السبت، 31 يوليو 2021

6 البداية والنهاية تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

6    البداية والنهاية عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

نَعَامَةٌ بَيْضَاءُ عَلَيْهَا رَاكِبٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ مِثْلُ اللَّبَنِ فَقَالَ: يَا عَبَّاسُ بْنَ مِرْدَاسٍ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ السَّمَاءَ كَفَتْ أَحْرَاسَهَا، وَأَنَّ الْحَرْبَ تَجَرَّعَتْ أَنْفَاسَهَا، وَأَنَّ الْخَيْلَ وَضَعَتْ أَحْلَاسَهَا، وَأَنَّ الَّذِي نَزَلَ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لَيْلَةَ الثُّلَاثَا، صَاحِبُ النَّاقَةِ الْقَصْوَا قَالَ: فَرَجَعْتُ مَرْعُوبًا قَدْ رَاعَنِي مَا رَأَيْتُ، وَسَمِعْتُ حَتَّى جِئْتُ وَثَنًا لَنَا يُدْعَى الضِّمَارَ، وَكُنَّا نَعْبُدُهُ، وَنُكَلَّمُ مَنْ جَوْفِهِ فَكَنَسْتُ مَا حَوْلَهُ، ثُمَّ تَمَسَّحْتُ بِهِ وَقَبَّلْتُهُ فَإِذَا صَائِحٌ مَنْ جَوْفِهِ يَقُولُ
قُلْ لِلْقَبَائِلِ مِنْ سُلَيْمٍ كُلِّهَا هَلَكَ الضَّمَارُ وَفَازَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ
هَلَكَ الضِّمَارُ وَكَانَ يُعْبَدُ مَرَّةً قَبْلَ الْكِتَابِ مَعَ النَّبِيِّ مُحَمَّدِ
إِنَّ الَّذِي وَرِثَ النُّبُوَّةَ وَالْهُدَى بِعْدَ ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ قُرَيْشٍ مُهْتَدِ
قَالَ: فَخَرَجْتُ مَرْعُوبًا حَتَّى أَتَيْتُ قَوْمِي فَقَصَصْتُ عَلَيْهِمُ الْقِصَّةَ، وَأَخْبَرْتُهُمُ الْخَبَرَ، وَخَرَجْتُ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ قَوْمِيبَنِي حَارِثَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِي: يَا عَبَّاسُ كَيْفَ كَانَ إِسْلَامُكَ ؟ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ قَالَ: فَسُرَّ بِذَلِكَ، وَأَسْلَمْتُ أَنَا وَقَوْمِي.
وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي

عَاصِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بِهِ، ثُمَّ رَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْأَصْمَعِيِّ حَدَّثَنِي الْوَصَّافِيُّ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ إِسْحَاقَ الْخُزَاعِيِّ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ قَالَ: أَوَّلُ إِسْلَامِي أَنَّ مِرْدَاسًا أَبِي لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَانِي بِصَنَمٍ لَهُ يُقَالَ لَهُ: ضِمَارٌ فَجَعَلْتُهُ فِي بَيْتٍ، وَجَعَلْتُ آتِيهِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً فَلَمَّا ظَهَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْتُ صَوْتًا مُرْسَلًا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ رَاعَنِي فَوَثَبْتُ إِلَى ضِمَارٍ مُسْتَغِيثًا، وَإِذَا بِالصَّوْتِ مِنْ جَوْفِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
قَلْ لِلْقَبِيلَةِ مِنْ سُلَيْمٍ كِلِّهَا هَلَكَ الْأَنِيسُ وَعَاشَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ
أَوْدَى ضِمَارُ وَكَانَ يُعْبَدُ مَرَّةً قَبْلَ الْكِتَابِ إِلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدِ
إِنَّ الَّذِي وَرِثَ النُّبُوَّةَ وَالْهُدَى بَعْدَ ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ قُرَيْشٍ مُهْتَدِ
قَالَ: فَكَتَمْتُهُ النَّاسَ فَلَمَّا رَجَعَ النَّاسُ مِنَ الْأَحْزَابِ، بَيْنَا أَنَا فِي إِبِلِي بِطَرَفِ الْعَقِيقِ مَنْ ذَاتِ عِرْقٍ رَاقِدًا سَمِعْتُ صَوْتًا، وَإِذَا بِرَجُلٍ عَلَى جَنَاحِ نَعَامَةٍ، وَهُوَ يَقُولُ: النُّورُ الَّذِي وَقَعَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ، مَعَ صَاحِبِ النَّاقَةِ الْعَضْبَاءِ، فِي دِيَارِ إِخْوَانِ بَنِي الْعَنْقَاءِ. فَأَجَابَهُ هَاتِفٌ مِنْ شِمَالِهِ وَهُوَ يَقُولُ:

بَشِّرِ الْجِنَّ وَإِبْلَاسَهَا أَنْ وَضَعَتِ الْمَطِيُّ أَحْلَاسَهَا
وَكَلَأَتِ السَّمَاءُ أَحْرَاسَهَا
قَالَ: فَوَثَبْتُ مَذْعُورًا، وَعَلِمْتُ أَنَّ مُحَمَّدًا مُرْسَلٌ فَرَكِبْتُ فَرَسِي، وَاحْتَثَثْتُ السَّيْرَ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ فَبَايَعْتُهُ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ إِلَى ضِمَارٍ فَأَحْرَقْتُهُ بِالنَّارِ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْشَدْتُهُ شِعْرًا أَقُولُ فِيهِ
لَعَمْرُكَ إِنِّي يَوْمَ أَجْعَلُ جَاهِلًا ضِمَارًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مُشَارِكًا
وَتَرْكِي رَسُولَ اللَّهِ وَالْأَوْسَ حَوْلَهُ أُولَئِكَ أَنْصَارٌ لَهُ مَا أُولَئِكَا
كَتَارِكِ سَهْلِ الْأَرْضِ وَالْحَزْنَ يَبْتَغِي لِيَسْلُكَ فِي وَعْثِ الْأُمُورِ الْمَسَالِكَا
فَآمَنْتُ بِاللَّهِ الَّذِي أَنَا عَبْدُهُ وَخَالَفْتُ مَنْ أَمْسَى يُرِيدُ الْمَهَالِكَا
وَوَجَّهْتُ وَجْهِي نَحْوَ مَكَّةَ قَاصِدًا أُبَايِعُ نَبِيَّ الْأَكْرَمِينَ الْمُبَارَكَا
نَبِيٌّ أَتَانَا بَعْدَ عِيسَى بِنَاطِقٍ مِنَ الْحَقِّ فِيهِ الْفَصْلُ فِيهِ كَذَلِكَا
أَمِينٌ عَلَى الْقُرْآنِ أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مَبْعُوثٍ يُجِيبُ الْمَلَائِكَا
تَلَافَى عُرَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ انْتِقَاضِهَا فَأَحْكَمَهَا حَتَّى أَقَامَ الْمَنَاسِكَا
عَنَيْتُكَ يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا تَوَسَّطْتَ فِي الْفَرْعَيْنِ وَالْمَجْدِ مَالِكا

وَأَنْتَ الْمُصَفَّى مِنْ قُرَيْشٍ إِذَا سَمَتْ عَلَى ضُمْرِهَا تَبْقَى الْقُرُونَ الْمُبَارَكَا
إِذَا انْتَسَبَ الْحَيَّانِ كَعْبٌ وَمَالِكٌ وَجَدْنَاكَ مَحْضًا وَالنِّسَاءَ الْعَوَارِكَا
قَالَ الْخَرَائِطِيُّ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلَوِيُّ بِمِصْرَ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ مِنْ آلِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِنْ خَثْعَمٍ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مِمَّا دَعَانَا إِلَى الْإِسْلَامِ أَنَّا كُنَّا قَوْمًا نَعْبُدُ الْأَوْثَانَ فَبَيْنَا نَحْنُ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ وَثَنٍ لَنَا، إِذْ أَقْبَلَ نَفَرٌ يَتَقَاضَوْنَ إِلَيْهِ، يَرْجُونَ الْفَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، لِشَيْءٍ شَجَرَ بَيْنَهُمْ إِذْ هَتَفَ بِهِمْ هَاتِفٌ مِنَ الصَّنَمِ فَجَعَلَ يَقُولُ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ذَوُو الْأَجْسَامِ مِنْ بَيْنِ أَشْيَاخٍ إِلَى غُلَامِ
مَا أَنْتُمْ وَطَائِشُ الْأَحْلَامِ وَمُسْنِدُ الْحُكْمِ إِلَى الْأَصْنَامِ
أَكُلُّكُمْ فِي حِيرَةِ النِّيَامِ أَمْ لَا تَرَوْنَ مَا أَرَى أَمَامِي
مِنْ سَاطِعٍ يَجْلُو دُجَى الظَّلَامِ قَدْ لَاحَ لِلنَّاظِرِ مِنْ تِهَامِ
ذَاكَ نَبِيٌّ سَيِّدُ الْأَنَامِ قَدْ جَاءَ بَعْدَ الْكُفْرِ بِالْإِسْلَامِ

أَكْرَمَهُ الرَّحْمَنُ مِنْ إِمَامِ وَمِنْ رَسُولٍ صَادِقِ الْكَلَامِ
أَعْدَلَ ذِي حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ يَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ
وَالْبِرِّ وَالصِّلَاتِ لِلْأَرْحَامِ وَيَزْجُرُ النَّاسَ عَنِ الْآثَامِ
وَالرِّجْسِ وَالْأَوْثَانِ وَالْحَرَامِ مِنْ هَاشِمٍ فِي ذِرْوَةِ السَّنَامِ
مُسْتَعْلِنًا فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْنَا ذَلِكَ تَفَرَّقْنَا عَنْهُ، وَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمْنَا.
وَقَالَ الْخَرَائِطِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ الْبَلَوِيُّ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَكْبَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ: رَافِعُ بْنُ عُمَيْرٍ وَكَانَ أَهْدَى النَّاسِ لِلطَّرِيقِ، وَأَسْرَاهُمْ بِلَيْلٍ، وَأَهْجَمَهُمْ عَلَى هَوْلٍ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّيهِ لِذَلِكَ دُعْمُوصَ الْعَرَبِ، لِهِدَايَتِهِ وَجَرَاءَتِهِ عَلَى السَّيْرِ فَذَكَرَ عَنْ بَدْءِ إِسْلَامِهِ قَالَ: إِنِّي لَأَسِيرُ بِرَمْلِ عَالِجٍ ذَاتَ لَيْلَةٍ إِذْ غَلَبَنِي النَّوْمُ فَنَزَلْتُ عَنْ رَاحِلَتِي وَأَنَخْتُهَا وَتَوَسَّدْتُ ذِرَاعَهَا وَنِمْتُ، وَقَدْ تَعَوَّذْتُ قَبْلَ نَوْمِي فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذَا الْوَادِي مِنَ الْجِنِّ مِنْ أَنْ أُؤْذَى أَوْ أُهَاجَ فَرَأَيْتُ فِي مَنَامِي رَجُلًا شَابًّا يَرْصُدُ نَاقَتِي، وَبِيَدِهِ حَرْبَةٌ يُرِيدُ أَنْ يَضَعَهَا فِي نَحْرِهَا فَانْتَبَهْتُ لِذَلِكَ فَزِعًا فَنَظَرْتُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَمْ أَرَ شَيْئًا فَقُلْتُ: هَذَا حُلْمٌ، ثُمَّ عُدْتُ فَغَفَوْتُ فَرَأَيْتُ فِي مَنَامِي مِثْلَ رُؤْيَايَ الْأُولَى فَانْتَبَهْتُ

فَدُرْتُ حَوْلَ نَاقَتِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَإِذَا نَاقَتِي تُرْعَدُ، ثُمَّ غَفَوْتُ فَرَأَيْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَانْتَبَهْتُ فَرَأَيْتُ نَاقَتِي تَضْطَرِبُ وَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بَرْجَلٍ شَابٍّ كَالَّذِي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ بِيَدِهِ حَرْبَةٌ، وَرَجُلٍ شَيْخٍ مُمْسِكٍ بِيَدِهِ يَرُدُّهُ عَنْهَا وَهُوَ يَقُولُ
يَا مَالِكُ بْنَ مُهَلْهِلِ بْنِ دِثَارِ مَهْلًا فِدًى لَكَ مِئْزَرِي وَإِزَارِي
عَنْ نَاقَةِ الْإِنْسِيِّ لَا تَعْرِضْ لَهَا وَاخْتَرْ بِهَا مَا شِئْتَ مِنْ أَثْوَارِي
وَلَقَدْ بَدَا لِي مِنْكَ مَا لَمْ أَحْتَسِبْ أَلَّا رَعَيْتَ قَرَابَتِي وَذِمَارِي
تَسْمُو إِلَيْهِ بِحَرْبَةٍ مَسْمُومَةٍ تَبًّا لِفِعْلِكَ يَا أَبَا الْغَفَّارِ
لَوْلَا الْحَيَاءُ وَأَنَّ أَهْلَكَ جِيرَةٌ لَعَلِمْتَ مَا كَشَّفْتَ مِنْ أَخْبَارِي
قَالَ: فَأَجَابَهُ الشَّابُّ وَهُوَ يَقُولُ
أَأَرَدْتَ أَنْ تَعْلُو وَتَخْفِضَ ذِكْرَنَا فِي غَيْرِ مُزْرِيةٍ أَبَا الْعَيْزَارِ
مَا كَانَ فِيهِمْ سَيِّدٌ فِيمَا مَضَى إِنَّ الْخِيَارَ هُمُو بَنُو الْأَخْيَارِ
فَاقْصِدْ لِقَصْدِكَ يَا مُعَكْبِرُ إِنِّمَا كَانَ الْمُجِيرُ مُهَلْهِلَ بْنَ دِثَارِ
قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمَا يَتَنَازَعَانِ، إِذْ طَلَعَتْ ثَلَاثَةُ أَثْوَارٍ مِنَ الْوَحْشِ فَقَالَ الشَّيْخُ لِلْفَتَى: قُمْ يَا ابْنَ أُخْتِ، فَخُذْ أَيُّهَا شِئْتَ فَدَاءً لِنَاقَةِ جَارِي الْإِنْسِيِّ. فَقَامَ الْفَتَى فَأَخَذَ مِنْهَا ثَوْرًا وَانْصَرَفَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الشَّيْخِ فَقَالَ: يَا هَذَا إِذَا نَزَلْتَ وَادِيًا مِنَ الْأَوْدِيَةِ فَخِفْتَ هَوْلَهُ فَقُلْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ رَبِّ مُحَمَّدٍ مِنْ هَوْلِ هَذَا الْوَادِي وَلَا تَعُذْ بِأَحَدٍ مِنَ الْجِنِّ فَقَدْ بَطَلَ أَمْرُهَا قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: وَمَنْ مُحَمَّدٌ هَذَا ؟ قَالَ: نَبِيٌّ عَرَبِيٌّ لَا شَرْقِيٌّ وَلَا غَرْبِيٌّ بُعِثَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. قُلْتُ:

وَأَيْنَ مَسْكَنُهُ ؟ قَالَ: يَثْرِبُ ذَاتُ النَّخْلِ قَالَ: فَرَكِبْتُ رَاحِلَتِي حِينَ بَرَقَ لِيَ الصُّبْحُ وَجَدَدْتُ السَّيْرَ حَتَّى تَقَحَّمْتُ الْمَدِينَةَ فَرَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثَنِي بِحَدِيثِي قَبْلَ أَنْ أَذْكُرَ لَهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَدَعَانِي إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمْتُ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَكُنَّا نَرَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [ الْجِنِّ: 6 ].
وَرَوَى الْخَرَائِطِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَبِيبَةَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إِذَا كُنْتَ بِوَادٍ تَخَافُ السَّبْعَ فَقُلْ: أَعُوذُ بِدَانْيَالَ وَالْجُبِّ مِنْ شَرِّ الْأَسَدِ.
وَرَوَى الْبَلَوِيُّ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قِصَّةَ قِتَالِ عَلِيٍّ الْجِنَّ بِالْبِئْرِ ذَاتِ الْعَلَمِ الَّتِي بِالْجُحْفَةِ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَقِي لَهُمُ الْمَاءَ فَأَرَادُوا مَنْعَهُ، وَقَطَعُوا الدَّلْوَ فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ، وَهِيَ قِصَّةٌ مُطَوَّلَةٌ مُنْكَرَةٌ جِدًّا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْخَرَائِطِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحَارِثِ مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ الدِّمَشْقِيُّ

وَغَيْرُهُ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِنْتِ شُرَحْبِيلَ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنَا مَجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَذَاكَرُونَ فَضَائِلَ الْقُرْآنِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَوَاتِيمُ سُورَةِ النَّحْلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سُورَةُ يس، وَقَالَ عَلِيٌّ: فَأَيْنَ أَنْتُمْ، عَنْ فَضِيلَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ ؟ أَمَا إِنَّهَا خَمْسُونَ كَلِمَةً فِي كُلِّ كَلِمَةٍ سَبْعُونَ بَرَكَةً. قَالَ: وَفِي الْقَوْمِ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يكَرِبَ لَا يُحِيرُ جَوَابًا فَقَالَ: أَيْنَ أَنْتُمْ عَنْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ؟ فَقَالَ عُمَرُ: حَدِّثْنَا يَا أَبَا ثَوْرٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ جَهَدَنِي الْجُوعُ فَأَقْحَمْتُ فَرَسِي فِي الْبَرِّيَّةِ، فَمَا أَصَبْتُ إِلَّا بَيْضَ النَّعَامِ، فَبَيْنَا أَنَا أَسِيرُ، إِذَا أَنَا بِشَيْخٍ عَرَبِيٍّ فِي خَيْمَةٍ، وَإِلَى جَانِبِهِ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا شَمْسٌ طَالِعَةٌ، وَمَعَهُ غُنَيْمَاتٌ لَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: اسْتَأْسِرْ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ فَرَفَعَ رَأَسَهُ إِلَيَّ، وَقَالَ: يَا فَتَى إِنْ أَرَدْتَ قِرًى فَانْزِلْ، وَإِنْ أَرَدْتَ مَعُونَةً أَعَنَّاكَ، فَقُلْتُ لَهُ: اسْتَأْسِرْ فَقَالَ
عَرَضْنَا عَلَيْكَ النُّزْلَ مِنَّا تَكَرُّمًا فَلَمْ تَرْعَوِي جَهْلًا كَفِعْلِ الْأَشَائِمِ
وَجِئْتَ بِبُهْتَانٍ وَزُورٍ وَدُونَ مَا تَمَنَّيْتَهُ بِالْبَيْضِ حَزُّ الْحَلَاقِمِ

قَالَ: وَوَثَبَ إِلَيَّ وَثْبَةً، وَهُوَ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَكَأَنِّي مَثَلْتُ تَحْتَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَقْتُلُكَ أَمْ أُخَلِّي عَنْكَ ؟ قُلْتُ: بَلْ خَلِّ عَنِّي، قَالَ: فَخَلَّى عَنِّي، ثُمَّ إِنْ نَفْسِي حَدَّثَتْنِي بِالْمُعَاوَدَةِ فَقُلْتُ: اسْتَأْسِرْ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ فَقَالَ:
بِبِسْمِ اللَّهِ وَالرَّحْمَنِ فُزْنَا هُنَالِكَ وَالرَّحِيمِ بِهِ قَهَرْنَا
وَمَا تُغْنِي جَلَادَةُ ذِي حِفَاظٍ إِذَا يَوْمًا لِمَعْرَكَةٍ بَرَزْنَا
ثُمَّ وَثَبَ لِي، وَثْبَةً كَأَنِّي مَثَلْتُ تَحْتَهُ فَقَالَ: أَقْتُلُكَ أَمْ أُخَلِّي عَنْكَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلْ خَلِّ عَنِّي فَخَلَّى عَنِّي فَانْطَلَقْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ قُلْتُ فِي نَفْسِي: يَا عَمْرُو، أَيَقْهَرُكَ هَذَا الشَّيْخُ وَاللَّهِ لَلْمَوْتُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْحَيَاةِ فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: اسْتَأْسِرْ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، فَوَثَبَ إِلَيَّ وَثْبَةً وَهُوَ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَكَأَنِّي مَثَلْتُ تَحْتَهُ فَقَالَ: أَقْتُلُكَ أَمْ أُخَلِّي عَنْكَ ؟ قُلْتُ: بَلْ خَلِّ عَنِّي فَقَالَ: هَيْهَاتَ يَا جَارِيَةُ، ائْتِينِي بِالْمُدْيَةِ فَأَتَتْهُ بِالْمُدْيَةِ فَجَزَّ نَاصِيَتِي، وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا ظَفِرَتْ بِرَجُلٍ فَجَزَّتْ نَاصِيَتَهُ اسْتَعْبَدَتْهُ فَكُنْتُ مَعَهُ أَخْدِمُهُ مُدَّةً، ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ: يَا عَمْرُو أُرِيدُ أَنْ تَرْكَبَ مَعِيَ الْبَرِّيَّةَ، وَلَيْسَ بِي مِنْكَ وَجَلٌ; وَإِنِّي بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَوَاثِقٌ. قَالَ: فَسِرْنَا حَتَّى أَتَيْنَا وَادِيًا أَشِبًا مُهَوِّلًا مُغَوِّلًا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَلَمْ يَبْقَ

طَيْرٌ فِي وَكْرِهِ إِلَّا طَارَ، ثُمَّ أَعَادَ الصَّوْتَ فَلَمْ يَبْقَ سَبْعٌ فِي مَرْبِضِهِ إِلَّا هَرَبَ، ثُمَّ أَعَادَ الصَّوْتَ فَإِذَا نَحْنُ بِحَبَشِيٍّ قَدْ خَرَجَ عَلَيْنَا مِنَ الْوَادِي كَالنَّخْلَةِ السَّحُوقِ، فَقَالَ لِي: يَا عَمْرُو إِذْ رَأَيْتَنَا قَدِ اتَّحَدْنَا فَقُلْ: غَلَبَهُ صَاحِبِي بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُمَا قَدِ اتَّحَدَا قُلْتُ: غَلَبَهُ صَاحِبِي بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلَمْ يَصْنَعِ الشَّيْخُ شَيْئًا فَرَجَعَ إِلَيَّ وَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ قَدْ خَالَفْتَ قَوْلِي. قُلْتُ أَجَلْ وَلَسْتُ بِعَائِدٍ. فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتَنَا قَدِ اتَّحَدْنَا فَقُلْ: غَلَبَهُ صَاحِبِي بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقُلْتُ: أَجَلْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمَا قَدِ اتَّحَدَا قُلْتُ: غَلَبَهُ صَاحِبِي بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ: فَاتَّكَأَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ فَبَعَجَهُ بِسَيْفِهِ فَاشْتَقَّ جَوْفَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ شَيْئًا كَهَيْئَةِ الْقِنْدِيلِ الْأَسْوَدِ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَمْرُو هَذَا غِشُّهُ وَغِلُّهُ، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرِي مَنْ تِلْكَ الْجَارِيَةُ ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: تِلْكَ الْفَارِعَةُ بِنْتُ السَّلِيلِ الْجُرْهُمِيِّ، وَكَانَ أَبُوهَا مِنْ خِيَارِ الْجِنِّ، وَهَؤُلَاءِ أَهْلُهَا، وَبَنُو عَمِّهَا يَغْزُونِي مِنْهُمْ كُلَّ عَامٍ رَجُلٌ، يَنْصُرُنِي اللَّهُ عَلَيْهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ رَأَيْتَ مَا كَانَ مِنِّي إِلَى الْحَبَشِيِّ وَقَدْ غَلَبَ عَلَيَّ الْجُوعُ فَائْتِنِي بِشَيْءٍ آكُلُهُ.
فَأَقْحَمْتُ بِفَرَسِي الْبَرِّيَّةَ، فَمَا أَصَبْتُ إِلَّا بَيْضَ النَّعَامِ، فَأَتَيْتُهُ بِهِ فَوَجَدْتُهُ نَائِمًا، وَإِذَا تَحْتَ

رَأْسِهِ شَيْءٌ كَهَيْئَةِ الْخَشَبَةِ فَاسْتَلَلْتُهُ، فَإِذَا هُوَ سَيْفٌ عَرْضُهُ شِبْرٌ فِي سَبْعَةِ أَشْبَارٍ فَضَرَبْتُ سَاقَيْهِ ضَرْبَةً أَبَنْتُ السَّاقَيْنِ مَعَ الْقَدَمَيْنِ فَاسْتَوَى عَلَى فِقَارِ ظَهْرِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: قَاتَلَكَ اللَّهُ مَا أَغْدَرَكَ يَا غَدَّارُ. قَالَ عُمَرُ: ثُمَّ مَاذَا صَنَعْتَ ؟ قُلْتُ: فَلَمْ أَزَلْ أَضْرِبُهُ بِسَيْفِي حَتَّى قَطَّعْتُهُ إِرْبًا إِرْبًا. قَالَ: فَوَجَمَ لِذَلِكَ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
بِالْغَدْرِ نِلْتَ أَخَا الْإِسْلَامِ عَنْ كَثَبٍ مَا إِنْ سَمِعْتُ كَذَا فِي سَالِفِ الْعَرَبِ
وَالْعُجْمُ تَأْنَفُ مَمَّا جِئْتَهُ كَرَمًا تَبًّا لِمَا جِئْتَهُ فِي السَّيِّدِ الْأَرَبِ
إِنِّي لَأَعْجَبُ أَنِّي نِلْتَ قِتْلَتَهُ أَمْ كَيْفَ جَازَاكَ عِنْدَ الذَّنْبِ لَمْ تَنُبِ
قِرْمٌ عَفَا عِنْكَ مَرَّاتٍ وَقَدْ عَلِقَتْ بِالْجِسْمِ مِنْكَ يَدَاهُ مَوْضِعَ الْعَطَبِ
لَوْ كُنْتُ آخُذُ فِي الْإِسْلَامِ مَا فَعَلُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالصُّلُبِ
إِذًا لَنَالَتْكَ مِنْ عَدْلِي مُشَطِّبَةٌ تَدْعُو لِذَائِقِهَا بِالْوَيْلِ وَالْحَرَبِ
قَالَ: ثُمَّ مَا كَانَ مِنْ حَالِ الْجَارِيَةِ ؟ قُلْتُ: ثُمَّ إِنِّي أَتَيْتُ الْجَارِيَةَ فَلَمَّا رَأَتْنِي قَالَتْ: مَا فَعَلَ الشَّيْخُ ؟ قُلْتُ: قَتَلَهُ الْحَبَشِيُّ فَقَالَتْ: كَذَبْتَ بَلْ قَتَلْتَهُ أَنْتَ بِغَدْرِكَ، ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ
عَيْنُ جُودِي لِلْفَارِسِ الْمِغْوَارِ ثُمَّ جُودِي بِوَاكِفَاتٍ غِزَارِ

لَا تَمَلِّي الْبُكَاءَ إِذْ خَانَكِ الدَّ هْرُ بِوَافٍ حَقِيقَةً صَبَّارِ
وَتَقِيٍّ وَذِي وَقَارٍ وَحِلْمٍ وَعَدِيلِ الْفَخَارِ يَوْمَ الْفَخَارِ
لَهْفَ نَفْسِي عَلَى بَقَائِكَ عَمْرُو أَسْلَمَتْكَ الْأَعْمَارُ لِلْأَقْدَارِ
وَلَعَمْرِي لَوْ لَمْ تَرُمْهُ بِغَدْرٍ رُمْتَ لَيْثًا بِصَارِمٍ بِتَّارِ
قَالَ: فَأَحْفَظَنِي قَوْلُهَا فَاسْتَلَلْتُ سَيْفِي، وَدَخَلْتُ الْخَيْمَةَ لِأَقْتُلَهَا فَلَمْ أَرَ فِي الْخَيْمَةِ أَحَدًا فَاسْتَقْتُ الْمَاشِيَةَ، وَجِئْتُ إِلَى أَهْلِي. وَهَذَا أَثَرٌ عَجِيبٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّيْخَ كَانَ مِنَ الْجَانِّ، وَكَانَ مِمَّنْ أَسْلَمَ، وَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَفِيمَا تَعَلَّمَهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَكَانَ يَتَعَوَّذُ بِهَا.
وَقَالَ الْخَرَائِطِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلَوِيُّ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلَاءِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدَّتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: كَانَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَوَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يَذْكُرَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّجَاشِيَّ بَعْدَ رُجُوعِ أَبْرَهَةَ مِنْ مَكَّةَ قَالَا: فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ قَالَ لَنَا: اصْدُقَانِي أَيُّهَا الْقُرَشِيَّانِ هَلْ وُلِدَ فِيكُمْ مَوْلُودٌ أَرَادَ أَبُوهُ ذَبْحَهُ فَضَرَبَ عَلَيْهِ بِالْقِدَاحِ فَسَلِمَ وَنُحِرَتْ عَنْهُ إِبِلٌ كَثِيرَةٌ ؟ قُلْنَا: نَعَمْ قَالَ: فَهَلْ لَكُمَا عِلْمٌ بِهِ مَا فَعَلَ ؟ قُلْنَا: تَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالَ لَهَا: آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ تَرَكَهَا حَامِلًا وَخَرَجَ قَالَ: فَهَلْ تَعْلَمَانِ وُلِدَ أَمْ لَا ؟ قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: أُخْبِرُكَ أَيُّهَا

الْمَلِكُ أَنِّي لَيْلَةً قَدْ بِتُّ عِنْدَ وَثَنٍ لَنَا كُنَّا نُطِيفُ بِهِ وَنَعْبُدُهُ إِذْ سَمِعْتُ مِنْ جَوْفِهِ هَاتِفًا يَقُولُ:
وُلِدَ النَّبِيُّ فَذَلَّتِ الْأَمْلَاكُ وَنَأَى الضَّلَالُ وَأَدْبَرَ الْإِشْرَاكُ
ثُمَّ انْتَكَسَ الصَّنَمُ عَلَى وَجْهِهِ. فَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: عِنْدِي كَخَبَرِهِ أَيُّهَا الْمَلِكُ. قَالَ: هَاتِ قَالَ: أَنَا فِي مِثْلِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا حَدِيثَهُ خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ أَهْلِي وَهُمْ يَذْكُرُونَ حَمْلَ آمِنَةَ حَتَّى أَتَيْتُ جَبَلَ أَبِي قُبَيْسٍ; أُرِيدُ الْخُلُوَّ فِيهِ لِأَمْرٍ رَابَنِي إِذْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ لَهُ جَنَاحَانِ أَخْضَرَانِ فَوَقَفَ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ ثُمَّ أَشْرَفَ عَلَى مَكَّةَ فَقَالَ: ذَلَّ الشَّيْطَانْ، وَبَطَلَتِ الْأَوْثَانْ، وَوُلِدَ الْأَمِينُ ثُمَّ نَشَرَ ثَوْبًا مَعَهُ وَأَهْوَى بِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَرَأَيْتُهُ قَدْ جَلَّلَ مَا تَحْتَ السَّمَاءِ وَسَطَعَ نُورٌ كَادَ أَنْ يَخْتَطِفَ بَصَرِي وَهَالَنِي مَا رَأَيْتُ وَخَفَقَ الْهَاتِفُ بِجَنَاحَيْهِ حَتَّى سَقَطَ عَلَى الْكَعْبَةِ فَسَطَعَ لَهُ نُورٌ أَشْرَقَتْ لَهُ تِهَامَةُ وَقَالَ: ذَكَتِ الْأَرْضُ وَأَدَّتْ رَبِيعَهَا وَأَوْمَأَ إِلَى الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى الْكَعْبَةِ فَسَقَطَتْ كُلُّهَا. قَالَ النَّجَاشِيُّ وَيْحَكُمَا ! أُخْبِرُكُمَا عَمَّا أَصَابَنِي إِنِّي لَنَائِمٌ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي ذَكَرْتُمَا فِي قُبَّةٍ وَقْتَ خَلْوَتِي، إِذْ خَرَجَ عَلَيَّ مِنَ الْأَرْضِ عُنُقٌ وَرَأَسٌ وَهُوَ يَقُولُ: حَلَّ الْوَيْلُ بِأَصْحَابِ الْفِيلْ،

رَمَتْهُمْ طَيْرٌ أَبَابِيلْ، بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلْ، هَلَكَ الْأَشْرَمْ، الْمُعْتَدِي الْمُجْرِمْ، وَوُلِدَ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ، الْمَكِّيُّ الْحَرَمِيُّ، مَنْ أَجَابَهُ سَعَدْ، وَمَنْ أَبَاهُ عَنَدْ.
ثُمَّ دَخَلَ الْأَرْضَ فَغَابَ فَذَهَبْتُ أَصِيحُ فَلَمْ أُطِقِ الْكَلَامَ، وَرُمْتُ الْقِيَامَ فَلَمْ أُطِقِ الْقِيَامَ، فَصَرَعْتُ الْقُبَّةَ بِيَدِي فَسَمِعَ بِذَلِكَ أَهْلِي فَجَاءُونِي فَقُلْتُ: احْجُبُوا عَنِّي الْحَبَشَةَ فَحَجَبُوهُمْ عَنِّي ثُمَّ أُطْلِقَ عَنْ لِسَانِي وَرِجْلِي.
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ فِي تَرْجَمَةِ الْحَارِثِ بْنِ هَانِئِ بْنِ الْمُدْلِجِ بْنِ الْمِقْدَادِ بْنِ زَمْلِ بِنِ عَمْرٍو الْعُذْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَمِلِ بْنِ عَمْرٍو الْعُذْرِيِّ قَالَ: كَانَ لِبَنِي عُذْرَةَ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ: حَمَامٌ. وَكَانُوا يُعَظِّمُونَهُ وَكَانَ فِي بَنِي هِنْدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ ضِنَّةَ بْنِ عَبْدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ عُذْرَةَ وَكَانَ سَادِنُهُ رَجُلًا يُقَالَ لَهُ: طَارِقٌ وَكَانُوا يَعْتِرُونَ عِنْدَهُ فَلَمَّا ظَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْنَا صَوْتًا يَقُولُ: يَا بَنِي هِنْدِ بْنِ حَرَامٍ ظَهَرَ الْحَقُّ وَأَوْدَى حَمَامُ، وَدَفَعَ الشِّرْكَ الْإِسْلَامُ. قَالَ: فَفَزِعْنَا لِذَلِكَ وَهَالَنَا فَمَكَثْنَا أَيَّامًا ثُمَّ سَمِعْنَا صَوْتًا وَهُوَ يَقُولُ: يَا طَارِقُ يَا طَارِقْ، بُعِثَ النَّبِيُّ

الصَّادِقْ، بِوَحْيٍ نَاطِقْ، صَدَعَ صَادِعٌ بِأَرْضِ تِهَامَةْ، لِنَاصِرِيهِ السَّلَامَةْ، وَلِخَاذِلِيهِ النَّدَامَةْ، هَذَا الْوَدَاعُ مِنِّي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةْ. قَالَ زَمِلٌ: فَوَقَعَ الصَّنَمُ لِوَجْهِهِ. قَالَ زَمِلٌ: فَابْتَعْتُ رَاحِلَةً، وَرَحَلْتُ حَتَّى أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي وَأَنْشَدْتُهُ شِعْرًا قُلْتُهُ:
إِلَيْكَ رَسُولَ اللَّهِ أَعْمَلْتُ نَصَّهَا وَكَلَّفْتُهَا حَزْنًا وَقَوْزًا مِنَ الرَّمْلِ
لِأَنْصُرَ خَيْرَ النَّاسِ نَصْرًا مُؤَزَّرًا وَأَعْقِدُ حَبْلًا مِنْ حِبَالِكَ فِي حَبْلِي
وَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ أَدِينُ بِهِ مَا أَثْقَلَتْ قَدَمِي نَعْلِي
قَالَ: فَأَسْلَمْتُ وَبَايَعَتْهُ وَأَخْبَرْنَاهُ بِمَا سَمِعْنَا فَقَالَ: ذَاكَ مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْأَنَامِ كَافَّةً أَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَأَنِّي رَسُولُهُ وَعَبْدُهُ، وَأَنْ يَحُجُّوا الْبَيْتَ وَيَصُومُوا شَهْرًا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ فَمَنْ أَجَابَنِي فَلَهُ الْجَنَّةُ نُزُلَا، وَمَنْ عَصَانِي كَانَتِ النَّارُ لَهُ مُنْقَلَبًا. قَالَ: فَأَسْلَمْنَا وَعَقَدَ لَنَا لِوَاءً

وَكَتَبَ لَنَا كِتَابًا نُسْخَتُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ لِزَمِلِ بْنِ عَمْرٍو وَمِنْ أَسْلَمَ مَعَهُ خَاصَّةً إِنِّي بَعَثْتُهُ إِلَى قَوْمِهِ عَامِدًا فَمِنْ أَسْلَمَ فَفِي حِزْبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ أَبَى فَلَهُ أَمَانُ شَهْرَيْنِ شَهِدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُنْذِرِ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَانِيِّ قَالَ: كَانَ مِنَّا رَجُلٌ يُقَالَ لَهُ: مَازِنُ بْنُ الْغَضُوبَةِ. يَسْدُنُ صَنَمًا بِقَرْيَةٍ يُقَالَ لَهَا: سَمَايَا مِنْ عُمَانَ وَكَانَتْ تُعَظِّمُهُ بَنُو الصَّامِتِ وَبَنُو حُطَامَةَ وَمَهْرَةُ وَهُمْ أَخْوَالُ مَازِنٍ أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حُوَيْصٍ أَحَدِ بَنِي نُمْرَانَ. قَالَ مَازِنٌ: فَعَتَرْنَا يَوْمًا عِنْدَ الصَّنَمِ عَتِيرَةً وَهِيَ الذَّبِيحَةُ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ الصَّنَمِ يَقُولُ: يَا مَازِنُ، اسْمَعْ تُسَرَّ، ظَهَرَ خَيْرٌ وَبَطَنَ شَرٌّ، بُعِثَ نَبِيٌّ مِنْ مُضَرْ، بِدِينِ اللَّهِ الْأَكْبَرْ، فَدَعْ نَحِيَتًا مَنْ حَجَرْ; تَسْلَمْ مِنْ حَرِّ سَقَرْ، قَالَ: فَفَزِعْتُ لِذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا ثُمَّ عَتَرْنَا بَعْدَ أَيَّامٍ عَتِيرَةً أُخْرَى، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ الصَّنَمِ يَقُولُ: أَقْبِلْ إِلَيَّ أَقْبِلْ، تَسْمَعْ مَا لَا تَجْهَلْ، هَذَا نَبِيٌّ مُرْسَلْ، جَاءَ بِحَقٍّ مُنْزَلْ، فَآمِنْ بِهِ

كَيْ تَعْدِلْ، عَنْ حَرِّ نَارٍ تُشْعَلْ، وَقُودُهَا الْجَنْدَلْ. قَالَ مَازِنٌ: فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا لَعَجَبٌ، وَإِنَّ هَذَا لَخَيْرٌ يُرَادُ بِي وَقَدِمَ عَلَيْنَا رَجُلٌ مِنَ الْحِجَازِ فَقُلْتُ: مَا الْخَبَرُ وَرَاءَكَ ؟ فَقَالَ: ظَهَرَ رَجُلٌ يُقَالَ لَهُ: أَحْمَدُ يَقُولُ لِمَنْ أَتَاهُ: أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ فَقُلْتُ: هَذَا نَبَأُ مَا سَمِعْتُ فَثُرْتُ إِلَى الصَّنَمِ فَكَسَرْتُهُ جُذَاذًا وَرَكِبْتُ رَاحِلَتِي حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلْإِسْلَامِ فَأَسْلَمْتُ وَقُلْتُ:
كَسَرْتُ بَاجِرَ أَجْذَاذًا وَكَانَ لَنَا رَبًّا نُطِيفُ بِهِ ضَلًّا بِتَضْلَالِ
بِالْهَاشِمِيِّ هَدَانَا مِنْ ضَلَالَتِنَا وَلَمْ يَكُنْ دِينُهُ مِنِّي عَلَى بَالِ
يَا رَاكِبًا بَلِّغَنْ عَمْرًا وَإِخْوَتَهُ أَنِّي لِمَنْ قَالَ رَبِّي بَاجِرٌ قَالِ
يَعْنِي: بِعَمْرٍو الصَّامِتَ وَإِخْوَتِهُ حُطَامَةَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرُؤٌ مُولَعٌ بِالطَّرَبِ وَبِالْهَلُوكِ مِنَ النِّسَاءِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَلَحَّتْ عَلَيْنَا السُّنُونَ فَأَذْهَبْنَ الْأَمْوَالَ وَأَهْزَلْنَ السَّرَارِيَّ وَلَيْسَ لِي وَلَدٌ، فَادْعُو اللَّهَ أَنْ يُذْهِبَ عَنِّي مَا أَجِدُ، وَيَأْتِيَنَا بِالْحَيَا، وَيَهَبَ لِي وَلَدًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ أَبْدِلْهُ

بِالطَّرَبِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، وَبِالْحَرَامِ الْحَلَالَ، وَبِالْإِثْمِ وَبِالْعَهْرِ عِفَّةً، وَآتِهِ بِالْحَيَا، وَهَبْ لَهُ وَلَدًا. قَالَ: فَأَذْهَبُ اللَّهُ عَنِّي مَا أَجِدُ وَأُخْصِبَتْ عُمَانُ، وَتَزَوَّجْتُ أَرْبَعَ حَرَائِرَ وَحَفِظْتُ شَطْرَ الْقُرْآنِ، وَوَهَبَ لِي حَيَّانَ بْنَ مَازِنٍ وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
إِلَيْكَ رَسُولَ اللَّهِ خَبَّتْ مَطِيَّتِي تَجَوبُ الْفَيَافِي مِنْ عُمَانَ إِلَى الْعَرْجِ
لِتَشْفَعَ لِي يَا خَيْرَ مَنْ وَطِئَ الْحَصَى فَيَغْفِرَ لِي رَبِّي فَأَرْجِعَ بِالْفَلْجِ
إِلَى مَعْشَرٍ خَالَفْتُ فِي اللَّهِ دِينَهُمْ فَلَا رَأْيُهُمْ رَأْيِي وَلَا شَرْجُهُمْ شَرْجِي
وَكُنْتُ امْرَأً بِالْخَمْرِ وَالْعَهْرِ مُولَعًا شَبَابِيَ حَتَّى آذَنَ الْجِسْمُ بِالنَّهْجِ
فَبَدَّلَنِي بِالْخَمْرِ خَوْفًا وَخَشْيَةً وَبِالْعَهْرِ إِحْصَانًا فَحَصَّنَ لِي فَرْجِي
فَأَصْبَحْتُ هَمِّي فِي الْجِهَادِ وَنِيَّتِي فَلِلَّهِ مَا صَوْمِي وَلِلَّهِ مَا حَجِّي
قَالَ: فَلَمَّا أَتَيْتُ قَوْمِي أَنَّبُونِي وَشَتَمُونِي وَأَمَرُوا شَاعِرًا لَهُمْ فَهَجَانِي فَقُلْتُ: إِنْ رَدَدْتُ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا أَهْجُو نَفْسِي فَرَحَلْتُ عَنْهُمْ، فَأَتَتْنِي مِنْهُمْ زُلْفَةٌ عَظِيمَةٌ وَكُنْتُ الْقَيِّمَ بِأُمُورِهِمْ فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَمٍّ، عِبْنَا عَلَيْكَ أَمَرًا وَكَرِهْنَا ذَلِكَ، فَإِنْ أَبَيْتَ ذَلِكَ فَارْجِعْ وَقُمْ بِأُمُورِنَا، وَشَأْنُكَ وَمَا تَدِينُ بِهِ. فَرَجَعْتُ مَعَهُمْ وَقُلْتُ:

لَبُغْضُكُمْ عِنْدَنَا مُرٌّ مَذَاقَتُهُ وَبُغْضُنَا عِنْدَكُمْ يَا قَوْمَنَا لَبَنُ
لَا يَفْطِنُ الدَّهْرُ إِنْ بُثَّتْ مَعَائِبُكُمْ وَكُلُّكُمْ حِينَ يُثْنَى عَيْبُنَا فَطِنُ
شَاعِرُنَا مُفْحَمٌ عَنْكُمْ وَشَاعِرُكُمْ فِي حَدْبِنَا مُبْلِغٌ فِي شَتْمِنَا لَسِنُ
مَا فِي الْقُلُوبِ عَلَيْكُمْ فَاعْلَمُوا وَغِرٌ وَفِي قُلُوبِكُمُ الْبَغْضَاءُ وَالْإِحَنُ
قَالَ مَازِنٌ: فَهَدَاهُمُ اللَّهُ بَعْدُ إِلَى الْإِسْلَامِ جَمِيعًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ فِي مُغَازِيهِ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ يَعْنِي عَمَّهُ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: إِنَّهُ ذُكِرَ لِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: هَتَفَ هَاتِفٌ مِنَ الْجِنِّ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ فَقَالَ:
قَبَّحَ اللَّهُ رَأْيَكُمْ آلَ فِهْرٍ مَا أَرَقَّ الْعُقُولَ وَالْأَفْهَامَ
حِينَ تَعْصِي لِمَنْ يَعِيبُ عَلَيْهَا دِينَ آبَائِهَا الْحُمَاةِ الْكِرَامِ
حَالَفَ الْجِنُّ جِنَّ بُصْرَى عَلَيْكُمُ وَرِجَالَ النَّخِيلِ وَالآطَامِ

تُوشِكُ الْخَيْلُ أَنْ تَرَوْهَا تَهَادَى تَقْتُلُ الْقَوْمَ فِي حَرَامٍ بِهَامِ
هِلْ كَرِيمٌ مِنْكُمُ لَهُ نَفْسُ حُرٍّ مَاجِدُ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَعْمَامِ
ضَارِبٌ ضَرْبَةً تَكُونُ نَكَالًا وَرَوَاحًا مِنْ كُرْبَةٍ وَاغْتِمَامِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَصْبَحَ هَذَا الشِّعْرُ حَدِيثًا لِأَهْلِ مَكَّةَ يَتَنَاشَدُونَهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا شَيْطَانٌ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْأَوْثَانِ يُقَالَ لَهُ: مِسْعَرٌ وَاللَّهُ مُخْزِيهِ فَمَكَثُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِذَا هَاتِفٌ يَهْتِفُ عَلَى الْجَبَلِ يَقُولُ
نَحْنُ قَتَلْنَا فِي ثَلَاثٍ مِسْعَرَا إِذْ سَفَّهَ الْجِنَّ وَسَنَّ الْمُنْكَرَا
قَنَّعْتُهُ سَيْفًا حُسَامًا مُشْهَرَا بِشَتْمِهِ نَبِيَّنَا الْمُطَهَّرَا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ اسْمُهُ سَمْجٌ آمَنَ بِي سَمَّيْتُهُ عَبْدَ اللَّهِ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ فِي طَلَبِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَالَ عَلِيٌّ: جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُوسَى بْنِ أَبِي حَرْبٍ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْفَرَجِ الرِّيَاشِيُّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ

أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَامٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ فِي حَاجَةٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ فَسَمِعْتُ هَاتِفًا يَقُولُ:
أَبَا عَمْرٍو تَنَاوَبَنِي السُّهُودُ وَرَاحَ النَّوْمُ وَامْتَنَعَ الْهُجُودُ
لِذِكْرِ عِصَابَةٍ سَلَفُوا وَبَادُوا وَكُلُّ الْخَلْقِ قَصْرُهُمُ يَبِيدُ
تَوَلَّوْا وَارِدِينَ إِلَى الْمَنَايَا حِيِاضًا لَيْسَ مَنْهَلَهَا الْوُرُودُ
مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ وَبَقِيتُ خَلْفًا وَحِيدًا لَيْسَ يُسْعِفُنِي وَحِيدُ
سُدًى لَا أَسْتَطِيعُ عِلَاجَ أَمْرٍ إِذَا مَا عَالَجَ الطِّفْلُ الْوَلِيدُ
فَلَأْيًا مَا بَقِيتُ إِلَى أُنَاسٍ وَقَدْ بَاتَتْ بِمَهْلِكِهَا ثَمُودُ
وَعَادٌ وَالْقُرُونُ بِذِي شُعُوبٍ سَوَاءٌ كُلُّهُمْ إِرَمٌ حَصِيدُ
قَالَ: ثُمَّ صَاحَ بِهِ آخَرُ: يَا خَرْعَبْ، ذَهَبَ بِكَ الْعَجَبْ، إِنَّ الْعَجَبَ كُلَّ الْعَجَبْ، بَيْنَ زُهْرَةَ وَيَثْرِبْ،. قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا شَاحِبْ ؟ قَالَ: نَبِيُّ السَّلَامْ، بُعِثَ بِخَيْرِ الْكَلَامْ، إِلَى جَمِيعِ الْأَنَامْ، فَاخْرُجْ مِنَ الْبَلَدِ الْحَرَامْ، إِلَى

نَخِيلٍ وَآطَامْ. قَالَ: مَا هَذَا النَّبِيُّ الْمُرْسَلْ، وَالْكِتَابُ الْمُنَزَّلْ، وَالْأُمِّيُّ الْمُفَضَّلْ ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ. قَالَ: هَيْهَاتَ، فَاتَ عَنْ هَذَا سِنِّي وَذَهَبَ عَنْهُ زَمَنِي لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَالنَّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ نَرْمِي غَرَضًا وَاحِدًا وَنَشْرَبُ حَلَبًا بَارِدًا وَلَقَدْ خَرَجْتُ بِهِ مِنْ دَوْحَةٍ فِي غَدَاةٍ شَبِمَةٍ وَطَلَعَ مَعَ الشَّمْسِ وَغَرَبَ مَعَهَا يَرْوِي مَا يَسْمَعُ وَيُثْبِتُ مَا يُبْصِرُ وَلَئِنْ كَانَ هَذَا مِنْ وَلَدِهِ لَقَدْ سُلَّ السَّيْفُ، وَذَهَبَ الْخَوْفُ، وَدُحِضَ الزِّنَا وَهَلَكَ الرِّبَا. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي مَا يَكُونُ ؟ قَالَ: ذَهَبَتِ السَّرَّاءَ وَالْمَجَاعَةْ، وَالشِّدَّةُ وَالشَّجَاعَةْ، إِلَّا بَقِيَّةً فِي خُزَاعَةْ. وَذَهَبَتِ الضَّرَّاءُ وَالْبُؤْسُ، وَالْخُلُقُ الْمَنْقُوسُ إِلَّا بَقِيَّةً مِنَ الْخَزْرَجِ وَالْأَوْسِ. وَذَهَبَتِ الْخُيَلَاءُ وَالْفَخْرُ، وَالنَّمِيمَةُ وَالْغَدْرُ، إِلَّا بَقِيَّةً فِي بَنِي بَكْرٍ - يَعْنِي ابْنَ هَوَازِنَ - وَذَهَبَ الْفِعْلُ الْمُنَدِّمْ، وَالْعَمَلُ الْمُؤَثِّمْ، إِلَّا بَقِيَّةً فِي خَثْعَمْ. قَالَ: أَخْبِرْنِي مَا يَكُونُ ؟ قَالَ: إِذَا غُلِبَتِ الْبَرَّةْ، وَلُطِمَتِ الْحُرَّةْ، فَاخْرُجْ مِنْ بِلَادِ الْهِجْرَةْ، وَإِذَا كُفَّ

السَّلَامْ، وَقُطِعَتِ الْأَرْحَامْ، فَاخْرُجْ مِنَ الْبَلَدِ الْحَرَامْ، قَالَ: أَخْبِرْنِي مَا يَكُونُ ؟ قَالَ: لَوْلَا أُذُنٌ تَسْمَعْ، وَعَيْنٌ تَلْمَعْ; لَأَخْبَرْتُكَ بِمَا يُفْزِعْ. ثُمَّ قَالَ:
لَا مَنَامٌ هَدَّأْتَهُ بِنَعِيمٍ يَا ابْنَ غَوْطٍ وَلَا صَبَاحٌ أَتَانَا
قَالَ: ثُمَّ صَرْصَرَ صَرْصَرَةً كَأَنَّهَا صَرْصَرَةُ حُبْلَى فَذَهَبَ الْفَجْرُ فَذَهَبْتُ لِأَنْظُرَ فَإِذَا عَظَايَةٌ وَثُعْبَانٌ مَيِّتَانِ. قَالَ: فَمَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَلِيٍّ عَنِ النَّضْرِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ مُوسَى عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَامٍ، عَنْ شَهْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: لَمَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ خَرَجْتُ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لِبَعْضِ الْحَاجَةِ قَالَ: فَقَضَيْتُ حَاجَتِي ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ نِمْتُ فَفَزِعْتُ مِنَ اللَّيْلِ بِصَائِحٍ يَقُولُ
أَبَا عَمْرٍو تَنَاوَبَنِي السُّهُودُ وَرَاحَ النَّوْمُ وَانْقَطَعَ الْهُجُودُ
وَذَكَرَ مِثْلَهُ بِطُولِهِ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ

عَلِيٍّ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا أَبُو غَزِيَّةَ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى عَنِ الْعَطَّافِ بْنِ خَالِدٍ الْوَابِصَيِّ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ تَمِيمًا الدَّارِيَّ يَقُولُ: كُنْتُ بِالشَّامِ حِينَ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي فَأَدْرَكَنِي اللَّيْلُ فَقُلْتُ: أَنَا فِي جِوَارِ عَظِيمِ هَذَا الْوَادِي اللَّيْلَةَ. قَالَ: فَلَمَّا أَخَذْتُ مَضْجَعِي إِذَا أَنَا بِمُنَادٍ يُنَادِي لَا أَرَاهُ: عُذْ بِاللَّهِ فَإِنَّ الْجِنَّ لَا تُجِيرُ أَحَدًا عَلَى اللَّهِ فَقُلْتُ: ايْمُ اللَّهِ تَقُولُ ؟ فَقَالَ: قَدْ خَرَجَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ رَسُولُ اللَّهِ وَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ بِالْحَجُونِ فَأَسْلَمْنَا وَاتَّبَعْنَاهُ وَذَهَبَ كَيْدُ الْجِنِّ وَرُمِيَتْ بِالشُّهُبِ فَانْطَلِقْ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأَسْلِمْ. قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ ذَهَبْتُ إِلَى دَيْرِ أَيُّوبَ فَسَأَلْتُ رَاهِبًا وَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ فَقَالَ الرَّاهِبُ: قَدْ صَدَقُوكَ يَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ، وَمُهَاجَرُهُ الْحَرَمُ وَهُوَ خَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا تُسْبَقْ إِلَيْهِ قَالَ تَمِيمٌ: فَتَكَلَّفْتُ الشُّخُوصَ حَتَّى جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمْتُ.
وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْهُذَلِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَاعِدَةَ الْهُذَلِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ صَنَمِنَا سُوَاعٍ، وَقَدْ جَلَبْنَا إِلَيْهِ غَنَمًا لَنَا، مِائَتَيْ شَاةٍ قَدْ أَصَابَهَا جَرَبٌ، فَأَدْنَيْنَاهَا مِنْهُ لِنَطْلُبَ بَرَكَتَهُ فَسَمِعْتُ مُنَادِيًا مِنْ جَوْفِ الصَّنَمِ يُنَادِي: قَدْ ذَهَبَ كَيْدُ الْجِنِّ وَرُمِينَا بِالشُّهُبِ لِنَبِيٍّ اسْمُهُ أَحْمَدُ

قَالَ: فَقُلْتُ: غَوَيْتُ وَاللَّهِ. فَصَرَفْتُ وَجْهَ غَنَمِي مُنْجِدًا إِلَى أَهْلِي فَلَقِيتُ رَجُلًا فَخَبَّرَنِي بِظُهُورِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ هَكَذَا مُعَلَّقًا ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ السِّنْدِيِّ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ عَطَاءٍ الظَّفَرِيِّ - مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ مِنْ وَلَدِ رَاشِدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ - عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَاشِدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهُ قَالَ: كَانَ الصَّنَمُ الَّذِي يُقَالَ لَهُ: سُوَاعٌ بِالْمَعْلَاةِ مِنْ رُهَاطٍ تَدِينُ لَهُ هُذَيْلٌ وَبَنُو ظَفَرِ بْنِ سُلَيْمٍ فَأَرْسَلَتْ بَنُو ظَفَرٍ رَاشِدَ بْنَ عَبْدِ رَبِّهِ بِهَدِيَّةٍ مِنْ سُلَيْمٍ إِلَى سُوَاعٍ قَالَ رَاشِدٌ: فَأَلْقَيْتُ مَعَ الْفَجْرِ إِلَى صَنَمٍ قَبْلَ صَنَمِ سُوَاعٍ فَإِذَا صَارِخٌ يَصْرُخُ مِنْ جَوْفِهِ: الْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبْ، مِنْ خُرُوجِ نَبِيٍّ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبْ، يُحَرِّمُ الزِّنَا وَالرِّبَا وَالذَّبْحَ لِلْأَصْنَامِ وَحُرِسَتِ السَّمَاءُ، وَرُمِينَا بِالشُّهُبْ، الْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبْ. ثُمَّ هَتَفَ صَنَمٌ آخَرُ مِنْ جَوْفِهِ تُرِكَ الضِّمَارُ وَكَانَ يُعْبَدْ، خَرَجَ أَحْمَدْ، يُصَلِّي الصَّلَاةَ، وَيَأْمُرُ بِالزَّكَاةِ

وَالصِّيَامِ، وَالْبِرِّ وَالصِّلَاتِ لِلْأَرْحَامِ ثُمَّ هَتَفَ مِنْ جَوْفِ صَنَمٍ آخَرَ هَاتِفٌ يَقُولُ:
إِنَّ الَّذِي وَرِثَ النُّبُوَّةَ وَالْهُدَى بَعْدَ ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ قُرَيْشٍ مُهْتَدِ
نَبِيٌّ أَتَى يُخَبِّرُ بِمَا قَدْ سَبَقْ وَبِمَا يَكُونُ مِنَ الْغَدِ
قَالَ رَاشِدٌ: فَأَلْفَيْتُ سُوَاعًا مَعَ الْفَجْرِ وَثَعْلَبَانِ يَلْحَسَانِ مَا حَوْلَهُ وَيَأْكُلَانِ مَا يُهْدَى لَهُ، ثُمَّ يُعَرِّجَانِ عَلَيْهِ بِبَوْلِهِمَا. فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ رَاشِدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ:
أَرَبٌّ يَبُولُ الثَّعْلَبَانِ بَرَأْسِهِ لَقَدْ ذَلَّ مَنْ بالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ
وَذَلِكَ عِنْدَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُهَاجَرِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَسَامَعَ النَّاسُ بِهِ فَخَرَجَ رَاشِدٌ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمَدِينَةَ، وَمَعَهُ كَلْبٌ لَهُ وَاسْمُ رَاشِدٍ: يَوْمَئِذٍ ظَالِمٌ وَاسْمُ كَلْبِهِ: رَاشِدٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اسْمُكَ قَالَ: ظَالِمٌ. قَالَ: فَمَا اسْمُ كَلْبِكَ ؟ قَالَ: رَاشِدٌ. قَالَ: اسْمُكَ رَاشِدٌ وَاسْمُ كَلْبِكَ ظَالِمٌ. وَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَايَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَعَهُ. ثُمَّ طَلَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطِيعَةً بِرُهَاطٍ، وَوَصَفَهَا لَهُ فَأَقْطَعَهُ رَسُولُ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَعْلَاةِ مِنْ رُهَاطٍ شَأْوَ الْفَرَسِ وَرَمْيَتُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِحَجَرٍ وَأَعْطَاهُ إِدَاوَةً مَمْلُوءَةً مِنْ مَاءٍ وَتَفَلَ فِيهَا، وَقَالَ لَهُ: فَرِّغْهَا فِي أَعْلَى الْقَطِيعَةِ وَلَا تَمْنَعِ النَّاسَ فُضُولَهَا فَفَعَلَ. فَجَعَلَ الْمَاءَ مَعِينًا يَجْرِي إِلَى الْيَوْمِ فَغَرَسَ عَلَيْهَا النَّخْلَ وَيُقَالَ: إِنَّ رُهَاطًا كُلَّهَا تَشْرَبُ مِنْهُ فَسَمَّاهَا النَّاسُ مَاءَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَهْلُ رُهَاطٍ يَغْتَسِلُونَ بِهَا وَبَلَغَتْ رَمْيَةُ رَاشِدٍ الرَّكِيبَ الَّذِي يُقَالَ لَهُ: رَكِيبُ الْحَجَرِ وَغَدَا رَاشِدٌ عَلَى سُوَاعٍ فَكَسَرَهُ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْخُزَاعِيُّ الْأَهْوَازِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ بْنِ دِلْهَاثِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْرِعِ بْنِ يَاسِرِ بْنِ سُوَيْدٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيهِ دِلْهَاثٍ عَنْ أَبِيهِ إِسْمَاعِيلَ أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ مُسْرِعِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّ أَبَاهُ يَاسِرًا حَدَّثَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ قَالَ: خَرَجْتُ حَاجًّا فِي جَمَاعَةٍ مِنْ قَوْمِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَرَأَيْتُ

فِي الْمَنَامِ وَأَنَا بِمَكَّةَ نُورًا سَاطِعًا مِنَ الْكَعْبَةِ حَتَّى أَضَاءَ فِي جَبَلِ يَثْرِبَ وَأَشْعَرِ جُهَيْنَةَ فَسَمِعْتُ صَوْتًا فِي النُّورِ وَهُوَ يَقُولُ: انْقَشَعَتِ الظَّلْمَاءُ وَسَطَعَ الضِّيَاءُ وَبُعِثَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ أَضَاءَ إِضَاءَةً أُخْرَى حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى قُصُورِ الْحِيرَةِ وَأَبْيَضِ الْمَدَائِنِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا فِي النُّورِ وَهُوَ يَقُولُ: ظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَكُسِرَتِ الْأَصْنَامُ وَوُصَلَتِ الْأَرْحَامُ، فَانْتَبَهْتُ فَزِعًا فَقُلْتُ لِقَوْمِي: وَاللَّهِ لَيَحْدُثَنَّ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ حَدَثٌ، وَأَخْبَرْتُهُمْ بِمَا رَأَيْتُ فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى بِلَادِنَا جَاءَنَا رَجُلٌ فَأَخْبَرَنَا أَنَّ رَجُلًا يُقَالَ لَهُ: أَحْمَدُ قَدْ بُعِثَ، فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ فَقَالَ: يَا عَمْرُو بْنَ مُرَّةَ إِنِّي الْمُرْسَلُ إِلَى الْعِبَادِ كَافَّةً أَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَآمُرُهُمْ بِحَقْنِ الدِّمَاءِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَرَفْضِ الْأَصْنَامِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرٍ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فَمَنْ أَجَابَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ عَصَى فَلَهُ النَّارُ، فَآمِنْ يَا عَمْرُو بْنَ مُرَّةَ يُؤَمِّنْكَ اللَّهُ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ. فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ آمَنْتُ بِكُلِّ مَا جِئْتَ بِهِ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَإِنْ أَرْغَمَ ذَلِكَ كَثِيرًا مِنَ الْأَقْوَامِ. ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ أَبْيَاتًا قُلْتُهَا حِينَ سَمِعْتُ بِهِ وَكَانَ لَنَا صَنَمٌ وَكَانَ أَبِي سَادِنًا لَهُ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَكَسَرْتُهُ ثُمَّ لَحِقْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَقُولُ:
شَهِدْتُ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَأَنَّنِي لِآلِهَةِ الْأَحْجَارِ أَوَّلُ تَارِكِ
فَشَمَّرْتُ عَنْ سَاقِي إِزَارَ مُهَاجِرٍ إِلَيْكَ أَدِبُّ الْغَوْرَ بَعْدَ الدَّكَادِكِ

لِأَصْحَبَ خَيْرَ النَّاسِ نَفْسًا وَوَالِدًا رَسُولَ مَلِيكِ النَّاسِ فَوْقَ الْحَبَائِكِ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَرْحَبًا بِكَ يَا عَمْرُو بْنَ مُرَّةَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ابْعَثْ بِي إِلَى قَوْمِي لَعَلَّ اللَّهَ أَنَّ يَمُنَّ بِي عَلَيْهِمْ كَمَا مَنَّ بِكَ عَلِيَّ، فَبَعَثَنِي إِلَيْهِمْ وَقَالَ: عَلَيْكَ بِالْقَوْلِ السَّدِيدِ وَلَا تَكُنْ فَظًّا، وَلَا مُتَكَبِّرًا، وَلَا حَسُودًا. فَأَتَيْتُ قَوْمِي فَقُلْتُ لَهُمْ: يَا بَنِي رِفَاعَةَ، ثُمَّ يَا بَنِي جُهَيْنَةَ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، أَدْعُوكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأُحَذِّرُكُمُ النَّارَ، وَآمُرُكُمْ بِحَقْنِ الدِّمَاءِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَعِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَفْضِ الْأَصْنَامِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، شَهْرٍ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، فَمَنْ أَجَابَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ عَصَى فَلَهُ النَّارُ، يَا مَعْشَرَ جُهَيْنَةَ إِنَّ اللَّهَ - وَلَهُ الْحَمْدُ - جَعَلَكُمْ خِيَارَ مَنْ أَنْتُمْ مِنْهُ، وَبَغَّضَ إِلَيْكُمْ فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ مَا حَبَّبَ إِلَى غَيْرِكُمْ مِنَ الرَّفَثِ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَيَخْلُفُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَةِ أَبِيهِ، وَالتِّرَاتِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَأَجِيبُوا هَذَا النَّبِيَّ الْمُرْسَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ تَنَالُوا شَرَفَ الدُّنْيَا وَكَرَامَةَ الْآخِرَةِ، سَارِعُوا سَارِعُوا فِي ذَلِكَ تَكُنْ لَكُمْ فَضِيلَةٌ عِنْدَ اللَّهِ فَأَجَابُوا إِلَّا رَجُلًا مِنْهُمْ قَامَ فَقَالَ: يَا عَمْرُو بْنَ مُرَّةَ أَمَرَّ اللَّهُ عَلَيْكَ عَيْشَكَ، أَتَأْمُرُنَا أَنْ نَرْفُضَ آلِهَتَنَا، وَنُفَرِّقَ جَمَاعَتَنَا بِمُخَالَفَةِ دِينِ آبَائِنَا إِلَى مَا يَدْعُو هَذَا الْقُرَشِيُّ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ ؟ ! لَا وَلَا مَرْحَبًا وَلَا كَرَامَةَ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ

إِنَّ ابْنَ مُرَّةَ قَدْ أَتَى بِمَقَالَةٍ لَيْسَتْ مَقَالَةَ مَنْ يُرِيدُ صَلَاحَا
إِنِّي لَأَحْسَبُ قَوْلَهُ وَفَعَالَهُ يَوْمًا وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ رِيَاحَا
أَتُسَفِّهُ الْأَشْيَاخَ مِمَّنْ قَدْ مَضَى مَنْ رَامَ ذَلِكَ لَا أَصَابَ فَلَاحَا
فَقَالَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ: الْكَاذِبُ مِنِّي وَمِنْكَ أَمَرَّ اللَّهُ عَيْشَهُ وَأَبْكَمَ لِسَانَهُ وَأَكْمَهَ بَصَرَهُ. قَالَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ: وَاللَّهِ مَا مَاتَ حَتَّى سَقَطَ فُوهُ وَكَانَ لَا يَجِدُ طَعْمَ الطَّعَامِ وَعَمِيَ وَخَرِسَ. وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ حَتَّى أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَحَّبَ بِهِمْ وَحَبَاهُمْ وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا هَذِهِ نُسْخَتُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ بِكِتَابٍ صَادِقٍ وَحَقٍّ نَاطِقٍ مَعَ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُهَنِيِّ لِجُهَيْنَةَ بْنِ زَيْدٍ: إِنَّ لَكُمْ بُطُونَ الْأَرْضِ وَسُهُولَهَا وَتِلَاعَ الْأَوْدِيَةِ وَظُهُورَهَا تَرْعَوْنَ نَبَاتَهُ وَتَشْرَبُونَ صَافِيَهُ عَلَى أَنْ تُقِرُّوا بِالْخُمْسِ، وَتُصَلُّوا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَفِي التَّبِعَةِ وَالصُّرَيْمَةِ شَاتَانِ إِنِ اجْتَمَعَتَا وَإِنْ تَفَرَّقَتَا فَشَاةٌ شَاةٌ، لَيْسَ عَلَى أَهْلِ الْمِيرَةِ صَدَقَةٌ، وَلَا عَلَى الْوَارِدَةِ لَبِقَةٌ، وَشَهِدَ مَنْ حَضَرَنَا مِنَ

الْمُسْلِمِينَ بِكِتَابِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ دِينَهُ وَبَيَّنَ بُرْهَانَ الْقُرَانِ لِعَامِرِ
كِتَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ نُورٌ لِجَمْعِنَا وَأَحْلَافِنَا فِي كُلِّ بَادٍ وَحَاضِرِ
إِلَى خَيْرِ مَنْ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ كُلِّهَا وَأَفْضَلِهَا عِنْدَ اعْتِكَارِ الضَّرَائِرِ
أَطَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا تَقَطَّعَتْ بُطُونُ الْأَعَادِي بِالظُّبَا وَالْخَوَاطِرِ
فَنَحْنُ قَبِيلٌ قَدْ بُنِيَ الْمَجْدُ حَوْلَنَا إِذَا اجْتُلِيَتْ فِي الْحَرْبِ هَامُ الْأَكَابِرِ
بَنُو الْحَرْبِ نَفْرِيهَا بِأَيْدٍ طَوِيلَةٍ وَبِيضٍ تَلَأْلَأَ فِي أَكُفِّ الْمَغَاوِرِ
تَرَى حَوْلَهُ الْأَنْصَارَ تَحْمِي أَمِيرَهُمْ بِسُمْرِ الْعَوَالِي وَالصِّفَاحِ الْبَوَاتِرِ
إِذَا الْحَرْبُ دَارَتْ عِنْدَ كُلِّ عَظِيمَةٍ وَدَارَتْ رَحَاهَا بِاللِّيُوثِ الْهَوَاصِرِ

تَبَلَّجَ مِنْهُ اللَّوْنُ وَازْدَادَ وَجْهُهُ كَمِثْلِ ضِيَاءِ الْبَدْرِ بَيْنَ الزَّوَاهِرِ
وَقَالَ: أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا الْمُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ وَالْأَجْلَحُ عَنِ الشَّعْبِيِّ حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ جُهَيْنَةَ قَالَ: مَرِضَ مِنَّا رَجُلٌ مَرَضًا شَدِيدًا فَثَقُلَ حَتَّى حَفَرْنَا لَهُ قَبْرَهُ، وَهَيَّأْنَا أَمْرَهُ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ فَتَحَ عَيْنَيْهِ وَأَفَاقَ فَقَالَ: أَحْفَرْتُمْ لِي ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: فَمَا فَعَلَ الْفَصْلُ ؟ وَهُوَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ قُلْنَا: صَالِحٌ مَرَّ آنِفًا يَسْأَلُ عَنْكَ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يُجْعَلَ فِي حُفْرَتِي إِنَّهُ أَتَانِي آتٍ حِينَ أُغْمِيَ عَلَيَّ فَقَالَ: ابْكِ هُبَلْ، أَمَا تَرَى حُفْرَتَكَ تُنْتَثَلْ، وَأُمُّكَ قَدْ كَادَتْ تَثْكَلْ ؟ أَرَأَيْتُكَ إِنْ حَوَّلْنَاهَا عَنْكَ بِالْمِحْوَلْ، ثُمَّ مَلَأْنَاهَا بِالْجَنْدَلْ، وَقَذَفْنَا فِيهَا الْفَضَلْ، الَّذِي مَضَى فَأَجْزَأَكْ، وَظَنَّ أَنْ لَنْ يَفْعَلْ، أَتَشْكُرُ لِرَبِّكَ وَتُصَلِّ وَتَدَعُ دِينَ مَنْ أَشْرَكَ وَضَلَّ ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: قُمْ قَدْ بَرِئْتَ. قَالَ: فَبَرِئَ الرَّجُلُ وَمَاتَ الْفَضْلُ، فَجُعِلَ فِي حُفْرَتِهِ. قَالَ الْجُهَنِيُّ: فَرَأَيْتُ الْجُهَنِيَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُصَلِّي وَيَسُبُّ الْأَوْثَانَ وَيَقَعُ فِيهَا.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَجْلِسٍ يَتَحَدَّثُونَ عَنِ الْجِنِّ فَقَالَ خُرَيْمُ بْنُ فَاتِكٍ الْأَسَدِيُّ: أَلَا

أُحَدِّثُكَ كَيْفَ كَانَ إِسْلَامِي ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: إِنِّي يَوْمًا فِي طَلَبِ ذَوْدٍ لِي، أَنَا مِنْهَا عَلَى أَثَرٍ، تَنْصَبُ وَتَصْعَدُ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِأَبْرَقِ الْعِرَاقِ، أَنَخْتُ رَاحِلَتِي وَقُلْتُ: أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذِهِ الْبَلْدَةِ، أَعُوذُ بِرَئِيسِ هَذَا الْوَادِي. فَإِذَا بِهَاتِفٍ يَهْتِفُ بِي
وَيْحَكَ عُذْ بِاللَّهِ ذِي الْجَلَالِ وَالْمَجْدِ وَالنَّعْمَاءِ وَالْإِفْضَالِ
ثُمَّ اتْلُ آيَاتٍ مِنَ الْأَنْفَالِ وَوَحِّدِ اللَّهَ وَلَا تُبَالِي
قَالَ: فَذُعِرْتُ ذُعْرًا شَدِيدًا ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي فَقُلْتُ:
يَا أَيُّهَا الْهَاتِفُ مَا تَقُولُ أَرَشَدٌ عِنْدَكَ أَمْ تَضْلِيلُ
بَيِّنْ هَدَاكَ اللَّهُ مَا الْحَوِيلُ
قَالَ: فَقَالَ:
هَذَا رَسُولُ اللَّهِ ذُو الْخَيْرَاتِ بِيَثْرِبَ يَدْعُو إِلَى النَّجَاةِ
يَأَمْرُ بِالْبِرِّ وَبِالصَّلَاةِ وَيَزَعُ النَّاسَ عَنِ الْهَنَاتِ
قَالَ: قُلْتُ لَهُ: وَاللَّهِ لَا أَبْرَحُ حَتَّى آتِيَهُ، وَأُومِنَ بِهِ فَنَصَبْتُ رِجْلِي فِي غَرْزِ رَاحِلَتِي وَقُلْتُ:
أَرْشِدْنِي أَرْشِدْنِي هُدِيتَا لَا جُعْتَ مَا عِشْتَ وَلَا عَرِيتَا
وَلَا بَرِحْتَ سَيِّدًا مَقِيتًا لَا تُؤْثِرِ الْخَيْرَ الَّذِي أُتِيتَا

عَلَى جَمِيعِ الْجِنِّ مَا بَقِيَتَا فَقَالَ:
صَاحَبَكَ اللَّهُ وَأَدَّى رَحْلَكَا وَعَظَّمَ الْأَجْرَ وَعَافَى نَفْسَكَا
آمِنْ بِهِ أَفْلَجَ رَبِّي حَقَّكَا وَانْصُرْهُ أَعَزَّ رَبِّي نَصْرَكَا
قَالَ: قُلْتُ: مَنْ أَنْتَ عَافَاكَ اللَّهُ حَتَّى أُخْبِرَهُ إِذَا قَدِمْتَ عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ: أَنَا مَالِكُ بْنُ مَالِكٍ وَأَنَا نَقِيبُهُ عَلَى جِنِّ نَصِيبِينَ، وَكَفَيْتُ إِبِلَكَ حَتَّى أَضُمَّهَا إِلَى أَهْلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّاسُ أَرْسَالٌ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ كَأَنَّهُ الْبَدْرُ يَخْطُبُ النَّاسَ فَقُلْتُ: أُنِيخُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ حَتَّى يُصَلِّيَ، وَأَدْخُلُ عَلَيْهِ فَأُسَلِّمُ وَأُخْبِرُهُ عَنْ إِسْلَامِي. فَلَمَّا أَنَخْتُ خَرَجَ إِلَيَّأَبُو ذَرٍ فَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا وَسَهْلًا قَدْ بَلَغَنَا إِسْلَامُكَ فَادْخُلْ فَصَلِّ. فَفَعَلْتُ ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَنِي بِإِسْلَامِي فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ: أَمَا إِنَّ صَاحِبَكَ قَدْ وَفَّى لَكَ وَهُوَ أَهْلُ ذَلِكَ وَأَدَّى إِبِلَكَ إِلَى أَهْلِكَ.
وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي تَرْجَمَةِ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ مِنْ مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ

قَائِلًا: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ الْيَسِيرِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشَّامِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْإِسْكَنْدَرِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ خُرَيْمُ بْنُ فَاتِكٍ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا أُخْبِرُكَ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ إِسْلَامِي ؟ قَالَ: بَلَى. فَذَكَرَهُ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَخَرَجَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَالَ: ادْخُلْ فَقَدْ بَلَغَنَا إِسْلَامُكَ. فَقُلْتُ: لَا أُحْسِنُ الطُّهُورَ فَعَلِّمْنِي فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّهُ الْبَدْرُ، وَهُوَ يَقُولُ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ صَلَّى صَلَاةً يَحْفَظُهَا وَيَعْقِلُهَا إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ. فَقَالَ لِي عُمَرُ: لَتَأْتِيَنِّي عَلَى هَذَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ لَأُنَكِّلَنَّ بِكَ، فَشَهِدَ لِي شَيْخُ قُرَيْشٍ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَأَجَازَ شَهَادَتَهُ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ تَسْنِيمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَلِيفَةَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِخُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ: حَدِّثْنِي بِحَدِيثٍ يُعْجِبُنِي. فَذَكَرَ مِثْلَ السِّيَاقِ الْأَوَّلِ سَوَاءً.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْقُرَشِيُّ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ بِنْتِ شُرَحْبِيلَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: بَلَغَنَا أَنَّكَ تَذْكُرُ سَطِيحًا تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ لَمْ يَخْلُقْ مِنْ بَنِي آدَمَ شَيْئًا يُشْبِهُهُ ؟ قَالَ: قَالَ: نَعَمْ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ سَطِيحًا الْغَسَّانِيَّ لَحْمًا عَلَى وَضَمٍ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ عَظْمٌ وَلَا عَصَبٌ إِلَّا الْجُمْجُمَةُ وَالْكَفَّانِ وَكَانَ يُطْوَى مِنْ رِجْلَيْهِ إِلَى تَرْقُوَتِهِ كَمَا يُطْوَى الثَّوْبُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ يَتَحَرَّكُ إِلَّا لِسَانُهُ فَلَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ حُمِلَ عَلَى وَضَمِهِ فَأُتِيَ بِهِ مَكَّةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَبْدُ شَمْسٍ وَهَاشِمٌ ابْنَا عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ وَالْأَحْوَصُ بْنُ فِهْرٍ وَعَقِيلُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍّ فَانْتَمَوْا إِلَى غَيْرِ نَسَبِهِمْ.
وَقَالُوا: نَحْنُ أُنَاسٌ مَنْ جُمَحَ أَتَيْنَاكَ، بَلَغَنَا قُدُومُكَ فَرَأَيْنَا أَنَّ إِتْيَانَنَا إِيَّاكَ حَقٌّ لَكَ وَاجِبٌ عَلَيْنَا وَأَهْدَى إِلَيْهِ عَقِيلٌ صَفِيحَةً هِنْدِيَّةً وَصَعْدَةً رُدَيْنِيَّةً فَوُضَعِتْ عَلَى بَابِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ لَيَنْظُرُوا أَهَلْ يَرَاهَا سَطِيحٌ أَمْ لَا. فَقَالَ: يَا عَقِيلُ نَاوِلْنِي يَدَكَ فَنَاوَلَهُ يَدَهُ فَقَالَ: يَا عَقِيلُ وَالْعَالِمِ الْخَفِيَّةْ، وَالْغَافِرِ الْخَطِيَّةْ، وَالذِّمَّةِ الْوَفِيَّةْ، وَالْكَعْبَةِ الْمَبْنِيَّةْ، إِنَّكَ لَجَاءٍ بِالْهَدِيَّةْ، الصَّفِيحَةِ الْهِنْدِيَّةْ، وَالصَّعْدَةِ الرُّدَيْنِيَّةْ. قَالُوا: صَدَقْتَ يَا سَطِيحُ فَقَالَ: وَالْآتِي بِالْفَرَحْ، وَقَوْسِ قُزَحْ، وَسَائِرِ الْفَرَحْ، وَاللَّطِيمِ الْمُنْبَطِحْ، وَالنَّخْلِ وَالرُّطَبِ وَالْبَلَحْ، إِنَّ الْغُرَابَ حَيْثُ مَرَّ سَنَحْ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَوْمَ لَيْسُوا مَنْ جُمَحْ، وَأَنَّ نَسَبَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ

ذِي الْبِطَحْ، قَالُوا: صَدَقْتَ يَا سَطِيحُ، نَحْنُ أَهْلُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ أَتَيْنَاكَ لِنَزُورَكَ ; لِمَا بَلَغَنَا مِنْ عِلْمِكَ فَأَخْبِرْنَا عَمَّا يَكُونُ فِي زَمَانِنَا هَذَا وَمَا يَكُونُ بَعْدَهُ فَلَعَلَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَكَ فِي ذَلِكَ عِلْمٌ.
قَالَ: الْآنَ صَدَقْتُمْ خُذُوا مِنِّي وَمِنْ إِلْهَامِ اللَّهِ إِيَّايَ أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ فِي زَمَانِ الْهَرَمِ، سَوَاءٌ بَصَائِرُكُمْ وَبَصَائِرُ الْعَجَمِ، لَا عِلْمَ عِنْدَكُمْ وَلَا فَهْمَ، وَيَنْشَأُ مِنْ عَقِبِكُمْ ذَوُو فَهْمٍ يَطْلُبُونَ أَنْوَاعُ الْعِلْمِ، فَيَكْسِرُونَ الصَّنَمَ وَيَبْلُغُونَ الرَّدْمَ وَيَقْتُلُونَ الْعَجَمْ يَطْلُبُونَ الْغُنْمَ. قَالُوا: يَا سَطِيحُ فَمِنْ يَكُونُ أُولَئِكَ ؟ فَقَالَ لَهُمْ: وَالْبَيْتِ ذِي الْأَرْكَانِ، وَالْأَمْنِ وَالسُّكَّانِ، لَيَنْشَؤُنَّ مِنْ عَقِبِكُمْ وِلْدَانٌ يَكْسِرُونَ الْأَوْثَانَ، وَيُنْكِرُونَ عِبَادَةَ الشَّيْطَانِ، وَيُوَحِّدُونَ الرَّحْمَنَ، وَيَنْشُرُونَ دِينَ الدَّيَّانِ، يُشْرِفُونَ الْبُنْيَانَ، وَيَسْتَفْتُونَ الْفِتْيَانَ. قَالُوا: يَا سَطِيحُ مِنْ نَسْلِ مَنْ يَكُونُ أُولَئِكَ ؟ قَالَ: وَأَشْرَفِ الْأَشْرَافِ وَالْمُفْضِي لِلْإِسْرَافِ وَالْمُزَعْزِعِ الْأَحْقَافِ وَالْمُضْعِفِ الْأَضْعَافِ لَيَنْشَؤُنَّ الْآلَافُ مِنْ عَبْدِ شَمْسٍ وَعَبْدِ مَنَافٍ نُشُوءًا يَكُونُ فِيهِ اخْتِلَافٌ، قَالُوا: يَا سَوْءَتَاهُ يَا سَطِيحُ فَمَا تُخْبِرُنَا مِنَ الْعِلْمِ بِأَمْرِهِمْ وَمِنْ

أَيِّ بَلَدٍ يَخْرُجُ أُولَئِكَ ؟
فَقَالَ: وَالْبَاقِي الْأَبَدْ، وَالْبَالِغِ الْأَمَدْ، لَيَخْرُجَنَّ مَنْ ذَا الْبَلَدْ، فَتًى يَهْدِي إِلَى الرَّشَدْ، يَرْفُضُ يَغُوثَ وَالْفِنَدْ، يَبْرَأُ مِنْ عِبَادَةِ الضِّدَدْ، يَعْبُدُ رَبًّا انْفَرَدْ، ثُمَّ يَتَوَفَّاهُ اللَّهُ مَحْمُودًا، مِنَ الْأَرْضِ مَفْقُودًا، وَفِي السَّمَاءِ مَشْهُودًا، ثُمَّ يَلِي أَمْرَهُ الصِّدِّيقْ، إِذَا قَضَى صَدَقْ، وفِي رَدِّ الْحُقُوقِ لَا خَرِقٌ وَلَا نَزِقْ، ثُمَّ يَلِي أَمْرَهُ الْحَنِيفْ، مُجَرِّبٌ غِطْرِيفْ، وَيَتْرُكُ قَوْلَ الْعَنِيفْ، قَدْ ضَافَ الْمَضِيفْ، وَأَحْكَمَ التَّحْنِيفْ، ثُمَّ يَلِي أَمْرَهُ دَاعِيًا لِأَمْرِهِ مُجَرِّبًا، فَيَجْتَمِعُ لَهُ جُمُوعًا وَعُصَبًا، فَيَقْتُلُونَهُ نِقْمَةً عَلَيْهِ وَغَضَبًا، فَيُؤْخَذُ الشَّيْخُ فَيُذْبَحُ إِرَبًا، فَيَقُومُ بِهِ رِجَالٌ خُطَبَاءُ، ثُمَّ يَلِي أَمْرَهُ النَّاصِرْ، يَخْلِطُ الرَّأْي بِرَأْي النَّاكِرْ، يُظْهِرُ فِي الْأَرْضِ الْعَسَاكِرْ، ثُمَّ يَلِي بَعْدَهُ ابْنُهُ يَأْخُذُ جَمْعَهُ، وَيَقِلُّ حَمْدُهُ، وَيَأْخُذُ الْمَالَ، وَيَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيُكْثِرُ الْمَالَ لِعَقِبِهِ مِنْ بَعْدِهِ ثُمَّ يَلِي مِنْ بَعْدِهِ عِدَّةُ مُلُوكْ، لَا شَكَّ الدَّمُ فِيهِمْ مَسْفُوكْ، ثُمَّ يَلِي مَنْ بَعْدِهِمُ الصُّعْلُوكْ،

يَطْوِيهِمْ كَطَيِّ الدُّرْنُوكْ، ثُمَّ يَلِي مِنْ بَعْدِهِ عُظْهُورٌ يُقْصِي الْخَلْقَ وَيُدْنِي مُضَرَ، يَفْتَتِحُ الْأَرْضَ افْتِتَاحًا مُنْكَرًا، ثُمَّ يَلِي قَصِيرُ الْقَامَةْ، بِظَهْرِهِ عَلَامَةْ، يَمُوتُ مَوْتًا وَسَلَامَةْ، ثُمَّ يَلِي قَلِيلًا بَاكِرْ، يَتْرُكُ الْمُلْكَ بَائِرْ، ثُمَّ يَلِي أَخُوهُ بِسُنَّتِهِ سَابِرْ، يَخْتَصُّ بِالْأَمْوَالِ وَالْمَنَابِرْ، ثُمَّ يَلِي مِنْ بَعْدِهِ أَهْوَجْ، صَاحِبُ دُنْيَا وَنَعِيمٍ مُخْلِجْ، يَتَشَاوَرُهُ مُعَاشِرُهُ وَذَوُوهُ، يَنْهَضُونَ إِلَيْهِ يَخْلَعُونَهُ بِأَخْذِ الْمُلْكِ وَيَقْتُلُونَهُ، ثُمَّ يَلِي أَمْرَهُ مِنْ بَعْدِهِ السَّابِعْ، يَتْرُكُ الْمُلْكَ مَحَلًّا ضَائِعْ، بَنُوهُ فِي مُلْكِهِ كَالْمُشَوَّهِ جَائِعْ، عِنْدَ ذَلِكَ يَطْمَعُ فِي الْمُلْكِ كُلُّ عُرْيَانْ، وَيَلِي أَمْرَهُ اللَّهْفَانْ، يُرْضِي نِزَارًا جَمْعُ قَحْطَانْ، إِذَا الْتَقَيَا بِدِمَشْقَ جَمْعَانْ، بَيْنَ بُنْيَانَ وَلُبْنَانَ، يُصَنَّفُ الْيَمَنُ يَوْمَئِذٍ صِنْفَانْ، صِنْفُ الْمَسَرَّةِ وَصِنْفُ الْمَخْذُولِ لَا تَرَى إِلَّا حِبَاءً مَحْلُولْ، وَأَسِيرًا مَغْلُولْ، بَيْنَ الْقِرَابِ

وَالْخُيُولْ، عِنْدَ ذَلِكَ تُخْرَبُ الْمَنَازِلْ، وَتُسْلَبُ الْأَرَامِلْ، وَتُسْقِطُ الْحَوَامِلْ، وَتَظْهَرُ الزَّلَازِلْ، وَتَطْلُبُ الْخِلَافَةَ وَائِلْ، فَتَغْضَبُ نِزَارْ، فَتُدْنِي الْعَبِيدَ وَالْأَشْرَارْ، وَتُقْصِي الْأَمْثَالَ وَالْأَخْيَارْ، وَتَغْلُو الْأَسْعَارْ، فِي صَفَرِ الْأَصْفَارْ، يَغُلُّ كُلُّ جَبَّارٍ مِنْهُ، ثُمَّ يَسِيرُونَ إِلَى خَنَادِقَ وَإِنَّهَا ذَاتُ أَشْعَارٍ وَأَشْجَارْ، تَصُدُّ لَهُ الْأَنْهَارْ، وَيَهْزِمُهُمْ أَوَّلَ النَّهَارْ، تَظْهَرُ الْأَخْيَارْ، فَلَا يَنْفَعُهُمْ نَوْمٌ وَلَا قَرَارْ، حَتَّى يَدْخُلَ مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارْ، فَيُدْرِكَهُ الْقَضَاءُ وَالْأَقْدَارْ.
ثُمَّ يَجِيءُ الرُّمَاةْ، تَلُفُّ مُشَاةْ، لِقَتْلِ الْكُمَاةْ، وَأَسْرِ الْحُمَاةْ، وَمَهْلِكِ الْغُوَاةْ، هُنَالِكَ يُدْرَكُ فِي أَعْلَى الْمِيَاهْ، ثُمَّ يَبُورُ الدِّينُ وَتُقْلَبُ الْأُمُورْ، وَتُكْفَرُ الزَّبُورْ، وَتُقْطَعُ الْجُسُورْ، فَلَا يُفْلِتُ إِلَّا مَنْ كَانَ فِي جَزَائِرِ الْبُحُورْ، ثُمَّ تَبُورُ الْحُبُوبْ، وَتَظْهَرُ الْأَعَارِيبْ، لَيْسَ فِيهِمْ مُعِيبْ، عَلَى أَهْلِ الْفُسُوقِ وَالرِّيبْ، فِي زَمَانٍ عَصِيبْ، لَوْ كَانَ لِلْقَوْمِ حَيَاءٌ وَمَا تُغْنِي الْمُنَى. قَالُوا: ثُمَّ مَاذَا يَا سَطِيحُ ؟ قَالَ: ثُمَّ يَظْهَرُ رَجُلٌ مَنْ أَهْلِ الْيَمَنْ، كَالشَّطَنْ، يُذْهِبُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِهِ الْفِتَنْ.
وَهَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ كَتَبْنَاهُ لِغَرَابَتِهِ وَمَا تَضَمَّنَ مِنَ الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قِصَّةُ شِقٍّ وَسَطِيحٍ مَعَ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ مَلِكِ الْيَمَنِ وَكَيْفَ بَشَّرَا بِوُجُودِ رَسُولِ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ قِصَّةُ سَطِيحٍ مَعَ ابْنِ أُخْتِهِ عَبْدِ الْمَسِيحِ حِينَ أَرْسَلَهُ مَلِكُ بَنِي سَاسَانَ لِارْتِجَاسِ الْإِيوَانِ وَخُمُودِ النِّيرَانِ وَرُؤْيَا الْمُوبَذَانِ وَذَلِكَ لَيْلَةَ مَوْلِدِ الَّذِي نُسِخَ بِشَرِيعَتِهِ سَائِرُ الْأَدْيَانِ.

بَابُ كَيْفَ بَدَأَ الْوَحْيُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذِكْرُ أَوَّلِ شَيْءٍ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ
كَانَ ذَلِكَ وَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْعُمُرِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ عُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ،

وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ، وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقَالَ: " مَا أَنَا بِقَارِئٍ ". قَالَ: " فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: " مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [ الْعَلَقِ: 15 ]، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، فَقَالَ: " زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي ". فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: " لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي " فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ، لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ; إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ امْرَءًا تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا

شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: " يَا بْنَ عَمِّ ! اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا بْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي كَانَ نُزِّلَ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ " فَقَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - فِيمَا بَلَغَنَا - حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا. فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَقَرُّ نَفْسُهُ، فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. هَكَذَا وَقَعَ مُطَوَّلًا فِي بَابِ التَّعْبِيرِ مِنَ " الْبُخَارِيِّ ". قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ

بَصَرِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [ الْمُدَّثِّرِ: 1 - 5 ] فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ. ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَأَبُو صَالِحٍ يَعْنِي عَنِ اللَّيْثِ وَتَابَعَهُ هِلَالُ بْنُ رَدَّادٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ: بَوَادِرُهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ، وَتَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ مُطَوَّلًا فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْوَحْيِ إِسْنَادًا وَمَتْنًا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ يُونُسَ وَمَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُمَا، وَقَدْ رَمَزْنَا فِي الْحَوَاشِي عَلَى زِيَادَاتِ مُسْلِمٍ وَرِوَايَاتِهِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَانْتَهَى سِيَاقُهُ إِلَى قَوْلِ وَرَقَةَ: أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.

فَقَوْلُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ يُقَوِّي مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ وَأَنَا نَائِمٌ بِنَمَطٍ مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ كِتَابٌ، فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: " مَا أَقْرَأُ ". فَغَتَّنِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي وَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَائِشَةَ سَوَاءً. فَكَانَ هَذَا كَالتَّوْطِئَةِ لِمَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنَ الْيَقَظَةِ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهَذَا فِي مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ، ثُمَّ جَاءَهُ الْمَلَكُ فِي الْيَقَظَةِ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِهِ " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَجْلَحِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُؤْتَى بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي الْمَنَامِ حَتَّى تَهْدَأَ قُلُوبُهُمْ، ثُمَّ يَنْزِلُ الْوَحْيُ بَعْدُ وَهَذَا مِنْ قِبَلِ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ نَفْسِهِ وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ يُؤَيِّدُهُ مَا قَبْلَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا بَعْدَهُ.

ذِكْرُ عُمُرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقْتَ بِعْثَتِهِ وَتَارِيخِهَا
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَزَلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ إِسْرَافِيلُ ثَلَاثَ سِنِينَ، فَكَانَ يُعَلِّمُهُ الْكَلِمَةَ وَالشَّيْءَ، وَلَمْ يَنْزِلِ الْقُرْآنُ، فَلَمَّا مَضَتْ ثَلَاثُ سِنِينَ قُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ جِبْرِيلُ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ عِشْرِينَ سَنَةً، عَشْرًا بِمَكَّةَ، وَعَشْرًا بِالْمَدِينَةِ، فَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. فَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى الشَّعْبِيِّ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ إِسْرَافِيلَ قُرِنَ مَعَهُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ.
وَأَمَّا الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ: وَحَدِيثُ عَائِشَةَ لَا يُنَافِي هَذَا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ أَمْرِهِ الرُّؤْيَا، ثُمَّ وُكِّلَ بِهِ إِسْرَافِيلُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ يَخْلُو فِيهَا بِحِرَاءٍ، فَكَانَ يُلْقِي إِلَيْهِ الْكَلِمَةَ بِسُرْعَةٍ، وَلَا يُقِيمُ مَعَهُ ; تَدْرِيجًا لَهُ وَتَمْرِينًا إِلَى أَنْ جَاءَهُ جِبْرِيلُ، فَعَلَّمَهُ بَعْدَمَا غَطَّهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. فَحَكَتْ عَائِشَةُ مَا جَرَى لَهُ مَعَ جِبْرِيلَ، وَلَمْ تَحْكِ مَا جَرَى لَهُ مَعَ إِسْرَافِيلَ اخْتِصَارًا لِلْحَدِيثِ، أَوْ لَمْ تَكُنْ وَقَفَتْ عَلَى قِصَّةِ إِسْرَافِيلَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ

عَبَّاسٍ: أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ عَشْرًا، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَهَكَذَا رَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ثُمَّ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ غُنْدَرٍ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَنْبَأَنَا عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، سَبْعَ سِنِينَ يَرَى الضَّوْءَ، وَيَسْمَعُ الصَّوْتَ، وَثَمَانِيَ سِنِينَ يُوحَى إِلَيْهِ، وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرَى عَجَائِبَ قَبْلَ بِعْثَتِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَإِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ الْخَلَاءَ وَالِانْفِرَادَ عَنْ قَوْمِهِ؛ لِمَا يَرَاهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ الْمُبِينِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَالسُّجُودِ لِلْأَصْنَامِ، وَقَوِيَتْ مَحَبَّتُهُ

لِلْخَلْوَةِ عِنْدَ مُقَارَبَةِ إِيحَاءِ اللَّهِ إِلَيْهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ جَارِيَةَ - قَالَ وَكَانَ وَاعِيَةً - عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْرُجُ إِلَى حِرَاءٍ، فِي كُلِّ عَامٍ شَهْرًا مِنَ السَّنَةِ يَتَنَسَّكُ فِيهِ وَكَانَ مِنْ نُسُكِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُطْعِمُ مَنْ جَاءَهُ مِنَ الْمَسَاكِينِ، حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ مِنْ مُجَاوَرَتِهِ، لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهُ حَتَّى يَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ. وَهَكَذَا رَوَى عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ مِثْلَ ذَلِكَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ مِنْ عَادَةِ الْمُتَعَبِّدِينَ فِي قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ يُجَاوِرُونَ فِي حِرَاءٍ لِلْعِبَادَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ:
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ وَرَاقٍ لِبِرٍّ فِي حِرَاءٍ وَنَازِلِ
هَكَذَا صَوَّبَهُ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْبَيْتِ، كَمَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ وَأَبُو شَامَةَ

وَشَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَقَدْ تَصَحَّفَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ، فَقَالَ فِيهِ: وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءٍ وَنَازِلِ وَهَذَا رَكِيكٌ وَمُخَالِفٌ لِلصَّوَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحِرَاءٌ، يُقْصَرُ وَيُمَدُّ، وَيُصْرَفُ وَيُمْنَعُ، وَهُوَ جَبَلٌ بِأَعْلَى مَكَّةَ عَلَى ثَلَاثِ أَمْيَالٍ مِنْهَا، عَنْ يَسَارِ الْمَارِّ إِلَى مِنًى، لَهُ قُلَّةٌ مُشْرِفَةٌ عَلَى الْكَعْبَةِ مُنْحَنِيَةٌ، وَالْغَارُ فِي تِلْكَ الْحَنْيَةِ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ
فَلَا وَرَبِّ الْآمِنَاتِ الْقُطَّنِ وَرَبِّ رُكْنٍ مِنْ حِرَاءٍ مُنْحَنِي
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: وَالتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ. تَفْسِيرٌ بِالْمَعْنَى، وَإِلَّا فَحَقِيقَةُ التَّحَنُّثِ مِنْ حَيْثُ الْبِنْيَةِ، فِيمَا قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ: الدُّخُولُ فِي الْحِنْثِ، وَلَكِنْ سُمِعَتْ أَلْفَاظٌ قَلِيلَةٌ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهَا الْخُرُوجُ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَتَحَنَّثَ أَيْ خَرَجَ مِنَ الْحِنْثِ، وَتَحَوَّبَ، وَتَحَرَّجَ، وَتَأَثَّمَ، وَتَهَجَّدَ وَهُوَ تَرْكُ الْهُجُودِ، وَهُوَ النَّوْمُ

لِلصَّلَاةِ، وَتَنَجَّسَ وَتَقَذَّرَ أَوْرَدَهَا أَبُو شَامَةَ. وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ قَوْلِهِ: يَتَحَنَّثُ أَيْ يَتَعَبَّدُ. فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ هَذَا، إِنَّمَا هُوَ يَتَحَنَّفُ، مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: التَّحَنُّثُ، وَالتَّحَنُّفُ. يُبْدِلُونَ الْفَاءَ مِنَ الثَّاءِ، كَمَا قَالُوا: جَدَثَ، وَجَدَفَ. كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ:
لَوْ كَانَ أَحْجَارِي مَعَ الْأَجْدَافِ
يُرِيدُ الْأَجْدَاثَ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: " فُمَّ ". فِي مَوْضِعِ " ثُمَّ ". قُلْتُ: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفُومِهَا [ الْبَقَرَةِ: 61 ] أَنَّ الْمُرَادَ ثُومُهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعَبُّدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَبْلَ الْبَعْثَةِ، هَلْ كَانَ عَلَى شَرْعٍ أَمْ لَا ؟ وَمَا ذَلِكَ الشَّرْعُ ؟ فَقِيلَ: شَرْعُ نُوحٍ. وَقِيلَ: شَرْعُ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ الْأَقْوَى. وَقِيلَ: مُوسَى. وَقِيلَ: عِيسَى. وَقِيلَ: كُلُّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ شَرْعٌ عِنْدَهُ اتَّبَعَهُ وَعَمِلَ بِهِ. وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَمُنَاسَبَاتِهَا مَوَاضِعُ أُخَرُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ بِغَارِ حِرَاءٍ. أَيْ جَاءَ بَغْتَةً عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ،

كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ. [ الْقَصَصِ: 86 ] وَقَدْ كَانَ نُزُولُ صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، وَهِيَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وَهِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ "، وَكَمَا سَيَأْتِي أَيْضًا فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، كَمَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، فَقَالَ: ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وُلِدَ نَبِيُّكُمْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَنُبِّئَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. وَهَكَذَا قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أُوحِيَ إِلَيْهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَهُمْ.
ثُمَّ قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ أَنَّهُ وُلِدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَفِيهِ بُعِثَ، وَفِيهِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ بُعِثَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ مُسْتَدِلًّا عَلَى ذَلِكَ بِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ [ الْبَقَرَةِ: 185 ] فَقِيلَ: فِي ثَانِي عَشْرِهِ. وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ ابْتِدَاءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ. وَقِيلَ: فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ حَدَّثَنَا عِمْرَانُ أَبُو الْعَوَّامِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لَسْتٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي " تَفْسِيرِهِ " عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَلِهَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُ جِبْرِيلَ: اقْرَأْ. فَقَالَ: " مَا أَنَا بِقَارِئٍ ". فَالصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ: " مَا أَنَا بِقَارِئٍ " نَفْيٌ، أَيْ لَسْتُ مِمَّنْ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ. وَمِمَّنْ رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَقَبْلَهُ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ. فَقَوْلُهُ بَعِيدٌ ; لِأَنَّ الْبَاءَ لَا تُزَادُ فِي الْإِثْبَاتِ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ

أَبِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ خَائِفٌ يُرْعَدُ: " مَا قَرَأْتُ كِتَابًا قَطُّ، وَلَا أُحْسِنُهُ، وَمَا أَكْتُبُ، وَمَا أَقْرَأُ. فَأَخَذَهُ جِبْرِيلُ، فَغَتَّهُ غَتًّا شَدِيدًا، ثُمَّ تَرَكَهُ، فَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ. فَقَالَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَرَى شَيْئًا أَقْرَأُهُ، وَمَا أَكْتُبُ. يُرْوَى: " فَغَطَّنِي " كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ ". وَ " غَتَّنِي ". وَيُرْوَى " قَدْ غَتَّنِي " أَيْ خَنَقَنِي " حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ " يُرْوَى بِضَمِّ الْجِيمِ، وَفَتْحِهَا، وَبِالنَّصْبِ، وَبِالرَّفْعِ، وَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ ثَلَاثًا.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ ; لِيَبْلُوَ صَبْرَهُ، وَيُحْسِنَ تَأْدِيبَهُ، فَيَرْتَاضَ لِاحْتِمَالِ مَا كَلَّفَهُ بِهِ مِنْ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ وَلِذَلِكَ كَانَ يَعْتَرِيهِ مِثْلُ حَالِ الْمَحْمُومِ وَتَأْخُذُهُ الرُّحَضَاءُ أَيِ الْبُهْرُ وَالْعَرَقُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأُمُورٍ مِنْهَا ; أَنْ يَسْتَيْقِظَ لِعَظَمَةِ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ، بَعْدَ هَذَا الصَّنِيعِ الْمُشِقِّ عَلَى النُّفُوسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [ الْمُزَّمِّلِ: 5 ] وَلِهَذَا كَانَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِذَا جَاءَهُ الْوَحْيُ يَحْمَرُّ وَجْهُهُ، وَيَغِطُّ كَمَا يَغِطُّ الْبَكْرُ مِنَ الْإِبِلِ، وَيَتَفَصَّدُ جَبِينُهُ عَرَقًا فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ.
وَقَوْلُهُ: فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى خَدِيجَةَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ. وَفِي

رِوَايَةٍ: بَوَادِرُهُ، جَمْعُ بَادِرَةٍ. قَالَ أَبُو عَبِيدٍ: وَهِيَ لَحْمَةٌ بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ عُرُوقٌ تَضْطَّرِبُ عِنْدَ الْفَزَعِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: تَرْجُفُ بَآدِلُهُ. وَاحِدَتُهَا بَادِلَةٌ. وَقِيلَ: بَادِلٌ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعُنُقِ وَالتَّرْقُوَةِ. وَقِيلَ: أَصِلُ الثَّدْيِ. وَقِيلَ: لَحْمُ الثَّدْيَيْنِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
فَقَالَ: " زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي ". فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، قَالَ لِخَدِيجَةَ: " مَالِي ؟ أَيُّ شَيْءٍ عَرَضَ لِي ؟ " وَأَخْبَرَهَا مَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ، ثُمَّ قَالَ: " لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي ". وَذَلِكَ لِأَنَّهُ شَاهَدَ أَمْرًا لَمْ يَعْهَدْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَا كَانَ فِي خَلَدِهِ. وَلِهَذَا قَالَتْ خَدِيجَةُ: أَبْشِرْ، كَلَّا وَاللَّهِ، لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا. قِيلَ: مِنَ الْخِزْيِ. وَقِيلَ: مِنَ الْحُزْنِ. وَهَذَا لِعِلْمِهَا بِمَا أَجْرَى اللَّهُ بِهِ جَمِيلَ الْعَوَائِدِ فِي خُلُقِهِ أَنَّ مَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْخَيْرِ لَا يُخْزَى فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَتْ لَهُ مِنْ صِفَاتِهِ الْجَلِيلَةِ، مَا كَانَ مِنْ سَجَايَاهُ الْحَسَنَةِ، فَقَالَتْ: إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَقَدْ كَانَ مَشْهُورًا بِذَلِكَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمُوَافِقِ وَالْمُفَارِقِ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ: أَيْ عَنْ غَيْرِكَ، تُعْطِي صَاحِبَ الْعَيْلَةِ مَا يُرِيحُهُ مِنْ ثِقَلِ مُؤْنَةِ عِيَالِهِ. وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ. أَيْ تَسْبِقُ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، فَتُبَادِرُ إِلَى إِعْطَاءِ الْفَقِيرِ، فَتَكْسِبُ حَسَنَتَهُ قَبْلَ غَيْرِكَ، وَيُسَمَّى الْفَقِيرُ

مَعْدُومًا ; لِأَنَّ حَيَاتَهُ نَاقِصَةٌ، فَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ إِنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ التِّهَامِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ "
عُدَّ ذَا الْفَقْرِ مَيِّتًا وَكِسَاهُ كَفَنًا بَالِيًا وَمَأْوَاهُ قَبْرَا
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الصَّوَابُ: وَتُكْسِبُ الْمُعْدَمَ. أَيْ تَبْذُلُ إِلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ: وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ. تُعْطِيهِ مَالًا يَعِيشُ بِهِ. وَاخْتَارَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعْدُومِ هَاهُنَا الْمَالُ الْمُعْطَى، أَيْ يُعْطِي الْمَالَ لِمَنْ هُوَ عَادِمُهُ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّكَ تَكْسَبُ بِاتَّجَارِكَ الْمَالَ الْمَعْدُومَ أَوِ النَّفِيسَ الْقَلِيلَ النَّظِيرِ، فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ، وَأَغْرَقَ فِي النَّزْعِ، وَتَكَلَّفَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ ; فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُمْدَحُ بِهِ غَالِبًا، وَقَدْ ضَعَّفَ هَذَا الْقَوْلَ عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَتَقْرِي الضَّيْفَ أَيْ تُكْرِمُهُ فِي تَقْدِيمِ قِرَاهُ، وَإِحْسَانِ مَأْوَاهُ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. وَيُرْوَى: الْخَيْرِ. أَيْ إِذَا وَقَعَتْ نَائِبَةٌ لِأَحَدٍ فِي خَيْرٍ أَعَنْتَ فِيهَا، وَقُمْتَ مَعَ صَاحِبِهَا حَتَّى يَجِدَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَخَذَتْهُ فَانْطَلَقَتْ بِهِ إِلَى ابْنِ عَمِّهَا وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَكَانَ شَيْخًا

كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ خَبَرِهِ مَعَ ذِكْرِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَفَارَقَهُمْ وَارْتَحَلَ إِلَى الشَّامِ، هُوَ وَزَيْدُ بْنُ عَمْرٍو وَعُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ فَتَنَصَّرُوا كُلُّهُمْ ; لِأَنَّهُمْ وَجَدُوهُ أَقْرَبَ الْأَدْيَانِ - إِذْ ذَاكَ - إِلَى الْحَقِّ، إِلَّا زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَإِنَّهُ رَأَى فِيهِ دَخَلًا وَتَخْبِيطًا، وَتَبْدِيلًا، وَتَحْرِيفًا، وَتَأْوِيلًا، فَأَبَتْ فِطْرَتُهُ الدُّخُولَ فِيهِ أَيْضًا، وَبَشَّرُوهُ الْأَحْبَارُ وَالرُّهْبَانُ بِوُجُودِ نَبِيٍّ، قَدْ أَزِفَ زَمَانُهُ، وَاقْتَرَبَ أَوَانُهُ، فَرَجَعَ يَتَطَلَّبُ ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى فِطْرَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، لَكِنِ اخْتَرَمَتْهُ الْمَنِيَّةُ قَبْلَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَأَدْرَكَهَا وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَكَانَ يَتَوَسَّمُهَا فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَدَّمْنَا، بِمَا كَانَتْ خَدِيجَةُ تَنْعَتُهُ لَهُ وَتَصِفُهُ لَهُ، وَمَا هُوَ مُنْطَوٍ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ الطَّاهِرَةِ الْجَمِيلَةِ، وَمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ، وَلِهَذَا لَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ، أَخَذَتْ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَتْ بِهِ إِلَيْهِ، فَوَقَفَتْ بِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ. فَلَمَّا قَصَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرَ مَا رَأَى، قَالَ وَرَقَةُ: سُبُّوحٌ سُبُّوحٌ، هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى وَلَمْ يَذْكُرْ عِيسَى، وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا بَعْدَ مُوسَى ; لِأَنَّهُ كَانَتْ شَرِيعَتُهُ مُتَمِّمَةً وَمُكَمِّلَةً لِشَرِيعَةِ مُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَنَسَخَتْ بَعْضَهَا، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا قَالَ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [ آلِ عِمْرَانَ: 50 ]
وَقَوْلُ وَرَقَةَ هَذَا كَمَا قَالَتِ الْجِنُّ:

يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [ الْأَحْقَافِ: 30 ]
ثُمَّ قَالَ وَرَقَةُ: يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، أَيْ يَا لَيْتَنِي أَكُونُ الْيَوْمَ شَابًّا، مُتَمَكِّنًا مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. يَعْنِي: حَتَّى أُخْرَجَ مَعَكَ، وَأَنْصُرَكَ، فَعِنْدَهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ ! قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ فِرَاقَ الْوَطَنِ شَدِيدٌ عَلَى النُّفُوسِ.
فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّهُ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. أَيْ ; أَنْصُرْكَ نَصْرًا عَزِيزًا أَبَدًا.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ. أَيْ: تُوُفِّيَ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِقَلِيلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ تَصْدِيقٌ بِمَا وَجَدَ، وَإِيمَانٌ بِمَا حَصَلَ مِنَ الْوَحْيِ، وَنِيَّةٌ صَالِحَةٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ حَدَّثَنِي أَبُو الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ خَدِيجَةَ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُهُ، فَرَأَيْتُ عَلَيْهِ ثِيَابَ بَيَاضٍ، فَأَحْسَبُهُ لَوْ كَانَ مِنْ،

أَهْلِ النَّارِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثِيَابُ بَيَاضٍ وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ، لَكِنْ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ وَهِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى عَنْ سُرَيْجِ بْنِ يُونُسَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فَقَالَ: أَبْصَرْتُهُ فِي بُطْنَانِ الْجَنَّةِ، وَعَلَيْهِ السُّنْدُسُ وَسُئِلَ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَقَالَ: يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ وَسُئِلَ عَنْ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ أَخْرَجْتُهُ مِنْ غَمْرَةٍ مِنْ جَهَنَّمَ إِلَى ضَحْضَاحٍ مِنْهَا وَسُئِلَ عَنْ خَدِيجَةَ ; لِأَنَّهَا مَاتَتْ قَبْلَ الْفَرَائِضِ وَأَحْكَامِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ أَبْصَرْتُهَا عَلَى نَهَرٍ فِي الْجَنَّةِ فِي بَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ. إِسْنَادٌ حَسَنٌ، وَلِبَعْضِهِ شَوَاهِدُ فِي " الصَّحِيحِ ". وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو

أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَسُبُّوا وَرَقَةَ ; فَإِنِّي رَأَيْتُ لَهُ جَنَّةً أَوْ جَنَّتَيْنِ وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَرُوِي مُرْسَلًا، وَهُوَ أَشْبَهُ.
وَرَوَى الْحَافِظَانِ الْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابَيْهِمَا " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِخَدِيجَةَ: " إِنِّي إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً، وَقَدْ خَشِيتُ وَاللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا أَمْرٌ ". قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ ! مَا كَانَ اللَّهُ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصَدُقُ الْحَدِيثَ. فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَلَيْسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَمَّ، ذَكَرَتْ لَهُ خَدِيجَةُ، فَقَالَتْ: يَا عَتِيقُ، اذْهَبْ مَعَ مُحَمَّدٍ إِلَى وَرَقَةَ. فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْذَ بِيَدِهِ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى وَرَقَةَ. قَالَ: " وَمَنْ أَخْبَرَكَ ؟ " قَالَ: خَدِيجَةُ. فَانْطَلَقَا إِلَيْهِ، فَقَصَّا عَلَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنِّي إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً خَلْفِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ. فَأَنْطَلِقُ هَارِبًا

فِي الْأَرْضِ ". فَقَالَ لَهُ: لَا تَفْعَلْ، إِذَا أَتَاكَ فَاثْبُتْ، حَتَّى تَسَمَعَ مَا يَقُولُ لَكَ، ثُمَّ ائْتِنِي فَأَخْبِرْنِي. فَلَمَّا خَلَا نَادَاهُ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى بَلَغَ وَلَا الضَّالِّينَ [ الْفَاتِحَةِ: 17 ]. قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَأَتَى وَرَقَةَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: أَبْشِرْ، ثُمَّ أَبْشِرْ، فَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ الَّذِي بَشَّرَ بِكَ ابْنُ مَرْيَمَ، وَإِنَّكَ عَلَى مِثْلِ نَامُوسِ مُوسَى، وَإِنَّكَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنَّكَ سَتُؤْمَرُ بِالْجِهَادِ بَعْدَ يَوْمِكَ هَذَا، وَلَئِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ لَأُجَاهِدَنَّ مَعَكَ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَقَدْ رَأَيْتُ الْقَسَّ فِي الْجَنَّةِ، عَلَيْهِ ثِيَابُ الْحَرِيرِ ; لِأَنَّهُ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي يَعْنِي وَرَقَةَ. هَذَا لَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَفِيهِ غَرَابَةٌ، وَهُوَ كَوْنُ الْفَاتِحَةِ أَوَّلَ مَا نَزَلَ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ شِعْرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِضْمَارِهِ الْإِيمَانَ، وَعَقْدِهِ عَلَيْهِ، وَتَأَكُّدِهِ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ حِينَ أَخْبَرَتْهُ خَدِيجَةُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَعَ غُلَامِهَا مَيْسَرَةَ وَكَيْفَ كَانَتِ الْغَمَامَةُ تُظَلِّلُهُ فِي هَجِيرِ الْقَيْظِ، فَقَالَ وَرَقَةُ فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا قَدَّمْنَاهَا قَبْلَ هَذَا مِنْهَا: قَوْلُهُ:
لَجَجْتُ وَكُنْتُ فِي الذِّكْرَى لَجُوجًا لِأَمْرٍ طَالَمَا بَعَثَ النَّشِيجَا
وَوَصْفٍ مِنْ خَدِيجَةَ بَعْدَ وَصْفٍ فَقَدْ طَالَ انْتِظَارِي يَا خَدِيجَا

بِبَطْنِ الْمَكَّتَيْنِ عَلَى رَجَائِي حَدِيثَكِ أَنْ أَرَى مِنْهُ خُرُوجًا
بِمَا خَبَّرْتِنَا مِنْ قَوْلِ قَسٍّ مِنَ الرُّهْبَانِ أَكْرَهُ أَنْ يَعُوجَا
بِأَنَّ مُحَمَّدًا سَيَسُودُ قَوْمًا وَيَخْصِمُ مَنْ يَكُونُ لَهُ حَجِيجَا
وَيُظْهِرُ فِي الْبِلَادِ ضِيَاءَ نُورٍ يُقِيمُ بِهِ الْبَرِيَّةَ أَنْ تَمُوجَا
فَيَلْقَى مَنْ يُحَارِبُهُ خَسَارًا وَيَلْقَى مَنْ يُسَالِمُهُ فُلُوجَا
فَيَا لَيْتَنِي إِذَا مَا كَانَ ذَاكُمْ شَهِدْتُ وَكُنْتُ أَوَّلَهُمْ وُلُوجَا
وُلُوجًا فِي الَّذِي كَرِهَتْ قُرَيْشٌ وَلَوْ عَجَّتْ بِمَكَّتِهَا عَجِيجَا
أُرَجِّي بِالَّذِي كَرِهُوا جَمِيعًا إِلَى ذِي الْعَرْشِ إِذْ سَفَلُوا عُرُوجَا
فَإِنْ يَبْقَوْا وَأَبْقَ يَكُنْ أُمُورٌ يَضِجُّ الْكَافِرُونَ لَهَا ضَجِيجَا
وَقَالَ أَيْضًا فِي قَصِيدَتِهِ الْأُخْرَى
وَأَخْبَارَ صِدْقٍ خَبَّرَتْ عَنْ مُحَمَّدٍ يُخَبِّرُهَا عَنْهُ إِذَا غَابَ نَاصِحُ
بِأَنَّ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ مُرْسَلٌ إِلَى كُلِّ مَنْ ضُمَّتْ عَلَيْهِ الْأَبَاطِحُ

وَظَنِّي بِهِ أَنْ سَوْفَ يُبْعَثُ صَادِقًا كَمَا أُرْسِلَ الْعَبْدَانِ هُودٌ وَصَالِحُ
وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمُ حَتَّى يُرَى لَهُ بِهَاءٌ وَمَنْشُورٌ مِنَ الذِّكْرِ وَاضِحُ
وَيَتْبَعُهُ حَيًّا لُؤَيُّ بْنُ غَالِبٍ شَبَابُهُمْ وَالْأَشْيَبُونَ الْجَحَاجِحُ
فَإِنْ أَبْقَ حَتَّى يُدْرِكُ النَّاسَ دَهْرُهُ فَإِنِّي بِهِ مُسْتَبْشِرُ الْوُدِّ فَارِحُ
وَإِلَّا فَإِنِّي يَا خَدِيجَةُ فَاعْلَمِي عَنْ أَرْضِكِ فِي الْأَرْضِ الْعَرِيضَةِ سَائِحُ
وَقَالَ يُونُسُ عَنْ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ وَرَقَةُ
فَإِنْ يَكُ حَقًّا يَا خَدِيجَةُ فَاعْلِمِي حَدِيثَكِ إِيَّانَا فَأَحْمَدُ مُرْسَلُ
وَجِبْرِيلُ يَأْتِيهِ وَمِيكَالُ مَعَهُمَا مِنَ اللَّهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصَّدْرَ مُنْزَلُ
يَفُوزُ بِهِ مَنْ فَازَ فِيهَا بِتَوْبَةٍ وَيَشْقَى بِهِ الْعَاتِي الْغَرِيرُ الْمُضَلَّلُ
فَرِيقَانِ مِنْهُمْ فِرْقَةٌ فِي جِنَانِهِ وَأُخْرَى بِأَحْوَازِ الْجَحِيمِ تُعَلَّلُ
إِذَا مَا دَعَوْا بِالْوَيْلِ فِيهَا تَتَابَعَتْ مَقَامِعُ فِي هَامَاتِهِمْ ثُمَّ تُشْعَلُ
فَسُبْحَانَ مَنْ تَهْوِي الرِّيَاحُ بِأَمْرِهِ وَمَنْ هُوَ فِي الْأَيَّامِ مَا شَاءَ يَفْعَلُ
وَمَنْ عَرْشُهُ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ كُلِّهَا وَأَقْضَاؤُهُ فِي خَلْقِهِ لَا تُبَدَّلُ

وَقَالَ وَرَقَةُ أَيْضًا:
يَا لِلرِّجَالِ وَصَرْفِ الدَّهْرِ وَالْقَدَرِ وَمَا لِشَيْءٍ قَضَاهُ اللَّهُ مِنْ غِيَرِ
حَتَّى خَدِيجَةُ تَدْعُونِي لِأُخْبِرَهَا وَمَا لَهَا بِخَفِيِّ الْغَيْبِ مِنْ خَبَرِ
جَاءَتْ لِتَسْأَلَنِي عَنْهُ لِأُخْبِرَهَا أَمْرًا أُرَاهُ سَيَأْتِي النَّاسَ مِنْ أُخَرِ
فَخَبَّرَتْنِي بِأَمْرٍ قَدْ سَمِعْتُ بِهِ فِيمَا مَضَى مِنْ قَدِيمِ الدَّهْرِ
وَالْعُصُرِ بِأَنَّ أَحْمَدَ يَأْتِيهِ فَيُخْبِرُهُ جِبْرِيلُ أَنَّكَ مَبْعُوثٌ إِلَى الْبَشَرِ
فَقُلْتُ عَلَّ الَّذِي تَرْجِينَ يُنْجِزُهُ لَكِ الْإِلَهُ فَرَجِّي الْخَيْرَ
وَانْتَظِرِي وَأَرْسِلِيهِ إِلَيْنَا كَيْ نُسَائِلَهُ عَنْ أَمْرِهِ مَا يَرَى فِي النَّوْمِ وَالسَّهَرِ
فَقَالَ حِينَ أَتَانَا مَنْطِقًا عَجَبًا يَقِفُّ مِنْهُ أَعَالِي الْجِلْدِ وَالشَّعَرِ
إِنِّي رَأَيْتُ أَمِينَ اللَّهِ وَاجَهَنِي فِي صُورَةٍ أُكْمِلَتْ مِنْ أَعْظَمِ الصُّوَرِ
ثُمَّ اسْتَمَرَّ فَكَادَ الْخَوْفُ يَذْعَرُنِي مِمَّا يُسَلِّمُ مِنْ حَوْلِي مِنَ الشَّجَرِ
فَقُلْتُ ظَنِّي وَمَا أَدْرِي أَيَصْدُقُنِي أَنْ سَوْفَ يُبْعَثُ يَتْلُو مُنْزَلَ السُّوَرِ
وَسَوْفَ أُبْلِيكَ إِنْ أَعْلَنْتَ دَعْوَتَهُمْ مِنَ الْجِهَادِ بِلَا مَنٍّ وَلَا كَدَرِ

هَكَذَا أَوْرَدَ ذَلِكَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنَ " الدَّلَائِلِ "، وَعِنْدِي فِي صِحَّتِهَا عَنْ وَرَقَةَ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ وَكَانَ وَاعِيَةً، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَرَادَ اللَّهُ كَرَامَتَهُ وَابْتَدَأَهُ بِالنُّبُوَّةِ كَانَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَةٍ أَبْعَدَ حَتَّى تَحَّسَرَ عَنْهُ الْبُيُوتُ، وَيُفْضِي إِلَى شِعَابِ مَكَّةَ وَبُطُونِ أَوْدِيَتِهَا، فَلَا يَمُرُّ بِحَجَرٍ، وَلَا شَجَرٍ، إِلَّا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَيَلْتَفِتُ حَوْلَهُ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ، وَخَلْفَهُ، فَلَا يَرَى إِلَّا الشَّجَرَ وَالْحِجَارَةَ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ يَرَى وَيَسْمَعُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ، وَهُوَ بِحِرَاءٍ فِي رَمَضَانَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ، مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَهُوَ يَقُولُ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ قَتَادَةَ اللَّيْثِيِّ: حَدِّثْنَا يَا عُبَيْدُ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ مَا ابْتُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ النُّبُوَّةِ حِينَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ. قَالَ: فَقَالَ عُبَيْدٌ وَأَنَا حَاضِرٌ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَمَنْ عِنْدَهُ

مِنَ النَّاسِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجَاوِرُ فِي حِرَاءٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ شَهْرًا. قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا تَحَنَّثُ بِهِ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَالتَّحَنُّثُ التَّبَرُّرُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجَاوِرُ ذَلِكَ الشَّهْرَ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ، يُطْعِمُ مَنْ جَاءَهُ مِنَ الْمَسَاكِينِ، فَإِذَا قَضَى جِوَارَهُ مِنْ شَهْرِهِ ذَلِكَ، كَانَ أَوَّلَ مَا يَبْدَأُ بِهِ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ جِوَارِهِ الْكَعْبَةَ، قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، فَيَطُوفُ بِهَا سَبْعًا أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ بِهِ فِيهِ مَا أَرَادَ مِنْ كَرَامَتِهِ مِنَ السَّنَةِ الَّتِي بَعَثَهُ فِيهَا، وَذَلِكَ الشَّهْرُ رَمَضَانُ، خَرَجَ إِلَى حِرَاءٍ كَمَا كَانَ يَخْرُجُ لِجِوَارِهِ، وَمَعَهُ أَهْلُهُ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ فِيهَا بِرِسَالَتِهِ، وَرَحِمَ الْعِبَادَ بِهِ، جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ، وَأَنَا نَائِمٌ بِنَمَطٍ مِنْ دِيبَاجٍ، فِيهِ كِتَابٌ فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: " مَا أَقْرَأُ " قَالَ: فَغَتَّنِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: " مَا أَقْرَأُ " قَالَ: فَغَتَّنِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: " مَا أَقْرَأُ ". قَالَ: فَغَتَّنِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: " مَاذَا أَقْرَأُ ؟ " مَا أَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا افْتِدَاءً مِنْهُ أَنْ يَعُودَ لِي بِمِثْلِ مَا صَنَعَ بِي فَقَالَ:

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [ الْعَلَقِ: 15 ]. قَالَ: " فَقَرَأْتُهَا، ثُمَّ انْتَهَى وَانْصَرَفَ عَنِّي، وَهَبَبْتُ مِنْ نَوْمِي، فَكَأَنَّمَا كَتَبَ فِي قَلْبِي كِتَابًا " قَالَ: " فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي وَسَطٍ مِنَ الْجَبَلِ، سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ، قَالَ: فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ أَنْظُرُ، فَإِذَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ صَافٍّ قَدَمَيْهِ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ. فَوَقَفْتُ أُنْظُرُ إِلَيْهِ، فَمَا أَتَقَدَّمُ وَمَا أَتَأَخَّرُ، وَجَعَلْتُ أَصْرِفُ وَجْهِي عَنْهُ فِي آفَاقِ السَّمَاءِ، فَمَا أَنْظُرُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا إِلَّا رَأَيْتُهُ كَذَلِكَ، فَمَا زِلْتُ وَاقِفًا مَا أَتَقَدَّمُ أَمَامِي وَمَا أَرْجِعُ وَرَائِي، حَتَّى بَعَثَتْ خَدِيجَةُ رُسُلَهَا فِي طَلَبِي، فَبَلَغُوا مَكَّةَ، وَرَجَعُوا إِلَيْهَا، وَأَنَا وَاقِفٌ فِي مَكَانِي ذَلِكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنِّي، وَانْصَرَفْتُ رَاجِعًا إِلَى أَهْلِي، حَتَّى أَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَجَلَسْتُ إِلَى فَخِذِهَا مُضِيفًا إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أَيْنَ كُنْتَ ؟ فَوَاللَّهِ لَقَدْ بَعَثْتُ رُسُلِي فِي طَلَبِكَ حَتَّى بَلَغُوا مَكَّةَ، وَرَجَعُوا إِلَيَّ. ثُمَّ حَدَّثْتُهَا بِالَّذِي رَأَيْتُ، فَقَالَتْ: أَبْشِرْ يَا ابْنَ الْعَمِّ، وَاثْبُتْ فَوَالَّذِي نَفْسُ خَدِيجَةَ بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنَّ تَكُونَ نَبِيَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ. ثُمَّ قَامَتْ فَجَمَعَتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا، ثُمَّ انْطَلَقَتْ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا أَخْبَرَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ وَرَقَةُ: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، وَالَّذِي نَفْسُ وَرَقَةَ بِيَدِهِ، لَئِنْ كُنْتِ صَدَقْتِنِي، يَا خَدِيجَةُ، لِقَدْ جَاءَهُ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، وَإِنَّهُ لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقُولِي لَهُ: فَلْيَثْبُتْ. فَرَجَعَتْ خَدِيجَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَتْهُ بِقَوْلِ وَرَقَةَ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِوَارَهُ، وَانْصَرَفَ صَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، بَدَأَ بِالْكَعْبَةِ فَطَافَ بِهَا

فَلَقِيَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، أَخْبِرْنِي بِمَا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّكَ لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَقَدْ جَاءَكَ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي جَاءَ مُوسَى، وَلَتُكَذَّبَنَّهْ، وَلَتُؤْذَيَنَّهْ، وَلَتُخْرَجَنَّهْ، وَلَتُقَاتَلَنَّهْ، وَلَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَأَنْصُرَنَّ اللَّهَ نَصْرًا يَعْلَمُهُ، ثُمَّ أَدْنَى رَأْسَهُ مِنْهُ، فَقَبَّلَ يَأْفُوخَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَنْزِلِهِ
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ كَالتَّوْطِئَةِ لِمَا جَاءَ بَعْدَهُ مِنَ الْيَقَظَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا الْمَنَامَ كَانَ بَعْدَ مَا رَآهُ فِي الْيَقَظَةِ صَبِيحَةَ لَيْلَتَئِذٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَهُ بِمُدَّةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ وَكَانَ فِيمَا بَلَغَنَا أَوَّلَ مَا رَأَى يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَاهُ رُؤْيَا فِي الْمَنَامِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَذَكَرَهَا لِامْرَأَتِهِ خَدِيجَةَ، فَعَصَمَهَا اللَّهُ عَنِ التَّكْذِيبِ، وَشَرَحَ صَدْرَهَا لِلتَّصْدِيقِ، فَقَالَتْ: أَبْشِرْ ; فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَصْنَعَ بِكَ إِلَّا خَيْرًا. ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا، فَأَخْبَرَهَا أَنَّهُ رَأَى بَطْنَهُ شُقَّ، ثُمَّ غُسِلَ وَطُهِّرَ، ثُمَّ أُعِيدَ كَمَا كَانَ. قَالَتْ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ فَأَبْشِرْ. ثُمَّ اسْتَعْلَنَ لَهُ جِبْرِيلُ، وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَأَجْلَسَهُ عَلَى مَجْلِسٍ كَرِيمٍ مُعْجِبٍ، كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " أَجْلَسَنِي

عَلَى بِسَاطٍ كَهَيْئَةِ الدُّرْنُوكِ فِيهِ الْيَاقُوتُ وَاللُّؤْلُؤُ ". فَبَشَّرَهُ بِرِسَالَةِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: اقْرَأْ. فَقَالَ: " كَيْفَ أَقْرَأُ " فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عِلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ
قَالَ: وَيَزْعُمُ نَاسٌ أَنَّ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: فَقَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِسَالَةَ رَبِّهِ، وَاتَّبَعَ مَا جَاءَهُ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ مُنْقَلِبًا إِلَى بَيْتِهِ، جَعَلَ لَا يَمُرُّ عَلَى شَجَرٍ، وَلَا حَجَرٍ، إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا مُوقِنًا أَنَّهُ قَدْ رَأَى أَمْرًا عَظِيمًا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، قَالَ: " أَرَأَيْتُكِ الَّتِي كُنْتُ أُحَدِّثُكِ أَنِّي رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ ؟ فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ اسْتَعْلَنَ إِلَيَّ، أَرْسَلَهُ إِلَيَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ". وَأَخْبَرَهَا بِالَّذِي جَاءَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا سَمِعَ مِنْهُ. فَقَالَتْ: أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِكَ إِلَّا خَيْرًا، وَاقْبَلِ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ; فَإِنَّهُ حَقٌّ، وَأَبْشِرْ ; فَإِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا. ثُمَّ انْطَلَقَتْ مَكَانَهَا، فَأَتَتْ غُلَامًا لِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ نَصْرَانِيًّا مِنْ أَهْلِ نِينَوَى، يُقَالُ لَهُ: عَدَّاسٌ. فَقَالَتْ لَهُ: يَا عَدَّاسُ أُذَكِّرُكَ بِاللَّهِ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي هَلْ عِنْدَكَ عِلْمٌ مِنْ جِبْرِيلَ ؟ فَقَالَ: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، مَا شَأْنُ جِبْرِيلَ يُذْكَرُ بِهَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي أَهْلُهَا أَهْلُ الْأَوْثَانِ !. فَقَالَتْ: أَخْبِرْنِي بِعِلْمِكَ فِيهِ. قَالَ: فَإِنَّهُ أَمِينُ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّينَ، وَهُوَ صَاحِبُ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.

فَرَجَعَتْ خَدِيجَةُ مِنْ عِنْدِهِ، فَجَاءَتْ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ فَذَكَرَتْ لَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أَلْقَاهُ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهَا وَرَقَةُ: يَا بُنَيَّةَ أَخِي، مَا أَدْرِي لَعَلَّ صَاحِبَكِ النَّبِيُّ الَّذِي يَنْتَظِرُ أَهْلُ الْكِتَابِ، الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَئِنْ كَانَ إِيَّاهُ، ثُمَّ أَظْهَرَ دُعَاءَهُ وَأَنَا حَيٌّ، لَأُبْلِيَنَّ اللَّهَ فِي طَاعَةِ رَسُولِهِ، وَحُسْنِ مُؤَازَرَتِهِ لِلصَّبْرِ وَالنَّصْرِ. فَمَاتَ وَرَقَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَكَانَتْ خَدِيجَةُ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ إِيرَادِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ: وَالَّذِي ذُكِرَ فِيهِ مِنْ شَقِّ بَطْنِهِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً مِنْهُ لِمَا صُنِعَ بِهِ فِي صِبَاهُ يَعْنِي شَقَّ بَطْنِهِ عِنْدَ حَلِيمَةَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شُقَّ مَرَّةً أُخْرَى، ثُمَّ ثَالِثَةً حِينَ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ وَرَقَةَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ طَرْخَانَ التَّيْمِيِّ قَالَ بَلَغَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا رَسُولًا، عَلَى رَأْسِ خَمْسِينَ سَنَةً مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ اخْتَصَّهُ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْكَرَامَةِ رُؤْيَا كَانَ يَرَاهَا، فَقَصَّ ذَلِكَ عَلَى زَوْجَتِهِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، فَقَالَتْ لَهُ: أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِكَ إِلَّا خَيْرًا. فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي حِرَاءٍ، وَكَانَ يَفِرُّ إِلَيْهِ مِنْ قَوْمِهِ، إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ، فَدَنَا مِنْهُ، فَخَافَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخَافَةً

شَدِيدَةً، فَوَضَعَ جِبْرِيلُ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ احْطُطْ وِزْرَهُ، وَاشْرَحْ صَدْرَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، يَا مُحَمَّدُ، أَبْشِرْ ; فَإِنَّكَ نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، اقْرَأْ. فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ وَهُوَ خَائِفٌ يُرْعَدُ: " مَا قَرَأْتُ كِتَابًا قَطُّ، وَلَا أُحْسِنُهُ، وَمَا أَكْتُبُ، وَمَا أَقْرَأُ ". فَأَخَذَهُ جِبْرِيلُ، فَغَتَّهُ غَتًّا شَدِيدًا، ثُمَّ تَرَكَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اقْرَأْ. فَأَعَادَ عَلَيْهِ مِثْلَهُ، فَأَجْلَسَهُ عَلَى بِسَاطٍ كَهَيْئَةِ الدُّرْنُوكِ، فَرَأَى فِيهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَحُسْنِهِ كَهَيْئَةِ اللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ، وَقَالَ لَهُ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ الْآيَاتِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: لَا تَخَفْ يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ انْصَرَفَ، وَأَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَمُّهُ، فَقَالَ: " كَيْفَ أَصْنَعُ وَكَيْفَ أَقُولُ لِقَوْمِي ؟ ". ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ خَائِفٌ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ مِنْ أَمَامِهِ فِي صُورَةِ نَفْسِهِ، فَأَبْصَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرًا عَظِيمًا مَلَأَ صَدْرَهُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: لَا تَخَفْ يَا مُحَمَّدُ، جِبْرِيلُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، فَأَيْقِنْ بِكَرَامَةِ اللَّهِ ; فَإِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَمُرُّ عَلَى شَجَرٍ ; وَلَا حَجَرٍ ; إِلَّا هُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ، وَعَرَفَ كَرَامَةَ اللَّهِ إِيَّاهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى زَوْجَتِهِ خَدِيجَةَ أَبْصَرَتْ مَا بِوَجْهِهِ مِنْ تَغَيُّرِ لَوْنِهِ، فَأَفْزَعَهَا ذَلِكَ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَنَتْ مِنْهُ جَعَلَتْ تَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ، وَتَقُولُ: لَعَلَّكَ لِبَعْضِ مَا كُنْتَ تَرَى وَتَسْمَعُ قَبْلَ الْيَوْمِ. فَقَالَ: " يَا خَدِيجَةُ، أَرَأَيْتِ الَّذِي كُنْتُ أَرَى فِي الْمَنَامِ، وَالصَّوْتَ الَّذِي كُنْتُ أَسْمَعُ فِي الْيَقَظَةِ وَأُهَالُ مِنْهُ ؟ فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ قَدِ اسْتَعْلَنَ لِي، وَكَلَّمَنِي، وَأَقْرَأَنِي كَلَامًا فَزِعْتُ مِنْهُ، ثُمَّ عَادَ إِلَيَّ

فَأَخْبَرَنِي أَنِّي نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَأَقْبَلْتُ رَاجِعًا، فَأَقْبَلْتُ عَلَى شَجَرٍ وَحِجَارَةٍ، فَقُلْنَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ". فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: أَبْشِرْ ; فَوَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَنْ يَفْعَلَ بِكَ إِلَّا خَيْرًا، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِي تَنْتَظِرُهُالْيَهُودُ، قَدْ أَخْبَرَنِي بِهِ نَاصِحٌ ; غُلَامِي وَبَحِيرَى الرَّاهِبُ وَأَمَرَنِي أَنْ أَتَزَوَّجَكَ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً. فَلَمْ تَزَلْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى طَعِمَ وَشَرِبَ وَضَحِكَ، ثُمَّ خَرَجَتْ إِلَى الرَّاهِبِ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ، فَلَمَّا دَنَتْ مِنْهُ، وَعَرَفَهَا. قَالَ: مَا لَكِ يَا سَيِّدَةَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ ؟ فَقَالَتْ: أَقْبَلْتُ إِلَيْكَ لِتُخْبِرَنِي عَنْ جِبْرِيلَ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّنَا الْقُدُّوسِ ! مَا بَالُ جِبْرِيلَ يُذْكَرُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الَّتِي يَعْبُدُ أَهْلُهَا الْأَوْثَانَ ؟ ! جِبْرِيلُ أَمِينُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَهُوَ صَاحِبُ مُوسَى وَعِيسَى. فَعَرَفْتُ كَرَامَةَ اللَّهِ لِمُحَمَّدٍ، ثُمَّ أَتَتْ عَبْدًا لِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ يُقَالُ لَهُ: عَدَّاسٌ. فَسَأَلَتْهُ فَأَخْبَرَهَا بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَهَا بِهِ الرَّاهِبُ وَأَزْيَدَ. قَالَ: جِبْرِيلُ كَانَ مَعَ مُوسَى حِينَ أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، وَكَانَ مَعَهُ حِينَ كَلَّمَهُ اللَّهُ عَلَى الطُّورِ، وَهُوَ صَاحِبُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ الَّذِي أَيَّدَهُ اللَّهُ بِهِ. ثُمَّ قَامَتْ مِنْ عِنْدِهِ فَأَتَتْ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ فَسَأَلَتْهُ عَنْ جِبْرِيلَ، فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَأَلَهَا: مَا الْخَبَرُ ؟ فَأَحْلَفَتْهُ أَنْ يَكْتُمَ مَا تَقُولُ لَهُ، فَحَلَفَ لَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ ذَكَرَ لِي وَهُوَ صَادِقٌ أَحَلِفَ بِاللَّهِ مَا كَذَبَ وَلَا كُذِبَ أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِحِرَاءٍ، وَأَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَقْرَأَهُ آيَاتٍ أُرْسِلَ بِهَا. قَالَ: فَذُعِرَ وَرَقَةُ لِذَلِكَ، وَقَالَ: لَئِنْ كَانَ جِبْرِيلُ قَدِ اسْتَقَرَّتْ قَدَمَاهُ عَلَى الْأَرْضِ لَقَدْ نَزَلَ عَلَى خَيْرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَمَا نَزَلَ إِلَّا عَلَى نَبِيٍّ، وَهُوَ صَاحِبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، يُرْسِلُهُ اللَّهُ

إِلَيْهِمْ، وَقَدْ صَدَقْتُكِ عَنْهُ، فَأَرْسِلِي إِلَيَّ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَسْأَلُهُ، وَأَسْمَعُ مِنْ قَوْلِهِ وَأُحَدِّثُهُ ; فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ جِبْرِيلَ ; فَإِنَّ بَعْضَ الشَّيَاطِينِ يَتَشَبَّهُ بِهِ لِيُضِلَّ بِهِ بَعْضَ بَنِي آدَمَ، وَيُفْسِدُهُمْ حَتَّى يَصِيرَ الرَّجُلُ بَعْدَ الْعَقْلِ الرَّضِيِّ مُدَلَّهًا مَجْنُونًا. فَقَامَتْ مِنْ عِنْدِهِ وَهِيَ وَاثِقَةٌ بِاللَّهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ بِصَاحِبِهَا إِلَّا خَيْرًا، فَرَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا قَالَ وَرَقَةُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [ الْقَلَمِ: 1، 2 ] الْآيَاتِ. فَقَالَ لَهَا: " كَلَّا وَاللَّهِ، إِنَّهُ لَجِبْرِيلُ ". فَقَالَتْ لَهُ: أُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَهُ فَتُخْبِرَهُ ; لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُ. فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا الَّذِي جَاءَكَ، جَاءَكَ فِي نُورٍ أَوْ ظُلْمَةٍ ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صِفَةِ جِبْرِيلَ، وَمَا رَآهُ مِنْ عَظَمَتِهِ، وَمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ وَرَقَةُ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا جِبْرِيلُ، وَأَنَّ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ، فَقَدْ أَمَرَكَ بِشَيْءٍ تُبَلِّغُهُ قَوْمَكَ، وَإِنَّهُ لَأَمْرُ نُبُوَّةٍ، فَإِنْ أُدْرِكْ زَمَانَكَ أَتَّبِعْكَ. ثُمَّ قَالَ: أَبْشِرِ ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِمَا بَشَّرَكَ اللَّهُ بِهِ.
قَالَ: وَذَاعَ قَوْلُ وَرَقَةَ وَتَصْدِيقُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ. قَالَ: وَفَتَرَ الْوَحْيُ، فَقَالُوا: لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَتَتَابَعَ. وَلَكِنَّ اللَّهَ قَلَاهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [ الضُّحَى: 1، 2 ] وَ أَلَمْ نَشْرَحْ [ الشَّرْحِ: 1 ] بِكَمَالِهِمَا.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ حَدَّثَنَا

أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ مَوْلَى الزُّبَيْرِ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَيْنَهُ مِمَّا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ نُبُوَّتِهِ: يَا ابْنَ عَمِّ، تَسْتَطِيعُ أَنَّ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِكَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ إِذَا جَاءَكَ ؟ فَقَالَ: " نَعَمْ ". فَقَالَتْ: إِذَا جَاءَكَ فَأَخْبِرْنِي. فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَهَا إِذْ جَاءَ جِبْرِيلُ، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " يَا خَدِيجَةُ هَذَا جِبْرِيلُ ". فَقَالَتْ: أَتَرَاهُ الْآنَ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَتْ: فَاجْلِسْ إِلَى شِقِّيَ الْأَيْمَنِ. فَتَحَوَّلَ فَجَلَسَ، فَقَالَتْ: أَتَرَاهُ الْآنَ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَتْ: فَتَحَوَّلْ فَاجْلِسْ فِي حِجْرِي. فَتَحَوَّلَ فَجَلَسَ فِي حِجْرِهَا، فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ الْآنَ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". فَتَحَسَّرَتْ رَأْسَهَا، فَشَالَتْ خِمَارَهَا، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ فِي حِجْرِهَا، فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ الْآنَ ؟ قَالَ: " لَا ". قَالَتْ: مَا هَذَا بِشَيْطَانٍ، إِنَّ هَذَا لَمَلَكٌ، يَا ابْنَ عَمِّ، فَاثْبُتْ وَأَبْشِرْ ثُمَّ آمَنَتْ بِهِ وَشَهِدَتْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَثْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنٍ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ أُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ تُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، عَنْ خَدِيجَةَ إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُهَا تَقُولُ: أَدْخَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهَا وَبَيْنَ دِرْعِهَا، فَذَهَبَ عِنْدَ ذَلِكَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ مِنْ خَدِيجَةَ تَصْنَعُهُ تَسْتَثْبِتُ بِهِ الْأَمْرَ احْتِيَاطًا

لِدِينِهَا وَتَصْدِيقًا، فَأَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ كَانَ وَثِقَ بِمَا قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ وَأَرَاهُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَمَا كَانَ مِنْ تَسْلِيمِ الشَّجَرِ وَالْحَجَرِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْلِيمًا.
وَقَدْ قَالَ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ ": حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ حَدَّثَنِي سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُعَاذٍ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إِنَّ بِمَكَّةَ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ لَيَالِي بُعِثْتُ، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ إِذَا مَرَرْتُ عَلَيْهِ
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيِّ الْكَبِيرِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ، فَخَرَجَ فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا، فَمَا اسْتَقْبَلَهُ شَجَرٌ، وَلَا جَبَلٌ، إِلَّا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَدْخُلُ مَعَهُ الْوَادِيَ فَلَا يَمُرُّ

بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ إِلَّا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَأَنَا أَسْمَعُهُ.

فَصْلٌ
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ: ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً، حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَلَغَنَا حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُؤُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذُرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا. فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَقَرُّ نَفْسُهُ فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُحَدِّثُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، قَالَ: " فَبَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجُئِثْتُ مِنْهُ فَرَقًا حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى

الْأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي، فَقُلْتُ: " زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي "، فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ قَالَ: ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ فَهَذَا كَانَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ لَا مُطْلَقًا، ذَاكَ قَوْلُهُ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وَاللَّائِقُ حَمْلُ كَلَامِهِ مَا أَمْكَنَ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، فَإِنَّ فِي سِيَاقِ كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ مَجِيءِ الْمَلَكِ الَّذِي عَرَفَهُ ثَانِيًا بِمَا عَرَفَهُ بِهِ أَوَّلًا إِلَيْهِ
ثُمَّ قَوْلُهُ: يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ. دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ الْوَحْيِ عَلَى هَذَا الْإِيحَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ ؟ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. فَقُلْتُ: أَوِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ فَقَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ: أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ ؟ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فَقُلْتُ: وَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ؟

فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنِّي جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي نَزَلْتُ، فَاسْتَبْطَنْتُ الْوَادِيَ، فَنُودِيتُ، فَنَظَرْتُ بَيْنَ يَدَيَّ وَخَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ فَأَخَذَتْنِي رِعْدَةٌ، أَوْ قَالَ وَحْشَةٌ، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَأَمَرْتُهُمْ فَدَثَّرُونِي ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ حَتَّى بَلَغَ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ. وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ " فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَجُئِثْتُ مِنْهُ " وَهَذَا صَرِيحٌ فِي تَقَدُّمِ إِتْيَانِهِ إِلَيْهِ وَإِنْزَالِهِ الْوَحْيَ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ سُورَةُ وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى إِلَى آخِرِهَا. قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ: وَلِهَذَا كَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِهَا فَرَحًا. وَهُوَ قَوْلٌ بَعِيدٌ يَرُدُّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ صَاحِبَيِ " الصَّحِيحِ " مِنْ أَنَّ أَوَّلَ الْقُرْآنِ نُزُولًا بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَلَكِنْ نَزَلَتْ سُورَةُ وَالضُّحَى بَعْدَ فَتْرَةٍ أُخْرَى كَانَتْ لَيَالِيَ يَسِيرَةً، كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ

عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلَّا تَرَكَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى
وَبِهَذَا الْأَمْرِ حَصَلَ الْإِرْسَالُ إِلَى النَّاسِ، وَبِالْأَوَّلِ حَصَلَتِ النُّبُوَّةُ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ مُدَّةُ الْفَتْرَةِ قَرِيبًا مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَتَيْنِ وَنِصْفٍ. وَالظَّاهِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهَا الْمُدَّةُ الَّتِي اقْتَرَنَ مَعَهُ مِيكَائِيلُ كَمَا قَالَ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ. وَلَا يَنْفِي هَذَا تَقَدُّمَ إِيحَاءِ جِبْرِيلَ إِلَيْهِ أَوَّلًا اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ثُمَّ حَصَلَتِ الْفَتْرَةُ الَّتِي اقْتَرَنَ مَعَهُ مِيكَائِيلُ، ثُمَّ اقْتَرَنَ بِهِ جِبْرِيلُ بَعْدَ نُزُولِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ بَعْدَ هَذَا وَتَتَابَعَ أَيْ تَدَارَكَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَقَامَ حِينَئِذٍ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرِّسَالَةِ أَتَمَّ الْقِيَامَ، وَشَمَّرَ عَنْ سَاقِ الْعَزْمِ، وَدَعَا إِلَى اللَّهِ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ، وَالْأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ، فَآمَنَ بِهِ حِينَئِذٍ كُلُّ لَبِيبٍ نَجِيبٍ سَعِيدٍ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى مُخَالَفَتِهِ وَعِصْيَانِهِ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَادَرَ إِلَى التَّصْدِيقِ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَمِنَ الْغِلْمَانِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمِنَ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ زَوْجَتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنَ الْمَوَالِيَ مَوْلَاهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْكَلْبِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِيمَانِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ بِمَا وَجَدَ مِنَ الْوَحْيِ، وَمَاتَ فِي الْفَتْرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

فَصْلٌ فِي مَنْعِ الْجَانِّ وَمَرَدَةِ الشَّيَاطِينِ مِنَ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ حِينَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ ; لِئَلَّا يَخْتَطِفَ أَحَدُهُمْ مِنْهُ وَلَوْ حَرْفًا وَاحِدًا، فَيُلْقِيهِ عَلَى لِسَانِ وَلِيِّهِ فَيَلْتَبِسُ الْأَمْرُ وَيَخْتَلِطُ الْحَقُّ
فَكَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَلُطْفِهِ بِخَلْقِهِ أَنْ حَجَبَهُمْ عَنِ السَّمَاءِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [ الْجِنِّ: 8 - 10 ] وَقَالَ تَعَالَى وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [ الشُّعَرَاءِ: 210 - 212 ]
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، وَهُوَ الطَّبَرَانِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْجِنُّ يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاءِ يَسْتَمِعُونَ الْوَحْيَ، فَإِذَا سَمِعُوا الْكَلِمَةَ زَادُوا فِيهَا تِسْعًا، فَأَمَّا الْكَلِمَةُ فَتَكُونُ حَقًّا، وَأَمَّا مَا زَادُوا فَيَكُونُ بَاطِلًا، فَلَمَّا بُعِثَ

النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنِعُوا مَقَاعِدَهُمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِإِبْلِيسَ وَلَمْ تَكُنِ النُّجُومُ يُرْمَى بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُمْ إِبْلِيسُ: هَذَا لِأَمْرٍ قَدْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ، فَبَعَثَ جُنُودَهُ فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمًا، يُصَلِّي بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَأَتَوْهُ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي قَدْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ ؟ قَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ. فَقَالُوا: مَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ شَيْءِ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا. فَمَرَّ النَّفَرُ الَّذِينَ أَخَذُوا نَحْوَ تِهَامَةَ، وَهُوَ بِنَخْلَةَ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ، فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ. فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [ الْجِنِّ: 1، 2 ] فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [ الْجِنِّ: 1 ] الْآيَةَ أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ".

وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إِنَّهُ لَمْ تَكُنْ قَبِيلَةٌ مِنَ الْجِنِّ إِلَّا وَلَهُمْ مَقَاعِدُ لِلسَّمْعِ، فَإِذَا نَزَلَ الْوَحْيُ سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ صَوْتًا كَصَوْتِ الْحَدِيدَةِ أَلْقَيْتَهَا عَلَى الصَّفَا. قَالَ: فَإِذَا سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ خَرُّوا سُجَّدًا، فَلَمْ يَرْفَعُوا رُؤُوسَهُمْ حَتَّى يَنْزِلَ، فَإِذَا نَزَلَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَكُونُ فِي السَّمَاءِ، قَالُوا: الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَمْرِ الْغَيْبِ، أَوْ مَوْتٍ، أَوْ شَيْءٍ مِمَّا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ تَكَلَّمُوا بِهِ. فَقَالُوا يَكُونُ كَذَا وَكَذَا. فَتَسْمَعُهُ الشَّيَاطِينُ فَيُنْزِلُونَهُ عَلَى أَوْلِيَائِهِمْ. فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُحِرُوا بِالنُّجُومِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ عَلِمَ بِهَا ثَقِيفٌ، فَكَانَ ذُو الْغَنَمِ مِنْهُمْ يَنْطَلِقُ إِلَى غَنَمِهِ، فَيَذْبَحُ كُلَّ يَوْمٍ شَاةً، وَذُو الْإِبِلِ فَيَنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ بَعِيرًا، فَأَسْرَعَ النَّاسُ فِي أَمْوَالِهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَفْعَلُوا، فَإِنْ كَانَتِ النُّجُومُ الَّتِي يَهْتَدُونَ بِهَا وَإِلَّا فَإِنَّهُ لِأَمْرٍ حَدَثَ. فَنَظَرُوا فَإِذَا النُّجُومُ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا كَمَا هِيَ لَمْ يَزُلْ مِنْهَا شَيْءٌ فَكَفُّوا، وَصَرَفَ اللَّهُ الْجِنَّ فَسَمِعُوا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ، قَالُوا: أَنْصِتُوا. وَانْطَلَقَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى إِبْلِيسَ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: هَذَا حَدَثٌ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ فَأْتُونِي مِنْ كُلِّ أَرْضٍ

بِتُرْبَةٍ. فَأَتَوْهُ بِتُرْبَةِ تِهَامَةَ، فَقَالَ: هَاهُنَا الْحَدَثُ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ بِهِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدَانَ الْعَبْسِيِّ عَنِ ابْنِ كَعْبٍ قَالَ: لَمْ يُرْمَ بِنَجْمٍ مُنْذُ رُفِعَ عِيسَى، حَتَّى تَنَبَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرُمِيَ بِهَا، فَرَأَتْ قُرَيْشٌ أَمْرًا لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَجَعَلُوا يُسَيِّبُونَ أَنْعَامَهُمْ، وَيُعْتِقُونَ أَرِقَّاءَهُمْ، يَظُنُّونَ أَنَّهُ الْفَنَاءُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ أَهْلَ الطَّائِفِ، فَفَعَلَتْ ثَقِيفٌ مَثَلَ ذَلِكَ، فَبَلَغَ عَبْدَ يَالِيلَ بْنَ عَمْرٍو مَا صَنَعَتْ ثَقِيفٌ، قَالَ: وَلِمَ فَعَلْتُمْ مَا أَرَى ؟ قَالُوا: رُمِيَ بِالنُّجُومِ فَرَأَيْنَاهَا تَهَافَتُ مِنَ السَّمَاءِ. فَقَالَ: إِنَّ إِفَادَةَ الْمَالِ بَعْدَ ذَهَابِهِ شَدِيدٌ، فَلَا تَعْجَلُوا، وَانْظُرُوا ; فَإِنْ تَكُنْ نُجُومًا تُعْرَفُ، فَهُوَ عِنْدَنَا مِنْ فَنَاءِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَتْ نُجُومًا لَا تُعْرَفُ فَهُوَ لِأَمْرٍ قَدْ حَدَثَ. فَانْظُرُوا فَإِذَا هِيَ لَا تُعْرَفُ، فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: الْأَمْرُ فِيهِ مُهْلَةٌ بَعْدُ، هَذَا عِنْدَ ظُهُورِ نَبِيٍّ. فَمَا مَكَثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ إِلَى أَمْوَالِهِ، فَجَاءَ عَبْدُ يَالِيلَ فَذَاكَرَهُ أَمْرَ النُّجُومِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ظَهَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَدَّعِي أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ. فَقَالَ عَبْدُ يَالِيلَ فَعِنْدَ ذَلِكَ رُمِيَ بِهَا.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ خَالِدٍ عَنْ حَصِينٍ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَتِ النُّجُومُ لَا يُرْمَى بِهَا حَتَّى بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَيَّبُوا أَنْعَامَهُمْ، وَأَعْتَقُوا رَقِيقَهُمْ، فَقَالَ عَبْدُ يَالِيلَ: انْظُرُوا، فَإِنْ كَانَتِ النُّجُومُ الَّتِي تُعْرَفَ فَهُوَ عِنْدَ فَنَاءِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُعْرَفُ فَهُوَ لِأَمْرٍ قَدْ حَدَثَ. فَنَظَرُوا فَإِذَا هِيَ لَا تُعْرَفُ. قَالَ: فَأَمْسِكُوا. فَلَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَهُمْ خُرُوجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ تَكُنْ سَمَاءُ الدُّنْيَا تُحْرَسُ فِي الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَسَلَامُهُ، فَلَعَلَّ مُرَادَ مَنْ نَفَى ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تُحْرَسُ حِرَاسَةً شَدِيدَةً، وَيَجِبُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى هَذَا لِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ إِذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ: " مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ إِذَا رُمِيَ بِهَذَا ؟ " قَالَ: كُنَّا نَقُولُ مَاتَ عَظِيمٌ، وَوُلِدَ عَظِيمٌ. فَقَالَ: " لَا وَلَكِنْ... " فَذَكَرَ الْحَدِيثَ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ فِي أَوَّلِ بَدْءِ الْخَلْقِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي " السِّيرَةِ " قِصَّةَ رَمْيِ النُّجُومِ، وَذَكَرَ عَنْ كَبِيرِ ثَقِيفٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ فِي النَّظَرِ فِي النُّجُومِ: إِنْ كَانَتْ أَعْلَامَ السَّمَاءِ أَوْ غَيْرَهَا. وَلَكِنْ سَمَّاهُ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمْ تَكُنِ السَّمَاءُ تُحْرَسُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ نَبِيٌّ أَوْ دِينٌ لِلَّهِ ظَاهِرٌ، وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِ اتَّخَذَتِ الْمَقَاعِدَ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، يَسْتَمِعُونَ مَا يَحْدُثُ فِي السَّمَاءِ مِنْ أَمْرٍ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا، رُجِمُوا لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي، فَفَزِعَ لِذَلِكَ أَهْلُ الطَّائِفِ، فَقَالُوا: هَلَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ لِمَا رَأَوْا مِنْ شِدَّةِ النَّارِ فِي السَّمَاءِ وَاخْتِلَافِ الشُّهُبِ، فَجَعَلُوا يُعْتِقُونَ أَرِقَّاءَهُمْ، وَيُسَيِّبُونَ مَوَاشِيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ يَالِيلَ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ: وَيْحَكُمُ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الطَّائِفِ أَمْسِكُوا عَنْ أَمْوَالِكُمْ، وَانْظُرُوا إِلَى مَعَالِمِ النُّجُومِ، فَإِنْ رَأَيْتُمُوهَا مُسْتَقِرَّةً فِي أَمْكِنَتِهَا فَلَمْ يَهْلِكْ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلِ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ وَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَرَوْهَا فَقَدْ هَلَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ. فَنَظَرُوا فَرَأَوْهَا فَكَفُّوا عَنْ أَمْوَالِهِمْ، وَفَزِعَتِ الشَّيَاطِينُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَأَتَوْا إِبْلِيسَ، فَقَالَ: ائْتُونِي مِنْ كُلِّ أَرْضٍ بِقَبْضَةٍ مِنْ تُرَابٍ، فَأَتَوْهُ، فَشَمَّ، فَقَالَ: صَاحِبُكُمْ بِمَكَّةَ. فَبَعَثَ سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْ جِنِّ نَصِيبِينَ، فَقَدِمُوا مَكَّةَ، فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَدَنَوْا مِنْهُ حِرْصًا عَلَى الْقُرْآنِ حَتَّى كَادَتْ كَلَاكِلُهُمْ تُصِيبُهُ، ثُمَّ

أَسْلَمُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ أَبِي حَكِيمٍ يَعْنِي إِسْمَاعِيلَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْبَحَ كُلُّ صَنَمٍ مُنَكَّسًا، فَأَتَتِ الشَّيَاطِينُ إِبْلِيسَ، فَقَالُوا لَهُ: مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ صَنَمٍ إِلَّا وَقَدْ أَصْبَحَ مُنَكَّسًا. قَالَ: هَذَا نَبِيٌّ قَدْ بُعِثَ، فَالْتَمِسُوهُ فِي قُرَى الْأَرْيَافِ. فَالْتَمَسُوهُ، فَقَالُوا: لَمْ نَجِدْهُ. فَقَالَ: أَنَا صَاحِبُهُ. فَخَرَجَ يَلْتَمِسُهُ، فَنُودِيَ: عَلَيْكَ بِحَبَّةِ الْقَلْبِ. يَعْنِي مَكَّةَ، فَالْتَمَسَهُ بِهَا، فَوَجَدَهُ بِهَا عِنْدَ قَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَخَرَجَ إِلَى الشَّيَاطِينِ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ وَجَدْتُهُ مَعَهُ جِبْرِيلُ، فَمَا عِنْدَكُمْ ؟ قَالُوا: نُزَيِّنُ الشَّهَوَاتِ فِي أَعْيُنِ أَصْحَابِهِ، وَنُحَبِّبُهَا إِلَيْهِمْ. قَالَ: فَلَا آسَى إِذًا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي تَنَبَّأَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنِعَتِ الشَّيَاطِينُ السَّمَاءَ، وَرُمُوا بِالشُّهُبِ، فَجَاؤُوا إِلَى إِبْلِيسَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أَمْرٌ قَدْ حَدَثَ، هَذَا نَبِيٌّ قَدْ خَرَجَ عَلَيْكُمْ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ مَخْرَجِ

بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ: فَذَهَبُوا إِلَى الشَّامِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: لَيْسَ بِهَا أَحَدٌ. فَقَالَ إِبْلِيسُ: أَنَا صَاحِبُهُ. فَخَرَجَ فِي طَلَبِهِ بِمَكَّةَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحِرَاءٍ مُنْحَدِرًا مَعَهُ جِبْرِيلُ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: قَدْ بُعِثَ أَحْمَدُ وَمَعَهُ جِبْرِيلُ، فَمَا عِنْدَكُمْ ؟ قَالُوا: الدُّنْيَا نُحَبِّبُهَا إِلَى النَّاسِ. قَالَ فَذَاكَ إِذًا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ كَانَتِ الشَّيَاطِينُ يَسْتَمِعُونَ الْوَحْيَ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنِعُوا، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى إِبْلِيسَ، فَقَالَ: لَقَدْ حَدَثَ أَمْرٌ. فَرَقِيَ فَوْقَ أَبِي قُبَيْسٍ، وَهُوَ أَوَّلُ جَبَلٍ وُضِعَ عَلَى الْأَرْضِ، فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي خَلْفَ الْمَقَامِ. فَقَالَ أَذْهَبُ فَأَكْسِرُ عُنُقَهُ. فَجَاءَ يَخْطِرُ، وَجِبْرِيلُ عِنْدَهُ، فَرَكَضَهُ جِبْرِيلُ رَكْضَةً طَرَحَهُ فِي كَذَا وَكَذَا، فَوَلَّى الشَّيْطَانُ هَارِبًا. ثُمَّ رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ وَأَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ كِلَاهُمَا عَنْ رَبَاحِ بْنِ أَبِي مَعْرُوفٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا. وَقَالَ: فَرَكَضَهُ بِرِجْلِهِ فَرَمَاهُ بِعَدَنَ.

فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ إِتْيَانِ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَدْ تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ مَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ وَثَانِي مَرَّةٍ أَيْضًا.
وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ ؟ فَقَالَ: " أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي، وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا، فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ " قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ، وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا. أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ بِهِ.
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِهِ نَحْوَهُ وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَأَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ. وَقَدْ رَوَاهُ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ

قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ ؟ فَذَكَرُهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَائِشَةَ.
وَفِي حَدِيثِ الْإِفْكِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَوَاللَّهِ، مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَجْلِسَهُ، وَلَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ، حَتَّى أَنَّهُ كَانَ يَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ، وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْوَحْيِ الَّذِي يَنْزِلَ عَلَيْهِ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ أَمْلَى عَلَيَّ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيِّ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَحْيُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فِي نُزُولِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 1 ] وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ثُمَّ قَالَ النَّسَائِيُّ: مُنْكَرٌ، لَا نَعْرِفُ أَحَدًا رَوَاهُ غَيْرَ يُونُسَ بْنَ سُلَيْمٍ وَلَا نَعْرِفُهُ.

وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "، وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كَرَبَهُ ذَلِكَ وَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ وَفِي رِوَايَةٍ وَغَمَّضَ عَيْنَيْهِ وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ حِينَ نَزَلَتْ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ النِّسَاءِ: 95 ] فَلَمَّا شَكَى ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ضَرَارَتَهُ نَزَلَتْ: غَيْرُ أُولَى الضَّرَرِ [ النِّسَاءِ: 95 ]، قَالَ: وَكَانَتْ فَخِذُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى فَخِذِي، وَأَنَا أَكْتُبُ، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ كَادَتْ فَخِذُهُ تَرُضُّ فَخِذِي
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى عَنْ عَطَاءٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ قَالَ لِي عُمَرُ: أَيَسُرُّكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُوحَى إِلَيْهِ ؟ فَرَفَعَ طَرَفَ الثَّوْبِ عَنْ وَجْهِهِ، وَهُوَ يُوحَى إِلَيْهِ بِالْجِعْرَانَةِ، فَإِذَا هُوَ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ، وَهُوَ يَغِطُّ كَمَا يَغِطُّ الْبَكْرُ وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ لَمَّا نَزَلَ الْحِجَابُ، وَإِنَّ

سَوْدَةَ خَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْمَنَاصِعِ لَيْلًا، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ، فَرَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَتْهُ، وَهُوَ جَالِسٌ يَتَعَشَّى، وَالْعَرْقُ فِي يَدِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، وَالْعَرْقُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: " إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ ". فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْوَحْيُ يُغَيِّبُ عَنْهُ إِحْسَاسَهُ بِالْكُلِّيَّةِ ; بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَالِسٌ لَمْ يَسْقُطْ، وَلَمْ يَسْقُطِ الْعَرْقُ أَيْضًا مِنْ يَدِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ دَائِمًا عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ تَرَبَّدَ لِذَلِكَ جَسَدُهُ وَوَجْهُهُ، وَأَمْسَكَ عَنْ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يُكَلِّمْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ تُحِسُّ بِالْوَحْيِ ؟ قَالَ: " نَعَمْ، أَسْمَعُ صَلَاصِلَ، ثُمَّ أَثْبُتُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَمَا مِنْ مَرَّةٍ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا ظَنَنْتُ أَنَّ نَفْسِي تَفِيظُ مِنْهُ "

وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ خَالِهِ الْفَلَتَانِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَكَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ دَامَ بَصَرُهُ مَفْتُوحَةً عَيْنَاهُ، وَفَرَّغَ سَمْعَهُ وَقَلْبَهُ لِمَا يَأْتِيهِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ قُتَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ غُرَابٍ عَنِ الْأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي عَوْنٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ صُدِعَ، وَغَلَّفَ رَأْسَهُ بِالْحِنَّاءِ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ شَيْبَانُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، قَالَتْ إِنِّي لَآخِذَةٌ بِزِمَامِ

الْعَضْبَاءِ ; نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْمَائِدَةُ كُلُّهَا، وَكَادَتْ مِنْ ثِقَلِهَا تَدُقُّ عَضُدَ النَّاقَةِ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ حَدَّثَنِي حُيَيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " سُورَةُ الْمَائِدَةِ "، وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَحْمِلَهُ، فَنَزَلَ عَنْهَا. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ صَبَّاحِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، حَدَّثَتْنِي أُمُّ عَمْرٍو، عَنْ عَمِّهَا، أَنَّهُ كَانَ فِي مَسِيرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ " الْمَائِدَةِ " فَانْدَقَّ عُنُقُ الرَّاحِلَةِ مِنْ ثِقَلِهَا. وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " نُزُولُ سُورَةِ " الْفَتْحِ " عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَكَأَنَّهُ يَكُونُ تَارَةً وَتَارَةً، بِحَسَبِ الْحَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنْوَاعَ الْوَحْيِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِ " شَرْحِ الْبُخَارِيِّ "، وَمَا ذَكَرَهُ الْحَلِيمِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

فَصْلٌ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [ الْقِيَامَةِ: 16 - 19 ] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [ طه: 114 ]. وَكَانَ هَذَا فِي الِابْتِدَاءِ ; كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى أَخْذِهِ مِنَ الْمَلَكِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَيُسَاوِقُهُ فِي التِّلَاوَةِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُنْصِتَ لِذَلِكَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الْوَحْيِ، وَتَكَفَّلَ لَهُ أَنْ يَجْمَعَهُ فِي صَدْرِهِ، وَأَنْ يُيَسِّرَ عَلَيْهِ تِلَاوَتَهُ، وَتَبْلِيغَهُ، وَأَنْ يُبَيِّنَهُ لَهُ، وَيُفَسِّرَهُ، وَيُوَضِّحَهُ، وَيُوقِفَهُ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ ; وَلِهَذَا قَالَ: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا، وَقَالَ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ أَيْ فِي صَدْرِكَ وَقُرْآنَهُ أَيْ وَأَنْ تَقْرَأَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ أَيْ تَلَاهُ عَلَيْكَ الْمَلَكُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أَيْ فَاسْتَمِعْ لَهُ وَتَدَبَّرْهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ

جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، فَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، قَالَ: جَمْعَهُ فِي صَدْرِكَ، ثُمَّ تَقْرَؤُهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ، قَالَ: فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.

فَصْلٌ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْيُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُصَدِّقٌ بِمَا جَاءَهُ مِنْهُ، قَدْ قَبِلَهُ بِقَبُولِهِ، وَتَحَمَّلَ مِنْهُ مَا حَمَلَهُ، عَلَى رِضَا الْعِبَادِ وَسُخْطِهِمْ، وَلِلنُّبُوَّةِ أَثْقَالٌ وَمُؤْنَةٌ، لَا يَحْمِلُهَا وَلَا يَسْتَضْلِعُ بِهَا إِلَّا أَهْلُ الْقُوَّةِ وَالْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ لِمَا يَلْقَوْنَ مِنَ النَّاسِ، وَمَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ مِمَّا جَاءُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ، عَلَى مَا يَلْقَى مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الْخِلَافِ وَالْأَذَى
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَآمَنَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَصَدَّقَتْ بِمَا جَاءَهُ مِنَ اللَّهِ، وَوَازَرَتْهُ عَلَى أَمْرِهِ، وَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَصَدَّقَتْ بِمَا جَاءَ

مِنْهُ، فَخَفَّفَ اللَّهُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِهِ ; لَا يَسْمَعُ شَيْئًا يَكْرَهُهُ ; مِنْ رَدٍّ عَلَيْهِ، وَتَكْذِيبٍ لَهُ، فَيُحْزِنُهُ ذَلِكَ إِلَّا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا، إِذَا رَجَعَ إِلَيْهَا تُثَبِّتُهُ، وَتُخَفِّفُ عَنْهُ، وَتُصَدِّقُهُ، وَتُهَوِّنُ عَلَيْهِ أَمْرَ النَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِرْتُ أَنْ أُبَشِّرَ خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ، وَلَا نَصَبَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ: قَالَ: ابْنُ هِشَامٍ الْقَصَبُ: هَاهُنَا اللُّؤْلُؤُ الْمُجَوَّفُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْعِبَادِ مِنَ النُّبُوَّةِ سِرًّا إِلَى مَنْ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ مَنْ أَهْلِهِ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: كَانَتْ خَدِيجَةُ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ رَسُولَهُ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ.
قُلْتُ: يَعْنِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، فَأَمَّا أَصْلُ الصَّلَاةِ فَقَدْ وَجَبَ

فِي حَيَاةِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ خَدِيجَةُ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَصَدَّقَ بِمَا جَاءَ بِهِ، ثُمَّ إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ افْتُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، فَهَمَزَ لَهُ بِعَقِبِهِ فِي نَاحِيَةِ الْوَادِي، فَانْفَجَرَتْ لَهُ عَيْنٌ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَتَوَضَّأَ جِبْرِيلُ وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَجَدَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ، وَطَابَتْ نَفْسُهُ، وَجَاءَهُ مَا يُحِبُّ مِنَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِيَدِ خَدِيجَةَ حَتَّى أَتَى بِهَا إِلَى الْعَيْنِ، فَتَوَضَّأَ كَمَا تَوَضَّأَ جِبْرِيلُ، ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، ثُمَّ كَانَ هُوَ وَخَدِيجَةُ يُصَلِّيَانِ سِرًّا
قَلْتُ: صَلَاةُ جِبْرِيلَ هَذِهِ غَيْرُ الصَّلَاةِ الَّتِي صَلَّاهَا بِهِ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، فَبَيَّنَ لَهُ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ; أَوَّلَهَا وَآخِرَهَا ; فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ فَرْضِيَّتِهَا لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَوَّلِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ مُتَقَدِّمِي الْإِسْلَامِ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ، وَهُمَا يُصَلِّيَانِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا مُحَمَّدُ مَا هَذَا ؟ قَالَ: " دِينُ اللَّهِ الَّذِي اصْطَفَى لِنَفْسِهِ، وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، فَأَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِلَى عِبَادَتِهِ، وَأَنْ تَكْفُرَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى ". فَقَالَ عَلِيٌّ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ أَسْمَعْ بِهِ قَبْلَ الْيَوْمِ، فَلَسْتُ بِقَاضٍ أَمْرًا حَتَّى أُحَدِّثَ بِهِ أَبَا طَالِبٍ. فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُفْشِيَ عَلَيْهِ سَرَّهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَعْلِنَ أَمْرُهُ. فَقَالَ لَهُ: " يَا عَلِيُّ إِذَا لَمْ تُسْلِمْ فَاكْتُمْ ". فَمَكَثَ عَلِيٌّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَوْقَعَ فِي قَلْبِ عَلِيٍّ الْإِسْلَامَ،

فَأَصْبَحَ غَادِيًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى جَاءَهُ، فَقَالَ: مَاذَا عَرَضْتَ عَلَيَّ يَا مُحَمَّدُ ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَكْفُرُ بِاللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَتَبْرَأُ مِنَ الْأَنْدَادِ ". فَفَعَلَ عَلِيٌّ وَأَسْلَمَ، وَمَكَثَ يَأْتِيهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ أَبِي طَالِبٍ وَكَتَمَ عَلِيٌّ إِسْلَامَهُ، وَلَمْ يُظْهِرْهُ. وَأَسْلَمَ ابْنُ حَارِثَةَ، يَعْنِي زَيْدًا فَمَكَثَا قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ يَخْتَلِفُ عَلِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَانَ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ الْإِسْلَامِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: وَكَانَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عَلِيٍّ أَنَّ قُرَيْشًا أَصَابَتْهُمْ أَزْمَةٌ شَدِيدَةٌ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ ذَا عِيَالٍ كَثِيرَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ وَكَانَ مِنْ أَيْسَرِ بَنِي هَاشِمٍ: " يَا عَبَّاسُ إِنَّ أَخَاكَ أَبَا طَالِبٍ كَثِيرُ الْعِيَالِ، وَقَدْ أَصَابَ النَّاسَ مَا تَرَى مِنْ هَذِهِ الْأَزْمَةِ، فَانْطَلِقْ حَتَّى نُخَفِّفَ عَنْهُ مِنْ عِيَالِهِ " فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا، فَاتَّبَعَهُ عَلِيٌّ وَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي الْأَشْعَثِ الْكِنْدِيُّ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي إِيَاسِ بْنِ عُفَيِّفٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عُفَيِّفٍ وَكَانَ عُفَيِّفٌ أَخَا الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ

لِأُمِّهِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ امْرَأً تَاجِرًا، فَقَدِمْتُ مِنًى أَيَّامَ الْحَجِّ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ امْرَأً تَاجِرًا، فَأَتَيْتُهُ أَبْتَاعُ مِنْهُ وَأَبِيعُهُ، قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ إِذْ خَرَجَ رَجُلٌ مَنْ خِبَاءٍ فَقَامَ يُصَلِّي تِجَاهَ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ خَرَجَتِ امْرَأَةٌ فَقَامَتْ تُصَلِّي، وَخَرَجَ غُلَامٌ فَقَامَ يُصَلِّي مَعَهُ، فَقُلْتُ: يَا عَبَّاسُ مَا هَذَا الدِّينُ ؟ إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَا نَدْرِي مَا هُوَ ؟ فَقَالَ: هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ، وَأَنَّ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ سَتُفْتَحُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ امْرَأَتُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ آمَنَتْ بِهِ، وَهَذَا الْغُلَامُ ابْنُ عَمِّهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ آمَنَ بِهِ. قَالَ عُفَيِّفٌ: فَلَيْتَنِي كُنْتُ آمَنْتُ يَوْمَئِذٍ فَكُنْتُ أَكُونُ ثَانِيًا. وَتَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: إِذْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ خِبَاءٍ قَرِيبٍ مِنْهُ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا رَآهَا قَدْ مَالَتْ قَامَ يُصَلِّي. ثُمَّ ذَكَرَ قِيَامَ خَدِيجَةَ وَرَاءَهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ خُثَيْمٍ عَنْ أَسَدِ بْنِ عَبْدَةَ الْبَجَلِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُفَيِّفٍ عَنْ عُفَيِّفٍ قَالَ: جِئْتُ زَمَنَ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى مَكَّةَ فَنَزَلْتُ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَحَلَّقَتْ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْكَعْبَةِ، أَقْبَلَ شَابٌّ فَرَمَى بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْكَعْبَةَ، فَقَامَ مُسْتَقْبِلَهَا، فَلَمْ يَلْبَثْ حَتَّى

جَاءَ غُلَامٌ فَقَامَ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَامَتْ خَلْفَهُمَا، فَرَكَعَ الشَّابُّ فَرَكَعَ الْغُلَامُ وَالْمَرْأَةُ، فَرَفَعَ الشَّابُّ فَرَفَعَ الْغُلَامُ وَالْمَرْأَةُ، فَخَرَّ الشَّابُّ سَاجِدًا فَسَجَدَا مَعَهُ. فَقُلْتُ يَا عَبَّاسُ أَمْرٌ عَظِيمٌ. فَقَالَ: أَمْرٌ عَظِيمٌ. فَقَالَ: أَتَدْرِي مَنْ هَذَا ؟ فَقُلْتُ: لَا. فَقَالَ: هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ابْنُ أَخِي. أَتَدْرِي مَنِ الْغُلَامُ ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. أَتَدْرِي مَنْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي خَلْفَهُمَا ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: هَذِهِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ زَوْجَةُ ابْنِ أَخِي، وَهَذَا حَدَّثَنِي أَنَّ رَبَّكَ رَبَّ السَّمَاءِ أَمَرَهُ بِهَذَا الَّذِي تَرَاهُمْ عَلَيْهِ، وَايْمُ اللَّهِ مَا أَعْلَمُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ كُلِّهَا أَحَدًا عَلَى هَذَا الدِّينِ غَيْرَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ سَوَادَةَ بْنِ الْجَعْدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبُو حَازِمٍ وَالْكَلْبِيُّ قَالُوا: عَلِيٌّ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ.
وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: أَوَّلُ ذَكَرٍ آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَلَّى مَعَهُ وَصَدَّقَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ الْإِسْلَامِ.

قَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَسْلَمَ عَلِيٌّ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَأَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ عَلِيًّا أَسْلَمَ بَعْدَ مَا تَنَبَّأَ رَسُولُ اللَّهِ بِسَنَةٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَدِيجَةُ، وَأَوَّلُ رَجُلَيْنِ أَسْلَمَا أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَأَسْلَمَ عَلِيٌّ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ عَلِيٌّ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ خَوْفًا مِنْ أَبِيهِ، حَتَّى لَقِيَهُ أَبُوهُ، قَالَ: أَسْلَمْتَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَآزِرِ ابْنَ عَمِّكَ وَانْصُرْهُ. قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي " تَارِيخِهِ " مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي بَلْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ صَلَّى عَلِيٌّ.
وَحَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الضَّرِيرُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَحْرٍ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بُعِثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَصَلَّى عَلِيٌّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ.

وَرَوَى مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ: فَذَكَرْتُهُ لِلنَّخَعِيِّ فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ.
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ، وَأَخُو رَسُولِهِ، وَأَنَا الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ، لَا يَقُولُهَا بَعْدِي إِلَّا كَاذِبٌ مُفْتَرٍ، صَلَّيْتُ قَبْلَ النَّاسِ بِسَبْعِ سِنِينَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الرَّازِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى الْعَبْسِيِّ وَهُوَ شِيعِيٌّ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ صَالِحٍ الْأَسَدِيِّ الْكُوفِيِّ وَثَّقُوهُ، وَلَكِنْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَانَ مِنْ عُتُقِ الشِّيعَةِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: رَوَى أَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ وَالْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو ثِقَةٌ، وَأَمَّا شَيْخُهُ عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ فَقَدْ قَالَ فِيهِ عَلِيُّ

بْنُ الْمَدِينِيِّ: هُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ. وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " الثِّقَاتِ ". وَهَذَا الْحَدِيثُ مُنْكَرٌ بِكُلِّ حَالٍ وَلَا يَقُولُهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ النَّاسِ بِسَبْعِ سِنِينَ ؟ هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ أَصْلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ آخَرُونَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا أَنَّ خَدِيجَةَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النِّسَاءِ، وَظَاهِرُ السِّيَاقَاتِ، وَقَبْلَ الرِّجَالِ أَيْضًا. وَأَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمَوَالِي زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَأَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْغِلْمَانِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّهُ كَانَ صَغِيرًا دُونَ الْبُلُوغِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَهَؤُلَاءِ كَانُوا إِذْ ذَاكَ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَإِسْلَامُهُ كَانَ أَنْفَعَ مِنْ إِسْلَامِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ ; إِذْ كَانَ صَدْرًا مُعَظَّمًا، وَرَئِيسًا فِي قُرَيْشٍ مُكَرَّمًا، وَصَاحِبَ مَالٍ، وَدَاعِيَةً إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ مُحَبَّبًا مُتَأَلِّفًا يَبْذُلُ الْمَالَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
قَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَحَقٌّ مَا تَقُولُ قُرَيْشٌ يَا مُحَمَّدُ مِنْ تَرْكِكَ آلِهَتَنَا، وَتَسْفِيهِكَ عُقُولَنَا، وَتَكْفِيرِكَ آبَاءَنَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بَلَى، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ

وَنَبِيُّهُ بَعَثَنِي ; لِأُبَلِّغَ رِسَالَتَهُ، وَأَدْعُوَكَ إِلَى اللَّهِ بِالْحَقِّ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَلْحَقُّ، أَدْعُوكَ يَا أَبَا بَكْرٍ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا تَعْبُدْ غَيْرَهُ، وَالْمُوَالَاةِ عَلَى طَاعَتِهِ. وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ. فَلَمْ يُقِرَّ، وَلَمْ يُنْكِرْ، فَأَسْلَمَ وَكَفَرَ بِالْأَصْنَامِ، وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ، وَأَقَرَّ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ مُؤْمِنٌ مُصَدِّقٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُصَيْنِ التَّمِيمِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ عِنْدَهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌ وَنَظَرٌ، إِلَّا أَبَا بَكْرٍ مَا عَكَمَ عَنْهُ حِينَ ذَكَرْتُهُ، وَلَا تَرَدَّدَ فِيهِ ". عَكَمَ، أَيْ تَلَبَّثَ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ يُقِرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ، مُنْكَرٌ ; فَإِنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ وَغَيْرَهُ ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَكَانَ يَعْلَمُ مِنْ صِدْقِهِ، وَأَمَانَتِهِ، وَحُسْنِ سَجِيَّتِهِ، وَكَرْمِ أَخْلَاقِهِ، مَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى الْخَلْقِ، فَكَيْفَ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ ؟ ! وَلِهَذَا بِمُجَرَّدِ مَا ذَكَرَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ بَادَرَ إِلَى تَصْدِيقِهِ، وَلَمْ يَتَلَعْثَمْ، وَلَا عَكَمَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ إِسْلَامِهِ فِي كِتَابِنَا الَّذِي أَفْرَدْنَاهُ فِي سِيرَتِهِ، وَأَوْرَدْنَا فَضَائِلَهُ وَشَمَائِلَهُ، وَأَتْبَعْنَا ذَلِكَ بِسِيرَةِ الْفَارُوقِ أَيْضًا، وَأَوْرَدْنَا مَا رَوَاهُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَمَا رَوَى عَنْهُ مِنَ الْآثَارِ وَالْأَحْكَامِ وَالْفَتَاوَى، فَبَلَغَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مُجَلَّدَاتٍ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي حَدِيثِ مَا كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنَ الْخُصُومَةِ، وَفِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ. وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي ؟ مَرَّتَيْنِ، فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا. وَهَذَا كَالنَّصِّ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ سَعِيدٍ الْجَرِيرِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَسْتُ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا، أَلَسْتُ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ، أَلَسْتُ صَاحِبَ كَذَا ؟.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ بُهْلُولِ بْنِ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ عَنِ الْحَارِثِ سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَأَوَّلُ مَنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الرِّجَالِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَقَالَ شُعْبَةُ: عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ رِوَايَةُ ابْنِ جَرِيرٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ

مُرَّةَ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ فَذَكَرْتُهُ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فَأَنْكَرَهُ. وَقَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ بِأَسَانِيدِهِ، عَنْ أَبِي أَرْوَى الدَّوْسِيِّ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ رَجُلٍ، قَالَ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ، فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ حَسَّانَ
إِذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ فَاذْكُرْ أَخَاكَ أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ أَوْفَاهَا وَأَعْدَلَهَا
بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَوْلَاهَا بِمَا حَمَلَا وَالتَّالِيَ الثَّانِيَ الْمَحْمُودَ مَشْهَدُهُ
وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا عَاشَ حَمِيدًا لِأَمْرِ اللَّهِ مُتَّبِعًا
بِأَمْرِ صَاحِبِهِ الْمَاضِي وَمَا انْتَقَلَا
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا شَيْخٌ لَنَا، عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ أَوْ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيُّ النَّاسِ أَوَّلُ إِسْلَامًا ؟ قَالَ:

أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ فَذَكَرَهُ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: حَدَّثَنِي سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونِ قَالَ: أَدْرَكْتُ مَشْيَخَتَنَا مِنْهُمْ ; مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَعُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ لَا يَشُكُّونَ أَنَّ أَوَّلَ الْقَوْمِ إِسْلَامًا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قُلْتُ: وَهَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَسَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمَا قَالَا: لَمْ يَكُنْ أَوَّلَهُمْ إِسْلَامًا، وَلَكِنْ كَانَ أَفْضَلَهُمْ إِسْلَامًا، قَالَ سَعْدٌ: وَقَدْ آمَنَ قَبْلَهُ خَمْسَةٌ.
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا مَعَهُ إِلَّا خَمْسَةُ أَعْبُدٍ، وَامْرَأَتَانِ وَأَبُو بَكْرٍ.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ زِرٍّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ سَبْعَةٌ ; رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعَمَّارٌ وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ وَبِلَالٌ وَالْمِقْدَادُ فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرُعَ الْحَدِيدِ، وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا، إِلَّا بِلَالًا ; فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ، فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ. عَنْ مَنْصُورٍ. عَنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا.
فَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ قَائِلًا: أَخْبَرَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا كِنَانَةُ بْنُ جَبَلَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: أَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَوَّلُكُمْ إِسْلَامًا ؟ قَالَ: لَا، وَلَقَدْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِينَ، وَلَكِنْ كَانَ أَفْضَلَنَا إِسْلَامًا. فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ إِسْنَادًا وَمَتْنًا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. ثُمَّ

رَوَى مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: مَنْ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النِّسَاءِ ؟ قَالَ: خَدِيجَةُ. قُلْتُ: فَمِنَ الرِّجَالِ ؟ قَالَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. وَكَذَا قَالَ عُرْوَةُ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. وَقَدْ أَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِالْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ أَبُو بَكْرٍ وَمِنَ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ، وَمِنَ الْمَوَالِي زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَمِنَ الْغِلْمَانِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَأَظْهَرَ إِسْلَامَهُ، دَعَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مَأْلَفًا لِقَوْمِهِ، مُحَبَّبًا سَهْلًا، وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ، وَأَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَكَانَ رَجُلًا تَاجِرًا ذَا خُلُقٍ وَمَعْرُوفٍ، وَكَانَ رِجَالُ قَوْمِهِ يَأْتُونَهُ وَيَأْلَفُونَهُ، لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرِ لِعِلْمِهِ، وَتِجَارَتِهِ، وَحُسْنِ مُجَالَسَتِهِ، فَجَعَلَ يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ وَثِقَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ مِمَّنْ يَغْشَاهُ وَيَجْلِسُ إِلَيْهِ، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ فِيمَا بَلَغَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَانْطَلَقُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَأَنْبَأَهُمْ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، فَآمَنُوا، وَكَانَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ الثَّمَانِيَةُ الَّذِينَ سَبَقُوا فِي الْإِسْلَامِ فَصَدَّقُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

وَآمَنُوا بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَالِبِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: حَضَرْتُ سُوقَ بُصْرَى، فَإِذَا رَاهِبٌ فِي صَوْمَعَتِهِ، يَقُولُ سَلُوا أَهْلَ الْمَوْسِمِ: أَفِيهِمْ رَجُلٌ مَنْ أَهْلِ الْحَرَمِ ؟ قَالَ طَلْحَةُ: قُلْتُ: نَعَمْ أَنَا. فَقَالَ: هَلْ ظَهَرَ أَحْمَدُ بَعْدُ ؟ قُلْتُ: وَمَنْ أَحْمَدُ ؟ قَالَ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، هَذَا شَهْرُهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ، وَهُوَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، مَخْرَجُهُ مِنَ الْحَرَمِ، وَمُهَاجَرُهُ إِلَى نَخْلٍ، وَحَرَّةٍ، وَسِبَاخٍ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُسْبَقَ إِلَيْهِ. قَالَ طَلْحَةُ: فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا قَالَ. فَخَرَجْتُ سَرِيعًا حَتَّى قَدِمْتُ مَكَّةَ. فَقُلْتُ: هَلْ كَانَ مِنْ حَدَثٍ ؟ قَالُوا: نَعَمْ، مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَمِينُ تَنَبَّأَ، وَقَدِ اتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ. قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقُلْتُ: أَتَبِعْتَ هَذَا الرَّجُلَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَانْطَلِقْ إِلَيْهِ، فَادْخُلْ عَلَيْهِ، فَاتَّبِعْهُ ; فَإِنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ، فَأَخْبَرَهُ طَلْحَةُ بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ بِطَلْحَةَ فَدَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمَ طَلْحَةُ وَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ، فَسُّرَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةُ أَخَذَهُمَا نَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدِ بْنِ الْعَدَوِيَّةِ وَكَانَ يُدْعَى أَسَدَ قُرَيْشٍ فَشَدَّهُمَا فِي حَبْلٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمَا بَنُو تَيْمٍ ; فَلِذَلِكَ سُمِّي أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةُ الْقَرِينَيْنِ.

وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ اكْفِنَا شَرَّ ابْنِ الْعَدَوِيَّةِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَطْرَابُلُسِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعُمَرِيُّ قَاضِي الْمِصِّيصَةِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي أَبِي عُبَيْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَقِيَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فُقِدْتَ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِكَ، وَاتَّهَمُوكَ بِالْعَيْبِ لِآبَائِهَا وَأُمَّهَاتِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ كَلَامِهِ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ فَانْطَلَقَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ أَحَدٌ أَكْثَرُ سُرُورًا مِنْهُ بِإِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ وَمَضَى أَبُو بَكْرٍ فَرَاحَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَأَسْلَمُوا، ثُمَّ جَاءَ الْغَدَ بِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَبِي

سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ وَالْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ فَأَسْلَمُوا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ: فَحَدَّثَنِي أَبِي مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانُوا ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا، أَلَحَّ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الظُّهُورِ، فَقَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّا قَلِيلٌ ". فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُلِحُّ حَتَّى ظَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَفَرَّقَ الْمُسْلِمُونَ فِي نَوَاحِي الْمَسْجِدِ، كُلُّ رَجُلٍ فِي عَشِيرَتِهِ، وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ، فَكَانَ أَوَّلَ خَطِيبٍ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَثَارَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَضُرِبُوا فِي نَوَاحِي الْمَسْجِدِ ضَرْبًا شَدِيدًا، وَوُطِئَ أَبُو بَكْرٍ وَضُرِبَ ضَرْبًا شَدِيدًا، وَدَنَا مِنْهُ الْفَاسِقُ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِنَعْلَيْنِ مَخْصُوفَيْنِ وَيُحَرِّفُهُمَا لِوَجْهِهِ، وَنَزَا عَلَى بَطْنِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى مَا يُعْرَفُ وَجْهُهُ مِنْ أَنْفِهِ، وَجَاءَ بَنُو تَيْمٍ يَتَعَادَوْنَ، فَأَجْلَتِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَحَمَلَتْ بَنُو تَيْمٍ أَبَا بَكْرٍ فِي ثَوْبٍ حَتَّى أَدْخَلُوهُ مَنْزِلَهُ، وَلَا يَشُكُّونَ فِي مَوْتِهِ، ثُمَّ رَجَعَتْ بَنُو تَيْمٍ فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ لَنَقْتُلَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ. فَرَجَعُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَجَعَلَ أَبُو قُحَافَةَ وَبَنُو تَيْمٍ يُكَلِّمُونَ أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَجَابَ، فَتَكَلَّمَ آخِرَ النَّهَارِ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ فَمَسُّوا مِنْهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَعَذَلُوهُ، ثُمَّ قَامُوا، وَقَالُوا لِأُمِّهِ أُمِّ الْخَيْرِ: انْظُرِي أَنْ تُطْعِمِيهِ شَيْئًا، أَوْ تَسْقِيهِ إِيَّاهُ. فَلَمَّا خَلَتْ بِهِ أَلَحَّتْ عَلَيْهِ وَجَعَلَ يَقُولُ: مَا فَعَلَ

رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي عَلْمٌ بِصَاحِبِكَ. فَقَالَ: اذْهَبِي إِلَى أُمِّ جَمِيلِ بِنْتِ الْخَطَّابِ فَاسْأَلِيهَا عَنْهُ. فَخَرَجَتْ حَتَّى جَاءَتْ أُمَّ جَمِيلٍ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ يَسْأَلُكِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَتْ: مَا أَعْرِفُ أَبَا بَكْرٍ وَلَا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَإِنْ كُنْتِ تُحِبِّينَ أَنْ أَذْهَبَ مَعَكِ إِلَى ابْنِكِ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَمَضَتْ مَعَهَا حَتَّى وَجَدَتْ أَبَا بَكْرٍ صَرِيعًا دَنِفًا، فَدَنَتْ أُمُّ جَمِيلٍ وَأَعْلَنَتْ بِالصِّيَاحِ، وَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّ قَوْمَا نَالُوا هَذَا مِنْكَ لَأَهْلُ فِسْقٍ وَكُفْرٍ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَنْتَقِمَ اللَّهُ لَكَ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ قَالَتْ: هَذِهِ أَمُّكَ تَسْمَعُ. قَالَ: فَلَا شَيْءَ عَلَيْكِ مِنْهَا. قَالَتْ: سَالِمٌ صَالِحٌ. قَالَ: أَيْنَ هُوَ ؟ قَالَتْ: فِي دَارِ ابْنِ الْأَرْقَمِ. قَالَ: فَإِنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَذُوقَ طَعَامًا وَلَا أَشْرَبَ شَرَابًا أَوْ آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَأَمْهَلَتَا حَتَّى إِذَا هَدَأَتِ الرِّجْلُ وَسَكَنَ النَّاسُ، خَرَجَتَا بِهِ يَتَّكِئُ عَلَيْهِمَا حَتَّى أَدْخَلَتَاهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَأَكَبَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَبَّلَهُ، وَأَكَبَّ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَرَقَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِقَّةً شَدِيدَةً. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ بِي بَأْسٌ إِلَّا مَا نَالَ الْفَاسِقُ مِنْ وَجْهِي، وَهَذِهِ أُمِّي بَرَّةٌ بِوَلَدِهَا، وَأَنْتَ مُبَارَكٌ، فَادْعُهَا إِلَى اللَّهِ، وَادْعُ اللَّهَ لَهَا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَسْتَنْقِذَهَا بِكَ مِنَ النَّارِ. قَالَ: فَدَعَا لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعَاهَا إِلَى اللَّهِ، فَأَسْلَمَتْ، وَأَقَامُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الدَّارِ شَهْرًا، وَهُمْ تِسْعَةٌ

وَثَلَاثُونَ رَجُلًا. وَقَدْ كَانَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسْلَمَ يَوْمَ ضُرِبَ أَبُو بَكْرٍ وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَلِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ فَأَصْبَحَ عُمَرُ وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَأَسْلَمَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلُ الْبَيْتِ تَكْبِيرَةً سُمِعَتْ بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَخَرَجَ أَبُو الْأَرْقَمِ وَهُوَ أَعْمَى كَافِرٌ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِبَنِيَّ غَيْرَ الْأَرْقَمِ ; فَإِنَّهُ كَفَرَ. فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَا نُخْفِي دِينَنَا وَنَحْنُ عَلَى الْحَقِّ، وَيَظْهَرُ دِينُهُمْ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ. قَالَ: يَا عُمَرُ إِنَّا قَلِيلٌ قَدْ رَأَيْتَ مَا لَقِينَا. فَقَالَ عُمَرُ: فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا يَبْقَى مَجْلِسٌ جَلَسْتُ فِيهِ بِالْكُفْرِ إِلَّا أَظْهَرْتُ فِيهِ الْإِيمَانَ. ثُمَّ خَرَجَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ مَرَّ بِقُرَيْشٍ وَهِيَ تَنْتَظِرُهُ، فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: يَزْعُمُ فَلَانٌ أَنَّكَ صَبَأْتَ. فَقَالَ عُمَرُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَوَثَبَ الْمُشْرِكُونَ إِلَيْهِ، وَوَثَبَ عَلَى عُتْبَةَ فَبَرَكَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ يَضْرِبُهُ، وَأَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِي عَيْنَيْهِ، فَجَعَلَ عُتْبَةُ يَصِيحُ، فَتَنَحَّى النَّاسُ، فَقَامَ عُمَرُ فَجَعَلَ لَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ إِلَّا أَخَذَ شَرِيفَ مَنْ دَنَا مِنْهُ، حَتَّى أَعْجَزَ النَّاسَ، وَاتَّبَعَ الْمَجَالِسَ الَّتِي كَانَ يُجَالِسُ فِيهَا فَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَيْهِمْ، قَالَ: مَا عَلَيْكَ بِأَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا بَقِيَ مَجْلِسٌ كُنْتُ أَجْلِسُ فِيهِ بِالْكُفْرِ إِلَّا أَظْهَرْتُ فِيهِ الْإِيمَانَ غَيْرَ هَائِبٍ وَلَا خَائِفٍ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَرَجَ عُمَرُ أَمَامَهُ وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى طَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى الظُّهْرَ مُعْلِنًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى دَارِ الْأَرْقَمِ وَمَعَهُ عُمَرُ ثُمَّ

انْصَرَفَ عُمَرُ وَحْدَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالصَّحِيحُ أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ خُرُوجِ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَذَلِكَ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْبَعْثَةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا كَيْفِيَّةَ إِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي كِتَابِ سِيرَتِهِمَا عَلَى انْفِرَادِهَا، وَبَسَطْنَا الْقَوْلَ هُنَالِكَ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِ مَا بُعِثَ وَهُوَ بِمَكَّةَ، وَهُوَ حِينَئِذٍ مُسْتَخْفِيًا، فَقُلْتُ: مَا أَنْتَ ؟ قَالَ: " أَنَا نَبِيٌّ ". فَقُلْتُ: وَمَا النَّبِيُّ ؟ قَالَ: " رَسُولُ اللَّهِ ". قُلْتُ: آللَّهُ أَرْسَلَكَ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قُلْتُ: بِمَ أَرْسَلَكَ ؟ قَالَ: " بِأَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَكْسِرَ الْأَصْنَامَ، وَتَصِلَ الْأَرْحَامَ ". قَالَ: قُلْتُ: نِعْمَ مَا أَرْسَلَكَ بِهِ، فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا ؟ قَالَ: " حُرٌّ وَعَبْدٌ ". يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَبِلَالًا قَالَ: فَكَانَ عَمْرٌو يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا رُبُعُ الْإِسْلَامِ. قَالَ: فَأَسْلَمْتُ. قُلْتُ: فَأَتَّبِعُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " لَا، وَلَكِنِ الْحَقْ بِقَوْمِكَ، فَإِذَا أُخْبِرْتَ أَنِّي قَدْ خَرَجْتُ فَاتَّبِعْنِي ". وَيُقَالُ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " حُرٌّ وَعَبْدٌ ". اسْمُ جِنْسٍ، وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ بِأَبِي بَكْرٍ وَبِلَالٍ فَقَطْ فِيهِ نَظَرٌ ; فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ قَدْ أَسْلَمُوا قَبْلَ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ وَقَدْ كَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَسْلَمَ قَبْلَ بِلَالٍ أَيْضًا، فَلَعَلَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ رُبُعُ الْإِسْلَامِ بِحَسَبِ عِلْمِهِ ; فَإِنَّ

الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إِذْ ذَاكَ يَسْتَسِرُّونَ بِإِسْلَامِهِمْ لَا يَطَّلِعُ عَلَى أَمْرِهِمْ كَثِيرُ أَحَدٍ مِنْ قَرَابَاتِهِمْ، دَعِ الْأَجَانِبَ، دَعْ أَهْلَ الْبَادِيَةِ مِنَ الْأَعْرَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: مَا أَسْلَمَ أَحَدٌ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ، وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَإِنِّي لَثُلُثُ الْإِسْلَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ: مَا أَسْلَمَ أَحَدٌ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ، فَسَهْلٌ، وَيُرْوَى: إِلَّا فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ ; إِذْ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ بِالْإِسْلَامِ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الصِّدِّيقَ وَعَلِيًّا وَخَدِيجَةَ، وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ أَسْلَمُوا قَبْلَهُ، كَمَا قَدْ حَكَى الْإِجْمَاعُ عَلَى تَقَدُّمِ إِسْلَامِ هَؤُلَاءِ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْهُمُ ; ابْنُ الْأَثِيرِ وَنَصَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ هَؤُلَاءِ أَسْلَمَ قَبْلَ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَإِنِّي لَثُلُثُ الْإِسْلَامِ. فَمُشْكِلٌ ; وَمَا أَدْرِي عَلَى مَاذَا يُوضَعُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَخْبَرَ بِحَسَبِ مَا عَلِمَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا يَافِعًا أَرْعَى غَنَمًا لِعُقْبَةَ بْنِ

أَبِي مُعَيْطٍ بِمَكَّةَ، فَأَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَقَدْ فَرَّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ أَوْ فَقَالَا: عِنْدَكَ يَا غُلَامُ لَبَنٌ تَسْقِينَا ؟ قُلْتُ: إِنِّي مُؤْتَمَنٌ، وَلَسْتُ بِسَاقِيكُمَا. فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ جَذَعَةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ بَعْدُ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَأَتَيْتُهُمَا بِهَا، فَاعْتَقَلَهَا أَبُو بَكْرٍ وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الضَّرْعَ، وَدَعَا فَحَفَلَ الضَّرْعُ، وَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِصَخْرَةٍ مُتَقَعِّرَةٍ فَحَلَبَ فِيهَا، ثُمَّ شَرِبَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ ثُمَّ سَقَيَانِي، ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ: " اقْلِصْ ". فَقَلَصَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الطَّيِّبِ يَعْنِي الْقُرْآنَ فَقَالَ: " إِنَّكَ غُلَامٌ مُعَلَّمٌ ". فَأَخَذْتُ مِنْ فِيهِ سَبْعِينَ سُورَةً مَا يُنَازِعُنِي فِيهَا أَحَدٌ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَفَّانَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ. وَرَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ بِهِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ الْأَصْبِهَانِيُّ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْجَهْمِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَرَجِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: كَانَ إِسْلَامُ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ قَدِيمًا، وَكَانَ أَوَّلَ إِخْوَتُهُ أَسْلَمَ، وَكَانَ بَدْءُ إِسْلَامِهِ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ وُقِفَ بِهِ عَلَى شَفِيرِ النَّارِ، فَذَكَرَ مِنْ سِعَتِهَا مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَيَرَى فِي النَّوْمِ

كَأَنَّ آتِيًا أَتَاهُ يَدْفَعُهُ فِيهَا، وَيَرَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخِذًا بِحَقْوَيْهِ لَا يَقَعُ، فَفَزِعَ مِنْ نَوْمِهِ. فَقَالَ: أَحَلِفُ بِاللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ لِرُؤْيَا حَقٍّ. فَلَقِيَ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي قُحَافَةَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أُرِيدَ بِكَ خَيْرًا، هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاتَّبِعْهُ ; فَإِنَّكَ سَتَتَّبِعُهُ، وَتَدْخُلُ مَعَهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْإِسْلَامُ يَحْجِزُكَ أَنْ تَدْخُلَ فِيهَا، وَأَبُوكَ وَاقِعٌ فِيهَا. فَلَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِأَجْيَادَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِلَامَ تَدْعُو ؟ قَالَ: " أَدْعُو إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَتَخْلَعُ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ حَجَرٍ لَا يَسْمَعُ، وَلَا يُبْصِرُ، وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ، وَلَا يَدْرِي مَنْ عَبَدَهُ مِمَّنْ لَا يَعْبُدُهُ ". قَالَ خَالِدٌ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِسْلَامِهِ، وَتَغَيَّبَ خَالِدٌ وَعَلِمَ أَبُوهُ بِإِسْلَامِهِ، فَأَرْسَلَ فِي طَلَبِهِ، فَأُتِي بِهِ، فَأَنَّبَهُ، وَضَرَبَهُ بِمِقْرَعَةٍ فِي يَدِهِ حَتَّى كَسَرَهَا عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَمْنَعَنَّكَ الْقُوتَ. فَقَالَ خَالِدٌ: وَإِنْ مَنَعْتَنِي، فَإِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُنِي مَا أَعِيشُ بِهِ. وَانْصَرَفَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ يُكْرِمُهُ وَيَكُونُ مَعَهُ.

ذِكْرُ إِسْلَامِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ وَكَانَ وَاعِيَةً أَنَّ أَبَا جَهْلٍ اعْتَرَضَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الصَّفَا، فَآذَاهُ وَشَتَمَهُ، وَنَالَ مِنْهُ مَا يَكْرَهُ مِنَ الْعَيْبِ لِدِينِهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَأَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتَّى إِذَا قَامَ عَلَى رَأْسِهِ رَفَعَ الْقَوْسَ فَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَةً شَجَّهُ مِنْهَا شَجَّةً مُنْكَرَةً، وَقَامَتْ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ إِلَى حَمْزَةَ ; لِيَنْصُرُوا أَبَا جَهْلٍ مِنْهُ، وَقَالُوا: مَا نَرَاكَ يَا حَمْزَةُ إِلَّا قَدْ صَبَأْتَ. قَالَ حَمْزَةُ: وَمَنْ يَمْنَعُنِي وَقَدِ اسْتَبَانَ لِي مِنْهُ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ الَّذِي يَقُولُ حَقٌّ، فَوَاللَّهِ لَا أَنْزِعُ، فَامْنَعُونِي إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: دَعُوا أَبَا عُمَارَةَ ; فَإِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ سَبَبْتُ ابْنَ أَخِيهِ سَبًّا قَبِيحًا. فَلَمَّا أَسْلَمَ حَمْزَةُ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَزَّ وَامْتَنَعَ، فَكَفُّوا عَمَّا كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ مِنْهُ، وَقَالَ حَمْزَةُ فِي ذَلِكَ شِعْرًا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ رَجَعَ حَمْزَةُ إِلَى بَيْتِهِ، فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ: أَنْتَ سَيِّدُ قُرَيْشٍ، اتَّبَعْتَ هَذَا الصَّابِئَ، وَتَرَكْتَ دِينَ آبَائِكَ، لَلْمَوْتُ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا صَنَعْتَ. فَأَقْبَلَ عَلَى حَمْزَةَ بَثُّهُ، وَقَالَ: مَا صَنَعْتُ ! اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ رُشْدًا فَاجْعَلْ تَصْدِيقَهُ فِي قَلْبِي، وَإِلَّا فَاجْعَلْ لِي مِمَّا وَقَعْتُ فِيهِ مَخْرَجًا. فَبَاتَ بِلَيْلَةٍ لَمْ يَبِتْ بِمِثْلِهَا مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، حَتَّى أَصْبَحَ فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا بْنَ أَخِي، إِنِّي قَدْ وَقَعْتُ فِي أَمْرٍ لَا أَعْرِفُ الْمَخْرَجَ مِنْهُ، وَإِقَامَةُ مِثْلِي عَلَى مَا لَا أَدْرِي مَا هُوَ أَرُشْدٌ هُوَ أَمْ غَيٌّ، شَدِيدٌ، فَحَدِّثْنِي حَدِيثًا فَقَدِ اشْتَهَيْتُ يَا بْنَ أَخِي أَنْ تُحَدِّثَنِي. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَّرَهُ وَوَعَظَهُ، وَخَوَّفَهُ وَبَشَّرَهُ، فَأَلْقَى اللَّهُ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانَ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الصَّادِقُ شَهَادَةَ الصِّدْقِ، فَأَظْهِرْ يَا بْنَ أَخِي دِينَكَ، فَوَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ وَأَنِّي عَلَى دِينِيَ الْأَوَّلِ. فَكَانَ حَمْزَةُ مِمَّنْ أَعَزَّ اللَّهُ بِهِ الدِّينَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ بِهِ.

ذِكْرُ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرُّومِيِّ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ سِمَاكِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ مَالِكِ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: كُنْتُ رُبُعَ الْإِسْلَامِ ; أَسْلَمَ قَبْلِي ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، وَأَنَا الرَّابِعُ، أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَرَأَيْتُ الِاسْتِبْشَارَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هَذَا سِيَاقٌ مُخْتَصَرٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: إِسْلَامُ أَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنِ الْمُثَنَّى عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي، فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ ائْتِنِي. فَانْطَلَقَ الْأَخُ حَتَّى قَدِمَهُ، وَسَمِعَ مِنْ كَلَامِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَكَلَامًا مَا هُوَ بِالشِّعْرِ. فَقَالَ: مَا شَفَيْتَنِي مِمَّا أَرَدْتُ. فَتَزَوُّدَ وَحَمَلَ شَنَّةً فِيهَا مَاءٌ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَالْتَمَسَ

رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَعْرِفُهُ، وَكَرِهَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ، حَتَّى أَدْرَكَهُ بَعْضُ اللَّيْلِ اضْطَجَعَ، فَرَآهُ عَلِيٌّ فَعَرَفَ أَنَّهُ غَرِيبٌ، فَلَمَّا رَآهُ تَبِعَهُ، فَلَمْ يَسْأَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ احْتَمَلَ قِرْبَتَهُ وَزَادَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَظَلَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَا يَرَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَمْسَى فَعَادَ إِلَى مَضْجَعِهِ، فَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَمَا آنَ لِلرَّجُلِ يَعْلَمُ مَنْزِلَهُ ؟ فَأَقَامَهُ فَذَهَبَ بِهِ مَعَهُ لَا يَسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ، فَعَادَ عَلِيٌّ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَقَامَ مَعَهُ، فَقَالَ: أَلَا تُحَدِّثُنِي مَا الَّذِي أَقْدَمَكَ ؟ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي عَهْدًا وَمِيثَاقًا لَتُرْشِدَنِّي، فَعَلْتُ. فَفَعَلَ فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: فَإِنَّهُ حَقٌّ، وَإِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَاتَّبِعْنِي، فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ شَيْئًا أَخَافُ عَلَيْكَ قُمْتُ كَأَنِّي أُرِيقُ الْمَاءَ، وَإِنْ مَضَيْتُ فَاتَّبِعْنِي حَتَّى تَدْخُلَ مَدْخَلِي. فَفَعَلَ، فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَخَلَ مَعَهُ، فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي ". فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ قَامَ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ، فَأَتَى الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَيَلْكُمُ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ غِفَارٍ، وَأَنَّ طَرِيقَ تِجَارَتِكُمْ إِلَى الشَّامِ ؟ فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِ بِمِثْلِهَا، فَضَرَبُوهُ وَثَارُوا إِلَيْهِ، فَأَكَبَّ الْعَبَّاسُ عَلَيْهِ هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَقَدْ جَاءَ إِسْلَامُهُ مَبْسُوطًا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "، وَغَيْرِهِ:
فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ

حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَرَجْنَا مِنْ قَوْمِنَا غِفَارٍ وَكَانَ يُحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ أَنَا وَأَخِي أُنَيْسٌ وَأُمُّنَا، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى نَزَلْنَا عَلَى خَالٍ لَنَا ذِي مَالٍ وَذِي هَيْئَةٍ، فَأَكْرَمَنَا خَالُنَا وَأَحْسَنَ إِلَيْنَا، فَحَسَدَنَا قَوْمُهُ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ عَنْ أَهْلِكَ خَلَفَكَ إِلَيْهِمْ أُنَيْسٌ. فَجَاءَ خَالُنَا فَنَثَا مَا قِيلَ لَهُ. فَقُلْتُ لَهُ: أَمَّا مَا مَضَى مِنْ مَعْرُوفِكَ فَقَدْ كَدَّرْتَهُ وَلَا جِمَاعَ لَنَا فِيمَا بَعْدُ. قَالَ: فَقَرَّبْنَا صِرْمَتَنَا فَاحْتَمَلْنَا عَلَيْهَا، وَتَغَطَّى خَالُنَا ثَوْبَهُ وَجَعَلَ يَبْكِي. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى نَزَلْنَا حَضْرَةَ مَكَّةَ. قَالَ: فَنَافَرَ أُنَيْسٌ رَجُلًا عَنْ صِرْمَتِنَا وَعَنْ مِثْلِهَا، فَأَتَيَا الْكَاهِنَ فَخَيَّرَ أُنَيْسًا فَأَتَانَا بِصِرْمَتِنَا وَمِثْلِهَا، وَقَدْ صَلَّيْتُ يَا بْنَ أَخِي قَبْلَ أَنْ أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ سِنِينَ، قَالَ: قُلْتُ: لِمَنْ ؟ قَالَ: لِلَّهِ. قُلْتُ: فَأَيْنَ تَوَجَّهُ ؟ قَالَ: حَيْثُ وَجَّهَنِيَ اللَّهُ. قَالَ: وَأُصَلِّي عِشَاءً حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أُلْقِيتُ كَأَنِّي خِفَاءٌ حَتَّى تَعْلُوَنِي الشَّمْسُ. قَالَ: فَقَالَ أُنَيْسٌ: إِنَّ لِي حَاجَةً بِمَكَّةَ، فَاكْفِنِي حَتَّى آتِيَكَ.

قَالَ: فَانْطَلَقَ، فَرَاثَ عَلَيَّ، ثُمَّ أَتَانِي، فَقُلْتُ: مَا حَبَسَكَ ؟ قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ عَلَى دِينِكَ. قَالَ: فَقُلْتُ: مَا يَقُولُ النَّاسُ لَهُ ؟ قَالَ: يَقُولُونَ إِنَّهُ شَاعِرٌ وَسَاحِرٌ. وَكَانَ أُنَيْسٌ شَاعِرًا. قَالَ: فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ الْكُهَّانَ، فَمَا يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ، وَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ، فَوَاللَّهِ مَا يَلْتَئِمُ لِسَانَ أَحَدٍ أَنَّهُ شِعْرٌ، وَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ أَنْتَ كَافِيَّ حَتَّى أَنْطَلِقَ. قَالَ: نَعَمْ، وَكُنْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، عَلَى حَذَرٍ ; فَإِنَّهُمْ قَدْ شَنِفُوا لَهُ وَتَجَهَّمُوا لَهُ. قَالَ فَانْطَلَقْتُ حَتَّى قَدِمْتُ مَكَّةَ، فَتَضَعَّفْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَقُلْتُ: أَيْنَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي تَدْعُونَهُ الصَّابِئَ ؟ قَالَ: فَأَشَارَ إِلَيَّ، قَالَ: الصَّابِئُ. فَمَالَ أَهْلُ الْوَادِي عَلَيَّ بِكُلِّ مَدَرَةٍ وَعَظْمٍ حَتَّى خَرَرْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، فَارْتَفَعْتُ حِينَ ارْتَفَعْتُ كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَرُ، فَأَتَيْتُ زَمْزَمَ فَشَرِبْتُ مِنْ مَائِهَا وَغَسَلْتُ عَنِّي الدَّمَ، وَدَخَلْتُ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا، فَلَبِثْتُ بِهِ يَا بْنَ أَخِي ثَلَاثِينَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَا لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ،

فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ. قَالَ: فَبَيْنَا أَهْلُ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ قَمْرَاءَ إِضْحِيَانَ، وَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أَسْمِخَةِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ غَيْرُ امْرَأَتَيْنِ، فَأَتَتَا عَلَيَّ وَهُمَا تَدْعُوَانِ إِسَافًا وَنَائِلَةَ، فَقُلْتُ: أَنْكِحَا أَحَدَهُمَا الْآخَرَ. فَمَا ثَنَاهُمَا ذَلِكَ. فَقُلْتُ: وَهُنَّ مِثْلُ الْخَشَبَةِ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ. قَالَ: فَانْطَلَقَتَا تُوَلْوِلَانِ وَتَقُولَانِ: لَوْ كَانَ هَاهُنَا أَحَدٌ مِنْ أَنْفَارِنَا. قَالَ: فَاسْتَقْبَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا هَابِطَانِ مِنَ الْجَبَلِ، فَقَالَ: مَا لَكُمَا ؟ فَقَالَتَا: الصَّابِئُ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا. قَالَا مَا قَالَ لَكُمَا ؟ قَالَتَا: قَالَ لَنَا كَلِمَةً تَمْلَأُ الْفَمَ. قَالَ: وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ وَصَاحَبُهُ حَتَّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ صَلَّى. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: " عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، مِمَّنْ أَنْتَ ؟ " قَالَ: قُلْتُ: مِنْ غِفَارٍ. قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ فَوَضَعَهَا عَلَى جَبْهَتِهِ قَالَ:

فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كَرِهَ أَنِ انْتَمَيْتُ إِلَى غِفَارٍ. قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ آخُذَ بِيَدِهِ فَقَذَفَنِي صَاحِبُهُ، وَكَانَ أَعْلَمَ بِهِ مِنِّي. قَالَ: مَتَّى كَنْتَ هَاهُنَا ؟ قَالَ: قُلْتُ: كُنْتُ هَاهُنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ مِنْ بَيْنِ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ. قَالَ: فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ ؟ قُلْتُ: مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ، حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ ". قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي طَعَامِهِ اللَّيْلَةَ. قَالَ: فَفَعَلَ. قَالَ: فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمَا حَتَّى فَتَحَ أَبُو بَكْرٍ بَابًا، فَجَعَلَ يَقْبِضُ لَنَا مِنْ زَبِيبِ الطَّائِفِ. قَالَ: فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ طَعَامٍ أَكَلْتُهُ بِهَا، فَلَبِثْتُ مَا لَبِثْتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنِّي قَدْ وُجِّهْتُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ، وَلَا أَحْسَبُهَا إِلَّا يَثْرِبَ، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي قَوْمَكَ، لَعَلَّ اللَّهَ يَنْفَعُهُمْ بِكَ، وَيَأْجُرُكَ فِيهِمْ ". قَالَ: فَانْطَلَقْتُ، حَتَّى أَتَيْتُ أَخِي أُنَيْسًا قَالَ: فَقَالَ لِي: مَا صَنَعْتَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: صَنَعْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ. قَالَ: فَمَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكَ، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ. ثُمَّ أَتَيْنَا أُمَّنَا، فَقَالَتْ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكُمَا، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ. فَتَحَمَّلْنَا حَتَّى أَتَيْنَا قَوْمَنَاغِفَارًا، قَالَ: فَأَسْلَمَ بَعْضُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، وَكَانَ يَؤُمُّهُمْ خُفَافُ بْنُ إِيمَاءَ بْنِ رَحَضَةَ الْغِفَارِيُّ، وَكَانَ سَيِّدَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَقَالَ بَقِيَّتُهُمْ: إِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْلَمْنَا. فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمَ بَقِيَّتُهُمْ، قَالَ: وَجَاءَتْ أَسْلَمُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِخْوَانُنَا نُسْلِمُ عَلَى الَّذِي أَسْلَمُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ

عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِهِ نَحْوَهُ. وَقَدْ رَوَى قِصَّةَ إِسْلَامِهِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَفِيهِ زِيَادَاتٌ غَرِيبَةٌ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ إِسْلَامِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ فِي كِتَابِ الْبِشَارَاتِ بِمَبْعَثِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

ذِكْرُ إِسْلَامِ ضِمَادٍ
رَوَى مُسْلِمٌ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ ضِمَادٌ مَكَّةَ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَزِدِ شَنُوءَةَ، وَكَانَ يَرْقَى مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ سُفَهَاءِ النَّاسِ يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ. فَقَالَ: أَيْنَ هَذَا الرَّجُلُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَهُ عَلَى يَدَيَّ ؟ فَلَقِيتُ مُحَمَّدًا، فَقُلْتُ: إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيَاحِ، وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِي عَلَى يَدَيَّ مَنْ شَاءَ، فَهَلُمَّ. فَقَالَ مُحَمَّدٌ: " إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ". ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سُمِعْتُ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، فَهَلُمَّ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ. فَبَايَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: " وَعَلَى قَوْمِكَ ؟ ". فَقَالَ: وَعَلَى قَوْمِي. فَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَرِيَّةً، فَمَرُّوا بِقَوْمِ ضِمَادٍ، فَقَالَ صَاحِبُ الْجَيْشِ لِلسَّرِيَّةِ: هَلْ أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ شَيْئًا ؟فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَصَبْتُ مِنْهُمْ

مِطْهَرَةً. فَقَالَ: رُدَّهَا عَلَيْهِمْ ; فَإِنَّهُمْ قَوْمُ ضِمَادٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ لَهُ ضِمَادٌ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ ; فَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " إِسْلَامَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَعْيَانِ فَصْلًا طَوِيلًا، وَاسْتَقْصَى ذَلِكَ اسْتِقْصَاءً حَسَنًا، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَثَابَهُ.
وَقَدْ سَرَدَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَسْمَاءَ مَنْ أَسْلَمَ قَدِيمًا مِنَ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَ: ثُمَّ أَسْلَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو سَلَمَةَ وَالْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ وَامْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطَّابِ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَعَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَهِيَ صَغِيرَةٌ وَقُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَظْعُونٍ وَخَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ وَعُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَمَسْعُودُ بْنُ الْقَارِيِّ وَسَلِيطُ بْنُ عَمْرٍو وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَامْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ سَلَمَةَ بْنِ مُخَرِّبَةَ،

التَّمِيمِيَّةُ، وَخُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَأَبُو أَحْمَدَ بْنُ جَحْشٍ وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَامْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَحَاطِبُ بْنُ الْحَارِثِ وَامْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُجَلَّلِ، وَأَخُوهُ حَطَّابُ بْنُ الْحَارِثِ وَامْرَأَتُهُ فُكَيْهَةُ بَنْتُ يَسَارٍ، وَمَعْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيُّ وَالسَّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَالْمُطَّلِبُ بْنُ أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ وَامْرَأَتُهُ رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي عَوْفِ بْنِ صُبَيْرَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ، وَالنَّحَّامُ وَاسْمُهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسِيدٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ وَأُمَيْنَةُ ابْنَةُ خَلَفِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ مِنْ خُزَاعَةَ، وَحَاطِبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَرِينِ بْنِ ثَعْلَبَةَ التَّمِيمِيُّ

حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ، وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ وَعَامِرُ بْنُ الْبُكَيْرِ وَعَاقِلُ بْنُ الْبُكَيْرِ وَإِيَاسُ بْنُ الْبُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ نَاشِبِ بْنِ غِيرَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ وَكَانَ اسْمُ عَاقِلٍ غَافِلًا فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَاقِلًا وَهُمْ حُلَفَاءُ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ ثُمَّ دَخَلَ النَّاسُ أَرْسَالًا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، حَتَّى فَشَا أَمْرُ الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ وَتُحُدِّثَ بِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنَ الْبِعْثَةِ بِأَنْ يَصْدَعَ بِمَا أُمِرَ، وَأَنْ يَصْبِرَ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّوْا ذَهَبُوا فِي الشِّعَابِ، وَاسْتَخْفَوْا بِصَلَاتِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَبَيْنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي نَفَرٍ يُصَلُّونَ بِشِعَابِ مَكَّةَ إِذْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ، فَنَاكَرُوهُمْ وَعَابُوا عَلَيْهِمْ مَا يَصْنَعُونَ حَتَّى قَاتَلُوهُمْ، فَضَرَبَ سَعْدٌ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِلَحْيِ جَمَلٍ فَشَجَّهُ، فَكَانَ أَوَّلَ دَمٍ أُهْرِيقَ فِي الْإِسْلَامِ. وَرَوَى الْأُمَوِيُّ فِي " مَغَازِيهِ " مِنْ طَرِيقِ الْوَقَّاصِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا. وَفِيهِ أَنَّ الْمَشْجُوجَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ.

بَابُ أَمْرِ اللَّهِ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ إِلَى الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَأَمْرِهِ لَهُ بِالصَّبْرِ، وَالِاحْتِمَالِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِينَ الْمُعَانِدِينَ الْمُكَذِّبِينَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَإِرْسَالِ الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ إِلَيْهِمْ وَذِكْرِ مَا لَقِيَ مِنَ الْأَذِيَّةِ مِنْهُمْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [ الشُّعَرَاءِ: 214 - 220 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ. [ الزُّخْرُفِ: 44 ]

. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [ الْقِصَصِ: 85 ]. أَيْ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ وَأَوْجَبَ عَلَيْكَ تَبْلِيغَ الْقُرْآنِ لَرَادُّكَ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ وَهِيَ الْمَعَادُ، فَيَسْأَلُكَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [ الْأَعْرَافِ: 6 ]، وَقَالَ تَعَالَى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ الْحِجْرِ: 92، 93 ]. وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ تَقَصَّيْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا " التَّفْسِيرِ "، وَبَسَطْنَا مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الشُّعَرَاءِ " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وَأَوْرَدْنَا أَحَادِيثَ جَمَّةً فِي ذَلِكَ، فَمِنْ ذَلِكَ:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " أَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّفَا، فَصَعِدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ نَادَى: " يَا صَبَاحَاهُ ". فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ بَيْنَ رَجُلٍ يَجِيءُ إِلَيْهِ وَبَيْنَ رَجُلٍ يَبْعَثُ رَسُولَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي لُؤَيٍّ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، صَدَّقْتُمُونِي ". قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: " فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ".

فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَمَا دَعَوْتَنَا إِلَّا لِهَذَا ؟ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [ الْمَسَدِ: 1 ] وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ بِهِ نَحْوَهُ.
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا زَائِدَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرَيْشًا فَعَمَّ وَخَصَّ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا مَعْشَرَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ. وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَهُ طُرُقٌ أُخَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ " وَغَيْرِهِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَ " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ " أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: فَحَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ وَاسْتَكْتَمَنِي اسْمَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ "، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَرَفْتُ أَنِّي إِنْ بَادَأْتُ بِهَا قَوْمِي رَأَيْتُ مِنْهُمْ مَا أَكْرَهُ، فَصَمَتُّ، فَجَاءَنِيجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ بِهِ رَبُّكَ عَذَّبَكَ رَبُّكَ. قَالَ عَلِيٌّ: فَدَعَانِي، فَقَالَ: " يَا عَلِيُّ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُنْذِرَ عَشِيرَتِيَ الْأَقْرَبِينَ، فَاصْنَعْ لَنَا يَا عَلِيُّ شَاةً عَلَى صَاعٍ مِنْ

طَعَامٍ، وَأَعِدَّ لَنَا عُسَّ لَبَنٍ، ثُمَّ اجْمَعْ لِي بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ". فَفَعَلْتُ فَاجْتَمَعُوا لَهُ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، يَزِيدُونَ رَجُلًا أَوْ يَنْقُصُونَ، فِيهِمْ أَعْمَامُهُ ; أَبُو طَالِبٍ وَحَمْزَةُ وَالْعَبَّاسُ وَأَبُو لَهَبٍ الْكَافِرُ الْخَبِيثُ، فَقَدَّمْتُ إِلَيْهِمْ تِلْكَ الْجَفْنَةَ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا حِذْيَةً، فَشَقَّهَا بِأَسْنَانِهِ، ثُمَّ رَمَى بِهَا فِي نَوَاحِيهَا، وَقَالَ: " كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ ". فَأَكَلَ الْقَوْمُ حَتَّى نَهِلُوا عَنْهُ مَا يُرَى إِلَّا آثَارُ أَصَابِعِهِمْ، وَاللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَأْكُلُ مِثْلَهَا. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اسْقِهِمْ يَا عَلِيُّ ". فَجِئْتُ بِذَلِكَ الْقَعْبِ، فَشَرِبُوا مِنْهُ حَتَّى نَهِلُوا جَمِيعًا، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَشْرَبُ مِثْلَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُكَلِّمَهُمْ بَدَرَهُ أَبُو لَهَبٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: لَهَدَّ ! مَا سَحَرَكُمْ صَاحِبُكُمْ. فَتَفَرَّقُوا، وَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا عَلِيُّ عُدْ لَنَا بِمِثْلِ الَّذِي كُنْتَ صَنَعْتَ لَنَا بِالْأَمْسِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ; فَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ بِدَرَنِي إِلَى مَا سَمِعْتَ قَبْلَ أَنْ أُكَلِّمَ الْقَوْمَ ". فَفَعَلْتُ، ثُمَّ جَمَعْتُهُمْ لَهُ، فَصَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا صَنَعَ بِالْأَمْسِ، فَأَكَلُوا

حَتَّى نَهِلُوا عَنْهُ، وَايْمُ اللَّهِ، إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَأْكُلُ مِثْلَهَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اسْقِهِمْ يَا عَلِيُّ ". فَجِئْتُ بِذَلِكَ الْقَعْبِ فَشَرِبُوا مِنْهُ حَتَّى نَهِلُوا جَمِيعًا، وَايْمُ اللَّهِ، إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَيَشْرَبُ مِثْلَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ بَدَرَهُ أَبُو لَهَبٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، إِلَى الْكَلَامِ، فَقَالَ: " لَهَدَّ مَا سَحَرَكُمْ صَاحِبُكُمْ ! فَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا عَلِيُّ عُدْ لَنَا بِمِثْلِ الَّذِي كُنْتَ صَنَعْتَ بِالْأَمْسِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ; فَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ بِدَرَنِي إِلَى مَا سَمِعْتَ قَبْلَ أَنْ أُكَلِّمَ الْقَوْمَ ". فَفَعَلْتُ، ثُمَّ جَمَعْتُهُمْ لَهُ، فَصَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا صَنَعَ بِالْأَمْسِ، فَأَكَلُوا حَتَّى نَهِلُوا عَنْهُ، ثُمَّ سَقَيْتُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْقَعْبِ حَتَّى نَهِلُوا عَنْهُ، وَايْمُ اللَّهِ ! إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَيَأْكُلُ مِثْلَهَا وَيَشْرَبُ مِثْلَهَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ شَابًّا مِنَ الْعَرَبِ جَاءَ قَوْمَهُ بِأَفْضَلَ مِمَّا جِئْتُكُمْ بِهِ ; إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ". هَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ شَيْخٍ أَبْهَمَ اسْمَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ الرَّازِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْفَضْلِ الْأَبْرَشِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الْغَفَّارِ أَبِي مَرْيَمَ بْنِ الْقَاسِمِ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيٍّ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: " وَإِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ": " وَقَدْ

أَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أَدْعُوَكُمْ إِلَيْهِ، فَأَيُّكُمْ يُؤَازِرُنِي عَلَى هَذَا الْأَمْرِ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَخِي ". وَكَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ عَنْهَا جَمِيعًا، وَقُلْتُ وَلَإِنِّي لَأَحْدَثُهُمْ سِنًّا، وَأَرْمَصُهُمْ عَيْنًا، وَأَعْظَمُهُمْ بَطْنًا، وَأَحْمَشُهُمْ سَاقًا: أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَكُونُ وَزِيرَكَ عَلَيْهِ. فَأَخَذَ بِرَقَبَتِي، فَقَالَ: " إِنَّ هَذَا أَخِي، وَكَذَا وَكَذَا، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا ". قَالَ: فَقَامَ الْقَوْمُ يَضْحَكُونَ وَيَقُولُونَ لِأَبِي طَالِبٍ: قَدْ أَمَرَكَ أَنْ تَسْمَعَ لِابْنِكَ وَتُطِيعَ ! تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ الْقَاسِمِ أَبُو مَرْيَمَ وَهُوَ كَذَّابٌ شِيعِيٌّ، اتَّهَمَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ، وَضَعَّفَهُ الْبَاقُونَ. وَلَكِنْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ " عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عِيسَى بْنِ مَيْسَرَةَ الْحَارِثِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْقُدُّوسِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اصْنَعْ لِي رِجْلَ شَاةٍ بِصَاعٍ مِنْ طَعَامٍ، وَإِنَاءٍ لَبَنًا، وَادْعُ لِي بَنِي هَاشِمٍ، فَدَعَوْتُهُمْ، وَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ لَأَرْبَعُونَ غَيْرَ رَجُلٍ أَوْ أَرْبَعُونَ وَرَجُلٌ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ إِلَى أَنْ قَالَ: وَبَدَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَلَامَ

فَقَالَ: " أَيُّكُمْ يَقْضِي عَنِّي دَيْنِي، وَيَكُونُ خَلِيفَتِي فِي أَهْلِي ؟ ". قَالَ: فَسَكَتُوا وَسَكَتَ الْعَبَّاسُ خَشْيَةَ أَنْ يُحِيطَ ذَلِكَ بِمَالِهِ، قَالَ: وَسَكَتُّ أَنَا لِسِنِّ الْعَبَّاسِ ثُمَّ قَالَهَا مَرَّةً أُخْرَى، فَسَكَتَ الْعَبَّاسُ فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ، قُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " أَنْتَ ". قَالَ وَإِنِّي يَوْمَئِذٍ لَأَسْوَأُهُمْ هَيْئَةً، وَإِنِّي لَأَعْمَشُ الْعَيْنَيْنِ، ضَخْمُ الْبَطْنِ، حَمْشُ السَّاقَيْنِ. وَهَذِهِ الطَّرِيقُ فِيهَا شَاهِدٌ لِمَا تَقَدَّمَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عَبَّاسٍ فِيهَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " مِنْ حَدِيثِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيِّ وَرَبِيعَةَ بْنِ نَاجِذٍ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، أَوْ كَالشَّاهِدِ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: مَنْ يَقْضِي عَنِّي دَيْنِي وَيَكُونُ خَلِيفَتِي فِي أَهْلِي يَعْنِي: إِذَا مُتُّ، وَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَشِيَ إِذَا قَامَ بِإِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ إِلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَنْ يَقْتُلُوهُ، فَاسْتَوْثَقَ مَنْ يَقُومُ بَعْدَهُ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، وَيَقْضِي عَنْهُ، وَقَدْ أَمَّنَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ الْآيَةَ. [ الْمَائِدَةِ: 67 ]
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَمَرَّ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَيْلًا وَنَهَارًا، وَسِرًّا

وَجِهَارًا، لَا يَصْرِفُهُ عَنْ ذَلِكَ صَارِفٌ، وَلَا يَرُدُّهُ عَنْهُ رَادٌّ، وَلَا يَصُدُّهُ عَنْهُ صَادٌّ، يَتْبَعُ النَّاسَ فِي أَنْدِيَتِهِمْ وَمَجَامِعِهِمْ وَمَحَافِلِهِمْ، وَفِي الْمَوَاسِمِ، وَمَوَاقِفِ الْحَجِّ ; يَدْعُو مَنْ لَقِيَهُ مِنْ حُرٍّ وَعَبْدٍ، وَضَعِيفٍ وَقَوِيٍّ، وَغَنِيٍّ وَفَقِيرٍ، جَمِيعُ الْخَلْقِ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُ شَرَعٌ سَوَاءٌ، وَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ آحَادِ النَّاسِ مِنْ ضُعَفَائِهِمُ الْأَشِدَّاءُ الْأَقْوِيَاءُ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ بِالْأَذِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَيْهِ عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَامْرَأَتُهُ أُمُّ جَمِيلٍ أَرْوَى بِنْتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ طَبْعًا، فَكَانَ يَحْنُو عَلَيْهِ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِ، وَيُدَافِعُ عَنْهُ وَيُحَامِي، وَيُخَالِفُ قَوْمَهُ فِي ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ عَلَى دِينِهِمْ وَعَلَى خُلَّتِهِمْ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ امْتَحَنَ قَلْبَهُ بِحُبِّهِ حَبًّا طَبْعِيًّا لَا شَرْعِيًّا، فَكَانَ اسْتِمْرَارُهُ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِمَّا صَنَعَهُ لِرَسُولِهِ مِنَ الْحِمَايَةِ ; إِذْ لَوْ كَانَ أَسْلَمَ أَبُو طَالِبٍ لَمَا كَانَ لَهُ عِنْدَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَجَاهَةٌ وَلَا كَلِمَةٌ، وَلَا كَانُوا يَهَابُونَهُ وَيَحْتَرِمُونَهُ، وَلَاجْتَرَؤُوا عَلَيْهِ وَلَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ إِلَيْهِ، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ وَقَدْ قَسَّمَ خَلْقَهُ أَنْوَاعًا وَأَجْنَاسًا، فَهَذَانَ الْعَمَّانِ كَافِرَانِ أَبُو طَالِبٍ وَأَبُو لَهَبٍ وَلَكِنَّ هَذَا يَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَذَلِكَ فِي

الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ سُورَةً فِي كِتَابِهِ تُتْلَى عَلَى الْمَنَابِرِ، وَتُقْرَأُ فِي الْمَوَاعِظِ وَالْخُطَبِ، تَتَضَمَّنُ أَنَّهُ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ، يُقَالُ لَهُ: رَبِيعَةُ بْنُ عَبَّادٍ مِنْ بَنِي الدِّيلِ، وَكَانَ جَاهِلِيًّا فَأَسْلَمَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فِي سُوقِ ذِي الْمَجَازِ، وَهُوَ يَقُولُ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا ". وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ وَضِيءُ الْوَجْهِ، أَحْوَلُ، ذُو غَدِيرَتَيْنِ، يَقُولُ: إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ. يَتْبَعُهُ حَيْثُ ذَهَبَ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ، فَقَالُوا: هَذَا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ. ثُمَّ رَوَاهُ هُوَ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْفَقِيهُ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَزْهَرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ رَبِيعَةَ الدِّيلِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذِي الْمَجَازِ يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ، يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ أَحْوَلُ تَقِدُ وَجْنَتَاهُ، وَهُوَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ، وَدِينِ آبَائِكُمْ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ قِيلَ: هَذَا أَبُو لَهَبٍ.
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ كِنَانَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ، وَهُوَ يَقُولُ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا ". وَإِذَا رَجُلٌ خَلْفَهُ يُسْفِي عَلَيْهِ التُّرَابَ، وَإِذَا هُوَ أَبُو جَهْلٍ وَإِذَا هُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ تَتْرُكُوا عِبَادَةَ اللَّاتِ وَالْعُزَّى. كَذَا قَالَ: أَبُو جَهْلٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَبُو لَهَبٍ وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ تَرْجَمَتِهِ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا أَبُو طَالِبٍ فَكَانَ فِي غَايَةِ الشَّفَقَةِ وَالْحُنُوِّ الطَّبِيعِيِّ، كَمَا سَيَظْهَرُ مِنْ صَنَائِعِهِ، وَسَجَايَاهُ، وَاعْتِمَادِهِ فِيمَا يُحَامِي بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ أَخْبَرَنِي عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: جَاءَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ هَذَا قَدْ آذَانَا فِي نَادِينَا وَمَسْجِدِنَا، فَانْهَهُ عَنَّا. فَقَالَ: يَا عَقِيلُ انْطَلِقْ فَأْتِنِي بِمُحَمَّدٍ. فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ مِنْ كِبْسٍ أَوْ قَالَ حِفْشٍ يَقُولُ: بَيْتٍ صَغِيرٍ. فَجَاءَ بِهِ فِي الظَّهِيرَةِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ، قَالَ: إِنْ بَنِي عَمِّكَ هَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّكَ تُؤْذِيهِمْ فِي نَادِيهِمْ وَمَسْجِدِهِمْ، فَانْتَهِ عَنْ أَذَاهُمْ، فَحَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: " تَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ ". قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: " فَمَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَى أَنْ تَسْتَشْعِلُوا مِنْهَا شُعْلَةً ". فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَاللَّهِ مَا كَذَبَ ابْنُ أَخِي قَطُّ، فَارْجِعُوا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي " التَّارِيخِ " عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْهُ بِهِ. وَهَذَا لَفْظُهُ.

ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنَّهُ حُدِّثَ أَنَّ قُرَيْشًا حِينَ قَالَتْ لِأَبِي طَالِبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنْ قَوَّمَكَ قَدْ جَاءُونِي، وَقَالُوا كَذَا وَكَذَا، فَأَبْقِ عَلَيَّ وَعَلَى نَفْسِكَ، وَلَا تُحَمِّلْنِي مِنَ الْأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ أَنَا وَلَا أَنْتَ، فَاكْفُفْ عَنْ قَوْمِكَ مَا يَكْرَهُونَ مِنْ قَوْلِكَ، فَظَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ قَدْ بَدَا لِعَمِّهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ، وَضَعُفَ عَنِ الْقِيَامِ مَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا عَمِّ، لَوْ وُضِعَتِ الشَّمْسُ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرُ فِي يَسَارِي، مَا تَرَكْتُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِي طَلَبِهِ " ثُمَّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَكَى، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ لَهُ حِينَ رَأَى مَا بَلَغَ الْأَمْرُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا بْنَ أَخِي. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: امْضِ عَلَى أَمْرِكَ، وَافْعَلْ مَا أَحْبَبْتَ، فَوَاللَّهِ لَا أُسْلِمُكَ لِشَيْءٍ أَبَدًا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي ذَلِكَ
وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا فَامْضِي لِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ
أَبْشِرْ وَقَرَّ بِذَاكَ مِنْكَ عُيُونَا وَدَعَوْتَنِي وَعَلِمْتُ أَنَّكَ نَاصِحِي
فَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ قِدْمُ أَمِينَا وَعَرَضْتَ دِينًا قَدْ عَرَفْتُ بِأَنَّهُ
مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا

لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حَذَارِيَ سُبَّةً
لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينَا
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ لِأَبِي طَالِبٍ فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَصَمَهُ بِعَمِّهِ مَعَ خِلَافِهِ إِيَّاهُ فِي دِينِهِ، وَقَدْ كَانَ يَعْصِمُهُ حَيْثُ لَا يَكُونُ عَمُّهُ بِمَا شَاءَ، لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ قَدِيمًا مُنْذُ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ جَرَتْ بَيْنَ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا قَامَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ أَبَى إِلَّا مَا تَرَوْنَ ; مِنْ عَيْبِ دِينِنَا، وَشَتْمِ آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا، وَسَبِّ آلِهَتِنَا، وَإِنِّي أُعَاهِدُ اللَّهَ لَأَجْلِسُ لَهُ غَدًا بِحَجَرٍ، فَإِذَا سَجَدَ فِي صَلَاتِهِ، فَضَخْتُ بِهِ رَأْسَهُ، فَلْيَصْنَعْ بَعْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ مَا بَدَا لَهُمْ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ أَخَذَ حَجَرًا، ثُمَّ جَلَسَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْتَظِرُهُ، وَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا كَانَ يَغْدُو، وَكَانَتْ قِبْلَتُهُ الشَّامَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَّى بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْأَسْوَدِ وَالْيَمَانِيِّ، وَجَعَلَ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّامِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي، وَقَدْ غَدَتْ قُرَيْشٌ فَجَلَسُوا فِي أَنْدِيَتِهِمْ يَنْتَظِرُونَ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَمَلَ

أَبُو جَهْلٍ الْحَجَرَ، ثُمَّ أَقْبَلَ نَحْوَهُ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُ رَجَعَ مُنْبَهِتًا مُمْتَقِعًا لَوْنُهُ مَرْعُوبًا، قَدْ يَبِسَتْ يَدَاهُ عَلَى حِجْرِهِ، حَتَّى قَذَفَ الْحَجَرَ مِنْ يَدِهِ، وَقَامَتْ إِلَيْهِ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: لَهُ مَا بِكَ يَا أَبَا الْحَكَمِ ؟ فَقَالَ: قُمْتُ إِلَيْهِ لِأَفْعَلَ مَا قَلْتُ لَكُمُ الْبَارِحَةَ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ عَرَضَ لِي دُونَهُ فَحْلٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَامَتِهِ، وَلَا قَصَرَتِهِ، وَلَا أَنْيَابِهِ لِفَحْلٍ قَطُّ، فَهَمَّ أَنْ يَأْكُلَنِي. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " ذَلِكَ جِبْرِيلُ، لَوْ دَنَا مِنِّي لَأَخَذَهُ ".
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنِي أَبُو النَّضْرِ الْفَقِيهُ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ عَنْ أَبَانِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا فِي الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: إِنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ إِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا سَاجِدًا أَنْ أَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ. فَخَرَجْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِ أَبِي جَهْلٍ فَخَرَجَ غَضْبَانَ حَتَّى جَاءَ الْمَسْجِدَ، فَعَجَّلَ أَنْ يَدْخُلَ مِنَ الْبَابِ فَاقْتَحَمَ الْحَائِطَ، فَقُلْتُ: هَذَا يَوْمُ شَرٍّ. فَاتَّزَرْتُ ثُمَّ اتَّبَعْتُهُ. فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ [ الْعَلَقِ: 1، 2 ] فَلَمَّا بَلَغَ شَأْنَ أَبِي جَهْلٍ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [ الْعَلَقِ: 6، 7 ] فَقَالَ إِنْسَانٌ لِأَبِي جَهْلٍ: يَا أَبَا الْحَكَمِ هَذَا مُحَمَّدٌ.

فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَلَا تَرَوْنَ مَا أَرَى ؟ وَاللَّهِ لَقَدْ سَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ عَلَيَّ، فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخِرَ السُّورَةِ سَجَدَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا ". وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ. قَالَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ أَبُو جَهْلٍ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكَ أَنْ تُصَلِّيَ يَا مُحَمَّدُ ؟ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا بِهَا أَحَدٌ أَكْثَرَ نَادِيًا مِنِّي. فَانْتَهَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ جِبْرِيلُ: فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [ الْعَلَقِ: 17، 18 ] وَاللَّهِ لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ زَبَانِيَةُ الْعَذَابِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَزِيدَ أَبُو يَزِيدَ حَدَّثَنَا فُرَاتٌ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَآتِيَنَّهُ حَتَّى أَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ. قَالَ: فَقَالَ: " لَوْ فَعَلَ

لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا ".
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ عَادَ مُحَمَّدٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ لَأَقْتُلَنَّهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حَتَّى بَلَغَ مِنَ الْآيَةِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [ الْعَلَقِ: 15 - 18 ] فَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي، فَقِيلَ: مَا يَمْنَعُكَ ؟ قَالَ: قَدِ اسْوَدَّ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنَ الْكَتَائِبِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ لَوْ تَحَرَّكَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يُصَلِّي كَذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، وَلَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ. فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي ; لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ. قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا

وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ. قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ ؟ قَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقًا مِنْ نَارٍ، وَهَوْلًا، وَأَجْنِحَةً. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا ". قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَا أَدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَمْ لَا كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ طَرْخَانَ التَّيْمِيِّ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا عَلَى قُرَيْشٍ غَيْرَ يَوْمٍ وَاحِدٍ ; فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي، وَرَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ جُلُوسٌ، وَسَلَى جَزُورٍ قَرِيبٌ مِنْهُ، فَقَالُوا: مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّلَى فَيُلْقِيهِ عَلَى ظَهْرِهِ ؟ فَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ: أَنَا فَأَخَذَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَلَمْ يَزَلْ سَاجِدًا حَتَّى جَاءَتْ فَاطِمَةُ، فَأَخَذَتْهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِهَذَا الْمَلَأِ مِنْ قُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ أَوْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ شُعْبَةُ الشَّاكُّ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ

قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ جَمِيعًا، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ، غَيْرَ أُبَيٍّ أَوْ أُمَيَّةَ فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلًا ضَخْمًا فَتَقَطَّعَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ " صَحِيحِهِ " وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِهِ، وَالصَّوَابُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ ; فَإِنَّهُ الَّذِي قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَخُوهُ أُبَيٌّ إِنَّمَا قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَالسَّلَى: هُوَ الَّذِي يَخْرُجُ مَعَ وَلَدِ النَّاقَةِ كَالْمَشِيمَةِ لِوَلَدِ الْمَرْأَةِ.
وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ " الصَّحِيحِ " أَنَّهُمْ لَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ اسْتَضْحَكُوا، حَتَّى جَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ. أَيْ يَمِيلُ هَذَا عَلَى هَذَا مِنْ شِدَّةِ الضَّحِكِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَفِيهِ: أَنَّ فَاطِمَةَ لَمَّا أَلْقَتْهُ عَنْهُ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ فَسَبَّتْهُمْ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ رَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ سَكَنَ عَنْهُمُ الضَّحِكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا عَلَى الْمَلَأِ مِنْهُمْ جُمْلَةً، وَعَيَّنَ فِي دُعَائِهِ سَبْعَةً، وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ تَسْمِيَةُ سِتَّةٍ مِنْهُمْ، وَهُمْ: عُتْبَةُ وَأَخُوهُ شَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَنَسِيتُ السَّابِعَ. قُلْتُ: وَهُوَ عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ وَقَعَ تَسْمِيَتُهُ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ".

قِصَّةُ الْإِرَاشِيِّ
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الثَّقَفِيُّ قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ إِرَاشٍ بِإِبِلٍ لَهُ مَكَّةَ، فَابْتَاعَهَا مِنْهُ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فَمَطَلَهُ بِأَثْمَانِهَا، فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى نَادِي قُرَيْشٍ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَنْ رَجُلٌ يُعْدِينِي عَلَى أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ ; فَإِنِّي غَرِيبٌ وَابْنُ سَبِيلٍ، وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقِّي ؟ فَقَالَ أَهْلُ الْمَجْلِسِ: تَرَى ذَلِكَ الرَّجُلَ ؟ وَهُمْ يَهْزَؤُونَ بِهِ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِمَا يَعْلَمُونَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي جَهْلٍ مِنَ الْعَدَاوَةِ: اذْهَبْ إِلَيْهِ، فَهُوَ يُؤَدِّيكَ عَلَيْهِ، فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَامَ مَعَهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامَ مَعَهُ، قَالُوا لِرَجُلٍ مِمَّنْ مَعَهُمْ: اتْبَعْهُ فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُ ؟ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى جَاءَهُ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: " مُحَمَّدٌ، فَاخْرُجْ ". فَخَرَجَ إِلَيْهِ، وَمَا فِي وَجْهِهِ قَطْرَةُ دَمٍ، وَقَدِ انْتُقِعَ لَوْنُهُ، فَقَالَ: " أَعْطِ هَذَا الرَّجُلَ حَقَّهُ ". فَقَالَ: لَا تَبْرَحْ حَتَّى أُعْطِيَهُ الَّذِي لَهُ. قَالَ: فَدَخَلَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ بِحَقِّهِ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ

لِلْإِرَاشِيِّ: " الْحَقْ بِشَأْنِكَ ". فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَقَالَ: جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا ; فَقَدْ أَخَذْتُ الَّذِي لِي. وَجَاءَ الرَّجُلُ الَّذِي بَعَثُوا مَعَهُ، فَقَالُوا: وَيْحَكَ، مَاذَا رَأَيْتَ ؟ قَالَ: عَجَبًا مِنَ الْعَجَبِ، وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ، فَخَرَجَ وَمَا مَعَهُ رُوحُهُ، فَقَالَ: " أَعْطِ هَذَا الرَّجُلَ حَقَّهُ ". فَقَالَ: نَعَمْ، لَا تَبْرَحْ حَتَّى أُخْرِجَ إِلَيْهِ حَقَّهُ، فَدَخَلَ فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ حَقَّهُ فَأَعْطَاهُ. ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالُوا لَهُ: وَيْلَكَ مَا لَكَ ؟ ! فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَنَعْتَ ؟ فَقَالَ: وَيْحَكُمُ، وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيَّ بَابِي، وَسَمِعْتُ صَوْتَهُ، فَمُلِئْتُ رُعْبًا، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَيْهِ، وَإِنَّ فَوْقَ رَأْسِهِ لَفَحْلًا مِنَ الْإِبِلِ، مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَامَتِهِ، وَلَا قَصَرَتِهِ، وَلَا أَنْيَابِهِ لِفَحْلٍ قَطُّ، فَوَاللَّهِ لَوْ أَبَيْتُ لَأَكَلَنِي.

فَصْلٌ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِو بْنَ الْعَاصِ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي حِجْرِ الْكَعْبَةِ، إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ [ غَافِرٍ: 28 ] الْآيَةَ تَابَعَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
وَقَالَ عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قِيلَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. قَالَ

الْبَيْهَقِيُّ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ كَمَا رَوَاهُ عَبْدَةُ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَقَدْ رَوَاهُ فِي أَمَاكِنَ مِنْ " صَحِيحِهِ "، وَصَرَّحَ فِي بَعْضِهَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ أَشْبَهُ لِرِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْهُ، وَكَوْنُهُ عَنْ عَمْرٍو أَشْبَهُ لِتَقَدُّمِ هَذِهِ الْقِصَّةِ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: مَا أَكْثَرُ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشًا أَصَابَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا كَانَتْ تُظْهِرُهُ مِنْ عَدَاوَتِهِ، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْمًا فِي الْحِجْرِ، فَذَكَرُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ، سَفَّهَ أَحْلَامَنَا، وَشَتَمَ آبَاءَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَسَبَّ آلِهَتَنَا وَصَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، أَوْ كَمَا قَالُوا. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ طَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقْبَلَ يَمْشِي حَتَّى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ فَغَمَزُوهُ بِبَعْضِ الْقَوْلِ، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَضَى فَلَمَّا مَرَّ بِهِمُ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَعَرَفْتُهَا فِي وَجْهِهِ، فَمَضَى، ثُمَّ مَرَّ الثَّالِثَةَ فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَقَالَ: " أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ ". فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حَتَّى مَا مِنْهُمْ مِنْ رَجُلٍ

إِلَّا وَكَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ، حَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ وَصَاةً قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَؤُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ: انْصَرِفْ أَبَا الْقَاسِمِ رَاشِدًا، فَمَا كُنْتَ بِجَهُولٍ. فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ حَتَّى إِذَا بَادَأَكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ ! فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ طَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ: أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا ؟ لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمْ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ، فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نَعَمْ، أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ ". وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ أَخَذَ بِمَجَامِعِ رِدَائِهِ، وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ يَبْكِي دُونَهُ، وَيَقُولُ: وَيْلَكُمْ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَأَكْثَرُ مَا رَأَيْتُ قُرَيْشًا بَلَغَتْ مِنْهُ قَطُّ

فَصْلٌ ( فِي تَأْلِيبِ الْمَلَأِ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، وَاجْتِمَاعِهِمْ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ الْقَائِمِ فِي مَنْعِهِ وَنُصْرَتِهِ، وَحِرْصِهِمْ عَلَيْهِ أَنْ يُسْلِمَهُ إِلَيْهِمْ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِحَوَلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ )
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ

وَأُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا مَا يُوَارِي إِبِطَ بِلَالٍ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ وَمَنَعَهُ، وَقَامَ دُونَهُ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَمْرِ اللَّهِ مُظْهِرًا لِدِينِهِ لَا يَرُدُّهُ عَنْهُ شَيْءٌ، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُعْتِبُهُمْ مِنْ شَيْءٍ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ مِنْ فِرَاقِهِمْ، وَعَيْبِ آلِهَتِهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ قَدْ حَدِبَ عَلَيْهِ، وَقَامَ دُونَهُ، فَلَمْ يُسْلِمْهُ لَهُمْ، مَشَى رِجَالٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ إِلَى أَبِي طَالِبٍ ; عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَّيٍّ وَأَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَاسْمُهُ الْعَاصُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَّيٍّ وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَأَبُو جَهْلٍ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقْظَةَ

بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ وَنُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ بْنِ عَامِرِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَهْمٍ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَوْ مَنْ مَشَى مِنْهُمْ فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ قَدْ سَبَّ آلِهَتَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَسَفَّهَ أَحْلَامَنَا، وَضَلَّلَ آبَاءَنَا، فَإِمَّا أَنْ تَكُفَّهُ عَنَّا وَإِمَّا أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَإِنَّكَ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ فَنَكْفِيكَهُ. فَقَالَ لَهُمْ أَبُو طَالِبٍ قَوْلًا رَفِيقًا، وَرَدَّهُمْ رَدًّا جَمِيلًا، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، يُظْهِرُ دِينَ اللَّهِ وَيَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرَى الْأَمْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، حَتَّى تَبَاعَدَ الرِّجَالُ وَتَضَاغَنُوا، وَأَكْثَرَتْ قُرَيْشٌ ذِكْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهَا، فَتَوَامَرُوا فِيهِ، وَحَضَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَشَوْا إِلَىأَبِي طَالِبٍ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ إِنَّ لَكَ سِنًّا وَشَرَفًا وَمَنْزِلَةً فِينَا، وَإِنَّا قَدِ اسْتَنْهَيْنَاكَ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَلَمْ تَنْهَهُ عَنَّا، وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا نَصْبِرُ عَلَى هَذَا ; مِنْ شَتْمِ آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا، وَعَيْبِ آلِهَتِنَا، حَتَّى تَكُفَّهُ عَنَّا أَوْ نُنَازِلَهُ وَإِيَّاكَ فِي ذَلِكَ، حَتَّى يَهْلِكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ. أَوْ كَمَا قَالُوا. ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَعَظُمَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ فِرَاقُ قَوْمِهِ وَعَدَاوَتُهُمْ، وَلَمْ يَطِبْ نَفْسًا بِإِسْلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا خِذْلَانِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنَّهُ حُدِّثَ أَنَّ قُرَيْشًا حِينَ قَالُوا لِأَبِي طَالِبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فَقَالَ لَهُ: يَا بْنَ أَخِي، إِنْ قَوْمَكَ قَدْ جَاءُونِي، فَقَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا لِلَّذِي قَالُوا لَهُ فَأَبْقِ عَلَيَّ وَعَلَى نَفْسِكَ، وَلَا تُحَمِّلْنِي مِنَ الْأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ. قَالَ: فَظَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَدْ بَدَا لِعَمِّهِ فِيهِ بِدَاءٌ، وَأَنَّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ، وَأَنَّهُ قَدْ ضَعُفَ عَنْ نُصْرَتِهِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا عَمِّ، وَاللَّهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي، عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ ". قَالَ: ثُمَّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَكَى، ثُمَّ قَامَ، فَلَمَّا وَلَّى نَادَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: أَقْبِلْ يَا بْنَ أَخِي. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: اذْهَبْ يَا بْنَ أَخِي، فَقُلْ مَا أَحْبَبْتَ، فَوَاللَّهِ لَا أُسْلِمُكَ لِشَيْءٍ أَبَدًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا حِينَ عَرَفُوا أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَدْ أَبَى خِذْلَانَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِسْلَامَهُ، وَإِجْمَاعَهُ لِفِرَاقِهِمْ فِي ذَلِكَ وَعَدَاوَتِهِ، مَشَوْا إِلَيْهِ بِعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالُوا لَهُ فِيمَا بَلَغَنِي: يَا أَبَا طَالِبٍ هَذَا عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ أَنَهَدُ فَتًى فِي قُرَيْشٍ، وَأَجْمَلُهُ فَخُذْهُ، فَلَكَ عَقْلُهُ وَنَصْرُهُ، وَاتَّخِذْهُ وَلَدًا فَهُوَ لَكَ، وَأَسْلِمْ إِلَيْنَا ابْنَ أَخِيكَ هَذَا الَّذِي قَدْ خَالَفَ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ، وَفَرَّقَ جَمَاعَةَ قَوْمِكَ، وَسَفَّهَ أَحْلَامَهَا، فَنَقْتُلَهُ، فَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ بِرَجُلٍ. قَالَ: وَاللَّهِ لَبِئْسَ مَا تَسُومُونَنِي ! أَتُعْطُونَنِي ابْنَكُمْ أَغْذُوهُ لَكُمْ، وَأُعْطِيكُمُ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ ! هَذَا وَاللَّهِ مَا لَا يَكُونُ أَبَدًا. قَالَ: فَقَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ

عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ: وَاللَّهِ يَا أَبَا طَالِبٍ لَقَدْ أَنْصَفَكَ قَوْمُكَ، وَجَهَدُوا عَلَى التَّخَلُّصِ مِمَّا تَكْرَهُ، فَمَا أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا. فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ لِلْمُطْعِمِ: وَاللَّهِ مَا أَنْصَفُونِي، وَلَكِنَّكَ قَدْ أَجْمَعْتَ خِذْلَانِي، وَمُظَاهَرَةَ الْقَوْمِ عَلَيَّ، فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ. أَوْ كَمَا قَالَ، فَحَقِبَ الْأَمْرُ، وَحَمِيَتِ الْحَرْبُ، وَتَنَابَذَ الْقَوْمُ، وَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ عِنْدَ ذَلِكَ، يُعَرِّضُ بِالْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ وَيَعُمُّ مَنْ خَذَلَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَمَنْ عَادَاهُ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ، وَيَذْكُرُ مَا سَأَلُوهُ وَمَا تَبَاعَدَ مِنْ أَمْرِهِمْ:
أَلَا قُلْ لِعَمْرٍو وَالْوَلِيدِ وَمُطْعِمٍ أَلَا لَيْتَ حَظِّي مِنْ حِيَاطَتِكُمْ بَكْرُ مِنَ الْخُورِ حَبْحَابٌ كَثِيرٌ رُغَاؤُهُ
يُرَشُّ عَلَى السَّاقَيْنِ مِنْ بَوْلِهِ قَطْرُ تَخَلَّفَ خَلْفَ الْوِرْدِ لَيْسَ بِلَاحِقٍ
إِذَا مَا عَلَا الْفَيْفَاءَ قِيلَ لَهُ وَبْرُ أَرَى أَخَوَيْنَا مِنْ أَبِينَا وَأُمِّنَا
إِذَا سُئِلَا قَالَا إِلَى غَيْرِنَا الْأَمْرُ بَلَى لَهُمَا أَمْرٌ وَلَكِنْ تَجَرْجَمَا
كَمَا جَرْجَمَتْ مِنْ رَأْسِ ذِي عَلَقٍ الصَّخْرُ أَخُصُّ خُصُوصًا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا
هُمَا نَبَذَانَا مِثْلَ مَا نُبِذَ الْجَمْرُ هُمَا أَغْمَزَا لِلْقَوْمِ فِي أَخَوَيْهِمَا
فَقَدْ أَصْبَحَا مِنْهُمْ أَكُفُّهُمَا صُفْرُ

هُمَا أَشْرَكَا فِي الْمَجْدِ مَنْ لَا أَبَا لَهُ
مِنَ النَّاسِ إِلَّا أَنْ يُرَسَّ لَهُ ذِكْرُ وَتَيْمٌ وَمَخْزُومٌ وَزُهْرَةُ مِنْهُمُ
وَكَانُوا لَنَا مَوْلًى إِذَا بُغِيَ النَّصْرُ فَوَاللَّهِ لَا تَنْفِكُّ مِنَّا عَدَاوَةٌ
وَلَا مِنْكُمُ مَا دَامَ مِنْ نَسْلِنَا شَفْرُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَتَرَكْنَا مِنْهَا بَيْتَيْنِ أَقْذَعَ فِيهِمَا.

فَصْلٌ فِي مُبَالَغَتِهِمْ فِي الْأَذِيَّةِ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا تَذَامَرُوا بَيْنَهُمْ عَلَى مَنْ فِي الْقَبَائِلِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ أَسْلَمُوا مَعَهُ، فَوَثَبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يُعَذِّبُونَهُمْ وَيَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَمَنَعَ اللَّهُ مِنْهُمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ قَامَ أَبُو طَالِبٍ حِينَ رَأَى قُرَيْشًا يَصْنَعُونَ مَا يَصْنَعُونَ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فَدَعَاهُمْ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقِيَامِ دُونَهُ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، وَقَامُوا مَعَهُ، وَأَجَابُوهُ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي لَهَبٍ عَدُوِّ اللَّهِ فَقَالَ فِي ذَلِكَ: يَمْدَحُهُمْ وَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى مَا وَافَقُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَدَبِ وَالنُّصْرَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
إِذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا قُرَيْشٌ لِمَفْخَرٍ فَعَبْدُ مَنَافٍ سِرُّهَا وَصَمِيمُهَا وَإِنْ حُصِّلَتْ أَشْرَافُ عَبْدِ مَنَافِهَا
فَفِي هَاشِمٍ أَشْرَافُهَا وَقَدِيمُهَا وَإِنْ فَخَرَتْ يَوْمًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا
هُوَ الْمُصْطَفَى مِنْ سِرِّهَا وَكَرِيمُهَا

تَدَاعَتْ قُرَيْشٌ غَثُّهَا وَسَمِينُهَا
عَلَيْنَا فَلَمْ تَظْفَرْ وَطَاشَتْ حُلُومُهَا وَكُنَّا قَدِيمًا لَا نُقِرُّ ظُلَامَةً
إِذْ مَا ثَنَوْا صُغْرَ الرِّقَابِ نُقِيمُهَا وَنَحْمِي حِمَاهَا كُلَّ يَوْمِ كَرِيهَةٍ
وَنَضْرِبُ عَنْ أَحْجَارِهَا مَنْ يَرُومُهَا بِنَا انْتَعَشَ الْعُودُ الذَّوَاءُ وَإِنَّمَا
بِأَكْنَافِنَا تَنْدَى وَتَنْمِي أُرُومُهَا

فَصْلٌ
فِيمَا اعْتَرَضَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا تَعَنَّتُوا عَلَيْهِ فِي أَسْئِلَتِهِمْ إِيَّاهُ أَنْوَاعًا مِنَ الْآيَاتِ، وَخَرْقِ الْعَادَاتِ، عَلَى وَجْهِ الْعِنَادِ، لَا عَلَى وَجْهِ طَلَبِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ ; فَلِهَذَا لَمْ يُجَابُوا إِلَى كَثِيرٍ مِمَّا طَلَبُوا، وَلَا مَا إِلَيْهِ رَغِبُوا ; لِعِلْمِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَوْ عَايَنُوا وَشَاهَدُوا مَا أَرَادُوا، لَاسْتَمَرُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَلَظَلُّوا فِي غَيِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ. [ الْأَنْعَامِ: 109 - 111 ] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [ يُونُسَ: 96 - 97 ]

وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [ الْإِسْرَاءِ: 59 ] وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [ الْإِسْرَاءِ: 90 - 93 ]. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا يُشَابِهُهَا فِي أَمَاكِنِهَا فِي التَّفْسِيرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ رَوَى يُونُسُ وَزِيَادٌ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ شَيْخٌ مَنْ أَهْلِ مِصْرَ يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اجْتَمَعَ عِلْيَةٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ وَعَدَّدَ أَسْمَاءَهُمْ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ابْعَثُوا إِلَى مُحَمَّدٍ فَكَلِّمُوهُ وَخَاصِمُوهُ حَتَّى تُعْذِرُوا فِيهِ. فَبَعَثُوا إِلَيْهِ إِنَّ أَشْرَافَ قَوْمِكَ قَدِ اجْتَمَعُوا لَكَ لِيُكَلِّمُوكَ. فَجَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَرِيعًا، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُمْ فِي أَمْرِهِ بَدَاءٌ، وَكَانَ حَرِيصًا يُحِبُّ رُشْدَهُمْ، وَيَعِزُّ عَلَيْهِ عَنَتُهُمْ، حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا قَدْ بَعَثْنَا إِلَيْكَ لِنُعْذِرَ فِيكَ، وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا

نَعْلَمُ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ أَدْخَلَ عَلَى قَوْمِهِ مَا أَدْخَلْتَ عَلَى قَوْمِكَ ; لَقَدْ شَتَمْتَ الْآبَاءَ، وَعِبْتَ الدِّينَ، وَسَفَّهْتَ الْأَحْلَامَ، وَشَتَمْتَ الْآلِهَةَ، وَفَرَّقْتَ الْجَمَاعَةَ، وَمَا بَقِيَ مِنْ قَبِيحٍ إِلَّا وَقَدْ جِئْتَهُ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا جِئْتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَطْلُبُ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تَطْلُبُ الشَّرَفَ فِينَا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنَّ كُنْتَ تُرِيدُ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ رَئِيًّا تَرَاهُ قَدْ غَلَبَ عَلَيْكَ وَكَانُوا يُسَمُّونَ التَّابِعَ مِنَ الْجِنِّ الرَّئِيَّ فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ، بَذَلْنَا أَمْوَالَنَا فِي طَلَبِ الطِّبِّ حَتَّى نُبْرِئَكَ مِنْهُ أَوْ نُعْذِرَ فِيكَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا بِي مَا تَقُولُونَ، مَا جِئْتُكُمْ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا الشَّرَفَ فِيكُمْ، وَلَا الْمُلْكَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا نَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ". أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، فَإِنْ كُنْتَ غَيْرَ قَابِلٍ مِنَّا مَا عَرَضْنَا عَلَيْكَ، فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَضْيَقَ بِلَادًا، وَلَا أَقَلَّ مَالًا، وَلَا أَشَدَّ عَيْشًا مِنَّا. فَسَلْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي بَعَثَكَ بِمَا بَعَثَكَ بِهِ فَلْيُسَيِّرْ عَنَّا هَذِهِ الْجِبَالَ الَّتِي قَدْ ضَيَّقَتْ عَلَيْنَا، وَلَيَبْسُطْ لَنَا بِلَادَنَا، وَلْيُجْرِ فِيهَا أَنْهَارًا كَأَنْهَارِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَلْيَبْعَثْ لَنَا مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِنَا، وَلْيَكُنْ فِيمَنْ يُبْعَثُ لَنَا مِنْهُمْ قُصَّيُّ بْنُ كِلَابٍ ; فَإِنَّهُ كَانَ شَيْخًا صَدُوقًا، فَنَسْأَلَهُمْ عَمَّا تَقُولُ أَحَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ ؟ فَإِنْ فَعَلْتَ مَا سَأَلْنَاكَ وَصَدَّقُوكَ، صَدَّقْنَاكَ وَعَرَفْنَا بِهِ مَنْزِلَتَكَ

عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ بَعَثَكَ رَسُولًا كَمَا تَقُولُ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا بِهَذَا بُعِثْتُ، إِنَّمَا جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ، فَقَدْ بَلَّغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوهُ، فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ، أَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ". قَالُوا: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ لَنَا هَذَا فَخُذْ لِنَفْسِكَ ; فَسَلْ رَبَّكَ أَنْ يَبْعَثَ لَنَا مَلَكًا يُصَدِّقُكَ بِمَا تَقُولُ، وَيُرَاجِعُنَا عَنْكَ، وَتَسْأَلُهُ فَيَجْعَلُ لَنَا جِنَانًا وَكُنُوزًا وَقُصُورًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَيُغْنِيكَ عَمَّا نَرَاكَ تَبْتَغِي، فَإِنَّكَ تَقُومُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَتَلْتَمِسُ الْمَعَايِشَ كَمَا نَلْتَمِسُهُ، حَتَّى نَعْرِفَ فَضْلَ مَنْزِلَتِكَ مِنْ رَبِّكَ، إِنَّ كُنْتَ رَسُولًا كَمَا تَزْعُمُ. فَقَالَ لَهُمْ: " مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، مَا أَنَا بِالَّذِي يَسْأَلُ رَبَّهُ هَذَا، وَمَا بُعِثْتُ إِلَيْكُمْ بِهَذَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَإِنْ تَقْبَلُوا مَا جِئْتُكُمْ بِهِ، فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ، أَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ". قَالُوا: فَأَسْقِطِ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ أَنَّ رَبَّكَ إِنْ شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلَ. فَقَالَ: " ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ فَعَلَ بِكُمْ ذَلِكَ ". فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، مَا عَلِمَ رَبُّكَ أَنَّا سَنَجْلِسُ مَعَكَ، وَنَسْأَلُكَ عَمَّا سَأَلْنَاكَ عَنْهُ، وَنَطْلُبُ مِنْكَ مَا نَطْلُبُ، فَيَتَقَدَّمُ إِلَيْكَ وَيُعْلِمُكَ مَا تُرَاجِعُنَا بِهِ، وَيُخْبِرُكَ مَا هُوَ صَانِعٌ فِي ذَلِكَ بِنَا إِذَا لَمْ نَقْبَلْ مِنْكَ مَا جِئْتَنَا بِهِ ؟ فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ إِنَّمَا يُعَلِّمُكَ هَذَا رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ، يُقَالُ لَهُ: الرَّحْمَنُ. وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِالرَّحْمَنِ أَبَدًا، فَقَدْ أَعْذَرْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، أَمَا وَاللَّهِ لَا نَتْرُكُكَ وَمَا فَعَلْتَ بِنَا حَتَّى نُهْلِكَكَ أَوْ تُهْلِكَنَا. وَقَالَ قَائِلُهُمْ: نَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَهِيَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقَالَ قَائِلُهُمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَأْتِيَنَا بِاللَّهِ

وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا. فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُمْ وَقَامَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَخْزُومٍ وَهُوَ ابْنُ عَمَّتِهِ عَاتِكَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عَرَضَ عَلَيْكَ قَوْمُكَ مَا عَرَضُوا فَلَمْ تَقْبَلْهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ لِأَنْفُسِهِمْ أُمُورًا ; لِيَعْرِفُوا بِهَا مَنْزِلَتَكَ مِنَ اللَّهِ فَلَمْ تَفْعَلْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ أَنْ تُعَجِّلَ مَا تُخَوِّفُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، فَوَاللَّهِ لَا أُومِنُ لَكَ أَبَدًا، حَتَّى تَتَّخِذَ إِلَى السَّمَاءِ سُلَّمًا، ثُمَّ تَرْقَى فِيهِ وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى تَأْتِيَهَا وَتَأْتِيَ مَعَكَ بِنُسْخَةٍ مَنْشُورَةٍ، وَمَعَكَ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَكَ أَنَّكَ كَمَا تَقُولُ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَظَنَنْتُ أَنِّي لَا أُصَدِّقُكَ. ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَهْلِهِ حَزِينًا أَسِفًا ; لِمَا فَاتَهُ مِمَّا طَمِعَ فِيهِ مِنْ قَوْمِهِ حِينَ دَعَوْهُ وَلِمَا رَأَى مِنْ مُبَاعَدَتِهِمْ إِيَّاهُ
وَهَذَا الْمَجْلِسُ الَّذِي اجْتَمَعَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْمَلَأُ مَجْلِسُ ظُلْمٍ وَعُدْوَانٍ وَعِنَادٍ، وَلِهَذَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ وَالرَّحْمَةُ الرَّبَّانِيَّةُ أَلَّا يُجَابُوا لِي مَا سَأَلُوا ; لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ، فَيُعَاجِلُهُمْ بِالْعَذَابِ.
كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، وَأَنْ يُنَحِّيَ عَنْهُمُ الْجِبَالُ فَيَزْدَرِعُوا، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ أَنْ

تَسْتَأْنِيَ بِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُؤْتِيَهُمُ الَّذِي سَأَلُوا، فَإِنْ كَفَرُوا أُهْلِكُوا كَمَا أُهْلِكَتْ مَنْ قَبْلَهُمْ. قَالَ: " لَا، بَلْ أَسَتَأْنِي بِهِمْ ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا [ الْإِسْرَاءِ: 59 ] الْآيَةَ وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ عِمْرَانَ أَبِي الْحَكَمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَجْعَلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا وَنُؤْمِنُ بِكَ. قَالَ: " وَتَفْعَلُونَ ؟ ". قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: فَدَعَا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَكَ: إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ الصَّفَا لَهُمْ ذَهَبًا، فَمَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَذَّبْتُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ لَهُمْ بَابَ الرَّحْمَةِ وَالتَّوْبَةِ. قَالَ: " بَلِ التَّوْبَةُ وَالرَّحْمَةُ ". وَهَذَانَ إِسْنَادَانِ جَيِّدَانِ، وَقَدْ جَاءَ مُرْسَلًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ ; مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، فَقُلْتُ: لَا يَا رَبُّ، أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَإِذَا جُعْتُ، تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ، حَمِدْتُكَ وَشَكَرْتُكَ ". لَفْظُ أَحْمَدَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ مَنْ أَهْلِ مِصْرَ قَدِمَ عَلَيْنَا مُنْذُ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَعَقَبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالُوا لَهُمَا: سَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ وَصِفَا لَهُمْ صِفَتَهُ، وَأَخْبِرَاهُمْ بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمْ عِلْمُ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ. فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ، فَسَأَلَا أَحْبَارَ يَهُودَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَصَفَا لَهُمْ أَمْرَهُ وَبَعْضَ قَوْلِهِ، وَقَالَا: إِنَّكُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَقَدْ جِئْنَاكُمْ لِتُخْبِرُونَا عَنْ صَاحِبِنَا هَذَا. قَالَ: فَقَالَتْ لَهُمْ أَحْبَارُ يَهُودَ: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِنَّ فَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرَّجُلُ مُتَقَوِّلٌ، فَرَوا فِيهِ رَأْيَكُمْ ; سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ ؟ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجِيبٌ، وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ

طَافَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، مَا كَانَ نَبَؤُهُ ؟ وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، مَا هِيَ ؟ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِذَلِكَ فَهُوَ نَبِيٌّ فَاتَّبِعُوهُ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْكُمْ فَهُوَ رَجُلٌ مُتَقَوِّلٌ، فَاصْنَعُوا فِي أَمْرِهِ مَا بَدَا لَكُمْ. فَأَقْبَلَ النَّضْرُ وَعُقْبَةُ حَتَّى قَدِمَا عَلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، قَدْ أَمَرَنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ أُمُورٍ. فَأَخْبَرَاهُمْ بِهَا. فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنَا. فَسَأَلُوهُ عَمَّا أَمَرُوهُمْ بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أُخْبِرُكُمْ غَدًا بِمَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ ". وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، وَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، لَا يُحْدِثُ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَحْيًا، وَلَا يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ، حَتَّى أَرْجَفَ أَهْلُ مَكَّةَ، وَقَالُوا: وَعَدَنَا مُحَمَّدٌ غَدًا، وَالْيَوْمَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، قَدْ أَصْبَحْنَا فِيهَا لَا يُخْبِرُنَا بِشَيْءٍ مِمَّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ، وَحَتَّى أَحْزَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكْثُ الْوَحْيِ عَنْهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِسُورَةِ