30//1 البداية والنهاية
تأ تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ فَتْحُ مِصْرَ عَلَى يَدَيِ الْأَمِيرِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ
وَفِيهَا طَغَتِ الْفِرِنْجُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَذَلِكَ لَمَّا جُعِلَ
لَهُمْ شِحْنَةٌ بِهَا، وَتَحَكَّمُوا فِي أَبْوَابِهَا وَسَكَنَهَا أَكْثَرُ
شُجْعَانِهَا، وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ أَنْ يَسْتَحْوِذُوا عَلَيْهَا
وَيُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَكِبَ
أَمْدَادُ الْفِرِنْجِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَسَارُوا صُحْبَةَ مَرِّيٍّ مَلِكِ
عَسْقَلَانَ فِي جَحَافِلَ هَائِلَةٍ، فَأَوَّلُ مَا أَخَذُوا مَدِينَةُ
بِلْبِيسَ، فَقَتَلُوا مِنْهَا خَلْقًا وَأَسَرُوا آخَرِينَ، وَنَزَلُوا بِهَا
وَتَرَكُوا فِيهَا أَثْقَالَهُمْ، وَجَعَلُوهَا مَوْئِلًا وَمَعْقِلًا لَهُمْ،
ثُمَّ جَاءُوا فَنَزَلُوا عَلَى الْقَاهِرَةِ مِنْ نَاحِيَةِ بَابِ
الْبَرْقِيَّةِ، فَأَمَرَ الْوَزِيرُ شَاوَرُ النَّاسَ أَنْ يَحْرِقُوا مِصْرَ
وَأَنْ يَنْتَقِلَ النَّاسُ مِنْهَا إِلَى الْقَاهِرَةِ، فَنُهِبَ الْبَلَدُ
وَذَهَبَ لِلنَّاسِ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَبَقِيَتِ النَّارُ تَعْمَلُ فِي
مِصْرَ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَرْسَلَ صَاحِبُهَا
الْعَاضِدُ يَسْتَغِيثُ بِنُورِ الدِّينِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِشُعُورِ نِسَائِهِ
يَقُولُ: أَدْرِكْنِي وَاسْتَنْقِذْ نِسَائِيَ مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ.
وَالْتَزَمَ لَهُ بِثُلُثِ خَرَاجِ مِصْرَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ أَسَدُ الدِّينِ
مُقِيمًا عِنْدَهُمْ، وَلَهُمْ إِقْطَاعَاتٌ زَائِدَةٌ عَلَى الثُّلُثِ، فَشَرَعَ
نُورُ الدِّينِ فِي تَجْهِيزِ الْجُيُوشِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
فَلَمَّا اسْتَشْعَرَ الْوَزِيرُ شَاوَرُ بِوُصُولِ الْمُسْلِمِينَ، أَرْسَلَ
إِلَى مَلِكِ الْفِرِنْجِ يَقُولُ لَهُ: قَدْ عَرَفْتَ مَحَبَّتِي وَمَوَدَّتِي
وَلَكِنَّ
الْعَاضِدَ وَالْمُسْلِمِينَ لَا يُوَافِقُونِي عَلَى تَسْلِيمِ الْبَلَدِ. وَصَالَحَهُمْ لِيَرْجِعُوا عَنِ الْبَلَدِ بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَعَجَّلَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَخَذُوهَا وَانْشَمَرُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ ; خَوْفًا مِنْ وُصُولِ نُورِ الدِّينِ وَطَمَعًا فِي الْعَوْدَةِ إِلَيْهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [ آلِ عِمْرَانَ: 54 ]. ثُمَّ شَرَعَ الْوَزِيرُ شَاوَرُ فِي مُطَالَبَةِ النَّاسِ بِتَحْصِيلِ الذَّهَبِ الَّذِي صَالَحَ الْفِرِنْجَ عَلَيْهِ، وَضَيَّقَ عَلَى النَّاسِ مَعَ مَا نَالَهُمْ مِنَ الْحَرِيقِ وَالْخَوْفِ، فَجَبَرَ اللَّهُ مُصَابَهُمْ وَأَحْسَنَ مَآبَهُمْ، وَاسْتَدْعَى الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ الْأَمِيرَ أَسَدَ الدِّينِ شِيرَكُوهْ مِنْ حِمْصَ إِلَى حَلَبَ فَسَاقَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ حِمْصَ فَدَخَلَ حَلَبَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَسُرَّ بِذَلِكَ نُورُ الدِّينِ وَتَفَاءَلَ بِهِ فَقَدَّمَهُ عَلَى الْعَسَاكِرِ الَّتِي قَدْ جَهَّزَهَا لِلدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَعْيَانِ جَمَاعَةً، كُلٌّ مِنْهُمْ يَبْتَغِي بِمَسِيرِهِ ذَلِكَ رِضَا الرَّحْمَنِ وَكَانَ فِي جُمْلَتِهُمُ ابْنُ أَخِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ شَاذِيٍّ وَلَمْ يَكُنْ مُنْشَرِحًا لِخُرُوجِهِ هَذَا بَلْ كَانَ كَارِهًا لَهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [ الْبَقَرَةِ: 216 ] وَأَضَافَ إِلَيْهِ سِتَّةَ آلَافٍ مِنَ التُّرْكُمَانِ وَسَارَ هُوَ وَإِيَّاهُ مِنْ حَلَبَ إِلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ جَهَّزَهُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِمَنْ مَعَهُ، وَلَمَّا وَصَلَتِ الْجُيُوشُ النُّورِيَّةُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَجَدُوا الْفِرِنْجَ قَدِ انْشَمَرُوا عَنِ الْقَاهِرَةِ رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ بِالصَّفْقَةِ الْخَاسِرَةِ، وَكَانَ وُصُولُهُ إِلَيْهَا فِي سَابِعِ رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَدَخَلَ الْأَمِيرُ أَسَدُ الدِّينِ عَلَى الْعَاضِدِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً فَلَبِسَهَا،
وَعَادَ إِلَى مُخَيَّمِهِ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِقُدُومِهِ، وَأُجْرِيَتْ عَلَيْهِمُ الْخَيْرَاتُ، وَحُمِلَتْ إِلَيْهِمُ التُّحَفُ وَالْكَرَامَاتُ، وَخَرَجَ وُجُوهُ النَّاسِ إِلَى مُخَيَّمِ أَسَدِ الدِّينِ خِدْمَةً لَهُ، وَكَانَ فِيمَنْ جَاءَ إِلَيْهِ الْمُخَيَّمَ الْخَلِيفَةُ الْعَاضِدُ مُتَنَكِّرًا، فَأَسَرَّ إِلَيْهِ أُمُورًا مُهِمَّةً، مِنْهَا قَتْلُ الْوَزِيرِ شَاوَرَ، وَقَرَّرَ ذَلِكَ مَعَهُ وَعَظُمَ أَمْرُ الْأَمِيرِ أَسَدِ الدِّينِ بِمِصْرَ، وَلَمْ يَقْدِرِ الْوَزِيرُ شَاوَرُ عَلَى مَنْعِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ; لِكَثْرَةِ الْجَيْشِ الَّذِي مَعَ أَسَدِ الدِّينِ، وَلَكِنْ شَرَعَ يُمَاطِلُ بِمَا كَانَ تَقَرَّرَ لَهُمْ وَلِلْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ مِمَّا كَانُوا الْتَزِمُوا لَهُ وَلَهُمْ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَتَرَدَّدُ إِلَى الْأَمِيرِ أَسَدِ الدِّينِ وَيَرْكَبُ مَعَهُ، وَعَزَمَ عَلَى عَمَلِ ضِيَافَةٍ لَهُ، فَنَهَاهُ أَصْحَابُهُ عَنِ الْحُضُورِ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ غَائِلَتِهِ وَشَاوَرُوهُ فِي قَتْلِ شَاوَرَ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُمُ الْأَمِيرُ أَسَدُ الدِّينِ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ جَاءَ شَاوَرُ إِلَى مَنْزِلِ الْأَمِيرِ أَسَدِ الدِّينِ، فَوَجَدَهُ قَدْ ذَهَبَ لِزِيَارَةِ قَبْرِ الشَّافِعِيِّ، وَإِذَا ابْنُ أَخِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ هُنَالِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ صَلَاحُ الدِّينِ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ قَتْلُهُ إِلَّا بَعْدَ مُشَاوَرَةِ عَمِّهِ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ فَأَعْلَمُوا الْعَاضِدَ لَعَلَّهُ يَبْعَثُ يُنْقِذُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْأَمِيرِ أَسَدِ الدِّينِ يَطْلُبُ مِنْهُ رَأْسَهُ، فَقُتِلَ شَاوَرُ وَأَرْسَلُوا بِرَأْسِهِ إِلَى الْعَاضِدِ فِي سَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، وَأَمَرَ أَسَدُ الدِّينِ بِنَهْبِ دَارِ شَاوَرَ، فَنُهِبَتْ، وَدَخَلَ أَسَدُ الدِّينِ عَلَى الْعَاضِدِ فَاسْتَوْزَرَهُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً عَظِيمَةً، وَلَقَّبَهُ الْمَلِكَ الْمَنْصُورَ، فَسَكَنَ دَارَ شَاوَرَ وَعَظُمَ شَأْنُهُ هُنَالِكَ، وَلَمَّا بَلَغَ نُورَ الدِّينِ خَبَرُ فَتْحِ مِصْرَ فَرِحَ بِذَلِكَ وَقَصَدَتْهُ الشُّعَرَاءُ بِالتَّهْنِئَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْشَرِحْ ; لِكَوْنِ أَسَدِ الدِّينِ صَارَ وَزِيرًا، وَكَذَلِكَ لَمَّا انْتَهَتِ الْوِزَارَةُ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ صَلَاحِ الدِّينِ
وَشَرَعَ فِي إِعْمَالِ الْحِيلَةِ فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ
فَلَمْ يَتَمَكَّنْ، وَلَا قَدَرَ عَلَيْهِ ; وَلَا سِيَّمَا أَنَّهُ بَلَغَهُ
أَنَّ. صَلَاحَ الدِّينِ اسْتَحْوَذَ عَلَى خَزَائِنِ الْعَاضِدِ كَمَا سَيَأْتِي
بَيَانُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَرْسَلَ أَسَدُ الدِّينِ إِلَى الْقَصْرِ يَطْلُبُ كَاتِبًا، فَأَرْسَلُوا
إِلَيْهِ الْقَاضِيَ الْفَاضِلَ ; رَجَاءَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ إِذَا قَالَ
وَأَفَاضَ فِيمَا كَانُوا يُؤَمِّلُونَ، وَبَعَثَ أَسَدُ الدِّينِ الْعُمَّالَ فِي
الْأَعْمَالِ وَأَقْطَعَ الْإِقْطَاعَاتِ وَوَلَّى الْوِلَايَاتِ، وَفَرِحَ
بِنَفْسِهِ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَأَدْرَكَهُ حِمَامُهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ
الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَسَدُ
الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَشَارَ الْأُمَرَاءُ الشَّامِيُّونَ عَلَى
الْعَاضِدِ بِتَوْلِيَةِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ الْوِزَارَةَ بَعْدَ عَمِّهِ
فَوَلَّاهُ الْوِزَارَةَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً وَلَقَّبَهُ
الْمَلِكَ النَّاصِرَ.
صِفَةُ الْخِلْعَةِ الَّتِي لَبِسَهَا صَلَاحُ
الدِّينِ يَوْمَئِذٍ
فِيمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي "
الرَّوْضَتَيْنِ " عِمَامَةٌ بَيْضَاءُ تِنِّيسِيٌّ بِطَرَفِ ذَهَبٍ،
وَثَوْبٌ دَبِيقِيٌّ بِطِرَازِ ذَهَبٍ، وَجُبَّةٌ بِطِرَازِ ذَهَبٍ، وَطَيْلَسَانُ
بِطِرَازٍ مُذَهَّبَةٍ، وَعَقْدُ جَوْهَرٍ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَسَيْفٌ
مُحَلَّى بِخَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَحَجَرٌ بِثَمَانِيَةِ آلَافِ دِينَارٍ
وَعَلَيْهَا طَوْقُ ذَهَبٍ
وَسَرْفَسَارُ ذَهَبٍ مُجَوْهَرٌ وَفِي رَأْسِهَا مِائَتَا حَبَّةِ جَوْهَرٍ، وَفِي قَوَائِمِهَا أَرْبَعَةُ عُقُودِ جَوْهَرٍ، وَفِي رَأْسِهَا قَصَبَةُ ذَهَبٍ وَفِي رَأْسِهَا مُشَدَّةٌ بَيْضَاءُ بِأَعْلَامٍ بِيضٍ، وَمَعَ الْخِلْعَةِ عِدَّةُ بُقَجٍ وَخَيْلٌ وَأَشْيَاءُ أُخَرُ وَمَنْشُورُ الْوِزَارَةِ مَلْفُوفٌ بِثَوْبٍ أَطْلَسَ أَبْيَضَ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا وَسَارَ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ فِي خِدْمَتِهِ، لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ سِوَى عَيْنِ الدَّوْلَةِ الْيَارُوقِيِّ ; قَالَ: لَا أَخْدِمُ يُوسُفَ بَعْدَ نُورِ الدِّينِ، ثُمَّ سَارَ بِجَيْشِهِ إِلَى الشَّامِ فَلَامَهُ نُورُ الدِّينِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَقَامَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ بِمِصْرَ بِصِفَةِ نَائِبٍ لِلْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ ; يَخْطُبُ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَيُكَاتِبُهُ الْأَمِيرُ نُورُ الدِّينِ بِالْأَمِيرِ الْأَسْفَهْسِلَارِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَيَتَوَاضَعُ لَهُ صَلَاحُ الدِّينِ فِي الْكُتُبِ وَالْعَلَامَةِ ; لَكِنْ قَدِ الْتَفَّتْ عَلَيْهِ الْقُلُوبُ، وَخَضَعَتْ لَهُ النُّفُوسُ، وَاضْطُهِدَ الْعَاضِدُ فِي أَيَّامِهِ غَايَةَ الِاضْطِهَادِ، وَارْتَفَعَ قَدْرُ صَلَاحِ الدِّينِ بَيْنَ الْعِبَادِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، وَزَادَ فِي إِقْطَاعَاتِ الَّذِينَ مَعَهُ فَأَحَبُّوهُ وَاحْتَرَمُوهُ وَخَدَمُوهُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ نُورُ الدِّينِ يُعَنِّفُهُ عَلَى قَبُولِ الْوِزَارَةِ بِدُونِ مَرْسُومِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقَيِّمَ حِسَابَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَلَمْ يَلْتَفِتْ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى ذَلِكَ، وَجَعَلَ نُورُ الدِّينِ يَقُولُ فِي غُبُونِ ذَلِكَ: مَلَكَ ابْنُ أَيُّوبَ. وَأَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَهْلَهُ وَإِخْوَتَهُ وَقَرَابَتَهُ، فَأَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِمُ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ لَهُ فَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ
هُنَالِكَ وَحَفِظَ دَوْلَتَهُ بِذَلِكَ وَكَمَلَ أَمْرُهُ
وَتَمَكَّنَ سُلْطَانُهُ وَقَوِيَتْ أَرْكَانُهُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ
الشُّعَرَاءِ فِي قَتْلِ صَلَاحِ الدِّينِ لَشَاوَرَ الْوَزِيرِ:
هَنِيئًا لِمِصْرَ حَوْزَ يُوسُفَ مُلْكَهَا بِأَمْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ كَانَ
مَوْقُوتَا وَمَا كَانَ فِيهَا قَتْلُ يُوسُفَ شَاوَرًا
يُمَاثِلُ إِلَّا قَتْلَ دَاوُدَ جَالُوتَا
قَالَ أَبُو شَامَةَ وَقَتَلَ الْعَاضِدُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْلَادَ شَاوَرَ
وَهُمْ شُجَاعٌ الْمُلَقَّبُ بِالْكَامِلِ، وَالطَّارِيُّ الْمُلَقَّبُ
بِالْمُعَظَّمِ، وَأَخُوهُمَا الْآخَرُ الْمُلَقَّبُ بِفَارِسِ الْمُسْلِمِينَ،
وَطِيفَ بِرُءُوسِهِمْ بِبِلَادِ مِصْرَ
ذِكْرُ قَتْلِ الطَّوَاشِيِّ
مُؤْتَمَنِ الْخِلَافَةِ وَأَصْحَابِهِ عَلَى يَدَيْ صَلَاحِ الدِّينِ ; وَذَلِكَ
أَنَّهُ كَتَبَ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ بِمِصْرَ إِلَى الْفِرِنْجِ لِيَقْدَمُوا
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ ; لِيُخْرِجُوا مِنْهَا الْجُيُوشَ
الْإِسْلَامِيَّةَ الشَّامِيَّةَ، وَالْعَسَاكِرَ النُّورِيَّةَ، وَكَانَ الَّذِي
نَفَّذَ الْكِتَابَ إِلَيْهِمُ: الْخَادِمُ مُؤْتَمَنُ الْخِلَافَةِ مُقَدَّمُ
الْعَسَاكِرِ بِالْقَصْرِ، وَكَانَ حَبَشِيًّا وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَهُ مَعَ
إِنْسَانٍ أَمِنَ إِلَيْهِ، فَصَادَفَهُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ مَنْ أَنْكَرَ
حَالَهُ، فَحَمَلَهُ إِلَى الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ فَقَرَّرَهُ،
فَأَخْرَجَ الْكِتَابَ فَفَهِمَ صَلَاحُ الدِّينِ الْحَالَ فَكَتَمَهُ،
وَاسْتَشْعَرَ مُؤْتَمَنُ الْخِلَافَةِ الْخَادِمُ أَنَّ الْمَلِكَ صَلَاحَ
الدِّينِ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى الْأَمْرِ، فَلَازَمَ الْقَصْرَ مُدَّةً طَوِيلَةً ;
خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ عَنَّ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَنْ خَرَجَ
إِلَى الصَّيْدِ، فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَيْهِ مَنْ قَبَضَ
عَلَيْهِ وَقَتْلَهُ وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ ثُمَّ
عَزَلَ جَمِيعَ الْخُدَّامِ الَّذِينَ يَلُونَ خِدْمَةَ
الْقَصْرِ، وَاسْتَنَابَ عَلَى الْقَصْرِ عِوَضَهُمْ بَهَاءَ الدِّينِ قَرَاقُوشَ،
وَأَمَرَهُ أَنْ يُطَالِعَهُ بِجَمِيعِ الْأُمُورِ صِغَارِهَا وَكِبَارِهَا
وَقْعَةُ السُّودَانِ
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ الطَّوَاشِيُّ مُؤْتَمَنُ الْخِلَافَةِ الْخَادِمُ
الْحَبَشِيُّ وَعُزِلَ بَقِيَّةُ الْخُدَّامِ، غَضِبُوا لِذَلِكَ وَاجْتَمَعُوا
قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَجَيْشُ صَلَاحِ الدِّينِ
بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ، فَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَكَانَ
الْعَاضِدُ يَنْظُرُ مِنَ الْقَصْرِ إِلَى الْمَعْرَكَةِ وَقَدْ قُذِفَ الْجَيْشُ
الشَّامِيُّ مِنَ الْقَصْرِ بِحِجَارَةٍ وَجَاءَهُمْ مِنْهُ سِهَامٌ، فَقِيلَ:
كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِهِ، وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّ أَخَا
النَّاصِرِ شَمْسَ الدَّوْلَةِ تُورَانْشَاهْ - وَكَانَ حَاضِرًا لِلْحَرْبِ قَدْ
بَعَثَهُ نُورُ الدِّينِ لِأَخِيهِ لِيَشُدَّ أَزْرَهُ - أَمَرَ بِإِحْرَاقِ
مَنْظَرَةِ الْعَاضِدِ فَفُتِحَ الْبَابُ وَنُودِيَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُخْرِجُوا هَؤُلَاءِ السُّودَانَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ
وَمِنْ بِلَادِكُمْ، فَقَوِيَ الشَّامِيُّونَ وَضَعُفَ جَأْشُ السُّودَانِ جِدًّا،
وَأَرْسَلَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ إِلَى مَحَلَّتِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ
بِالْمَنْصُورَةِ الَّتِي فِيهَا دُورُهُمْ وَأَهْلُوهُمْ بِبَابِ زُوَيْلَةَ،
فَأَحْرَقَهَا، فَوَلَّوْا عِنْدَ ذَلِكَ مُدْبِرِينَ، وَرَكِبَهُمُ السَّيْفُ
فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ طَلَبُوا الْأَمَانَ مِنَ الْمَلِكِ صَلَاحِ
الدِّينِ فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَأَخْرَجَهُمْ إِلَى الْجِيزَةِ، ثُمَّ
خَرَجَ إِلَيْهِمْ شَمْسُ الدَّوْلَةِ تُورَانْشَاهْ أَخُو الْمَلِكِ صَلَاحِ
الدِّينِ فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ أَيْضًا
وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ فَتِلْكَ
بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [ النَّمْلِ: 52 ] وَفِيهَا افْتَتَحَ
الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ قَلْعَةَ جَعْبَرَ
وَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا شِهَابِ الدِّينِ مَالِكِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مَالِكٍ الْعَقِيلِيِّ، وَكَانَتْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَيَّامِ السُّلْطَانِ
مَلِكْشَاهْ وَفِيهَا احْتَرَقَ جَامِعُ حَلَبَ فَجَدَّدَهُ نُورُ الدِّينِ
وَفِيهَا مَاتَ يَارُوقُ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْمَحَلَّةُ بِظَاهِرِ حَلَبَ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سَعْدُ اللَّهِ بْنُ نَصْرِ بْنِ سَعِيدٍ الدَّجَاجِيُّ
أَبُو الْحَسَنِ الْوَاعِظُ الْحَنْبَلِيُّ، وُلِدَ فِي سَنَةِ ثَمَانِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ وَوَعَظَ، وَكَانَ لَطِيفَ
الْوَعْظِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ
أَنَّهُ سُئِلَ مَرَّةً عَنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ فَنَهَى عَنِ التَّعَرُّضِ
لِذَلِكَ وَأَنْشَدَ
أَبَى الْعَاتِبُ الْغَضْبَانُ يَا نَفْسُ أَنْ يَرْضَى وَأَنْتِ الَّذِي
صَيَّرْتِ طَاعَتَهُ فَرْضَا
فَلَا تَهْجُرِي مَنْ لَا تُطِيقِينَ هَجْرَهُ
وَإِنْ هَمَّ بِالْهُجْرَانِ خَدَّيْكِ وَالْأَرْضَا
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: خِفْتُ مَرَّةً مِنَ
الْخَلِيفَةِ فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ فِي الْمَنَامِ وَقَالَ لِي اكْتُبْ:
ادْفَعْ بِصَبْرِكَ حَادِثَ الْأَيَّامِ وَتَرَجَّ لُطْفَ الْوَاحِدِ الْعَلَّامِ
لَا تَيْأَسَنَّ وَإِنْ تَضَايَقَ كَرْبُهَا وَرَمَاكَ رَيْبُ صُرُوفِهَا
بِسِهَامِ
فَلَهُ تَعَالَى بَيْنَ ذَلِكَ فَرْجَةٌ تَخْفَى عَلَى الْأَبْصَارِ
وَالْأَوْهَامِ
كَمْ مَنْ نَجَا مِنْ بَيْنِ أَطْرَافِ الْقَنَا وَفَرِيسَةٍ سَلِمَتْ مِنَ
الضِّرْغَامِ
تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَدُفِنَ
إِلَى جَانِبِ رِبَاطِ الزُّوزَنِيِّ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى مَقْبَرَةِ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ
شَاوَرُ بْنُ مُجِيرِ الدِّينِ
أَبُو شُجَاعٍ السَّعْدِيُّ، الْمُلَقَّبُ أَمِيرَ الْجُيُوشِ، وَزِيرُ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ أَيَّامَ الْعَاضِدِ، وَهُوَ الَّذِي انْتَزَعَ الْوِزَارَةَ مِنْ
يَدَيْ رُزِّيكَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَكْتَبَ الْقَاضِيَ الْفَاضِلَ،
اسْتَدْعَى بِهِ مِنْ إِسْكَنْدَرِيَّةَ مِنْ بَابِ السِّدْرَةِ، فَحَظِيَ
عِنْدَهُ وَانْحَصَرَ مِنْهُ الْكُتَّابُ بِالْقَصْرِ ; لَمَّا رَأَوْا مِنْ
فَضْلِهِ وَفَضِيلَتِهِ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ مِنْهُمْ عُمَارَةُ
الْيَمَنِيُّ حَيْثُ يَقُولُ:
ضَجِرَ الْحَدِيدُ مِنَ الْحَدِيدِ وَشَاوَرٌ فِي نَصْرِ
دِينِ مُحَمَّدٍ لَمْ يَضْجَرِ
حَلَفَ الزَّمَانُ لَيَأْتِيَنَّ بِمِثْلِهِ حَنَثَتْ يَمِينُكَ يَا زَمَانُ
فَكَفِّرِ
وَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُ قَائِمًا إِلَى أَنْ ثَارَ عَلَيْهِ الْأَمِيرُ ضِرْغَامُ
بْنُ سَوَّارٍ، فَالْتَجَأَ إِلَى الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ فَأَرْسَلَ مَعَهُ
الْأَمِيرَ أَسَدَ الدِّينِ شِيرَكُوهْ، فَنَصَرُوهُ عَلَى عَدُوِّهِ، فَنَكَثَ
عَهْدَهُ فَلَمْ يَزَلْ أَسَدُ الدِّينِ حَنِقًا عَلَيْهِ حَتَّى كَانَ قَتْلُهُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى يَدَيِ ابْنِ أَخِيهِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ ;
ضَرَبَ عُنُقَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ الْأَمِيرُ جُرْدَيْكُ فِي السَّابِعَ عَشَرَ
مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَاسْتُوزِرَ بَعْدَهُ أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ كَمَا
ذَكَرْنَا فَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ بَعْدَهُ إِلَّا شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ
أَيَّامٍ، قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: هُوَ أَبُو شُجَاعٍ شَاوَرُ بْنُ مُجِيرِ
الدِّينِ بْنِ نِزَارِ بْنِ عَشَائِرَ بْنِ شَأْسِ بْنِ مُغِيثِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ يَخْنَسَ بْنِ أَبِي ذُؤَيْبٍ عَبْدِ اللَّهِ،
وَهُوَ وَالِدُ حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ، كَذَا قَالَ: وَفِيمَا قَالَ نَظَرٌ ;
لِقِصَرِ هَذَا النَّسَبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْدَ الْمُدَّةِ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ
شِيرَكُوهْ بْنُ شَاذِيٍّ
أَسَدُ الدَّيْنِ الْكُرْدِيُّ الرَّوَادِيُّ وَهُمْ أَشْرَفُ شُعُوبِ
الْأَكْرَادِ وَهُوَ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا دُوِينُ
مِنْ أَعْمَالِ أَذْرَبِيجَانَ، خَدَمَ هُوَ وَأَخُوهُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ -
وَكَانَ الْأَكْبَرَ - الْأَمِيرَ مُجَاهِدَ الدِّينِ بِهْرُوزَ الْخَادِمَ
شِحْنَةَ الْعِرَاقِ، فَاسْتَنَابَ نَجْمَ الدِّينِ أَيُّوبَ عَلَى قَلْعَةِ
تَكْرِيتَ، فَاتَّفَقَ أَنْ دَخَلَهَا الْمَلِكُ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِيٌّ
هَارِبًا مِنْ قَرَاجَا السَّاقِي، فَأَحْسَنَا إِلَيْهِ وَخَدَمَاهُ، ثُمَّ
اتَّفَقَ أَنْ قَتَلَ رَجُلًا مِنَ الْعَامَّةِ فِي تَأْدِيبٍ فَأَخْرَجَهُمَا
بِهْرُوزُ مِنَ الْقَلْعَةِ فَصَارَا إِلَى زَنْكِيٍّ بِحَلَبَ فَأَحْسَنَ
إِلَيْهِمَا، ثُمَّ حَظِيَا عِنْدَ وَلَدِهِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ،
فَاسْتَنَابَ أَيُّوبَ عَلَى بَعْلَبَكَّ وَأَقَرَّهُ وَلَدُهُ نُورُ الدِّينِ،
وَصَارَ أَسَدُ الدِّينِ عِنْدَ نُورِ الدِّينِ أَكْبَرَ أُمَرَائِهِ
وَأَخَصَّهُمْ عِنْدَهُ، وَأَقْطَعَهُ الرَّحْبَةَ وَحِمْصَ مَعَ مَا لَهُ
عِنْدَهُ مِنَ الْإِقْطَاعَاتِ ; وَذَلِكَ لِشَهَامَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ
وَصَرَامَتِهِ وَجِهَادِهِ فِي أَعْدَاءِ اللَّهِ الْفِرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ فِي
أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ وَوَقَعَاتٍ مُعْتَبَرَاتٍ، وَلَاسِيَّمَا يَوْمَ فَتْحِ
دِمَشْقَ، وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ مَا فَعَلَهُ بِدِيَارِ مِصْرَ، بَلَّ اللَّهُ
بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ.
كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتِ فَجْأَةً بِخَانُوقٍ حَصَلَ لَهُ، وَذَلِكَ
فِي الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ أَبُو شَامَةَ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْخَانِقَاهُ
الْأَسَدِيَّةُ دَاخِلَ بَابِ الْجَابِيَةِ بِدَرْبِ الْهَاشِمِيِّينَ،
وَالْمَدْرَسَةُ الْأَسَدِيَّةُ بِالشَّرَفِ الْقِبْلِيِّ ثُمَّ آلَ الْأَمْرُ
مِنْ بَعْدِهِ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ ثُمَّ اسْتَوْسَقَ
لَهُ الْمُلْكُ وَأَطَاعَتْهُ الْمَمَالِكُ هُنَالِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ
الْوَاحِدِ
بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبَطِّيِّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ
وَأَسْمَعَ وَرُحِلَ إِلَيْهِ وَقَارَبَ التِّسْعِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ
مُحَمَّدٌ الْفَارِقِيُّ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَاعِظُ يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ نَهْجَ
الْبَلَاغَةِ وَيُغَيِّرُ أَلْفَاظَهُ وَكَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا يُكْتَبُ
كَلَامُهُ وَيُرْوَى عَنْهُ كِتَابٌ يُعْرَفُ بِ " الْحِكَمِ الْفَارِقِيَّةِ
"
مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ
بْنِ رَجَاءٍ أَبُو أَحْمَدَ الْأَصْبَهَانِيُّ، أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْوُعَّاظِ،
رَوَى عَنْ أَصْحَابِ أَبِي نُعَيْمٍ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ
بِالْحَدِيثِ تُوُفِّيَ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى الْحَجِّ بِالْبَادِيَةِ رَحِمَهُ
اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا حَاصَرَتِ الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ دِمْيَاطَ مِنْ بِلَادِ
مِصْرَ خَمْسِينَ يَوْمًا ; بِحَيْثُ ضَيَّقُوا عَلَى أَهْلِهَا وَقَتَلُوا
أُمَمًا كَثِيرَةً ; جَاءُوا إِلَيْهَا مِنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ; رَجَاءَ أَنْ
يَمْلِكُوا الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ وَخَوْفًا مِنَ اسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ
عَلَى الْقُدْسِ، فَكَتَبَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى نُورِ الدِّينِ يَسْتَنْجِدُهُ
عَلَيْهِمْ وَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ بِأَمْدَادٍ مِنَ الْجُيُوشِ
; فَإِنَّهُ إِنْ خَرَجَ مِنْ مِصْرَ خَلَفَهُ أَهْلُهَا بِسُوءٍ، وَإِنْ قَعَدَ
عَنِ الْفِرِنْجِ أَخَذُوا دِمْيَاطَ وَجَعَلُوهَا مَعْقِلًا لَهُمْ يَتَقَوَّوْنَ
بِهَا عَلَى أَخْذِ مِصْرَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ نُورُ الدِّينِ بِبُعُوثٍ
كَثِيرَةٍ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، ثُمَّ إِنَّ نُورَ الدِّينِ اغْتَنَمَ
غَيْبَةَ الْفِرِنْجِ عَنْ بِلَادِهِمْ فَصَمَدَ إِلَيْهِمْ فِي جُيُوشٍ
كَثِيرَةٍ، فَجَاسَ خِلَالَ دِيَارِهِمْ وَغَنِمَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَقَتَلَ
مِنْ رِجَالِهِمْ وَسَبَى مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَطْفَالِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا،
وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أُرْسِلُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ أَبُوهُ الْأَمِيرُ
نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ فِي جَيْشٍ مِنْ تِلْكَ الْجُيُوشِ وَمَعَهُ بَقِيَّةُ
أَوْلَادِهِ، فَتَلَقَّاهُ الْجَيْشُ مِنْ مِصْرَ فِي رَجَبٍ وَخَرَجَ الْعَاضِدُ
لِتَلَقِّيهِ إِكْرَامًا لِوَلَدِهِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَأَقْطَعَهُ
الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ وَدِمْيَاطَ وَالْبُحَيْرَةَ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةَ
أَوْلَادِهِ، وَقَدْ أَمَدَّ الْعَاضِدُ صَلَاحَ الدِّينِ فِي هَذِهِ الْكَائِنَةِ
بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، حَتَّى انْفَصَلَتِ الْفِرِنْجُ عَنْ دِمْيَاطَ
وَأَجْلَتِ الْفِرِنْجُ عِنْ دِمْيَاطَ ; لِأَنَّهُ بَلَغَهُمْ أَنَّ الْمَلِكَ
نُورَ الدِّينِ قَدْ غَزَا بِلَادَهُمْ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ رِجَالِهِمْ
وَسَبَى كَثِيرًا مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَطْفَالِهِمْ وَغَنِمَ مَالًا جَزِيلًا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ، فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ
خَيْرًا، ثُمَّ سَارَ نُورُ الدِّينِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ إِلَى الْكَرَكِ ;
فَحَاصَرَهَا وَكَانَتْ مِنْ أَمْنَعِ الْبِلَادِ وَكَادَ أَنْ يَفْتَحَهَا
وَلَكِنْ بَلَغَهُ أَنَّ مُقَدَّمَيْنِ مِنَ الْفِرِنْجِ قَدْ أَقْبَلَا نَحْوَ
دِمَشْقَ، فَخَافَ أَنْ يَلْتَفَّ عَلَيْهِمَا الْفِرِنْجُ، فَتَرَكَ الْحِصَارَ
وَأَقْبَلَ نَحْوَ دِمَشْقَ فَحَصَّنَهَا، وَلَمَّا انْجَلَتِ الْفِرِنْجُ عَنْ
دِمْيَاطَ فَرِحَ نُورُ الدِّينِ وَالْمُسْلِمُونَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَأَنْشَدَ
الشُّعَرَاءُ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ قَصِيدًا، وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ نُورُ
الدِّينِ شَدِيدَ الِاهْتِمَامِ قَوِيَّ الِاغْتِمَامِ بِذَلِكَ ; حَتَّى إِنَّهُ
قَرَأَ عَلَيْهِ بَعْضُ طَلَبَةِ الْحَدِيثِ جُزْءًا فِيهِ حَدِيثٌ مُسَلْسَلٌ
بِالتَّبَسُّمِ، فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَبْتَسِمَ لِيَتَّصِلَ التَّسَلْسُلُ،
فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ
يَرَانِي مُتَبَسِّمًا وَالْمُسْلِمُونَ تُحَاصِرُهُمُ الْفِرِنْجُ بِثَغْرِ دِمْيَاطَ،
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ أَنَّ إِمَامَ مَسْجِدِ أَبِي الدَّرْدَاءِ
بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ رَأَى فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي أَجْلَى
فِيهَا الْفِرِنْجُ عَنْ دِمْيَاطَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ سَلِّمْ عَلَى نُورِ الدِّينِ وَبِشِّرْهُ بِأَنَّ
الْفِرِنْجَ قَدْ رَحَلُوا عَنْ دِمْيَاطَ،. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
بِأَيِّ عَلَامَةٍ ؟ فَقَالَ: بِعَلَامَةِ مَا سَجَدَ يَوْمَ تَلِّ حَارِمٍ
وَقَالَ: فِي سُجُودِهِ اللَّهُمَّ انْصُرْ دِينَكَ وَلَا تَنْصُرْ مَحْمُودًا
وَمَنْ هُوَ مَحْمُودٌ الْكَلْبُ حَتَّى يُنْصَرَ ؟ فَلَمَّا صَلَّى نُورُ
الدِّينِ عِنْدَهُ الصُّبْحَ بَشَّرَهُ بِذَلِكَ وَأَعْلَمَهُ بِالْعَلَامَةِ،
وَكَشَفُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَإِذَا هِيَ هِيَ.
قَالَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَمَّرَ الْمَلِكُ نُورُ
الدِّينِ جَامِعَ دَارِيَّا
وَعَمَّرَ مَشْهَدَ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ
الدَّارَانِيِّ بِهَا، وَشَتَّى بِدِمَشْقَ.
وَفِيهَا حَاصَرَ نُورُ الدِّينِ الْكَرَكَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَفَارَقَهُ مِنْ
هُنَاكَ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ وَالِدُ صَلَاحِ الدِّينِ مُتَوَجِّهًا إِلَى
ابْنِهِ بِمِصْرَ، وَقَدْ وَصَّاهُ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ أَنْ يَأْمُرَ
ابْنَهُ صَلَاحَ الدِّينِ أَنْ يَخْطُبَ بِمِصْرَ لِلْخَلِيفَةِ الْمُسْتَنْجِدِ
بِاللَّهِ الْعَبَّاسِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعَثَ يُعَاتِبُهُ فِي
ذَلِكَ وَفِيهَا قَدِمَ الْفِرِنْجُ مِنَ السَّوَاحِلِ لِيَمْنَعُوا الْكَرَكَ
مَعَ قَرِيبِ بْنِ الرَّقِيقِ وَابْنِ هَنْفَرَى - وَكَانَا أَشْجَعَ فُرْسَانِ
الْفِرِنْجِ - فَقَصَدَهُمَا نُورُ الدِّينِ ; لِيَلْقَاهُمَا فَحَادَا عَنْ
طَرِيقِهِ. وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ
وَعَمَّتْ أَكْثَرَ الْأَرْضِ، فَتَهَدَّمَتْ أَسْوَارٌ كَثِيرَةٌ بِالشَّامِ،
وَسَقَطَتْ دُورٌ كَثِيرَةٌ عَلَى أَهْلِهَا، وَلَاسِيَّمَا بِدِمَشْقَ وَحِمْصَ
وَحَمَاةَ وَحَلَبَ وَبَعْلَبَكَّ ; سَقَطَتْ أَسْوَارُهَا وَأَكْثَرُ قَلْعَتِهَا
فَجَدَّدَ نُورُ الدِّينِ عِمَارَةَ أَكْثَرِ مَا سَقَطَ بِهَذِهِ الزَّلْزَلَةِ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
الْمَلِكُ قُطْبُ الدِّينِ مَوْدُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ
أَخُو نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ صَاحِبِ الْمَوْصِلَ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ
أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَمُدَّةُ مُلْكِهِ مِنْهَا إِحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً،
وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ، مُحَبَّبًا إِلَى الرَّعِيَّةِ عَطُوفًا
عَلَيْهِمْ، مُحْسِنًا
إِلَيْهِمْ، حَسَنَ الشَّكْلِ، وَتَمَلَّكَ مِنْ بَعْدِهِ
وَلَدُهُ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيٌّ مِنَ السِّتِّ خَاتُونَ بِنْتِ تَمُرْتَاشَ
بْنِ إِيلِغَازِي بْنِ أُرْتُقَ أَصْحَابِ مَارِدِينَ، وَكَانَ مُدَبِّرَ
مَمْلَكَتِهِ وَالْمُتَحَكِّمَ فِيهَا فَخْرُ الدِّينِ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَكَانَ
ظَالِمًا غَاشِمًا.
وَفِيهَا كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ مُلُوكِ الْغَرْبِ بِجَزِيرَةِ
الْأَنْدَلُسِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ مُلُوكِ الشَّرْقِ
أَيْضًا
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا الْأَمِيرُ أَرْغَشُ
الْكَبِيرُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمُسْتَنْجِدِ وَخِلَافَةُ ابْنِهِ الْمُسْتَضِيءِ ;
وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَنْجِدَ كَانَ قَدْ مَرِضَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ
ثُمَّ عُوفِيَ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، فَعُمِلَتْ ضِيَافَةٌ عَظِيمَةٌ بِسَبَبِ
ذَلِكَ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْحَكِيمُ إِلَى
الْحَمَّامِ وَعِنْدَهُ ضَعْفٌ شَدِيدٌ فَمَاتَ فِي الْحَمَّامِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
وَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِإِشَارَةِ بَعْضِ الدَّوْلَةِ عَلَى الطَّبِيبِ ;
اسْتِعْجَالًا لِمَوْتِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتِ بَعْدَ الظُّهْرِ
ثَانِي رَبِيعٍ الْآخَرِ عَنْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ
خِلَافَتِهِ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً وَشَهْرًا، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ
الْخُلَفَاءِ وَأَعْدَلِهِمْ وَأَرْفَقِهِمْ بِالرَّعَايَا، وَمَنَعَ عَنْهُمُ
الْمُكُوسَ وَالضَّرَائِبَ، وَلَمْ يَتْرُكْ بِالْعِرَاقِ مَكْسًا، وَقَدْ شَفَعَ
إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي رَجُلٍ شِرِّيرٍ وَبَذَلَ فِيهِ عَشْرَةَ آلَافِ
دِينَارٍ، فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَةُ: أَنَا أُعْطِيكَ عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ
وَائْتِنِي بِمِثْلِهِ لِأُرِيحَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهِ.
وَكَانَ الْمُسْتَنْجِدُ أَسْمَرَ طَوِيلَ اللِّحْيَةِ، وَهُوَ الثَّانِي
وَالثَّلَاثِينَ مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَذَلِكَ فِي الْجُمَّلِ لَامٌ بَاءٌ
وَلِهَذَا قَالَ فِيهِ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ:
أَصْبَحْتَ لُبَّ بَنِي الْعَبَّاسِ كُلِّهِمُ إِنْ
عُدِّدَتْ بِحِسَابِ الْجُمَّلِ الْخُلَفَا
وَكَانَ أَمَّارًا بِالْمَعْرُوفِ نَهَّاءً عَنِ الْمُنْكَرِ وَقَدْ رَأَى فِي
مَنَامِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ
فَكَانَتْ آخِرُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَهُوَ يَقُولُ
لَهُ: قُلِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافِنِي فَيْمَنْ
عَافَيْتَ... دُعَاءَ الْقُنُوتِ بِتَمَامِهِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ يَوْمَ
الْأَحَدِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَدُفِنَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى
التُّرَبِ مِنَ الرُّصَافَةِ.
خِلَافَةُ الْمُسْتَضِيءِ
وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ يُوسُفَ الْمُسْتَنْجِدِ بْنِ
الْمُقْتَفِي، وَأُمُّهُ أَرْمَنِيَّةٌ تُدْعَى غَضَّةَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي
شَعْبَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ
يَوْمَ مَاتَ أَبُوهُ بُكْرَةَ الْأَحَدِ تَاسِعَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَبَايَعَهُ
النَّاسُ، وَلَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ أَحَدٌ اسْمُهُ الْحَسَنُ بَعْدَ الْحَسَنِ
بْنِ عَلِيٍّ غَيْرُ هَذَا، وَوَافَقَهُ فِي الْكُنْيَةِ أَيْضًا، وَخَلَعَ
يَوْمئِذٍ عَلَى النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ خِلْعَةٍ، وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا، وَوَلَّى قَضَاءَ قُضَاةِ بَغْدَادَ لِرَوْحِ بْنِ الْحَدِيثِيِّ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَابِعَ عَشْرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَخَلَعَ عَلَى الْوَزِيرِ
خِلْعَةً عَظِيمَةً وَهُوَ الْأُسْتَاذُ عَضُدُ الدِّينِ، وَضُرِبَتْ عَلَى
بَابِهِ نَوْبَةٌ فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ ; الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
وَأَمَّرَ سَبْعَةَ عَشَرَ أَمِيرًا مِنَ الْمَمَالِيكِ، وَأَذِنَ لِلْوُعَّاظِ
فَتَكَلَّمُوا بَعْدَمَا مُنِعُوا مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ
كَثُرَ احْتِجَاجُهُ، وَمِمَّا نَظَمَهُ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ حِينَ جَاءَتِ
الْبِشَارَةُ بِخِلَافَةِ الْمُسْتَضِيءِ وَهُمْ بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ
قَدْ أَضَاءَ الزَّمَانُ بِالْمُسْتَضِيِّ وَارِثِ الْبَرْدِ وَابْنِ عَمِّ
النَّبِيِّ جَاءَ بِالْحَقِّ وَالَّشرِيعَةِ وَالْعَدْ
لِ فَيَا مَرْحَبًا بِهَذَا الْمَجِيِّ فَهَنِيئًا لِأَهْلِ بَغْدَادَ فَازُوا
بَعْدَ بُؤْسٍ بِكُلِّ عَيْشٍ هَنِيِّ وَمُضِيٌّ إِنْ كَانَ فِي الزَّمَنِ الْمُظْ
لِمِ فَالْعَوْدُ فِي الزَّمَانِ الْمُضِيِّ
وَفِيهَا سَارَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ إِلَى
الرَّقَّةِ فَأَخَذَهَا، وَكَذَا نَصِيبِينَ وَالْخَابُورِ وَسِنْجَارَ،
وَسَلَّمَهَا إِلَى زَوْجِ ابْنَتِهِ ابْنِ أَخِيهِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيِّ
بْنِ مَوْدُودٍ ثُمَّ سَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعَةً
وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَأَقَرَّهَا عَلَى ابْنِ أَخِيهِ سَيْفِ الدِّينِ غَازِيِّ
بْنِ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودٍ مَعَ الْجَزِيرَةِ، وَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ
الْأُخْرَى وَأَمَرَ بِعِمَارَةِ جَامِعِهَا وَتَوْسِعَتِهِ، وَوَقَفَ عَلَى
تَأْسِيسِهِ بِنَفْسِهِ وَجَعَلَ لَهُ خَطِيبًا وَدَرْسًا لِلْفِقْهِ وَوَلَّى
التَّدْرِيسَ لِلْفَيْقِهِ أَبِي بَكْرٍ النَّوْقَانِيِّ تِلْمِيذِ مُحَمَّدِ بْنِ
يَحْيَى، تِلْمِيذِ الْغَزَالِيِّ، وَكَتَبَ لَهُ مَنْشُورًا بِذَلِكَ، وَوَقَفَ
عَلَى الْجَامِعِ قَرْيَةً مِنْ قُرَى الْمَوْصِلِ ; وَذَلِكَ كُلُّهُ بِإِشَارَةِ
الشَّيْخِ صَالِحٍ الْعَابِدِ عُمْرَ الْمَلَّاءِ، وَقَدْ كَانَتْ لَهُ زَاوِيَةٌ
يُقْصَدُ فِيهَا وَلَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ دَعْوَةٌ فِي شَهْرِ الْمَوْلِدِ ;
يَحْضُرُ عِنْدَهُ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْوُزَرَاءُ،
وَيَحْتَفِلُ بِذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ. صَاحِبَهُ،
وَكَانَ يَسْتَشِيرُهُ فِي أُمُورِهِ، وَمِمَّنْ يَعْتَمِدُهُ فِي الْمُهِمَّاتِ،
وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ
مُقَامِهِ فِي الْمَوْصِلِ بِجَمِيعِ مَا فَعَلَهُ مِنَ
الْخَيْرَاتِ ; فَلِهَذَا حَصَلَ بِقُدُومِهِ لِأَهْلِ الْمَوْصِلِ كُلُّ
مَسَرَّةٍ وَانْدَفَعَتْ عَنْهُمُ الْمَصَائِبُ، وَأَسْقَطَ عَنْهُمُ الْمُكُوسَ
وَالضَّرَائِبَ، وَأَخْرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمُ الظَّالِمَ الْغَاشِمَ
عَبْدَ الْمَسِيحِ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ وَأَخَذَهُ مَعَهُ إِلَى دِمَشْقَ
فَأَقْطَعُهُ إِقْطَاعًا حَسَنًا، فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَسِيحِ هَذَا نَصْرَانِيًّا فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ،
وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّ لَهُ كَنِيسَةً فِي جَوْفِ دَارِهِ وَكَانَ سَيِّئَ السِّيرَةِ،
فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ وَخَاصَّةً الْمُسْلِمِينَ، وَلَمَّا دَخَلَ نُورُ
الدِّينِ الْمَوْصِلَ كَانَ الَّذِي اسْتَأْمَنَ لَهُ الشَّيْخُ عُمْرُ
الْمَلَّاءُ، وَحِينَ دَخَلَ نُورُ الدِّينِ الْمَوْصِلَ خَرَجَ إِلَيْهِ ابْنُ
أَخِيهِ، فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَلْبَسَهُ
خِلْعَةً جَاءَتْهُ مِنَ الْخَلِيفَةِ، فَدَخَلَ بِهَا إِلَى الْبَلَدِ فِي
أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ وَلَمْ يَدْخُلْ نُورُ الدِّينِ الْمَوْصِلَ حَتَّى قَوِيَ
الشِّتَاءُ، فَأَقَامَ بِهَا كَمَا ذَكَرْنَا أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا،
فَلَمَّا كَانَ آخَرُ لَيْلَةٍ أَقَامَ بِهَا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ يَقُولُ لَهُ: طَابَتْ لَكَ بَلَدُكَ
وَتَرَكْتَ الْجِهَادَ وَقِتَالَ أَعْدَاءِ اللَّهِ، فَنَهَضَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى
السَّفَرِ وَمَا أَصْبَحَ إِلَّا وَهُوَ سَائِرٌ إِلَى الشَّامِ وَاسْتَقْضَى
الشَّيْخَ شَرَفَ الدِّينِ بْنَ أَبِي عَصْرُونَ وَكَانَ مَعَهُ عَلَى سِنْجَارَ
وَنَصِيبِينَ وَالْخَابُورِ، فَاسْتَنَابَ فِيهَا ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ نُوَّابًا
وَأَصْحَابًا
وَفِيهَا عَزَلَ صَلَاحُ الدِّينِ قُضَاةَ مِصْرَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا شِيعَةً
وَوَلَّى قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِهَا لِصَدْرِ الدِّينِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
دِرْبَاسٍ الْمَارَانِيِّ الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَنَابَ
فِي سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ قُضَاةً شَافِعِيَّةً وَبَنَى
مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّةِ وَأُخْرَى لِلْمَالِكِيَّةِ، وَاشْتَرَى ابْنُ
أَخِيهِ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ شَاهِنْشَاهْ دَارًا كَانَتْ تُعْرَفُ
بِمَنَازِلِ الْعِزِّ، وَجَعَلَهَا مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّةِ، وَوَقَفَ
عَلَيْهَا الرَّوْضَةَ وَغَيْرَهَا، وَعَمَّرَ صَلَاحُ الدِّينِ أَسْوَارَ
الْبَلَدِ، وَكَذَلِكَ أَسْوَارَ إِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَأَحْسَنَ إِلَى الرَّعَايَا
إِحْسَانًا كَثِيرًا، وَرَكِبَ فَأَغَارَ عَلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ بِنُوَاحِي
عَسْقَلَانَ وَغَزَّةَ وَخَرَّبَ قَلْعَةً كَانَتْ لَهُمْ عَلَى أَيْلَةَ،
وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ مُقَاتِلَتِهِمْ، وَتَلَقَّى أَهْلَهُ وَهُمْ
وَارِدُونَ مِنَ الشَّامِ، وَاجْتَمَعَ شَمْلُهُ بِهِمْ بَعْدَ فُرْقَةٍ
طَوِيلَةٍ، وَفِيهَا قَطَعَ صَلَاحُ الدِّينِ الْأَذَانَ بِحَيٍّ عَلَى خَيْرِ
الْعَمَلِ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ كُلِّهَا، وَشَرَعَ فِي تَمْهِيدِ الْخُطْبَةِ
لِبَنِي الْعَبَّاسِ عَلَى الْمَنَابِرِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
طَاهِرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ
أَبُو زُرْعَةَ، الْمَقْدِسِيُّ الْأَصْلُ، الرَّازِيُّ الْمَوْلِدُ
الْهَمْدَانِيُّ الدَّارُ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ،
وَأَسْمَعَهُ وَالِدُهُ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْكَثِيرَ، وَمِمَّا
كَانَ يَرْوِيهِ مُسْنَدُ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِهَمَذَانَ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ
يُوسُفُ الْقَاضِي
أَبُو الْحَجَّاجِ بْنُ الْخَلَّالِ، صَاحِبُ دِيوَانِ الْإِنْشَاءِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَهُوَ شَيْخُ الْقَاضِي الْفَاضِلِ فِي هَذَا الْفَنِّ،
اشْتَغَلَ عَلَيْهِ فِيهِ فَبَرَعَ حَتَّى قُدِّرَ أَنَّهُ صَارَ مَكَانَهُ حِينَ
ضَعُفَ الشَّيْخُ عَنِ الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الْوَظِيفَةِ لِكِبَرِهِ فَكَانَ
الْقَاضِي الْفَاضِلُ يَقُومُ بِهِ وَبِأَهْلِهِ حَتَّى
مَاتَ، ثُمَّ كَانَ كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
يُوسُفُ بْنُ الْخَلِيفَةِ
الْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ بْنِ الْمُقْتَفِي بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ تَقَدَّمَ
ذِكْرُ وَفَاتِهِ وَتَرْجَمَتِهِ فِي الْحَوَادِثِ، وَقَدْ تُوُفِّيَ بَعْدَهُ
عَمُّهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْمُسْتَظْهِرِ بِأَشْهُرٍ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ
أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ الْمُسْتَظْهِرِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ
الثَّامِنَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْعَاضِدِ صَاحِبِ مِصْرَ
فِي أَوَّلِ جُمُعَةٍ مِنْهَا، أَمَرَ صَلَاحُ الدِّينِ بِإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ
لِبَنِي الْعَبَّاسِ بِمِصْرَ، وَفِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ بِالْقَاهِرَةِ،
وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَلَمَّا انْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى الْمَلِكِ
نُورِ الدِّينِ بِالشَّامِ، أَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ مَعَ
ابْنِ أَبِي عَصْرُونَ شِهَابِ الدِّينِ أَبِي الْمَعَالِي الْمُطَهِّرِ،
فَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ وَعُمِلَتِ الْقِبَابُ وَفَرِحَ
الْمُسْلِمُونَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ قَدْ قُطِعَتْ مِنْ
دِيَارِ مِصْرَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ فِي خِلَافَةِ
الْمُطِيعِ الْعَبَّاسِيِّ حِينَ تَغَلَّبَ الْفَاطِمِيُّونَ عَلَيْهَا أَيَّامَ
الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ بَانِي الْقَاهِرَةِ إِلَى هَذَا الْأَوَانِ، وَذَلِكَ
مِائَتَا سَنَةٍ وَثَمَانِ سِنِينَ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ أَلَّفْتُ
فِي ذَلِكَ كِتَابًا سَمَّيْتُهُ النَّصْرَ عَلَى مِصْرَ
مَوْتُ الْعَاضِدِ آخِرِ خُلَفَاءِ الْعُبَيْدِيِّينَ
وَالْعَاضِدُ فِي اللُّغَةِ الْقَاطِعُ ( لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا ) لَا يُقْطَعُ
وَبِهِ قُطِعَتْ دَوْلَتُهُمْ
وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَيُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدِ
بْنِ يُوسُفَ الْحَافِظِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَنْصِرِ بْنِ الْحَاكِمِ
بْنِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ الْمَنْصُورِ بْنِ الْقَائِمِ بْنِ
الْمَهْدِيِّ أَوَّلِ مُلُوكِهِمْ، كَانَ مَوْلِدُ الْعَاضِدِ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ،
فَعَاشَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ سِيرَتُهُ مَذْمُومَةً، وَكَانَ
شِيعِيًّا خَبِيثًا، لَوْ أَمْكَنَهُ قَتَلَ كُلَّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ
أَهْلِ السُّنَّةِ، وَاتَّفَقَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْمَلِكِ
صَلَاحِ الدِّينِ رَسَمَ بِالْخُطْبَةِ لِبَنِي الْعَبَّاسِ عَنْ مَرْسُومِ
الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ لَهُ بِذَلِكَ لِمُعَاتَبَةِ الْخَلِيفَةِ
الْمُسْتَنْجِدِ إِيَّاهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ، وَكَانَ الْمُسْتَنْجِدُ إِذْ ذَاكَ
مُدْنِفًا مَرِيضًا، فَلَمَّا مَاتَ تَوَلَّى بَعْدَهُ وَلَدُهُ فَكَانَتِ
الْخُطْبَةُ بِمِصْرَ لَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْعَاضِدَ مَرِضَ فَكَانَتْ وَفَاتُهُ
فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَحَضَرَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ جِنَازَتَهُ،
وَشَهِدَ عَزَاءَهُ، وَبَكَى عَلَيْهِ وَتَأَسَّفَ وَظَهَرَ مِنْهُ حُزْنٌ، وَقَدْ
كَانَ مُطِيعًا لَهُ فِيمَا يَأْمُرُهُ بِهِ، وَكَانَ الْعَاضِدُ كَرِيمًا
جَوَادًا مُمَدَّحًا سَامَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمَّا مَاتَ اسْتَحْوَذَ
صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى الْقَصْرِ بِمَا فِيهِ وَأَخْرَجَ مِنْهُ أَهْلَ
الْعَاضِدِ إِلَى دَارٍ أَفْرَدَهَا لَهُمْ وَأَجْرَى عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ
وَالنَّفَقَاتِ الْهَنِيَّةَ وَالْعِيشَةَ الرَّضِيَّةَ ; عِوَضًا عَمَّا
فَاتَهُمْ مِنَ الْخِلَافَةِ، وَكَانَ يَتَنَدَّمُ عَلَى إِقَامَةِ الْخُطْبَةِ
لِبَنِي الْعَبَّاسِ بِمِصْرَ قَبْلَ وَفَاتِهِ وَهَلَّا صَبَرَ بِهَا إِلَى
بَعْدِ مَمَاتِهِ، وَلَكِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدَرًا مَقْدُورًا وَفِي الْكِتَابِ
مَسْطُورًا، وَمِمَّا نَظَمَهُ الْعِمَادُ فِي ذَلِكَ:
تُوُفِّيَ الْعَاضِدُ الدَّعِيُّ فَمَا يَفْتَحُ ذُو بِدْعَةٍ بِمِصْرَ فَمَا
وَعَصْرُ فِرْعَوْنِهَا انْقَضَى وَغَدَا
يُوسُفُهَا فِي الْأُمُورِ مُحْتَكِمَا وَانْطَفَأَتْ جَمْرَةُ الْغُوَاةِ وَقَدْ
بَاخَ مِنَ الشِّرْكِ كُلُّ مَا اضْطَرَمَا وَصَارَ شَمْلُ الصَّلَاحِ مُلْتَئِمًا
بِهَا وَعِقْدُ السَّدَادِ مُنْتَظِمَا لَمَّا غَدَا مُعْلَنًا شِعَارُ بَنِي الْ
عَبَّاسِ حَقًّا وَالْبَاطِلُ اكْتَتَمَا وَبَاتَ دَاعِي التَّوْحِيدِ مُنْتَصِرًا
وَمِنْ دُعَاةِ الْإِشْرَاكِ مُنْتَقِمَا وَظَلَّ أَهْلُ الضَّلَالِ فِي ظُلَلٍ
دَاجِيَةٍ مِنْ غَيَابَةٍ وَعَمَى وَارْتَبَكَ الْجَاهِلُونَ فِي ظُلَمٍ
لَمَّا أَضَاءَتْ مَنَابِرُ الْعُلَمَا وَعَادَ بِالْمُسْتَضِيءِ مُمْتَهَدًا
بِنَاءُ حَقٍّ قَدْ كَانَ مُنْهَدِمَا وَاعْتَلَّتِ الدَّوْلَةُ الَّتِي
اضْطُهِدَتْ
وَانْتَصَرَ الدِّينُ بَعْدَمَا اهْتُضِمَا وَاهْتَزَّ عِطْفُ الْإِسْلَامِ مِنْ
جَذَلٍ
وَافْتَرَّ ثَغْرُ الْإِسْلَامِ وَابْتَسَمَا وَاسْتَبْشَرَتْ أَوْجُهُ الْهُدَى
فَرَحًا
فَلْيَقْرَعِ الْكُفْرُ سِنَّهُ نَدَمَا عَادَ حَرِيمُ الْأَعْدَاءِ مُنْتَهَكَ
الْ
حِمَى وَفَيْءُ الطُّغَاةِ مُقْتَسَمَا قُصُورُ أَهْلِ الْقُصُورِ أَخْرَبَهَا
عَامِرُ بَيْتٍ مِنَ الْكَمَالِ سَمَا
أَزْعَجَ بَعْدَ السُّكُونِ سَاكِنَهَا
وَمَاتَ ذُلًّا وَأَنْفُهُ رَغِمَا
وَمِمَّا قِيلَ مِنَ الشِّعْرِ بِبَغْدَادَ يُبَشَّرُ الْخَلِيفَةَ الْمُسْتَضِيءَ
بِأَمْرِ اللَّهِ بِالْخُطْبَةِ لَهُ بِمِصْرَ وَأَعْمَالِهَا:
لِيَهْنِكَ يَا مَوْلَايَ فَتْحٌ تَتَابَعَتْ إِلَيْكَ بِهِ خُوصُ الرَّكَائِبِ
تُوجَفُ
أَخَذْتَ بِهِ مِصْرًا وَقَدْ حَالَ دُونَهَا مِنَ الشِّرْكِ بَأْسٌ فِي لَهَى
الْحَقِّ يُقْذَفُ
فَعَادَتْ بِحَمْدِ اللَّهِ بِاسْمِ إِمَامِنَا تَتِيهُ عَلَى كُلِّ الْبِلَادِ
وَتَشْرُفُ
وَلَا غَرْوَ أَنْ ذُلَّتْ لِيُوسُفَ مِصْرُهُ وَكَانَتْ إِلَى عَلْيَائِهِ
تَتَشَوَّفُ
يُشَابِهُهُ خَلْقًا وَخُلْقًا وَعِفَّةً وَكُلٌّ عَنِ الرَّحْمَنِ فِي الْأَرْضِ
يَخْلُفُ
كَشَفْتَ بِهَا عَنْ آلِ هَاشِمِ سُبَّةً وَعَارًا أَبَى إِلَّا بِسَيْفِكَ
يُكْشَفُ
وَقَدْ ذَكَرَهَا الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي الرَّوْضَتَيْنِ
وَهَيَ أَطْوَلُ مِنْ هَذِهِ، وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا الْفَضَائِلِ الْحُسَيْنَ بْنَ
مُحَمَّدِ بْنِ تُرْكَانَ حَاجِبَ ابْنِ هُبَيْرَةَ أَنْشَدَهَا لِلْخَلِيفَةِ
الْمُسْتَنْجِدِ قَبْلَ مَوْتِهِ عِنْدَ تَأْوِيلِ مَنَامٍ رَآهُ بَعْضُ النَّاسِ
لِلْخَلِيفَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَأَرَادَ بِيُوسُفَ الثَّانِي الْخَلِيفَةَ
الْمُسْتَنْجِدَ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَصِيدَةَ فِي حَيَاةِ الْمُسْتَنْجِدِ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ وَلَمْ يَخْطُبْ إِلَّا
لِوَلَدِهِ الْمُسْتَضِيءِ فَجَرَى الْمَقَالُ بِاسْمِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَضِيءُ بِأَمْرِ اللَّهِ إِلَى الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ خِلْعَةً سَنِيَّةً سُنِّيَّةً، وَكَذَلِكَ لِلْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمَعَهَا أَعْلَامٌ سُودٌ وَلِوَاءٌ مَعْقُودٌ، فَفُرِّقَتْ عَلَى الْجَوَامِعِ بِالشَّامِ وَبِمِصْرَ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى مَا مَنَحَ مِنَ الْعِزِّ وَالنَّصْرِ. قَالَ ابْنُ أَبِي طَيٍّ فِي كِتَابِهِ: وَلَمَّا تَفَرَّغَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ الْمَلِكُ النَّاصِرُ مِنْ تَوْطِيدِ الْمَمْلَكَةِ وَإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ وَالتَّعْزِيَةِ بِانْقِضَاءِ الدَّوْلَةِ الْعُبَيْدِيَّةِ الزَّاعِمَةِ أَنَّهَا فَاطِمِيَّةٌ، اسْتَعْرَضَ حَوَاصِلَ الْقَصْرَيْنِ فَوَجَدَ فِيهِمَا مِنَ الْحَوَاصِلِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْآلَاتِ وَالثِّيَابِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَفَارِشِ شَيْئًا بَاهِرًا وَأَمْرًا هَائِلًا ; مِنْ ذَلِكَ سَبْعُمِائَةِ يَتِيمَةٍ مِنَ الْجَوْهَرِ وَقَضِيبُ زُمُرُّدٍ طُولُهُ أَكْثَرُ مِنْ شِبْرٍ وَسُمْكُهُ نَحْوُ الْإِبْهَامِ، وَحَبْلٌ مِنْ يَاقُوتٍ، وَوُجِدَ فِيهِ إِبْرِيقٌ عَظِيمٌ مِنَ الْحَجَرِ الْمَانِعِ، وَطَبْلٌ لِلْقُولَنْجِ إِذَا ضَرَبَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَحْصُلُ لَهُ خُرُوجُ رِيحٍ مِنْ دُبُرِهِ، يَنْصَرِفُ عَنْهُ مَا يَجِدُهُ مِنَ الْقُولَنْجِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَ أُمَرَاءِ الْأَكْرَادِ أَخَذَهُ فِي يَدِهِ وَلَمْ يَدْرِ مَا شَأْنُهُ، فَلَمَّا ضَرَبَ عَلَيْهِ حَبَقَ، فَأَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ عَلَى الْأَرْضِ فَكَسَرَهُ فَبَطَلَ أَمْرُهُ، وَأَمَّا الْقَضِيبُ فَإِنَّ السُّلْطَانَ كَسَرَهُ ثَلَاثَ فِلَقٍ فَقَسَّمَهُ بَيْنَ نِسَائِهِ، وَقَسَّمَ بَيْنَ الْأُمَرَاءِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ قِطَعِ الْبَلْخَشِ وَالْيَاقُوتِ وَالذَّهَبِ وَالْأَثَاثِ وَالْأَمْتِعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ الْبَيْعُ فِيمَا بَقِيَ هُنَالِكَ مِنَ الْأَثَاثِ وَالْأَمْتِعَةِ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ وَأَرْسَلَ
إِلَى الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَادَ مِنْ ذَلِكَ هَدَايَا
عَظِيمَةً سَنِيَّةً وَكَذَلِكَ إِلَى الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ
جَانِبًا كَبِيرًا صَالِحًا، وَكَانَ لَا يَدَّخِرُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا
يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ ; بَلْ كَانَ يُعْطِي ذَلِكَ كُلَّهُ لِمَنْ
حَوْلَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْأَصْحَابِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ وَكَانَ مِمَّا أَرْسَلَهُ إِلَى نُورِ الدِّينِ ثَلَاثُ قِطَعٍ بَلْخَشٍ
; زِنَةُ الْوَاحِدَةِ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ مِثْقَالًا وَالْأُخْرَى ثَمَانِيَةَ
عَشَرَ مِثْقَالًا وَالثَّالِثَةُ دُونَهُمَا، مَعَ لَآلِئَ كَثِيرَةٍ وَسِتُّونَ
أَلْفَ دِينَارٍ، وَعِطْرٌ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ حِمَارَةٌ
عَتَّابِيَّةٌ وَفِيلٌ عَظِيمٌ جِدًّا، فَأُرْسِلَتِ الْحِمَارَةُ إِلَى
الْخَلِيفَةِ فِي جُمْلَةِ هَدَايَا وَتُحَفٍ هَائِلَةٍ، قَالَ ابْنُ أَبِي طَيٍّ:
وَوَجَدَ خِزَانَةَ كُتُبٍ لَيْسَ فِي مَدَائِنِ الْإِسْلَامِ لَهَا نَظِيرٌ ;
تَشْتَمِلُ عَلَى أَلْفَيْ أَلْفِ مُجَلَّدٍ قَالَ: وَمِنْ عَجَائِبِ ذَلِكَ
أَنَّهُ كَانَ بِهَا أَلْفٌ وَمِائَتَانِ وَعِشْرُونَ نُسْخَةً مِنْ تَارِيخِ
الطَّبَرِيِّ، كَذَا قَالَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ كَانْتِ الْكُتُبُ قَرِيبَةً
مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ مُجَلَّدٍ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ كَانَ
فِيهَا مِنَ الْكُتُبِ بِالْخُطُوطِ الْمَنْسُوبَةِ مِائَةُ أَلْفِ مُجَلَّدٍ،
وَقَدْ تَسَلَّمَهَا الْقَاضِي الْفَاضِلُ فَأَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا
مِمَّا اخْتَارَهُ وَانْتَخَبَهُ، قَالَ وَقَسَمَ الْقَصْرَ الشَّمَالِيَّ بَيْنَ
الْأُمَرَاءِ فَسَكَنُوهُ وَأَسْكَنَ أَبَاهُ نَجْمَ الدِّينِ أَيُّوبَ فِي قَصْرٍ
عَظِيمٍ عَلَى الْخَلِيجِ، يُقَالُ لَهُ: اللُّؤْلُؤَةُ الَّذِي فِيهِ بُسْتَانُ
الْكِافُورِيِّ
وَسَكَنَ أَكْثَرُ الْأُمَرَاءِ فِي دُورِ مَنْ كَانَ يَنْتَمِي إِلَى
الْفَاطِمِيِّينَ، وَلَا يَلْقَى أَحَدٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ أَحَدًا مِنْ أُولَئِكَ
الَّذِينَ كَانُوا بِهَا إِلَّا شَلَّحُوا ثِيَابَهُ، وَنَهَبُوا دَارَهُ، حَتَّى
تَمَزَّقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي الْبِلَادِ وَتَفَرَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ،
وَصَارُوا أَيَادِيَ سَبَا، وَقَدْ كَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِ الْفَاطِمِيِّينَ
مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَكَسْرًا، فَصَارُوا
كَأَمْسِ الذَّاهِبِ وَكَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا، وَكَانَ
أَوَّلَ مَنْ مَلَكَ مِنْهُمُ الْمَهْدِيُّ، وَكَانَ مِنْ سَلَمْيَةَ حَدَّادًا
اسْمُهُ سَعِيدٌ، وَكَانَ يَهُودِيًّا فَدَخَلَ بِلَادَ الْمَغْرِبِ وَتَسَمَّى
بِعُبَيْدِ اللَّهِ، وَادَّعَى أَنَّهُ شَرِيفٌ عَلَوِيٌّ فَاطِمِيٌّ، وَقَالَ:
إِنَّهُ الْمَهْدِيُّ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ سَادَاتِ
الْعُلَمَاءِ الْكُبَرَاءِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ
وَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ سَادَاتِ
الْأَئِمَّةِ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِيمَا
تَقَدَّمَ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الدَّعِيَّ الْكَذَّابَ رَاجَ لَهُ مَا
افْتَرَاهُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، وَوَازَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ جَهَلَةِ
الْعِبَادِ، وَصَارَتْ لَهُ دَوْلَةٌ وَصَوْلَةٌ، ثُمَّ تَمَكَّنَ إِلَى أَنْ
بَنَى مَدِينَةً سَمَّاهَا الْمَهْدِيَّةَ نِسْبَةً إِلَيْهِ، وَصَارَ مَلِكًا
مُطَاعًا، يُظْهِرُ الرَّفْضَ وَيَنْطَوِي عَلَى الْكُفْرِ الْمَحْضِ
ثُمَّ كَانَ مِنْ بَعْدِهِ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ الْمَنْصُورُ الْمُعِزُّ
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ دِيَارَ مِصْرَ مِنْهُمْ وَبُنِيَتْ لَهُ
الْقَاهِرَةُ، ثُمَّ الْعَزِيزُ ثُمَّ الْحَاكِمُ ثُمَّ الظَّاهِرُ ثُمَّ
الْمُسْتَنْصِرُ ثُمَّ الْمُسْتَعْلِي ثُمَّ الْآمِرُ ثُمَّ الْحَافِظُ ثُمَّ
الظَّافِرُ ثُمَّ الْفَائِزُ ثُمَّ الْعَاضِدُ، وَهُوَ آخِرُهُمْ، فَجُمْلَتُهُمْ
أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَلِكًا، وَمُدَّتَهُمْ مِائَتَانِ وَنَيِّفٌ وَثَمَانُونَ
سَنَةً، وَكَذَلِكَ عِدَّةُ خُلَفَاءِ بَنَى أُمَيَّةَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَيْضًا
; وَلَكِنْ كَانَتْ مُدَّتُهُمْ نَيِّفًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَقَدْ نَظَمْتُ
أَسْمَاءَ هَؤُلَاءِ بِأُرْجُوزَةٍ تَابِعَةٍ لِأُرْجُوزَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ
عِنْدَ انْقِضَاءِ دَوْلَتِهِمْ بِبَغْدَادَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ كَانَ الْفَاطِمِيُّونَ
أَغْنَىالْخُلَفَاءِ، وَأَكْثَرَهُمْ مَالًا وَكَانُوا مِنْ أَعْتَى الْخُلَفَاءِ
وَأَجْبَرِهِمْ وَأَظْلِمِهِمْ، وَأَنْجَسِ الْمُلُوكِ سِيرَةً وَأَخْبَثِهِمْ
سَرِيرَةً ; ظَهَرَتْ فِي دَوْلَتِهِمُ الْبِدَعُ وَالْمُنْكَرَاتُ، وَكَثُرَ
أَهْلُ الْفَسَادِ،
وَقَلَّ عِنْدَهُمُ الصَّالِحُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ
وَالْعِبَادِ، وَكَثُرَ بِأَرْضِ الشَّامِ النُّصَيْرِيَّةُ وَالدَّرْزِيَّةُ
وَالْحُشَيْشِيَّةُ، وَتَغَلَّبَ الْفِرِنْجُ عَلَى سَوَاحِلِ الشَّامِ
بِكَمَالِهِ ; حَتَّى أَخَذُوا الْقُدْسَ وَنَابُلُسَ وَعَجْلُونَ وَالْغُورَ
وَبِلَادَ غَزَّةَ وَعَسْقَلَانَ وَكَرَكَ الشَّوْبَكِ وَطَبَرِيَّةَ وَبَانِيَاسَ
وَصُورَ وَعَثْلِيثَ وَصَيْدَا وَبَيْرُوتَ وَعَكًّا وَصَفَدَ وَطَرَابُلُسَ
وَأَنْطَاكِيَةَ وَجَمِيعَ مَا وَالَى ذَلِكَ إِلَى بِلَادِ آيَاسَ وَسِيسَ،
وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى بِلَادِ آمِدَ وَالرُّهَا وَرَأْسِ الْعَيْنِ وَبِلَادٍ
شَتَّى غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَتَلُوا خَلْقًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ،
وَسَبَوْا ذَرَارِيَّ الْمُسْلِمِينَ مِنَ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ مَا لَا
يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، وَكَادُوا أَنْ يَتَغَلَّبُوا عَلَى دِمَشْقَ وَلَكِنْ
صَانَهَا اللَّهُ بِعِنَايَتِهِ وَسَلَّمَهَا بِرِعَايَتِهِ، وَحِينَ زَالَتْ
أَيَّامُهُمْ وَانْتَقَضَ إِبْرَامُهُمْ أَعَادَ اللَّهُ هَذِهِ الْبِلَادَ
كُلَّهَا إِلَى أَهْلِهَا مِنَ السَّادَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَرَدَّ اللَّهُ
الْكَفَرَةَ خَائِبِينَ، وَأَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا فِي الدُّنْيَا وَيَوْمَ
الدِّينِ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ الْمَدْعُوُّ بِعَرْقَلَةَ
أَصْبَحَ الْمُلْكُ بَعْدَ آلِ عَلِيٍّ مُشْرِقًا بِالْمُلُوكِ مِنْ آلِ شَاذِي
وَغَدَا الشَّرْقُ يَحْسُدُ الْغَرْبَ لِلْقَوْ مِ فَمِصْرٌ تَزْهُو عَلَى
بَغْدَاذِ
مَا حَوَوْهَا إِلَّا بِحَزْمٍ وَعَزْمٍ وَصَلِيلِ الْفُولَاذِ فِي الْفُولَاذِ
لَا كَفِرْعَوْنَ وَالْعَزِيزِ وَمَنْ كَا نَ بِهَا
كَالْخَطِيبِ وَالْأُسْتَاذِ
قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْنِي
بِالْأُسْتَاذِ: كَافُورَ الْإِخْشِيدِيَّ، وَقَوْلُهُ: آلُ عَلِيٍّ يَعْنِي
الْفَاطِمِيِّينَ وَلَمْ يَكُونُوا فَاطِمِيِّينَ ; وَإِنَّمَا كَانُوا
أَدْعِيَاءَ يُنْسَبُونَ إِلَى عُبَيْدٍ، وَكَانَ اسْمُهُ سَعِيدًا، وَكَانَ
يَهُودِيًّا حَدَّادًا بِسَلَمْيَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَلَامِ
الْأَئِمَّةِ فِيهِمْ وَطَعْنِهِمْ فِي نَسَبِهِمْ، قَالَ: وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ
الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي مُخْتَصَرِ تَارِيخِ دِمَشْقَ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ
الرَّحِيمِ بْنِ إِلْيَاسَ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الرَّوْضَتَيْنِ فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ قَبَائِحِهِمْ، وَمَا كَانُوا يَجْهَرُونَ
بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ مِنَ الْكُفْرِيَّاتِ وَالْمَصَائِبِ
الْمُعَظَّمَاتِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَقَدْ ذَكَرْتُ أَنَا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً
فِي غُبُونِ مَا مَشَقْتُهُ مِنْ سِيرَتِهِمْ فِي السِّنِينِ الْمُتَقَدِّمَةِ
مِمَّا يَسُدُّ الْأَسْمَاعَ وَيُنَفِّرُ الطِّبَاعَ، قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَقَدْ
أَفْرَدْتُ كِتَابًا سَمَّيْتُهُ كَشْفَ مَا كَانَ عَلَيْهِ بَنُو عُبَيْدٍ مِنَ
الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ وَالْمَكْرِ وَالْكَيْدِ، وَكَذَا صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ فِي
الرَّدِّ عَلَيْهِمْ كُتُبًا كَثِيرَةً، مِنْ أَجَلِ مَا وُضِعَ فِي ذَلِكَ:
كِتَابُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ الَّذِي سَمَّاهُ كَشْفَ
الْأَسْرَارِ وَهَتْكَ الْأَسْتَارِ
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي بَنِي أَيُّوبَ يَمْدَحُهُمْ
عَلَى مَا فَعَلُوهُ
بِدِيَارِ مِصْرَ:
أَلَسْتُمْ مُزْيَلِي دَوْلَةَ الْكُفْرِ مِنْ بَنِي عُبَيْدٍ بِمِصْرَ إِنَّ
هَذَا هُوَ الْفَضْلُ
زَنَادِقَةٌ شِيعِيَّةٌ بَاطِنِيَّةٌ مَجُوسٌ وَمَا فِي الصَّالِحِينَ لَهُمْ
أَصْلُ
يُسَرُّونَ كُفْرًا يُظْهِرُونَ تَشَيُّعًا لِيَسْتَتِرُوا شَيْئًا وَعَمَّهُمُ
الْجَهْلُ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَسْقَطَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ
الْمُكُوسَ وَالضَّرَائِبَ، وَقُرِئَ الْمَنْشُورُ بِذَلِكَ عَلَى رُءُوسِ
الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ثَالِثَ صَفَرٍ، وَفِيهَا
حَصَلَتْ نُفْرَةٌ بَيْنَ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ وَالْمَلِكِ النَّاصِرِ
صَلَاحِ الدِّينِ، وَذَلِكَ أَنَّ نُورَ الدِّينِ غَزَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ
بِلَادَ الْفِرِنْجِ فِي السَّوَاحِلِ، فَأَحَلَّ بِهِمْ بَأْسًا شَدِيدًا،
وَقَرَّرَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْهُ نِقْمَةً وَوَعِيدًا، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى
مُحَاصَرَةِ الْكَرَكِ، وَكَتَبَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ يَلْتَقِيهِ
بِالْعَسَاكِرِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى بِلَادِ الْكَرَكِ ; لِيَجْتَمِعَا هُنَالِكَ
عَلَى الْمَصَالِحِ فِيمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَتَوَهَّمَ
مِنْ ذَلِكَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ وَخَافَ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْأَمْرِ
غَائِلَةٌ يَزُولُ بِهَا مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ التَّمْكِينِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ
ذَلِكَ رَكِبَ فِي جَيْشِهِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِيَقْصِدَ امْتِثَالَ
الْمَرْسُومِ، فَسَارَ أَيَّامًا ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا مُعْتَلًّا بِقِلَّةِ
الظَّهْرِ، وَالْخَوْفِ عَلَى اخْتِلَالِ الْأُمُورِ إِذَا بَعُدَ عَنْ مِصْرَ
وَاشْتَغَلَ عَنْهَا، وَأَرْسَلَ يَعْتَذِرُ بِذَلِكَ إِلَى السُّلْطَانِ
الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِ،
وَعَزَمَ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَانْتِزَاعِهَا مِنْ
صَلَاحِ الدِّينِ، وَتَوْلِيَةِ غَيْرِهِ وَلَمَّا بَلَغَ هَذَا الْخَبَرُ صَلَاحَ
الدِّينِ ضَاقَ بِذَلِكَ ذَرْعُهُ، وَذَكَرَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْأُمَرَاءِ
وَالْكُبَرَاءِ فَبَادَرَ ابْنُ أَخِيهِ
تَقِيُّ الدِّينِ عَمَرُ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ قَصَدَنَا نُورُ الدِّينِ لَنُقَاتِلَنَّهُ، فَشَتَمَهُ الْأَمِيرُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ وَالِدُ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ وَأَسْكَتَهُ ثُمَّ قَالَ لِابْنِهِ اسْمَعْ مَا أَقُولُ لَكَ: وَاللَّهِ مَا هَاهُنَا أَحَدٌ أَشْفَقُ عَلَيْكَ مِنِّي وَمِنْ خَالِكَ هَذَا، يَعْنِي شِهَابَ الدِّينِ الْحَارِمِيَّ، وَلَوْ رَأَيْنَا نُورَ الدِّينِ لَبَادَرْنَا إِلَيْهِ وَلَقَبَّلْنَا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأُمَرَاءِ، وَلَوْ كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَبْعَثَكَ إِلَيْهِ مَعَ نَجَّابٍ لَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَمَرَ مَنْ هُنَالِكَ بِالِانْصِرَافِ وَالذَّهَابِ، فَلَمَّا خَلَا بِابْنِهِ، قَالَ لَهُ: أَمَا لَكَ عَقْلٌ ؟ تَذْكُرُ مِثْلَ هَذَا بِحَضْرَةِ هَؤُلَاءِ، فَيَقُولُ عُمْرُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فَتُقِرُّهُ عَلَيْهِ فَلَا يَبْقَى عِنْدَ نُورِ الدِّينِ أَهَمُّ مِنْ قَصْدِكَ وَقِتَالِكَ، وَلَوْ قَدْ رَآهُ هَؤُلَاءِ لَمْ يَبْقَ مَعَكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَكِنِ ابْعَثْ إِلَيْهِ، وَتَرَفَّقْ لَهُ، وَتَوَاضَعْ عِنْدَهُ، وَقُلْ لَهُ: وَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى مَجِيءِ مَوْلَانَا ؟ ابْعَثْ إِلَيَّ بِنَجَّابٍ حَتَّى أَجِيءَ مَعَهُ إِلَى بَيْنِ يَدَيْكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ نُورُ الدِّينِ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ لَانَ قَلْبُهُ لَهُ، وَانْصَرَفَتْ هِمَّتُهُ عَنْهُ، وَاشْتَغَلَ بِغَيْرِهِ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا، وَفِيهَا اتَّخَذَ نُورُ الدِّينِ الْحَمَامَ الْهَوَادِيَ ; وَذَلِكَ لِامْتِدَادِ مَمْلَكَتِهِ وَاتِّسَاعِهَا، فَإِنَّهُ مَلَكَ مِنْ حَدِّ النُّوبَةِ إِلَى هَمَذَانَ، لَا يَتَخَلَّلُهَا إِلَّا بِلَادُ الْفِرِنْجِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَكُلُّهُمْ تَحْتَ قَهْرِهِ وَهُدْنَتِهِ، فَلِذَلِكَ اتَّخَذَ فِي كُلِّ قَلْعَةٍ وَحِصْنٍ الْحَمَامَ الَّتِي تَحْمِلُ الرَّسَائِلَ إِلَى الْآفَاقِ فِي أَسْرَعِ مُدَّةٍ وَأَيْسَرِ عُدَّةٍ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ فِيهِنَّ الْقَاضِي الْفَاضِلُ: الْحَمَامُ مَلَائِكَةُ الْمُلُوكِ، وَقَدْ أَطْنَبَ فِي ذَلِكَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ وَأَطْرَبَ وَأَعْجَبَ وَأَغْرَبَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْخَشَّابِ، قَرَأَ الْقُرْآنَ
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ بِالنَّحْوِ حَتَّى سَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ
فِيهِمَا، وَشَرَحَ الْجُمَلَ لِعَبْدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيِّ، وَكَانَ
رَجُلًا صَالِحًا مُتَطَوِّعًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَدُفِنَ قَرِيبًا مِنَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَرُئِيَ فِي الْمَنَامِ
فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي وَأَدْخَلَنِي
الْجَنَّةَ إِلَّا أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنِّي وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ
تَرَكُوا الْعَمَلَ، قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ مُطَّرِحَ الْكُلْفَةِ فِي
مَأْكَلِهِ وَمَلْبَسِهِ، وَكَانَ لَا يُبَالِي بِمَنْ شَرَّقَ أَوْ غَرَّبَ
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو الْمُظَفَّرِ الْبَرُّوِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى مُحَمَّدِ
بْنِ يَحْيَى تِلْمِيذِ الْغَزَالِيِّ وَنَاظَرَ وَوَعَظَ
بِبَغْدَادَ، وَكَانَ يُظْهِرُ مَذْهَبَ الْأَشْعَرِيِّ وَيَتَكَلَّمُ فِي
الْحَنَابِلَةِ مَاتَ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا
نَاصِرُ بْنُ الْخُوَيْيِّ الصُّوفِيُّ،
كَانَ يَمْشِي فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ حَافِيًا، تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ
نَصْرُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو الْفُتُوحِ،
الْإِسْكَنْدَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ قَلَاقِسَ، الشَّاعِرُ بِعَيْذَابَ عَنْ
خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
وَالشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ يَحْيَى بْنُ سَعْدُونَ الْقُرْطُبِيُّ نَزِيلُ
الْمَوْصِلِ الْمُقْرِئُ النَّحْوِيُّ.
قَالَ: وَفِيهَا وُلِدَ الْعَزِيزُ وَالظَّاهِرُ ابْنَا صَلَاحِ الدِّينِ،
وَالْمَنْصُورُ مُحَمَّدُ بْنُ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا أَرْسَلَ نُورُ الدِّينِ إِلَى الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ، الْمُوَفَّقَ
خَالِدَ بْنَ الْقَيْسَرَانِيِّ ; لِيُقَيَّمَ حِسَابَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَلِأَنَّهُ اسْتَقَلَّ الْهَدِيَّةَ الَّتِي أَرْسَلَ إِلَيْهِ مِنْ خَزَائِنِ
الْعَاضِدِ. وَمَقْصُودُهُ أَنْ يُقَرِّرَ عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
خَرَاجًا يُحْمَلُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ.
وَفِيهَا حَاصَرَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ الْكَرَكَ وَالشُّوبَكَ، فَضَيَّقَ
عَلَى سَاكِنِيهَا وَخَرَّبَ أَمَاكِنَ كَثِيرَةً مِنْ مُعَامَلَاتِهَا، وَلَكِنْ
لَمْ يَظْفَرْ بِهَا عَامَهُ ذَلِكَ.
وَفِيهَا اجْتَمَعَتِ الْفِرِنْجُ بِالشَّامِ ; لِقَصْدِ مَدِينَةِ زُرْعَ،
فَوَصَلُوا إِلَى سُمْكِينَ، فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ نُورُ الدِّينِ، فَهَرَبُوا
مِنْهُ إِلَى الْفُوَارِ، ثُمَّ إِلَى السَّوَادِ ثُمَّ إِلَى الشِّلَالَةِ،
فَبَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى طَبَرِيَّةَ فَعَاثُوا هُنَالِكَ وَسَبَوْا وَقَتَلُوا
وَغَنِمُوا وَعَادُوا وَقَدْ سَلَّمَهُمُ اللَّهُ، وَرَجَعَتِ الْفِرِنْجُ
خَائِبِينَ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ، وَقَدِ
امْتَدَحَهُ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ بِقَصِيدَةٍ طَنَّانَةٍ
فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ.
فَتْحُ بِلَادِ النُّوبَةِ
وَفِيهَا أَرْسَلَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ أَخَاهُ شَمْسَ الدَّوْلَةِ
تُورَانْشَاهْ إِلَى بِلَادِ النُّوبَةِ فَافْتَتَحَهَا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى
مَعْقِلِهَا، وَهُوَ حِصْنٌ يُقَالُ لَهُ: إِبْرِيمُ. وَلَمَّا رَآهَا بَلَدًا
قَلِيلَةَ الْجَدْوَى لَا يَفِي خَرَاجُهَا بِكُلْفَتِهَا، اسْتَخْلَفَ عَلَى
الْحِصْنِ الْمَذْكُورِ رَجُلًا مِنَ الْأَكْرَادِ يُقَالُ لَهُ: إِبْرَاهِيمُ.
فَجَعَلَهُ مُقَدَّمًا مُقَرَّرًا بِحِصْنِ إِبْرِيمَ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكْرَادِ الْبَطَّالِينَ، فَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَحَسُنَتْ
حَالُهُمْ هُنَالِكَ وَشَنُّوا الْغَارَاتِ وَحَصَلُوا عَلَى الْغَنَائِمِ
وَالْمَسَرَّاتِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ
الصَّالِحَاتُ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْأَمِيرِ نَجْمِ الدِّينِ أَيُّوبَ وَالِدِ الْمَلِكِ
صَلَاحِ الدِّينِ، سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ فَمَاتَ وَسَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ فِي
الْوَفَيَاتِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَفِيهَا سَارَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ إِلَى بِلَادِ عِزِّ الدِّينِ قِلْجِ
أَرْسَلَانَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ قِلْجِ أَرْسَلَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ
السَّلْجُوقِيِّ، مَلِكِ الرُّومِ وَافْتَقَدَ فِي طَرِيقِهِ بِلَادَهُ،
وَأَصْلَحَ مَا وَجَدَهُ فِيهَا مِنَ الْخَلَلِ. ثُمَّ سَارَ فَافْتَتَحَ مَرْعَشَ
وَبَهَسْنَا، وَعَمِلَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْحُسْنَى.
قَالَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ الْفَقِيهُ
الْإِمَامُ الْكَبِيرُ قُطْبُ الدِّينِ
النَّيْسَابُورِيُّ، وَهُوَ فَقِيهُ عَصْرِهِ وَنَسِيجُ
وَحْدِهِ، فَسُرَّ بِهِ نُورُ الدِّينِ وَأَنْزَلَهُ بِحَلَبَ بِمَدْرَسَةِ بَابِ
الْعِرَاقِ، ثُمَّ أَطْلَعَهُ إِلَى دِمَشْقَ فَدَرَّسَ بِزَاوِيَةِ الْجَامِعِ
الْغَرْبِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالشَّيْخِ نَصْرٍ الْمَقْدِسِيِّ، وَنَزَلَ
بِمَدْرَسَةِ الْجَارُوخِيَّةِ، وَشَرَعَ نُورُ الدِّينِ فِي إِنْشَاءِ مَدْرَسَةٍ
كَبِيرَةٍ لِلشَّافِعِيَّةِ، فَأَدْرَكَهُ الْأَجَلُ قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو
شَامَةَ: هِيَ الْعَادِلِيَّةُ الْكَبِيرَةُ الَّتِي عَمَّرَهَا بَعْدَهُ
الْمَلِكُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيُّوبَ.
وَفِيهَا عَادَ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ أَبِي عَصْرُونَ مِنْ بَغْدَادَ حِينَ سَارَ
بِالْهَنَاءِ بِالْخُطْبَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَمَعَهُ تَوْقِيعٌ مِنَ الْخَلِيفَةِ بِإِقْطَاعِ دَرْبِ هَارُونَ وَصَرِيفِينَ
لِلْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ، وَقَدْ كَانَتَا قَدِيمًا لِأَبِيهِ عِمَادِ الدِّينِ
زَنْكِيٍّ، فَأَرَادَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ أَنْ يَبْنِيَ بِبَغْدَادَ
مَدْرَسَةً عَلَى دِجْلَةَ، وَيَجْعَلَ هَذَيْنَ الْمَكَانَيْنِ وَقْفًا عَلَيْهَا
فَعَاقَهُ الْقَدَرُ عَنْ ذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَفِيهَا جَرَتْ بِنَاحِيَةِ
خُوَارِزْمَ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ سُلْطَانْشَاهْ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ
تَقَصَّاهَا ابْنُ الْأَثِيرِ وَابْنُ السَّاعِي.
وَفِيهَا هَزَمَ مَلِكُ الْأَرْمَنِ مَلِيحُ بْنُ لِيُونَ عَسَاكِرَ الرُّومِ،
وَغَنِمَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَبَعَثَ إِلَى نُورِ الدِّينِ بِأَمْوَالٍ
كَثِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ، وَبِثَلَاثِينَ رَأْسًا مِنْ رُءُوسِهِمْ، فَأَرْسَلَهَا
نُورُ الدِّينِ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ
الْعَبَّاسِيِّ.
وَفِيهَا بَعَثَ صَلَاحُ الدِّينِ سَرِيَّةً صُحْبَةَ قَرَاقُوشَ مَمْلُوكِ
تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ شَاهِنْشَاهْ إِلَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ،
فَمَلَكُوا طَائِفَةً كَثِيرَةً مِنْهَا مِنْ ذَلِكَ مَدِينَةُ طَرَابُلُسَ
الْغَرْبِ وَعِدَّةَ مُدُنٍ مَعَهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِيلْدِكِزُ التُّرْكِيُّ الْأَتَابِكِيُّ
صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ وَغَيْرِهَا، كَانَ مَمْلُوكًا لِلْكَمَالِ
السُّمَيْرَمِيِّ وَزِيرِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَلَمَّا قَتَلَهُ مَحْمُودٌ
حَظِيَ إِيلْدِكِزُ هَذَا عِنْدَ السُّلْطَانِ، ثُمَّ عَلَا أَمْرُهُ وَتَمَكَّنَ
حَتَّى مَلَكَ أَذْرَبِيجَانَ وَبِلَادَ الْجَبَلِ وَغَيْرَهَا، وَكَانَ عَادِلًا
مُنْصِفًا شُجَاعًا مُحْسِنًا إِلَى الرَّعِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ، تُوُفِّيَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ.
الْأَمِيرُ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو الشُّكْرِ أَيُّوبُ بْنُ شَاذِيٍّ
وَالِدٌ لِمُلُوكِ بَنِي أَيُّوبَ، الْكُرْدِيُّ الرَّوَادِيُّ - وَهُمْ خِيَارُ
الْأَكْرَادِ - الدُّوِينِيُّ ; نِسْبَةً إِلَى دُوِينَ شَمَالِيَّ بِلَادِ
أَذْرَبِيجَانَ مِمَّا يَلِي الْكَرَجَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَيُّوبُ بْنُ
شَاذِيِّ بْنِ مَرْوَانَ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ مَرْوَانَ بْنَ يَعْقُوبَ،
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ بَعْدَ شَاذِيٍّ أَحَدٌ فِي
نَسَبِهِمْ، وَأَغْرَبَ بَعْضُهُمْ فَزَعَمَ أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ مَرْوَانَ
بْنِ مُحَمَّدٍ الْجَعْدِيِّ آخِرِ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَهَذَا لَيْسَ
بِصَحِيحٍ وَالَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ ادِّعَاءُ هَذَا هُوَ الْمَلِكُ أَبُو
الْفِدَاءِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ طُغْتِكِينَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ شَاذِيٍّ وَيُعْرَفُ
بِابْنِ سَيْفِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ مَلَكَ الْيَمَنَ بَعْدَ أَبِيهِ،
فَتَعَاظَمَ فِي نَفْسِهِ وَادَّعَى الْخِلَافَةَ، وَتَلَقَّبَ بِالْإِمَامِ
الْهَادِي بِنُورِ اللَّهِ، الْمُعِزِّ لِدِينِ اللَّهِ، أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ،
وَزَعَمَ أَنَّهُ أُمَوِيٌّ وَمَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ وَأَطْرَوْهُ وَلَهَجُوا
بِذَلِكَ، وَقَالَ هُوَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا:
وَإِنِّي أَنَا الْهَادِي الْخَلِيفَةُ وَالَّذِي أَدُوسُ
رِقَابَ الْغلْبِ بِالضُّمَّرِ الْجُرْدِ وَلَابُدَّ مِنْ بَغْدَادَ أَطْوِي
رُبُوعَهَا
وَأَنْشُرُهَا نَشْرَ السَّمَاسِرِ لِلْبُرْدِ وَأَنْصِبُ أَعْلَامِي عَلَى
شُرُفَاتِهَا
وَأُحْيِي بِهَا مَا كَانَ أَسَّسَهُ جَدِّي وَيُخْطَبُ لِي فَيْهَا عَلَى كُلِّ
مِنْبَرٍ
وَأُظْهِرُ دَينَ اللَّهِ فِي الْغَوْرِ وَالنَّجْدِ
وَهَذَا الِادِّعَاءُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَا أَصْلَ لَهُ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ،
وَلَا سَنَدَ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَمِيرَ نَجْمَ الدِّينِ كَانَ أَسَنَّ مِنْ أَخِيهِ
أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ، وُلِدَ بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ،. وَكَانَ الْأَمِيرُ
نَجْمُ الدِّينِ شُجَاعًا بَاسِلًا يَخْدِمُ الْمَلِكَ مُحَمَّدَ بْنَ
مَلِكْشَاهْ، فَرَأَى فِيهِ شَهَامَةً وَأَمَانَةً، فَوَلَّاهُ قَلْعَةَ تَكْرِيتَ
فَحَكَمَ فِيهَا فَعَدَلَ، فَكَانَ مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ، ثُمَّ أَقْطَعَهَا
الْمَلِكُ مَسْعُودٌ لِمُجَاهِدِ الدِّينِ بِهْرُوزَ شِحْنَةِ الْعِرَاقِ،
فَاسْتَمَرَّ بِهِ فِيهَا فَاجْتَازَ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ الْمَلِكُ
عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِيٌّ مُنْهَزِمًا مِنْ قُرَاجَا السَّاقِي، فَآوَاهُ
وَخَدَمَهُ خِدْمَةً تَامَّةً، وَدَاوَى جِرَاحَهُ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ خَمْسَةَ
عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى بَلَدِهِ الْمَوْصِلِ. ثُمَّ اتَّفَقَ
أَنَّ نَجْمَ الدِّينِ أَيُّوبَ عَاقَبَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا فَقَتَلَهُ،
وَقِيلَ: إِنَّمَا قَتَلَهُ أَخُوهُ أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ وَهَذَا الَّذِي
ذَكَرَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ قَالَ: رَجَعَتْ جَارِيَةٌ مِنْ بَعْضِ
الْخَدَمِ فَذَكَرَتْ أَنَّهُ تَعَرَّضَ لَهَا إِسْفَهْسَلَارُ الَّذِي بِبَابِ
الْقَلْعَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ، فَطَعْنَهُ
بِحَرْبَةٍ فَقَتَلَهُ فَحَبَسَهُ أَخُوهُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ، وَكَتَبَ
إِلَى مُجَاهِدِ الدِّينِ بِهْرُوزَ يُخْبِرُهُ بِصُورَةِ الْحَالِ، فَكَتَبَ
إِلَيْهِ يَقُولُ: إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَتْ لَهُ عَلَيَّ خِدْمَةٌ - وَكَانَ قَدِ
اسْتَنَابَهُ فِي هَذِهِ الْقَلْعَةِ قَبْلَ أَبِيهِ نَجْمِ الدِّينِ أَيُّوبَ -
وَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَسْوَءَكُمَا، وَلَكِنِ
انْتَقِلَا مِنْهَا. فَأَخْرَجَهُمَا بِهْرُوزُ مِنْ
قَلْعَتِهِ، وَفِي لَيْلَةِ خُرُوجِهِ مِنْهَا وُلِدَ لَهُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ
صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ. قَالَ: فَتَشَاءَمْتُ بِهِ ; لِفَقْدِي بَلَدِي
وَوَطَنِي، فَقَالَ لِي بَعْضُ النَّاسِ: قَدْ نَرَى مَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ
التَّشَاؤُمِ بِهَذَا الْمَوْلُودِ، فَمَا يُؤَمِّنُكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا
الْمَوْلُودُ مَلِكًا عَظِيمًا لَهُ صِيتٌ كَبِيرٌ ؟ فَكَانَ كَذَلِكَ، فَاتَّصَلَا
بِخِدْمَةِ الْمَلِكِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ، ثُمَّ كَانَا عِنْدَ ابْنِهِ
نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ الْمَلِكِ الْعَادِلِ، وَتَقَدَّمَا عِنْدَهُ وَعَظُمَا،
فَاسْتَنَابَهُ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ بِبَعْلَبَكَّ، وَلَمَّا سُلِّمَتْ
إِلَيْهِ أَقَامَ بِهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، وَوُلِدَ لَهُ بِهَا أَكْثَرُ
أَوْلَادِهِ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الْأَمْرِ، مَا ذَكَرْنَاهُ فِي دُخُولِهِ
الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، وَصَيْرُورَةِ الْأَمِيرِ نَجْمِ الدِّينِ إِلَى
ابْنِهِ بِهَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، ثُمَّ اتَّفَقَ أَنَّهُ فِي ذِي
الْحِجَّةِ سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ وَمَاتَ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ فِي
الْيَوْمِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَكَانَ ابْنُهُ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ مُحَاصِرًا لِلْكَرَكِ وَالشَّوْبَكِ،
فَلَمَّا وَصَلَهُ الْخَبَرُ تَأَلَّمَ لِعَدَمِ حُضُورِهِ ذَلِكَ وَأَرْسَلَ
يَتَحَرَّقُ ثُمَّ أَنْشَدَ يَقُولُ:
وَتَخَطَّفَتْهُ يَدُ الرَّدَى فِي غَيْبَتِي هَبْنِي حَضرْتُ فَكُنْتُ مَاذَا
أَصْنَعُ
وَقَدْ كَانَ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ،
كَرِيمَ النَّفْسِ جَوَادًا مُمَدَّحًا. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلَهُ
خَانِقَاهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَمَسْجِدٌ وَقَنَاةٌ خَارِجَ بَابِ
النَّصْرِ مِنَ الْقَاهِرَةِ وَقَفَهَا فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَلَهُ
بِدِمَشْقَ خَانِقَاهُ أَيْضًا تُعْرَفُ بِالنَّجْمِيَّةِ. وَقَدِ اسْتَنَابَهُ
ابْنُهُ عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ حِينَ خَرَجَ إِلَى الْكَرَكِ
وَحَكَّمَهُ فِي الْخَزَائِنِ، فَكَانَ مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ وَقَدِ امْتَدَحَهُ
الشُّعَرَاءُ
كَالْعِمَادِ الْكَاتِبِ وَعَرْقَلَةَ وَعُمَارَةَ
الْيَمَنِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، وَرَثَوْهُ حِينَ مَاتَ بِمَرَاثٍ كَثِيرَةٍ،
وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ مُسْتَقْصًى الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي
كِتَابِهِ " الرَّوْضَتَيْنِ ". وَلَمَّا مَاتَ دُفِنَ مَعَ أَخِيهِ
أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ بِدَارِ الْإِمَارَةِ، ثُمَّ نُقِلَا إِلَى
الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فِي سَنَةِ ثَمَانِينَ فَدُفِنَا بِتُرْبَةِ
الْوَزِيرِ جَمَالِ الدِّينِ الْمَوْصِلِيِّ، الَّذِي كَانَ مُؤَاخِيًا لِأَسَدِ
الدِّينِ شِيرَكُوهْ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ مَلِكُ
النُّحَاةِ الْحَسَنُ بْنُ صَافِيٍّ
يَزْدَنُ التُّرْكِيُّ
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ بَغْدَادَ الْمُتَحَكِّمِينَ فِي الدَّوْلَةِ،
وَلَكِنَّهُ كَانَ رَافِضِيًّا خَبِيثًا مُتَعَصِّبًا لِلرَّوَافِضِ، وَكَانُوا
فِي خِفَارَتِهِ وَجَاهِهِ حَتَّى أَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، وَدُفِنَ بِدَارِهِ، ثُمَّ نُقِلَ
إِلَى مَقَابِرِ قُرَيْشٍ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَحِينَ مَاتَ فَرِحَ أَهْلُ
السُّنَّةِ بِمَوْتِهِ، وَغَضِبَ الشِّيعَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ بِسَبَبِ ذَلِكَ
فِتْنَةٌ. وَذَكَرَ ابْنُ السَّاعِي فِي " تَارِيخِهِ " أَنَّهُ كَانَ
فِي صِغَرِهِ شَابًّا حَسَنًا مَلِيحًا، قَالَ: وَلِشَيْخِنَا أَبِي الْيُمْنِ
الْكِنْدِيِّ فِيهِ وَقَدْ رَمَدَتْ عَيْنُهُ:
بِكُلِّ صَبَاحٍ لِي وَكُلِّ عَشِيَّةٍ وُقُوفٌ عَلَى أَبْوَابِكُمْ وَسَلَامُ
وَقَدْ قِيلَ لِي يَشْكُو سَقَامًا بِعَيْنِهِ فَهَا نَحْنُ مِنْهَا نَشْتَكِي
وَنُضَامُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": إِنَّهُ سَقَطَ عِنْدَهُمْ
بَرَدٌ كِبَارٌ كَالنَّارَنْجِ، وَمِنْهُ مَا وَزْنُهُ سَبْعَةُ أَرْطَالٍ، ثُمَّ
عَقِبَ ذَلِكَ زِيَادَةٌ عَظِيمَةٌ بِدِجْلَةَ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهَا أَصْلًا،
فَخَرَّبَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْعُمْرَانِ وَالْقُرَى وَالْمَزَارِعِ حَتَّى
الْقُبُورِ، وَخَرَجَ النَّاسُ إِلَى الصَّحْرَاءِ، وَكَثُرَ الضَّجِيجُ
وَالِابْتِهَالُ فِي الدُّعَاءِ حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ،
وَتَنَاقَصَتْ زِيَادَةُ الْمَاءِ فَلِلَّهُ الْحَمْدُ رَبِّ الْأَرْضِ
وَالسَّمَاءِ، وَأَمَّا الْمَوْصِلُ فَإِنَّهُ كَانَ بِهَا نَحْوٌ مِمَّا كَانَ
بِبَغْدَادَ وَأَكْثَرُ، وَانْهَدَمَ بِالْمَاءِ نَحْوٌ مِنْ أَلْفَيْ دَارٍ ;
وَاسْتُهْدِمَ بِسَبَبِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَهَلَكَ تَحْتَ الْهَدْمِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ، وَكَذَلِكَ الْفُرَاتُ زَادَتْ زِيَادَةً عَظِيمَةً أَيْضًا، فَهَلَكَ
بِسَبَبِهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرَى، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِالْعِرَاقِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ ; وَوَقَعَ الْوَبَاءُ فِي
الْغَنَمِ، وَأُصِيبَ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِمَّنْ أَكَلَ مِنْهَا بِالْعِرَاقِ
وَغَيْرِهَا.
قَالَ ابْنُ السَّاعِي وَفِي رَمَضَانَ تَوَالَتِ الْأَمْطَارُ بِدِيَارِ بَكْرٍ
وَالْمَوْصِلِ ; أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً لَمْ يَرَوُا الشَّمْسَ فِيهَا
سِوَى مَرَّتَيْنِ ; لَحْظَتَيْنِ يَسِيرَتَيْنِ، فَتَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ
وَالْمَسَاكِنُ عَلَى أَهْلِهَا، وَزَادَتْ دِجْلَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ زِيَادَةً
عَظِيمَةً، وَغَرِقَتْ كَثِيرٌ مِنْ مَسَاكِنِ بَغْدَادَ وَالْمَوْصِلِ، ثُمَّ
تَنَاقَصَ الْمَاءُ بِإِذْنِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي رَجَبٍ وَصَلَ ابْنُ
الْهَرَوِيِّ مِنْ نُورِ الدِّينِ وَمَعَهُ ثِيَابٌ مِصْرِيَّةٌ، وَحِمَارَةٌ
مُلَوَّنَةٌ ; جِلْدُهَا مُخَطَّطٌ مِثْلُ الثَّوْبِ الْعِتَّابِيِّ. قَالَ:
وَعُزِلَ ابْنُ الشَّاشِيِّ مِنْ تَدْرِيسِ النِّظَامِيَّةِ وَوَلِيَ أَبُو
الْخَيْرِ الْقَزْوِينِيُّ. قَالَ: وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ اعْتُقِلَ
الْمُجِيرُ الْفَقِيهُ وَنُسِبَ إِلَى الزَّنْدَقَةِ وَالِانْحِلَالِ وَتَرْكِ
الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، ثُمَّ تَعَصَّبَ لَهُ أُنَاسٌ وَزَكَّوْهُ فَأُخْرِجَ.
وَذُكِرَ أَنَّهُ وَعَظَ بِالْحَرْبِيَّةِ ذَاتَ يَوْمٍ فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ
قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا.
قَالَ ابْنُ السَّاعِي وَفِيهَا سَقَطَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَضِيءِ مِنْ قُبَّةٍ شَاهِقَةٍ إِلَى الْأَرْضِ فَسَلِمَ
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَلَكِنْ نَبَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَسَاعِدُ يَدِهِ
الْيُسْرَى، وَانْسَلَخَ شَيْءٌ مِنْ أَنْفِهِ، وَكَانَ مَعَهُ خَادِمٌ أَسْوَدُ
يُقَالُ لَهُ: نَجَاحٌ. فَلَمَّا رَأَى سَيِّدَهُ قَدْ سَقَطَ أَلْقَى هُوَ
نَفْسَهُ أَيْضًا، وَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ. فَسَلِمَ
أَيْضًا، فَلَمَّا صَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ النَّاصِرِ - وَهُوَ
هَذَا الَّذِي قَدْ سَقَطَ - لَمْ يَنْسَهَا لِنَجَاحٍ هَذَا، فَحَكَّمَهُ فِي
الدَّوْلَةِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ.
وَفِيهَا سَارَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ نَحْوَ بِلَادِ الرُّومِ وَفِي
خِدْمَتِهِ الْجَيْشُ وَمَلِكُ الْأَرْمَنِ وَصَاحِبُ مَلَطْيَةَ وَخَلْقٌ مِنَ
الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، وَافْتَتَحَ عِدَّةً مِنْ حُصُونِهِمْ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ، وَحَاصَرَ قَلْعَةَ الرُّومِ فَصَالَحَهُ صَاحِبُهَا بِخَمْسِينَ
أَلْفَ دِينَارٍ ; جِزْيَةً، ثُمَّ عَادَ
إِلَى حَلَبَ وَقَدْ وَجَدَ النَّجَاحَ فِي كُلِّ مَا
طَلَبَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مَسْرُورًا مَحْبُورًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ فَتْحُ بِلَادِ الْيَمَنِ لِلْمَلِكِ صَلَاحِ
الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ
بِهَا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ النَّبِيِّ بْنُ مَهْدِيٍّ. قَدْ تَغَلَّبَ
عَلَيْهَا وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ وَتَسَمَّى بِالْإِمَامِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ
سَيَمْلِكُ الْأَرْضَ كُلَّهَا، وَقَدْ كَانَ أَخُوهُ عَلِيُّ بْنُ مَهْدِيٍّ قَدْ
تَغَلَّبَ قَبْلَهُ عَلَى الْيَمَنِ، وَانْتَزَعَهَا مِنْ أَيْدِي أَهْلِ زَبِيدَ
وَمَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ فَمَلَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ هَذَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا
كَانَ سَيِّئَ السِّيرَةِ وَالسَّرِيرَةِ، فَعَزَمَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ،
لِكَثْرَةِ جَيْشِهِ وَقُوَّتِهِ عَلَى إِرْسَالِ سَرِيَّةٍ إِلَيْهِ، وَكَانَ
أَخُوهُ الْأَكْبَرُ شَمْسُ الدَّوْلَةِ شُجَاعًا مَهِيبًا بَطَلًا، وَكَانَ
مِمَّنْ يُجَالِسُ عُمَارَةَ الْيَمَنِيَّ الشَّاعِرَ، فَكَانَ يَنْعَتُ لَهُ
بِلَادَ الْيَمَنِ وَحُسْنَهَا وَكَثْرَةَ خَيْرِهَا، فَحَدَاهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ
خَرَجَ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَوَرَدَ
مَكَّةَ - شَرَّفَهَا اللَّهُ - فَاعْتَمَرَ بِهَا ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى
زَبِيدَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَبَدُ النَّبِيِّ فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ
تُورَانْشَاهْ وَأَسَرَهُ وَأَسَرَ زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ، وَكَانَتْ ذَاتَ أَمْوَالٍ
جَزِيلَةٍ فَاسْتَقَرَّهَا عَلَى أَشْيَاءَ نَفِيسَةٍ، وَذَخَائِرَ جَلِيلَةٍ،
وَنَهَبَ الْجَيْشُ زَبِيدَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى عَدَنَ فَقَاتَلَهُ يَاسِرٌ
مَلِكُهَا فَهَزَمَهُ تُورَانْشَاهْ وَأَسَرَهُ، وَأَخَذَ الْبَلَدَ بِيَسِيرٍ
مِنَ الْحِصَارِ، وَمَنَعَ الْجَيْشَ مِنْ نَهْبِهَا، وَقَالَ: مَا جِئْنَا
لِنُخَرِّبَ الْبِلَادَ وَإِنَّمَا جِئْنَا لِعِمَارَتِهَا وَمُلْكِهَا. ثُمَّ
سَارَ فِي النَّاسِ سِيرَةً حَسَنَةً عَادِلَةً فَأَحَبُّوهُ، ثُمَّ تَسَلَّمَ
بَقِيَّةَ الْحُصُونِ وَالْمَعَاقِلِ
وَالْمَخَالِيفَ وَاسْتَوْسَقَ لَهُ مُلْكُ الْيَمَنِ
بِحَذَافِيرِهِ، وَأَلْقَى إِلَيْهِ بِأَفْلَاذِ كَبِدِهِ وَمَطَامِيرِهِ،
وَخَطَبَ فِيهَا لِلْخَلِيفَةِ الْعَبَّاسِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ
الْمُسْتَضِيءِ، وَقَتَلَ الدَّعِيَّ الْمُسَمَّى بِعَبْدِ النَّبِيِّ، وَصَفَتِ الْيَمَنُ
مِنْ أَكْدَارِهَا، وَعَادَتْ إِلَى مَا سَبَقَ مِنْ مِضْمَارِهَا، وَكَتَبَ
بِذَلِكَ إِلَى أَخِيهِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ يُخْبِرُهُ بِمَا
فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ فَكَتَبَ الْمَلِكُ صَلَاحُ
الدِّينِ بِذَلِكَ إِلَى نُورِ الدِّينِ فَأَرْسَلَ نُورُ الدِّينِ بِذَلِكَ إِلَى
الْخَلِيفَةِ يُبَشِّرُهُ بِفَتْحِ الْيَمَنِ وَالْخُطْبَةِ بِهَا لَهُ.
وَفِيهَا خَرَجَ الْمُوَفَّقُ خَالِدُ بْنُ الْقَيْسَرَانِيِّ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَقَدْ أَقَامَ بِهَا الْمَلِكُ النَّاصِرُ حِسَابَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ وَمَا خَرَجَ مِنَ الْحَوَاصِلِ حَسْبَمَا رَسَمَ بِهِ الْمَلِكُ
نُورُ الدِّينِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ كَادَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ - لَمَّا
جَاءَتْهُ الرِّسَالَةُ بِذَلِكَ - يُظْهِرُ شَقَّ الْعَصَا وَيُكَاشِرُ بِالْمُخَالَفَةِ
وَالْإِبَاءِ، وَلَكِنْ عَادَ إِلَى طِبَاعِهِ الْحَسَنَةِ وَأَظْهَرَ الطَّاعَةَ
الْمُسْتَحْسَنَةَ، وَأَمَرَ بِكِتَابَةِ الْحِسَابِ وَتَحْرِيرِ الْكِتَابِ،
فَامْتَثَلَ ذَلِكَ جَمَاعَةُ الدَّوَاوِينِ وَالْحِسَابِ وَالْكُتَّابُ وَبَعَثَ
مَعَ ابْنَ الْقَيْسَرَانِيِّ بِهَدِيَّةٍ سَنِيَّةٍ، وَتُحَفٍ هَائِلَةٍ
هَنِيَّةٍ ; فَمِنْ ذَلِكَ خَمْسُ خَتَمَاتٍ شَرِيفَاتٍ مُغَطَّاتٍ بِخُطُوطٍ
مُسْتَوَيَاتٍ، وَمِائَةُ عِقْدٍ مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَاتِ، خَارِجًا مِنْ
قِطَعِ الْبَلْخَشِ وَالْيَاقُوتِ وَالْفُصُوصِ وَالثِّيَابِ الْفَاخِرَاتِ،
وَالْأَوَانِي وَالْأَبَارِيقِ وَالصِّحَافِ الذَّهَبِيَّاتِ وَالْفِضِّيَّاتِ،
وَالْخُيُولِ وَالْغِلْمَانِ وَالْجَوَارِي الْحِسَانِ وَالْحَسَنَاتِ، وَمِنَ
الذَّهَبِ عَشَرَةُ صَنَادِيقَ مُقَفَّلَاتٍ مَخْتُومَاتٍ، مِمَّا لَا يُدْرَى
كَمْ عِدَّةُ مَا فِيهَا مِنْ مِئِينَ أُلُوفٍ مِنَ الذَّهَبِ الْمِصْرِيِّ
الْمُعَدِّ لِلنَّفَقَاتِ. فَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لَمْ تَصِلْ إِلَى الشَّامِ حَتَّى كَانَتْ وَفَاةُ
الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ مَنْ
رَدَّهَا عَلَيْهِ وَأَعَادَهَا إِلَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّ مِنْهَا مَا عُدِيَ
عَلَيْهِ وَعَلِمَ بِذَلِكَ حِينَ وُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ.
مَقْتَلُ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ زَيْدَانَ الْحَكَمِيِّ
مِنْ قَحْطَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُلَقَّبُ بِنَجْمِ الدِّينِ الْيَمَنِيِّ
الشَّاعِرُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ. وَسَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ
جَمَاعَةٌ مِنْ رُءُوسِ الدَّوْلَةِ الْفَاطِمِيَّةِ، فَكَتَبُوا إِلَى
الْفِرِنْجِ يَسْتَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِمْ، وَعَيَّنُوا خَلِيفَةً مِنْ ذُرِّيَّةِ
الْفَاطِمِيِّينَ وَوَزِيرًا وَأُمَرَاءَ، وَذَلِكَ فِي غَيْبَةِ السُّلْطَانِ
بِبِلَادِ الْكَرَكِ ثُمَّ اتَّفَقَ مَجِيئُهُ فَحَرَّضَ عُمَارَةُ الْيَمَنِيُّ
شَمْسَ الدَّوْلَةِ تُورَانْشَاهْ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْيَمَنِ ; لِيَضْعُفَ بِذَلِكَ
الْجَيْشُ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْفِرِنْجِ إِذَا قَدِمُوا لِنُصْرَةِ
الْفَاطِمِيِّينَ، فَخَرَجَ تُورَانْشَاهْ وَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ عُمَارَةُ، بَلْ
أَقَامَ بِالْقَاهِرَةِ يُفِيضُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَيُدَاخِلُ
الْمُتَكَلِّمِينَ فِيهِ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الدُّعَاةِ إِلَيْهِ
وَالْمُحَرِّضِينَ عَلَيْهِ وَقَدْ أَدْخَلُوا مَعَهُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ مَنْ
يُنْسَبُ إِلَى الْمَلِكِ النَّاصِرِ ; وَذَلِكَ مِنْ قِلَّةِ عُقُولِهِمْ
وَكَثْرَةِ جَهْلِهِمْ فَخَانَهُمْ، أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِ ; وَهُوَ الشَّيْخُ
زَيْنُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ نَجَا الْوَاعِظُ، جَاءَ إِلَى السُّلْطَانِ
فَأَخْبَرَهُ بِمَا تَمَالَأَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ، وَبِمَا انْتَهَى أَمْرُهُمْ
إِلَيْهِ، فَأَطْلَقَ لَهُ السُّلْطَانُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَأَفَاضَ عَلَيْهِ
حُلَلًا جَمِيلَةً، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُمُ السُّلْطَانُ وَاحِدًا وَاحِدًا
فَقَرَّرَهُمْ فَأَقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ، فَاعْتَقَلَهُمْ ثُمَّ اسْتَفْتَى
الْفُقَهَاءَ فِي
أَمْرِهِمْ فَأَفْتَوْهُ بِقَتْلِهِمْ وَتَبْدِيدِ
شَمْلِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِصَلْبِ رُءُوسِهِمْ وَأَعْيَانِهِمْ، دُونَ
أَتْبَاعِهِمْ وَغِلْمَانِهِمْ، وَأَمَرَ بِنَفْيِ مَنْ بَقِيَ مِنْ جَيْشِ
الْعُبَيْدِيِّينَ إِلَى أَقْصَى الْبِلَادِ، وَأَفْرَدَ ذَرِّيَّةَ الْعَاضِدِ
وَأَهْلَ بَيْتِهِ فِي دَارٍ، فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ إِصْلَاحٌ وَلَا إِفْسَادٌ
وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَرْزَاقِ كِفَايَتَهُمْ، وَقَدْ كَانَ عُمَارَةُ
مُعَادِيًا لِلْقَاضِي الْفَاضِلِ، فَلَمَّا أُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ،
قَامَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ فَاجْتَمَعَ بِالسُّلْطَانِ لِيَشْفَعَ فِيهِ عِنْدَهُ
فَتَوَهَّمَ عُمَارَةُ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ فِيهِ، فَقَالَ: يَا مَوْلَانَا
السُّلْطَانُ لَا تَسْمَعْ مِنْهُ. فَغَضِبَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ وَخَرَجَ مِنَ
الْقَصْرِ، فَقَالَ لَهُ السُّلْطَانُ: إِنَّهُ كَانَ قَدْ شَفَعَ فِيكَ. فَنَدِمَ
نَدَمًا عَظِيمًا. وَلَمَّا ذُهِبَ بِهِ لِيُصْلَبَ مَرَّ بِدَارِ الْقَاضِي
فَطَلَبَهُ فَتَغَيَّبَ عَنْهُ فَأَنْشَدَ:
عَبْدُ الرَّحِيمِ قَدِ احْتَجَبْ إِنَّ الْخَلَاصَ هُوَ الْعَجَبْ
قَالَ ابْنُ أَبِي طَيٍّ: وَكَانَ الَّذِينَ صُلِبُوا ; الْمُفَضَّلَ بْنَ
الْقَاضِي وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
كَامِلٍ قَاضِي قُضَاةِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ زَمَنَ الْفَاطِمِيِّينَ
وَيُلَقَّبُ بِفَخْرِ الْأُمَنَاءِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صُلِبَ ; فِيمَا قَالَهُ
الْعِمَادُ الْكَاتِبُ، وَقَدْ كَانَ يُنْسَبُ إِلَى فَضِيلَةٍ وَأَدَبٍ وَلَهُ
شِعْرٌ رَائِقٌ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي غُلَامٍ رَفَّاءٍ:
يَا رَافِيًا خَرْقَ كُلِّ ثَوْبٍ وَيَا رَشًا حُبُّهُ اعْتِقَادِي
عَسَى بِكَفِّ الْوِصَالِ تَرْفُو مَا مَزَّقَ الْهَجْرُ
مِنْ فُؤَادِي
وَابْنَ عَبْدِ الْقَوِيٍّ دَاعَيَ الدُّعَاةِ وَكَانَ يَعْلَمُ بِدَفَائِنِ
الْقَصْرِ فَعُوقِبَ لِيُعْلِمَ بِهَا، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَمَاتَ
وَانْدَرَسَتْ. وَالْعُورِيسَ الَّذِي كَانَ نَاظِرَ الدِّيوَانِ وَتَوَلَّى مَعَ
ذَلِكَ الْقَضَاءَ. وَشُبْرُمَا كَاتِبَ السِّرِّ. وَعَبْدَ الصَّمَدِ الْقَشَّةَ
أَحَدَ أُمَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ. وَنَجَاحًا الْحَمَّامِيَّ وَرَجُلًا
مُنَجِّمًا نَصْرَانِيًّا أَرْمَنِيًّا كَانَ قَدْ بَشَّرَهُمْ بِأَنَّ هَذَا
الْأَمْرَ يَتِمُّ بِعِلْمِ النُّجُومِ.
وَعُمَارَةَ الْيَمَنِيَّ الشَّاعِرَ
وَقَدْ كَانَ شَاعِرًا مُطَبِّقًا بَلِيغًا فَصِيحًا لَا يُلْحَقُ شَأْوُهُ فِي
هَذَا الشَّأْنِ، وَلَهُ دِيوَانٌ مَشْهُورٌ، وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي "
طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ " ; فَإِنَّهُ كَانَ يَشْتَغِلُ بِمَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ، وَلَهُ تَصْنِيفٌ فِي الْفَرَائِضِ وَكِتَابُ " الْوُزَرَاءِ
الْفَاطِمِيِّينَ " وَكِتَابٌ جَمَعَ فِيهِ سِيرَةَ نَفِيسَةَ الَّتِي كَانَ
يَعْتَقِدُهَا عَوَّامُّ مِصْرَ، وَقَدْ كَانَ أَدِيبًا فَاضِلًا فَقِيهًا
فَصِيحًا، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُنْسَبُ إِلَى مُوَالَاةِ الْفَاطِمِيِّينَ،
وَلَهُ فِيهِمْ وَفِي وُزَرَائِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ مَدَائِحُ كَثِيرَةٌ جِدًّا،
وَأَقَلُّ مَا نُسِبَ إِلَى الرَّفْضِ وَقَدِ اتُّهِمَ بَاطِنُهُ بِالْكُفْرِ
الْمَحْضِ.
وَذَكَرَ الْعِمَادُ فِي " الْخَرِيدَةِ " أَنَّهُ قَالَ فِي
قَصِيدَتِهِ الَّتِي يَقُولُ فِي أَوَّلِهَا:
الْعِلْمُ مُذْ كَانَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْعَلَمِ وَشَفْرَةُ السَّيْفِ تَسْتَغْنِي
عَنِ الْقَلَمِ
وَهِيَ طَوِيلَةٌ جِدًّا فِيهَا كُفْرٌ وَزَنْدَقَةٌ كَثِيرَةٌ، قَالَ فِيهَا:
قَدْ كَانَ أَوَّلُ هَذَا الدِّينِ مِنْ رَجُلٍ سَعَى إِلَى أَنْ دَعَوْهُ سَيِّدَ
الْأُمَمِ
قَالَ الْعِمَادُ: فَأَفْتَى عُلَمَاءُ مِصْرَ بِقَتْلِهِ،
وَحَرَّضُوا السُّلْطَانَ عَلَى الْمُثْلَةِ بِمِثْلِهِ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ هَذَا الْبَيْتُ مَعْمُولًا عَلَيْهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ
أَوْرَدَ ابْنُ السَّاعِي شَيْئًا مِنْ رَقِيقِ شِعْرِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ
يَمْدَحُ بَعْضَ الْمُلُوكِ:
مَلِكٌ إِذَا قَابَلْتُ بِشْرَ جَبِينِهِ فَارَقْتُهُ وَالْبِشْرُ فَوْقَ جَبِينِي
وَإِذَا لَثَمْتُ يَمِينَهُ وَخَرَجْتُ مِنْ أَبْوَابِهِ لَثَمَ الْمُلُوكُ
يَمِينِي
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ يَتَغَزَّلُ:
لِي فِي هَوَى الرَّشَأِ الْعُذْرِيِّ أَعْذَارُ لَمْ يَبْقَ لِي مُذْ أَقَرَّ
الدَّمْعُ إِنْكَارُ
لِي فِي الْقُدُودِ وَفِي لَثْمِ الْخُدُودِ وَفِي ضَمِّ النُّهُودِ لُبَانَاتٌ
وَأَوْطَارُ
هَذَا اخْتِيَارِي فَوَافِقْ إِنْ رَضِيتَ بِهِ أَوْ لَا فَدَعْنِي لِمَا أَهْوَى
وَأَخْتَارُ
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ تَاجُ الدَّيْنِ الْكِنْدِيُّ فِي عُمَارَةَ الْيَمَنِيِّ
حِينَ صُلِبَ:
عُمَارَةُ فِي الْإِسْلَامِ أَبْدَى خِيَانَةً وَبَايَعَ فِيهَا بَيْعَةً
وَصَلِيبَا
وَأَمْسَى شَرِيكَ الشِّرْكِ فِي بُغْضِ أَحْمَدٍ فَأَصْبَحَ فِي حُبِّ الصَّلِيبِ
صَلِيبَا
وَكَانَ خَبِيثَ الْمُلْتَقَى إِنْ عَجَمْتَهُ تَجِدْ مِنْهُ عُودًا فِي
النِّفَاقِ صَلِيبَا
سَيَلْقَى غَدًا مَا كَانَ يَسْعَى لِأَجْلِهِ وَيُسْقَى صَدِيدًا فِي لَظًى
وَصَلِيبَا
قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ: فَالْأَوَّلُ صَلِيبُ النَّصَارَى وَالثَّانِي
بِمَعْنَى
مَصْلُوبٍ وَالثَّالِثُ بِمَعْنَى الْقَوِيِّ، وَالرَّابِعُ
وَدَكُ الْعِظَامِ.
وَلَمَّا صَلَبَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ هَؤُلَاءِ - وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ
السَّبْتِ الثَّانِي مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَيْنَ
الْقَصْرَيْنِ مِنَ الْقَاهِرَةِ - كَتَبَ إِلَى الْمَلِكِنُورِ الدِّينِ
يُعْلِمُهُ بِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ وَمَا أَوْقَعَ بِهِمْ مِنَ الْخِزْيِ
وَالنَّكَالِ، قَالَ الْعِمَادُ: فَوَصَلَ الْكِتَابُ بِذَلِكَ يَوْمَ تُوُفِّيَ
الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ قَتَلَ الْمَلِكُ
صَلَاحُ الدِّينِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ يُقَالُ لَهُ:
قُدَيْدٌ الْقَفَّاصُ. قَدِ افْتَتَنَ بِهِ النَّاسُ وَجَعَلُوا لَهُ جُزْءًا مِنْ
أَكْسَابِهِمْ حَتَّى النِّسَاءُ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ فَأُحِيطَ بِهِ فَأَرَادَ
الْخَلَاصَ، وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ. فَقُتِلَ أُسْوَةً بِمَنْ سَلَفَ، وَلَقَدْ
كَانَ بِئْسَ الْخَلَفُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ
وَالْعِصْمَةُ.
وَمِمَّا وُجِدَ مِنْ شِعْرِ عُمَارَةَ يَرْثِي الْعَاضِدَ وَدَوْلَتَهُ
وَأَيَّامَهُ:
أَسَفِي عَلَى زَمَنِ الْإِمَامِ الْعَاضِدِ أَسَفُ الْعَقِيمِ عَلَى فِرَاقِ
الْوَاحِدِ
جَالَسْتُ مِنْ وُزَرَائِهِ وَصَحِبْتُ مِنْ أُمَرَائِهِ أَهْلَ الثَّنَاءِ
الَمَاجِدِ
لَهْفِي عَلَى حُجُرَاتِ قَصْرِكَ إِذْ خَلَتْ يَا ابْنَ النَّبِيِّ مِنَ
ازْدِحَامِ الْوَافِدِ
وَعَلَى انْفِرَادِكَ مِنْ عَسَاكِرِكَ الَّذِي كَانُوا كَأَمْوَاجِ الْخِضَمِّ
الرَّاكِدِ
قَلَّدْتَ مُؤْتَمِنَ الْخِلَافَةِ أَمْرَهُمْ فَكَبَا وَقَصَّرَ عَنْ صَلَاحِ
الْفَاسِدِ
فَعَسَى اللَّيَالِي أَنْ تَرُدَّ عَلَيْكُمُ مَا عَوَّدَتْكُمْ مِنْ جَمِيلِ
عَوَائِدِ
وَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ قَصِيدَةٍ:
يَا عَاذِلِي فِي هَوَى أَبْنَاءِ فَاطِمَةٍ لَكَ الْمَلَامَةُ إِنْ قَصَّرْتَ فِي
عَذْلِي
بِاللَّهِ زُرْ سَاحَةَ الْقَصْرَيْنِ وَابْكِ مَعِي عَلَيْهِمَا لَا عَلَى
صِفِّينَ وَالْجَمَلِ
وَقُلْ لِأَهْلِهِمَا وَاللَّهِ مَا الْتَحَمَتْ فَيكُمْ قُرُوحِي وَلَا جُرْحِي
بِمُنْدَمِلِ
مَاذَا تَرَى كَانَتِ الْإِفْرِنْجُ فَاعِلَةً فِي نَسْلِ آلِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلِي
وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ فِي " الرَّوْضَتَيْنِ " مِنْ
أَشْعَارِ عُمَارَةِ الْيَمَنِيِّ وَمَدَائِحِهِ فِي الْخُلَفَاءِ الْفَاطِمِيِّينَ
وَذَوِيهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَذَا الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ
ابْنُ قُرْقُولَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ بَادِيسَ ابْنِ الْقَائِدِ الْحَمْزِيِّ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ قُرْقُولَ
الْأَنْدَلُسِيُّ
صَاحِبُ كِتَابِ " مَطَالِعِ الْأَنْوَارِ " الَّذِي وَضَعَهُ عَلَى
مِثَالِ كِتَابِ " مَشَارِقِ الْأَنْوَارِ " لِلْقَاضِي عِيَاضٍ،
وَكَانَ مِنْ عُلَمَاءِ بِلَادِهِ وَفُضَلَائِهِمُ الْمَشْهُورِينَ، مَاتَ
فَجْأَةً بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ سَادِسَ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً ; قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ
فَصْلٌ فِي وَفَاةِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ نُورِ الدِّينِ
مَحْمُودِ زَنْكِيِّ بْنِ آقْ سُنْقُرَ التُّرْكِيِّ السَّلْجُوقِيِّ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ مَسِيرَتِهِ الْعَادِلَةِ وَأَيَّامِهِ
الْكَامِلَةِ
هُوَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ نُورُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودُ بْنُ
الْمَلِكِ الْأَتَابِكِ قَسِيمِ الدَّوْلَةِ عِمَادِ الدِّينِ أَبِي سَعِيدٍ
زَنْكِيٍّ، الْمُلَقَّبِ بِالشَّهِيدِ بْنِ الْمَلِكِ آقْ سُنْقُرَ الْأَتَابِكِ
الْمُلَقَّبِ بِقَسِيمِ الدَّوْلَةِ أَيْضًا التُّرْكِيُّ السَّلْجُوقِيُّ
مَوْلَاهُمْ، وُلِدَ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الْأَحَدِ السَّابِعَ
عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ بِحَلَبَ، وَنَشَأَ
فِي كَفَالَةِ وَالِدِهِ صَاحِبِ حَلَبَ وَالْمَوْصِلِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ
الْبُلْدَانِ الْكَثِيرَةِ وَتَعَلَّمَ الْفُرُوسِيَّةَ وَالرَّمْيَ، وَكَانَ
شَهْمًا شُجَاعًا ذَا هِمَّةٍ عَالِيَةٍ وَقَصْدٍ صَالِحٍ وَحُرْمَةٍ وَافِرَةٍ
وَدِيَانَةٍ مَتِينَةٍ، فَلَمَّا قُتِلَ أَبُوهُ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ
وَهُوَ مُحَاصِرٌ جَعْبَرَ كَمَا ذَكَرْنَا صَارَ الْمُلْكُ بِحَلَبَ إِلَى
ابْنِهِ هَذَا وَأَعْطَاهُ أَخُوهُ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيٌّ الْمَوْصِلَ كَمَا
تَقَدَّمَ.
ثُمَّ افْتَتَحَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ دِمَشْقَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ
وَأَرْبَعِينَ فَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِهَا وَبَنَى لَهُمُ الْمَدَارِسَ
وَالْمَسَاجِدَ وَالرُّبُطَ وَوَسَّعَ الطُّرُقَ وَالْأَسْوَاقَ، وَوَضَعَ
الْمُكُوسَ بِدَارِ الْبِطِّيخِ وَالْغَنَمِ وَالْعَرْصَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
وَكَانَ حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ يُحِبُّ الْعُلَمَاءَ وَالْفُقَرَاءَ
وَيُكْرِمُهُمْ وَيَحْتَرِمُهُمْ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، وَيَقُومُ فِي
أَحْكَامِهِ
بِالْمَعْدِلَةِ الْحَسَنَةِ وَاتِّبَاعِ الشَّرْعِ
الْمُطَهَّرِ وَيَعْقِدُ مَجَالِسَ الْعَدْلِ وَيَتَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ
وَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ الْقَاضِي وَالْفُقَهَاءُ وَالْمُفْتُونَ مِنْ سَائِرِ
الْمَذَاهِبِ، وَيَجْلِسُ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ بِالْمَسْجِدِ الْمُعَلَّقِ
الَّذِي بِالْكُشْكِ ; لِيَصِلَ إِلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَحَاطَ السُّورَ عَلَى حَارَةِ الْيَهُودِ، وَكَانَ خَرَابًا
وَأَغْلَقَ بَابَ كَيْسَانَ وَفَتَحَ بَابَ الْفَرَجِ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ
هُنَاكَ بَابٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَظْهَرَ بِبِلَادِهِ السُّنَّةَ وَأَمَاتَ
الْبِدْعَةَ، وَأَمَرَ بِالتَّأْذِينِ بِحَيِّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيِّ عَلَى
الْفَلَاحِ، وَلَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ بِهِمَا فِي دَوْلَتِي أَبِيهِ وَجَدِّهِ،
وَإِنَّمَا كَانَ يُؤَذَّنُ بِحَيِّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ ; لِأَنَّ شِعَارَ
الرَّفْضِ كَانَ ظَاهِرًا بِهَا. وَأَقَامَ الْحُدُودَ وَفَتَحَ الْحُصُونَ
وَكَسَرَ الْفِرِنْجَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَاسْتَنْقَذَ مِنْ أَيْدِيهِمْ مَعَاقِلَ
كَثِيرَةً مِنَ الْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ الَّتِي كَانُوا قَدِ اسْتَحْوَذُوا
عَلَيْهَا مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي
السِّنِينَ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي أَيَّامِهِ.
وَأَقْطَعَ أُمَرَاءَ الْعَرَبِ إِقْطَاعَاتٍ ; لِئَلَّا يَتَعَرَّضُوا
لِلْحَجِيجِ، وَبَنَى بِدِمَشْقَ مَارَسْتَانًا حَسَنًا لَمْ يُبْنَ فِي الشَّامِ
قَبْلَهُ مِثْلُهُ وَلَا بَعْدَهُ أَيْضًا، وَوَقَفَ وَقْفًا عَلَى مَنْ يُعَلِّمُ
الْأَيْتَامَ الْخَطَّ وَالْقُرْآنَ، وَجَعَلَ لَهُمْ نَفَقَةً وَكُسْوَةً وَعَلَى
مَنْ يُقْرِئُ الْأَيْتَامَ وَعَلَى الْمُجَاوِرِينَ بِالْحَرَمَيْنِ.
وَكَانَ الْجَامِعُ دَاثِرًا فَوَلَّى نَظَرَهُ الْقَاضِيَ كَمَالَ الدَّيْنِ
مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الشَّهْرُزُورِيَّ الْمَوْصِلِيَّ الَّذِي قُدِمَ
بِهِ فَوَلَّاهُ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِدِمَشْقَ فَأَصْلَحَ أُمُورَهُ وَفَتَحَ
الْمَشَاهِدَ الْأَرْبَعَةَ، وَقَدْ كَانَتْ حَوَاصِلُ الْجَامِعِ بِهَا مِنْ
حِينِ احْتَرَقَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَضَافَ إِلَى
أَوْقَافِ الْجَامِعِ الْمَعْلُومَةِ الْأَوْقَافَ الَّتِي لَا يُعْرَفُ
وَاقِفُوهَا، وَلَا يُعْرَفُ شُرُوطُهُمْ فِيهَا وَجَعَلَهَا قَلَمًا وَاحِدًا،
وَسَمَّاهُ مَالَ
الْمَصَالِحِ فَرَتَّبَ عَلَيْهِ لِذَوِي الْحَاجَاتِ
وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْأَرَامِلِ وَالْأَيْتَامِ وَمَا أَشْبَهَ
ذَلِكَ وَشَاكَلَهُ.
وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ حَسَنَ الْخَطِّ كَثِيرَ الْمُطَالَعَةِ
لِلْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ، مُتَّبِعًا لِلْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ، مُحَافِظًا
عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَاتِ، كَثِيرَ التِّلَاوَةِ مُحِبًّا لِفِعْلِ
الْخَيْرَاتِ، عَفِيفَ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، مُقْتَصِدًا فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى
نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ، وَلَمْ تُسْمَعْ
مِنْهُ كَلِمَةُ فُحْشٍ قَطُّ فِي غَضَبٍ وَلَا رِضًا.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: لَمْ يَكُنْ فِي مُلُوكِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلُ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ وَلَا أَكْثَرُ تَحَرِّيًا
لِلْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ مِنْهُ، كَانَ قَدِ اسْتَفْتَى الْعُلَمَاءَ فِي
مِقْدَارٍ يَحِلُّ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَكَانَ يَتَنَاوَلُهُ لَا يَزِيدُ
عَلَيْهِ. وَكَانَتْ لَهُ دَكَاكِينُ بِحِمْصَ قَدِ اشْتَرَاهَا مِمَّا يَخُصُّهُ
مِنَ الْمَغَانِمِ، فَزَادَ كِرَاءَهَا لِامْرَأَتِهِ عَلَى نَفَقَتِهَا حِينَ
اسْتَقَلَّتْهَا عَلَيْهَا.
وَكَانَ يُكْثِرُ اللَّعِبَ بِالْكُرَةِ، فَعَاتَبَهُ بَعْضُ الصَّالِحِينَ فِي
ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّمَا أُرِيدُ تَمْرِينَ الْخَيْلِ وَتَعْلِيمَهَا الْكَرَّ
وَالْفَرَّ. وَكَانَ لَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ، وَيَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَرَكِبَ يَوْمًا مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَالشَّمْسُ فِي ظُهُورِهِمَا،
وَظِلُّهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمَا لَا يُدْرِكَانِهِ، ثُمَّ رَجَعَا فَصَارَ
الظِّلُّ وَرَاءَهُمْ، فَسَاقَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ وَجَعَلَ يَلْتَفِتُ
وَظَلُّهُ يَتْبَعُهُ، ثُمَّ قَالَ لِصَاحِبِهِ: قَدْ شَبَّهْتُ مَا نَحْنُ فِيهِ
بِالدُّنْيَا، تَهْرُبُ مِمَّنْ
يَطْلُبُهَا وَتَطْلُبُ مَنْ يَهْرُبُ مِنْهَا. وَقَدْ
أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى:
مَثَلُ الرِّزْقِ الَّذِي تَطْلُبُهُ مَثَلُ الظِّلِّ الَّذِي يَمْشِي مَعَكْ
أَنْتَ لَا تُدْرِكُهُ مُتَّبِعًا
فَإِذَا وَلَّيْتَ عَنْهُ تَبِعَكْ
وَكَانَ فَقِيهًا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ
وَأَسْمَعَهُ وَكَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ بِاللَّيْلِ مِنْ وَقْتِ السَّحَرِ إِلَى
أَنْ يَرْكَبَ:
جَمَعَ الشَّجَاعَةَ وَالْخُشُوعَ لَدَيْهِ مَا أَحْسَنَ الْمِحْرَابَ فِي
الْمِحْرَابِ
وَكَذَلِكَ كَانَتْ زَوْجَتُهُ عِصْمَتُ الدِّينِ خَاتُونُ بِنْتُ الْأَتَابِكِ
مُعِينِ الدِّينِ أَنُرَ، تُكْثِرُ قِيَامَ اللَّيْلِ فَنَامَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ
عَنْ وِرْدِهَا فَأَصْبَحَتْ وَهِيَ غَضْبَى، فَسَأَلَهَا عَنْ أَمْرِهَا
فَذَكَرَتْ مَا حَصَلَ لَهَا مِنَ النَّوْمِ الَّذِي قَطَعَهَا عَنْ وِرْدِهَا،
فَأَمَرَ بِضَرْبِ طَبْلَخَانَةٍ فِي الْقَلْعَةِ وَقْتَ السَّحَرِ ; لِيُوقِظَهَا
وَأَمْثَالَهَا مِنَ النَّوْمِ لِقِيَامِ اللَّيْلِ:
وَأَلْبَسَ اللَّهُ هَاتِيكَ الْعِظَامَ وَإِنْ بَلِينَ تَحْتَ الثَّرَى عَفْوًا
وَغُفْرَانَا
سَقَى ثَرًى أُودِعُوهُ رَحْمَةً مَلَأَتْ مَثْوَى قُبُورِهِمُ رَوْحًا
وَرَيْحَانَا
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ الْمَلِكَ نُورَ الدِّينِ بَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا
يَلْعَبُ بِالْكُرَةِ إِذْ رَأَى رَجُلًا يُحَدِّثُ آخَرَ وَيُومِئُ إِلَيْهِ
فَبَعَثَ الْحَاجِبَ ; لِيَسْأَلَهُ مَا شَأْنُهُ فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ مَعَهُ
رَسُولٌ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ، وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ عَلَى الْمَلِكِ
نُورِ الدِّينِ حَقًّا يُرِيدُ
خَلْوَتَهُ وَإِيَّاهُ إِلَى الْقَاضِي، فَلَمَّا
أَعْلَمَهُ الْحَاجِبُ بِذَلِكَ أَلْقَى الْجُوكَانَ مِنْ يَدِهِ، وَأَقْبَلَ مَعَ
خَصْمِهِ إِلَى الْقَاضِي كَمَالِ الدِّينِ الشَّهْرُزُورِيِّ، وَقَدْ أَرْسَلَ
إِلَيْهِ مِنْ أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ أَنْ لَا تُعَامِلَنِي إِلَّا مُعَامَلَةَ
الْخُصُومِ، فَحِينَ وَصَلَا وَقَفَ نُورُ الدِّينِ مَعَ خَصْمِهِ حَتَّى
انْفَصَلَتِ الْحُكُومَةُ، وَلَمْ يَثْبُتْ لِلرَّجُلِ حَقٌّ بَلْ ثَبَتَ الْحَقُّ
لِلسُّلْطَانِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ ذَلِكَ قَالَ السُّلْطَانُ: إِنَّمَا جِئْتُ
مَعَهُ ; لِئَلَّا يَتَخَلَّفَ أَحَدٌ عَنِ الْحُضُورِ إِلَى الشَّرْعِ،
فَإِنَّمَا نَحْنُ شِحْنَكِيَّةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا
حَقَّ لَهُ عِنْدِي، وَمَعَ هَذَا أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ مَلَّكْتُهُ ذَلِكَ
وَوَهَبْتُهُ لَهُ.
وَأَرْسَلَ الْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ رَسُولًا مِنْ جِهَتِهِ يُقَالُ لَهُ:
سُوِيدٌ. لِيُحْضِرَ الْمَلِكَ نُورَ الدِّينِ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ ;
لِسَمَاعِ دَعْوَى مِنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ، فَبَلَّغَ سُوِيدٌ الرِّسَالَةَ إِلَى
الْحَاجِبِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ وَيَقُولُ: لِيَقُمِ الْمَوْلَى
إِلَى الْقَاضِي لِسَمَاعِ دَعْوًى. وَكَأَنَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِذَلِكَ، فَقَالَ
لَهُ الْمَلِكُ: وَمَا لَكَ تَسْتَهْزِئُ بِذَلِكَ! ثُمَّ قَالَ: ائْتُونِي
بِفَرَسِي. فَنَهَضَ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا
دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا [ النُّورِ: 51 ] وَذَهَبَ إِلَى الْحَاكِمِ وَكَانَ يَوْمًا مَطِرًا
كَثِيرَ الْوَحْلِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ ابْتَنَى دَارًا لِلْعَدْلِ، فَكَانَ
يَجْلِسُ فِيهَا فِي الْأُسْبُوعِ يَوْمَيْنِ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةٌ. وَقِيلَ:
خَمْسَةٌ. وَيَحْضُرُ الْقَاضِي وَالْفُقَهَاءُ مِنَ الْمَذَاهِبِ، وَلَا
يَحْجُبُهُ يَوْمئِذٍ حَاجِبٌ بَلْ يَصِلُ إِلَيْهِ الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ
فَيُكَلِّمُ النَّاسَ وَيَسْتَفْهِمُهُمْ وَيُخَاطِبُهُمْ بِنَفْسِهِ فَيَكْشِفُ
الظَّالِمَ وَيُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنَ
الظَّالِمِ، قَالَ: كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَسَدَ
الدِّينِ شِيرَكُوهْ بْنَ شَاذِيٍّ كَانَ قَدْ عَظُمَ شَأْنُهُ حَتَّى صَارَ
كَأَنَّهُ شَرِيكُهُ فِي الْمَمْلَكَةِ، وَاقْتَنَى الْأَمْلَاكَ وَالْأَمْوَالَ
وَالْمَزَارِعَ وَالْقُرَى ; فَرُبَّمَا ظَلَمَ نُوَّابُهُ جِيرَانَهُمْ فِي الْأَرَاضِي،
وَكَانَ الْقَاضِي كَمَالُ الدِّينِ يُنْصِفُ كُلَّ مَنِ اسْتَعْدَاهُ عَلَى
جَمِيعِ الْأُمَرَاءِ إِلَّا أَسَدَ الدِّينِ هَذَا، فَلَمَّا ابْتَنَى الْمَلِكُ
نُورُ الدِّينِ دَارَ الْعَدْلِ تَقَدَّمَ أَسَدُ الدِّينِ إِلَى نُوَّابِهِ أَنْ
لَا يَدَعُوَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ ظُلَامَةً، وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا، فَإِنَّ
زَوَالَ مَالِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرَاهُ نُورُ الدِّينِ بِعَيْنِ
ظَالِمٍ، أَوْ يُوقِفَهُ مَعَ خَصْمٍ مِنَ الْعَامَّةِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ،
فَلَمَّا جَلَسَ نُورُ الدِّينِ بِدَارِ الْعَدْلِ مُدَّةً مُتَطَاوِلَةً لَمْ
يَرَ أَحَدًا يَسْتَعْدِي عَلَى أَسَدِ الدِّينِ، فَسَأَلَ الْقَاضِي عَنْ ذَلِكَ
فَأَعْلَمَهُ بِصُورَةِ الْحَالِ فَسَجَدَ نُورُ الدِّينِ شُكْرًا لِلَّهِ
وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ أَصْحَابَنَا يُنْصِفُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَأُمًّا شَجَاعَتُهُ فَكَانَ يُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يُرَ عَلَى ظَهْرِ الْفَرَسِ
أَحْسَنُ وَلَا أَثْبَتُ مِنْهُ. وَكَانَ يُحْسِنُ اللَّعِبَ بِالْكُرَةِ،
وَرُبَّمَا ضَرَبَهَا ثُمَّ يَسُوقُ وَرَاءَهَا وَيَأْخُذُهَا مِنَ الْهَوَى
بِيَدِهِ، ثُمَّ يَرْمِيهَا إِلَى آخِرِ الْمَيْدَانِ وَلَمْ يُرَ جُوكَانُهُ
يَعْلُو عَلَى رَأْسِهِ، وَلَا يُرَى الْجُوكَانُ فِي يَدِهِ ; لِأَنَّ الْكُمَّ
سَاتِرٌ لَهَا، وَلَكِنَّهُ اسْتِهَانَةٌ بِلَعِبِ الْكُرَةِ.
وَكَانَ شُجَاعًا صَبُورًا فِي الْحَرْبِ، يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِهِ فِي ذَلِكَ،
وَكَانَ يَقُولُ: قَدْ تَعَرَّضْتُ لِلشَّهَادَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمْ يَتَّفِقْ
لِي ذَلِكَ. وَقَالَ لَهُ يَوْمًا الْفَقِيهُ قُطْبُ الدِّينِ النَّيْسَابُورِيُّ:
بِاللَّهِ يَا مَوْلَانَا السُّلْطَانُ لَا تُخَاطِرْ بِنَفْسِكَ ; فَإِنَّكَ لَوْ
قُتِلْتَ قُتِلَ جَمِيعُ مَنْ مَعَكَ وَأُخِذَتِ الْبِلَادُ. فَقَالَ: اسْكُتْ يَا
قُطْبَ الدِّينِ، مَنْ هُوَ
مَحْمُودٌ ؟ مَنْ كَانَ يَحْفَظُ الْبِلَادَ قَبَلِي ؟
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. قَالَ: فَبَكَى مَنْ حَضَرَ.
وَقَدْ أَسَرَ بِنَفْسِهِ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ بَعْضَ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ
فَاسْتَشَارَ الْأُمَرَاءَ فِيهِ ; هَلْ يَقْتُلُهُ أَوْ يَأْخُذُ مَا يُبْذَلُ
لَهُ مِنَ الْمَالِ فِي الْفِدَاءِ ؟ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ ثُمَّ حَسُنَ فِي
رَأْيِهِ إِطْلَاقُهُ وَأَخَذُ الْفِدَاءِ، فَحِينَ جَهَّزَ بَعْثَ الْفِدَاءِ،
مَاتَ بِبَلَدِهِ فَأَعْجَبَ ذَلِكَ نُورَ الدِّينِ وَأَصْحَابَهُ، وَابْتَنَى
نُورُ الدِّينِ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ الْبِيمَارَسْتَانَ الَّذِي بُنِيَ
بِدِمَشْقَ، وَهُوَ أَحْسَنُ مِمَّا بُنِيَ مِنَ الْبِيمَارَسْتَانَاتِ
بِالْبِلَادِ، وَمِنْ شَرْطِهِ أَنَّهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ بَعْضُ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي يَعِزُّ وُجُودُهَا إِلَّا
فِيهِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْأَغْنِيَاءُ، وَمَنْ جَاءَ مُسْتَوْصِفًا فَلَا
يُمْنَعُ مِنْ شَرَابِهِ، وَلِهَذَا جَاءَ إِلَيْهِ نُورُ الدِّينِ وَشَرِبَ مِنْ
شَرَابِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قُلْتُ: وَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّهُ لَمْ تَخْمُدْ مِنْهُ النَّارُ مُنْذُ
بُنِيَ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ بَنَى الْخَانَاتِ فِي الطُّرُقِ وَالْأَبْرَاجَ، وَرَتَّبَ الْخُفَرَاءَ
فِي الْأَمَاكِنِ الْمَخُوفَةِ، وَجَعَلَ فِيهَا الْحَمَامَ الْهَوَادِيَ الَّتِي
تُطَالِعُ الْأَخْبَارَ فِي أَسْرَعِ مُدَّةٍ، وَبَنَى الرُّبُطَ
وَالْخَانِقَاهَاتِ، وَكَانَ يَجْمَعُ الْفُقَهَاءَ عِنْدَهُ لِلْبَحْثِ،
وَالْمَشَايِخَ وَالصُّوفِيَّةَ لِلزِّيَارَةِ، وَيُكْرِمُهُمْ وَيُعَظِّمُهُمْ
وَقَدْ نَالَ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ عِنْدَهُ مِنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ ; وَهُوَ
قُطْبُ الدِّينِ النَّيْسَابُورِيُّ، فَقَالَ لَهُ نُورُ الدِّينِ: وَيْحَكَ! إِنْ
كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَلَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ الْكَثِيرَةِ مَا لَيْسَ
عِنْدَكَ مِمَّا يُكَفِّرُ عَنْهُ سَيِّئَاتِ مَا ذَكَرْتَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا،
عَلَى أَنِّي وَاللَّهِ لَا أُصَدِّقُكَ، وَإِنْ عُدْتَ ذَكَرْتَهُ أَوْ أَحَدًا
غَيْرَهُ بِسُوءٍ لَأَدَّبْتُكَ. قَالَ: فَكَفَّ عَنْهُ وَلَمْ يَذْكُرْهُ بَعْدَ
ذَلِكَ.
وَابْتَنَى بِدِمَشْقَ دَارًا لِسَمَاعِ الْحَدِيثِ
وَإِسْمَاعِهِ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ بَنَى دَارَ حَدِيثٍ،
وَقَدْ كَانَ مَهِيبًا وَقُورًا شَدِيدَ الْهَيْبَةِ فِي قُلُوبِ أُمَرَائِهِ ;
لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَمْ
يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ يَجْلِسُ بِلَا إِذْنٍ سِوَى الْأَمِيرِ نَجْمِ
الدِّينِ أَيُّوبَ ; وَأَمَّا أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ وَمَجْدُ الدِّينِ بْنُ
الدَّايَةِ نَائِبُ حَلَبَ وَالْأَكَابِرُ وَغَيْرُهُمْ فَكَانُوا يَقِفُونَ بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَمَعَ هَذَا إِذَا دَخَلَ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْفُقَرَاءِ،
قَامَ لَهُ وَمَشَى لَهُ خُطُوَاتٍ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى سَجَّادَتِهِ،
وَشَرَعَ يُحَادِثُهُ فِي وَقَارٍ وَسُكُونٍ، وَإِذَا أَعْطَى أَحَدًا مِنْهُمْ
يَقُولُ: هَؤُلَاءِ لَهُمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ حَقٌّ ; أَضْعَافُ مَا
أُعْطِيهِمْ، فَإِذَا رَضُوا مِنَّا بِبَعْضِهِ فَلَهُمُ الْمِنَّةُ عَلَيْنَا.
وَقَدْ سُمِّعَ عَلَيْهِ جُزْءُ حَدِيثٍ وَفِيهِ: " فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَقَلِّدًا السَّيْفَ ". فَجَعَلَ
يَتَعَجَّبُ مِنْ تَغْيِيرِ عَادَاتِ النَّاسِ، وَكَيْفَ يَرْبُطُ الْأَجْنَادُ
السُّيُوفَ فِي أَوْسَاطِهِمْ وَلَا يَفْعَلُونَ هَذَا، ثُمَّ أَمَرَ الْجُنْدَ
بِأَنْ لَا يَحْمِلُوا السُّيُوفَ إِلَّا مُتَقَلَّدِيهَا، ثُمَّ خَرَجَ فِي
الْيَوْمِ الثَّانِي إِلَى الْمَوْكِبِ وَهُوَ مُتَقَلِّدُ السَّيْفَ، وَجَمِيعُ
الْجَيْشِ كَذَلِكَ، يُرِيدُ بِهِ الِاقْتِدَاءَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَصَّ عَلَيْهِ وَزِيرُهُ مُوَفَّقُ الدِّينِ خَالِدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
نَصْرِ بْنِ صَغِيرِ ابْنِ الْقَيْسَرَانِيِّ الشَّاعِرُ أَنَّهُ رَأَى فِي
مَنَامِهِ أَنَّهُ يَغْسِلُ ثِيَابَ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ فَأَمَرَهُ أَنْ
يَكْتَبَ مَنَاشِيرَ بِوَضْعِ الْمُكُوسِ وَالضَّرَائِبِ عَنِ الْبِلَادِ،
وَقَالَ: هَذَا تَفْسِيرُ رُؤْيَاكَ.
وَكَتَبَ إِلَى النَّاسِ يَسْتَعْجِلُ مِنْهُمْ فِي حِلٍّ مِمَّا كَانَ أَخَذَ
مِنْهُمْ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا
صُرِفَ فِي قِتَالِ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْكَفَرَةِ،
قَبَّحَهُمُ اللَّهُ وَلَعَنَهُمْ.
وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى سَائِرِ مَمَالِكِهِ وَبُلْدَانِ سُلْطَانِهِ، وَأَمَرَ
الْوُعَّاظَ أَنْ يَسْتَحِلُّوا لَهُ مِنَ التُّجَّارِ لِنُورِ الدِّينِ، وَكَانَ
يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْعَشَّارَ الْمَكَّاسَ. وَقِيلَ:
إِنَّ بُرْهَانَ الدِّينِ الْبَلْخِيَّ أَنْكَرَ عَلَى الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ
فِي اسْتِعَانَتِهِ فِي الْحُرُوبِ بِأَمْوَالِ الْمُكُوسِ، وَقَالَ: كَيْفَ
تُنْصَرُونَ وَفِي عَسَاكِرِكُمُ الْخُمُورُ وَالطُّبُولُ وَالزَّمُورُ ؟!
وَيُقَالُ: إِنَّ سَبَبَ وَضْعِهِ الْمُكُوسَ عَنِ النَّاسِ أَنَّ الْوَاعِظَ
أَبَا عُثْمَانَ الْمُنْتَخَبَ بْنَ أَبِي مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيَّ - وَكَانَ مِنَ
الصَّالِحِينَ الْكِبَارِ - أَنْشَدَ نُورَ الدِّينِ:
مَثِّلْ وُقُوفَكَ أَيُّهَا الْمَغْرُورُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ
تَمُورُ
إِنْ قِيلَ نُورُ الدِّينِ رُحْتَ مُسَلِّمًا فَاحْذَرْ بِأَنْ تَبْقَى وَمَا لَكَ
نُورُ
أَنْهَيْتَ عَنْ شُرْبِ الْخُمُورِ وَأَنْتَ مِنْ كَأْسِ الْمَظَالِمِ طَافِحٌ
مَخْمُورُ
عَطَّلْتَ كَاسَاتِ الْمُدَامِ تَعَفُّفًا وَعَلَيْكَ كَاسَاتُ الْحَرَامِ تَدُورُ
مَاذَا تَقُولُ إِذَا نُقِلْتَ إِلَى الْبِلَى فَرْدًا وَجَاءَكَ مُنْكَرٌ
وَنَكِيرُ
وَتَعَلَّقَتْ فَيكَ الْخُصُومُ وَأَنْتَ فِي يَوْمِ الْحِسَابِ مُسَحَّبٌ
مَجْرُورُ
وَتَفَرَّقَتْ عَنْكَ الْجُنُودُ وَأَنْتَ فِي ضِيقِ اللُّحُودِ مُوَسَّدٌ
مَقْبُورُ
وَوَدِدْتَ أَنَّكَ مَا وَلِيتَ وِلَايَةً يَوْمًا وَلَا قَالَ الْأَنَامُ أَمِيرُ
وَبَقِيُتَ بَعْدَ الْعِزِّ رَهْنَ حُفَيْرَةٍ فِي عَالَمِ
الْمَوْتَى وَأَنْتَ حَقِيرُ
وَحُشِرْتَ عُرْيَانًا حَزِينًا بَاكِيًا قَلِقًا وَمَا لَكَ فِي الْأَنَامِ
مُجِيرُ
أَرَضِيتَ أَنْ تَحْيَا وَقَلْبُكَ دَارِسٌ عَافِي الْخَرَابِ وَجِسْمُكَ
الْمَعْمُورُ
أَرَضِيتَ أَنْ يَحْظَى سِوَاكَ بِقُرْبِهِ أَبَدًا وَأَنْتَ مُبَعَّدٌ مَهْجُورُ
مَهِّدْ لِنَفْسِكَ حُجَّةً تَنْجُو بِهَا يَوْمَ الْمَعَادِ لَعَلَّكَ
الْمَعْذُورُ
فَلَمَّا سَمِعَهَا الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ بَكَى وَأَمَرَ بِوَضْعِ
الْمُكُوسَاتِ وَالضَّرَائِبِ فِي سَائِرِ بِلَادِهِ
وَكَتَبَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ عُمَرُ الْمَلَّاءُ مِنَ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ قَدْ
أَمَرَ الْوُلَاةَ بِهَا أَنْ لَا يَفْصِلُوا بِهَا أَمْرًا حَتَّى يُعْلِمُوهُ،
فَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ شَيْءٍ امْتَثَلُوهُ - وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ
الزَّاهِدِينَ، وَكَانَ نُورُ الدِّينِ يَسْتَقْرِضُ مِنْهُ فِي كُلِّ شَهْرِ
رَمَضَانَ مَا يُفْطِرُ عَلَيْهِ، فَكَانَ يُرْسِلُ إِلَيْهِ بِفَتِيتٍ وَرُقَاقٍ
فَيُفْطِرُ عَلَيْهِ - كَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ الْمُفْسِدِينَ قَدْ كَثُرُوا
وَيُحْتَاجُ إِلَى نَوْعِ سِيَاسَةٍ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجِيءُ إِلَّا بِقَتْلٍ
وَصَلْبٍ وَضَرْبٍ، وَإِذَا أُخِذَ مَالُ إِنْسَانٍ فِي الْبَرِيَّةِ، مَنْ
يَجِيءُ فَيَشْهَدَ لَهُ ؟ فَكَتَبَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ عَلَى ظَهْرِ
الْكِتَابِ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ وَشَرَعَ لَهُمْ شَرِيعَةً وَهُوَ
أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ فِي الشَّرِيعَةِ زِيَادَةً فِي
الْمَصْلَحَةِ لَشَرَعَهَا، فَمَا لَنَا حَاجَةٌ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَى مَا
شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: فَجَمَعَ الشَّيْخُ عُمَرُ الْمَلَّاءُ جَمَعَ
النَّاسَ بِالْمَوْصِلِ وَأَقْرَأَهُمُ الْكِتَابَ، وَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى
كِتَابِ الزَّاهِدِ إِلَى الْمَلِكِ، وَكِتَابِ الْمَلِكِ إِلَى الزَّاهِدِ!
وَجَاءَ إِلَيْهِ أَخُو الشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ
يَسْتَعْدِيهِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ يَسُبُّهُ وَيَرْمِيهِ بِأَنَّهُ مُرَاءٍ
مُتَنَامِسٍ، وَجَعَلَ يُبَالِغُ فِي شِكَايَتِهِ مِنْهُ فَقَالَ لَهُ
السُّلْطَانُ: أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ
الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [ الْفُرْقَانِ: 63 ] فَسَكَتَ الشَّيْخُ وَلَمْ
يُحِرْ جَوَابًا.
وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو الْفَتْحِ الْأَشْتَرِيُّ مُعِيدُ النِّظَامِيَّةِ
بِبَغْدَادَ - وَكَانَ قَدْ جَمَعَ سِيرَةً مُخْتَصَرَةً لِنُورِ الدِّينِ -
قَالَ: وَكَانَ يُحَافِظُ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا فِي جَمَاعَةٍ
بِتَمَامِ شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا، وَكَانَ كَثِيرَ
الصَّلَاةِ بِاللَّيْلِ، وَالِابْتِهَالِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي
أُمُورِهِ كُلِّهَا.
قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصُّوفِيَّةِ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَى
قَوْلِهِمْ أَنَّهُمْ دَخَلُوا بِلَادَ الْقُدْسِ لِلزِّيَارَةِ أَيَّامَ
الْفِرِنْجِ، فَسَمِعَ الْكُفَّارَ يَقُولُونَ: ابْنُ الْقَسِيمِ - يَعْنُونُ
نُورَ الدِّينِ - لَهُ مَعَ اللَّهِ سِرٌّ ; فَإِنَّهُ مَا يَظْفَرُ عَلَيْنَا
بِكَثْرَةِ جُنْدِهِ وَجَيْشِهِ، وَإِنَّمَا يَظْفَرُ عَلَيْنَا بِالدُّعَاءِ
وَصَلَاةِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَيَرْفَعُ يَدَهُ إِلَى
اللَّهِ وَيَدْعُوهُ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يَسْتَجِيبُ لَهُ
دُعَاءَهُ، وَيُعْطِيهِ سُؤْلَهُ، وَمَا يَرُدُّ يَدَهُ خَائِبَةً، فَيَظْفَرُ
عَلَيْنَا. قَالَ: فَهَذَا كَلَامُ الْكُفَّارِ فِي حَقِّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَحَكَى الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَنَّ الْمَلِكَ نُورَ الدِّينِ وَقَفَ
بُسْتَانَ الْمَيْدَانِ ; - سِوَى الْغَيْضَةِ الَّتِي تَلِيهِ - نِصْفَهُ عَلَى
تَطْيِيبِ جَامِعِ دِمَشْقَ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يُقْسَمُ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا
; جُزْآنِ مِنْهَا عَلَى تَطْيِيبِ الْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا
لِلْحَنَفِيَّةِ وَالتِّسْعَةُ
أَجْزَاءٍ الْبَاقِيَةُ عَلَى تَطْيِيبِ الْمَسَاجِدِ
التِّسْعَةِ ; وَهِيَ جَامِعُ الصَّالِحِينَ بِجَبَلِ قَاسِيُونَ، وَجَامِعُ
الْقَلْعَةِ، وَمَسْجِدُ عَطِيَّةَ، وَمَسْجِدُ ابْنِ لَبِيدٍ بِالْفَسْقَارِ،
وَمَسْجِدُ الرَّمَّاحِينَ، وَالْمَسْجِدُ الْعَبَّاسِيُّ، وَالْمَسْجِدُ
الْمُعَلَّقُ بِالصَّاغَةِ، وَمَسْجِدُ دَارِ الْبِطِّيخِ الْمُعَلَّقُ،
وَالْمَسْجِدُ الَّذِي جَدَّدَهُ نُورُ الدِّينِ جِوَارَ بَيْعَةِ الْيَهُودِ،
لِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ جُزْءٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنَ
النِّصْفِ.
وَمَنَاقِبُهُ وَمَآثِرُهُ وَمَحَاسِنُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ ذَكَرْنَا
نَبْذَةً مِنْ ذَلِكَ يُسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى مَا عَدَاهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ فِي أَوَّلِ " الرَّوْضَتَيْنِ
" شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَ مَا مُدِحَ بِهِ مِنَ
الْقَصَائِدِ، وَقَدْ أَوْرَدْنَا فِي غُبُونِ دَوْلَتِهِ طَرَفًا صَالِحًا مِنْ
عَدْلِهِ وَقَصْدِهِ الصَّالِحِ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ أَسَدُ
الدِّينِ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ ثُمَّ مَاتَ، ثُمَّ تَوَلَّى صَلَاحُ
الدِّينِ، هَمَّ بِعَزْلِهِ عَنْهَا وَاسْتِنَابَةِ غَيْرِهِ فِيهَا غَيْرَ
مَرَّةٍ، وَلَكِنْ يَعُوقُهُ عَنْ ذَلِكَ الْقَدَرُ، وَيَصُدُّهُ اقْتِرَابُ
أَجْلِهِ وَفَرَاغُ عَمَلِهِ، وَلَكِنْ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - سَنَةِ
تِسْعٍ وَسِتِّينَ - وَهِيَ آخِرُ مُدَّتِهِ قَدْ صَمَّمَ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَسَاكِرَ مِنْ بِلَادِ الْمَوْصِلِ
وَغَيْرِهَا ; لِيَكُونُوا بِبِلَادِ الشَّامِ وَيَرْكَبُ هُوَ فِي جُمْهُورِ
جَيْشِهِ إِلَى مِصْرَ، وَقَدْ خَافَ مِنْهُ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ خَوْفًا
شَدِيدًا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عِيدِ الْفِطْرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ
فِي الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ الْقِبْلِيِّ وَصَلَّى بِهِ الْخَطِيبُ فِيهِ
صَلَاةَ الْعِيدِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَرَمَى الْقَبْقَ فِي
الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ
الشَّمَالِيِّ، وَالْقَدَرُ يَقُولُ لَهُ: هَذَا آخِرُ
الْأَعْيَادِ. وَمَدَّ يَوْمَ الْعِيدِ سِمَاطًا حَافِلًا، وَأَمَرَ
بِانْتِهَابِهِ عَلَى الْعَادَةِ، وَطَهَّرَ وَلَدَهُ الْمَلِكَ الصَّالِحَ
إِسْمَاعِيلَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَزُيِّنَ لَهُ الْبَلَدُ، وَضُرِبَتِ
الْبَشَائِرُ لِلْعِيدِ وَلِلْخِتَانِ، وَرَكِبَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي
الْمَوْكِبِ عَلَى الْعَادَةِ، ثُمَّ لَعِبَ بِالْكُرَةِ فِي يَوْمِهِ ; فَحَصَلَ
لَهُ غَيْظٌ مِنْ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ سَجِيَّتِهِ
فَبَادَرَ إِلَى الْقَلْعَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي غَايَةِ الْغَضَبِ وَحَصَلَ لَهُ
انْزِعَاجٌ، وَدَخَلَ فِي حَيْرَةِ سُوءِ الْمِزَاجِ وَاشْتَغَلَ بِنَفْسِهِ
وَانْزِعَاجِهِ، وَتَنَكَّرَتْ عَلَيْهِ جَمِيعُ حَوَاسِّهِ وَطِبَاعِهِ،
وَاحْتَبَسَ أُسْبُوعًا عَنِ النَّاسِ، وَالنَّاسُ فِي شُغْلٍ عَنْهُ بِمَا هُمْ
فِيهِ مِنَ اللَّعِبِ وَالِانْشِرَاحِ بِالزِّينَةِ الَّتِي قَدْ نَصَبُوهَا،
فَهَذَا يَجُودُ بِرُوحِهِ وَهَذَا يَرُوحُ بِجُودِهِ، وَانْعَكَسَتْ تِلْكَ
الْأَفْرَاحُ بِالْأَتْرَاحِ، وَنَسَخَ الْجِدُّ ذَلِكَ الْمِزَاحَ، وَحَصَلَتْ
لِلْمَلِكِ خَوَانِيقُ فِي حَلْقِهِ مَنَعَتْهُ مِنْ أَدَاءِ النُّطْقِ، وَهَذَا
شَأْنُ أَوْجَاعِ الْحَنَقِ، وَكَانَ قَدْ أُشِيرَ عَلَيْهِ بِالْفَصْدِ فَلَمْ
يَفْعَلْ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي
الْكِتَابِ مَسْطُورًا.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ قُبِضَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ
سَنَةً، وَلَهُ فِي الْمُلْكِ ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
بِجَامِعِ الْقَلْعَةِ بِدِمَشْقَ، وَدُفِنَ بِهَا حَتَّى حُوِّلَ إِلَى تُرْبَةٍ
بُنِيَتْ لَهُ بِبَابِ الْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا لِلْحَنَفِيَّةِ
رَحِمَهُ اللَّهُ، وَبَلَّ بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ، وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ.
وَقَدْ رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ بِمَرَاثٍ كَثِيرَةٍ قَدْ أَوْرَدَهَا أَبُو شَامَةَ
فِي " الرَّوْضَتَيْنِ ". وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الْعِمَادُ:
عَجِبْتُ مِنَ الْمَوْتِ كَيْفَ اهْتَدَى إِلَى مَلِكٍ فِي
سَجَايَا مَلَكْ
وَكَيْفَ ثَوَى الْفَلَكُ الْمُسْتَدِي رُ فِي الْأَرْضِ وَالْأَرْضُ وَسْطَ
الْفَلَكْ
وَقَالَ حَسَّانُ الشَّاعِرُ الْمُلَقَّبُ بِالْعَرْقَلَةِ فِي مَدْرَسَةِ نُورِ
الدِّينِ حِينَ دُفِنَ فِيهَا:
وَمَدْرَسَةٍ سَيَدْرُسُ كُلُّ شَيْءٍ وَتَبْقَى فِي حِمَى عِلْمٍ وَنُسْكِ
تَضَوَّعَ ذِكْرُهَا شَرْقًا وَغَرْبًا بِنُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِي
يَقُولُ وَقَوْلُهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ بِغَيْرِ كِنَايَةٍ وَبِغَيْرِ شَكِّ
دِمَشْقٌ فِي الْمَدَائِنِ بَيْتُ مُلْكِي وَهَذِي فِي الْمَدَارِسِ بَيْتُ
مِلْكِي
وَقَبْرُهُ مَشْهُورٌ بِدِمَشْقَ يُزَارُ وَيُخَلَّقُ شُبَّاكُهُ، فَيَطِيبُ
بِرِيحِهِ كُلُّ مَارٍّ، وَإِنَّمَا يَقُولُ النَّاسُ: نُورُ الدِّينِ الشَّهِيدُ
لِمَا حَصَلَ لَهُ فِي حَلْقِهِ مِنَ الْخَوَانِيقِ، وَكَذَا كَانَ يُقَالُ
لِأَبِيهِ: الشَّهِيدُ. وَيُلَقَّبُ بِالْقَسِيمِ، وَكَانَتِ الْفِرِنْجُ
يَقُولُونَ لَهُ: ابْنُ الْقَسِيمِ.
صِفَةُ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى
كَانَ طَوِيلَ الْقَامَةِ، أَسْمَرَ اللَّوْنِ، حُلْوَ الْعَيْنَيْنِ، وَاسِعَ
الْجَبِينِ، حَسَنَ الصُّورَةِ، تُرْكِيَّ الشَّكْلِ، لَيْسَ لَهُ لِحْيَةٌ إِلَّا
فِي حَنَكِهِ، مَهِيبًا مُتَوَاضِعًا عَلَيْهِ جَلَالَةُ وَنُورُ الْإِسْلَامِ،
وَتَعْظِيمُ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
فَصْلٌ
فَلَمَّا مَاتَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
بُويِعَ مِنْ بَعْدِهِ بِالْمُلْكِ لِوَلَدِهِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ، وَكَانَ
صَغِيرًا، وَجَعَلَ أَتَابِكَهُ الْأَمِيرَ شَمْسَ الدِّينِ بْنَ مُقَدَّمٍ،
فَاخْتَلَفَ الْأُمَرَاءُ، وَحَارَتِ الْآرَاءُ، وَظَهَرَتِ الشُّرُورُ،
وَكَثُرَتِ الْخُمُورُ، وَانْتَشَرَتِ الْفَوَاحِشُ حَتَّى إِنَّ ابْنَ أَخِيهِ
سَيْفَ الدِّينِ غَازِيَّ بْنَ مَوْدُودٍ صَاحِبَ الْمَوْصِلِ لَمَّا تَحَقَّقَ
مَوْتَ عَمِّهِ - وَكَانَ مَحْصُورًا مِنْهُ - نَادَى مُنَادِيهِ بِالْبَلَدِ
بِالْمُسَامَحَةِ فِي اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَالشَّرَابِ وَالطَّرَبِ، وَمَعَ
الْمُنَادِي دُفٌّ وَقَدَحٌ وَمِزْمَارٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَقَدْ كَانَ ابْنُ أَخِيهِ هَذَا وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ
الَّذِينَ لَهُ حُكْمٌ عَلَيْهِمْ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَفْعَلَ
شَيْئًا مِنَ الْمُنَاكِرِ وَالْفَوَاحِشِ، فَلَمَّا مَاتَ مَرَجَ أَمْرُهُمْ
وَعَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَتَحَقَّقَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَا فَاسْقِنِي خَمْرًا وَقُلْ لِي هِيَ الْخَمْرُ وَلَا تَسْقِنِي سِرًّا إِذَا
أَمْكَنَ الْجَهْرُ
وَطَمِعَتِ الْأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَعَزَمَ
الْفِرِنْجُ عَلَى قَصْدِ دِمَشْقَ وَانْتِزَاعِهَا مِنْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ،
فَبَرَزَ إِلَيْهِمُ ابْنُ مُقَدِّمِ الْأَتَابِكِ فَوَاقَعَهُمْ عِنْدَ
بَانِيَاسَ، فَضَعُفَ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ فَهَادَنَهُمْ مُدَّةً، وَدَفَعَ
إِلَيْهِمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً عَجَّلَهَا لَهُمْ، وَلَوْلَا أَنَّهُ خَوَّفَهُمْ
بِقُدُومِ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ لَمَا هَادَنُوهُ. وَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ
السُّلْطَانَ الْمَلِكَ صَلَاحَ الدِّينِ بْنَ أَيُّوبَ صَاحِبَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ كَتَبَ إِلَى الْأُمَرَاءِ - وَخَاصَّةً ابْنَ مُقَدَّمٍ -
يَلُومُهُمْ عَلَى مَا صَنَعُوا مِنَ الْمُهَادَنَةِ وَدَفْعِ
الْأَمْوَالِ إِلَى الْفِرِنْجِ، وَهُمْ أَقَلُّ وَأَذَلُّ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ عَزَمَ عَلَى قَصْدِ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ لِيَحْفَظَهَا مِنَ الْفِرِنْجِ فَرَدُّوا إِلَيْهِ كِتَابًا فِيهِ غِلْظَةٌ، وَكَلَامٌ فِيهِ بَشَاعَةٌ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ. وَمِنْ شِدَّةِ خَوْفِهِمْ مِنْهُ كَتَبُوا إِلَى سَيْفِ الدِّينِ غَازِيٍّ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ لِيُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ ; لِيَدْفَعُوا بِهِ الْمَلِكَ النَّاصِرَ صَاحِبَ مِصْرَ فَلَمْ يَفْعَلْ ; لِأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُونَ مَكِيدَةً مِنْهُمْ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ هَرَبَ مِنْهُ الطَّوَاشِيُّ سَعْدُ الدَّوْلَةِ كُمُشْتِكِينَ الَّذِي كَانَ قَدْ جَعَلَهُ عِنْدَهُ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ عَيْنًا عَلَيْهِ وَحَافِظًا لَهُ مِنْ تَعَاطِي مَا لَا يَلِيقُ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْخَمْرِ وَاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، فَلَمَّا مَاتَ نُورُ الدِّينِ وَنَادَى فِي الْمَوْصِلِ تِلْكَ الْمُنَادَاةَ الْقَبِيحَةَ خَافَ مِنْهُ الطَّوَاشِيُّ الْمَذْكُورُ أَنْ يُمْسِكَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ سِرًّا، فَحِينَ تَحَقَّقَ غَازِيٌّ مَوْتَ عَمِّهِ تَعِبَ فِي طَلَبِ الْخَادِمِ فَفَاتَهُ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى حَوَاصِلِهِ وَدَخَلَ الطَّوَاشِيُّ حَلَبَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى دِمَشْقَ فَاتَّفَقَ مَعَ الْأُمَرَاءِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ ابْنَ أُسْتَاذِهِ الْمَلِكَ الصَّالِحَ إِسْمَاعِيلَ إِلَى حَلَبَ، فَيُرَبِّيَهُ هُنَالِكَ وَتَكُونَ دِمَشْقُ مُسَلَّمَةً إِلَى الْأَتَابِكِ شَمْسِ الدَّوْلَةِ بْنِ مُقَدَّمٍ وَالْقَلْعَةُ إِلَى الطَّوَاشِيِّ جَمَالِ الدِّينِ رَيْحَانٍ. فَلَمَّا سَارَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ مِنْ دِمَشْقَ، خَرَجَ مَعَهُ الْأُمَرَاءُ وَالْكُبَرَاءُ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى حَلَبَ وَذَلِكَ فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَحِينَ وَصَلُوا حَلَبَ جَلَسَ الصَّبِيُّ عَلَى سَرِيرِ مَمْلَكَتِهَا وَاحْتَاطُوا عَلَى بَنِي الدَّايَةِ ; شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الدَّايَةِ - أَخُو مَجْدِ الدِّينِ الَّذِي كَانَ رَضِيعَ نُورِ الدِّينِ - وَإِخْوَتِهِ الثَّلَاثَةِ، وَقَدْ كَانَ شَمْسُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ الدَّايَةِ يَظُنُّ أَنَّ ابْنَ نُورِ الدِّينِ يُسَلَّمُ إِلَيْهِ فَيُرَبِّيهِ ; لِأَنَّهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِذَلِكَ، فَخَيَّبُوا ظَنَّهُ وَسَجَنُوهُ وَإِخْوَتَهُ فِي الْجُبِّ، فَكَتَبَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى الْأُمَرَاءِ يَلُومُهُمْ عَلَى نَقْلِ الْوَلَدِ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى حَلَبَ وَمِنْ سَجْنِهِمْ لِبَنِي الدَّايَةِ، وَقَدْ كَانُوا مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ وَرُءُوسِ الْكُبَرَاءِ، وَلِمَ لَا يُسَلِّمُونَ الْوَلَدَ إِلَى مَجْدِ الدِّينِ بْنِ الدَّايَةِ الَّذِي هُوَ أَحْظَى
النَّاسِ عِنْدَ نُورِ الدِّينِ وَعِنْدَ النَّاسِ مِنْهُمْ
؟! فَكَتَبُوا إِلَيْهِ يُسِيئُونَ عَلَيْهِ الْأَدَبَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا
يَزِيدُهُ حَنَقًا عَلَيْهِمْ، وَيُحَرِّضُهُ عَلَى الْقُدُومِ بِجَيْشِهِ
إِلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ فِي شُغْلٍ شَاغِلٍ لِمَا دَهَمَ
بِلَادَهُ مِنَ الْأَمْرِ الْهَائِلِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الْآتِيَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْمَشَاهِيرِ:
الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَطَّارُ
أَبُو الْعَلَاءِ الْهَمَذَانِيُّ الْحَافِظُ
سَمِعَ الْكَثِيرَ وَرَحَلَ إِلَى بُلْدَانٍ كَثِيرَةٍ اجْتَمَعَ، بِالْمَشَايِخِ
وَقَدِمَ بَغْدَادَ وَحَصَّلَ الْكُتُبَ الْكَثِيرَةَ، وَاشْتَغَلَ بِعِلْمِ
الْقِرَاءَاتِ وَاللُّغَةِ حَتَّى صَارَ أَوْحَدَ زَمَانِهِ فِي عِلْمَيِ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَصَنَّفَ الْكُتُبَ الْكَثِيرَةَ الْمُفِيدَةَ، وَكَانَ
عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ مَرْضِيَّ الطَّرِيقَةِ، سَخِيًّا عَابِدًا زَاهِدًا،
صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ، حَسَنَ السَّمْتِ، لَهُ بِبَلَدِهِ الْمَكَانَةُ
وَالْقَبُولُ التَّامُّ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ الْحَادِي
عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ
الثَّمَانِينَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَأَيَّامٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:
وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ رُئِيَ فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ فِي مَدِينَةٍ جَمِيعُ
جُدْرَانِهَا كُتُبٌ وَحَوْلَهُ كُتُبٌ لَا تُحَدُّ، وَهُوَ مُشْتَغِلٌ
بِمُطَالَعَتِهَا فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا ؟ فَقَالَ سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ
يَشْغَلَنِي بِمَا كُنْتُ أَشْتَغِلُ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَأَعْطَانِي.
الْأَهْوَازِيُّ
خَازِنُ كُتُبِ مَشْهَدِ أَبِي حَنِيفَةَ بِبَغْدَادَ، تُوُفِّيَ فَجْأَةً فِي
رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَذَلِكَ تُوُفِّيَ
أَبُوهُ وَأَخُوهُ فَجْأَةً كَمَا مَاتَ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيِّ بْنِ آقْ سُنْقُرَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ
نُورُ الدِّينِ
صَاحِبُ بِلَادِ الشَّامِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبُلْدَانِ الْكَثِيرَةِ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي ذِكْرِ الْحَوَادِثِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: انْتَزَعَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ
مَدِينَةً، وَقَدْ كَانَ يُكَاتِبُنِي وَأُكَاتِبُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ: وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى الْأُمَرَاءِ مِنْ
بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ - يَعْنِي الصَّالِحَ إِسْمَاعِيلَ - وَجَدَّدَ الْعَهْدَ
مَعَ صَاحِبِ طَرَابُلُسَ أَنْ لَا يُغِيرَ عَلَى الشَّامِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي
كَانَ مَادَّهُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَسَرَهُ فِي بَعْضِ
غَزَوَاتِهِ وَأَسَرَ مَعَهُ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ دَوْلَتِهِ، فَافْتَدَى
نَفْسَهُ مِنْهُ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَخَمْسِمِائَةِ حِصَانٍ
وَخَمْسِمِائَةِ زَرَدِيَّةٍ وَمِثْلُهَا أَتْرَاسٌ وَقَنْطُورِيَّاتٌ
وَخَمْسِمِائَةِ أَسِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَاهَدَهُ أَنْ لَا يُغِيرَ عَلَى
بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مُدَّةِ سَبْعِ سِنِينَ وَسَبْعَةِ أَشْهُرٍ
وَسَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَأَخَذَ مِنْهُ رَهَائِنَ عَلَى ذَلِكَ ; مِائَةً مِنْ أَوْلَادِ
أَكَابِرِ الْفِرِنْجِ وَبَطَارِقَتِهِمْ فَإِنْ نَكَثَ أَرَاقَ دِمَاءَهُمْ،
وَكَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَرَّفَهُ اللَّهُ
فَوَافَتْهُ الْمَنِيَّةُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَكَانَتْ
وِلَايَتُهُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
وَهَذَا مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَمَعْنَاهُ.
الْخَضِرُ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَقِيلِ
بْنِ نَصْرٍ، الْإِرْبِلِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، أَوَّلُ مَنْ دَرَّسَ
بِإِرْبِلَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ فَاضِلًا
دَيِّنًا انْتَفَعَ بِهِ النَّاسُ وَكَانَ قَدِ اشْتَغَلَ عَلَى إِلِكْيَا
الْهَرَّاسِيِّ وَغَيْرِهِ بِبَغْدَادَ وَقَدِمَ دِمَشْقَ، فَأَرَّخَهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ وَتَرْجَمَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفِيَّاتِ
"، وَقَالَ: قَبْرُهُ يُزَارُ، وَقَدْ زُرْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا هَلَكَ مَلِكُ الْفِرِنْجِ مُرِّيٌّ لَعَنَهُ اللَّهُ وَأَظُنُّهُ مَلَكَ
عَسْقَلَانَ وَنَحْوَهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَقَدْ كَانَ قَارَبَ أَنْ يَمْلِكَ
الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ بِعِبَادِهِ
الْمُؤْمِنِينَ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ
اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالسُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَلَاحُ
الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ قَدْ عَزَمَ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى بِلَادِ
الشَّامِ ; لِأَجْلِ حِفْظِهِ مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ الْمَخْذُولِ، وَلَكِنْ
قَدْ دَهَمَهُ أَمْرٌ شَغَلَهُ عَنْهُ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْفِرِنْجَ قَدِمُوا
إِلَى السَّاحِلِ الْمِصْرِيِّ فِي أُسْطُولٍ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ ; فِي
كَثْرَةِ مَرَاكِبِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ آلَاتِ الْحِصَارِ، وَكَثْرَةِ الرِّجَالِ
وَالْمُقَاتِلَةِ ; مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مِائَتَا شِينِيٍّ فِي كُلٍّ مِنْهَا
مِائَةٌ وَخَمْسُونَ مُقَاتِلًا وَأَرْبَعُمِائَةِ قِطْعَةٍ أُخْرَى، وَكَانَ
قُدُومُهُمْ مِنْ صِقِلِّيَةَ إِلَى ظَاهِرِ إِسْكَنْدَرِيَّةَ قَبْلَ رَأْسِ
السَّنَةِ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، فَنَصَبُوا الْمَنْجَنِيقَاتِ وَالدَّبَّابَاتِ
حَوْلَ الْبَلَدِ، وَبَرَزَ إِلَيْهِمْ أَهْلُهَا فَقَاتَلُوهُمْ دُونَهَا
قِتَالًا شَدِيدًا، وَاسْتَمَرَّ الْقِتَالُ أَيَّامًا، وَقُتِلَ مِنْ كِلَا
الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ اتَّفَقَ أَهْلُ الْبَلَدِ عَلَى تَحْرِيقِ
مَا نَصَبُوهُ مِنَ الْمَنْجَنِيقَاتِ وَالدَّبَّابَاتِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ
فَأَضْعَفَ ذَلِكَ قُلُوبَ الْفِرِنْجِ، ثُمَّ كَبَسَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي
مَنَازِلِهِمْ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً وَغَنِمُوا مِنْهُمْ مَا أَرَادُوا
فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَلْجَأٌ إِلَّا
الْبَحْرُ أَوِ الْقَتْلُ أَوِ الْأَسْرُ، وَاسْتَحْوَذَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
أَمْوَالِهِمْ وَأَثْقَالِهِمْ وَخُيُولِهِمْ وَخِيَامِهِمْ - وَبِالْجُمْلَةِ
قَتَلُوا خَلْقًا مِنَ الرِّجَالِ وَغَنِمُوا شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ
- وَرَكِبَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ فِي الْأُسْطُولِ رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ
خَائِبِينَ.
وَمِمَّا عَوَّقَ الْمَلِكَ النَّاصِرَ عَنِ الشَّامِ أَيْضًا، أَنَّ رَجُلًا
يُعْرَفُ بِالْكَنْزِ - سَمَّاهُ
بَعْضُهُمْ عَبَّاسَ بْنَ شَادِيٍّ - وَكَانَ مِنْ
مُقَدِّمِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمِنَ الدَّوْلَةِ الْفَاطِمِيَّةِ -
وَإِنَّمَا هِيَ الْعُبَيْدِيَّةُ - كَانَ قَدِ انْتَزَحَ إِلَى أَسْوَانَ،
وَجَعَلَ يَجْمَعُ عَلَيْهِ النَّاسَ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ
الرَّعَاعِ مِنَ الْحَاضِرَةِ وَالْعُرْبَانِ، وَكَانَ يَزْعُمُ لَهُمْ أَنَّهُ
سَيُعِيدُ الدَّوْلَةَ الْفَاطِمِيَّةَ وَيَدْحَضُ الْأَتَابِكَةَ التُّرْكِيَّةَ
فَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، ثُمَّ قَصَدَ قُوصَ
وَأَعْمَالَهَا، وَقَتَلَ طَائِفَةً مِنْ أُمَرَائِهَا وَرِجَالِهَا، فَجَرَّدَ
إِلَيْهِ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ طَائِفَةً مِنَ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ،
وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَخَاهُ الْمَلِكَ الْعَادِلَ سَيْفَ الدِّينِ أَبَا بَكْرٍ
الْكُرْدِيَّ، فَلَمَّا الْتَقَيَا هَزَمَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَأَسَرَ أَهْلَهُ
وَقَتَلَهُ كَمَا جَرَى لِمُقَدَّمِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ
دَوْلَةَ بَنِي أَيُّوبَ عَالِيَةً مَنِيفَةً.
فَصْلٌ
لَمَّا تَمَهَّدَتِ الدِّيَارُ الْمِصْرِيَّةُ، وَلَمْ يَبْقَ بِهَا رَأْسٌ مِنْ
بَقِيَّةِ الدَّوْلَةِ الْعُبَيْدِيَّةِ، بَرَزَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ
النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ فِي الْجُيُوشِ التُّرْكِيَّةِ قَاصِدًا
الْبِلَادَ الشَّامِيَّةَ وَذَلِكَ حِينَ مَاتَ سُلْطَانُهَا نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ
بْنُ زَنْكِيِّ وَأُخِيفَ سُكَّانُهَا وَتَضَعْضَعَتْ أَرْكَانُهَا، وَاخْتَلَفَ
حُكَّامُهَا وَفَسَدَ نَقْضُهَا وَإِبْرَامُهَا، وَقَصْدُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ
جَمْعُ شَمْلِهَا وَالْإِحْسَانُ إِلَى أَهْلِهَا وَأَمْنُ سَهْلِهَا وَجَبَلِهَا
وَنُصْرَةُ الْإِسْلَامِ وَدَفْعُ الطَّغَامِ وَإِظْهَارُ الْقُرَآنِ وَإِخْفَاءُ
سَائِرِ الْأَدْيَانِ وَتَكْسِيرُ الصُّلْبَانِ وَرِضَا الرَّحْمَنِ وَإِرْغَامُ
الشَّيْطَانِ فَخَرَجَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى الْبِرْكَةِ فِي
مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ، وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْعَسْكَرُ،
وَقَدِ اسْتَنَابَ عَلَى مِصْرَ أَخَاهُ سَيْفَ الدِّينِ أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ
سَارَ إِلَى بِلْبِيسَ فِي الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، ثُمَّ سَاقَ حَتَّى اجْتَازَ بِمَدِينَةِ
بُصْرَى فَسَارَ فِي خِدْمَتِهِ صَاحِبُهَا صِدِّيقُ بْنُ جَاوْلِي، فَدَخَلَ
مَدِينَةَ دِمَشْقَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَلْخَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَلَمْ
يَنْتَطِحْ فِيهَا عَنْزَانِ، وَلَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ سَيْفَانِ ; وَذَلِكَ
أَنَّ نَائِبَهَا شَمْسَ الدِّينِ بْنَ مُقَدَّمٍ، كَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ
أَوَّلًا فَأَغْلَظَ لَهُ فِي الْكِتَابِ، فَلَمَّا رَأَى أَمْرَهُ مُتَوَجِّهًا
جَعَلَ يُكَاتِبُهُ وَيَسْتَحِثُّهُ عَلَى الْقُدُومِ إِلَى دِمَشْقَ وَيَعِدُهُ
بِتَسْلِيمِ الْبَلَدِ، فَلَمَّا رَأَى الْجِدَّ لَمْ يُمْكِنْهُ الْمُخَالَفَةُ
فَسَلَّمَ الْبَلَدَ إِلَيْهِ بِلَا مُدَافَعَةٍ فَنَزَلَ السُّلْطَانُ أَوَّلًا
فِي دَارِ وَالِدِهِ ; وَهِيَ دَارُ الْعَقِيقِيِّ الَّتِي بُنِيَتْ مَدْرَسَةً
لِلْمَلِكِ الظَّاهِرِ، وَجَاءَ الْقَاضِي وَأَعْيَانُ الدَّمَاشِقَةِ لِلسَّلَامِ
عَلَى السُّلْطَانِ فَرَأَوْا مِنْهُ غَايَةَ الْإِحْسَانِ، وَكَانَ فِي
الْقَلْعَةِ إِذْ ذَاكَ الطَّوَاشِيُّ جَمَالُ الدِّينِ رَيْحَانٌ الْخَادِمُ،
فَلَمْ يَزَلْ يُكَاتِبُهُ وَيَفْتِلُ لَهُ فِي الذُّرْوَةِ وَالْغَارِبِ حَتَّى
اسْتَمَالَهُ وَأَجْزَلَ ثَوَابَهُ فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، وَوَفَدَ عَلَيْهِ،
وَمَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ،
وَأَظْهَرَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ أَنَّهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِتَرْبِيَةِ وَلَدِ
نُورِ الدِّينِ ; لِمَا لِنُورِ الدِّينِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِحْسَانِ
الْمَتِينِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ خَطَبَ لِنُورِ الدِّينِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَضَرَبَ بِاسْمِهِ السِّكَّةَ، ثُمَّ عَامَلَ النَّاسَ
بِالْإِحْسَانِ وَأَمَرَ بِإِبْطَالِ مَا أُحْدِثَ بَعْدَ نُورِ الدِّينِ مِنَ
الْمُكُوسِ وَالضَّرَائِبِ وَأَقَامَ الْحُدُودَ وَأَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى
عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ.
فَصْلٌ
فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ لَهُ دِمَشْقُ بِحَذَافِيرِهَا لَمْ يَلْبَثْ أَنْ نَهَضَ
إِلَى حَلَبَ مُسْرِعًا ; لِمَا فِيهَا مِنَ التَّخْبِيطِ وَالتَّخْلِيطِ
وَاسْتَنَابَ عَلَى دِمَشْقَ أَخَاهُ طُغْتِكِينَ بْنَ أَيُّوبَ،
الْمُلَقَّبَ بِسَيْفِ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِحِمْصَ أَخَذَ رَبَضَهَا وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِقَلْعَتِهَا لِعِلْمِهِ بِحُصُولِهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى حَمَاةَ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ صَاحِبِهَا عِزِّ الدِّينِ جُرْدَيْكَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَكُونَ سَفِيرَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَلَبِيِّينَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ فَسَارَ إِلَيْهِمْ فَحَذَّرَهُمْ بَأْسَ صَلَاحِ الدِّينِ فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ وَلَمْ يُعَوِّلُوا عَلَيْهِ بَلْ أَمَرُوا بِسَجْنِهِ وَاعْتِقَالِهِ فَجَمَعُوا بَيْنَهُ وَبِبَنِي الدَّايَةِ فِي الْبِئْرِ الَّذِي هُمْ فِيهِ فَأَبْطأَ الْجَوَابَ عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ كِتَابًا بَلِيغًا يَلُومُهُمْ فِيهِ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَعَدَمِ الِائْتِلَافِ فَرَدُّوا عَلَيْهِ أَسْوَأَ جَوَابٍ، وَأَحَدَّ مِنَ الْحِرَابِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يُذَكِّرُهُمْ أَيَّامَهُ وَأَيَّامَ أَبِيهِ وَعَمِّهِ فِي خِدْمَةِ نُورِ الدِّينِ فِي الْمَوَاقِفِ الْمَحْمُودَةِ الَّتِي يَشْهَدُ لَهُمْ بِهَا أَهْلُ الدِّينِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى حَلَبَ فَنَزَلَ عَلَى جَبَلِ جَوْشَنَ فَخَافَ مِنْ سَطْوَتِهِ كُلُّ ذِي جَوْشَنٍ، فَنُودِيَ فِي أَهْلِ حَلَبَ بِالْحُضُورِ فِي مَيْدَانِ بَابِ الْعِرَاقِ فَاجْتَمَعُوا فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمُ ابْنُ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ فَتَوَدَّدَ إِلَيْهِمْ وَتَبَاكَى لَدَيْهِمْ وَحَرَّضَهُمْ عَلَى قِتَالِ صَلَاحِ الدِّينِ وَذَلِكَ عَنْ إِشَارَةِ الْأُمَرَاءِ الْمُقَدَّمِينَ فَأَجَابَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ بِوُجُوبِ طَاعَتِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ الرَّوَافِضُ مِنْهُمْ أَنْ يُعَادَ الْأَذَانُ بِ: حَيِّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَأَنْ يُذْكَرَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي الْجَامِعِ الْجَانِبُ الشَّرْقِيُّ، وَأَنْ يُذْكَرَ أَسْمَاءُ الْأَئِمَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ بَيْنَ يَدَيِ الْجَنَائِزِ وَأَنْ يُكَبِّرُوا عَلَى الْجِنَازَةِ خَمْسًا وَأَنْ تَكُونَ عُقُودُ أَنْكِحَتِهِمْ إِلَى
الشَّرِيفِ الطَّاهِرِ أَبِي الْمَكَارِمِ حَمْزَةَ بْنِ زَهْرَةَ الْحُسَيْنِيِّ فَأُجِيبُوا إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَأُذِّنَ فِي الْجَامِعِ وَغَيْرِهِ بِسَائِرِ الْبَلَدِ بِ حَيِّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَعَجَزَ أَهْلُ الْبَلَدِ عَنْ مُقَاوَمَةِ النَّاصِرِ، وَأَعْمَلُوا فِي مَكِيدَتِهِ كُلَّ خَاطِرٍ فَأَرْسَلُوا أَوَّلًا إِلَى سِنَانٍ صَاحِبِ الْحُشَيْشِيَّةِ فَأَرْسَلَ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى النَّاصِرِ ; لِيَقْتُلُوهُ فَلَمْ يَظْفَرُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ، بَلْ قَتَلُوا بَعْضَ الْأُمَرَاءِ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَقُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، فَرَاسَلُوا عِنْدَ ذَلِكَ الْقُومَصَ صَاحِبَ طَرَابُلُسَ الْفِرِنْجيَّ، وَوَعَدُوهُ بِأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ إِنْ هُوَ رَحَّلَ عَنْهُمُ السُّلْطَانَ الْمَلِكَ النَّاصِرَ، وَكَانَ هَذَا الْقُومَصُ قَدْ أَسَرَهُ نُورُ الدِّينِ وَهُوَ مُعْتَقَلٌ عِنْدَهُ مُدَّةَ عَشْرِ سِنِينَ، ثُمَّ افْتَدَى نَفْسَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَأَلْفِ أَسِيرٍ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ لَا يَنْسَاهَا لِنُورِ الدِّينِ رَحِمهُ اللَّهُ، فَرَكِبَ الْقُومَصُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - مِنْ بَلَدِهِ طَرَابُلُسَ فِي جَيْشِهِ، فَلَمْ يَتَجَاسَرْ عَلَى مُقَاتَلَةِ السُّلْطَانِ، بَلْ قَصَدَ حِمْصَ لِيَأْخُذَهَا بَغْتَةً، فَرَكِبَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ النَّاصِرُ، وَقَدْ أَرْسَلَ سَرِيَّةً إِلَى بَلَدِهِ فَقَتَلُوا مِنْهَا وَأَسَرُوا وَغَنِمُوا، فَلَمَّا اقْتَرَبَ السُّلْطَانُ مِنْهُ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَكَرَّ رَاجِعًا إِلَى بَلَدِهِ، وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ أَجَابَهُمْ إِلَى مَا أَرَادُوا مِنْهُ، فَلَمَّا رَجَعَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى حِمْصَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَخَذَ قَلْعَتَهَا فِي ذَهَابِهِ فَتَصَدَّى لِأَخْذِهَا فَنَصَبَ عَلَيْهَا الْمَنْجَنِيقَاتِ الَّتِي مَلَّكَتْهُ إِيَّاهَا قَسْرًا، وَقَهَرَتْ سَاكِنِيهَا قَهْرًا، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى حَلَبَ فَأَنَالَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْكَرَّةِ مَا طَلَبَ.
وَكَتَبَ إِلَيْهِمُ الْقَاضِي الْفَاضِلُ عَلَى لِسَانِ
السُّلْطَانِ كِتَابًا بَلِيغًا فَصِيحًا رَائِقًا فَائِقًا عَلَى يَدَيِ
الْخَطِيبِ شَمْسِ الدِّينِ يَقُولُ فِيهِ: فَإِذَا قَضَى التَّسْلِيمُ حَقَّ
اللِّقَاءِ، وَاسْتَدْعَى الْإِخْلَاصُ جُهْدَ الدُّعَاءِ فَلْيَعُدْ وَلِيُعَدَّ
حَوَادِثَ مَا كَانَتْ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَجَوَارِيَ أُمُورٍ إِنْ قَالَ فِيهَا
كَثِيرًا، فَأَكْثَرُ مِنْهُ مَا قَدْ جَرَى، وَلْيَشْرَحْ صَدْرًا مِنْهَا
لَعَلَّهُ يَشْرَحُ مِنَّا صَدْرًا، وَلْيُوَضِّحِ الْأَحْوَالَ الْمُسْتَسِرَّةَ فَإِنَّ
اللَّهَ لَا يُعْبَدُ سِرًّا:
وَمِنَ الْغَرَائِبِ أَنْ تَسِيرَ غَرَائِبٌ فِي الْأَرْضِ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا
الْمَأْمُولُ كَالْعِيسِ أَقْتَلُ مَا يَكُونُ لَهَا الصَّدَى
وَالْمَاءُ فَوْقَ ظُهُورِهَا مَحْمُولُ
فَإِنَّا كُنَّا نَقْتَبِسُ النَّارَ بِأَكُفِّنَا وَغَيْرُنَا يَسْتَنِيرُ،
وَنَسْتَنْبِطُ الْمَاءَ بِأَيْدِينَا وَسِوَانَا يَسْتَمِيرُ، وَنَلْقَى
السِّهَامَ بِنُحُورِنَا وَغَيْرُنَا يَعْتَمِدُ التَّصْوِيرَ، وَنُصَافِحُ
الصُّفَّاحَ بِصُدُورِنَا وَغَيْرُنَا يَدَّعِي التَّصْدِيرَ، وَلَابُدَّ أَنْ
نَسْتَرِدَّ بِضَاعَتَنَا بِمَوْقِفِ الْعَدْلِ الَّذِي تُرَدُّ بِهِ الْغُصُوبُ،
وَتَظْهَرَ طَاعَتُنَا فَنَأْخُذَ بِحَظِّ الْأَلْسُنِ كَمَا أَخَذْنَا بِحَظِّ
الْقُلُوبِ، وَكَانَ أَوَّلَ أَمْرِنَا أَنَّا كُنَّا فِي الشَّامِ نَفْتَحُ
الْفُتُوحَ مُبَاشِرِينَ بِأَنْفُسِنَا، وَنُجَاهِدُ الْكَفَّارَ مُتَقَدِّمِينَ
بِعَسَاكِرِنَا، نَحْنُ وَوَالِدُنَا وَعَمُّنَا، فَأَيُّ مَدِينَةٍ فُتِحَتْ أَوْ
مَعْقِلٍ مُلِكَ أَوْ عَسْكَرٍ لِلْعَدُوِّ كُسِرَ أَوْ مَصَافٍّ لِلْإِسْلَامِ
مَعَهُ ضُرِبَ وَلَمْ نَكُنْ فِيهِ ؟ فَمَا يَجْهَلُ أَحَدٌ صُنْعَنَا، وَلَا
يَجْحَدُ عَدُوُّنَا أَنَّا نَصْطَلِي الْجَمْرَةَ وَنَمْلِكُ الْكَرَّةَ،
وَنَتَقَدَّمُ الْجَمَاعَةَ
وَنُرَتِّبُ الْمُقَاتِلَةَ، وَنُدَبِّرُ التَّعْبِئَةَ،
إِلَى أَنْ ظَهَرَتْ فِي الشَّامِ الْآثَارُ الَّتِي لَنَا أَجْرُهَا، وَلَا
يَضُرُّنَا أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِنَا ذِكْرُهَا. ثُمَّ ذَكَرَ مَا صَنَعُوا
بِمِصْرَ مِنْ كَسْرِ الْكُفْرِ وَإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ وَقَمْعِ الْفِرِنْجِ
وَهَدْمِ الْبِدَعِ الَّتِي كَانَتْ هُنَالِكَ، وَمَا بُسِطَ مِنَ الْعَدْلِ
وَمُدَّ مِنَ الْفَضْلِ، وَمَا أَقَامَهُ مِنَ الْخُطَبِ الْعَبَّاسِيَّةِ
بِبِلَادِ مِصْرَ وَالْيَمَنِ وَالنُّوبَةِ وَإِفْرِيقِيَّةَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ
بِكَلَامٍ بَسِيطٍ حَسَنٍ.
فَلَمَّا وَصَلَهُمُ الْكِتَابُ أَسَاءُوا الْجَوَابَ، وَقَدْ كَانُوا كَاتَبُوا
صَاحِبَ الْمَوْصِلِ سَيْفَ الدِّينِ غَازِيَّ بْنَ مَوْدُودٍ أَخِي نُورِ
الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ أَخَاهُ عِزَّ الدِّينِ
فِي عَسَاكِرِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فِي دَسَاكِرِهِ، فَانْضَافَ إِلَيْهِمُ
الْحَلَبِيُّونَ وَقَصَدُوا حَمَاةَ فِي غَيْبَةِ النَّاصِرِ وَاشْتِغَالِهِ
بِقَلْعَةِ حِمْصَ وَعِمَارَتِهَا، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبُرُهُمْ سَارَ إِلَيْهِمْ
فِي قُلٍّ مِنَ الْجَيْشِ فَانْتَهَى إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي جَحَافِلَ كَثِيرَةٍ،
فَوَاقَفُوهُ وَطَمِعُوا فِيهِ لِقِلَّةِ مَنْ مَعَهُ، وَهَمُّوا بِمُنَاجَزَتِهِ
فَجَعَلَ يُدَارِيهِمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْمُصَالَحَةِ لَعَلَّ الْجَيْشَ
يَلْحَقُونَهُ حَتَّى قَالَ لَهُمْ فِي جُمْلَةِ مَا قَالَ: أَنَا أَقْنَعُ
بِدِمَشْقَ وَحَدَهَا، وَأُقِيمُ بِهَا الْخُطْبَةَ لِلْمَلِكِ الصَّالِحِ
إِسْمَاعِيلَ، وَأَتْرُكُ مَا عَدَاهَا مِنْ أَرْضِ الشَّامِ. فَامْتَنَعَ مِنَ
الْمُصَالَحَةِ الْخَادِمُ سَعْدُ الدِّينِ كُمُشْتِكِينَ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ
لَهُمُ الرَّحْبَةَ الَّتِي هِيَ بِيَدِ ابْنِ عَمِّهِ نَاصِرِ الدِّينِ بْنِ
أَسَدِ الدِّينِ، فَقَالَ: لَيْسَ لِي ذَلِكَ، وَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ. فَأَبَوُا
الصُّلْحَ وَأَقْدَمُوا عَلَى الْقِتَالِ فَجَعَلَ جَيْشَهُ كُرْدُوسًا وَاحِدًا،
وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَحَدِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ عِنْدَ قُرُونِ
حَمَاةَ وَصَبَرَ صَبْرًا عَظِيمًا، وَجَاءَهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَالِ ابْنُ
أَخِيهِ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ شَاهِنْشَاهْ وَمَعَهُ أَخُوهُ
فَرُّوخْشَاهْ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ، وَقَدْ تَرَجَّحَ دَسْتُهُ
عَلَيْهِمْ، وَخَلَصَ رُعْبُهُ
إِلَيْهِمْ فَوَلَّوْا هُنَالِكَ هَارِبِينَ، وَتَوَلَّوْا
مُنْهَزِمِينَ فَأُسَرَ مَنْ أُسِرَ مِنْ رُءُوسِهِمْ وَنَادَى أَنْ لَا يُتْبَعَ
مُدْبِرٌ وَلَا يُذَفَّفَ عَلَى جَرِيحٍ، ثُمَّ أَطْلَقَ مَنْ وَقَعَ فِي أَسْرِهِ
وَسَارَ عَلَى الْفَوْرِ إِلَى حَلَبَ وَقَدِ انْعَكَسَ عَلَيْهِمُ الْحَالُ،
وَآلَوْا إِلَى شَرِّ مَآلٍ ; فَبِالْأَمْسِ كَانَ يَطْلُبُ مِنْهُمُ
الْمُصَالَحَةَ وَالْمُسَالَمَةَ، وَهُمُ الْيَوْمَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ
يَكُفَّ عَنْهُمْ وَيَرْجِعَ، عَلَى أَنَّ الْمَعَرَّةَ وَكَفْرَطَابَ وَبَارَيْنَ
لَهُ زِيَادَةً عَلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ أَرَاضِي حَمَاةَ وَحِمْصَ وَبَعْلَبَكَّ
مَعَ دِمَشْقَ فَقَبِلَ ذَلِكَ، وَكَفَّ عَنْهُمْ، وَحَلَفَ عَلَى أَنْ لَا
يَغْزُوَ بَعْدَهَا الْمَلِكَ الصَّالِحَ، وَأَنْ يَدْعُوَ لَهُ عَلَى سَائِرِ
مَنَابِرِ بِلَادِهِ، وَشَفَعَ فِي بَنِي الدَّايَةِ أَخُوهُ مَجْدُ الدِّينِ أَنْ
يُخْرَجُوا مِنَ السِّجْنِ، فَفُعِلَ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا
مُسَلَّمًا مَحْبُورًا.
فَلَمَّا كَانَ بِحَمَاةَ وَصَلَتْ إِلَيْهِ رُسُلُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضِيءِ
بِأَمْرِ اللَّهِ وَمَعَهُمُ الْخِلَعُ السَّنِيَّةُ وَالتَّشْرِيفَاتُ
الْعَبَّاسِيَّةُ وَالْأَعْلَامُ السُّودُ وَتَوْقِيعٌ مِنَ الدِّيوَانِ بِالسَّلْطَنَةِ
بِبِلَادِ مِصْرَ وَالشَّامِ، وَأُفِيضَتِ الْخِلَعُ عَلَى أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ
وَأَصْحَابِهِ وَأَصْهَارِهِ وَأَعْوَانِهِ وَأَنْصَارِهِ، وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا وَاسْتَنَابَ عَلَى حَمَاةَ ابْنَ خَالِهِ وَصِهْرَهُ الْأَمِيرَ
شِهَابَ الدِّينِ مَحْمُودًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى حِمْصَ فَأَطْلَقَهَا إِلَى ابْنِ
عَمِّهِ نَاصِرِ الدِّينِ، كَمَا كَانَتْ مِنْ قَبْلِهِ لِأَبِيهِ شِيرَكُوهْ
أَسَدِ الدِّينِ، ثُمَّ إِلَى بَعْلَبَكَّ ثُمَّ إِلَى الْبِقَاعِ وَرَجَعَ إِلَى
دِمَشْقَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ رَجُلٌ مِنْ قَرْيَةِ مَشْغَرَا مِنْ مُعَامَلَةِ
دِمَشْقَ وَكَانَ مَغْرِبِيًّا فَادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَأَظْهَرَ شَيْئًا مِنَ
الْمَخَارِيقِ وَالْمَخَايِيلِ وَالشَّعْبَذَةِ وَالْأَبْوَابِ النِّيرِنْجِيَّةِ،
فَافْتَتَنَ بِهِ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ
النَّاحِيَةِ مِنَ الطَّغَامِ وَالْهَمَجِ وَالْعَوَامِّ فَتَطَلَّبَهُ
السُّلْطَانُ فَهَرَبَ فِي اللَّيْلِ مِنْ مَشْغَرَا إِلَى مُعَامَلَةِ حَلَبَ
فَالْتَفَّ عَلَيْهِ كُلُّ مَقْطُوعِ الذَّنَبِ وَأَضَلَّ خَلْقًا مِنَ
الْفَلَّاحِينَ لَا الْمُفْلِحِينَ، وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً أَحَبَّهَا، وَكَانَتْ
مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبِطَاحِ فَعَلَّمَهَا أَنِ ادَّعَتِ النُّبُوَّةَ
فَأَشْبَهَا قِصَّةَ مُسَيْلِمَةَ وَسَجَاحَ، فَلَعَنَهُمَا اللَّهُ كُلَّمَا
غَبَّ الْحَمَامُ وَهَدَرَ، وَكُلَّمَا ضَبَّ الْغَمَامُ وَقَطَرَ.
وَفِيهَا هَرَبَ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ وَنُهِبَتْ دَارُهُ.
وَفِيهَا دَرَّسَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ بِمَدْرَسَةٍ أُنْشِئَتْ
لِلْحَنَابِلَةِ فَحَضَرَ عِنْدَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ
الدَّامَغَانِيِّ وَالْفُقَهَاءُ وَالْكُبَرَاءُ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا
وَخُلِعَتْ عَلَيْهِ خِلْعَةٌ سَنِيَّةٌ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
رَوْحُ بْنُ أَحْمَدَ أَبُو طَالِبٍ الْحَدِيثِيُّ
قَاضِي الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَكَانَ ابْنُهُ بِأَرْضِ
الْحِجَازِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَوْتُ أَبِيهِ مَرِضَ بَعْدَهُ فَمَاتَ بَعْدَ
أَيَّامٍ وَكَانَ يُنْبَذُ بِالرَّفْضِ.
شُمْلَةُ التُّرْكُمَانِيُّ
كَانَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى بِلَادِ فَارِسَ وَاسْتَحْدَثَ قِلَاعًا وَتَغَلَّبَ
عَلَى السَّلْجُوقِيَّةِ وَانْتَظَمَ لَهُ الدَّسْتُ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ
سَنَةً ثُمَّ إِنَّهُ حَارَبَهُ بَعْضُ التُّرْكُمَانِ فَقَتَلُوهُ.
قَايْمَازُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قُطْبُ الدِّينِ الْمُسْتَنْجَدِيُّ وَزَرَ لِلْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضِيءِ، وَكَانَ
مُقَدَّمًا عَلَى الْعَسَاكِرِ كُلِّهِمْ ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْخَلِيفَةِ
وَقَصَدَ أَنْ يَنْهَبَ دَارَ الْخِلَافَةِ فَصَعِدَ الْخَلِيفَةُ فَوْقَ سَطْحٍ
فِي دَارِهِ وَأَمَرَ الْعَامَّةَ بِنَهْبِ دَارِ قَايْمَازَ فَنُهِبَتْ وَكَانَ
ذَلِكَ بِإِفْتَاءِ الْفُقَهَاءِ فَهَرَبَ فَهَلَكَ وَهَلَكَ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي
الْمَهَامِهِ وَالْقِفَارِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا طَلَبَ الْفِرِنْجُ مِنَ السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ - وَكَانَ قَدْ
أَقَامَ بِدِمَشْقَ فِي مَرْجِ الصُّفَّرِ - أَنْ يُهَادِنَهُمْ فَأَجَابَهُمْ
إِلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ الشَّامَ كَانَ مُجْدِبًا وَيَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ.
وَأَرْسَلَ جَيْشَهُ صُحْبَةَ الْقَاضِي الْفَاضِلِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ ; لِيَسْتَغِلُّوا الْمُغَلَّ ثُمَّ يُقْبِلُوا، وَعَزَمَ هُوَ
عَلَى الْمُقَامِ بِالشَّامِ وَاعْتَمَدَ عَلَى كَاتِبِهِ الْعِمَادِ عِوَضًا عَنْ
أَفْصَحِ الْعِبَادِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، وَهُوَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ قُدْوَةُ
الْعُلَمَاءِ وَالْأَفَاضِلِ وَرِحْلَةُ الطَّالِبِينَ وَزَيْنُ الْمَحَافِلِ
زَيْنُ الْإِسْلَامِ وَمَنْ لِسَانُهُ أَحَدُّ، مِنْ حُسَامٍ وَلَكِنِ احْتَاجَ السُّلْطَانُ
إِلَى إِرْسَالِهِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ ; لِيُكَونَ عَيْنًا وَعَوْنًا
لَهُ بِهَا، وَلِسَانًا فَصِيحًا يُعَبِّرُ عَنْهَا فَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ
يَتَعَوَّضَ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَعَزَّ عَلَيْهِ وَلَا أَحَبَّ
إِلَيْهِ مِنْهُ:
وَمَا عَنْ رِضًا كَانَتْ سُلَيْمَى بَدِيلَةً بِلَيْلَى وَلَكِنْ لِلضَّرُورَاتِ
أَحْكَامُ
وَكَانَتْ إِقَامَتُهُ بِبِلَادِ الشَّامِ وَإِرْسَالُ الْجَيْشِ صُحْبَةَ
الْقَاضِي الْفَاضِلِ غَايَةَ الْحَزْمِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاهْتِمَامِ ;
لِيَحْفَظَ مَا اسْتَجَدَّ مِنَ الْمَمَالِكِ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ سَطْوَةِ مَنْ
هُنَالِكَ.
فَلَمَّا أَرْسَلَ الْجُيُوشَ إِلَى مِصْرَ وَبَقِيَ هُوَ فِي طَائِفَةٍ قَلِيلَةٍ
مِنْ عَسْكَرِهِ، وَاللَّهُ قَدْ
تَكَفَّلَ لَهُ وَلَهُمْ بِالنَّصْرِ كَتَبَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيٌّ ابْنُ أَخِي نُورِ الدِّينِ إِلَى جَمَاعَةِ الْحَلَبِيِّينَ يَلُومُهُمْ عَلَى مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ مِنَ الْمُصَالَحَةِ، وَقَدْ كَانَ إِذْ ذَاكَ مَشْغُولًا بِمُحَاصَرَةِ أَخِيهِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ بِسِنْجَارَ - وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِفِعْلَةٍ صَالِحَةٍ - وَمَا كَانَ سَبَبُ قِتَالِهِ لِأَخِيهِ إِلَّا انْتِمَاؤُهُ إِلَى طَاعَةِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ وَذَوِيهِ فَاصْطَلَحَ مَعَ أَخِيهِ حِينَ عَرَفَ قُوَّةَ النَّاصِرِ وَنَاصِرِيهِ، ثُمَّ حَرَّضَ الْحَلَبِيِّينَ عَلَى نَبْذِ الْعُهُودِ إِلَى الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ بِالْعُهُودِ الَّتِي عَاهَدُوهُ عَلَيْهَا وَدَعَوْهُ إِلَيْهَا، فَاسْتَعَانَ عَلَيْهِمْ بِاللَّهِ وَأَرْسَلَ إِلَى الْجُيُوشِ الْمِصْرِيَّةِ لِيَقْدَمُوا إِلَيْهِ فَأَقْبَلَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ فِي عَسَاكِرِهِ وَمُشَارِيهِ وَدَسَاكِرِهِ. وَاجْتَمَعَ بِابْنِ عَمِّهِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ عِمَادِ الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ، وَسَارَ فِي عِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ عَلَى الْخُيُولِ الضُّمَّرِ الْجُرْدِ الْأَبَابِيلِ، وَسَارَ نَحْوَهُمُ النَّاصِرُ وَهُوَ كَالْهِزَبْرِ الْكَاسِرِ، وَإِنَّمَا مَعَهُ أَلْفُ فَارِسٍ مِنَ الْحُمَاةِ وَ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [ الْبَقَرَةِ: 229 ] وَلَكِنَّ الْجُيُوشَ قَدْ خَرَجَتْ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي جَحَافِلَ كَالْجِبَالِ وَعُدَّةٍ وَعَدَدٍ كَالرِّمَالِ، فَاجْتَمَعَ الْفَرِيقَانِ وَتَدَاعَوْا لِلنِّزَالِ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْعَاشِرِ مِنْ شَوَّالٍ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا هَائِلًا، حَتَّى حَمَلَ السُّلْطَانُ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، وَكَانَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ الْهَزِيمَةُ، فَقَتَلُوا خَلْقًا مِنَ الْحَلَبِيِّينَ وَالْمَوَاصِلَةِ وَأَخَذُوا مَضَارِبَ الْمَلِكِ سَيْفِ الدِّينِ غَازِيٍّ وَحَوَاصِلَهُ وَأَسَرُوا جَمَاعَةً مِنْ رُءُوسِهِمْ فَأَطْلَقَهُمُ السُّلْطَانُ بَعْدَمَا أَفَاضَ الْخِلَعَ عَلَى أَبْدَانِهِمْ وَرُءُوسِهِمْ، وَقَدْ كَانُوا اسْتَعَانُوا بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْفِرِنْجِ فِي حَالِ الْقِتَالِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ صَنِيعِ الصَّنَادِيدِ الْأَبْطَالِ. وَقَدْ وَجَدَ السُّلْطَانُ فِي مُخَيَّمِ السُّلْطَانِ غَازِيٍّ شَيْئًا مِنَ الْأَقْفَاصِ الَّتِي فِيهَا الطُّيُورُ الْمُطْرِبَةُ - وَذَلِكَ فِي مَجْلِسِ شَرَابِهِ الْمُسْكِرِ - وَكَيْفَ مَنْ كَانَ هَذَا
مَسْلَكَهُ وَمَذْهَبَهُ يَنْتَصِرُ ؟! فَأَمَرَ
السُّلْطَانُ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ وَتَسْيِيرِهَا إِلَيْهِ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ:
قُلْ لَهُ بَعْدَ وُصُولِكَ إِلَيْهِ وَسَلَامِكَ عَلَيْهِ: اشْتِغَالُكَ بِهَذِهِ
الطُّيُورِ أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا رَأَيْتَ مِنَ الْمَحْذُورِ.
وَغَنِمَ السُّلْطَانُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا فَفَرَّقَهُ عَلَى
أَصْحَابِهِ وَأَحْبَابِهِ وَأَنْصَارِهِ غُيَّبًا كَانُوا أَوْ حُضُورًا،
وَأَنْعَمَ بِخَيْمَةِ الْمَلِكِ سَيْفِ الدِّينِ غَازِيٍّ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ
عِزِّ الدِّينِ فَرُّوخْشَاهْ بْنِ شَاهِنْشَاهْ بْنِ نَجْمِ الدِّينِ، وَرَدَّ
مَا كَانَ فِي وِطَاقِهِ مِنَ الْجَوَارِي وَالْمُغَنِّيَاتِ، وَقَدْ كَانَ مَعَهُ
أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ مُغَنِّيَةٍ وَرَدَّ الْأَقْفَاصَ وَآلَاتِ اللَّعِبِ إِلَى
حَلَبَ وَقَالَ: قُولُوا لَهُ: هَذَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنَ الْحَرْبِ. وَوَجَدَ
عَسْكَرَ الْمَوَاصِلَةِ كَالْحَانَةِ مِنْ كَثْرَةِ الْخُمُورِ وَالْبَرَابِطِ
وَالْمَلَاهِي، وَهَذِهِ سَبِيلُ مَنْ هُوَ عَنْ طَرِيقِ الْخَيْرِ سَاهٍ لَاهٍ.
فَصْلٌ
لَمَّا رَجَعَ الْحَلَبِيُّونَ إِلَى حَلَبَ وَقَدِ انْقَلَبُوا شَرَّ مُنْقَلَبٍ
وَنَدِمُوا عَلَى نَقْضِهِمُ الْأَيْمَانَ وَمُخَالَفَتِهِمْ طَاعَةَ الرَّحْمَنِ
وَشَقِّهِمُ الْعَصَا عَلَى السُّلْطَانِ حَصَّنُوا الْبَلَدَ خَوْفًا مِنْ
وُثُوبِ الْأَسَدِ، وَأَسْرَعَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ فَوَصَلَهَا، وَمَا صَدَّقَ
حَتَّى دَخَلَهَا، وَأَمَّا السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ فَإِنَّهُ لَمَّا
فَرَغَ مِنْ قِسْمَةِ مَا غَنِمَ مِمَّا تَرَكَهُ مَنْ عَطِبَ وَمَنْ سَلِمَ،
أَسْرَعَ الْمَسِيرَ إِلَى حَلَبَ الشَّهْبَاءِ وَهُوَ فِي غَايَةِ السَّطْوَةِ
وَالْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ الْقَعْسَاءِ، فَوَجَدَهُمْ قَدْ حَصَّنُوهَا،
وَالْقَلْعَةَ قَدْ أَحْكَمُوهَا فَقَالَ: مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَنْ نُبَادِرَ
إِلَى فَتْحِ الْحُصُونِ الَّتِي حَوْلَ الْبَلَدِ، ثُمَّ نَعُودَ إِلَيْهِمْ
فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْنَا
مِنْهُمْ أَحَدٌ. فَشَرَعَ يَفْتَحُ الْحُصُونَ حِصْنًا
حِصْنًا ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِمْ وَيَهْدِمُ مِنْ أَرْكَانِ دَوْلَتِهِمْ رُكْنًا
رُكْنًا فَفَتَحَ بُزَاغَةَ وَمَنْبِجَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى عَزَازَ فَأَرْسَلَ
الْحَلَبِيُّونَ إِلَى سِنَانٍ، فَأَرْسَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ
لِيَقْتُلُوا صَلَاحَ الدِّينِ فَدَخَلَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فِي جَيْشِهِ فِي
زِيِّ الْجُنْدِ فَقَاتَلُوا أَشَدَّ الْقِتَالِ حَتَّى اخْتَلَطُوا بِهِمْ
فَوَجَدُوا فُرْصَةً ذَاتَ يَوْمٍ وَالسُّلْطَانُ ظَاهِرٌ لِلنَّاسِ فَحَمَلَ
عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَضَرَبَهُ بِسِكِّينٍ عَلَى رَأْسِهِ فَإِذَا هُوَ
مُحْتَرِسٌ مِنْهُمْ بِاللَّأْمَةِ فَسَلَّمَهُ اللَّهُ غَيْرَ أَنَّ السِّكِّينَ
مَرَّتْ عَلَى خَدِّهِ فَجَرَحَتْهُ جُرْحًا هَيِّنًا ثُمَّ أَخَذَ الْفِدَاوِيُّ
رَأْسَ السُّلْطَانِ فَوَضَعَهُ عَلَى الْأَرْضِ لِيَذْبَحَهُ، وَمَنْ حَوْلَهُ
قَدْ أَخَذَتْهُمْ دَهْشَةٌ، ثُمَّ ثَابَ إِلَيْهِمْ عَقْلُهُمْ فَبَادَرُوا إِلَى
الْفِدَاوِيِّ فَقَتَلُوهُ وَقَطَّعُوهُ ثُمَّ هَجَمَ آخَرُ فِي السَّاعَةِ
الرَّاهِنَةِ عَلَى السُّلْطَانِ فَقُتِلَ، ثُمَّ هَجَمَ آخَرُ عَلَى بَعْضِ
الْأُمَرَاءِ فَقُتِلَ أَيْضًا، وَهَرَبَ الرَّابِعُ فَأُدْرِكَ فَقُتِلَ،
وَبَطَلَ الْقِتَالُ ذَلِكَ الْيَوْمَ. ثُمَّ صَمَّمَ السُّلْطَانُ عَلَى الْبَلَدِ
فَفَتَحَهُ وَأَقْطَعَهُ ابْنَ أَخِيهِ تَقِيَّ الدِّينِ عُمَرَ بْنَ شَاهِنْشَاهْ
بْنِ أَيُّوبَ وَقَدِ اشْتَدَّ حَنَقُهُ عَلَى أَهْلِ حَلَبَ لِمَا فَعَلُوا
وَلِمَا أَرْسَلُوا مِنَ الْفِدَاوِيَّةِ إِلَيْهِ وَإِقْدَامِهِمْ عَلَيْهِ،
فَجَاءَ فَنَزَلَ تُجَاهَ الْبَلَدِ عَلَى جَبَلِ جَوْشَنَ وَضُرِبَتْ خَيْمَتُهُ
عَلَى رَأْسِ الْبَادُوقِيَّةِ، وَذَلِكَ فِي خَامِسَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ
وَجَبَى الْأَمْوَالَ وَأَخَذَ الْخَرَاجَ مِنَ الْقُرَى وَمَنَعَ أَنْ يَدْخُلَ
الْبَلَدَ شَيْءٌ أَوْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ وَاسْتَمَرَّ حِصَارُهُ إِيَّاهَا
حَتَّى انْسَلَخَتِ السَّنَةُ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ
تُورَانْشَاهْ أَخُو
السُّلْطَانِ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ، وَذَلِكَ مِنْ
كَثْرَةِ اشْتِيَاقِهِ إِلَى أَخِيهِ وَذَوِيِهِ وَإِلَى الشَّامِ وَطِيبِهِ
وَظِلَالِهِ ; لِأَنَّهُ ضَجِرَ مِنْ حَرِّ الْيَمَنِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَصَلَ
عَلَى أَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ مِنْ مَالِهِ، فَفَرِحَ بِهِ أَخُوهُ الْمَلِكُ
النَّاصِرُ، وَاشْتَدَّ أَزْرُهُ بِسَبَبِهِ، وَلَمَّا اجْتَمَعَا قَالَ
النَّاصِرُ النَّاصِحُ الْبَرُّ الْوَفِيُّ: أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي، وَقَدِ
اسْتَنَابَ شَمْسَ الدِّينِ عَلَى بِلَادِ الْيَمَنِ وَإِنَّمَا اسْتَنَابَ عَلَى
مُخَالِفِيهَا مَنْ لَا يُخَالِفُهُ مِنْ ذِي قَرَابَاتِهِ وَمَنْ لَهُ سَالِفُ
الْمِنَنِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِنْدَ أَخِيهِ اسْتَنَابَهُ عَلَى دِمَشْقَ
وَأَعْمَالِهَا، وَقِيلَ: إِنَّ قُدُومَهُ كَانَ قَبْلَ وَقْعَةِ الْمَوَاصِلَةِ
وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ ; لِشَهَامَتِهِ
وَشَجَاعَتِهِ وَفُرُوسِيَّتِهِ وَبَسَالَتِهِ.
وَفِيهَا أَنْفَذَ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ ابْنُ أَخِي السُّلْطَانِ مَمْلُوكَهُ
بَهَاءَ الدِّينِ قَرَاقُوشَ فِي جَيْشٍ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ فَفَتَحَ
بِلَادًا كَثِيرَةً هُنَالِكَ وَغَنِمَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً ثُمَّ عَادَ إِلَى
مِصْرَ وَطَابَتْ لَهُ وَتَرَكَ تِلْكَ الْبِلَادِ.
وَفِيهَا قَدِمَ إِلَى دِمَشْقَ الْوَاعِظُ الْكَبِيرُ أَبُو الْفُتُوحِ عَبْدُ
السَّلَامِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَلِّدٍ التَّنُوخِيُّ
الدِّمَشْقِيُّ الْأَصْلُ الْبَغْدَادِيُّ الْمَنْشَأُ ذَكَرَهُ الْعِمَادُ فِي
الْخَرِيدَةِ، قَالَ: وَكَانَ صَاحِبِي وَجَلَسَ لِلْوَعْظِ وَحَضَرَ عِنْدَهُ
السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ. وَأَوْرَدَ لَهُ مُقَطِّعَاتِ أَشْعَارٍ، فَمِنْ
ذَلِكَ مَا كَانَ يَقُولُ فِي مَجْلِسِهِ:
يَا مَالِكًا مُهْجَتِي يَا مُنْتَهَى أَمَلِي يَا حَاضِرًا شَاهِدًا فِي
الْقَلْبِ وَالْفِكْرِ خَلَقْتَنِي مِنْ تُرَابٍ أَنْتَ خَالِقُهُ
حَتَّى إِذَا صِرْتُ تِمْثَالًا مِنَ الصُّوَرِ أَجْرَيْتَ فِي قَالِبِي رُوحًا
مُنَوَّرَةً
تَمُرُّ فِيهِ كَجَرْيِ الْمَاءِ فِي الشَّجَرِ
جَمَعْتَ بَيْنَ صَفَا رُوحٍ مُنَوَّرَةٍ
وَهَيْكَلٍ صُغْتَهُ مِنْ مَعْدِنٍ كَدِرِ إِنْ غِبْتُ فِيكَ فَيَا فَخْرِي وَيَا
شَرَفِي
وَإِنْ حَضَرْتُ فَيَا سَمْعِي وَيَا بَصَرِي إِنِ احْتَجَبْتَ فَسِرِّي فِيكَ فِي
وَلَهٍ
وَإِنْ خَطَرْتَ فَقَلْبِي مِنْكَ فِي خَطَرِ تَبْدُو فَتَمْحُو رُسُومِي ثُمَّ
تُثْبِتُهَا
وَإِنْ تَغَيَّبْتَ عَنِّي عِشْتُ بِالْأَثَرِ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ هِبَةِ
اللَّهِ بْنِ عَسَاكِرَ أَبُو الْقَاسِمِ الدِّمَشْقِيُّ
أَحَدُ أَكَابِرِ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَمَنْ عُنِيَ بِهِ سَمَاعًا وَجَمْعًا
وَتَصْنِيفًا وَاطِّلَاعًا وَحِفْظًا لِأَسَانِيدِهِ وَمُتُونِهِ وَإِتْقَانًا
لِأَسَالِيبِهِ وَفُنُونِهِ صَنَّفَ " تَارِيخَ الشَّامِ " فِي
ثَمَانِينَ مُجَلَّدَةً فَهِيَ بَاقِيَةٌ بَعْدَهُ مُخَلَّدَةٌ، وَقَدْ بَرَزَ
عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ وَأَتْعَبَ مَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُ
مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فَحَازَ فِيهِ قَصَبَ السِّبَاقِ وَجَازَ حَدًّا يَأْمَنُ
فِيهِ اللِّحَاقَ، وَمَنْ نَظَرَ فِيهِ وَتَأَمَّلَهُ وَرَأَى مَا وَصَفَهُ فِيهِ
وَأَصَّلَهُ، حَكَمَ بِأَنَّهُ فَرِيدٌ فِي التَّوَارِيخِ، وَأَنَّهُ فِي
الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنَ الشَّمَارِيخِ هَذَا مَعَ مَا لَهُ فِي عُلُومِ
الْحَدِيثِ مِنْ كُتُبٍ مُفِيدَةٍ، وَمَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَيْهِ مِنَ
الْعِبَادَةِ وَالطَّرَائِقِ الْحَمِيدَةِ، فَلَهُ: " أَطْرَافُ الْكُتُبِ
السِّتَّةِ "، " وَالشُّيُوخُ النُّبَّلُ " وَ " تَبْيِينُ
كَذِبِ الْمُفْتَرِي عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ "، وَغَيْرُ
ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ وَالْأَجْزَاءِ
وَالْأَسْفَارِ، وَقَدْ أَكْثَرَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ مِنَ التِّرْحَالِ وَالْأَسْفَارِ،
وَجَابَ الْمُدُنَ وَالْأَقَالِيمَ وَالْأَمْصَارَ وَجَمَعَ مِنَ الْكُتُبِ مَا
لَمْ يَجْمَعْهُ أَحَدٌ مِنَ الْحُفَّاظِ نَسْخًا وَاسْتِنْسَاخًا وَمُقَابَلَةً
وَتَصْحِيحًا
لِلْأَلْفَاظِ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ بُيُوتَاتِ
الدَّمَاشِقَةِ، وَرِيَاسَتُهُ فِيهِمْ عَالِيَةٌ بَاسِقَةٌ، مِنْ ذَوِي
الْأَقْدَارِ وَالْهَيْئَاتِ وَالْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ وَالصِّلَاتِ، كَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي الْحَادِي عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ اثْنَتَانِ
وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَحَضَرَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ جِنَازَتَهُ وَدُفِنَ
بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَانَ الَّذِي صَلَّى
عَلَيْهِ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ
وَلَهُ أَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ:
أَيَا نَفْسُ وَيْحَكِ جَاءَ الْمَشِيبُ فَمَا ذَا التَّصَابِي وَمَا ذَا
الْغَزَلْ ؟ تَوَلَّى شَبَابِي كَأَنْ لَمْ يَكُنْ
وَجَاءَ الْمَشِيبُ كَأَنْ لَمْ يَزَلْ كَأَنِّي بِنَفْسِي عَلَى غِرَّةٍ
وَخَطْبُ الْمَنُونِ بِهَا قَدْ نَزَلْ فَيَا لَيْتَ شِعْرِيَ مِمَّنْ أَكُونُ
وَمَا قَدَّرَ اللَّهُ لِي فِي الْأَزَلْ
قَالَ: وَقَدِ الْتَزَمَ فِيهَا مَا لَمْ يَلْزَمْ ; وَهُوَ الزَّايُ قَبْلَ
اللَّامِ. قَالَ: وَكَانَ أَخُوهُ صَائِنُ الدِّينِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ
مُحَدِّثًا فَقِيهًا اشْتَغَلَ بِبَغْدَادَ عَلَى أَسْعَدَ الْمِيهَنِيِّ، ثُمَّ
قَدِمَ دِمَشْقَ فَدَرَّسَ بِالْغَزَّالِيَّةِ وَتُوفِّيَ بِهَا فِي سَنَةِ
ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّانَا بِمَنِّهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ
وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالسُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ مُحَاصِرٌ حَلَبَ
وَقَدْ أَشْرَفَ مِنْهَا عَلَى نَيْلِ الطَّلَبِ، فَسَأَلُوهُ وَتَوَسَّلُوا
إِلَيْهِ أَنْ يُصَالِحَهُمْ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ تَكُونَ حَلَبُ
وَأَعْمَالُهَا لِلْمَلِكِ الصَّالِحِ فَقَطْ، فَكُتِبَ بِذَلِكَ الْكِتَابُ،
وَأُبْرِمَ الْحِسَابُ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ بَعَثَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ
إِسْمَاعِيلُ إِلَى الْمَلِكِ النَّاصِرِ يَسْأَلُ مِنْهُ زِيَادَةَ قَلْعَةِ
عَزَازَ، عَلَى مَا شَرَّفَهُ بِهِ مِنَ الْإِعْزَازِ، وَأَرْسَلَ بِأُخْتٍ لَهُ
صَغِيرَةٍ وَهِيَ الْخَاتُونُ بِنْتُ نُورِ الدِّينِ ; لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى
إِلَى قَبُولِ السُّؤَالِ، وَأَنْجَعَ لِحُصُولِ النَّوَالِ، فَحِينَ رَآهَا
النَّاصِرُ قَامَ كَالْقَضِيبِ النَّاضِرِ، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ، وَأَجَابَهَا
إِلَى سُؤَالِهَا، وَأَطْلَقَ لَهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالتُّحَفِ مَا رَأَى
أَنَّهُ عَلَيْهِ فَرْضٌ، ثُمَّ تَرَحَّلَ عَنْ حَلَبَ فَقَصَدَ
الْإِسْمَاعِيلِيَّةَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا عَلَيْهِ فَحَاصَرَ حِصْنَهُمْ
مِصْيَابَ فَقَتَلَ وَضَرَبَ وَسَبَى، وَأَخَذَ أَبْقَارَهُمْ، وَخَرَّبَ
دِيَارَهُمْ، وَقَصَّرَ أَعْمَارَهُمْ، حَتَّى شَفَعَ فِيهِمْ خَالُهُ شِهَابُ
الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ تِكِشَ صَاحِبُ حَمَاةَ ; لِأَنَّهُمْ جِيرَانُهُ،
فَقَبِلَ شَفَاعَتَهُ، وَقَدْ أَحْضَرَ إِلَيْهِ نَائِبُ بَعْلَبَكَّ الْأَمِيرُ
شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُقَدَّمٍ -
الَّذِي كَانَ نَائِبَ دِمَشْقَ - جَمَاعَةً مِنْ أُسَارَى
الْفِرِنْجِ الَّذِينَ عَاثُوا بِالْبِقَاعِ فِي غَيْبَةِ السُّلْطَانِ
وَاشْتِغَالِهِ بِحِصَارِ مِصْيَابَ، فَجَدَّدَ لَهُ الْعَزْمَ عَلَى غَزْوِ
الْفِرِنْجِ وَالِانْبِعَاثِ فَصَالَحَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةَ أَصْحَابَ سِنَانٍ، ثُمَّ
كَرَّ رَاجِعًا إِلَى دِمَشْقَ فِي حِرَاسَةِ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ تَلَقَّاهُ
أَخُوهُ شَمْسُ الدَّوْلَةِ تُورَانْشَاهْ فَتَسَالَمَا وَتَعَانَقَا وَتَنَاشَدَا
الْأَشْعَارَ، وَلَمَّا دَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى دِمَشْقَ فِي سَابِعَ عَشَرَ
صَفَرٍ فَوَّضَهَا إِلَى أَخِيهِ شَمْسِ الدَّوْلَةِ تُوارَنْشَاهْ وَلَقَّبَهُ
الْمَلِكَ الْمُعَظَّمَ، وَعَزَمَ السُّلْطَانُ عَلَى السَّفَرِ إِلَى مِصْرَ،
وَكَانَ الْقَاضِي كَمَالُ الدَّيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الشَّهْرُزُورِيُّ قَدْ تُوُفِّيَ فِي سَادِسِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ، وَأَخَصِّ النَّاسِ بِنُورِ
الدِّينِ الشَّهِيدِ، فَوَّضَ إِلَيْهِ نَظَرَ الْجَامِعِ وَدَارَ الضَّرْبِ
وَعِمَارَةَ الْأَسْوَارِ وَالنَّظَرَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.
وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى بِالْقَضَاءِ لِابْنِ أَخِيهِ ضِيَاءِ
الدِّينِ بْنِ تَاجِ الدِّينِ الشَّهْرُزُورِيِّ، فَأَمْضَى ذَلِكَ السُّلْطَانُ
الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ ; رِعَايَةً لِحَقِّ الْكَمَالِ
الشَّهْرُزُورِيِّ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَجِدُ عَلَيْهِ ; بِسَبَبِ مَا كَانَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِينَ كَانَ صَلَاحُ الدِّينِ شِحْنَةً بِدِمَشْقَ، وَكَانَ
يُعَاكِسُهُ وَيُخَالِفُهُ، وَمَعَ هَذَا أَمْضَى وَصِيَّتَهُ لِابْنِ أَخِيهِ،
فَجَلَسَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ عَلَى عَادَةِ عَمِّهِ وَقَاعِدَتِهِ
وَرَسْمِهِ، وَبَقِيَ فِي نَفْسِ السُّلْطَانِ مِنْ تَوْلِيَةِ شَرَفِ الدِّينِ
أَبَى سَعْدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَصْرُونَ الْحَلَبِيِّ، وَكَانَ قَدْ
هَاجَرَ إِلَى السُّلْطَانِ إِلَى دِمَشْقَ فَوَعْدَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ
قَضَاءَهَا، فَأَسَرَّ بِذَلِكَ إِلَى الْقَاضِي الْفَاضِلِ، فَأَشَارَ الْقَاضِي
الْفَاضِلُ عَلَى الضِّيَاءِ أَنْ يَسْتَعْفِيَ مِنْ
الْقَضَاءِ فَاسْتَعْفَى فَأُعْفِيَ، وَتُرِكَ لَهُ
وَكَالَةُ بَيْتِ الْمَالِ، وَوَلَّى السُّلْطَانُ ابْنَ أَبِي عَصْرُونَ عَلَى
أَنْ يَسْتَنِيبَ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ أَبَا الْمَعَالِي مُحَمَّدَ بْنَ
زَكِيِّ الدِّينِ، وَالْأَوْحَدَ، عَنْهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ بَعْدَ سَنَوَاتٍ
اسْتَقَلَّ بِالْحُكْمِ مُحْيِي الدِّينِ ; أَبُو حَامِدِ بْنُ أَبِي عَصْرُونَ
عِوَضًا عَنْ أَبِيهِ شَرَفِ الدِّينِ ; بِسَبَبِ ضَعْفِ بَصَرِهِ.
وَفِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَقَفَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ
قَرْيَةَ حَزْمٍ عَلَى الزَّاوِيَةِ الْغَزَّالِيَّةِ، وَمَنْ يَشْتَغِلُ بِهَا
بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْفَقِيهُ، وَجَعَلَ
النَّظَرَ لِقُطْبِ الدِّينِ النَّيْسَابُورِيِّ مُدَرِّسِهَا.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ تَزَوَّجَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ بِالسِّتِّ
خَاتُونَ عِصْمَةِ الدِّينِ بِنْتِ مُعِينِ الدِّينِ أَنُرَ، وَكَانَتْ زَوْجَةَ
الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ، فَأَقَامَتْ بَعْدَهُ فِي الْقَلْعَةِ مُحْتَرَمَةً
مُكَرَّمَةً، وَوَلِيَ تَزْوِيجَهَا مِنْهُ أَخُوهَا الْأَمِيرُ سَعْدُ الدِّينِ
مَسْعُودُ بْنُ أَنُرَ، وَحَضَرَ الْقَاضِي ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ الْعَقْدَ،
وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعُدُولِ، وَبَاتَ النَّاصِرُ عِنْدَهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ
وَالَّتِي بَعْدَهَا، ثُمَّ سَافَرَ إِلَى مِصْرَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ مِنَ
الدُّخُولِ بِهَا، فَرَكِبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَنَزَلَ
بِمَرْجِ الصُّفَّرِ، ثُمَّ سَافَرَ فَعَشَا قَرِيبًا مِنَ الصَّنَمَيْنِ، ثُمَّ
أَجَدَّ السَّيْرَ حَتَّى كَانَ دُخُولُهُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ يَوْمَ
السَّبْتِ سَادِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فِي أُبَّهَةِ
الْمُلْكِ. وَقَدْ تَلَقَّاهُ أَخُوهُ
وَنَائِبُهُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ سَيْفُ الدِّينِ أَبُو
بَكْرٍ إِلَى عِنْدَ بَحْرِ الْقُلْزُمِ وَمَعَهُ مِنَ الْهَدَايَا شَيْءٌ كَثِيرٌ
وَلَا سِيَّمَا الْمَآكِلُ الْمُتَنَوِّعَةُ، وَكَانَ فِي صُحْبَةِ السُّلْطَانِ
الْعِمَادُ الْكَاتِبُ، وَلَمْ يَكُنْ وَرَدَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ قَبْلَ
ذَلِكَ، فَشَرَعَ يَذْكُرُ مَحَاسِنَهَا، وَمَا اخْتُصَّتْ بِهِ مِنْ بَيْنِ الْبُلْدَانِ،
وَوَصَفَ الْهَرَمَيْنِ، وَشَبَّهَهُمَا بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّشْبِيهَاتِ،
وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ حَسْبَ مَا ذَكَرَ فِي " الرَّوْضَتَيْنِ ".
وَفِي شَعْبَانَ رَكِبَ السُّلْطَانُ النَّاصِرُ بْنُ أَيُّوبَ إِلَى
الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَأَسْمَعَ وَلَدَيْهِ الْأَفْضَلَ عَلِيًّا، وَالْعَزِيزَ
عُثْمَانَ عَلَى الْحَافِظِ السَّلَفِيِّ، وَتَرَدَّدَ بِهِمَا إِلَيْهِ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ ; الْخَمِيسَ وَالْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ رَابِعَ رَمَضَانَ، وَعَزَمَ
السُّلْطَانُ عَلَى الصِّيَامِ بِهَا، وَقَدْ كَمَّلَ عِمَارَةَ السُّورِ عَلَى
الْبَلَدِ، وَأَمَرَ بِتَجْدِيدِ الْأُسْطُولِ وَإِصْلَاحِ مَرَاكِبِهِ وَسُفُنِهِ
وَشَحْنِهِ بِالرِّجَالِ وَالْمُقَاتِلَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِغَزْوِ جَزَائِرِ
الْبَحْرِ، وَأَقْطَعَهُمُ الْإِقْطَاعَاتِ الْجَزِيلَةَ، وَأَرْصَدَ لِصَالِحِ
الْأُسْطُولِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يَكْفِيهِ لِجَمِيعِ شُئُونِهِ، ثُمَّ
عَادَ إِلَى الْقَاهِرَةِ فِي أَثْنَاءِ رَمَضَانَ فَأَكْمَلَ صَوْمَهُ بِهَا.
وَفِيهَا أَمَرَ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ بِبِنَاءِ مَدْرَسَةٍ
لِلشَّافِعِيَّةِ عَلَى قَبْرِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَجَعَلَ الشَّيْخَ
نَجْمَ الدِّينِ الْخُبُوشَانِيَّ مُدَرِّسَهَا وَنَاظِرَهَا.
وَفِيهَا أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَارَسْتَانِ بِالْقَاهِرَةِ، وَوَقَفَ عَلَيْهِ
أَوْقَافًا كَثِيرَةً. وَفِيهَا بَنَى الْأَمِيرُ مُجَاهِدُ الدِّينِ قَايْمَازُ
نَائِبُ قَلْعَةِ الْمَوْصِلِ جَامِعًا حَسَنًا وَرِبَاطًا وَمَدْرَسَةً
وَمَارَسْتَانًا
مُتَجَاوِرَاتٍ بِظَاهِرِ مَدِينَةِ الْمَوْصِلِ وَقَدْ
تَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُ إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَلَهُ
عِدَّةُ مَدَارِسَ وَخَانْقَاهَاتٍ وَجَوَامِعَ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا، وَكَانَ
دَيِّنًا خَيِّرًا فَاضِلًا حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ، يُذَاكِرُ فِي الْأَدَبِ
وَالْأَشْعَارِ وَالْفِقْهِ، كَثِيرَ الصِّيَامِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ - قَدَّسَ
اللَّهُ رُوحَهُ.
وَفِيهَا أُخْرِجَ الْمَجْذُومُونَ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهَا
لِيَتَمَيَّزُوا عَنْ أَهْلِ الْعَافِيَةِ - نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ
بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ - وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ
" عَنِ امْرَأَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ " كُنْتُ أَمْشِي فِي الطَّرِيقِ
وَكَأَنَّ رَجُلًا يُعَارِضُنِي كُلَّمَا مَرَرْتُ بِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ
لَا سَبِيلَ إِلَى هَذَا الَّذِي تَرُومُهُ مِنِّي إِلَّا بِكِتَابٍ،
فَتَزَوَّجَنِي عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَمَكَثْتُ مَعَهُ مُدَّةً ثُمَّ اعْتَرَاهُ
انْتِفَاخٌ بِبَطْنِهِ فَكُنَّا نَظُنُّ أَنَّ بِهِ اسْتِسْقَاءً فَنُدَاوِيهِ
لِذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ وَلَدَ وَلَدًا كَمَا تَلِدُ النِّسَاءُ،
وَإِذَا هُوَ خُنْثَى مُشْكِلٌ، وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ الْأَشْيَاءِ. وَاللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَلِيُّ بْنُ عَسَاكِرَ
بْنِ الْمَرْحَبِ بْنِ الْعَوَّامِ، أَبُو الْحَسَنِ الْبَطَائِحِيُّ الْمُقْرِئُ
اللُّغَوِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَأَسْمَعَهُ، وَكَانَ حَسَنَ الْمَعْرِفَةِ
بِالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ، وَوَقَفَ كُتُبَهُ بِمَسْجِدِ ابْنِ جَرْدَةُ
بِبَغْدَادَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى
الثَّمَانِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الْقَاسِمِ، أَبُو الْفَضْلِ، قَاضِي الْقُضَاةِ بِدِمَشْقَ، كَمَالُ
الدَّيْنِ الشَّهْرُزُورِيُّ، الْمَوْصِلِيُّ، وَلَهُ بِهَا مَدْرَسَةٌ عَلَى
الشَّافِعِيَّةِ، وَأُخْرَى بِنَصِيبِينَ، وَكَانَ فَاضِلًا دَيِّنًا أَمِينًا
ثِقَةً وَرِعًا، وَلِيَ الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ لِنُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ
زَنْكِيٍّ، وَاسْتَوْزَرَهُ أَيْضًا فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ السَّاعِي قَالَ:
وَكَانَ يَبْعَثُهُ فِي الرَّسَائِلِ، كَتَبَ مَرَّةً عَلَى أَعْلَى قِصَّةٍ إِلَى
الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَفِي: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّسُولُ، فَكَتَبَ
الْخَلِيفَةُ تَحْتَ ذَلِكَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: وَقَدْ
فَوَّضَ إِلَيْهِ نُورُ الدِّينِ نَظَرَ الْجَامِعِ وَدَارَ الضَّرْبِ، وَعَمَّرَ
لَهُ الْمَارَسْتَانَ وَالْمَدَارِسَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ
الْمُهِمَّاتِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فِي الْمُحَرَّمِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِدِمَشْقَ.
الْخَطِيبُ شَمْسُ الدِّينِ
بْنُ الْوَزِيرِ أَبُو الْمَضَاءِ، خَطِيبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَابْنُ
وَزِيرِهَا، كَانَ أَوَّلَ مَنْ خَطَبَ بِدِيَارِ مِصْرَ لِلْخَلِيفَةِ
الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ الْعَبَّاسِيِّ، بِأَمْرِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ
صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ، ثُمَّ حَظِيَ عِنْدَهُ حَتَّى جَعَلَهُ
سَفِيرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُلُوكِ وَالْخُلَفَاءِ، وَكَانَ رَئِيسًا مُطَاعًا
كَرِيمًا مُمَدَّحًا، يَتَرَامَى عَلَيْهِ الشُّعَرَاءُ وَالْأُدَبَاءُ. ثُمَّ
جَعَلَ مَكَانَهُ فِي السِّفَارَةِ وَأَدَاءِ الرَّسَائِلِ ضِيَاءَ الدِّينِ ابْنَ
قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّهْرُزُورِيَّ الْمُتَقَدِّمَ بِمَرْسُومٍ سُلْطَانِيٍّ،
وَكَانَتْ وَظِيفَةً مُقَرَّرَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا أَمَرَ السُّلْطَانُ بِبِنَاءِ قَلْعَةِ الْجَبَلِ وَإِحَاطَةِ سُورٍ عَلَى
الْقَاهِرَةِ وَمِصْرَ يَشْمَلُهُمَا جَمِيعًا، فَعُمِّرَتْ قَلْعَةٌ لِلْمَلِكِ
لَمْ يَكُنْ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِثْلُهَا وَلَا عَلَى شَكْلِهَا،
وَوَلِيَ عِمَارَةَ ذَلِكَ الْأَمِيرُ بَهَاءُ الدِّينِ قَرَاقُوشُ مَمْلُوكُ
تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الرَّمْلَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا سَارَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ
صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ مِنْ مِصْرَ قَاصِدًا غَزْوَ الْفِرِنْجِ،
فَانْتَهَى إِلَى بِلَادِ الرَّمْلَةِ فَسَبَى وَسَلَبَ وَغَنِمَ وَقَسَرَ
وَكَسَرَ وَكَسَبَ، ثُمَّ تَشَاغَلَ جَيْشُهُ بِالْغَنَائِمِ، وَتَفَرَّقُوا فِي
الْقُرَى وَالْمَحَالِّ تَفَرُّقَ الْهَائِمِ، وَبَقِيَ السُّلْطَانُ فِي
طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ مُنْفَرِدًا، فَهَجَمَتْ عَلَيْهِ الْفِرِنْجُ فِي
جَحْفَلٍ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، فَمَا سَلِمَ السُّلْطَانُ إِلَّا بَعْدَ جُهْدٍ
جَهِيدٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، ثُمَّ تَرَاجَعَ الْجَيْشُ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ،
وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَوَقَعَتِ الْأَرَاجِيفُ فِي النَّاسِ
بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَمَا صَدَّقَ أَهْلُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِرُؤْيَتِهِ
بَعْدَمَا بَلَغَهُمْ مِنَ الْإِرْجَافِ وَالْإِرْهَابِ، وَصَارَ الْأَمْرُ كَمَا
قِيلَ:
رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ
وَمَعَ هَذَا دَقَّتِ الْبَشَائِرُ فِي الْبُلْدَانِ فَرَحًا بِسَلَامَةِ
السُّلْطَانِ، وَلَمْ تَجْرِ مِثْلُ هَذِهِ الْوَقْعَةِ إِلَّا بَعْدَ عَشْرِ
سِنِينَ، وَذَلِكَ يَوْمَ حِطِّينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،
وَقَدْ ثَبَتَ السُّلْطَانُ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ ثَبَاتًا عَظِيمًا، وَأَسَرَ
لِلْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ ابْنِ أَخِي السُّلْطَانِ
وَلَدُهُ شَاهِنْشَاهْ، فَبَقِيَ عِنْدَهُمْ سَبْعَ سِنِينَ، وَقُتِلَ ابْنُهُ
الْآخَرُ، وَكَانَ شَابًّا قَدْ طَرَّ شَارِبُهُ، فَحَزِنَ عَلَى الْمَقْتُولِ
وَالْمَفْقُودِ، وَصَبَرَ تَأَسِّيًا بِأَيُّوبَ، وَنَاحَ كَمَا نَاحَ دَاوُدُ،
وَأُسِرَ الْفَقِيهَانِ الْأَخَوَانِ، ضِيَاءُ الدِّينِ عِيسَى، وَظَهِيرُ
الدِّينِ، فَافْتَدَاهُمَا السُّلْطَانُ بَعْدَ سِنِينَ بِسَبْعِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ.
وَفِيهَا تَخَبَّطَتِ الدَّوْلَةُ بِحَلَبَ، وَقَبَضَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الصَّالِحُ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُورِ الدِّينِ عَلَى الْخَادِمِ كُمُشْتِكِينَ، وَأَلْزَمَهُ
بِتَسْلِيمِ قَلْعَةِ حَارِمٍ وَكَانَتْ لَهُ، فَأَبَى مِنْ ذَلِكَ، فَعَلَّقَهُ
مَنْكُوسًا، وَدَخَّنَ تَحْتَ أَنْفِهِ حَتَّى مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ. وَقَصَدَتِ
الْفِرِنْجُ حَارِمًا فَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ سُلِّمَتْ إِلَى الْمَلِكِ
الصَّالِحِ.
وَفِيهَا جَاءَ مَلِكٌ كَبِيرٌ مِنْ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ يَرُومُ أَخْذَ الشَّامِ
لِغَيْبَةِ السُّلْطَانِ وَاشْتِغَالِ نُوَّابِهِ بِلَذَّاتِهِمْ.
قَالَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ: وَمِنْ شَرْطِ هُدْنَةِ الْفِرِنْجِ أَنَّهُ مَتَى
جَاءَ مَلِكٌ كَبِيرٌ مِنْ مُلُوكِهِمْ لَا يُمْكِنُهُمْ دَفْعُهُ فَإِنَّهُمْ
يُقَاتِلُونَ مَعَهُ وَيُؤَازِرُونَهُ وَيَنْصُرُونَهُ، فَإِذَا انْصَرَفَ
عَنْهُمْ عَادَتِ الْهُدْنَةُ كَمَا كَانَتْ ; فَقَصَدَ
هَذَا الْمَلِكُ وَجُمْلَةُ الْفِرِنْجِ مَعَهُ مَدِينَةَ حَمَاةَ، وَصَاحِبُهَا
شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودٌ خَالُ السُّلْطَانِ مَرِيضٌ، وَنَائِبُ دِمَشْقَ
وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ مَشْغُولُونَ بِلَذَّاتِهِمْ، فَكَادُوا
يَأْخُذُونَ الْبَلَدَ، وَلَكِنْ هَزَمَهُمُ اللَّهُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ،
فَانْصَرَفُوا إِلَى حَارِمٍ فَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ أَخْذِهَا، وَكَشْفَهُمْ
عَنْهَا الْمَلِكُ الصَّالِحُ صَاحِبُ حَلَبَ وَقَدْ دَفَعَ إِلَيْهِمْ مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالْأُسَارَى مَا طَلَبُوهُ. وَتُوُفِّيَ صَاحِبُ حَمَاةَ
الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ تِكِشَ، خَالُ السُّلْطَانِ
النَّاصِرِ، وَتُوُفِّيَ قَبْلَهُ وَلَدُهُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، رَحِمَهُمَا
اللَّهُ.
وَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ بِنُزُولِ الْفِرِنْجِ عَلَى حَارِمٍ خَرَجَ
مِنْ مِصْرَ قَاصِدًا بِلَادَ الشَّامِ ; لِغَزْوِ الْفِرِنْجِ - لَعَنَهُمُ
اللَّهُ تَعَالَى - فَكَانَ دُخُولُهُ إِلَى دِمَشْقَ فِي الرَّابِعِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ، وَصُحْبَتُهُ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ، وَتَأَخَّرَ
الْقَاضِي الْفَاضِلُ بِمِصْرَ نَاوِيًا أَدَاءَ الْحَجِّ فِي هَذَا الْعَامِ،
تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ.
وَفِيهَا جَاءَ كِتَابُ الْقَاضِي الْفَاضِلِ إِلَى النَّاصِرِ يُهَنِّئُهُ
بِوُجُودِ مَوْلُودٍ لَهُ، وَهُوَ أَبُو سُلَيْمَانَ دَاوُدُ، وَبِهِ كَمَلَ لَهُ
اثْنَا عَشَرَ ذَكَرًا، وَقَدْ وُلِدَ لَهُ بَعْدَهُ عِدَّةُ أَوْلَادٍ ذُكُورٍ
أَيْضًا، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ عَنْ سَبْعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا وَابْنَةٍ صَغِيرَةٍ
اسْمُهَا مُؤْنِسَةُ، الَّتِي تَزَوَّجَهَا ابْنُ عَمِّهَا الْمَلِكُ الْكَامِلُ
مُحَمَّدُ بْنُ الْعَادِلِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ جَرَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْيَهُودِ
وَالْعَامَّةِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَتْ بِسَبَبِ أَنَّ مُؤَذِّنًا عِنْدَ كَنِيسَةِ
الْيَهُودِ نَالَ مِنْهُ بَعْضُ الْيَهُودِ بِكَلَامٍ، فَشَتَمَهُ الْمُسْلِمُ،
فَاقْتَتَلَا،
فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ يَشْتَكِي مِنْهُ إِلَى الدِّيوَانِ،
وَتَفَاقَمَ الْحَالُ، وَكَثُرَتِ الْعَوَامُّ، وَأَكْثَرُوا الضَّجِيجَ، وَلَمَّا
كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ مَنَعَتِ الْعَامَّةُ إِقَامَةَ الْخُطْبَةِ فِي بَعْضِ
الْجَوَامِعِ، وَخَرَجُوا مِنْ فَوْرِهِمْ، فَنَهَبُوا سُوقَ الْعَطَّارِينَ
الَّذِي فِيهِ الْيَهُودُ، وَذَهَبُوا إِلَى كَنِيسَةِ الْيَهُودِ فَنَهَبُوهَا،
وَلَمْ يَتَمَكَّنِ الشُّرَطُ مِنْ رَدِّهِمْ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِصَلْبِ
بَعْضِ الْعَامَّةِ، فَأَخْرَجَ فِي اللَّيْلِ جَمَاعَةً مِنَ الشُّطَّارِ
الَّذِينَ كَانُوا فِي الْحُبُوسِ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ فَصُلِبُوا،
فَظَنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ هَذَا كَانَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْكَائِنَةِ.
فَسَكَنَتِ الْفِتْنَةُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا خَرَجَ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ عَضُدُ الدَّوْلَةِ ابْنُ رَئِيسِ
الرُّؤَسَاءِ ابْنُ الْمُسْلِمَةِ قَاصِدًا الْحَجَّ، وَخَرَجَ النَّاسُ فِي
خِدْمَتِهِ لِيُوَدِّعُوهُ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ
فِي صُورَةِ فُقَرَاءَ وَمَعَهُمْ قِصَصٌ، فَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمْ لِيُنَاوِلَهُ الْقِصَّةَ
فَضَرَبَهُ بِالسِّكِّينِ ضَرَبَاتٍ، وَهَجَمَ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ
فَهَبَرُوهُ وَجَرَحُوا جَمَاعَةً حَوْلَهُ، وَقُتِلَ الثَّلَاثَةُ مِنْ
فَوْرِهِمْ وَحُرِّقُوا، وَرَجَعَ الْوَزِيرُ إِلَى مَنْزِلِهِ مَحْمُولًا فَمَاتَ
فِي يَوْمِهِ، وَهَذَا الْوَزِيرُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ وَلَدَيِ الْوَزِيرِ ابْنِ
هُبَيْرَةَ وَأَعْدَمَهُمَا، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ، وَكَمَا
تَدِينُ تُدَانُ، جَزَاءً وِفَاقًا. وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
صَدَقَةُ بْنُ الْحُسَيْنِ
أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْحَدَّادِ، قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ،
وَتَفَقَّهَ وَأَفْتَى، وَقَالَ الشِّعْرَ وَنَظَرَ فِي الْكَلَامِ وَنَاظَرَ،
وَلَهُ تَارِيخٌ ذَيَّلَ فِيهِ عَلَى شَيْخِهِ ابْنِ الزَّاغُونِيِّ، وَفِيهِ غَرَائِبُ
وَعَجَائِبُ.
وَقَالَ ابْنُ السَّاعِي كَانَ شَيْخًا عَالِمًا فَاضِلًا
وَكَانَ فَقِيرًا يَأْكُلُ مِنْ أُجْرَةِ النَّسْخِ، وَكَانَ يَأْوِي إِلَى
مَسْجِدٍ بِبَغْدَادَ عِنْدَ الْبَدْرِيَّةِ يَؤُمُّ فِيهِ، وَكَانَ يَتَعَتَّبُ
عَلَى الزَّمَانِ وَبَنِيهِ.
وَرَأَيْتُ ابْنَ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " يَذُمُّهُ
وَيَرْمِيهِ بِالْعَظَائِمِ، وَأَوْرَدَ لَهُ مِنْ أَشْعَارِهِ مَا فِيهِ
مُشَابَهَةٌ لِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ فِي الزَّنْدَقَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ
وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ، وَرُوِيَتْ لَهُ مَنَامَاتٌ غَيْرُ
صَالِحَةٍ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَبُو الْمُظَفَّرِ الْحَنَفِيُّ،
الْمَعْرُوفُ بِالْمُشَطَّبِ، كَانَ مِنَ الْفُضَلَاءِ الْمَشَاهِيرِ، تَفَقَّهَ،
وَدَرَسَ، وَأَفْتَى، وَنَاظَرَ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ
الثَّمَانِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَسْعَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو مَنْصُورٍ الْعَطَّارُ، الْمَعْرُوفُ بِحَفَدَةَ، سَمِعَ الْكَثِيرَ
وَتَفَقَّهَ وَنَاظَرَ وَأَفْتَى وَدَرَسَ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ فَمَاتَ بِهَا فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مَحْمُودُ بْنُ تِكِشَ، شِهَابُ الدِّينِ الْحَارِمِيُّ
خَالُ السُّلْطَانِ صَلَاحِ
الدِّينِ، مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ وَشُجْعَانِهِمْ،
وَقَدْ أَقْطَعُهُ ابْنُ أُخْتِهِ حَمَاةَ حِينَ فَتَحَهَا، وَقَدْ حَاصَرَهُ
الْفِرِنْجُ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَفَتَحُوهَا وَقَتَلُوا
بَعْضَ أَهْلِهَا، فَرَدُّوهُمْ خَائِبِينَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
فَاطِمَةُ بِنْتُ نَصْرِ بْنِ الْعَطَّارِ
كَانَتْ مِنْ سَادَاتِ النِّسَاءِ، وَهِيَ مِنْ سُلَالَةِ أُخْتِ صَاحِبِ
الْمَخْزَنِ، وَكَانَتْ مِنَ الْعَابِدَاتِ الْمُتَوَرِّعَاتِ الْمُخَدَّرَاتِ،
يُقَالُ: إِنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ مَنْزِلِهَا سِوَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، وَقَدْ
أَثْنَى عَلَيْهَا الْخَلِيفَةُ وَغَيْرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا وَرَدَ كِتَابٌ مِنَ الْقَاضِي الْفَاضِلِ مِنْ مِصْرَ إِلَى السُّلْطَانِ
وَهُوَ بِالشَّامِ يُهَنِّئُهُ بِسَلَامَةِ أَوْلَادِهِ الْمُلُوكِ الِاثْنَيْ
عَشَرَ، يَقُولُ فِي بَعْضِهِ: وَهُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ بَهْجَةُ الدُّنْيَا
وَزِينَتُهَا، وَرَيْحَانَةُ الْحَيَاةِ وَزَهْرَتُهَا، وَإِنَّ فُؤَادًا وَسِعَ
فِرَاقَهُمْ لَوَاسِعٌ، وَإِنَّ قَلْبًا قَنِعَ بِأَخْبَارِهِمْ لَقَانِعٌ، وَإِنَّ
طَرَفًا نَامَ عَنِ الْبُعْدِ عَنْهُمْ لَهَاجِعٌ، وَإِنَّ مَلِكًا مَلَكَ
تَصَبُّرَهُ عَنْهُمْ لَحَازِمٌ، وَإِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ بِهِمْ لَنِعْمَةٌ
بِهَا الْعَيْشُ نَاعِمٌ، أَمَا يَشْتَاقُ جِيدُ الْمَوْلَى أَنْ يَتَطَوَّقَ
بِدُرَرِهِمْ ؟ أَمَا تَظْمَأُ عَيْنُهُ أَنْ تَتَرَوَّى بِنَظَرِهِمْ ; أَمَا
يَحِنُّ قَلْبُهُ إِلَى قَلْبِهِ ؟ أَمَا يَلْتَقِطُ هَذَا الطَّائِرُ
بِتَقْبِيلِهِمْ مَنْ خَرَجَ مِنْ حُبِّهِ ؟ وَلِلْمَوْلَى - أَبْقَاهُ اللَّهُ -
أَنْ يَقُولَ:
وَمَا مِثْلُ هَذَا الشَّوْقِ تَحْمِلُ مُضْغَةٌ وَلَكِنَّ قَلْبِي فِي الْهَوَى
يَتَقَلَّبُ
وَفِيهَا أَسْقَطَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ الْمُكُوسَ وَالضَّرَائِبَ عَنِ
الْحُجَّاجِ بِمَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ يُؤْخَذُ مِنْ حُجَّاجِ الْغَرْبِ شَيْءٌ
كَثِيرٌ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَائِهِ حُبِسَ فَرُبَّمَا فَاتَهُ الْوُقُوفُ
بِعَرَفَةَ، وَعَوَّضَ أَمِيرَهَا بِمَالٍ يُقْطَعُهُ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَأَنْ
يُحْمَلَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَمَانِيَةُ آلَافِ إِرْدَبٍّ غَلَّةً إِلَى
مَكَّةَ ; لِيَكُونَ عَوْنًا لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ، وَرِفْقًا بِمَا تَيَسَّرَ
عَلَى الْمُجَاوِرِينَ مِنَ ابْتِيَاعِهِ، وَقَرَّرَ لِلْمُجَاوِرِينَ أَيْضًا
غَلَّاتٍ تُحْمَلُ إِلَيْهِمْ، فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ
الْأَوْقَاتِ.
وَفِيهَا عَصَى الْأَمِيرُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مُقَدَّمٍ
بِبَعْلَبَكَّ، وَلَمْ يَجِئْ إِلَى خِدْمَةِ السُّلْطَانِ وَهُوَ نَازِلٌ عَلَى
ظَاهِرِ حِمْصَ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَخَا السُّلْطَانِ
تُورَانْشَاهْ طَلَبَ بَعْلَبَكَّ مِنَ السُّلْطَانِ فَأَطْلَقَهَا لَهُ،
فَامْتَنَعَ ابْنُ الْمُقَدَّمِ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهَا حَتَّى جَاءَ
السُّلْطَانُ بِنَفْسِهِ، فَحَصَرَهُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، حَتَّى جَاءَتِ
الْأَمْطَارُ وَالْبَرَدُ، فَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ فِي رَجَبٍ، وَوَكَّلَ
بِالْبَلَدِ مَنْ يَحْصُرُهُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، ثُمَّ عَوَّضَ ابْنَ
الْمُقَدَّمِ عَنْهَا بِتَعْوِيضٍ كَثِيرٍ خَيْرٍ مِمَّا كَانَ بِيَدِهِ، فَخَرَجَ
مِنْهَا وَتَسَلَّمَهَا تُورَانْشَاهْ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَكَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِسَبَبِ
قِلَّةِ الْمَطَرِ، عَمَّ الْعِرَاقَ وَالشَّامَ وَدِيَارَ مِصْرَ، وَاسْتَمَرَّ
إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، فَجَاءَ الْمَطَرُ وَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ،
وَلَكِنْ تَعَقَّبَ ذَلِكَ وَبَاءٌ شَدِيدٌ، وَعَمَّ الْبِلَادَ مَرَضٌ وَاحِدٌ،
وَهُوَ السِّرْسَامُ، فَمَا ارْتَفَعَ إِلَّا فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسَبْعِينَ،
فَمَاتَ بِسَبَبِ ذَلِكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأُمَمٌ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَهُمْ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا وَصَلَتْ خُلَعُ الْخَلِيفَةِ إِلَى الْمَلِكِ صَلَاحِ
الدِّينِ وَهُوَ بِدِمَشْقَ، وَكَانَتْ سَنِيَّةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَزِيدَ فِي
أَلْقَابِهِ، مُعِزُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَلَعَ عَلَى أَخِيهِ
تُورَانْشَاهْ وَلُقِّبَ بِمُصْطَفَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَفِيهَا جَهَّزَ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ ابْنَ أَخِيهِ فَرُّوخْشَاهْ بْنَ
شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ بَيْنَ يَدَيْهِ لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ الَّذِينَ قَدْ
عَزَمُوا عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَاثُوا فِي نَوَاحِي دِمَشْقَ
وَقُرَاهَا، فَنَهَبُوا مِمَّا حَوْلَهَا وَأَرْجَاءَهَا، وَأَمْرَهُ أَنْ
يُدَارِيَهُمْ حَتَّى يَتَوَسَّطُوا الْبِلَادَ، وَلَا يُقَاتِلَهُمْ حَتَّى
يَقَدَمَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا الْتَقَوْا عَاجَلُوهُ بِالْقِتَالِ، فَكَسَرَهُمْ
وَقَتَلَ مِنْ مُلُوكِهِمْ
صَاحِبَ النَّاصِرَةِ الْهَنْفَرِيَّ، وَكَانَ مِنْ
أَكَابِرِ مُلُوكِهِمْ وَشُجْعَانِهِمْ، لَا يُنَهْنِهُهُ اللِّقَاءَ، فَكَبَتَهُ
اللَّهُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ فِي
إِثْرِ ابْنِ أَخِيهِ فَمَا وَصَلَ إِلَى الْكُسْوَةِ حَتَّى تَلَقَّتْهُ
الرُّءُوسُ عَلَى الرِّمَاحِ، وَالْغَنَائِمُ وَالْأُسَارَى، وَالْجَيْشُ فِي
سُمْرِهِ وَبَيْضِهِ مِنَ الْبَنَادِقِ وَالصِّفَاحِ.
وَفِيهَا بَنَتِ الْفِرِنْجُ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - قَلْعَةً عِنْدَ بَيْتِ
الْأَحْزَانِ لِلدَّاوِيَةِ، فَجَعَلُوهَا مَرْصَدًا لِحَرْبِ الْمُسْلِمِينَ،
وَقَطْعِ طَرِيقِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَنَقَضَتْ مُلُوكُهُمُ الْعُهُودَ الَّتِي
كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ صَلَاحِ الدِّينِ، وَأَغَارُوا عَلَى نَوَاحِي
الْبُلْدَانِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ; لِيَشْغَلُوا الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ،
وَتَفَرَّقَتْ جُيُوشُهُمْ فَلَا تَجْتَمِعُ فِي بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَرَتَّبَ
السُّلْطَانُ ابْنَ أَخِيهِ تَقِيَّ الدِّينِ عُمَرَ بِثَغْرِ حَمَاةَ وَمَعَهُ
شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مُقَدَّمٍ وَسَيْفُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ
الْمَشْطُوبُ، وَبِثَغْرِ حِمْصَ ابْنَ عَمِّهِ نَاصِرَ الدِّينِ بْنَ أَسَدِ
الدِّينِ شَيرَكُوهْ، وَبَعَثَ إِلَى أَخِيهِ سَيْفِ الدِّينِ أَبِي بَكْرٍ
الْعَادِلِ نَائِبِهِ بِمِصْرَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ
فَارِسٍ يَسْتَعِينُ بِهِمْ عَلَى قِتَالِ الْفِرِنْجِ، وَكَتَبَ إِلَى
الْفِرِنْجِ يَأْمُرُهُمْ بِتَخْرِيبِ هَذَا الْحِصْنِ الَّذِي بَنَوْهُ
لِلدَّاوِيَةِ، فَامْتَنَعُوا إِلَّا أَنْ يَبْذُلَ لَهُمْ مَا غَرِمُوهُ
عَلَيْهِ، فَبَذَلَ لَهُمْ سِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ فَلَمْ يَقْبَلُوا،
فَوَصَلَهُمْ إِلَى مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ فَأَبَوْا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ
أَخِيهِ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ: ابْذُلْ هَذِهِ فِي جُنُودِ الْمُسْلِمِينَ،
وَسِرْ إِلَى هَذَا الْحِصْنِ فَخَرِّبْهُ. فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ
وَخَرَّبَهُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَفِيهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَضِيءُ بِكِتَابَةِ لَوْحٍ عَلَى قَبْرِ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فِيهِ
آيَةُ الْكُرْسِيِّ، وَبَعْدَهَا: هَذَا قَبْرُ تَاجِ
السُّنَّةِ، وَحِيدِ الْأُمَّةِ، الْعَالِي الْهِمَّةِ، الْعَالِمِ الْعَابِدِ
الْفَقِيهِ الزَّاهِدِ. وَذَكَرَ تَارِيخَ وَفَاتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا احْتِيطَ بِبَغْدَادَ عَلَى شَاعِرٍ يُنْشِدُ لِلرَّوَافِضِ، يُقَالُ
لَهُ: ابْنُ قَرَايَا. يَقِفُ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَذْكُرُ أَشْعَارًا
يُضَمِّنُهَا ذَمَّ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَسَبَّهُمْ،
وَتَجْوِيرَهُمْ، وَتَهْجِينَ مَنْ أَحَبَّهُمْ، فَعُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ بِأَمْرِ
الْخَلِيفَةِ، وَاسْتُنْطِقَ فَإِذَا هُوَ رَافِضِيٌّ جَلْدٌ دَاهِيَةٌ، فَأَفْتَى
الْفُقَهَاءُ بِقَطْعِ لِسَانِهِ وَيَدَيْهِ، فَفُعِلَ بِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ
اخْتَطَفَتْهُ الْعَامَّةُ فَمَا زَالُوا يَرْمُونَهُ بِالْآجُرِّ حَتَّى أَلْقَى
نَفْسَهُ فِي دِجْلَةَ، فَاسْتَخْرَجُوهُ مِنْهَا وَقَتَلُوهُ حَتَّى مَاتَ،
فَأَخَذُوا شَرِيطًا وَرَبَطُوهُ فِي رِجْلَيْهِ وَطَوَّفُوا بِهِ فِي الْبَلَدِ
يُجَرْجِرُونَهُ فِي أَكْنَافِهَا، ثُمَّ أَلْقَوْهُ فِي بَعْضِ الْأَتُونَاتِ
مَعَ الْآجُرِّ وَالْكِلْسِ، وَعَجَزَ الشُّرَطُ عَنْ تَخْلِيصِهِ مِنْهُمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَسْعَدُ بْنُ بَلْدَرْكَ أَبُو أَحْمَدَ الْجِبْرِيلِيُّ
سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ شَيْخًا ظَرِيفًا، حَسَنَ الْمُذَاكَرَةِ، جَيِّدَ
النَّادِرَةِ، سَرِيعَ الْمُبَادَرَةِ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
مِائَةِ سَنَةٍ وَأَرْبَعِ سِنِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ نَسِيمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْخَيَّاطُ،
عَتِيقُ الرَّئِيسِ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ عَيْشُونَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَقَارَبَ
الثَّمَانِينَ، سَقَطَ مِنْ دَرَجَةٍ فَمَاتَ.
قَالَ: أَنْشَدَنِي مَوْلَى وَالِدِي، يَعْنِي ابْنَ
أَعْلَى الْحَكِيمَ أَبَا الْفَضْلِ بْنَ عَيْشُونَ:
الْقَارِئُ التَّشْرِيحَ أَجْدَرُ بِالتُّقَى مِنْ رَاهِبٍ فِي دَيْرِهِ
مُتَقَوِّسِ وَمُرَاقِبُ الْأَفِلَاكِ كَانَتْ نَفْسُهُ
بِعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ أَحْرَى الْأَنْفُسِ وَالْمَاسِحُ الْأَرْضِينَ وَهْيَ
فَسِيحَةٌ
أَوْلَى بِمَسْحٍ فِي أَكُفِّ اللُّمَّسِ أَوْلَى بِخَشْيَةِ رَبِّهِ مِنْ جَاهِلٍ
بِمُثَلَّثٍ وَمُرَبَّعٍ وَمُخَمَّسِ
الْحَيْصَ بَيْصَ
سَعْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، شِهَابُ الدِّينِ أَبُو الْفَوَارِسِ
الصَّيْفِيُّ، الشَّاعِرُ، لَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ مَشْهُورٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ خَامِسَ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ اثْنَتَانِ
وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالنِّظَامِيَّةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ
التِّبْنِ، وَلَمْ يُعْقِبْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْمُرَاسَلَاتِ بَدِيلٌ،
كَانَ يَتَقَعَّرُ فِيهَا وَيَتَفَاصَحُ جِدًّا، فَلَا تُوَاتِيهِ إِلَّا وَهِيَ
مُعَجْرَفَةٌ، وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَسُئِلَ أَبُوهُ
عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا سَمِعْتُهُ إِلَّا مِنْهُ. فَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ
يَهْجُوهُ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ ذَلِكَ:
كَمْ تَبَادَى وَكَمْ تُطَوِّلُ طُرْطُو رَكَ مَا فِيكَ شَعْرَةٌ مِنْ تَمِيمِ
فَكُلِ الضَّبَّ وَابْلَعِ الْحَنْظَلَ الْيَا بِسَ وَاشْرَبْ إِنْ شِئْتَ بَوْلَ
الظَّلِيمِ
لَيْسَ ذَا وَجْهُ مَنْ يُضِيفُ وَلَا يَقْ رِي وَلَا يَدْفَعُ الْأَذَى عَنْ
حَرِيمِ
وَمِنْ شِعْرِ الْحَيْصَ بَيْصَ الْجَيِّدِ:
سَلَامَةُ الْمَرْءِ سَاعَةً عَجَبُ وَكُلُّ شَيْءٍ لِحَتْفِهِ سَبَبُ
يَفِرُّ وَالْحَادِثَاتُ تَطْلُبُهُ يَفِرُّ مِنْهَا وَنَحْوَهَا الْهَرَبُ
فَكَيْفَ يَبْقَى عَلَى تَقَلُّبِهِ مُسَلَّمًا مَنْ حَيَاتُهُ الْعَطَبُ
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا:
لَا تَلْبَسِ الدَّهْرَ عَلَى غِرَّةٍ فَمَا لِمَوْتِ الْحَيِّ مِنْ بُدِّ
وَلَا يُخَادِعْكَ طَوِيلُ الْبَقَا فَتَحْسَبَ الطُّولَ مِنَ الْخُلْدِ
يَقْرُبُ مَا كَانَ لَهُ آخِرٌ مَا أَقْرَبَ الْمَهْدَ مِنَ اللَّحْدِ
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ " الْعِقْدِ "، وَهُوَ
أَبُو عُمَرَ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي
" عِقْدِهِ ":
أَلَا إِنَّمَا الدُّنْيَا غُضَارَةُ أَيْكَةٍ إِذَا اخْضَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ
جَفَّ جَانِبُ
وَمَا الدَّهْرُ وَالْآمَالُ إِلَّا فَجَائِعٌ عَلَيْهَا وَمَا اللَّذَّاتُ إِلَّا
مَصَائِبُ
فَلَا تَكْتَحِلْ عَيْنَاكَ مِنْهَا بِعَبْرَةٍ عَلَى ذَاهِبٍ مِنْهَا فَإِنَّكَ
ذَاهِبُ
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ حَيْصَ بَيْصَ هَذَا فِي "
ذَيْلِهِ "، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَسَمَّعَ عَلَيْهِ دِيوَانَهُ
وَرَسَائِلَهُ، وَأَثْنَى عَلَى رَسَائِلِهِ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ، وَقَالَ:
كَانَ فِيهِ تِيهٌ وَتَعَاظُمٌ، وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا مُعْرِبًا، وَكَانَ
فَقِيهًا شَافِعِيَّ
الْمَذْهَبِ، وَاشْتَغَلَ بِالْخِلَافِ وَعِلْمِ النَّظَرِ، ثُمَّ تَشَاغَلَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالشِّعْرِ، وَكَانَ مَنْ أَخْبَرِ النَّاسِ بِأَشْعَارِ الْعَرَبِ، وَاخْتِلَافِ لُغَاتِهِمْ. قَالَ: وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: الْحَيْصَ بَيْصَ ; لِأَنَّهُ رَأَى النَّاسَ فِي حَرَكَةٍ وَاخْتِلَاطٍ، فَقَالَ: مَا لِلنَّاسِ فِي حَيْصَ بَيْصَ. أَيْ فِي شِدَّةٍ وَهَرَجٍ، فَغَلَبَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْكَلِمَةُ. وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ وَلَدِ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ طَبِيبِ الْعَرَبِ. وَلَمْ يَتْرُكْ عَقِبًا. كَانَتْ لَهُ حَوَالَةٌ بِالْحِلَّةِ، فَذَهَبَ يَتَقَاضَاهَا، فَتُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ مَرْجِ عُيُونٍ.
اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالسُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ نَازِلٌ
بِجَيْشِهِ عَلَى تَلِّ الْقَاضِي بِبَانِيَاسَ، ثُمَّ قَصَدَهُ الْفِرِنْجُ
بِجَمْعِهِمْ، فَنَهَضَ إِلَيْهِمْ نُهُوضَ الْأَسَدِ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ
تَوَاجَهَ الْفَرِيقَانِ وَاصْطَدَمَ الْجُنْدَانِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ
نَصْرَهُ وَأَعَزَّ جُنْدَهُ وَهَزَمَ الْأَعْدَاءَ وَحْدَهُ، فَفَرَّتْ
أَلْوِيَةُ الصُّلْبَانِ ذَاهِبَةً، وَخَيْلُ اللَّهِ لِرِقَابِهِمْ رَاكِبَةٌ،
فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَأُسِرَ مِنْ مُلُوكِهِمْ
جَمَاعَةٌ، وَأَنَابُوا إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، مِنْهُمْ مُقَدَّمُ
الدَّاوِيَّةِ، وَمُقَدَّمُ الْإِسْبِتَارِيَّةِ وَصَاحِبُ الرَّمْلَةِ وَصَاحِبُ
طَبَرِيِّةَ وَقَسْطَلَانُ يَافَا وَآخَرُونَ مِنْ مُلُوكِهِمْ، وَخَلْقٌ مِنْ
شُجْعَانِهِمْ وَأَبْطَالِهِمْ، وَمِنْ فُرْسَانِ الْقُدْسِ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ
قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ أَسِيرٍ مِنْ أَشْرَافِ النَّصَارَى، فَصَارُوا
يَتَهَادَوْنَ فِي قُيُودِهِمْ كَأَنَّهُمْ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى.
قَالَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ: فَاسْتَعْرَضَهُمُ السُّلْطَانُ فِي اللَّيْلِ
حَتَّى أَضَاءَ الْفَجْرُ عَلَى الظَّلْمَاءِ، وَصَلَّى يَوْمَئِذٍ الصُّبْحَ
بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ، وَكَانَ السُّلْطَانُ جَالِسًا لَيْلَتَئِذٍ فِي
نَحْوِ الْعِشْرِينَ وَهُمْ فِي هَذِهِ الْعُدَّةِ،
فَسَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ، ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى دِمَشْقَ ;
لِيُعْتَقَلُوا بِقَلْعَتِهَا وَلِيَكُونُوا فِي كَنَفِ دَوْلَتِهَا، فَافْتَدَى
ابْنُ الْبَارِزَانِيِّ صَاحِبُ الرَّمْلَةِ نَفْسَهُ بَعْدَ سَنَةٍ بِمِائَةِ
أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ صُورِيَّةٍ وَإِطْلَاقِ أَلْفِ أَسِيرٍ مِنْ
بِلَادِهِ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَكَذَا افْتَدَى جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ
بِأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ وَتُحَفٍ جَلِيلَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَاتَ فِي السِّجْنِ،
فَانْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى سِجِّينٍ، وَهَكَذَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِالْكَافِرِينَ.
وَاتَّفَقَ أَنَّهُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي ظَفِرَ فِيهِ السُّلْطَانُ عَلَى
الْفِرِنْجِ بِمَرْجِ عُيُونٍ، ظَهَرَ أُسْطُولُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَطْسَةٍ
لِلْفِرِنْجِ فِي الْبَحْرِ وَأُخْرَى مَعَهَا فَغَنِمُوا مِنْهَا أَلْفَ رَأْسٍ
مِنَ السَّبْيِ، وَعَادَ إِلَى السَّاحِلِ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، وَقَدِ
امْتَدَحَ الشُّعَرَاءُ السُّلْطَانَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ بِمَدَائِحَ
كَثِيرَةٍ، وَكُتِبَ بِذَلِكَ إِلَى بَغْدَادَ فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِهَا
فَرَحًا وَسُرُورًا بِظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ
الْمُلْحِدِينَ.
وَكَانَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ غَائِبًا عَنْ هَذِهِ الْوَقْعَةِ
مُشْتَغِلًا بِمَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ قِلْجَ
أَرَسْلَانَ بَعَثَ يَطْلُبُ حِصْنَ رُعْبَانَ، وَزَعَمَ أَنَّ نُورَ الدِّينِ
اغْتَصَبَهُ مِنْهُ، وَأَنَّ وَلَدَهُ قَدْ أَغْضَى لَهُ عَنْهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ
السُّلْطَانُ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ إِلَى ذَلِكَ، فَبَعَثَ صَاحِبُ الرُّومِ
عِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ يُحَاصِرُونَهُ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ تَقِيُّ
الدِّينِ عُمَرُ فِي ثَمَانِمِائَةِ فَارِسٍ مِنْهُمْ
سَيْفُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْمَشْطُوبُ،
فَالْتَقَوْا بِهِمْ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاسْتَقَرَّتْ يَدُ
الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ عَلَى حِصْنِ رُعْبَانَ، وَقَدْ كَانَ مِمَّا عَوَّضَ
بِهِ ابْنَ الْمُقَدَّمِ عَنْ بَعْلَبَكَّ وَكَانَ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ
يَفْتَخِرُ بِهَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَيَرَى أَنَّهُ قَدْ هَزَمَ عِشْرِينَ أَلْفًا،
وَقِيلَ: ثَلَاثِينَ أَلْفًا بِثَمَانِمِائَةِ فَارِسٍ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي
ذَلِكَ أَنَّهُ بَيَّتَهُمْ وَأَغَارَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ غَارُّونَ، فَمَا
لَبِثُوا أَمَامَهُ بَلْ فَرُّوا مُنْهَزِمِينَ عَنْ آخِرِهِمْ، فَأَكْثَرَ
فِيهِمُ الْقَتْلَ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى جَمِيعِ مَا تَرَكُوهُ فِي خِيَامِهِمْ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَسَرَهُمْ يَوْمَ كَسَرَ السُّلْطَانُ الْفِرِنْجَ بِمَرْجِ
عُيُونٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَخْرِيبُ حِصْنِ بَيْتِ الْأَحْزَانِ وَهُوَ قَرِيبٌ
مِنْ صَفَدَ
ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ فِي جَحَافِلِهِ إِلَى الْحِصْنِ الَّذِي كَانَتِ
الْفِرِنْجُ قَدْ بَنَوْهُ فِي الْعَامِ الْمَاضِي وَحَفَرُوا فِيهِ بِئْرًا
عَيْنًا مَعِينًا، وَسَلَّمُوهُ إِلَى الدَّاوِيَّةِ، فَقَصَدَهُ السُّلْطَانُ
فَحَاصَرَهُ وَنَقَبَهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَأَلْقَى فِيهِ النِّيرَانَ
فَجَعَلَهُ دَكَّا وَخَرَّبَهُ إِلَى الْأَسَاسِ، وَغَنِمَ جَمِيعَ مَا فِيهِ مِنَ
الْحَوَاصِلِ، فَكَانَ فِيهِ مِائَةُ أَلْفِ قِطْعَةٍ مِنَ السِّلَاحِ، وَمِنَ
الْمَأْكَلِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَأَخَذَ مِنْهُ سَبْعَمِائَةِ أَسِيرٍ، فَقَتَلَ
بَعْضًا وَأَرْسَلَ إِلَى دِمَشْقَ الْبَاقِينَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ
مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، غَيْرَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ أُمَرَائِهِ عَشَرَةٌ بِسَبَبِ
مَا نَالَهُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْوَبَاءِ فِي مُدَّةِ الْحِصَارِ، وَكَانَتْ
أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَعَادَ النَّاسُ إِلَى زِيَارَةِ مَشْهَدِ يَعْقُوبَ
عَلَى عَادَتِهِمْ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
بِجَدِّكَ أَعْطَافُ الْقَنَا تَتَعَطَّفُ وَطَرْفُ
الْأَعَادِي دُونَ مَجْدِكَ يَطْرِفُ شِهَابُ هُدًى فِي ظُلْمَةِ الشِّرْكِ
ثَاقِبُ
وَسَيْفٌ إِذَا مَا هَزَّهُ اللَّهُ مُرْهَفُ وَقَفْتَ عَلَى حِصْنِ الْمَخَاضِ
وَإِنَّهُ
لَمَوْقِفُ حَقٍّ لَا يُوَازِيهِ مَوْقِفُ فَلَمْ يَبْدُ وَجْهُ الْأَرْضِ بَلْ
حَالَ دُونَهُ
رِجَالٌ كَآسَادِ الشَّرَى وَهْيَ تَزْحَفُ وَجَرْدَاءُ سَلْهُوبٌ وَدِرْعٌ
مُضَاعِفٌ
وَأَبْيَضُ هِنْدِيٌّ وَلَدْنٌ مُثَقَّفُ وَمَا رَجَعَتْ أَعْلَامُكَ الصُّفْرُ
سَاعَةً
إِلَى أَنْ غَدَتْ أَكْبَادُهَا السُّودُ تَرْجُفُ كَبَا مِنْ أَعَالِيهِ صَلِيبٌ
وَبِيعَةٌ
وَشَادَ بِهِ دِينٌ حَنِيفٌ وَمُصْحَفُ صَلِيبَةُ عُبَّادِ الصَّلِيبِ وَمَنْزِلُ
النُّزَالِ لَقَدْ غَادَرْتَهُ وَهْوَ صَفْصَفُ أَتَسْكُنُ أَوْطَانَ
النَّبِيِّينَ عُصْبَةٌ
تَمِينُ لَدَى أَيْمَانِهَا وَهْيَ تَحْلِفُ نَصَحْتُكُمُ وَالنُّصْحُ فِي
الدِّينِ وَاجِبٌ
ذَرُوا بَيْتَ يَعْقُوبَ فَقَدْ جَاءَ يُوسُفُ
وَقَالَ آخَرُ:
هَلَاكُ الْفِرِنْجِ أَتَى عَاجِلًا وَقَدْ آنَ تَكْسِيرُ صُلْبَانِهَا
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَنَا حَتْفُهَا لَمَا عَمَّرَتْ بَيْتَ أَحْزَانِهَا
وَمِنْ كِتَابٍ فَاضِلِيٍّ إِلَى بَغْدَادَ فِي وَصْفِ
هَذَا الْحِصْنِ الَّذِي خَرَّبَهُ صَلَاحُ الدِّينِ: وَقَدْ عَرَّضُوا حَائِطَهُ
إِلَى أَنْ زَادَ عَلَى عَشَرَةِ أَذْرُعٍ وَقُطِعَتْ لَهُ عِظَامُ الْحِجَارَةِ ;
كُلُّ فَصٍّ مِنْهَا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، إِلَى مَا فَوْقَهَا وَمَا دُونَهَا،
وَعِدَّتُهَا تَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفَ حَجَرٍ، لَا يَسْتَقِرُّ الْحَجَرُ فِي
مَكَانِهِ وَلَا يَسْتَقِلُّ فِي بُنْيَانِهِ إِلَّا بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ
فَمَا فَوْقَهَا، وَفِيمَا بَيْنَ الْحَائِطَيْنِ حَشْوٌ مِنَ الْحِجَارَةِ
الضَّخْمَةِ الصُّمِّ، الْمُرْغَمِ بِهَا أُنُوفُ الْجِبَالِ الشَّمِّ، وَقَدْ
جُعِلَتْ سُقْيَتُهُ بِالْكِلْسِ الَّذِي إِذَا أَحَاطَتْ قَبْضَتُهُ بِالْحَجَرِ
مَازَجَهُ بِمِثْلِ جِسْمِهِ وَصَاحَبَهُ بِأَوْثَقَ وَأَصْلَبَ مِنْ جِرْمِهِ،
وَأَوْعَزَ إِلَى خَصْمِهِ مِنَ الْحَدِيدِ بِأَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِهَدْمِهِ.
وَفِيهَا أَقْطَعَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ لِابْنِ أَخِيهِ عِزِّ الدِّينِ
فَرُّوخْشَاهْ بْنِ شَاهِنْشَاهْ ابْنِ أَيُّوبَ مَدِينَةَ بَعْلَبَكَّ. وَأَغَارَ
فِيهَا عَلَى صَفَدَ وَأَعْمَالِهَا، فَقَتَلَ طَائِفَةً كَبِيرَةً مِنْ
مُقَاتِلِيهَا وَرِجَالِهَا، وَكَانَ فَرُّوخْشَاهْ مِنَ الصَّنَادِيدِ الْأَبْطَالِ
الْمَشْهُورِينَ الْمَشْكُورِينَ فِي النِّزَالِ.
وَفِيهَا حَجَّ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنْ دِمَشْقَ وَعَادَ إِلَى مِصْرَ،
فَقَاسَى فِي الطَّرِيقِ أَهْوَالًا، وَلَقِيَ بَرْحًا وَتَعَبًا وَكَلَالًا،
وَكَانَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي قَدْ حَجَّ مِنْ مِصْرَ وَعَادَ إِلَى الشَّامِ
وَلَكِنْ كَانَ أَمْرُهُ فِيهِ أَسْهَلَ مِنْ هَذَا الْعَامِ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ انْهَدَمَ بِسَبَبِهَا قِلَاعٌ وَقُرًى،
وَمَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِيهَا مِنَ الْوَرَى، وَسَقَطَ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ
صُخُورٌ كِبَارٌ، وَصَادَمَتْ بَيْنَ الْجِبَالِ فِي الْبَرَارِي وَالْقِفَارِ،
مَعَ بُعْدِ مَا بَيْنَ الْجِبَالِ مِنَ الْأَقْطَارِ. وَفِيهَا أَصَابَ النَّاسَ
غَلَاءٌ
شَدِيدٌ وَفَنَاءٌ شَرِيدٌ وَجُهْدٌ جَهِيدٌ، فَمَاتَ
خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْخَلَائِقِ بِهَذَا وَهَذَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفَاةُ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَشَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَتِهِ
كَانَ ابْتِدَاءُ مَرَضِهِ فِي أَوَاخِرِ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
فَأَرَادَتْ زَوْجَتُهُ أَنْ تَكْتُمَ ذَلِكَ فَلَمْ يُمْكِنْهَا، وَوَقَعَتْ
فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ بِبَغْدَادَ وَنَهَبَتِ الْعَوَامُّ دُورًا كَثِيرَةً،
وَأَمْوَالًا جَزِيلَةً، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ الثَّانِي
وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ خُطِبَ لِوَلِيِّ الْعَهْدِ أَبِي الْعَبَّاسِ
أَحْمَدَ بْنِ الْمُسْتَضِيءِ، وَهُوَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ،
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا نُثِرَ الذَّهَبُ فِيهِ عَلَى الْخُطَبَاءِ
وَالْمُؤَذِّنِينَ وَمَنْ حَضَرَ ذَلِكَ، عِنْدَ ذِكْرِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ
وَالتَّنْوِيهِ بِاسْمِهِ فِي الْعَشْرِ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ سَلْخُ شَوَّالٍ مَاتَ الْخَلِيفَةُ
الْمُسْتَضِيءُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَانَ مَرَضُهُ بِالْحُمَّى ابْتَدَأَ بِهَا
فِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ، وَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ يَتَزَايَدُ بِهِ حَتَّى
اسْتَكْمَلَ فِي مَرَضِهِ شَهْرًا، فَمَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ سَلْخَ شَوَّالٍ، وَلَهُ
مِنَ الْعُمْرِ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ تِسْعَ
سِنِينَ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَغُسِّلَ وَصُلِّيَ
عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ. وَدُفِنَ بِدَارِ النَّصْرِ الَّتِي بَنَاهَا، وَذَلِكَ
عَنْ وَصِيَّتِهِ الَّتِي
أَوْصَاهَا، وَتَرَكَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدَيْنِ ;
أَحَدُهُمَا وَلِيُّ عَهْدِهِ وَهُوَ عُدَّةُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا أَبُو
الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ، وَالْآخَرُ أَبُو مَنْصُورٍ
هَاشِمُ، وَقَدْ وَزَرَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّؤَسَاءِ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ
الْخُلَفَاءِ، أَمَّارًا بِالْمَعْرُوفِ نَهَّاءً عَنِ الْمُنْكَرِ، وَضَعَ عَنِ
النَّاسِ الْمُكُوسَاتِ وَالضَّرَائِبِ، وَدَرَأَ عَنْهُمُ الْبِدَعَ
وَالْمَصَائِبَ، وَكَانَ حَلِيمًا وَقُورًا كَرِيمًا، فَرَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
وَبَلَّ ثَرَاهُ وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ. وَبُويِعَ بِالْخِلَافَةِ مِنْ
بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ النَّاصِرِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ
أَبُو إِسْحَاقَ السُّلَمِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْفَرَّاءِ،
الْأُمَوِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، كَانَ فَقِيهًا بَارِعًا فَاضِلًا مُنَاظِرًا
فَصِيحًا بَلِيغًا شَاعِرًا مُطَبِّقًا، تُوُفِّيَ عَنْ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ
سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ الْقَزْوِينِيُّ مُدَرِّسُ
النِّظَامِيَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَوْهُوبِ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَضِرِ، أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ
الْجَوَالِيقِيِّ، الْمُلَقَّبُ حُجَّةَ الْإِسْلَامِ أَحَدُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ
فِي زَمَانِهِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِ أَقْرَانِهِ بِحُسْنِ الدِّينِ
وَقُوَّةِ الْيَقِينِ، وَعِلْمِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ، وَصِدْقِ اللَّهْجَةِ
وَخُلُوصِ النِّيَّةِ، وَحُسْنِ السِّيرَةِ فِي مُرَبَّاهُ وَمَنْشَاهُ
وَمُنْتَهَاهُ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ، وَفَهِمَ الْأَثَرَ
وَاتَّبَعَ سَبِيلَهُ وَمَغْزَاهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الطَّبَّاخِ، الْبَغْدَادِيُّ، نَزِيلُ مَكَّةَ
وَمُجَاوِرُهَا، وَحَافِظُ الْحَدِيثِ بِهَا وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْعِلْمِ
فِيهَا. كَانَ يَوْمُ جِنَازَتِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
خِلَافَةُ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ أَبِي
الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُسْتَضِيءِ
لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ فِي سَلْخِ شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ،
بَايَعَهُ الْأُمَرَاءُ وَالْوُزَرَاءُ وَالْكُبَرَاءُ وَالْخَاصَّةُ
وَالْعَامَّةُ، وَكَانَ قَدْ خُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ
قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَسِيرٍ، فَقِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا عَهِدَ لَهُ قَبْلَ
مَوْتِهِ بِيَوْمٍ، وَقِيلَ: بِأُسْبُوعٍ. وَلَكِنْ قَدَّرَ اللَّهُ، عَزَّ
وَجَلَّ، أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ اثْنَانِ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ،
وَلُقِّبَ بِالْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ، وَلَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ
مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ قَبْلَهُ أَطْوَلَ مُدَّةً مِنْهُ، فَإِنَّ خِلَافَتَهُ
امْتَدَّتْ إِلَى سَنَةِ وَفَاتِهِ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ ; وَكَانَ ذَكِيًّا شُجَاعًا مَهِيبًا، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ
سِيرَتِهِ عِنْدَ وَفَاتِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي سَابِعِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ صَاحِبُ الْمَخْزَنِ
ظَهِيرُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَطَّارِ، وَأُهِينَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ،
هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَشُهِّرُوا فِي الْبَلَدِ،
وَتَمَكَّنَ أَمْرُ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ، وَعَظُمَتْ هَيْبَتُهُ فِي
الْبِلَادِ وَفِي قُلُوبِ الْعِبَادِ وَقَامَ
بِأَعْبَاءِ الْخِلَافَةِ عَلَى مَا يَنْبَغِي فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ وَشُئَونِهِمْ. وَلَمَّا حَضَرَ عِيدُ الْأَضْحَى أُقِيمَ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا هَادَنَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ الْفِرِنْجَ، وَسَارَ إِلَى بِلَادِ
الرُّومِ فَأَصْلَحَ بَيْنَ مُلُوكِهَا، مِنْ بَنِي أُرْتُقَ، وَكَرَّ عَلَى
بِلَادِ الْأَرْمَنِ فَأَهَانَ مَلِكَهَا، وَفَتَحَ بَعْضَ حُصُونِهَا، وَأَخَذَ
مِنْهُ غَنَائِمَ كَثِيرَةً جِدًّا، مِنْ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ;
لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ غَدَرَ بِقَوْمٍ مِنَ التُّرْكُمَانِ أَوَوْا إِلَى
بِلَادِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ وَأُسَارَى
يُطْلِقُهُمْ مِنْ أَسْرِهِ، وَآخَرِينَ يَسْتَنْقِذُهُمْ مِنْ أَيْدِي
الْفِرِنْجِ، ثُمَّ عَادَ السُّلْطَانُ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا فَدَخَلَ حَمَاةَ
فِي أَوَاخِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ عَلَى ذَلِكَ.
وَمَاتَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيُّ بْنُ مَوْدُودِ بْنِ
زَنْكِيٍّ، وَكَانَ شَابًّا حَسَنًا، مَلِيحَ الشَّكْلِ، تَامَّ الْقَامَةِ،
مُدَوَّرَ اللِّحْيَةِ، مَكَثَ فِي الْمُلْكِ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ عَنْ
ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَ عَفِيفًا فِي نَفْسِهِ، مَهِيبًا وَقُورًا، لَا
يَلْتَفِتُ إِذَا رَكِبَ وَلَا إِذَا جَلَسَ، غَيُورًا لَا يَدَعُ أَحَدًا مِنَ
الْخُدَّامِ يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ، وَكَانَ لَا يَقْدَمُ عَلَى سَفْكِ
الدِّمَاءِ، وَيُنْسَبُ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْبُخْلِ، سَامَحَهُ اللَّهُ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ثَالِثِ صَفَرٍ، وَكَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ
الْمُلْكَ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ عِزِّ الدِّينِ سَنْجَرَ شَاهْ، فَلَمْ
يُوَافِقْهُ الْأُمَرَاءُ خَوْفًا مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ لِصِغَرِ سِنِّهِ،
فَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَخِيهِ، فَأُجْلِسَ مَكَانَهُ فِي الْمَمْلَكَةِ
أَخُوهُ عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودٌ، وَجُعِلَ مُجَاهِدُ الدِّينِ قَايْمَازُ
نَائِبَهُ وَمُدَبِّرَ مَمْلَكَتِهِ، وَجَاءَتْ رُسُلُ الْخَلِيفَةِ يَلْتَمِسُونَ
مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ
أَنْ يُبْقِيَ سَرُوجَ وَالرُّهَا وَالرَّقَّةَ، وَحَرَّانَ
وَالْخَابُورَ وَنَصِيبِينَ فِي يَدِهِ، كَمَا كَانَتْ فِي يَدِ أَخِيهِ،
فَامْتَنَعَ السُّلْطَانُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: هَذِهِ الْبِلَادُ هِيَ حِفْظُ
ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا كُنْتُ تَرَكْتُهَا فِي يَدِهِ لِيُسَاعِدَنَا
عَلَى غَزْوِ الْفِرِنْجِ، فَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَى
الْخَلِيفَةِ يُعَرِّفُهُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي كَوْنِهَا بِيَدِهِ.
وَفَاةُ تُورَانْشَاهْ أَخِي السُّلْطَانِ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَخُو السُّلْطَانِ الْأَكْبَرِ الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ شَمْسُ
الدَّوْلَةِ تُورَانْشَاهْ بْنُ أَيُّوبَ، الَّذِي افْتَتَحَ بِلَادَ الْيَمَنِ
عَنْ أَمْرِ أَخِيهِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَمَكَثَ فِيهَا حِينًا وَاقْتَنَى مِنْهَا
أَمْوَالًا جَزِيلَةً، ثُمَّ اسْتَنَابَ فِيهَا، وَأَقْبَلَ نَحْوَ أَخِيهِ إِلَى
الشَّامِ شَوْقًا إِلَيْهِ، وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ شِعْرًا
عَمِلَهُ لَهُ شَاعِرُهُ ابْنُ الْمُنَجِّمِ، وَكَانُوا قَدْ وَصَلُوا إِلَى
تَيْمَاءَ
فَهَلْ لِأَخِي بَلْ مَالِكِي عِلْمُ أَنَّنِي إِلَيْهِ وَإِنْ طَالَ التَّرَدُّدُ
رَاجِعُ وَإِنِّي بِيَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ لِقَائِهِ
لَمُلْكِي عَلَى عُظْمِ الْمَزِيَّةِ بَائِعُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا دُونَ
عِشْرِينَ لَيْلَةً
وَتَجْنِي الْمُنَى أَبْصَارُنَا وَالْمَسَامِعُ لَدَى مَلِكٍ تَعْنُو الْمُلُوكُ
إِذَا بَدَا
وَتَخْشَعُ إِعْظَامًا لَهُ وَهْوَ خَاشِعُ
كَتَبْتُ وَأَشْوَاقِي إِلَيْكَ بِبَعْضِهَا
تَعَلَّمَتِ النَّوْحَ الْحَمَامُ السَّوَاجِعُ وَمَا الْمُلْكُ إِلَّا رَاحَةً
أَنْتَ زَنْدُهَا
تَضُمُّ عَلَى الدَّنْيَا وَنَحْنُ الْأَصَابِعُ
وَكَانَ قُدْومُهُ إِلَيْهِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعَيْنِ، فَشَهِدَ مَعَهُ
مَوَاقِفَ مَشْهُودَةً وَغَزَوَاتٍ مَحْمُودَةً، وَاسْتَنَابَهُ عَلَى دِمَشْقَ
مُدَّةً، ثُمَّ سَارَ إِلَى مِصْرَ فَاسْتَنَابَهُ عَلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ
فَلَمْ تُوَافِقْهُ، وَكَانَ يَعْتَرِيهِ الْقُولَنْجُ فَمَاتَ بِهَا، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى، فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ فِيهَا،
ثُمَّ نَقَلَتْهُ أُخْتُهُ سِتُّ الشَّامِ بِنْتُ أَيُّوبَ فَدَفَنَتْهُ
بِتُرْبَتِهَا الَّتِي بِالشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، فَقَبْرُهُ
الْقِبْلِيُّ، وَالْوَسْطَانِيُّ قَبْرُ زَوْجِهَا وَابْنِ عَمِّهَا نَاصِرِ
الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسَدِ الدَّيْنِ شِيرَكَوهْ، صَاحِبِ حِمْصَ
وَالرَّحْبَةِ، وَالْمُؤَخَّرُ قَبْرُهَا، رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَأَجْزَلَ
ثَوَابَهَا. وَالتُّرْبَةُ الْحُسَامِيَّةُ مَنْسُوبَةٌ إِلَى وَلَدِهَا حُسَامِ
الدِّينِ عُمَرَ بْنِ لَاجِينَ، وَهِيَ إِلَى جَانِبِ الْمَدْرَسَةِ مِنْ
غَرْبِهَا، وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ تُورَانْشَاهْ كَرِيمًا جَوَادًا شُجَاعًا
بَاسِلًا عَظِيمَ الْهَيْبَةِ كَبِيرَ النَّفْسِ، وَاسِعَ الصَّدْرِ، قَالَ فِيهِ
ابْنُ سَعْدَانَ الْحَلَبِيُّ:
هُوَ الْمَلْكُ إِنْ تَسْمَعْ بِكِسْرَى وَقَيْصَرٍ فَإِنَّهُمَا فِي الْجُودِ
وِالْبَأْسِ عَبْدَاهُ
وَمَا حَاتِمٌ مِمَّنْ يُقَاسُ بِمِثْلِهِ فَخُذْ مَا رَأَيْنَاهُ وَدَعْ مَا
رَوَيْنَاهُ
وَلُذْ بِذُرَاهُ مُسْتَجِيرًا فَإِنَّهُ يُجِيرُكَ مِنْ جَوْرِ الزَّمَانِ
وَعَدْوَاهُ
وَلَا تَتَحَمَّلْ لِلسَّحَائِبِ مِنَّةً إِذَا هَطَلَتْ جُودًا سَحَائِبُ
جَدْوَاهُ
وَيُرْسِلُ كَفَّيْهِ بِمَا اشْتَقَّ مِنْهُمَا فَلِلْيُمْنِ يُمْنَاهُ
وَلِلْيُسْرِ يُسْرَاهُ
وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ مَوْتِهِ إِلَى أَخِيهِ السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ
وَهُوَ مُخَيِّمٌ
بِظَاهِرِ حِمْصَ حَزِنَ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا،
وَجَعَلَ يُنْشِدُ بَابَ الْمَرَاثِي مِنَ الْحَمَاسَةِ، وَكَانَتْ مَحْفُوظَةً.
وَفِي رَجَبٍ قَدِمَتْ رُسُلُ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ وَخِلَعُهُ وَهَدَايَا
إِلَى الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَلَبِسَ السُّلْطَانُ خِلْعَةَ
الْخَلِيفَةِ بِدِمَشْقَ، وَزُيِّنَتْ لَهُ الْبَلَدُ، وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا.
وَفِي رَجَبٍ أَيْضًا مِنْهَا سَارَ السُّلْطَانُ مِنَ الشَّامِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ ; لِيَنْظُرَ فِي أَحْوَالِهَا، وَيَصُومَ بِهَا رَمَضَانَ، وَمِنْ
عَزْمِهِ أَنْ يَحُجَّ عَامَهُ ذَلِكَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ،
وَاسْتَنَابَ عَلَى الشَّامِ ابْنَ أَخِيهِ عِزَّ الدِّينِ فَرُّوخْشَاهْ بْنَ
شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ: وَكَانَ عَزِيزَ
الْمَثَلِ غَزِيرَ الْفَضْلِ. فَكَتَبَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ عَنِ الْمَلِكِ
الْعَادِلِ أَبِي بَكْرٍ نَائِبِ مِصْرَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ وَالْبَقِيعِ
وَمَكَّةَ يُعْلِمُهُمْ بِعَزْمِ السُّلْطَانِ عَلَى الْحَجِّ فِي هَذَا الْعَامِ
; لِيَتَأَهَّبُوا لِلْمَلِكِ وَيَهْتَمُّوا بِهِ، وَاسْتَصْحَبَ السُّلْطَانُ
مَعَهُ صَدْرَ الدِّينِ أَبَا الْقَاسِمِ عَبْدَ الرَّحِيمِ شَيْخَ الشُّيُوخِ
بِبَغْدَادَ، الَّذِي قَدِمَ فِي الرُّسْلِيِّةِ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ ;
لِيَكُونَ فِي خِدْمَتِهِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَفِي صُحْبَتِهِ
إِلَى الْحِجَازِ الشَّرِيفِ، فَدَخَلَ السُّلْطَانُ دِيَارَ مِصْرَ، وَتَلَقَّاهُ
الْجَيْشُ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَأَمَّا صَدْرُ الدِّينِ فَإِنَّهُ لَمْ
يُقِمْ بِهَا إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى تَوَجَّهَ إِلَى الْحِجَازِ الشَّرِيفِ فِي
الْبَحْرِ، فَأَدْرَكَ الصِّيَامَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَفِيهَا سَارَ قَرَاقُوشُ التَّقَوِيُّ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ فَحَاصَرَ
قَابِسَ وَقِلَاعًا كَثِيرَةً حَوْلَهَا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى أَكْثَرِهَا،
فَاتَّفَقَ لَهُ أَنَّهُ أَسَرَ مِنْ بَعْضِ الْحُصُونِ غُلَامًا أَمَرَدَ
فَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَقَالَ لَهُ أَهْلُ الْحِصْنِ: لَا
تَقْتُلْهُ وَخُذْ لَكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَأَبَى فَوَصَلُوهُ إِلَى
مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ فَأَبَى إِلَّا قَتْلَهُ، فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا قَتَلَهُ
نَزَلَ صَاحِبُ الْحِصْنِ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ وَمَعَهُ مَفَاتِيحُ ذَلِكَ
الْحِصْنِ، فَقَالَ: خُذْ هَذِهِ فَإِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَإِنَّمَا كُنْتُ
أَحْفَظُهُ مِنْ أَجْلِ هَذَا الصَّبِيِّ الَّذِي قَتَلْتَهُ، وَلِي أَوْلَادُ
أَخٍ أَكْرَهُ أَنْ يَمْلِكُوهُ بَعْدِي. فَأَقَرَّهُ فِيهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ
أَمْوَالًا كَثِيرَةً. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
سِلَفَةَ، الْحَافِظُ الْكَبِيرُ الْمُعَمَّرُ، أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ
الْأَصْبَهَانِيُّ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ لِجَدِّهِ إِبْرَاهِيمَ: سِلَفَةُ ;
لِأَنَّهُ كَانَ مَشْقُوقَ إِحْدَى الشَّفَتَيْنِ، فَكَانَ لَهُ ثَلَاثُ شِفَاهٍ
فَسَمَّتْهُ الْأَعَاجِمُ بِذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ وَكَانَ
السِّلَفِيُّ يُلَقَّبُ بِصَدْرِ الدِّينِ، وَكَانَ شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ،
وَرَدَ بَغْدَادَ وَاشْتَغَلَ بِهَا عَلَى إِلِكْيَا الْهَرَّاسِيِّ، وَأَخَذَ
اللُّغَةَ عَنِ الْخَطِيبِ أَبِي زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنِ عَلِيٍّ
التَّبْرِيزِيِّ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ فِي طَلَبِهِ إِلَى
الْآفَاقِ، ثُمَّ نَزَلَ ثَغْرَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ
وَخَمْسِمِائَةٍ، وَبَنَى لَهُ الْعَادِلُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
السَّلَّارِ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ الظَّافِرِ مَدْرَسَةً، وَفَوَّضَ أَمْرَهَا
إِلَيْهِ، فَهِيَ مَعْرُوفَةٌ إِلَى الْآنِ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَأَمَالِيهِ
وَتَعَالِيقُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِيمَا ذَكَرَ
الْمِصْرِيُّونَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعَيْنِ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَنَقَلَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ
الْمَقْدِسِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَذْكُرُ مَقْتَلَ نِظَامِ الْمُلْكِ فِي
سَنَةِ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ بِبَغْدَادَ، وَأَنَا ابْنُ عَشَرٍ
تَقْرِيبًا. وَنَقَلَ أَبُو الْحَافِظِ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفْرَاوِيُّ أَنَّهُ
قَالَ: مَوْلِدِي بِالتَّخْمِينِ لَا بِالْيَقِينِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعَيْنِ،
فَيَكُونُ مَبْلَغُ عُمْرِهِ ثَمَانِيًا وَتِسْعِينَ سَنَةً ; لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ
لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ خَامِسَ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَدُفِنَ بِوَعْلَةَ، وَفِيهَا
جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّالِحِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ
خَلِّكَانَ قَوْلَ الصَّفْرَاوِيِّ، قَالَ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا مِنْ نَحْوِ
ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ أَنَّ أَحَدًا جَاوَزَ الْمِائَةَ إِلَّا الْقَاضِي أَبَا
الطَّيِّبِ الطَّبَرِيَّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ
عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " تَرْجَمَةً حَسَنَةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ
مَاتَ قَبْلَهُ بِخَمْسِ سِنِينَ، فَذَكَرَ رِحْلَتَهُ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ،
وَدَوَرَانَهُ فِي الْأَقَالِيمِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَتَصَوَّفُ أَوَّلًا، ثُمَّ أَقَامَ
بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ذَاتَ يَسَارٍ، فَحَسُنَتْ
حَالُهُ، وَوَقَفَتْ عَلَيْهِ مَدْرَسَةً هُنَاكَ، وَذَكَرَ طَرَفًا مِنْ
أَشْعَارِهِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
أَنَأْمَنُ إِلْمَامَ الْمَنِيَّةِ بَغْتَةً وَأَمْنُ الْفَتَى جَهْلٌ وَقَدْ
خَبَرَ الدَّهْرَا وَلَيْسَ يُحَابِي الدَّهْرُ فِي دَوَرَانِهِ
أَرَاذِلَ أَهْلِيهِ وَلَا السَّادَةَ الزُّهْرَا وَكَيْفَ وَقَدْ مَاتَ
النَّبِيُّ وَصَحْبُهُ
وَأَزْوَاجُهُ طُرًّا وَفَاطِمَةُ الزَّهْرَا
وَمِنْ شِعْرِ الْحَافِظِ السِّلَفِيِّ الَّذِي أَوْرَدَهُ
ابْنُ عَسَاكِرَ قَوْلُهُ:
يَا قَاصِدًا عِلْمَ الْحَدِيثِ يَذُمُّهُ إِذْ ضَلَّ عَنْ طُرُقِ الْهِدَايَةِ
وَهْمُهُ
إِنَّ الْعُلُومَ كَمَا عَلِمْتَ كَثيرَةٌ وَأَجَلُّهَا فِقْهُ الْحَدِيثِ
وَعِلْمُهُ
مَنْ كَانَ طَالِبَهُ وَفِيهِ تَيَقُّظٌ فَأَتَمُّ سَهْمٍ فِي الْمَعَالِي
سَهْمُهُ
لَوْلَا الْحَدِيثُ وَأَهْلُهُ لَمْ يَسْتَقِمْ دِينُ النَّبِيِّ وَشَذَّ عَنَّا
حُكْمُهُ
وَإِذَا اسْتَرَابَ بِقَوْلِنَا مُتَحَذْلِقٌ فَأَكَلُّ فَهْمٍ فِي الْبَسِيطَةِ
فَهْمُهُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ
اسْتُهِلَّتْ وَالْمَلِكُ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ مُقِيمٌ بِالْقَاهِرَةِ،
مُوَاظِبٌ عَلَى سَمَاعِ الْأَحَادِيثِ، وَجَاءَ كِتَابٌ مِنْ نَائِبِهِ
بِالشَّامِ عِزِّ الدِّينِ فَرُّوخْشَاهْ بِمَا مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى
النَّاسِ مِنْ كَثْرَةِ وِلَادَةِ النِّسَاءِ بِالتَّوَائِمِ ; جَبْرًا لِمَا
كَانَ أَصَابَهُمْ فِي الْعَامِ الْمَاضِي مِنَ الْوَبَاءِ وَالْفَنَاءِ، وَأَنَّ
الشَّامَ مُخْصِبٌ بِإِذْنِ اللَّهِ ; جَبْرًا لِمَا كَانَ أَصَابَهُمْ مِنَ
الْجَدْبِ وَالْغَلَاءِ.
وَفِي شَوَّالٍ تَوَجَّهَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ
فَشَاهَدَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ تَحْصِينِ سُورِهَا وَعِمَارَةِ أَبْرَاجِهَا
وَقُصُورِهَا، وَسَمِعَ " مُوَطَّأَ الْإِمَامِ مَالِكٍ " عَلَى
الشَّيْخِ أَبِي طَاهِرِ بْنِ عَوْفٍ، عَنِ الطَّرْطُوشِيِّ، وَسَمِعَ مَعَهُ
الْعِمَادَ الْكَاتِبَ، وَأَرْسَلَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ إِلَى السُّلْطَانِ
رِسَالَةً يُهَنِّئُهُ بِهَذَا السَّمَاعِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ذِكْرُ وَفَاةِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ صَاحِبِ حَلَبَ وَمَا جَرَى بَعْدَهُ مِنَ
الْأُمُورِ
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ بِقَلْعَةِ حَلَبَ
وَدُفِنَ بِهَا، وَكَانَ سَبَبُ وَفَاتِهِ - فِيمَا قِيلَ - أَنَّ الْأَمِيرَ عَلَمَ الدِّينِ سُلَيْمَانَ بْنَ جَنْدَرٍ سَقَاهُ سُمًّا فِي عُنْقُودِ عِنَبٍ فِي الصَّيْدِ، وَقِيلَ: بَلْ سَقَاهُ يَاقُوتُ الْأَسَدِيُّ فِي شَرَابٍ. وَقِيلَ: فِي خُشْكَنَانْجَةَ. فَاعْتَرَاهُ قُولَنْجٌ فَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ شَابٌّ حَسَنُ الصُّورَةِ، بَهِيُّ الْمَنْظَرِ، وَلَمْ يَبْلُغْ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ أَعِفِّ الْمُلُوكِ، وَمَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ، وَصَفَ لَهُ الْأَطِبَّاءُ فِي مَرَضِهِ شُرْبَ الْخَمْرِ، فَاسْتَفْتَى بَعْضَ الْفُقَهَاءِ فِي شُرْبِهَا تَدَاوِيًا، فَأَفْتَاهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: أَيُزِيدُ شُرْبُهَا فِي أَجَلِي، أَوْ يُنْقِصُ مِنْهُ شَيْئًا ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَوَاللَّهِ لَا أَشْرَبُهَا فَأَلْقَى اللَّهَ وَقَدْ شَرِبْتُ مَا حَرَّمَهُ عَلَيَّ. وَلَمَّا يَئِسَ مِنْ نَفْسِهِ اسْتَدْعَى الْأُمَرَاءَ، فَحَلَّفَهُمْ لِابْنِ عَمِّهِ عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودٍ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ ; لِقُوَّةِ سُلْطَانِهِ وَتُمَكُّنِهِ ; لِيَمْنَعَهَا مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ، وَخَشِيَ أَنْ يُبَايِعَ لِابْنِ عَمِّهِ الْآخَرِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ، صَاحِبِ سِنْجَارَ، وَهُوَ زَوْجُ أُخْتِهِ وَتَرْبِيَةُ وَالِدِهِ، فَلَا يُمْكِنُهُ حِفْظُهَا مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ، فَلَمَّا مَاتَ اسْتَدْعَى الْحَلَبِيُّونَ عِزَّ الدِّينِ مَسْعُودَ بْنَ قُطْبِ الدِّينِ، صَاحِبَ الْمَوْصِلِ فَجَاءَ إِلَيْهِمْ فَدَخَلَ حَلَبَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَذَلِكَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، فَتَسَلَّمَ خَزَائِنَهَا وَحَوَاصِلَهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ السِّلَاحِ، وَكَانَ تَقِيُّ الدِّينِ عَمُّهُ بِمَدِينَةِ مَنْبِجَ فَهَرَبَ إِلَى حَمَاةَ، فَوَجَدَ أَهْلَهَا قَدْ نَادَوْا بِشِعَارِ عِزِّ الدِّينِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ وَأَطْمَعَ الْحَلَبِيُّونَ عِزَّ الدِّينِ مَسْعُودًا فِي أَخْذِ دِمَشْقَ ; لِغَيْبَةِ صَلَاحِ الدِّينِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَعْلَمُوهُ مَحَبَّةَ أَهْلِ الشَّامِ لِهَذَا الْبَيْتِ الْأَتَابِكِيِّ، فَقَالَ: بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَيْمَانٌ وَعُهُودٌ، وَأَنَا أَغْدِرُ بِهِ! فَأَقَامَ بِحَلَبَ شُهُورًا، وَتَزَوَّجَ بِأُمِّ
الْمَلِكِ الصَّالِحِ فِي شَوَّالٍ، ثُمَّ سَارَ إِلَى
الرَّقَّةِ فَنَزَلَهَا، وَجَاءَتْهُ رُسُلُ أَخِيهِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ
يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُقَايِضَهُ مِنْ حَلَبَ إِلَى سِنْجَارَ، وَأَلَحَّ فِي
ذَلِكَ، وَتَمَنَّعَ أَخُوهُ ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ، فَسَلَّمَ
إِلَيْهِ حَلَبَ وَسَلَّمَهُ عِمَادُ الدِّينِ سِنْجَارَ وَالْخَابُورَ
وَالرَّقَّةَ وَنَصِيبِينَ وَسَرُوجَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ.
وَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ رَكِبَ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي عَسَاكِرِهِ، فَسَارَ حَتَّى أَتَى الْفُرَاتَ
فَعَبَرَهَا، وَخَامَرَ إِلَيْهِ بَعْضُ أُمَرَاءِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ
فَتَقَهْقَرَ عَنْ لِقَائِهِ، فَاسْتَحْوَذَ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى بِلَادِ
الْجَزِيرَةِ بِكَمَالِهَا، وَهُمْ بِمُحَاصَرَةِ الْمَوْصِلِ فَلَمْ يَتَّفِقْ
ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى حَلَبَ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ
; لِضِعْفِهِ عَنْ مُمَانَعَتِهَا ; لِقِلَّةِ مَا تَرَكَ فِيهَا عِزُّ الدِّينِ
مِنَ الْأَسْلِحَةِ وَآلَاتِ الْقِتَالِ، وَذَلِكَ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ،
كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَمَ الْبِرِنْسُ صَاحِبُ الْكَرَكِ لَعَنَهُ اللَّهُ،
عَلَى قَصْدِ تَيْمَاءَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ ; لِيَتَوَصَّلَ مِنْهَا إِلَى
الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَجُهِّزَتْ لَهُ سَرِيَّةٌ مِنْ دِمَشْقَ تَكُونُ
حَاجِزَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحِجَازِ، فَصَدَّهُ ذَلِكَ عَنْ قَصْدِهِ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا وَلَّى السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ أَخَاهُ سَيْفَ الْإِسْلَامِ
ظَهِيرَ الدِّينِ طُغْتِكِينَ بْنَ أَيُّوبَ نِيَابَةَ الْيَمَنِ فَمَلَّكَهُ
عَلَيْهَا، وَأَرْسَلَهُ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ نُوَّابِهَا
وَاضْطِرَابِ أَصْحَابِهَا، بَعْدَ وَفَاةِ الْمُعَظَّمِ تُورَانْشَاهْ أَخِي السُّلْطَانِ
الَّذِي كَانَ افْتَتَحَهَا، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتَنُ بِهَا، وَكَثُرَ
التَّخْلِيطُ وَالتَّخْبِيطُ، سَمَتْ نَفْسُ أَخِيهِ طُغْتِكِينَ إِلَيْهَا،
فَأَرْسَلَهُ أَخُوهُ إِلَيْهَا وَوَلَّاهُ عَلَيْهَا، فَسَارَ فَوَصَلَهَا فِي
سَنَةِ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ، فَسَارَ فِيهَا أَحْسَنَ سِيرَةٍ، وَأَكْمَلَ بِهَا
الْمَعْدَلَةَ وَالسَّرِيرَةَ، وَاحْتَاطَ عَلَى أَمْوَالِ حَطَّانِ بْنِ مُنْقِذٍ
نَائِبِ زَبِيدَ وَكَانَتْ تُقَارِبُ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرَ،
وَأَمَّا نَائِبُ عَدَنَ فَخْرُ الدِّينِ عُثْمَانُ الزَّنْجِيلِيُّ فَإِنَّهُ
خَرَجَ مِنَ الْيَمَنِ قَبْلَ قُدُومِ طُغْتِكِينَ
فَسَكَنَ الشَّامَ وَلَهُ أَوْقَافٌ مَشْهُورَةٌ
بِالْيَمَنِ وَمَكَّةَ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْمَدْرَسَةُ الزَّنْجِيلِيَّةُ،
خَارِجَ بَابِ تُومَا، تُجَاهَ دَارِ الطَّعْمِ، وَكَانَ قَدْ حَصَّلَ مِنْهَا
أَمْوَالًا عَظِيمَةً جِدًّا.
وَفِيهَا غَدَرَتِ الْفِرِنْجُ وَنَقَضُوا عُهُودَهُمْ، وَقَطَعُوا السُّبُلَ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَرًّا وَبَحْرًا، وَسِرًّا وَجَهْرًا، فَأَمْكَنَ اللَّهُ
مِنْ بُطْسَةٍ عَظِيمَةٍ لَهُمْ فِيهَا نَحْوٌ مِنْ أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةِ
نَفْسٍ مِنْ رِجَالِهِمُ الْمَعْدُودِينَ فِيهِمْ، أَلْقَاهَا الْمَوْجُ إِلَى
ثَغْرِ دِمْيَاطَ قَبْلَ خُرُوجِ السُّلْطَانِ مِنْ مِصْرَ، فَأُحِيطَ بِهَا
فَغَرِقَ بَعْضُهُمْ وَحَصَلَ فِي الْأَسْرِ نَحْوُ أَلْفٍ وَسَبْعِمِائَةٍ مِنْهُمْ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا سَارَ قَرَاقُوشُ إِلَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَفَتَحَ بِلَادًا
كَثِيرَةً، وَقَاتَلَ عَسْكَرَ ابْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ
هُنَاكَ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَمَالِيكِ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ ابْنِ أَخِي
السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
فَأَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِأَنْ يُتِمَّ السُّورَ الْمُحِيطَ بِالْقَاهِرَةِ
وَمِصْرَ، وَذَلِكَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ
ذَلِكَ آخِرَ عَهْدِهِ بِهَا حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، بَعْدَ
أَنْ أَرَاهُ اللَّهُ مُنَاهُ قَبْلَ حُلُولِ الْوَفَاةِ، فَأَقَرَّ عَيْنَهُ مِنْ
أَعْدَاهُ، وَفَتَحَ عَلَى يَدِهِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَمَا حَوْلَهُ وَمَا
حَوَاهُ، وَلَمَّا خَيَّمَ بَارِزًا مِنْ مِصْرَ، أَحْضَرَ أَوْلَادَهُ حَوْلَهُ
فَجَعَلَ يَشُمُّهُمْ وَيُقَبِّلُهُمْ وَيَضُمُّهُمْ، فَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:
تَمَتَّعْ مِنْ شَمِيمِ عَرَارِ نَجْدٍ فَمَا بَعْدَ الْعَشِيَّةِ مِنْ عَرَارِ
فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ، لَمْ يَعُدْ إِلَى مِصْرَ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ،
بَلْ كَانَ مُقَامُهُ بِالشَّامِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وُلِدَ لِلسُّلْطَانِ وَلَدَانِ ;
وَهُمَا الْمُعَظَّمُ تُورَانْشَاهْ، وَالْمَلِكُ الْمُحْسِنُ أَحْمَدُ، وَكَانَ
بَيْنَ وِلَادَتِهِمَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ، فَزُيِّنَتِ الْبِلَادُ وَاسْتَمَرَّ
الْفَرَحُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ كَمَالُ الدَّيْنِ أَبُو الْبَرَكَاتِ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي السَّعَادَاتِ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْأَنْبَارِيُّ النَّحْوِيُّ الْفَقِيهُ
الْعَابِدُ الزَّاهِدُ النَّاسِكُ الْخَاشِعُ الْوَرِعُ، كَانَ خَشِنَ الْعَيْشِ
وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَلَا مِنَ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ يَحْضُرُ
نَوْبَةَ الصُّوفِيَّةِ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْ جَوَائِزِ الْخَلِيفَةِ
لَهُمْ وَلَا فَلْسًا. وَكَانَ صَابِرًا عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ
مُفِيدَةٌ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ لَهُ كِتَابُ "
أَسْرَارِ الْعَرَبِيَّةِ " مُفِيدٌ جِدًّا، وَكِتَابُ " طَبَقَاتِ
النُّحَاةِ " مُفِيدٌ جِدًّا أَيْضًا، وَكِتَابُ " الْمِيزَانِ فِي
النَّحْوِ " أَيْضًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق