرٌ فِيهِنَّ كَقَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ "، وَقَدِ اعْتَزَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ النَّاسَ وَالْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَهُمْ أَئِمَّةٌ كِبَارٌ; كَأَبِي ذَرٍّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، حَتَّى اعْتَزَلُوا مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي الصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ. وَاعْتَزَلَ مَالِكٌ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَعْرِفَتِهِ الْحَدِيثَ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَكَانَ لَا يَشْهَدُ جُمُعَةً وَلَا جَمَاعَةً، وَكَانَ إِذَا لِيمَ فِي ذَلِكَ يَقُولُ: مَا كَلُّ مَا يُعْلَمُ يُقَالُ. وَقِصَّتُهُ مَعْرُوفَةٌ، وَكَذَلِكَ اعْتَزَلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَخَلْقٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ; لِمَا شَاهَدُوهُ مِنَ الظُّلْمِ وَالشُّرُورِ وَالْفِتَنِ خَوْفًا عَلَى إِيمَانِهِمْ أَنْ يُسْلَبَ مِنْهُمْ، وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِي كِتَابِ " الْعُزْلَةِ " وَكَذَلِكَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا قَبْلَهُ مِنْ هَذَا جَانِبًا كَبِيرًا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ; يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ ". لَمْ يُخْرِجْهُ مُسْلِمٌ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ بِهِ، وَيَجُوزُ حِينَئِذٍ سُؤَالُ الْمَوْتِ وَطَلَبُهُ مِنَ اللَّهِ عِنْدَ ظُهُورِ الْفِتَنِ وَالظُّلْمِ وَإِنْ كَانَ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا صَحَّ بِهِ الْحَدِيثُ ".

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ وَلَا يَدْعُو بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَثِقَ بِعَمَلِهِ فَإِنَّهُ إِنْ مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمُرُهُ إِلَّا خَيْرًا ". وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ سُؤَالِ الْمَوْتِ عِنْدَ الْفِتَنِ، الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَهُوَ حَدِيثُ الْمَنَامِ الطَّوِيلُ. وَفِيهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ ".
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ شَدِيدٌ لَا يَكُونُ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ جَمَاعَةٌ قَائِمَةٌ بِالْحَقِّ، إِمَّا فِي جَمِيعِ الْأَرْضِيَّةِ أَوْ فِي بَعْضِهَا.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ

عِلْمٍ، فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا ". وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ ". وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ": " وَهُمْ بِالشَّامِ ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ: وَهُمْ أَهْلُ الْحَدِيثِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْمَهْرِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ شَرَاحِيلَ بْنِ يَزِيدَ الْمَعَافِرِيِّ، عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا أَمْرَ دِينِهَا ". تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ. ثُمَّ قَالَ ": عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ لَمْ يَجُزْ بِهِ شَرَاحِيلَ. يَعْنِي أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، وَقَدِ ادَّعَى كُلُّ قَوْمٍ فِي إِمَامِهِمْ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَالظَّاهِرُ، وَاللَّهِ أَعْلَمُ، أَنَّهُ يَعُمُّ حَمَلَةَ الْعِلْمِ الْعَامِلِينَ بِهِ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ، مِمَّنْ عَمَلُهُ مَأْخُوذٌ عَنِ الشَّارِعِ، أَوْ مِمَّنْ هُوَ مُوَافِقٌ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ وَكُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْعُلَمَاءِ، مِنْ مُفَسِّرِينَ، وَمُحَدِّثِينَ، وَقُرَّاءَ، وَفُقَهَاءَ، وَنُحَاةٍ، وَلُغَوِيِّينَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ فَسَدَ مِنْ عُلَمَائِنَا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَمَنْ فَسَدَ مِنْ عُبَّادِنَا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنَ النَّصَارَى.

وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ وَلَكِنْ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءَ ". ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْعِلْمَ لَا يُنْتَزَعُ مِنْ صُدُورِ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ أَنْ وَهَبَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ بُنْدَارٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُحَدِّثُكُمْ بِهِ أَحَدٌ بَعْدِي، سَمِعْتُهُ مِنْهُ: إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيَفْشُوَ الزِّنَى، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَذْهَبَ الرِّجَالُ، وَيَبْقَى النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً قَيِّمٌ وَاحِدٌ ". وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، مِنْ حَدِيثِ غُنْدَرٍ، بِهِ. وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي وَوَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ أَيَّامٌ، يُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، وَيَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ، وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ ". وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، بِهِ ".
وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ، حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ وَلَا

صَلَاةٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ، وَيُسْرَى عَلَى الْكِتَابِ فِي لَيْلَةٍ، فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ، وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ; الشَّيْخُ الْكَبِيرُ، وَالْعَجُوزُ، يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَنَحْنُ نَقُولُهَا ". فَقَالَ لَهُ صِلَةُ: مَا تُغْنِي عَنْهُمْ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا صَلَاةٌ وَلَا صِيَامٌ، وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حُذَيْفَةُ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ حُذَيْفَةُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَةِ، فَقَالَ: يَا صِلَةُ، تُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ. ثَلَاثًا.
وَهَذَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ قَدْ يُرْفَعُ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، حَتَّى إِنَّ الْقُرْآنَ يُسْرَى عَلَيْهِ فَيُرْفَعُ مِنَ الْمَصَاحِفِ وَالصُّدُورِ، وَيَبْقَى النَّاسُ بِلَا عِلْمٍ وَلَا قُرْآنٍ، وَإِنَّمَا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ الْمُسِنَّةُ يُخْبِرَانِ أَنَّهُمْ أَدْرَكُوا النَّاسَ وَهُمْ يَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَهُمْ يَقُولُونَهَا أَيْضًا عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهِيَ نَافِعَةٌ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ غَيْرُهَا، وَقَوْلُهُ: تُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ. يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهَا تَدْفَعُ عَنْهُمْ دُخُولَ النَّارِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَيَكُونُ فَرْضُهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الْقَوْلَ الْمُجَرَّدَ عَنِ الْعَمَلِ، لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمْ بِالْأَعْمَالِ، الَّتِي لَمْ يُخَاطَبُوا بِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ نَجَاتَهُمْ مِنَ النَّارِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ إِلَيْهَا، وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَكُونُ سَبَبَ نَجَاتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الدَّائِمِ الْمُسْتَمِرِّ. وَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُرَادِينِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُخْرِجَنَّ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ". كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ قَوْمًا آخَرِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْعِلْمَ يُرْفَعُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَيَكْثُرُ الْجَهْلُ، فِي رِوَايَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَيَنْزِلُ الْجَهْلُ. أَيْ يُلْهَمُ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ الْجَهْلَ، وَذَلِكَ مِنْ قَهْرِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَخِذْلَانِهِ إِيَّاهُمْ، نُعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ لَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ فِي تَزَايُدٍ مِنَ الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ، إِلَى مُنْتَهَى الْآجَالِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ "، وَ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى أَشْرَارِ النَّاسِ ".
وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُطَرِّحِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِهَذَا الدِّينِ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا، وَإِنَّ مِنْ إِقْبَالِهِ أَنَّ تَفْقَهَ الْقَبِيلَةُ بِأَسْرِهَا حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهَا إِلَّا الْفَاسِقُ أَوِ الْفَاسِقَانِ، فَهُمَا ذَلِيلَانِ فِيهَا مُضْطَهَدَانِ، إِنْ تَكَلَّمَا قُهِرَا وَذُلَّا وَاضْطُهِدَا، وَإِنَّ مِنْ إِدْبَارِ هَذَا الدِّينِ أَنْ تَجْفُوَ الْقَبِيلَةُ بِأَسْرِهَا فَلَا يَبْقَى فِيهَا إِلَّا الْفَقِيهُ أَوِ الْفَقِيهَانِ، فَهُمَا ذَلِيلَانِ مُضْطَهَدَانِ، إِنْ تَكَلَّمَا قُهِرَا وَاضْطُهِدَا، وَيَلْعَنُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا، أَلَا وَعَلَيْهِمْ حَلَّتِ اللَّعْنَةُ، حَتَّى يُشْرَبَ الْخَمْرُ عَلَانِيَةً، وَحَتَّى تَمُرَّ الْمَرْأَةُ بِالْقَوْمِ، فَيَقُومَ إِلَيْهَا بَعْضُهُمْ، فَيَرْفَعَ بِذَيْلِهَا كَمَا يَرْفَعُ بِذَنَبِ النَّعْجَةِ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: أَلَا وَارَيْتَهَا وَرَاءَ حَائِطٍ. فَهُوَ يَوْمَئِذٍ فِيهِمْ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِيكُمْ، وَمَنْ أَمَرَ يَوْمَئِذٍ بِمَعْرُوفٍ، وَنَهَى عَنْ مُنْكَرٍ، فَلَهُ أَجْرُ خَمْسِينَ مِمَّنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي وَأَطَاعَنِي وَبَايَعَنِي ".

ذِكْرُ شُرُورٍ تَحْدُثُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وُجِدَ بَعْضُهَا فِي زَمَانِنَا أَيْضًا
قَالَ ابْنُ مَاجَهْ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ مِنْ " سُنَنِهِ ": حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسُ خِصَالٍ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بِأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ ". تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ مَاجَهْ، وَفِيهِ غَرَابَةٌ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ أَبُو فَضَالَةَ الشَّامِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ

عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً حَلَّ فِيهَا الْبَلَاءُ ". قِيلَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " إِذَا كَانَ الْمَغْنَمُ دُوَلًا، وَالْأَمَانَةُ مَغْنَمًا، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وَأَطَاعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ، وَعَقَّ أُمَّهُ، وَبَرَّ صَدِيقَهُ، وَجَفَا أَبَاهُ، وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ، وَشُرِبَتِ الْخَمْرُ، وَلُبِسَ الْحَرِيرُ، وَاتُّخِذَتِ الْقَيْنَاتُ، وَالْمَعَازِفُ، وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا، فَلْيُرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ، أَوْ خَسْفًا وَمَسْخًا ". ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ غَيْرَ الْفَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ،، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ وَكِيعٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَرْقَمَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى صَلَاتَهُ نَادَاهُ رَجُلٌ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَزَبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَهَرَهُ، وَقَالَ: " اسْكُتْ ". حَتَّى إِذَا أَسْفَرَ

رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: " تَبَارَكَ رَافِعُهَا وَمُدَبِّرُهَا ". ثُمَّ رَمَى بِبَصَرِهِ إِلَى الْأَرْضِ، فَقَالَ: " تَبَارَكَ دَاحِيهَا وَخَالِقُهَا ". ثُمَّ قَالَ: " أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟ " فَجَثَا الرَّجُلُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: أَنَا بِأَبِي وَأُمِّي سَأَلْتُكَ. فَقَالَ: " ذَلِكَ عِنْدَ حَيْفِ الْأَئِمَّةِ، وَتَصْدِيقٍ بِالنُّجُومِ، وَتَكْذِيبٍ بِالْقَدَرِ، وَحَتَّى تُتَّخَذَ الْأَمَانَةُ مَغْنَمًا، وَالصَّدَقَةُ مَغْرَمًا، وَالْفَاحِشَةُ زِيَادَةً. فَعِنْدَ ذَلِكَ هَلَكَ قَوْمُكَ ". ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَيُونُسُ بْنُ أَرْقَمَ كَانَ صَادِقًا، رَوَى عَنْهُ النَّاسُ، وَفِيهِ شِيعِيَّةٌ شَدِيدَةٌ.
ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الْمُسْتَلِمِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ رُمَيْحٍ الْجُذَامِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اتُّخِذَ الْفَيْءُ دُوَلًا، وَالْأَمَانَةُ مَغْنَمًا، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وَتُعُلِّمَ لِغَيْرِ الدِّينِ، وَأَطَاعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، وَعَقَّ أُمَّهُ، وَأَدْنَى صَدِيقَهُ، وَأَقْصَى أَبَاهُ، وَظَهَرَتِ الْأَصْوَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَسَادَ الْقَبِيلَةَ فَاسِقُهُمْ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ، وَظَهَرَتِ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ، وَشُرِبَتِ الْخُمُورُ، وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا، فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ، وَخَسْفًا، وَمَسْخًا، وَقَذْفًا، وَآيَاتٍ تَتَابَعُ، كَنِظَامٍ بَالٍ قُطِعَ سِلْكُهُ فَتَتَابَعَ ". وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ، وَمَسْخٌ، وَقَذْفٌ ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: وَمَتَى ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " إِذَا ظَهَرَتِ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ، وَشُرِبَتِ الْخُمُورُ ". ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكِنْدِيُّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذَا مَشَتْ أُمَّتِي الْمُطَيْطَاءَ، وَخَدَمَهَا أَبْنَاءُ الْمُلُوكِ، أَبْنَاءُ فَارِسَ وَالرُّومِ، سُلِّطَ شِرَارُهَا عَلَى خِيَارِهَا ". وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَذَكَرَهُ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُ أَصْلًا، وَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، مُرْسَلًا.
ثُمَّ رَوَى مِنْ حَدِيثِ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ، فَظَهْرُ الْأَرْضِ خَيْرٌ

لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا، وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلَاءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ، فَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا ". ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ، وَلَهُ غَرَائِبُ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهَا، وَهُوَ رَجُلٌ صَالِحٌ.
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُبَارَكِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا طَغَى نِسَاؤُكُمْ، وَفَتَقَ شَأْنُكُمْ؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ؟! قَالَ: " وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، لَا تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ". قَالُوا: وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ؟! قَالَ: " وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، تَرَوْنَ الْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا ". قَالُوا: وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ؟! قَالَ: " وَأَشَدُّ مِنْهُ; تَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ". قَالُوا: وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ؟ قَالَ: " وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بِئْسَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ، وَبِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ، وَبِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ يَسْتَحِلُّونَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالشَّهَوَاتِ بِالشُّبُهَاتِ، وَبِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ يَمْشِي الْمُؤْمِنُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِالتَّقِيَّةِ وَالْكِتْمَانِ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ مُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِتَضْرِبَنَّ مُضَرُ عِبَادَ اللَّهِ حَتَّى لَا يُعْبَدَ لِلَّهِ اسْمٌ، وَلْيَضْرِبَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى لَا يَمْنَعُوا ذَنَبَ تَلْعَةٍ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، يَعْنِي ابْنَ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْجَرْمِيِّ، زَادَ أَبُو دَاوُدَ: وَعَنْ قَتَادَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِهِ، وَسَيَأْتِي فِي ذِكْرِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِيهِ: " وَتُزَخْرَفُ الْمَحَارِيبُ، وَتَخْرَبُ الْقُلُوبُ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ زَاذَانَ أَبِي عُمَرَ، عَنْ عُلَيْمٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عَلَى سَطْحٍ، مَعَنَا رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَزِيدُ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَبْسًا الْغِفَارِيَّ - وَالنَّاسُ يَخْرُجُونَ فِي الطَّاعُونِ، فَقَالَ عَبْسٌ: يَا طَاعُونُ، خُذْنِي. ثَلَاثًا يَقُولُهَا، فَقَالَ لَهُ عُلَيْمٌ: لِمَ تَقُولُ هَذَا؟ أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ؟ فَإِنَّهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ عَمَلِهِ، وَلَا يُرَدُّ فَيَسْتَعْتِبُ ". فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: بَادِرُوا بِالْمَوْتِ سِتًّا: إِمْرَةَ السُّفَهَاءِ، وَكَثْرَةَ الشُّرَطِ، وَبَيْعَ الْحُكْمِ، وَاسْتِخْفَافًا بِالدَّمِ، وَقَطِيعَةَ الرَّحِمِ، وَنَشَوًا يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ

يُقَدِّمُونَهُ يُغَنِّيهِمْ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُمْ فِقْهًا ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَلَّى عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو مِثْلُهُ أَوْ نَحْوُهُ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الزِّيَادَاتِ عَلَى " مُسْنَدِ أَحْمَدَ "، وَاللَّهَ سُبْحَانَهُ أَحْمَدُ، وَقَدْ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُمَحِيُّ، حَدَّثَنَا جَمِيلُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّائِعُ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَلَّى، قَالَ: قَالَ الْحَكَمُ الْغِفَارِيُّ: يَا طَاعُونُ، خُذْنِي إِلَيْكَ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: لِمَ تَقُولُ هَذَا، وَقَدْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ " ؟ فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ مَا سَمِعْتُمْ، وَلَكِنِّي أُبَادِرُ سِتًّا: بَيْعَ الْحُكْمِ، وَكَثْرَةَ الشُّرَطِ، وَإِمَارَةَ الصِّبْيَانِ، وَسَفْكَ الدِّمَاءِ، وَقَطِيعَةَ الرَّحِمِ، وَنَشَوًا يَكُونُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَيَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ خَسْفٌ وَقَذْفٌ وَمَسْخٌ ". قِيلَ: وَمَتَى ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " إِذَا ظَهَرَتِ الْمَعَازِفُ وَالْقَيْنَاتُ، وَاسْتُحِلَّتِ الْخَمْرُ ". لَهُ شَاهِدٌ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ أَوْ أَبِي عَامِرٍ، كَمَا جَزَمَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ،

سَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُ عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: " عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ، وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ بِمَشَارِيطِهَا، وَمَا يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهَا، إِنَّ بَيْنَ يَدَيْهَا فِتَنًا وَهَرْجًا ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْفِتْنَةُ عَرَفْنَاهَا، فَالْهَرْجُ مَا هُوَ؟ قَالَ: " هُوَ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْقَتْلُ ". قَالَ: " وَيُلْقَى بَيْنَ النَّاسِ التَّنَاكُرُ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَعْرِفُ أَحَدًا ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: ثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، ثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنِي السَّفْرُ بْنُ نُسَيْرٍ الْأَزْدِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، أَنَّهُ قَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي شَرٍّ، فَذَهَبَ اللَّهُ بِذَلِكَ الشَّرِّ، وَجَاءَ بِخَيْرٍ عَلَى يَدَيْكَ، فَهَلْ بَعْدَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قُلْتُ: مَا هُوَ؟ قَالَ: " فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، تَأْتِيكُمْ مُشْتَبِهَةً كَوُجُوهِ الْبَقَرِ لَا تَدْرُونَ أَيًّا مِنْ أَيٍّ ".
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا سُلَيْمَانُ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي عَمْرٌو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَشْهَلِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتُلُوا إِمَامَكُمْ، وَتَجْتَلِدُوا بِأَسْيَافِكُمْ، وَيَرُبَّ دُنْيَاكُمْ شِرَارُكُمْ ".
وَبِهِ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ أَسْعَدَ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعُ ابْنُ لُكَعَ ". وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ

أَبُو أُمَيَّةَ الْحَرَّانِيُّ، ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ صَدَقَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ حِزَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّكُمْ قَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَانٍ كَثِيرٍ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٍ خُطَبَاؤُهُ، كَثِيرٍ مُعْطُوهُ، قَلِيلٍ سَائِلُوهُ، الْعَمَلُ فِيهِ خَيْرٌ مِنَ الْعِلْمِ، وَسَيَأْتِي زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ خُطَبَاؤُهُ، كَثِيرٌ سُؤَّالُهُ، قَلِيلٌ مُعْطُوهُ، الْعِلْمُ فِيهِ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ ".
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، أَخْبَرَنِي مِسْعَرٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ظَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ:ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، أَرَاهُ قَالَ: " فَيَذْهَبُ النَّاسُ أَسْرَعَ ذَهَابٍ ". قَالَ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّهُمْ هَالِكٌ أَوْ بَعْضُهُمْ؟ قَالَ: " حَسْبُهُمْ - أَوْ: بِحَسْبِهِمُ - الْقَتْلُ ". تَفَرَّدَ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا خَالِدُ، إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَحْدَاثٌ وَفِتَنٌ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ لَا الْقَاتِلَ فَافْعَلْ ".
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو كَثِيرٍ الْمُحَارِبِيُّ،

سَمِعْتُ خَرَشَةَ الْمُحَارِبِيَّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَتَكُونُ فِتَنٌ، النَّائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْيَقْظَانِ، وَالْجَالِسُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، أَلَا فَمَنْ أَتَتْ عَلَيْهِ فَلْيَمْشِ بِسَيْفِهِ إِلَى الصَّفَا فَلْيَضْرِبْ بِهِ حَتَّى يَنْكَسِرَ، ثُمَّ لِيَضْطَجِعَ حَتَّى تَنْجَلِيَ عَمَّا انْجَلَتْ ". وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الْمَهْدِيِّ الَّذِي يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ.
وَهُوَ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ، وَلَيْسَ هُوَ بِالْمُنْتَظَرِ الَّذِي تَزْعُمُ الرَّافِضَةُ، وَتَرْتَجِي ظُهُورَهُ مِنْ سِرْدَابِ سَامَرَّا، فَإِنَّ ذَلِكَ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَلَا عَيْنَ، وَلَا أَثَرَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيُّ، وَأَنَّهُ دَخَلَ السِّرْدَابَ وَعُمْرُهُ خَمْسُ سِنِينَ، وَأَمَّا مَا سَنَذْكُرُهُ فَقَدْ نَطَقَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمَرْوِيَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَأَظُنُّ ظُهُورَهُ يَكُونُ قَبْلَ نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؟ فَإِنَّ هَذَا يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا، كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا، وَهَكَذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ وَأَبُو نُعَيْمٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا فِطْرٌ، عَنِ

الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ حَجَّاجٌ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ لَبَعَثَ اللَّهُ رَجُلًا مِنَّا يَمْلَؤُهَا عَدْلًا، كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا ". قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: " رَجُلًا مِنِّي ". وَقَالَ: سَمِعْتُهُ مَرَّةً يَذْكُرُهُ عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا فَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، حَدَّثَنَا يَاسِينُ الْعِجْلِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَهْدِيُّ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ، يُصْلِحُهُ اللَّهُ فِي لَيْلَةٍ ". وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الْحَفَرِيِّ، عَنْ يَاسِينَ الْعِجْلِيِّ، وَلَيْسَ هَذَا يَاسِينَ بْنَ مُعَاذٍ الزَّيَّاتَ، الزَّيَّاتُ ضَعِيفٌ، وَالْعِجْلِيُّ أَوْثَقُ مِنْهُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حُدِّثْتُ عَنْ هَارُونَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ:قَالَ عَلِيٌّ، وَنَظَرَ إِلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ كَمَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَيَخْرُجُ مِنْ صُلْبِهِ رَجُلٌ يُسَمَّى بَاسِمِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُشْبِهُهُ فِي الْخُلُقِ، وَلَا يُشْبِهُهُ فِي الْخَلْقِ - ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ - يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا.
وَقَدْ عَقَدَ أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، كِتَابَ الْمَهْدِيِّ مُفْرَدًا فِي

" سُنَنِهِ "، فَأَوْرَدَ فِي صَدْرِهِ حَدِيثَ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ،عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا حَتَّى يَكُونَ عَلَيْكُمُ اثَنَا عَشَرَ خَلِيفَةً، كُلُّهُمْ تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً ". قَالَ: فَكَبَّرَ النَّاسُ وَضَجُّوا، ثُمَّ قَالَ كَلِمَةً خَفِيَّةً، قُلْتُ لِأَبِي: مَا قَال؟ قَالَ: " كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ ". وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ أَتَتْهُ قُرَيْشٌ، فَقَالُوا: ثُمَّ يَكُونُ مَاذَا؟ قَالَ: " ثُمَّ يَكُونُ الْهَرْجُ ".
ثُمَّ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَزَائِدَةَ، وَفِطْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، وَهُوَ ابْنُ بَهْدَلَةَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ ". قَالَ زَائِدَةُ: " لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ ". ثُمَّ اتَّفَقُوا: " حَتَّى يَبْعَثَ فِيهِ رَجُلًا مِنِّي - أَوْ: مِنْ أَهْلِ بَيْتِي - يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي، وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ أَبِي ". زَادَ فِي حَدِيثِ فِطْرٍ: " يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا ". وَقَالَ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ: " لَا تَذْهَبُ - أَوْ: لَا تَنْقَضِي - الدُّنْيَا حَتَّى يَمْلِكَ الْعَرَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي ". وَهَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ،

كُلُّهُمْ عَنْ عَاصِمٍ، بِهِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ السُّفْيَانَيْنِ، بِهِ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَفِي الْبَابِ عَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ.
ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَلِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي ". قَالَ عَاصِمٌ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَلِيَ " ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ تَمَّامِ بْنِ بَزِيعٍ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ الْقَطَّانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَهْدِيُّ مِنِّي، أَجْلَى الْجَبْهَةِ، أَقْنَى الْأَنْفِ، يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدَلًا، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا، يَمْلِكُ سَبْعَ سِنِينَ ".
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ،

حَدَّثَنَا أَبُو الْمَلِيحِ الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ بَيَانٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ نُفَيْلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " الْمَهْدِيُّ مِنْ عِتْرَتِي، مِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ: سَمِعْتُ أَبَا الْمَلِيحِ يُثْنِي عَلَى عَلِيِّ بْنِ نُفَيْلٍ، وَيَذْكُرُ عَنْهُ صَلَاحًا. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ الرَّقِّيِّ، عَنْ زِيَادِ بْنِ بَيَانٍ، بِهِ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ الْمَهْدِيُّ ابْنُ الْمَنْصُورِ، مِنْ طَرِيقِ الدَّارَقُطْنِيِّ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ مُوسَى الْهَاشِمِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْقُرَشِيُّ، ثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ الضَّبِّيُّ، وَصِلَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " الْمَهْدِيُّ مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ عَمِّي ". فَإِنَّهُ حَدِيثٌ غَرِيبٌ، كَمَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ، تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، قَالَ: وَلَمْ يُكْتَبْ إِلَّا عَنْ شَيْخِنَا أَبِي إِسْحَاقَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّي، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَالِحٍ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ صَاحِبٍ لَهُ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَكُونُ اخْتِلَافٌ عِنْدَ مَوْتِ خَلِيفَةٍ، فَيَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هَارِبًا إِلَى مَكَّةَ، فَيَأْتِيهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَيُخْرِجُونَهُ وَهُوَ

كَارِهٌ، فَيُبَايِعُونَهُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَيُبْعَثُ إِلَيْهِ بَعْثٌ مِنَ الشَّامِ، فَيُخْسَفُ بِهِمْ بِالْبَيْدَاءِ; بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَإِذَا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ أَتَاهُ أَبْدَالُ الشَّامِ، وَعَصَائِبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَيُبَايِعُونَهُ، ثُمَّ يَنْشَأُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، أَخْوَالُهُ كَلْبٌ، فَيَبْعَثُ إِلَيْهِمْ بَعْثًا، فَيَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ بَعْثُ كَلْبٍ، وَالْخَيْبَةُ لِمَنْ لَمْ يَشْهَدْ غَنِيمَةَ كَلْبٍ، فَيَقْسِمُ الْمَالَ، وَيَعْمَلُ فِي النَّاسِ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُلْقِي الْإِسْلَامُ بِجِرَانِهِ إِلَى الْأَرْضِ، فَيَلْبَثُ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ يُتَوَفَّى، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ ".
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: قَالَ هَارُونُ، يَعْنِي ابْنَ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَمْرٍو، سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ وَرَاءِ النَّهْرِ، يُقَالُ لَهُ: الْحَارِثُ. حَرَّاثٌ، عَلَى مُقَدِّمَتِهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مَنْصُورٌ. يُوَطِّئُ - أَوْ: يُمَكِّنُ - لِآلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا مَكَّنَتْ قُرَيْشٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَبَتْ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ نُصْرَتُهُ ". أَوْ قَالَ: " إِجَابَتُهُ ".
وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى الْمِصْرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ دَاوُدَ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَمْرِو بْنِ جَابِرٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَخْرُجُ نَاسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ، فَيُوَطِّئُونَ لِلْمَهْدِيِّ ". يَعْنِي سُلْطَانَهُ.

وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ فِتْيَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ، قَالَ: فَقُلْتُ: مَا نَزَالُ نَرَى فِي وَجْهِكَ شَيْئًا تَكْرَهُهُ. فَقَالَ: " إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ اخْتَارَ اللَّهُ لَنَا الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّ أَهْلَ بَيْتِي سَيَلْقَوْنَ بَعْدِي بَلَاءً وَتَشْرِيدًا وَتَطْرِيدًا، حَتَّى يَأْتِيَ قَوْمٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَعَهُمْ رَايَاتٌ سُودٌ، فَيَسْأَلُونَ الْخَيْرَ، فَلَا يُعْطَوْنَهُ، فَيُقَاتِلُونَ فَيُنْصَرُونَ، فَيُعْطَوْنَ مَا سَأَلُوا، فَلَا يَقْبَلُونَهُ حَتَّى يَدْفَعُوهَا إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَيَمْلَؤُهَا قِسْطًا، كَمَا مَلَئُوهَا جَوْرًا، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلْيَأْتِهِمْ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ ". فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى مُلْكِ بَنِي الْعَبَّاسِ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ ابْتِدَاءِ دَوْلَتِهِمْ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَهْدِيَّ يَكُونُ بَعْدَ دَوْلَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ مِنْ ذُرِّيَّةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مِنْ وَلَدِ الْحَسَنِ، لَا الْحُسَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، وَأَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ، عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقْتَتِلُ عِنْدَ كَنْزِكُمْ

ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمُ ابْنُ خَلِيفَةٍ. ثُمَّ لَا يَصِيرُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ تَطْلُعُ الرَّايَاتُ السُّودُ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، فَيَقْتُلُونَكُمْ قَتْلًا لَمْ يُقْتَلْهُ قَوْمٌ ". ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا لَا أَحْفَظُهُ، فَقَالَ: " فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَبَايِعُوهُ، وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ; فَإِنَّهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ الْمَهْدِيُّ ". تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ مَاجَهْ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ صَحِيحٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْكَنْزِ الْمَذْكُورِ كَنْزُ الْكَعْبَةِ، يَقْتَتِلُونَ عِنْدَهُ; لِيَأْخُذَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَوْلَادِ الْخُلَفَاءِ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ خَرَجَ الْمَهْدِيُّ مِنْ بِلَادِ الْمَشْرِقِ، وَقِيلَ: مِنْ مَكَّةَ. لَا مِنْ سِرْدَابِ سَامَرَّا، كَمَا تَزْعُمُهُ الرَّافِضَةُ مِنْ أَنَّهُ مَحْبُوسٌ فِيهِ الْآنَ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَهَذَا مِنَ الْهَذَيَانِ، وَقِسْطٌ كَبِيرٌ مِنَ الْخِذْلَانِ، وَهَوَسٌ شَدِيدٌ مِنَ الشَّيْطَانِ; إِذْ - لَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا بُرْهَانَ، مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا مَعْقُولٍ صَحِيحٍ وَلَا بَيَانٍ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَخْرُجُ مِنْ خُرَاسَانَ رَايَاتٌ سُودٌ، فَلَا يَرُدُّهَا شَيْءٌ حَتَّى تُنْصَبَ بِإِيلْيَاءَ ". هَذَا - حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَهَذِهِ الرَّايَاتُ السُّودُ لَيْسَتْ هِيَ الَّتِي أَقْبَلَ بِهَا أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، فَاسْتَلَبَ بِهَا دَوْلَةَ بَنِي أُمَيَّةَ، فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، بَلْ هِيَ رَايَاتٌ سُودٌ أُخْرَى تَأْتِي صُحْبَةَ الْمَهْدِيِّ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَلَوِيُّ الْفَاطِمِيُّ الْحَسَنِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، يُصْلِحُهُ اللَّهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، أَيْ: يَتُوبُ عَلَيْهِ، وَيُوَفِّقُهُ، يُلْهِمُهُ رُشْدَهُ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ بِنَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، يَنْصُرُونَهُ، وَيُقِيمُونَ سُلْطَانَهُ، وَيُشَيِّدُونَ أَرْكَانَهُ، وَتَكُونُ رَايَاتُهُمْ سُودًا أَيْضًا،

وَهُوَ زِيٌّ عَلَيْهِ الْوَقَارُ; لِأَنَّرَايَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ سَوْدَاءَ، يُقَالُ لَهَا: الْعُقَابُ. وَقَدْ رَكَّزَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى الثَّنِيَّةِ الَّتِي هِيَ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، حِينَ أَقْبَلَ مِنَ الْعِرَاقِ، فَعُرِفَتْ بِهَا الثَّنِيَّةُ، فَهِيَ إِلَى الْآنِ يُقَالُ لَهَا: ثَنِيَّةُ الْعُقَابِ. وَقَدْ كَانَتْ عِقَابًا عَلَى الْكُفَّارِ، مِنْ نَصَارَى الشَّامِ وَالرُّومِ وَالْعَرَبِ وَالْفُرْسِ. وَأَطَّدَتْ حُسْنَ الْعَاقِبَةِ لِعِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ وَعَدَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَرِثُوا الْأَرْضَ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَلِمَنْ كَانَ مَعَهُمْ وَبَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. وَكَذَلِكَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ وَكَانَ أَسْوَدَ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَمًّا بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ، فَوْقَ الْبَيْضَةِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمَهْدِيَّ الْمَوْعُودَ بِهِ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَيَكُونُ أَصْلُ خُرُوجِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ، ثُمَّ يَأْتِي مَكَّةَ، فَيُبَايَعُ لَهُ عِنْدَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَفْرَدْتُ فِي ذِكْرِ الْمَهْدِيِّ جُزْءًا عَلَى حِدَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ الْعُقَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ، عَنْ أَبِي صِدِّيقٍ النَّاجِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَكُونُ فِي أُمَّتِي الْمَهْدِيُّ إِنْ قُصِرَ فَسَبْعٌ وَإِلَّا فَتِسْعٌ تَنْعَمُ فِيهِ أُمَّتِي نِعْمَةً لَمْ ( يَنْعَمُوا مِثْلَهَا ) قَطُّ; تُؤْتِي الْأَرْضُ أُكُلَهَا، وَلَا تَدَّخِرُ مِنْهُ شَيْئًا، وَالْمَالُ يَوْمَئِذٍ كُدُوسٌ، يَقُومُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: يَا مَهْدِيُّ،

أَعْطِنِي. فَيَقُولُ: خُذْ ".
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ زَيْدًا الْعَمِّيَّ، سَمِعْتُ أَبَا الصِّدِّيقِ النَّاجِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: خَشِينَا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ نَبِيِّنَا حَدَثٌ، فَسَأَلْنَا نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ فِي أُمَّتِى الْمَهْدِيَّ، يَخْرُجُ يَعِيشُ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا أَوْ تِسْعًا ". زَيْدٌ الشَّاكُّ، قَالَ: قُلْنَا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: سِنِينَ. قَالَ: " فَيَجِيءُ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: يَا مَهْدِيُّ، أَعْطِنِى، أَعْطِنِى ". قَالَ: فَيَحْثِي لَهُ فِي ثَوْبِهِ مَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَحْمِلَهُ ". هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو الصِّدِّيقِ النَّاجِيُّ اسْمُهُ بَكْرُ بْنُ عَمْرٍو، وَيُقَالُ: بَكْرُ بْنُ قَيْسٍ !. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّتِهِ تِسْعُ سِنِينَ، وَأَقَلَّهَا خَمْسٌ أَوْ سَبْعٌ، وَلَعَلَّهُ هُوَ الْخَلِيفَةُ الَّذى يَحْثُو الْمَالَ حَثْيًا وَلَا يَعُدُّهُ عَدًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَفَى زَمَانِهِ تَكُونُ الثِّمَارُ كَثِيرَةً، وَالزُّرُوعُ غَزِيرَةً، وَالْمَالُ وَافِرًا، وَالسُّلْطَانُ قَاهِرًا، وَالدِّينُ قَائِمًا ظَاهِرًا، وَالْعَدُوُّ مَلُومًا مَخْذُولًا دَاخِرًا، وَالْبِلَادُ آمِنَةً، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ قَائِمًا، وَالرِّزْقُ دَارًّا دَائِمًا.
. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا مُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا يَأْتِي عَلَيْنَا أَمِيرٌ إِلَّا وَهُوَ شَرٌّ مِنَ الْماضِي، وَلَا عَامٌ إِلَّا وَهُوَ شَرٌّ مِنَ الْماضِي. قَالَ: لَوْلَا شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقُلْتُ مِثْلَ مَا يَقُولُ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ أُمَرَائِكُمْ أَمِيرًا يَحْثُو الْمالَ حَثْوًا وَلَا يَعُدُّهُ عَدًّا، يَأْتِيهِ الرَّجُلُ

فَيَسْأَلُهُ، فَيَقُولُ: خُذْ. فَيَبْسُطُ ثَوْبَهُ، فَيَحْثُو فِيهِ ". وَبَسَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِلْحَفَةً غَلِيظَةً كَانَتْ عَلَيْهِ، يَحْكِي صُنْعَ الرَّجُلِ، ثُمَّ جَمَعَ إِلَيْهِ أَكْنَافَهَا، قَالَ: " فَيَأْخُذُهُ، ثُمَّ يَنْطَلِقُ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا هَدِيَّةُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ الْيَمَامِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: نَحْنُ، وَلَدُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، سَادَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَنَا، وَحَمْزَةُ، وَعْلِيٌّ، وَجَعْفَرٌ، وَالْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ، وَالْمَهْدِيُّ ". قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ: كَذَا وَقَعَ فِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ "، وَفِي إِسْنَادِهِ عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ الْيَمَامِيُّ، وَالصَّوَابُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ السُّحَيْمِيُّ.
قُلْتُ: وَكَذَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي " التَّارِيخِ "، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ "، وَهُوَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُنْكَرٌ.
وَفِي " الطَّبَرَانِيِّ " مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ

قَيْسِ بْنِ جَابِرٍ الصَّدَفِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: سَيَكُونُ بَعْدِي خُلَفَاءُ، ثُمَّ مُلُوكٌ، ثُمَّ أُمَرَاءُ، ثُمَّ جَبَابِرَةٌ، ثُمَّ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا، ثُمَّ يُؤَمَّرُ الْقَحْطَانِيُّ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا هُوَ بِدُونِهِ ".
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ ": حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ الْجَنَدِيُّ، عَنْ أَبَانِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَزْدَادُ الْأَمْرُ إِلَّا شِدَّةً، وَلَا الدُّنْيَا إِلَّا إِدْبَارًا، وَلَا النَّاسُ إِلَّا شُحًّا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ، وَلَا الْمَهْدِيُّ إِلَّا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ". فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ بِمُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْجَنَدِيِّ الصَّنْعَانِيِّ الْمُؤَذِّنِ، شَيْخِ الشَّافِعِيِّ، وَرَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ أَيْضًا، وَلَيْسَ هُوَ بِمَجْهُولٍ كَمَا زَعَمَهُ الْحَاكِمُ، بَلْ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ وَثَّقَهُ، وَلَكِنْ مِنَ الرُّوَاةِ مَنْ حَدَّثَ بِهِ عَنْهُ، عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، مُرْسَلًا، وَذَكَرَ شَيْخُنَا فِي " التَّهْذِيبِ "، عَنْ بَعْضِهِمْ، أَنَّهُ رَأَى الشَّافِعِيَّ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَقُولُ: كَذَبَ عَلَيَّ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ، لَيْسَ هَذَا مِنْ حَدِيثِي.
قُلْتُ: يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى مِنَ الثِّقَاتِ، لَا يُطْعَنُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ مَنَامٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا يَظْهَرُ فِي بَادِي الرَّأْيِ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا فِي إِثْبَاتِ مَهْدِيٍّ غَيْرِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، إِمَّا قَبْلَ نُزُولِهِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِمَّا بَعْدَ

نُزُولِهِ، وَعِنْدَ التَّأَمُّلِ يَكُونُ هَذَا الْحَدِيثُ لَا يُنَافِيهَا، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَهْدِيَّ حَقَّ الْمَهْدِيِّ هُوَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مَهْدِيًّا أَيْضًا.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهل التأويل يتعرون أمام قانوني الحق والميزان

    بسم الله الرحمن الرحيم خلاصة قانون الحق = أن الله خلق السماوات والارض وما فيهم وما بينهم وما لأجلهم بقدر قام في وقت محدد وزمن مع...