الاثنين، 2 أغسطس 2021

27//2. البداية والنهاية

 

27//2. البداية والنهاية  

 فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لِي: مَا أَحْسَنَ تَوَاضُعَ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ ! قَالَ: قُلْتُ: زِدْنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ تِيهُ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ. قَالَ: وَرَفَعَ لِي كَفَّهُ فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ:
قَدْ كُنْتَ مَيْتًا فَصِرْتَ حَيًّا وَعَنْ قَلِيلٍ تَصِيرُ مَيْتَا فَابْنِ بِدَارِ الْبَقَاءِ بَيْتًا
وَدَعْ بِدَارِ الْفَنَاءِ بَيْتَا
قَالَ ابْنُ بَطَّةَ: مَاتَ الْخِرَقِيُّ بِدِمَشْقَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَزُرْتُ قَبْرَهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُوسَى
الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْعِرَاقِيِّينَ فِي زَمَانِهِ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِبَغْدَادَ لِلْمُتَّقِي، ثُمَّ لِلْمُسْتَكْفِي، وَكَانَ ثِقَةً فَاضِلًا، كَبَسَتِ اللُّصُوصُ دَارَهُ فَظَنُّوهُ أَنَّهُ ذُو مَالٍ، فَضَرَبَهُ بَعْضُهُمْ ضَرْبَةً أَثْخَنَتْهُ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ إِلَى السُّطُوحِ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ إِلَى الْأَرْضِ، فَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو الْفَضْلِ السُّلَمِيُّ، الْوَزِيرُ الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ الشَّاعِرُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَجَمَعَ وَصَنَّفَ، وَكَانَ يَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ وَلَا يَدَعُ صَلَاةَ اللَّيْلِ وَالتَّصْنِيفَ، وَكَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ الشَّهَادَةَ كَثِيرًا،

فَوَلِيَ الْوِزَارَةَ لِلسُّلْطَانِ، فَقَصَدَهُ الْأَجْنَادُ يُطَالِبُونَهُ بِأَرْزَاقِهِمْ، وَاجْتَمَعَ مِنْهُمْ بِبَابِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَاسْتَدْعَى بِحَلَّاقٍ فَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَتَنَوَّرَ وَتَطَيَّبَ وَلَبِسَ كَفَنَهُ، وَقَامَ يُصَلِّي، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَهُوَ سَاجِدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْإِخْشِيدُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طُغْجِ بْنِ جُفَّ أَبُو بَكْرٍ
الْمُلَقَّبَ بِالْإِخْشِيدِ، وَمَعْنَاهُ مَلِكُ الْمُلُوكِ، لَقَّبَهُ بِذَلِكَ الرَّاضِي ; لِأَنَّهُ كَانَ مَلِكَ فَرْغَانَةَ وَكُلُّ مَنْ مَلَكَهَا كَانَ يُسَمَّى الْإِخْشِيدَ كَمَا أَنَّ مَنْ مَلَكَ أُشْرُوسَنَةَ يُسَمَّى الْإِفْشِينَ، وَمَنْ مَلَكَ خُوَارِزْمَ يُسَمَّى خَوَارِزْمَ شَاهَ، وَمَنْ مَلَكَ جُرْجَانَ يُسَمَّى صُولَ، وَمَنْ مَلَكَ أَذْرَبِيجَانَ يُسَمَّى إِصْبَهْبَذَ، وَمَنْ مَلَكَ طَبَرِسْتَانَ يُسَمَّى سَالَارَ. قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ".
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي مَنْ مَلَكَ الشَّامَ مَعَ الْجَزِيرَةِ كَافِرًا قَيْصَرَ، وَمَنْ مَلَكَ الْفُرْسَ يُسَمَّى كِسْرَى، وَمَنْ مَلَكَ الْيَمَنَ يُسَمَّى تُبَّعًا، وَمَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةَ النَّجَاشِيَّ وَمَنْ مَلَكَ الْهِنْدَ بَطْلَيْمُوسَ، وَمَنْ مَلَكَ

مِصْرَ كَافِرًا يُسَمَّى فِرْعَوْنُ، وَمَنْ مَلَكَ إِسْكَنْدَرِيَّةَ يُسَمَّى الْمُقَوْقِسَ وَذَكَرَ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ، وَنُقِلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَدُفِنَ هُنَاكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَبُو بَكْرٍ الشَّبْلِيُّ
أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، اخْتَلَفُوا فِي اسْمِهِ عَلَى أَقْوَالٍ، فَقِيلَ: دُلَفُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَيُقَالُ: دُلَفُ بْنُ جَحْدَرٍ، وَقِيلَ: جَعْفَرُ بْنُ يُونُسَ. أَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: شِبْلِيَّةُ. مِنْ بِلَادِ أُشْرُوسَنَةَ مِنْ خُرَاسَانَ وَوُلِدَ بِسَامَرَّاءَ، وَكَانَ أَبُوهُ حَاجِبَ الْحُجَّابِ لِلْمُوَفَّقِ، وَكَانَ خَالُهُ نَائِبَ إِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَكَانَتْ تَوْبَةُ الشِّبْلِيِّ عَلَى يَدَيْ خَيْرٍ النَّسَّاجِ، سَمِعَهُ يَعِظُ، فَوَقَعَ كَلَامُهُ فِي قَلْبِهِ، فَتَابَ مِنْ فَوْرِهِ، ثُمَّ صَحِبَ الْفُقَرَاءَ وَالْمَشَايِخَ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَئِمَّةِ الْقَوْمِ.

قَالَ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: كَانَ الشِّبْلِيُّ تَاجَ هَؤُلَاءِ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مَحْمُودٍ الزَّوْزَنِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمُثَنَّى التَّمِيمِيَّ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى الشِّبْلِيِّ فِي دَارِهِ، وَهُوَ يَهِيجُ وَيَقُولُ:
عَلَى بُعْدِكَ لَا يَصْبِ رُ مَنْ عَادَتُهُ الْقُرْبُ
وَلَا يَقْوَى عَلَى حَجْبِ كَ مَنْ تَيَّمَهُ الْحُبُّ
فَإِنْ لَمْ تَرَكَ الْعَيْنُ فَقَدْ يُبْصِرُكَ الْقَلْبُ
وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِمَّنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَلَّاجِ وَوَافَقَهُ فِي بَعْضِ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَقْوَالِ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ لِمَا تَحْتَهَا، مِمَّا كَانَ الْحَلَّاجُ يُحَاوِلُهُ مِنَ الْإِلْحَادِ وَالِاتِّحَادِ.
وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِخَادِمِهِ: قَدْ كَانَ عَلَيَّ دِرْهَمٌ مِنْ مَظْلِمَةٍ، فَتَصَدَّقْتُ عَنْ صَاحِبِهِ بِأُلُوفٍ، وَمَعَ هَذَا مَا عَلَى قَلْبِي شُغُلٌ أَعْظَمَ مِنْهُ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يُوَضِّئَهُ، فَوَضَّأَهُ وَتَرَكَ تَخْلِيلَ لِحْيَتِهِ، فَرَفَعَ يَدَهُ - وَكَانَ قَدِ اعْتُقِلَ

لِسَانُهُ - فَجَعَلَ يُخَلِّلُ لِحْيَةَ نَفْسِهِ.
وَذَكَرَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " وَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ يَوْمًا عَلَى الْجُنَيْدِ، فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَصَفَّقَ وَأَنْشَدَ:
عَوَّدُونِي الْوِصَالَ وَالْوَصْلُ عَذْبٌ وَرَمَوْنِي بِالصَّدِّ وَالصَّدُّ صَعْبُ
زَعَمُوا حِينَ أَزْمَعُوا أَنَّ ذَنْبِي فَرْطُ حُبِّي لَهُمْ وَمَا ذَاكَ ذَنْبُ
لَا وَحَقِّ الْخُضُوعِ عِنْدَ التَّلَاقِي مَا جَزَا مَنْ يُحِبُّ إِلَّا يُحَبُّ
وَمِمَّا كَانَ يُنْشِدُهُ الشِّبْلِيُّ مِنَ الْأَشْعَارِ الرَّقِيقَةِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ " تَارِيخِهِ ":
أُسَائِلُكُمْ عَنْهَا فَهَلْ مِنْ مُخَبِّرٍ فَمَا لِي بِنُعْمَى بَعْدَ مُكْثَتِنَا عِلْمُ
فَلَوْ كُنْتُ أَدْرِي أَيْنَ خَيَّمَ أَهْلُهَا وَأَيَّ بِلَادِ اللَّهِ إِذْ ظَعَنُوا أَمُّوا
إِذًا لَسَلَكْنَا مَسْلَكَ الرِّيحِ خَلْفَهَا وَلَوْ أَصْبَحَتْ نُعْمَى وَمِنْ دُونِهَا النَّجْمُ
وَمِنْ ذَلِكَ:
أُسَائِلُ عَنْ سَلْمَى فَهَلْ مِنْ مُخَبِّرٍ بِأَنَّ لَهُ عِلْمًا بِهَا أَيْنَ تَنْزِلُ
ثُمَّ يَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ، وَمَا فِي الدَّارَيْنِ عَنْكَ مُخْبِرٌ.
قُلْتُ: وَفِي هَذَا شَطْحٌ ; فَقَدْ خَبَّرَتْ عَنْهُ تَعَالَى الرُّسُلُ بِالْحَقِّ وَنَطَقُوا

بِالصِّدْقِ. وَكَانَ يَقُولُ: لَيْسَ لِعَارِفٍ عَلَامَةٌ، وَلَا لِمُحِبٍّ شَكْوَى، وَلَا لِعَبْدٍ دَعْوَى، وَلَا لِخَائِفٍ قَرَارٌ، وَلَا مِنَ اللَّهِ فِرَارٌ.
وَكَانَ الشِّبْلِيُّ يَقُولُ: الْعَارِفُ صَدْرُهُ مَشْرُوحٌ، وَقَلْبُهُ مَجْرُوحٌ، وَجَسَدُهُ مَطْرُوحٌ، وَالْعَارِفُ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ، وَعَرَفَ مُرَادَ اللَّهِ، وَعَمِلَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ، وَأَعْرَضَ عَمَّا نَهَى اللَّهُ، وَدَعَا عِبَادَ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَالصُّوفِيُّ مَنْ صَفَّى قَلْبَهُ مِنَ الْكَدَرِ فَصَفَا، وَسَلَكَ طَرِيقَ الْمُصْطَفَى، وَرَمَى الدُّنْيَا خَلْفَ الْقَفَا، وَأَذَاقَ الْهَوَى طَعْمَ الْجَفَا.
وَقَالَ أَيْضًا: الصُّوفِيُّ مَنْ صَفَا مِنَ الْكَدَرِ، وَخَلَصَ مِنَ الْغِيَرِ، وَامْتَلَأَ مِنَ الْفِكَرِ، وَتَسَاوَى عِنْدَهُ الذَّهَبُ وَالْمَدَرُ.
وَمِمَّا كَانَ يُنْشِدُهُ:
أَظَلَّتْ عَلَيْنَا مِنْكِ يَوْمًا سَحَابَةٌ أَضَاءَتْ لَنَا بَرْقًا وَأَبْطَا رَشَاشُهَا
فَلَا غَيْمُهَا يَجْلُو فَيَيْأَسَ طَامِعٌ وَلَا غَيْثُهَا يَأْتِي فَيَرْوَى عِطَاشُهَا
وَسُئِلَ: هَلْ يَتَحَقَّقُ الْعَارِفُ بِمَا يَبْدُو لَهُ مِنَ الْآثَارِ ؟ فَقَالَ: كَيْفَ يَتَحَقَّقُ بِمَا لَا يَثْبُتُ ؟ وَكَيْفَ يَطْمَئِنُّ إِلَى مَا لَا يَظْهَرُ ؟ وَكَيْفَ يَأْنَسُ بِمَا يَخْفَى ؟ فَهُوَ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
فَمَنْ كَانَ فِي طُولِ الْهَوَى ذَاقَ سَلْوَةً فَإِنِّي مَنْ لَيْلَى لَهَا غَيْرُ ذَائِقِ

وَأَكْثَرُ شَيْءٍ نِلْتُهُ مِنْ وِصَالِهَا أَمَانِيُّ لَمْ تَصْدُقْ كَلَمْحَةِ بَارِقِ
وَكَانَ يَقُولُ: الدُّنْيَا خَيَالٌ، وَظِلُّهَا وَبَالٌ، وَتَرْكُهَا جَمَالٌ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا كَمَالٌ، وَالْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ اتِّصَالٌ:
لَتُحْشَرَنَّ عِظَامِي بَعْدَ إِذْ بَلِيتُ يَوْمَ الْحِسَابِ وَفِيهَا حُبُّكُمْ عَلِقُ
وَسُئِلَ الشِّبْلِيُّ: هَلْ يَتَسَلَّى الْحَبِيبُ بِشَيْءٍ مِنْ حَبِيبِهِ دُونَ مُشَاهَدَتِهِ ؟ فَأَنْشَدَ:
وَاللَّهِ لَوْ أَنَّكَ تَوَّجْتَنِي بِتَاجِ كِسْرَى مَلِكِ الْمَشْرِقِ
وَلَوْ بِأَمْوَالِ الْوَرَى جُدْتَ لِي أَمْوَالِ مَنْ بَادَ وَمَنْ قَدْ بَقِي
وَقُلْتَ لَا نَلْتَقِي سَاعَةً اخْتَرْتُ يَا مَوُلَايَ أَنْ نَلْتَقِي
وَكَانَ يُنْشِدُ أَيْضًا:
إِذَا نَحْنُ أَدْلَجْنَا وَأَنْتَ أَمَامَنَا كَفَى لِمَطَايَانَا بِذِكْرِكَ هَادِيًا
وَكَانَ يُنْشِدُ أَيْضًا:
وَلَوْ أَنَّ رَكْبًا أَمَّمُوكَ لَقَادَهُمْ نَسِيمُكَ حَتَّى يَسْتَدِلَّ بِكَ الرَّكْبُ
إِذَا أَبْصَرَتْكَ الْعَيْنُ مِنْ بَعْدِ غَايَةٍ وَعَارَضَ فِيكَ الشَّكُّ أَثْبَتَكَ الْقَلْبُ

وَكَانَ يُنْشِدُ أَيْضًا:
لَيْسَ تَخْلُو جَوَارِحِي مِنْكَ وَقْتًا هِيَ مَشْغُولَةٌ بِحَمْلِ هَوَاكَا
لَيْسَ يَجْرِي عَلَى لِسَانِي شَيْءٌ عَلِمَ اللَّهُ ذَا سِوَى ذِكْرَاكَا
وَتَمَثَّلْتَ حَيْثُ كُنْتَ بِعَيْنِي فَهِيَ إِنْ غِبْتَ أَوْ حَضَرْتَ تَرَاكَا
وَكَانَ يُنْشِدُ أَيْضًا:
عَجِبْتُ لِمَنْ يَقُولُ نَسِيتُ إِلْفِي وَهَلْ أَنْسَى فَأَذْكُرُ مَنْ هَوِيتُ
أَمُوتُ إِذَا ذَكَرْتُكَ ثُمَّ أَحْيَا وَلَوْلَا مَا أُؤَمِّلُ مَا حَيِيتُ
فَأَحْيَا بِالْمُنَى وَأَمُوتُ شَوْقًا فَكَمْ أَحْيَا عَلَيْكَ وَكَمْ أَمُوتُ
جَعَلْتُ الصَّمْتَ سِتْرَ الْحُبِّ حَتَّى تَكَلَّمَتِ الْجُفُونُ بِمَا لَقِيتُ
شَرِبْتُ الْحُبَّ كَأْسًا بَعْدَ كَأْسٍ فَمَا نَفِدَ الشَّرَابُ وَمَا رَوِيتُ
وَقَالَ أَيْضًا: التَّصَوُّفُ تَرْوِيحُ الْقَلْبِ بِمَرَاوِحِ الصَّفَاءِ، وَتَجْلِيلُ الْخَوَاطِرِ بِأَرْدِيَةِ الْوَفَاءِ، وَالتَّخَلُّقُ بِالسَّخَاءِ، وَالْبِشْرُ فِي اللِّقَاءِ.
وَنَظَرَ يَوْمًا إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ فَأَنْشَأَ:
أَمَّا الْخِيَامُ فَإِنَّهَا كَخِيَامِهِمْ وَأَرَى نِسَاءَ الْحَيِّ غَيْرَ نِسَائِهَا
وَقَالَ أَيْضًا:

إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا، فَانْظُرْ إِلَى الْمَزْبَلَةِ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى نَفْسِكَ فَخُذْ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ ; فَإِنَّكَ مِنْهَا خُلِقْتَ، وَفِيهَا تَعَودُ، وَمِنْهَا تَخْرُجُ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَا أَنْتَ، فَانْظُرْ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْكَ عِنْدَ الْخَلَاءِ، فَلَا تَتَطَاوَلْ وَلَا تَتَكَبَّرْ عَلَى مَنْ هُوَ مِثْلُكَ.
وَكَانَ يُنْشِدُ:
وَتَحْسَبُنِي حَيًّا وَإِنِّي لَمَيِّتٌ وَبَعْضِي مِنَ الْهِجْرَانِ يَبْكِي عَلَى بَعْضِ
وَأَنْشَدَ أَيْضًا:
وَكَذَّبْتُ طَرَفِي فِيكَ وَالطَّرْفُ صَادِقٌ وَأَسْمَعْتُ أُذْنِي فِيكَ مَا لَيْسَ تَسَمَعُ
وَلَمْ أَسْكُنِ الْأَرْضَ الَّتِي تَسْكُنُونَهَا لِكَيْ لَا يَقُولُوا إِنَّنِي بِكَ مُولَعُ
فَلَا كَبِدِي تَهْدَا وَلَا فِيكَ رَحْمَةٌ وَلَا عَنْكَ إِقْصَارٌ وَلَا فِيكَ مَطْمَعُ
وَأَنْشَدَ أَيْضًا:
فَيَا سَاقِيَ الْقَوْمِ لَا تَنْسَنِي وَيَا رَبَّةَ الْخِدْرِ غَنِّي رَمَلْ
خَلِيلَيَّ إِنْ دَامَ هَذَا الصُّدُودُ عَلَى مَا أَرَاهُ سَرِيعًا قَتَلْ
وَقَدْ كَانَ شَيْئًا يُسَمَّى السُّرُورَ قَدِيمًا سَمِعْنَا بِهِ مَا فَعَلْ
وَسُئِلَ الشِّبْلِيُّ عَنِ الرَّجُلِ يَسْمَعُ الشَّيْءَ فَلَا يَفْهَمُهُ، وَيَتَوَاجَدُ مَعَ ذَلِكَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:

رُبَّ وَرْقَاءَ هَتُوفٍ بِالضُّحَى ذَاتِ شَجْوٍ صَدَحَتْ فِي فَنَنِ
ذَكَرَتْ إِلْفًا وَدَهْرًا صَالِحًا فَبَكَتْ حُزْنًا فَهَاجَتْ حَزَنِي
فَبُكَائِي رُبَّمَا أَرَّقَهَا وَبُكَاهَا رُبَّمَا أَرَّقَنِي
وَلَقَدْ أَشْكُو فَمَا أُفْهِمُهَا وَلَقَدْ تَشْكُو فَمَا تُفْهِمُنِي
غَيْرَ أَنِّي بِالْجَوَى أَعْرِفُهَا وَهِيَ أَيْضًا بِالْجَوَى تَعْرِفُنِي
وَوُجِدَ فِي كَلَامِ الشِّبْلِيِّ: مَا ظَنُّكَ بِمَعَانٍ هِيَ شُمُوسٌ كُلُّهَا ; بَلِ الشُّمُوسُ فِيهَا ظُلْمَةٌ.
وَقَالَ أَيْضًا: الْوَجْدُ اصْطِلَامٌ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
الْوَجْدُ عَنِّي جُحُودٌ مَا لَمْ يَكُنْ عَنْ شُهُودِ
وَشَاهِدُ الْحَقِّ عِنْدِي يُفْنِي شُهُودَ الْوُجُودِ
وَكَانَ يُنْشِدُ:
الْكُلُّ مِنِّي بَلَائِي وَرَاحَتِي فِي فَنَائِي
وَسَمِعَ الْقَوَّالَ يَوْمًا، فَتَوَاجَدَ كَثِيرًا وَالْمَشَايِخُ سُكُوتٌ لَمْ يَتَوَاجَدْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَعَاتَبَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ فِي ذَلِكَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ حَدِيثَهَا خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وَسُجُودًا

وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لِي سَكْرَتَانِ وَلِلنَّدْمَانِ وَاحِدَةٌ شَيْءٌ خُصِصْتُ بِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ وَحْدِي
وَكَانَ يَقُولُ:
وَكُنْتُ إِذَا مَا جِئْتُ جِئْتُ لِعِلَّةٍ فَأَفْنَيْتُ عِلَّاتِي فَكَيْفَ أَقُولُ
إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ مُرْسَلٌ فَرِيحُ الصَّبَا مِنِّي إِلَيْكَ رَسُولُ
وَمِنْهُ أَيْضًا:
وَكَمْ كِذْبَةٍ لِي فِيكَ لَا أَسْتَقِيلُهَا أَقُولُ لِمَنْ أَلْقَاهُ إِنِّيَ صَالِحُ
فَأَيُّ صَلَاحٍ لِي وَجِسْمِيَ نَاحِلٌ وَقَلْبِيَ مَشْغُوفٌ وَدَمْعِيَ سَافِحُ
وَأَنْشَدَ يَوْمًا، وَجَلَسَ عِنْدَهُ شَابٌّ أَمَرَدُ، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ حِسَانٌ، فَطَرَدَهُ مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ قَالَ:
طَرَحُوا اللَّحْمَ لِلْبُزَا ةِ عَلَى ذِرْوَتَيْ عَدَنْ
ثُمَّ لَامُوا الْبُزَاةَ كَمْ طَوَّلُوا فِيهِمُ الرَّسَنْ
لَوْ أَرَادُوا صَلَاحَنَا سَرُّوا وَجْهَهُ الْحَسَنْ
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ الْكَاتِبِ، أَنَّهُ أَنْشَدَ لَهُ فِي مَعْنَى هَذَا بَيْتَيْنِ أَخْطَأَ فِيهِمَا:
يَا رَبِّ تَخْلُقُ أَقْمَارَ لَيْلٍ وَأَغْصَانَ بَانٍ وَكُثْبَانَ رَمْلِ
وَتُبْدِعُ فِي كُلِّ طَرَفٍ بِسِحْرٍ وَفِي كُلِّ قَدٍّ رَشِيقٍ بِكَلِّ
وَتَنْهَى عِبَادَكَ أَنْ يَعْشَقُوا أَيَا حَكَمَ الْعَدْلِ أَحْكُمْ بِعَدْلِ

قُلْتُ: نَعَمْ، إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا يَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ، وَهُوَ الْحَكَمُ بِالْعَدْلِ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ وَكُلِّ مَا يَنْهَى عَنْهُ.
وَلِلشِّبْلِيِّ:
فَيَوْمًا تَرَانَا فِي الْخُزُوزِ نَجُرُّهَا وَيَوْمًا تَرَانَا فِي الْحَدِيدِ عَوَابِسَا
وَيَوْمًا تَرَانَا لِلثَّرِيدِ نَبُسُّهُ وَيَوْمًا تَرَانَا نَأْكُلُ الْخُبْزَ يَابِسَا
وَسَافَرَ الشِّبْلِيُّ مَرَّةً إِلَى الْبَصْرَةِ فَلَمَّا عَادَ إِلَى بَغْدَادَ سَمِعَ جَارَةً لِلْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ تُغَنِّيهِ وَهُوَ فِي التَّاجِ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ:
أَيَا قَادِمًا مِنْ سَفْرَةِ الْهَجْرِ مَرْحَبًا أَيَا ذَاكَ لَا أَنْسَاكَ مَا هَبَّتِ الصَّبَا
قَدِمْتَ عَلَى قَلْبِي كَمَا قَدْ تَرَكْتَهُ كَئِيبًا حَزِينًا بِالصَّبَابَةِ مُتْعَبَا
فَصَاحَ الشِّبْلِيُّ صَيْحَةً، وَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ فِي دِجْلَةَ، فَتَدَارَكَهُ النَّاسُ، فَأَخْرَجُوهُ، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِإِحْضَارِهِ، فَقَالَ: أَنْتَ مَجْنُونٌ. قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي قَدِمْتُ مِنْ سَفَرٍ، فَسَمِعْتُ هَذِهِ تُغَنِّيكَ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ، فَحَصَلَ لِي مَا حَصَلَ، فَبَكَى الْخَلِيفَةُ.
وَكَانَ الشِّبْلِيُّ يُنْشِدُ، وَسَمِعْتُهُ كَثِيرًا مِنْ شَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُنْشِدُ:
عَوَى الذِّئْبُ فَاسْتَأْنَسْتُ لِلذِّئْبِ إِذْ عَوَى وَصَوَّتَ إِنْسَانٌ فَكِدْتُ أَطِيرُ
وَلَهُ أَيْضًا:

النَّاسُ بِالْعِيدِ قَدْ سُرُّوا وَقَدْ فَرِحُوا وَمَا سُرِرْتُ بِهِ وَالْوَاحِدِ الصَّمَدِ
لَمَّا تَيَقَّنْتُ أَنِّي لَا أُعَايِنُكُمْ غَمَّضْتُ عَيْنِي فَلَا أَنْظُرْ إِلَى أَحَدِ
وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فُلَانًا مَاتَ فُجَاءَةً. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
قَضَى اللَّهُ فِي الْقَتْلَى قِصَاصَ دِمَائِهِمْ وَلَكِنْ دِمَاءُ الْعَاشِقِينَ جُبَارُ
وَلَهُ أَيْضًا:
جُنِنَّا عَلَى لَيْلَى وَجُنَّتْ بِغَيْرِنَا وَأُخْرَى بِنَا مَجْنُونَةٌ مَا نُرِيدُهَا
وَلَهُ أَيْضًا:
يَا رَاحَتِي وَعَذَابِي مِنْ عَذَابِي أَنْتِ مَا بِي فَكَيْفَ أَكْتُمُ مَا بِي
وَلَهُ أَيْضًا:
فَلَوْ قُلْتَ طَأْ فِي النَّارِ بَادَرْتُ نَحْوَهَا سُرُورًا لِأَنِّي قَدْ خَطَرْتُ بِبَالِكَا
وَلَمَّا مَرِضَ الشِّبْلِيُّ بَعَثَ إِلَيْهِ الْمُقْتَدِرُ طَبِيبًا نَصْرَانِيًّا، فَقَالَ لَهُ الطَّبِيبُ: فَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّ قَطْعَ بَعْضِ جَسَدِي يَشْفِيكَ لَقَطَعْتُهُ. فَقَالَ لَهُ: يَشْفِينِي قَطْعُ مَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ: وَمَا هُوَ ؟ قَالَ: قَطْعُ زُنَّارِكَ. فَقَطَعَهُ وَأَسْلَمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ، فَقَالَ: بَعَثْنَا طَبِيبًا إِلَى عَلِيلٍ، فَإِذَا هُوَ عَلِيلٌ إِلَى طَبِيبٍ.
قَالُوا: وَلَمَّا احْتُضِرَ جَعَلَ مَنْ عِنْدَهُ يَقُولُونَ: قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ:
إِنَّ بَيْتًا أَنْتَ سَاكِنُهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى السُّرُجِ

وَجْهُكَ الْمَأْمُولُ حُجَّتُنَا يَوْمَ يَأْتِي النَّاسُ بِالْحُجَجِ
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَخْشَى أَنْ أَمُوتَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِنَّمَا كَانَ ذِكْرُهُ: اللَّهَ اللَّهَ، وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ [ الْأَنْعَامِ: 91 ]
وَفِيمَا نَحَاهُ نَظَرٌ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [ مُحَمَّدٍ: 19 ] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ مَجْنُونًا عَلَى بَابِ جَامِعِ الرُّصَافَةِ يَوْمَ جُمْعَةٍ وَهُوَ عُرْيَانٌ، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا مَجْنُونُ اللَّهِ، أَنَا مَجْنُونُ اللَّهِ. فَقُلْتُ: أَلَا تَسْتَتِرُ وَتَدْخُلُ مَعَ النَّاسِ فَتُصَلِّي، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يَقُولُونَ زُرْنَا وَاقْضِ وَاجِبَ حَقِّنَا وَقَدْ أَسْقَطَتْ حَالِي حُقُوقَهُمْ عَنِّي
إِذَا أَبْصَرُوا حَالِي وَلَمْ يَأْنَفُوا لَهَا وَلَمْ يَأْنَفُوا مِنْهَا أَنِفْتُ لَهُمْ مِنِّي
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ فِي " تَارِيخِهِ " عَنْهُ أَنَّهُ أَنْشَدَ لِنَفْسِهِ:
مَضَتِ الشَّبِيبَةُ وَالْحَبِيبَةُ فَانْبَرَى دَمْعَانِ فِي الْأَجْفَانِ يَزْدَحِمَانِ
مَا أَنْصَفَتْنِي الْحَادِثَاتُ رَمَيْنَنِي بِمُوَدِّعَيْنِ وَلَيْسَ لِي قَلْبَانِ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ الْخَيْزُرَانِ بِبَغْدَادَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْخَلِيفَةِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، وَاصْطَلَحَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ وَنَاصِرُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ حَارَبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ تَكِينَ التُّرْكِيَّ، فَاقْتَتَلَا مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً، ثُمَّ ظَفِرَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِتَكِينَ، فَسَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ بِالْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ.
وَفِيهَا اسْتَحْوَذَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ عَلَى الرَّيِّ وَانْتَزَعَهَا مِنَ الْخُرَاسَانِيَّةِ، فَاتَّسَعَتْ مَمْلَكَةُ بَنِي بُوَيْهِ ; فَإِنَّهُ صَارَ بِأَيْدِيهِمْ أَعْمَالُ الرَّيِّ وَالْجَبَلِ وَأَصْبَهَانَ وَفَارِسَ وَالْأَهْوَازِ وَالْعِرَاقِ، وَيُحْمَلُ إِلَيْهِمْ ضَمَانُ الْمَوْصِلِ وَدِيَارِ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ مِنَ الْجَزِيرَةِ.
ثُمَّ اقْتَتَلَ جَيْشُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ وَجَيْشُ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْبَرِيدِيِّ، فَهُزِمَ أَصْحَابُ الْبَرِيدِيِّ، وَأُسِرَ مِنْ أَعْيَانِهِمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ.
وَفِيهَا وَقَعَ الْفِدَاءُ بَيْنَ الرُّومِ وَالْمُسْلِمِينَ عَلَى يَدِ نَصْرٍ الثَّمِلِيِّ أَمِيرِ الثُّغُورِ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَكَانَ عِدَّةُ الْأَسَارَى نَحْوًا مِنْ أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةِ مُسْلِمٍ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْحَسَنُ بْنُ حَمُّوَيْهِ بْنِ الْحُسَيْنِ، الْقَاضِي الْإِسْتِرَابَاذِيُّ
رَوَى الْكَثِيرَ، وَحَدَّثَ، وَكَانَ لَهُ مَجْلِسٌ لِلْإِمْلَاءِ، وَحَكَمَ بِبَلَدِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَكَانَ مِنَ الْمُتَهَجِّدِينَ بِالْأَسْحَارِ، وَيُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي مُرُوءَتِهِ وَوَجَاهَتِهِ، وَقَدْ مَاتَ فَجْأَةً عَلَى صَدْرِ جَارِيَتِهِ عِنْدَ إِنْزَالِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْخُتُّلِيُّ
سَمِعَ ابْنَ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرَهُ، وَحَدَّثَ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَخَلْقٌ، وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتًا حَافِظًا، حَدَّثَ مِنْ حَفِظِهِ بِخَمْسِينَ أَلْفِ حَدِيثٍ.
عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ رَغْبَانَ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَغْبَانَ بْنِ زَيْدِ بْنِ تَمِيمٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ
الْمُلَقَّبُ بِدِيكِ الْجِنِّ، الشَّاعِرُ الْمَاجِنُ الشِّيعِيُّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ مَوَالِي بَنِي تَمِيمٍ. وَكَانَتْ لَهُ أَشْعَارٌ قَوِيَّةٌ خُمَارِيَّةٌ وَغَيْرُ خُمَارِيَّةٍ، وَقَدِ اسْتَجَادَ أَبُو نُوَاسٍ مِنْ شَعْرِهِ فِي الْخُمَارِيَّاتِ.

عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ دَاوُدَ بْنِ الْجِرَّاحِ، أَبُو الْحَسَنِ الْوَزِيرُ
وَزِرَ لِلْمُقْتَدِرِ وَالْقَاهِرِ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَعَنْهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتًا فَاضِلًا عَفِيفًا، كَثِيرَ التِّلَاوَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، يُحِبُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَيُكْثِرُ مُجَالَسَتَهُمْ، وَكَانَ أَصْلُهُ مِنَ الْفُرْسِ وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ الْقَائِمِينَ عَلَى الْحَلَّاجِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَلَكْتُ سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، أَنْفَقْتُ مِنْهَا فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ وَثَمَانِينَ أَلْفًا.
وَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ حِينَ نُفِيَ مِنْ بَغْدَادَ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَكَانَ حَرٌّ شَدِيدٌ، فَجَاءَ الْمَنْزِلَ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ كَالْمَيِّتِ، وَقَالَ: أَشْتَهِي عَلَى اللَّهِ شَرْبَةً بِثَلْجٍ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَتَهَيَّأُ هَاهُنَا. فَقَالَ: أَعْرِفُ، وَلَكِنِّي اسْتَرْوَحْتُ إِلَى الْمُنَى. فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ جَاءَتْ سَحَابَةٌ فَأَمْطَرَتْ، ثُمَّ سَقَطَ بَرَدٌ شَدِيدٌ كَثِيرٌ، فَجَمَعَ لَهُ صَاحِبُهُ ذَاكَ مِنَ الْبَرَدِ شَيْئًا كَثِيرًا وَخَبَّأَهُ لَهُ، وَكَانَ الْوَزِيرُ صَائِمًا، فَلَمَّا أَمْسَى جَاءَ الْمَسْجِدَ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ صَاحِبُهُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْأَشْرِبَةِ كُلُّهَا بِثَلْجٍ، فَجَعَلَ يُسْقِيهِ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ الصُّوفِيَّةِ وَالْمُجَاوِرِينَ وَلَمْ يَشْرَبْ هُوَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْمَنْزِلِ، جِئْتُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الشَّرَابِ كُنَّا قَدْ

خَبَّأْنَاهُ لَهُ، وَأَقْسَمْتُ عَلَيْهِ لَيَشْرَبَنَّهُ، فَشَرِبَهُ بَعْدَ جَهْدٍ، وَقَالَ: كُنْتُ أَشْتَهِي لَوْ كُنْتُ تَمَنَّيْتُ الْمَغْفِرَةَ. رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَفَرَ لَهُ.
وَمِنْ شِعْرِ الْوَزِيرِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى قَوْلُهُ:
فَمَنْ كَانَ عَنِّي سَائِلًا بِشَمَاتَةٍ لِمَا نَابَنِي أَوْ شَامِتًا غَيْرَ سَائِلِ فَقَدْ أَبْرَزَتْ مِنِّي الْخُطُوبُ ابْنَ حُرَّةٍ
صَبُورًا عَلَى أَهْوَالِ تِلْكَ الزَّلَازِلِ
وَقَدْ رَوَى أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْمُحْسِنِ التَّنُوخِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَمَاعَةٍ، أَنَّ عَطَّارًا مَنْ أَهْلِ الْكَرْخِ كَانَ مَشْهُورًا بِالسُّنَّةِ، رَكِبَهُ سِتُّمِائَةِ دِينَارٍ دَيْنًا، فَغَلَّقَ دُكَّانَهُ، وَانْكَسَرَ عَنْ كَسْبِهِ، وَلَزِمَ مَنْزِلَهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالصَّلَاةِ لَيَالِيَ كَثِيرَةً، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ تِلْكَ اللَّيَالِي رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: اقْصِدْ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى الْوَزِيرَ، فَقَدْ أَمَرْتُهُ لَكَ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ. فَلَمَّا أَصْبَحَ الرَّجُلُ قَصَدَ بَابَ الْوَزِيرِ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ، فَجَلَسَ لَعَلَّ أَحَدًا يَسْتَأْذِنُ لَهُ عَلَيْهِ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِ الْمَجْلِسُ، وَهَمَّ بِالِانْصِرَافِ، ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ الْحَجَبَةِ: قُلْ لِلْوَزِيرِ: إِنِّي رَجُلٌ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَقُصَّهُ عَلَى الْوَزِيرِ، فَقَالَ لَهُ الْحَاجِبُ: وَأَنْتَ الرَّائِي ؟ إِنَّ الْوَزِيرَ قَدْ أَنْفَذَ فِي طَلَبِكَ رُسُلًا مُتَعَدِّدَةً. ثُمَّ دَخَلَ، فَمَا كَانَ بِأَسْرَعِ مِنْ أَنْ أَدْخَلَنِي عَلَيْهِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ يَسْتَعْلِمُ عَنِ اسْمِهِ وَصِفَتِهِ وَمَنْزِلِهِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَأْمُرُنِي

بِإِعْطَائِكَ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، فَأَصْبَحْتُ لَا أَدْرِي مَنْ أَسْأَلُ عَنْكَ، وَقَدْ أَرْسَلْتُ فِي طَلَبِكَ إِلَى الْآنِ عِدَّةً مِنَ الرُّسُلِ، فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فِي قَصْدِكَ إِيَّايَ. ثُمَّ أَمَرَ بِإِحْضَارِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: هَذِهِ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسِتُّمِائَةٍ هِبَةٌ مِنْ عِنْدِي. فَقَالَ الرَّجُلُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى مَا أَمَرَنِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنِّي أَرْجُو الْخَيْرَ وَالْبَرَكَةَ فِيهِ، ثُمَّ أَخَذَ مِنْهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَالَ الْوَزِيرُ: هَذَا هُوَ الصِّدْقُ وَالْيَقِينُ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ، فَعَرَضَ عَلَى أَرْبَابِ الدُّيُونِ أَمْوَالَهُمْ، فَقَالُوا: نَحْنُ نَصْبِرُ عَلَيْكَ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَافْتَحْ بِهَذَا الذَّهَبِ دُكَّانَكَ، وَدُمْ عَلَى كَسْبِكَ. فَأَبَى إِلَّا أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الثُّلُثَ، فَدَفَعَ إِلَيْهِمْ مِائَتَيْ دِينَارٍ، وَفَتَحَ الدُّكَّانَ بِالْمِائَتَيْنِ الْأُخْرَى، فَمَا حَالَ الْحَوْلُ حَتَّى كَسَبَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَلِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْوَزِيرِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ صَالِحَةٌ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ تِسْعِينَ سَنَةً، وَيُقَالُ: فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ بَحْرٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، كَانَ ثِقَةً ثَبْتًا فَاضِلًا، سَمِعَ أَبَا زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيَّ وَغَيْرَهُ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَآخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ مَهْدِيٍّ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ عَمْرِو بْنِ جَابِرِ بْنِ

يَزِيدَ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ صُبْحِ بْنِ ذُهْلِ بْنِ مَالِكِ بْنِ بَكْرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ ضَبَّةَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَالِدُ الْقَاضِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ هَارُونَ.
كَانَ أَسْلَافُهُ مُلُوكَ عُمَانَ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَيَزِيدُ بْنُ جَابِرٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ، فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ هَارُونُ هَذَا أَوَّلَ مَنِ انْتَقَلَ مِنْ أَهْلِهِ مِنْ عُمَانَ فَنَزَلَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ، وَكَانَ فَاضِلًا مُتَضَلِّعًا مِنْ كُلِّ فَنٍّ، وَكَانَتْ دَارُهُ مَجْمَعَ الْعُلَمَاءِ فِي سَائِرِ الْفُنُونِ، وَنَفَقَاتُهُ دَارَّةً عَلَيْهِمْ، وَكَانَتْ لَهُ مَنْزِلَةٌ عَالِيَةٌ، وَمَهَابَةٌ وَافِرَةٌ بِبَغْدَادَ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ الدَّارَقُطْنِيُّ ثَنَاءً كَثِيرًا، وَقَالَ: كَانَ مُبَرِّزًا فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ وَمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْكَلَامِ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ صُولٍ الصُّولِيُّ، وَكَانَ عَالِمًا بِفُنُونِ الْآدَابِ وَالْأَخْبَارِ. وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الَّتِي بَعْدَهَا، كَمَا سَيَأْتِي.
أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي أَحْمَدَ الطَّبَرِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ،

تِلْمِيذُ ابْنِ سُرَيْجٍ، لَهُ كِتَابُ " التَّلْخِيصِ "، وَكِتَابُ " الْمِفْتَاحِ " وَهُوَ مُخْتَصَرٌ، شَرَحَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْخَتَنُ وَأَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ أَيْضًا، وَكَانَ أَبُوهُ يَقُصُّ عَلَى النَّاسِ الْأَخْبَارَ وَالْآثَارَ، وَأَمَّا هُوَ فَتَوَلَّى قَضَاءَ طَرَسُوسَ وَكَانَ يَعِظُ النَّاسَ أَيْضًا، فَحَصَلَ لَهُ خُشُوعٌ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَمَاتَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَالْمُطِيعُ لِلَّهِ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَاسْتَنْقَذَاهَا مِنْ يَدِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْبَرِيدِيِّ، وَهَرَبَ هُوَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَوْلَى مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَلَى الْبَصْرَةِ وَبَعَثَ يَتَهَدَّدُ الْقَرَامِطَةَ وَيَتَوَعَّدُهُمْ بِأَخْذِ بِلَادِهِمْ، وَزَادَ فِي أَقَطَاعِ الْخَلِيفَةِ ضِيَاعًا تَعْمَلُ فِي السَّنَةِ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ سَارَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ لِتَلَقِّي أَخِيهِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بِالْأَهْوَازِ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْ أَخِيهِ، وَقَامَ مَاثِلًا أَيْضًا، وَيَأْمُرُهُ بِالْجُلُوسِ فَلَا يَفْعَلُ. ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ وَرَجَعَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهَا أَيْضًا وَقَدْ تَمَهَّدَتْ أُمُورٌ جَيِّدَةٌ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَحْوَذَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ عَلَى بِلَادِ طَبَرِسْتَانَ وَجُرْجَانَ وَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ وُشْمَكِيرَ أَخِي مَرْدَاوِيجَ مَلِكِ الدَّيْلَمِ، فَذَهَبَ وُشْمَكِيرُ إِلَى خُرَاسَانَ يَسْتَنْجِدُ بِصَاحِبِهَا.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي، أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ

سَمِعَ جَدَّهُ وَعَبَّاسًا الدُّورِيَّ وَمُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ الصَّاغَانِيَّ. وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا حُجَّةً صَادِقًا، صَنَّفَ كَثِيرًا، وَجَمَعَ عُلُومًا جَمَّةً، وَلَمْ يَسْمَعِ النَّاسُ مِنْهَا إِلَّا الْيَسِيرَ، وَذَلِكَ لِشَرَاسَةِ أَخْلَاقِهِ، وَآخِرُ مَنْ رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ فَارِسٍ الْغُورِيُّ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقَزْوِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ: صَنَّفَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ أَرْبَعَمِائَةِ كِتَابٍ وَنَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ كِتَابًا، وَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ حَشْوٌ، بَلْ هُوَ نَقِيُّ الْكَلَامِ، جَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَمَنْ وَقَفَ عَلَى مُصَنَّفَاتِهِ، عَلِمَ فَضْلَهُ وَاطِّلَاعَهُ، وَوَقَفَ عَلَى فَوَائِدَ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ كُتُبِهِ. كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي مُحَرَّمٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً.
الصُّولِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صُولٍ أَبُو بَكْرٍ الصُّولِيُّ
كَانَ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ بِفُنُونِ الْأَدَبِ، حَسَنَ الْمَعْرِفَةِ بِأَخْبَارِ الْمُلُوكِ وَأَيَّامِ الْخُلَفَاءِ وَمَآثِرِ الْأَشْرَافِ وَطَبَقَاتِ الشُّعَرَاءِ. رَوَى عَنْ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ وَالْمُبَرِّدِ وَثَعْلَبٍ وَأَبِي الْعَيْنَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ وَاسِعَ الرِّوَايَةِ، جَيِّدَ الْحِفْظِ، حَاذِقًا بِتَصْنِيفِ الْكُتُبِ. وَلَهُ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ هَائِلَةٌ، وَنَادَمَ جَمَاعَةً مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَحَظِيَ عِنْدَهُمْ. وَكَانَ جَدُّهُ صُولٌ وَأَهْلُهُ مُلُوكًا بِجُرْجَانَ، ثُمَّ كَانَ أَوْلَادُهُ مِنْ أَكَابِرِ

الْكُتَّابِ. وَكَانَ الصُّولِيُّ هَذَا جَيِّدَ الِاعْتِقَادِ، حَسَنَ الطَّرِيقَةِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ.
وَمِنْ شَعْرِهِ قَوْلُهُ:
أَحْبَبْتُ مِنْ أَجْلِهِ مَنْ كَانَ يُشْبِهُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْمَعْشُوقِ مَعْشُوقُ حَتَّى حَكَيْتُ بِجِسْمِي مَا بِمُقْلَتِهِ
كَأَنَّ سُقْمِي مِنْ عَيْنَيْهِ مَسْرُوقُ
خَرَجَ الصُّولِيُّ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْبَصْرَةِ لِحَاجَةٍ لَحِقَتْهُ، فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ ابْنَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الزَّاهِدِ الْمَكِّيِّ
وَكَانَتْ مِنَ الْعَابِدَاتِ النَّاسِكَاتِ الْمُقِيمَاتِ بِمَكَّةَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَقْتَاتُ مِنْ كَسْبِ أَبِيهَا، مِمَّا كَانَ يَكْتَسِبُهُ مِنْ عَمِلِ الْخُوصِ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا يُرْسِلُهَا إِلَيْهَا، فَاتَّفَقَ أَنْ أَرْسَلَهَا مَرَّةً مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَزَادَ عَلَيْهَا ذَلِكَ الرَّجُلُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا - يُرِيدُ بِذَلِكَ بِرَّهَا وَزِيَادَةً فِي نَفَقَتِهَا - فَلَمَّا اخْتَبَرَتْهَا قَالَتْ: هَلْ وَضَعْتَ عَلَى هَذِهِ شَيْئًا ؟ اصْدُقْنِي بِحَقِّ الَّذِي حَجَجْتَ لَهُ. فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَتِ: ارْجِعْ بِهَا، فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهَا، وَلَوْلَا أَنَّكَ قَصَدْتَ الْخَيْرَ لَدَعَوْتُ عَلَيْكَ ; فَإِنَّكَ قَدْ أَجَعْتَنِي عَامِي هَذَا، وَلَمْ يَبْقَ لِي رِزْقٌ إِلَّا مِنَ الْمَزَابِلِ إِلَى قَابِلٍ. فَقُلْتُ: أَلَا تَأْخُذِي مِنْهَا الثَّلَاثِينَ دِرْهَمًا. فَقَالَتْ: إِنَّهَا قَدِ اخْتَلَطَتْ بِمَالِكَ، وَلَا أَدْرِي مَا هُوَ. قَالَ الرَّجُلُ: فَرَجَعْتُ بِهَا إِلَى أَبِيهَا، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَقَالَ: شَقَقْتَ يَا هَذَا عَلَيَّ، وَضَيَّقْتَ عَلَيْهَا، وَلَكِنِ اذْهَبْ فَتَصَدَّقْ بِهَا.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا رَكِبَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَانْهَزَمَ مِنْهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى نَصِيبِينَ فَتَمَلَّكَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ الْمَوْصِلَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَعَسَفَ أَهْلَهَا، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، وَكَثُرَ الدُّعَاءُ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى أَخْذِ الْبِلَادِ كُلِّهَا مِنْ يَدِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَجَاءَهُ خَبَرٌ مِنْ أَخِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى مَنْ قِبَلَهُ مِنَ الْخُرَاسَانِيَّةِ، فَاحْتَاجَ إِلَى مُصَالَحَةِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ عَلَى أَنْ يُحْمَلَ عَمًّا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَمَانِيَةُ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَنْ يُخْطَبَ لَهُ وَلِأَخَوَيْهِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ وَرُكْنِ الدَّوْلَةِ عَلَى مَنَابِرَ بِلَادِهِ كُلِّهَا، فَفَعَلَ وَعَادَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ وَبَعَثَ إِلَى أَخِيهِ بِجَيْشٍ هَائِلٍ، وَأَخَذَ لَهُ عَهْدَ الْخَلِيفَةِ بِوِلَايَةِ خُرَاسَانَ.
وَفِيهَا دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ صَاحِبُ حَلَبَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَلَقِيَهُ جَمْعٌ كَثِيفٌ مِنَ الرُّومِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، وَأَخَذَتِ الرُّومُ مَرْعَشَ وَأَوْقَعُوا بِأَهْلِ طَرَسُوسَ بَأْسًا شَدِيدًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي رَمَضَانَ انْتَهَتْ زِيَادَةُ دِجْلَةَ إِلَى إِحْدَى وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا وَثُلُثٍ، فَغَرِقَتِ الضِّيَاعُ وَالدُّورُ الَّتِي عَلَيْهَا، وَأَشْرَفَ الْجَانِبُ الشَّرْقِيُّ عَلَى الْغَرَقِ، وَهَمَّ النَّاسُ بِالْهَرَبِ مِنْهُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَوَيْهِ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ الْحَكَمِ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَيِّعُ
وَهُوَ وَالِدُ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيِّ أَذَّنَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَغَزَا اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ غَزْوَةً، وَأَنْفَقَ عَلَى الْعُلَمَاءِ مِائَةَ أَلْفٍ، وَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، كَثِيرَ الصَّدَقَةِ، أَدْرَكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ، وَرَوَى عَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِ، وَتُوُفِّيَ عَنْ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
قُدَامَةُ الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ
هُوَ قُدَامَةُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ قُدَامَةَ، أَبُو الْفَرَجِ الْكَاتِبُ، لَهُ مُصَنَّفٌ فِي الْخَرَاجِ وَصِنَاعَةِ الْكِتَابَةِ، وَبِهِ يَقْتَدِي عُلَمَاءُ هَذَا الشَّأْنِ، وَقَدْ سَأَلَ ثَعْلَبًا عَنْ أَشْيَاءَ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ، أَبُو عَلِيٍّ
الْمُذَكِّرُ الْوَاعِظُ بِنَيْسَابُورَ، كَانَ كَثِيرَ التَّدْلِيسِ عَنِ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ لَمْ يَلْقَهُمْ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ مِائَةٍ وَسَبْعِ سِنِينَ، سَامَحَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُطَهِّرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو النَّجَاءِ
الْفَقِيهُ الْفَرَضِيُّ الضَّرِيرُ الْمَالِكِيُّ، لَهُ كِتَابٌ فِي الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي الْفَرَائِضِ قَلِيلَةُ النَّظِيرِ، وَكَانَ أَدِيبًا فَهِمًا فَاضِلًا صَادِقًا، رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الشِّيعَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ، وَنُهِبَتِ الْكَرْخُ. وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ تَقَلَّدَ الْقَاضِي أَبُو السَّائِبِ عُتْبَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْهَمْدَانِيُّ قَضَاءَ الْقُضَاةِ.
وَفِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عِمْرَانُ بْنُ شَاهِينَ كَانَ قَدِ اسْتَوْجَبَ بَعْضَ الْعُقُوبَاتِ، فَهَرَبَ مِنَ السُّلْطَانِ إِلَى نَاحِيَةِ الْبَطَائِحِ، فَكَانَ يَقْتَاتُ مِمَّا يَصِيدُهُ مِنَ السَّمَكِ وَالطُّيُورِ، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الصَّيَّادِينَ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، فَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَاسْتَعْمَلَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْبَرِيدِيِّ عَلَى جِبَايَةِ بَعْضِ تِلْكَ النَّوَاحِي، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ جَيْشًا مَعَ وَزِيرِهِ أَبِي جَعْفَرِ الصَّيْمَرِيِّ، فَهُزِمَ الْوَزِيرُ لَكِنَّهُ دَهَمَهُ أَمْرٌ، اشْتَغَلَ بِهِ عَنْهُ، وَذَلِكَ وَفَاةُ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ. وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ بُوَيْهِ
أَكْبَرُ أَوْلَادِ بُوَيْهِ، وَأَوَّلُ مَنْ تَمَلَّكَ مِنْهُمْ، وَكَانَ عَاقِلًا حَازِمًا، حَمِيدَ السِّيرَةِ، رَئِيسًا فِي نَفْسِهِ، كَانَ أَوَّلُ ظُهُورِهِ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا.

فَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا الْعَامِ قَوِيَتْ عَلَيْهِ الْأَسْقَامُ وَتَوَاتَرَتْ لَدَيْهِ الْآلَامُ، فَأَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ بِالْهَلَاكِ، وَلَمْ يُعَادِلْ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ وَكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالرِّجَالِ مِنَ الدَّيَالِمِ وَالْأَتْرَاكِ، وَلَمْ يُحَصِّلُوا لَهُ الْفِكَاكَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ يَسْتَدْعِي وَلَدَهُ عَضُدَ الدَّوْلَةِ، لِيَجْعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ فَرِحَ بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا، وَخَرَجَ بِنَفْسِهِ فِي جَمِيعِ جَيْشِهِ لِتَلَقِّيهِ، فَلَمَّا دَخَلَ بِهِ دَارَ الْمَمْلَكَةِ أَجْلَسَهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَأَحَدِ الْأُمَرَاءِ ; لِيَرْفَعَ مِنْ شَأْنِهِ عِنْدَ أُمَرَائِهِ وَوُزَرَائِهِ وَأَعْوَانِهِ، ثُمَّ عَقَدَ لَهُ الْبَيْعَةَ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الْبُلْدَانِ وَالْأَمْوَالِ وَتَدْبِيرِ الْمُلْكِ وَالرِّجَالِ، وَفَهِمَ مِنْ بَعْضِ رُءُوسِ الْأُمَرَاءِ كَرَاهِيَةً لِذَلِكَ، فَشَرَعَ فِي الْقَبْضِ عَلَيْهِمْ، وَقَتَلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَسَجَنَ آخَرِينَ، حَتَّى تَمَهَّدَتِ الْأُمُورُ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاةُ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بِشِيرَازَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ فِي زَمَانِهِ، وَمِمَّنْ حَازَ قَصَبَ السَّبْقِ دُونَ أَقْرَانِهِ، وَكَانَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ، وَبِذَلِكَ كَانَ يُكَاتِبُهُ الْخُلَفَاءُ، وَلَكِنْ أَخُوهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ كَانَ يَنُوبُ عَنْهُ بِبَغْدَادَ وَالْعِرَاقِ وَالسَّوَادِ.
وَلَمَّا مَاتَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ اشْتَغَلَ الْوَزِيرُ أَبُو جَعْفَرٍ الصَّيْمَرِيُّ عَنْ مُحَارَبَةِ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَنْ يَسِيرَ إِلَى شِيرَازَ وَيَضْبِطَ أُمُورَهَا، فَقَوِيَ أَمْرُ عِمْرَانَ بَعْدَ ضَعْفِهِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ النَّحْوِيُّ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يُونُسَ

أَبُو جَعْفَرٍ الْمُرَادِيُّ الْمِصْرِيُّ النَّحْوِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالنَّحَّاسِ، اللُّغَوِيِّ الْمُفَسِّرِ الْأَدِيبِ، لَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَلَقِيَ أَصْحَابَ الْمُبَرِّدِ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْهَا يَوْمَ السَّبْتِ، وَكَانَ سَبَبُ وَفَاتِهِ أَنَّهُ جَلَسَ عِنْدَ الْمِقْيَاسِ يُقَطِّعُ شَيْئًا مِنَ الْعَرُوضِ، فَظَنَّهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ يَسْحَرُ النِّيلَ ; لِئَلَّا يُوفِيَ، فَرَفَسَهُ بِرِجْلِهِ فَسَقَطَ، فَغَرِقَ وَلَمْ يُدْرَ أَيْنَ ذَهَبَ. رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَانَ قَدْ أَخَذَ النَّحْوَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَخْفَشِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ وَنَفْطَوَيْهِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ مُفِيدَةٌ ; مِنْهَا " تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ " وَ " النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ " وَ " شَرْحُ أَبْيَاتِ سِيبَوَيْهِ "، وَلَمْ يُصَنَّفْ مِثْلُهُ، وَ " شَرْحُ الْمُعَلَّقَاتِ "، وَ " الدَّوَاوِينُ الْعَشَرَةُ "، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنِ النَّسَائِيِّ، وَكَانَ بَخِيلًا جِدًّا، وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ
وَقَدْ وَلِيَ الْخِلَافَةَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَيَوْمَيْنِ،

ثُمَّ خُلِعَ وَسُمِلَتْ عَيْنَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَهُوَ مُعْتَقَلٌ فِي دَارِهِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَشَهْرَانِ.
عَلِيُّ بْنُ حَمْشَاذَ بْنِ سَخْتَوَيْهِ بْنِ نَصْرٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْمُعَدَّلُ
مُحَدِّثُ عَصْرِهِ بِنَيْسَابُورَ، رَحَلَ إِلَى الْبُلْدَانِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَحَدَّثَ وَصَنَّفَ مُسْنَدًا فِي أَرْبَعِمِائَةِ جُزْءٍ، وَلَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مَعَ شِدَّةِ الْإِتْقَانِ وَالْحِفْظِ وَكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَالصِّيَانَةِ وَالْخَشْيَةِ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: صَحِبْتُهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَمَا أَعْلَمُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَتَبَتْ عَلَيْهِ خَطِيئَةً.
وَلَهُ تَفْسِيرٌ فِي مِائَتَيْ جُزْءٍ وَنَيِّفٍ، دَخَلَ الْحَمَّامَ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ فَتُوُفِّيَ فِيهِ فَجْأَةً، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الرَّابِعِ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ، أَبُو الْحَسَنِ الْوَاعِظُ الْبَغْدَادِيُّ
ارْتَحَلَ إِلَى مِصْرَ، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى عُرِفَ بِالْمِصْرِيِّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ، وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَرَوَى عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ لَهُ مَجْلِسُ وَعْظٍ يَحْضُرُ فِيهِ

الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ وَهُوَ مُتَبَرْقِعٌ ; لِئَلَّا يَرَى النِّسَاءُ حُسْنَهُ وَجَمَالَهُ، وَقَدْ حَضَرَ وَعْظَهُ أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ مُسْتَخْفِيًا، فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَهُ قَامَ قَائِمًا وَشَهَرَ نَفْسَهُ، وَقَالَ لَهُ: الْقَصَصُ بَعْدَكَ حَرَامٌ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا عَارِفًا، جَمَعَ حَدِيثَ اللَّيْثِ وَابْنِ لَهِيعَةَ، وَلَهُ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ فِي الزُّهْدِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا وَلَهُ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْمُبَارَكَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا رُدَّ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ الْمَكِّيُّ إِلَى مَكَانِهِ، وَكَانَتِ الْقَرَامِطَةُ قَدْ أَخَذُوهُ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ مَلِكُهُمْ إِذْ ذَاكَ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْحَسَنُ الْجَنَّابِيُّ، وَلَمَّا وَقَعَ ذَلِكَ، أَعْظَمَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ جِدًّا، وَقَدْ بَذَلَ لَهُمُ الْأَمِيرُ بَجْكَمُ التُّرْكِيُّ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ ; لِيَرُدُّوهُ إِلَى مَوْضِعِهِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا، وَقَالُوا: نَحْنُ أَخَذْنَاهُ بِأَمْرٍ، وَلَا نَرُدُّهُ إِلَّا بِأَمْرِ مَنْ أَخَذْنَاهُ بِأَمْرِهِ.
فَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا الْعَامِ حَمَلُوهُ إِلَى الْكُوفَةِ وَعَلَّقُوهُ عَلَى الْأُسْطُوَانَةِ السَّابِعَةِ مِنْ جَامِعِهَا ; لِيَرَاهُ النَّاسُ، وَكَتَبَ إِخْوَةُ أَبِي طَاهِرٍ كِتَابًا فِيهِ: إِنَّا أَخَذْنَا هَذَا الْحَجَرَ بِأَمْرٍ، وَقَدْ رَدَدْنَاهُ بِأَمْرِ مَنْ أَمَرَنَا بِأَخْذِهِ ; لِيَتِمَّ حَجُّ النَّاسِ وَمَنَاسِكُهُمْ. ثُمَّ أَرْسَلُوهُ إِلَى مَكَّةَ بِغَيْرِ شَيْءٍ عَلَى قَعُودٍ، فَوَصَلَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَكَانَ مُدَّةُ مُقَامِهِ عِنْدَهُمْ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا.
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْقَرَامِطَةَ حِينَ أَخَذُوهُ حَمَلُوهُ عَلَى عِدَّةِ جِمَالٍ،

فَعَطِبَتْ تَحْتَهُ، وَاعْتَرَى أَسْنِمَتَهَا الْعَقْرُ، وَلَمَّا رَدُّوهُ حَمَلَهُ قَعُودٌ وَاحِدٌ لَمْ يُصِبْهُ بِأْسٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ بِجَيْشٍ كَثِيفٍ نَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَوَغَلَ فِيهَا، وَفَتَحَ حُصُونًا، وَقَتَلَ خَلْقًا، وَأَسَرَ أُمَمًا، وَغَنِمَ شَيْئًا كَثِيرًا ثُمَّ رَجَعَ فَأَخَذَتِ الرُّومُ عَلَيْهِ الدَّرْبَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ، فَقَتَلُوا عَامَّةَ مَنْ مَعَهُ، وَأَسَرُوا بَقِيَّتَهُمْ، وَاسْتَرَدُّوا مَا كَانَ أَخَذَهُ لَهُمْ، وَنَجَا سَيْفُ الدَّوْلَةِ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا مَاتَ الْوَزِيرُ أَبُو جَعْفَرٍ الصَّيْمَرِيُّ، فَاسْتَوْزَرَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مَكَانَهُ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيَّ فِي جُمَادَى الْأُولَى، فَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ الصَّيَّادِ، وَتَفَاقَمَ الْحَالُ بِهِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ جَيْشًا بَعْدَ جَيْشٍ، يَهْزِمُهُمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، ثُمَّ عَدَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى مُصَالَحَتِهِ، وَاسْتِعْمَالِهِ لَهُ عَلَى بَعْضِ تِلْكَ النَّوَاحِي.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْحَسَنُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ بَابْشَاذَ أَبُو سَعِيدٍ الْمِصْرِيُّ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَكَانَ مِنْ

أَفَاضِلِ النَّاسِ وَعُلَمَائِهِمْ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، مُفْرِطَ الذَّكَاءِ، قَوِيَّ الْفَهْمِ، كَتَبَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ ثِقَةً.
مَاتَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الشُّونِيزِيَّةِ، وَلَمْ يَبْلُغْ مِنَ الْعُمُرِ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدٌ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
ابْنُ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ، وَلِيَ الْخِلَافَةَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ بِطَّاشًا سَرِيعَ الِانْتِقَامِ، فَخَافَ مِنْهُ وَزِيرُهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ، فَاسْتَتَرَ وَشَرَعَ فِي الْعَمَلِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَتْرَاكِ، فَخَلَعُوهُ وَسَمَلُوا عَيْنَيْهِ، وَأُودِعَ دَارَ الْخِلَافَةِ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ، ثُمَّ أُخْرِجَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ إِلَى دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ، وَقَدْ نَالَتْهُ فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، وَسَأَلَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا الْعَامِ وَلَهُ ثِنْتَانِ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ أَبِيهِ الْمُعْتَضِدِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ الْأَصْبَهَانِيُّ، مُحَدِّثُ عَصْرِهِ بِخُرَاسَانَ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَحَدَّثَ عَنِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا بِبَعْضِ كُتُبِهِ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَمَكَثَ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَكَانَ يَقُولُ: اسْمِي مُحَمَّدٌ، وَاسْمُ أَبِي عَبْدُ اللَّهِ، وَاسْمُ أُمِّي آمِنَةُ. يَفْرَحُ بِهَذِهِ الْمُوَافَقَةِ فِي الِاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ وَالْأُمِّ.

أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ
التُّرْكِيُّ الْفَيْلَسُوفُ، وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالْمُوسِيقَى، بِحَيْثُ كَانَ يَتَوَسَّلُ بِصِنَاعَتِهِ إِلَى التَّأْثِيرِ فِي الْحَاضِرِينَ مِنْ مُسْتَمِعِيهِ، إِنْ شَاءَ حَرَّكَ مَا يُبْكِي أَوْ مَا يُضْحِكُ أَوْ مَا يُنَوِّمُ.
وَكَانَ حَاذِقًا فِي الْفَلْسَفَةِ، وَمِنْ كُتُبِهِ تَفَقَّهَ ابْنُ سِينَا
وَكَانَ يَقُولُ بِالْمَعَادِ الرُّوحَانِيِّ لَا الْجُثْمَانِيِّ، وَيُخَصِّصُ بِالْمَعَادِ الْأَرْوَاحَ الْعَالِمَةَ لَا الْجَاهِلَةَ، وَلَهُ مَذَاهِبُ فِي ذَلِكَ يُخَالِفُ الْمُسْلِمِينَ وَالْفَلَاسِفَةَ مِنْ سَلَفِهِ الْأَقْدَمِينَ، فَعَلَيْهِ إِنْ كَانَ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ لَعْنَةُ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
مَاتَ بِدِمَشْقَ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ " وَلَمْ أَرَ الْحَافِظَ ابْنَ عَسَاكِرَ ذَكَرَهُ فِي تَارِيخِهِ ; لِنَتَنِهِ وَقَبَاحَتِهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

سَنَةُ أَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا قَصَدَ صَاحِبُ عُمَانَ الْبَصْرَةَ لِيَأْخُذَهَا فِي مَرَاكِبَ كَثِيرَةٍ، وَجَاءَ لِنَصْرِهِ أَبُو يَعْقُوبَ الْهَجَرِيُّ، فَمَانَعَهُ عَنْهَا الْوَزِيرُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيُّ وَصَدَّهُ عَنْهَا، وَأَسَرَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ وَسَبَى كَثِيرًا مِنْ مَرَاكِبِهِ، فَسَاقَهَا مَعَهُ فِي دِجْلَةَ، وَدَخَلَ بِهَا إِلَى بَغْدَادَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا رُفِعَ إِلَى الْوَزِيرِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيِّ رَجُلٌ مِنْ أَتْبَاعِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْعَزَاقِرِ الَّذِي كَانَ قُتِلَ عَلَى الزَّنْدَقَةِ، كَمَا قُتِلَ الْحَلَّاجُ وَأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَدَّعِي مَا كَانَ يَدَّعِيهِ ابْنُ أَبِي الْعَزَاقِرِ، وَقَدِ اتَّبَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْجَهَلَةِ بِبَغْدَادَ، وَصَدَّقُوهُ فِي دَعْوَاهُ الرُّبُوبِيَّةَ، وَأَنَّ أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّدِّيقِينَ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِمْ، وَوُجِدَ فِي مَنْزِلِهِ كُتُبٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
فَلَمَّا تَحَقَّقَ أَنَّهُ هَالِكٌ ادَّعَى أَنَّهُ شِيعِيٌّ لِيَحْظَى عِنْدَ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَقَدْ كَانَ يُحِبُّ الرَّافِضَةَ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - فَلَمَّا اشْتُهِرَ ذَلِكَ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْوَزِيرُ مِنْهُ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَأَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ الشِّيعَةُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، غَيْرَ أَنَّهُ

احْتَاطَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَكَانَ يُسَمِّيهَا أَمْوَالَ الزَّنَادِقَةِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي رَمَضَانَ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِسَبَبِ الْمَذْهَبِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ، عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دَلَّالِ بْنِ دَلْهَمٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ الْمَشْهُورِينَ، وُلِدَ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَكَنَ بَغْدَادَ وَدَرَسَ بِهَا فِقْهَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِئَاسَةُ أَصْحَابِهِ، وَانْتَشَرَ أَصْحَابُهُ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ مُتَعَبِّدًا، كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، صَبُورًا عَلَى الْفَقْرِ، عَزُوفًا عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ رَأْسًا فِي الِاعْتِزَالِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ حَيُّوَيْهِ وَابْنُ شَاهِينَ.
وَأَصَابَهُ الْفَالِجُ فِي آخِرِ عُمُرهِ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَاشْتَوَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنْ يَكْتُبُوا إِلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ ; لِيُسَاعِدَهُ بِشَيْءٍ يَسْتَعِينُ بِهِ فِي مَرَضِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ رَفَعَ رَأَسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ

رِزْقِي إِلَّا مِنْ حَيْثُ عَوَّدْتَنِي. فَمَاتَ عَقِبَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ مَا أَرْسَلَ بِهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَتُصُدِّقَ بِهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو تَمَّامٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيُّ، وَكَانَ صَاحِبَهُ، وَدُفِنَ فِي دَرْبِ أَبِي زَيْدٍ عَلَى نَهْرِ الْوَاسِطِيِّينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ زَيْدٍ، أَبُو جَعْفَرٍ الْوَرَّاقُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ يَفْهَمُ وَيَحْفَظُ، وَكَانَ ثِقَةً زَاهِدًا، لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ كَسْبِ يَدِهِ، وَلَا يَقْطَعُ صَلَاةَ اللَّيْلِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَحِبْتُهُ سِنِينَ كَثِيرَةً، فَمَا رَأَيْتُهُ فَعَلَ إِلَّا مَا يُرْضِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا قَالَ إِلَّا مَا يُسْأَلُ عَنْهُ، وَكَانَ يَقُومُ أَكْثَرَ اللَّيْلِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ مَنْصُورِ بْنِ قَرَاتَكِينَ
صَاحِبِ الْجُيُوشِ الْخُرَاسَانِيَّةِ مِنْ جِهَةِ الْأَمِيرِ نُوحٍ السَّامَانِيِّ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لِمَرَضٍ حَصَلَ لَهُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَدْمَنَ شُرْبَ الْخَمْرِ أَيَّامًا مُتَتَابِعَةً، فَهَلَكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَأُقِيمَ بَعْدَهُ فِي الْجُيُوشِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُحْتَاجٍ.
الزَّجَّاجِيُّ مُصَنِّفُ " الْجُمَلِ "، وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ النَّحْوِيُّ الْبَغْدَادِيُّ الْأَصْلِ، ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ
مُصَنِّفُ " الْجُمَلِ " فِي النَّحْوِ، وَهُوَ كِتَابٌ نَافِعٌ، كَثِيرُ الْفَائِدَةِ، صَنَّفَهُ بِمَكَّةَ، وَكَانَ يَطُوفُ بَعْدَ كُلِّ بَابٍ مِنْهُ، وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَنْفَعَ بِهِ.

أَخَذَ النَّحْوَ أَوَّلًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْيَزِيدِيِّ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ، وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ سَبْعٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعِينَ. تُوَفِّيَ فِي دِمَشْقَ وَقِيلَ: بِطَبَرِيَّةَ. وَقَدْ شُرِحَتِ " الْجُمَلُ " بِشُرُوحٍ كَثِيرَةٍ، مِنْ أَحْسَنِهَا وَأَجْمَعِهَا مَا وَضَعَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا مَلَكَتِ الرُّومُ سَرُوجَ وَقَتَلُوا أَهْلَهَا وَخَرَّبُوا مَسَاجِدَهَا.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا قَصَدَ صَاحِبُ عُمَانَ الْبَصْرَةَ فَمَنَعَهُ مِنْهَا الْمُهَلَّبِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ: وَفِيهَا نَقِمَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَلَى وَزِيرِهِ، فَضَرَبَهُ مِائَةً وَخَمْسِينَ مِقْرَعَةً وَلَمْ يَعْزِلْهُ، بَلْ رَسَمَ عَلَيْهِ.
وَفِيهَا اخْتَصَمَ الْمِصْرِيُّونَ وَالْعِرَاقِيُّونَ بِمَكَّةَ، فَخُطِبَ لِصَاحِبِ مِصْرَ، ثُمَّ غَلَبَهُمُ الْعِرَاقِيُّونَ، فَخَطَبُوا لِرُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمَنْصُورِ الْفَاطِمِيِّ وَهُوَ أَبُو طَاهِرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَهْدِيِّ صَاحِبِ الْمَغْرِبِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَبْعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ عَاقِلًا شُجَاعًا فَاتِكًا، قَهَرَ أَبَا يَزِيدَ الْخَارِجِيَّ الَّذِي كَانَ لَا يُطَاقُ شَجَاعَةً وَإِقْدَامًا وَصَبْرًا، وَكَانَ

فَصِيحًا بَلِيغًا، يَرْتَجِلُ الْخُطْبَةَ عَلَى الْبَدِيهَةِ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ.
وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ ضَعْفُ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ، كَمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ "، فَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ، وَقَدْ عُهِدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ، وَهُوَ بَانِي الْقَاهِرَةِ الْمُعِزِّيَةِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ وَاسْمُهُ مَعَدٌّ، وَكَانَ عُمُرُهُ إِذْ ذَلِكَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ شُجَاعًا عَاقِلًا أَيْضًا، حَازِمَ الرَّأْيِ، أَطَاعَهُ مِنَ الْبَرْبَرِ وَأَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَبَعَثَ مَوْلَاهُ جَوْهَرًا الْقَائِدَ فَبَنَى لَهُ الْقَاهِرَةَ الْمُتَاخِمَةَ لِمِصْرَ، وَاتَّخَذَ لَهُ فِيهَا دَارَ الْمُلْكِ، وَهُمَا الْقَصْرَانِ اللَّذَانِ هُنَالِكَ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادِ بْنِ بِشْرِ بْنِ دِرْهَمٍ، أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ الْبَصَرِيُّ
سَكَنَ مَكَّةَ وَصَارَ شَيْخَ الْحَرَمِ، وَصَحِبَ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَالنُّورِيَّ وَغَيْرَهُمَا، وَأَسْنَدَ الْحَدِيثَ وَصَنَّفَ كُتُبًا لِلصُّوفِيَّةِ.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ صَالِحٍ، أَبُو عَلِيٍّ الصَّفَّارُ النَّحْوِيُّ
أَحَدُ الْمُحَدِّثِينَ، لَقِيَ الْمُبَرِّدَ وَاشْتَهَرَ بِصُحْبَتِهِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ

وَمِائَتَيْنِ، وَسَمِعَ الْحَسَنَ بْنَ عَرَفَةَ وَعَبَّاسًا الدُّورِيَّ وَغَيْرَهُمَا، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ.
وَقَالَ: صَامَ أَرْبَعَةً وَثَمَانِينَ رَمَضَانًا، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْقَائِمِ بْنِ الْمَهْدِيِّ، الْمُلَقَّبِ بِالْمَنْصُورِ الْعُبَيْدِيِّ
الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ فَاطِمِيٌّ، صَاحِبُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَهُوَ وَالِدُ الْمُعِزِّ بَانِي الْقَاهِرَةِ وَهُوَ بَانِي الْمَنْصُورِيَّةِ بِالْمَغْرِبِ.
كَانَ شُجَاعًا فَصِيحًا بَلِيغًا، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَرْوَرُّوذِيُّ: خَرَجْتُ مَعَهُ لَمَّا كَسَرَ أَبَا يَزِيدَ الْخَارِجِيَّ، فَبَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ مَعَهُ إِذْ سَقَطَ رُمْحُهُ، فَنَزَلْتُ فَنَاوَلْتُهُ إِيَّاهُ، وَذَهَبْتُ أُفَاكِهُهُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى كَمَا قَرَّ عَيْنًا بَالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ
فَقَالَ: هَلَّا قُلْتَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ [ الْأَعْرَافِ: 119 ] قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ ابْنُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتَ كَمَا عَلِمْتَ، وَأَنَا قُلْتُ بِمَا بَلَغَ إِلَيْهِ عِلْمِي.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهَذَا كَمَا جَرَى لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ حِينَ أَمَرَ الْحَجَّاجَ

أَنْ يَبْنِيَ بَابًا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَيَكْتُبَ عَلَيْهِ اسْمَهُ، فَبَنَى لَهُ بَابًا، وَبَنَى لِنَفْسِهِ بَابًا آخَرَ، فَوَقَعَتْ صَاعِقَةٌ عَلَى بَابِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَحْرَقَتْهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ مِنَ الْعِرَاقِ يُسَلِّيهِ عَمَّا أَهَمَّهُ مِنْ ذَلِكَ ; يَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَنَا وَأَنْتَ إِلَّا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ [ الْمَائِدَةِ: 27 ] قَالَ: فَسُرِّيَ عَنِ الْخَلِيفَةِ. كَانَتْ وَفَاةُ الْمَنْصُورِ هَذَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ لَمَّا أَصَابَهُ بَرْدٌ شَدِيدٌ فَمَاتَ بِهِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ صَاحِبُ حَلَبَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرَ آخَرِينَ، وَغَنِمَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَرَجَعَ سَالِمًا غَانِمًا.
وَفِيهَا اخْتَلَفَ الْحَجِيجُ بِمَكَّةَ، وَوَقَعَتْ حَرْبٌ بَيْنَ أَصْحَابِ ابْنِ طُغْجٍ وَأَصْحَابِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَغَلَبَهُمُ الْعِرَاقِيُّونَ، وَخَطَبُوا لِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَجِّ اخْتَلَفُوا، فَغَلَبَهُمُ الْعِرَاقِيُّونَ أَيْضًا، وَجَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ وَخُطُوبٌ كَبِيرَةٌ بَيْنَ الْخُرَاسَانِيَّةِ والسَّامَانِيَّةِ، تَقَصَّى ذِكْرَهَا ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ ". وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَهْمِ، أَبُو الْقَاسِمِ التَّنُوخِيُّ
جَدُّ الْقَاضِي أَبِي الْقَاسِمِ التَّنُوخِيُّ شَيْخُ الْخَطِيبِ، وُلِدَ بِأَنْطَاكِيَّةَ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ فَتَفَقَّهَ بِهَا عَلَى

مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَانَ يَعْرِفُ الْكَلَامَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَيَعَرِفُ النُّجُومَ، وَيَقُولُ الشِّعْرَ، وَلِيَ الْقَضَاءَ بِالْأَهْوَازِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ فَهِمًا ذَكِيًّا، حَفِظَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةٍ قَصِيدَةً لِدِعْبِلٍ الشَّاعِرِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ سِتُّمِائَةِ بَيْتٍ، وَعَرَضَهَا عَلَى أَبِيهِ صَبِيحَتَهَا، فَقَامَ إِلَيْهِ وَضَمَّهُ وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ، لَا تُخْبِرْ بِهَذَا أَحَدًا لِئَلَّا تُصِيبَكَ الْعَيْنُ.
وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ كَانَ نَدِيمًا لِلْوَزِيرِ الْمُهَلَّبِيِّ، وَوَفَدَ عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَوْرَدَ لَهُ مِنْ شِعْرِهِ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْخَمْرِ:
وَرَاحٍ مِنَ الشَّمْسِ مَخْلُوقَةٌ بَدَتْ لَكَ فِي قَدَحٍ مِنْ نَهَارِ هَوَاءٌ وَلَكِنَّهُ جَامِدٌ
وَمَاءٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ جَارِ كَأَنَّ الْمُدِيرَ لَهُ بِالْيَمِينِ
إِذَا مَالَ لِلسَّقْيِ أَوْ بِالْيَسَارِ تَدَرَّعَ ثَوْبًا مِنَ الْيَاسَمِينِ
لَهُ فَرْدُ كُمٍّ مِنَ الْجُلَّنَارِ
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ، أَبُو الْفَرَجِ الْبَغْدَادِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، يُعْرَفُ بِابْنِ سُكَّرَةَ، سَكَنَ مِصْرَ وَحَدَّثَ بِهَا، وَسَمِعَ مِنْهُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ مَسْرُورٍ، وَذَكَرَ أَنَّ فِيهِ لِينًا.

مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ الْمَأْمُونِ بْنِ الرَّشِيدِ هَارُونَ، أَبُو بَكْرٍ
وَلِيَ إِمْرَةَ مَكَّةَ فِي سِنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقِدِمَ مِصْرَ، فَحَدَّثَ بِهَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيِّ بِمُوَطَّأِ مَالِكٍ، وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا. تُوُفِّيَ بِمِصْرَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ وَبَيْنَ الدُّمُسْتُقِ، فَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِ الدُّمُسْتُقِ، وَأَسَرَ جَمَاعَةً مِنْ رُؤَسَاءِ بِطَارِقَتِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ قُسْطَنْطِينُ بْنُ الدُّمُسْتُقِ، وَسَبَى خَلْقًا كَثِيرًا وَأَسَرَ آخَرِينَ، وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ جَمَعَ الدُّمُسْتُقُ خَلْقًا كَثِيرًا، فَالْتَقَوْا مَعَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ فِي شَعْبَانَ، فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ عَظِيمَةٌ وَقِتَالٌ شَدِيدٌ، فَكَانَتِ الدَّائِرَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَخَذَلَ اللَّهُ الْكَافِرِينَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّءُوسِ، وَكَانَ مِنْهُمْ صِهْرُ الدُّمُسْتُقِ وَابْنُ بِنْتِهِ أَيْضًا.
وَفِيهَا حَصَلَ لِلنَّاسِ أَمْرَاضٌ كَثِيرَةٌ وَحُمَّيَاتٌ وَأَوْجَاعٌ فِي الْحَلْقِ.
وَفِيهَا مَاتَ الْأَمِيرُ الْحَمِيدُ نُوحُ بْنُ نَصْرٍ السَّامَانِيُّ، صَاحِبُ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، أَبُو عَلِيٍّ الْكَاتِبُ الْمِصْرِيُّ، صَحِبَ أَبَا عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيَّ وَغَيْرَهُ، وَكَانَ أَبُو عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيُّ يُعَظِّمُ أَمْرَهُ، وَيَقُولُ: أَبُو عَلِيٍّ الْكَاتِبُ

مِنَ السَّالِكِينَ.
وَمِنْ كَلَامِهِ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ قَوْلُهُ: رَوَائِحُ نَسِيمِ الْمَحَبَّةِ تَفُوحُ مِنَ الْمُحِبِّينَ وَإِنْ كَتَمُوهَا، وَتَظْهَرُ عَلَيْهِمْ دَلَائِلُهَا وَإِنْ أَخْفَوْهَا، وَتَبْدُو عَلَيْهِمْ وَإِنْ سَتَرُوهَا. وَأَنْشَدَ:
إِذَا مَا أَسَرَّتْ أَنْفُسُ النَّاسِ ذِكْرَهُ تَبَيَّنْتَهُ فِيهِمْ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمُوا تَطِيبُ بِهِ أَنْفَاسُهُمْ فَيُذِيعُهَا
وَهَلْ سِرُّ مِسْكٍ أُودِعَ الرِّيحَ يُكْتَمُ
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ هَمَّامٍ، أَبُو الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ الْكُوفِيُّ
قَدِمَ بَغْدَادَ فَحَدَّثَ بِهَا عَنْ جَمَاعَةٍ، وَرَوَى عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَكَانَ ثِقَةً عَدْلًا، كَثِيرَ التِّلَاوَةِ فَقِيهًا، وَمَكَثَ يَشْهَدُ عَلَى الْحُكَّامِ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، مَقْبُولًا عِنْدَهُمْ، وَأَذَّنَ فِي مَسْجِدِ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ نَيِّفًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَكَذَلِكَ أَبَوْهُ مِنْ قَبْلِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْكَرْخِيُّ الْأَدِيبُ
كَانَ عَالِمًا زَاهِدًا

وَرِعًا، يَخْتِمُ الْقُرْآنَ كُلَّ يَوْمٍ، وَيُدِيمُ الصَّوْمَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ عَبْدَانَ وَأَقْرَانِهِ.
أَبُو الْخَيْرِ التِّينَاتِيُّ
الْعَابِدُ الزَّاهِدُ، أَصِلُهُ مِنَ الْمَغْرِبِ، وَكَانَ مُقِيمًا بِقَرْيَةٍ، يُقَالُ لَهَا: تِينَاتُ. مِنْ عَمَلِ أَنْطَاكِيَةَ وَيُعَرَفُ بِالْأَقْطَعِ ; لِأَنَّهُ كَانَ مَقْطُوعَ الْيَدِ، كَانَ قَدْ عَاهَدَ اللَّهَ عَهْدًا، ثُمَّ نَكَثَهُ، فَاتَّفَقَ أَنْ مُسِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ اللُّصُوصِ فِي الصَّحْرَاءِ وَهُوَ هُنَاكَ، فَأُخِذَ مَعَهُمْ فَقُطِعَتْ يَدُهُ مَعَهُمْ، وَكَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ، وَكَانَ يَنْسِجُ الْخُوصَ بِيَدِهِ الْوَاحِدَةِ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَشَاهَدَ مِنْهُ ذَلِكَ، فَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ أَنْ لَا يُخْبِرَ بِهِ أَحَدًا مَا دَامَ حَيًّا، فَوَفَّى لَهُ بِذَلِكَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِيهَا شَمِلَ النَّاسَ، بِبَغْدَادَ وَوَاسِطٍ وَأَصْبَهَانَ وَالْأَهْوَازِ، دَاءٌ مُرَكَّبٌ مِنْ دَمٍ وَصَفْرَاءَ وَوَبَاءٍ، مَاتَ بِسَبَبِ ذَلِكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، بِحَيْثُ كَانَ يَمُوتُ فِي كُلِّ يَوْمٍ قَرِيبٌ مِنْ أَلْفِ نَفْسٍ، وَجَاءَ فِيهَا جَرَادٌ عَظِيمٌ أَكَلَ الْخُضْرَاوَاتِ وَالْأَشْجَارَ وَالثِّمَارَ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ عَقَدَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ لِابْنِهِ أَبِي مَنْصُورٍ بَخْتِيَارَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ بِإِمْرَةِ الْأُمَرَاءِ.
وَفِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ بِأَذْرَبِيجَانَ ادَّعَى أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَكَانَ يُحَرِّمُ اللَّحْمَ وَمَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، فَأَضَافَهُ مَرَّةً رَجُلٌ، فَجَاءَهُ بِطَعَامٍ كَشْكِيَّةٍ بِشَحْمٍ فَأَكَلَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ بِحَضْرَةِ مَنْ مَعَهُ: إِنَّكَ تَدَّعِي أَنَّكَ تَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَهَذَا طَعَامٌ فِيهِ شَحْمٌ، وَأَنْتَ تُحَرِّمُهُ فَلِمَ لَا عَلِمْتَهُ ؟! قَالَ: فَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ.
وَفِيهَا جَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ الْأُمَوِيِّ، اسْتَقْصَاهَا ابْنُ الْأَثِيرِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، أَبُو عَمْرٍو الدَّقَّاقُ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّمَّاكِ، رَوَى عَنْ حَنْبَلِ بْنِ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتًا، كَتَبَ الْمُصَنَّفَاتِ الْكَثِيرَةَ بِخَطِّهِ، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ التِّبْنِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَمْسُونَ أَلْفًا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو جَعْفَرٍ الْقَاضِي السَّمَنَانِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَكَنَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا، وَكَانَ ثِقَةً عَالِمًا سَخِيًّا حَسَنَ الْكَلَامِ، عِرَاقِيَّ الْمَذْهَبِ، وَكَانَتْ دَارُهُ مَجْمَعًا لِلْعُلَمَاءِ، ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَالْمَوْصِلِ وَتُوُفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بُطَّةَ بْنِ إِسْحَاقَ الْأَصْبَهَانِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
سَكَنَ نَيْسَابُورَ ثُمَّ عَادَ إِلَى أَصْبَهَانَ وَلَيْسَ هَذَا بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ

الْعُكْبَرِيِّ، وَهَذَا بِضَمِّ الْبَاءِ مِنْ بَطَّةَ، وَالْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ بِفَتْحِهَا. وَقَدْ كَانَ جَدُّ هَذَا، وَهُوَ بُطَّةُ بْنُ إِسْحَاقَ أَبُو سَعِيدٍ، مِنَ الْمُحَدِّثِينَ أَيْضًا. ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ ".
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ الْحَجَّاجِ أَبُو النَّضْرِ الْفَقِيهُ الطُّوسِيُّ
كَانَ فَقِيهًا عَالِمًا ثِقَةً عَابِدًا، يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَاضِلِ مِنْ قُوتِهِ، وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ رَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إِلَى الْأَقَالِيمِ النَّائِيَةِ وَالْبُلْدَانِ الْمُتَبَايِنَةِ، وَكَانَ قَدْ جَزَّأَ اللَّيْلَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَثُلُثٌ لِلنَّوْمِ، وَثُلُثٌ لِلتَّصْنِيفِ، وَثُلُثٌ لِلْقِرَاءَةِ.
وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: وَصَلْتَ إِلَى مَا طَلَبْتَهُ ؟ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ، نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ عَرَضْتُ مُصَنَّفَاتِي فِي الْحَدِيثِ عَلَيْهِ، فَقَبِلَهَا.
أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَدَّادِ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَدَّادِ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، رَوَى عَنِ النَّسَائِيِّ، وَقَالَ: رَضِيتُ بِهِ حُجَّةً بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدْ كَانَ ابْنُ الْحَدَّادِ فَقِيهًا فُرُوعِيًّا، وَمُحَدِّثًا وَنَحْوِيًّا، وَفَصِيحًا فِي الْعِبَارَةِ،

دَقِيقَ النَّظَرِ فِي الْفُرُوعِ، لَهُ كِتَابٌ فِي ذَلِكَ غَرِيبُ الشَّكْلِ، وَقَدْ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِمِصْرَ نِيَابَةً عَنْ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ حَرْبُوَيْهِ، وَذَكَرْنَاهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ".
أَبُو يَعْقُوبَ الْأَذْرَعِيُّ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ النَّهْدِيُّ
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: مِنْ أَهْلِ أَذْرِعَاتٍ ; مَدِينَةٍ بِالْبَلْقَاءِ، أَحَدُ الثِّقَاتِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، رَحَلَ وَحَدَّثَ عَنْ جَمَاعَةٍ، وَعَنْهُ آخَرُونَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ مِنْ أَجِلَّةِ أَهْلِ دِمَشْقَ وَعُبَّادِهَا وَعُلَمَائِهَا.
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَشْيَاءَ تَدُلُّ عَلَى صَلَاحِهِ وَخَرْقِ الْعَادَةِ لَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَقْبِضَ بَصَرِي فَعَمِيتُ، فَلَمَّا اسْتَضْرَرْتُ بِالطَّهَارَةِ سَأَلْتُ اللَّهَ عَوْدَهُ، فَرَدَّهُ عَلَيَّ.
تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى التِّسْعِينَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا عَصَى الرُّوزْبَهَانُ عَلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَانْحَازَ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَلَحِقَ بِهِ عَامَّةُ مَنْ كَانَ مَعَ الْمُهَلَّبِيِّ الَّذِي كَانَ يُحَارِبُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ لَمْ يُصَدِّقْ ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَرَفَعَ مِنْ قَدْرِهِ بَعْدَ الضَّعَةِ وَالْخُمُولِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَيْهِ لِقِتَالِهِ، فَاتَّبَعَهُ الْخَلِيفَةُ الْمُطِيعُ لِلَّهِ خَوْفًا مِنْ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَإِنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ قَدْ جَهَّزَ جَيْشًا مَعَ وَلَدِهِ أَبِي الْمُرَجَّى جَابِرٍ إِلَى بَغْدَادَ لِيَأْخُذَهَا حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ قَدْ خَرَجَ مِنْهَا، فَأَرْسَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ حَاجِبَهُ سُبُكْتِكِينَ إِلَى بَغْدَادَ لِيَحْفَظَهَا، وَقَصَدَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى الرُّوزْبَهَانِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا، فَهَزَمَهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ، وَفَرَّقَ أَصْحَابَهُ، وَأَخَذَهُ أَسِيرًا إِلَى بَغْدَادَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ فَسَجَنَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ لَيْلًا وَغَرَّقَهُ ; لِأَنَّ الدَّيْلَمَ أَرَادُوا إِخْرَاجَهُ مِنَ السَّجْنِ قَهْرًا، وَانْطَوَى ذِكْرُ رُوزْبَهَانَ وَإِخْوَتِهِ، وَكَانَ قَدِ اشْتَعَلَ اشْتِعَالَ النَّارِ، وَحَظِيَتِ الْأَتْرَاكُ عِنْدَ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَانْحَطَّتِ الدَّيْلَمُ عِنْدَهُ ; لِأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ خِيَانَتُهُمْ فِي أَمْرِ الرُّوزْبَهَانِ وَإِخْوَتِهِ.
وَفِيهَا دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَقَتَلَ وَسَبَى، وَرَجَعَ إِلَى أَذَنَةَ ثُمَّ عَادَ إِلَى حَلَبَ فَحَمِيَتِ الرُّومُ، فَجَمَعُوا وَأَقْبَلُوا إِلَى مَيَّافَارِقِينَ فَقَتَلُوا وَسَبَوْا وَحَرَقُوا وَرَجَعُوا، وَرَكِبُوا فِي الْبَحْرِ إِلَى طَرَسُوسَ فَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا أَلْفًا وَثَمَانِمِائَةٍ،

وَسَبَوْا وَحَرَقُوا قُرًى كَثِيرَةً.
وَفِيهَا زُلْزِلَتْ هَمَذَانُ زِلْزَالًا شَدِيدًا، انْهَدَمَتِ الْبُيُوتُ، وَانْشَقَّ قَصْرُ شِيرِينَ بِصَاعِقَةٍ، وَمَاتَ تَحْتَ الْهَدْمِ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ أَهْلِ أَصْبَهَانَ وَأَهْلِ قُمَّ بِسَبَبِ سَبِّ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ قُمَّ فَثَارَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ أَصْبَهَانَ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَنَهَبُوا أَمْوَالَ التُّجَّارِ، فَغَضِبَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ لِأَهْلِ قُمَّ ; لِأَنَّهُ كَانَ شِيعِيًّا، فَصَادَرَ أَهْلَ أَصْبَهَانَ بِأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

غُلَامُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ أَبُو عُمَرَ
الزَّاهِدُ غُلَامُ ثَعْلَبٍ رَوَى عَنِ الْكُدَيْمِيِّ وَمُوسَى بْنِ سَهْلٍ الْوَشَّاءِ وَغَيْرِهِمَا، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَآخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ.
وَكَانَ كَثِيرَ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ، حَافِظًا مُطَبِّقًا، يُمْلِي مِنْ حِفْظِهِ شَيْئًا كَثِيرًا، ضَابِطًا لِمَا يَحْفَظُهُ.
وَلِكَثْرَةِ إِغْرَابِهِ اتَّهَمَهُ بَعْضُهُمْ وَرَمَاهُ بِالْكَذِبِ، وَقَدِ اتَّفَقَ لَهُ مَعَ الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ - وَكَانَ يُؤَدِّبُ وَلَدَهُ - أَنَّهُ أَمْلَى مِنْ حِفْظِهِ ثَلَاثِينَ مَسْأَلَةً بِشَوَاهِدِهَا وَأَدِلَّتِهَا

مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَاسْتُشْهِدَ عَلَى بَعْضِهَا بِبَيْتَيْنِ غَرِيبَيْنِ جِدَّا، فَعَرَضَهَا الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ عَلَى ابْنِ دُرَيْدٍ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنِ مِقْسَمٍ، فَلَمْ يَعْرِفُوا مِنْهَا شَيْئًا، حَتَّى قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ هَذَا مَا وَضَعَهُ أَبُو عُمَرَ مِنْ عِنْدِهِ. فَلَمَّا جَاءَ أَبُو عُمَرَ ذَكَرَ لَهُ الْقَاضِي مَا قَالَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ عَنْهُ، فَطَلَبَ أَبُو عُمَرَ مِنَ الْقَاضِي أَنْ يُحْضِرَ لَهُ مِنْ كُتُبِهِ دَوَاوِينَ الْعَرَبِ. فَلَمْ يَزَلْ يَأْتِيهِ بِشَاهِدٍ لِمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ شَاهِدٍ، حَتَّى خَرَجَ مِنَ الثَّلَاثِينَ مَسْأَلَةٍ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْبَيْتَانِ فَإِنَّ ثَعْلَبًا أَنْشَدَنَاهُمَا وَأَنْتَ حَاضِرٌ، فَكَتَبْتَهُمَا فِي دَفْتَرِكَ. فَطَلَبَ الْقَاضِي دَفْتَرَهُ، فَإِذَا هُمَا فِيهِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ دُرَيْدٍ كَفَّ لِسَانَهُ عَنْ أَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ، فَلَمْ يَذْكُرْهُ حَتَّى مَاتَ.
وَتُوُفِّيَ أَبُو عُمَرَ هَذَا يَوْمَ الْأَحَدِ، وَدُفِنَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ فِي الصُّفَّةِ الْمُقَابِلَةِ لِقَبْرِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ بِبَغْدَادَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رُسْتُمَ أَبُو بَكْرٍ الْمَادَرَائِيُّ الْكَاتِبُ
كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ بِالْعِرَاقِ، ثُمَّ صَارَ إِلَى مِصْرَ هُوَ وَأَخُوهُ أَحْمَدُ مَعَ أَبِيهِمَا، وَكَانَ عَلَى الْخَرَاجِ لِخُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ ثُمَّ صَارَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّاسِ وَأَكَابِرِهِمْ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ وَطَبَقَتِهِ.

وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ بِبَابَيْ شَيْخٌ كَبِيرٌ مِنَ الْكُتَّابِ قَدْ بَطَلَ عَنْ وَظِيفَتِهِ، فَرَأَيْتُ وَالِدِي فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا بُنَيَّ، أَمَا تَتَّقِي اللَّهَ ؟ أَنْتَ مَشْغُولٌ بِلَذَّاتِكَ، وَالنَّاسُ بِبَابِكَ يَهْلَكُونَ مِنَ الْعُرْيِ وَالْجُوعِ، هَذَا فُلَانٌ قَدْ تَقَطَّعَ سَرَاوِيلُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِبْدَالِهِ، فَلَا تُهْمِلْ أَمْرَهُ. فَاسْتَيْقَظْتُ مَذْعُورًا، وَأَنَا نَاوٍ لَهُ الْإِحْسَانَ، فَنِمْتُ ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ وَقَدْ أُنْسِيتُ الْمَنَامَ، فَبَيْنَا أَنَا أَسِيرُ إِلَى دَارِ الْمَلِكِ، إِذَا بِذَلِكَ الشَّيْخِ عَلَى دَابَّةٍ ضَعِيفَةٍ، فَلَمَّا رَآنِي أَرَادَ أَنْ يَتَرَجَّلَ فَبَدَا لِي فَخِذُهُ، وَقَدْ لَبِسَ الْخُفَّ بِلَا سَرَاوِيلَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ ذَكَرْتُ الْمَنَامَ. فَاسْتَدْعَى بِهِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَأَطْلَقَ لَهُ أَلْفَ دِينَارٍ وَثِيَابًا، وَرَتَّبَ لَهُ عَلَى وَظِيفَتِهِ مِائَتَيْ دِينَارٍ كُلَّ شَهْرٍ، وَوَعَدَهُ بِخَيْرٍ فِي الْآجِلِ أَيْضًا.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ طَبَاطَبَا بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
الشَّرِيفُ الْحَسَنِيُّ الرَّسِّيُّ - قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَشْرَافِ - أَبُو الْقَاسِمِ الْمِصْرِيُّ الشَّاعِرُ، كَانَ نَقِيبَ الطَّالِبِيِّينَ بِمِصْرَ.
وَمِنْ شَعْرِهِ قَوْلُهُ:
قَالَتْ لِطَيْفِ خَيَالٍ زَارَنِي وَمَضَى بِاللَّهِ صِفْهُ وَلَا تَنْقُصْ وَلَا تَزِدِ فَقَالَ أَبْصَرْتُهُ لَوْ مَاتَ مِنْ ظَمَأٍ
وَقُلْتُ قِفْ لَا تَرِدْ لِلْمَاءِ لَمْ يَرِدِ

قَالَتْ صَدَقْتَ وَفَاءُ الْحُبِّ عَادَتُهُ
يَا بَرْدَ ذَاكَ الَّذِي قَالَتْ عَلَى كَبِدِي
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْمَذْهَبِ، بِسَبَبِ السَّبِّ، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ.
وَفِيهَا نَقَصَ الْبَحْرُ ثَمَانِينَ ذِرَاعًا، وَيُقَالُ: بَاعًا. فَبَدَتْ فِيهِ جِبَالٌ وَجَزَائِرُ لَمْ تَكُنْ تُرَى قَبْلَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا كَانَتْ بِالْعِرَاقِ وَبِلَادِ الرَّيِّ وَالْجَبَلِ وَقُمَّ وَنَحْوِهَا زَلَازِلُ كَثِيرَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ، نَحْوَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، تَسْكُنُ ثُمَّ تَعُودُ، فَتَهَدَّمَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَبْنِيَةٌ كَثِيرَةٌ، وَغَارَتْ مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ، وَمَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا تَجَهَّزَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ لِقِتَالِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ الَّذِي بِالْمَوْصِلِ، فَرَاسَلَهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، وَالْتَزَمَ لَهُ بِأَمْوَالٍ يَحْمِلُهَا إِلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُ مَنَعَ حَمْلَ مَا اشْتَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ، فَقَصَدَهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِيهَا فِي تِشْرِينَ مِنْهَا كَثُرَتْ فِي النَّاسِ أَوْجَاعٌ فِي الْحَلْقِ، وَالْمَاشَرَا، وَكَثُرَ مَوْتُ الْفَجْأَةِ، حَتَّى إِنَّ لِصًّا نَقَبَ دَارًا لِيَدْخُلَهَا، فَمَاتَ وَهُوَ فِي النَّقْبِ، وَلَبِسَ

الْقَاضِي خِلْعَةَ الْقَضَاءِ ; لِيَخْرُجَ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَبِسَ إِحْدَى خُفَّيْهِ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَلْبَسَ الْأُخْرَى.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو هُرَيْرَةَ الْعَدَوِيُّ
الْمُسْتَمْلِي عَلَى الْمَشَايِخِ، كَتَبَ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ ثِقَةً. تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا.
الْحَسَنُ بْنُ خَلَفِ بْنِ شَاذَانَ، أَبُو عَلِيٍّ الْوَاسِطِيُّ
رَوَى عَنْ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَغَيْرِهِمَا، وَرَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ". تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. هَكَذَا رَأَيْتُ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ " الْمُنْتَظَمِ " لِأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ مَعْقِلِ بْنِ

سِنَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأُمَوِيِّ، مَوْلَاهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَرَأَى الذُّهْلِيَّ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَرَحَلَ بِهِ أَبُوهُ إِلَى أَصْبَهَانَ وَمَكَّةَ وَمِصْرَ وَالشَّامَ وَالْجَزِيرَةِ وَبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، فَسَمِعَ الْكَثِيرَ عَنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى خُرَاسَانَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقَدْ صَارَ مُحَدِّثًا كَبِيرًا، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الصَّمَمُ وَاسْتَحْكَمَ حَتَّى كَانَ لَا يَسْمَعُ نَهِيقَ الْحِمَارِ، وَكَانَ مُؤَذِّنًا فِي مَسْجِدِهِ سَبْعِينَ سَنَةً، وَحَدَّثَ سِتًّا وَسَبْعِينَ سَنَةً، فَأَلْحَقَ الْأَحْفَادَ بِالْأَجْدَادِ، وَكَانَ ثِقَةً صَادِقًا ضَابِطًا لِمَا سَمِعَهُ وَيَسْمَعُهُ، ثُمَّ كُفَّ بَصَرُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ، وَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْ حِفْظِهِ بِأَرْبَعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَسَبْعِ حِكَايَاتٍ، وَمَاتَ وَقَدْ بَقِيَ لَهُ سَنَةٌ مِنَ الْمِائَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ بِبَغْدَادَ فِي شَهْرِ نِيسَانَ وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ، فَمَاتَ بِسَبَبِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَخَرِبَتْ دَوْرٌ كَثِيرَةٌ، وَظَهَرَ فِي آخِرِ نِيسَانَ وَشَهْرِ أَيَّارَ جَرَادٌ كَثِيرٌ أَتْلَفَ الْغَلَّاتِ الصَّيْفِيَّةَ وَالثِّمَارَ. وَدَخَلَتِ الرُّومُ آمِدَ وَمَيَّافَارِقِينَ، فَقَتَلُوا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ إِنْسَانٍ، وَأَخَذُوا مَدِينَةَ سُمَيْسَاطَ وَأَخْرَبُوهَا. فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا رَكِبَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى الْمَوْصِلِ فَأَخَذَهَا مِنْ يَدِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ وَهَرَبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى نَصِيبِينَ ثُمَّ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ ثُمَّ لَحِقَهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ، فَصَارَ إِلَى أَخِيهِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِحَلَبَ، ثُمَّ رَاسَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ فِي الْمُصَالَحَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَوَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى حَمْلِ كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَتِسْعِمِائَةِ أَلْفٍ، وَرَجَعَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ انْعِقَادِ الصُّلْحِ.
وَفِيهَا بَعَثَ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ مَوْلَاهُ أَبَا الْحَسَنِ جَوْهَرًا الْقَائِدَ فِي جُيُوشٍ، وَمَعَهُ زِيرِي بْنُ مَنَادٍ الصَّنْهَاجِيُّ، فَفَتَحُوا بِلَادًا كَثِيرَةً مِنْ أَقْصَى الْمَغْرِبِ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، فَأَمَرَ جَوْهَرُ بِأَنْ يُصْطَادَ لَهُ مِنْهُ سَمَكٌ، فَأَرْسَلَ بِهِ فِي قِلَالِ الْمَاءِ إِلَى

الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ، وَحَظِيَ جَوْهَرُ عِنْدَهُ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ حَتَّى صَارَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَزِيرِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَسْدَابَاذِيُّ
رَحَلَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَطَوَّفَ الْأَقَالِيمَ، سَمِعَ الْحَسَنَ بْنَ سُفْيَانَ وَابْنَ خُزَيْمَةَ وَأَبَا يَعْلَى وَخَلْقًا، وَكَانَ حَافِظًا مُتْقِنًا صَدُوقًا، صَنَّفَ الشُّرُوحَ وَالْأَبْوَابَ.
أَبُو سَعِيدِ بْنُ يُونُسَ، صَاحِبُ " تَارِيخِ مِصْرَ ": هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ الْمِصْرِيُّ الْمُؤَرِّخُ، كَانَ حَافِظًا مُكْثِرًا خَبِيرًا بِأَيَّامِ النَّاسِ وَتَوَارِيخِهِمْ، لَهُ تَارِيخٌ مُفِيدٌ جِدًّا لِأَهْلِ مِصْرَ وَمَنْ وَرَدَ إِلَيْهَا.
وَلَهُ وَلَدٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ. كَانَ مُنَجِّمًا، لَهُ زِيجٌ مُفِيدٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ أَصْحَابُ هَذَا الْفَنِّ، كَمَا يَرْجِعُ الْمُحَدِّثُونَ إِلَى أَقْوَالِ أَبِيهِ وَمَا يُؤَرِّخُهُ وَيَنْقُلُهُ وَيَحْكِيهِ. وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ السَّادِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ بِالْقَاهِرَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ النَّحْوِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ دَرَسْتَوَيْهِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ،

أَبُو مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ النَّحْوِيُّ
سَكَنَ بَغْدَادَ وَسَمِعَ عَبَّاسًا الدُّورِيَّ وَابْنَ قُتَيْبَةَ وَالْمُبَرِّدَ، وَسَمِعَ مِنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَذَكَرَ لَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ مُصَنَّفَاتٍ كَثِيرَةً مُفِيدَةً، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، أَبُو الْحَسَنِ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ
قَاضِي بَغْدَادَ كَانَ حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، طَلَّابَةً لِلْحَدِيثِ، وَمَعَ هَذَا نُسِبَ إِلَى أَخْذِ الرِّشْوَةِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْوِلَايَاتِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيُّ، الْخَاطِبُ الدِّمَشْقِيُّ
وَأَظُنُّهُ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ حَارَةُ الْخَاطِبِ مِنْ نَوَاحِي بَابِ الصَّغِيرِ، كَانَ خَطِيبَ دِمَشْقَ فِي أَيَّامِ الْإِخْشِيدِ وَكَانَ شَابًّا حَسَنَ الْوَجْهِ، مَلِيحَ الشَّكْلِ، كَامِلَ الْخُلُقِ
تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، هَكَذَا أَرَّخَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ، قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَوَقَعَ حَرِيقٌ بِبَابِ الطَّاقِ، وَغَرِقَ فِي دِجْلَةَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْحُجَّاجِ مِنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ نَحْوٌ مِنْ سِتِّمِائَةِ نَفْسٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا دَخَلَتِ الرُّومُ طَرَسُوسَ وَالرُّهَا فَقَتَلُوا وَسَبَوْا، وَغَنِمُوا وَرَجَعُوا سَالِمِينَ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا قَلَّتِ الْأَمْطَارُ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ، وَاسْتَسْقَى النَّاسُ فَلَمْ يُسْقَوْا، وَظَهَرَ جَرَادٌ عَظِيمٌ فِي آذَارَ، فَأَكَلَ مَا نَبَتَ مِنَ الْخُضْرَاوَاتِ، فَاشْتَدَّ الْأَمْرُ جِدًّا، فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
وَفِيهَا عَادَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ مِنَ الْمَوْصِلِ وَزَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنَ ابْنِ أَخِيهِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ بْنِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَسَيَّرَهَا مَعَهُ إِلَى الرَّيِّ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَيْبَانَ، أَبُو إِسْحَاقَ الْقِرْمِيسِينِيُّ
شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ بِالْجَبَلِ،

صَحِبَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيَّ، وَمِنْ جَيِّدِ كَلَامِهِ قَوْلُهُ: إِذَا سَكَنَ الْخَوْفُ الْقَلْبَ أَحْرَقَ مَوَاضِعَ الشَّهَوَاتِ مِنْهُ، وَطَرَدَ عَنْهُ الرَّغْبَةَ فِي الدُّنْيَا.
أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، أَحْمَدُ بْنُ سَلْمَانَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ إِسْرَائِيلَ بْنِ يُونُسَ، أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ الْفَقِيهُ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ وَأَبَا دَاوُدَ وَالْبَاغَنْدِيَّ وَابْنَ أَبِي الدُّنْيَا وَخَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ يَطْلُبُ الْحَدِيثَ مَاشِيًا حَافِيًا، وَقَدْ جَمَعَ الْمُسْنَدَ، وَصَنَّفَ فِي السُّنَنِ كِتَابًا كَبِيرًا، وَكَانَتْ لَهُ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ حَلْقَتَانِ ; وَاحِدَةٌ لِلْفِقْهِ وَأُخْرَى لِإِمْلَاءِ الْحَدِيثِ.
وَحَدَّثَ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ رِزْقَوَيْهِ وَابْنُ شَاهِينَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَكَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ، وَيُفْطِرُ كُلَّ لَيْلَةٍ عَلَى رَغِيفٍ، وَيَعْزِلُ مِنْهُ لُقْمَةً، فَإِذَا كَانَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَكَلَ تِلْكَ اللُّقَمَ، وَتَصَدَّقَ بِرَغِيفِ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ قَرِيبًا مِنْ قَبْرِ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ الْحَافِي، رَحِمَهُ اللَّهُ.
جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرِ بْنِ الْقَاسِمِ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَوَّاصُ الْمَعْرُوفُ

بِالْخُلْدِيِّ
سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَحَدَّثَ كَثِيرًا، وَحَجَّ سِتِّينَ حِجَّةً، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا دَيِّنًا.
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو عَمْرٍو الزَّجَّاجِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ
صَحِبَ أَبَا عُثْمَانَ وَالْجُنَيْدَ وَالنُّورِيَّ وَالْخَوَّاصَ وَغَيْرَهُمْ، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ شَيْخَ الصُّوفِيَّةِ بِهَا، وَحَجَّ سِتِّينَ حِجَّةً، وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَتَغَوَّطْ وَلَمْ يَبُلْ إِلَّا خَارِجَ الْحَرَمِ بِالْكُلِّيَّةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ فَضَالَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، أَبُو بَكْرٍ الْأَدَمِيُّ
صَاحِبُ الْأَلْحَانِ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَوْتًا بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَرُبَّمَا سَمِعَ أَهْلُ كَلْوَاذَا صَوْتَهُ مِنْ بَغْدَادَ فِي اللَّيْلِ.
وَحَجَّ مَرَّةً مَعَ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ، فَلَمَّا كَانُوا بِالْمَدِينَةِ رَأَوْا شَيْخًا أَعْمَى يَقُصُّ عَلَى النَّاسِ أَخْبَارًا مَوْضُوعَةً، فَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَنْبَغِي الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِبَغْدَادَ يَعْرِفُكَ النَّاسُ، وَالْجَمْعُ كَثِيرٌ هَاهُنَا، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تَأْمُرَ أَبَا بَكْرٍ الْأَدَمِيَّ فَيَقْرَأَ لَنَا. فَاسْتَفْتَحَ، فَقَرَأَ، فَانْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَتَرَكُوا

الْأَعْمَى فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ أَحَدٌ فَأَخَذَ الْأَعْمَى بِيَدِ قَائِدِهِ، وَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ بِي، هَكَذَا تَزُولُ النِّعَمُ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِمُدَّةٍ، فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ ؟ فَقَالَ: أَوْقَفَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَاسَيْتُ شَدَائِدَ. فَقُلْتُ لَهُ: فَتِلْكَ اللَّيَالِي وَالْمَوَاقِفُ وَالْقِرَاءَةُ ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ شَيْءٌ أَضَرَّ عَلَيَّ مِنْهَا ; لِأَنَّهَا كَانَتْ لِلدُّنْيَا، فَقُلْتُ: فَإِلَى أَيِّ شَيْءٍ انْتَهِي أَمْرُكَ. فَقَالَ: قَالَ لِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: آلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ لَا أُعَذِّبَ أَبْنَاءَ الثَّمَانِينَ.
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ طَبَاطَبَا بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْهَاشِمِيُّ الْمِصْرِيُّ، كَانَ مِنْ سَادَاتِهَا وَكُرَمَائِهَا وَأَجْوَادِهَا، لَا تَزَالُ الْحَلْوَاءُ تُعْقَدُ بِدَارِهِ، وَلَا يَزَالُ رَجُلٌ يَكْسِرُ اللَّوْزَ بِسَبَبِهَا كُلَّ يَوْمٍ بِبَابِهِ، وَلِلنَّاسِ عَلَيْهِ رَوَاتِبُ الْحَلْوَاءِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُهْدَى إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ، وَمِنْهُمْ فِي الْجُمُعَةِ، وَفِي الشَّهْرِ.

وَكَانَ لِكَافُورٍ الْإِخْشِيدِيِّ فِي كُلِّ يَوْمٍ جَامَانِ وَرَغِيفٌ مِنَ الْحُوَّارَى، وَلَمَّا قَدِمَ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ إِلَى الْقَاهِرَةِ تَلَقَّاهُ وَسَأَلَهُ: إِلَى مَنْ يَنْتَسِبُ مَوْلَانَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ ؟ فَقَالَ: الْجَوَابُ إِلَى أَهْلِ الْبَلَدِ. فَلَمَّا دَخَلَ الْقَصْرَ جَمَعَ الْأَشْرَافَ، وَسَلَّ نِصْفَ سَيْفِهِ، وَقَالَ: هَذَا نَسَبِي، ثُمَّ نَثَرَ عَلَيْهِمُ الذَّهَبَ، وَقَالَ: هَذَا حَسَبِي، فَقَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْقَائِلَ لِلْمُعِزِّ هَذَا الْكَلَامَ ابْنُ هَذَا أَوْ شَرِيفٌ آخَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ; فَإِنَّ وَفَاةَ هَذَا كَانَتْ فِي هَذَا الْعَامِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَالْمُعِزُّ إِنَّمَا قَدِمَ مِصْرَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا ظَهَرَ رَجُلٌ بِأَذْرَبِيجَانَ مِنْ أَوْلَادِ عِيسَى بْنِ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ، فَتَلَقَّبَ بِالْمُسْتَجِيرِ بِاللَّهِ، وَدَعَا إِلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَذَلِكَ لِفَسَادِ دَوْلَةِ الْمَرْزُبَانِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا كَثِيرًا، ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُ الْمُسْتَجِيرِ، وَأُخِذَ أَسِيرًا فَمَاتَ، وَاضْمَحَلَّ أَمْرُهُ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ بِلَادَ الرُّومِ، فَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَفَتَحَ حُصُونًا، وَأَحْرَقَ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَسَبَى وَغَنِمَ، وَكَرَّ رَاجِعًا، فَأَخَذَتْ عَلَيْهِ الرُّومُ الدَّرْبَ فَمَنَعُوهُ مِنَ الرُّجُوعِ، وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِي أَصْحَابِهِ، فَمَا نَجَا فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ إِلَّا بَعْدَ جَهْدٍ جَهِيدٍ.
وَفِيهَا كَانَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِبَغْدَادَ بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَالسُّنَّةِ، قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ.
وَفِيهَا فِي آخِرِهَا تُوُفِّيَ أَنُوجُورُ بْنُ الْإِخْشِيدِ صَاحِبُ مِصْرَ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ أَخُوهُ عَلِيٌّ.
وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الْأَهْوَازِ وَوَاسِطٍ.
وَفِيهَا رَجَعَ حَجِيجُ مِصْرَ مِنْ مَكَّةَ فَنَزَلُوا وَادِيًا، فَجَاءَهُمْ سَيْلٌ فَأَخَذَهُمْ

كُلَّهُمْ، فَأَلْقَاهُمْ فِي الْبَحْرِ عَنْ آخِرِهِمْ.
وَفِيهَا أَسْلَمَ مِنَ التُّرْكِ مِائَتَا أَلْفِ خَرْكَاهْ، فَسُمُّوا تُرْكَ إِيمَانٍ، ثُمَّ خُفِّفَ اللَّفْظُ بِذَلِكَ، فَقِيلَ: تُرْكُمَانُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

جَعْفَرُ بْنُ حَرْبٍ الْكَاتِبُ
كَانَتْ لَهُ نِعْمَةٌ وَثَرْوَةٌ عَظِيمَةٌ تُقَارِبُ أُبَّهَةَ الْوُزَرَاءِ، فَاجْتَازَ يَوْمًا وَهُوَ رَاكِبٌ فِي مَوْكِبٍ لَهُ عَظِيمٍ، فَسَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [ الْحَدِيدِ: 16 ] فَصَاحَ: اللَّهُمَّ بَلَى. وَكَرَّرَهَا دَفَعَاتٍ، ثُمَّ بَكَى، ثُمَّ نَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ، نَزَعَ ثِيَابَهُ، وَدَخَلَ إِلَى دِجْلَةَ، فَاسْتَتَرَ بِالْمَاءِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ حَتَّى فَرَّقَ جَمِيعَ مَالِهِ فِي الْمَظَالِمِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ، وَرَدَّهَا إِلَى أَهْلِهَا، وَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ بِالْكُلِّيَّةِ، فَاجْتَازَ بِهِ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِثَوْبَيْنِ، فَلَبِسَهُمَا وَخَرَجَ، فَانْقَطَعَ إِلَى الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ حَتَّى مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ بْنِ دَاوُدَ، أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ النَّيْسَابُورِيُّ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ الْمُكْثِرِينَ الْمُصَنِّفِينَ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ إِمَامًا مُهَذَّبًا.

وَكَانَ ابْنُ عُقْدَةَ لَا يَتَوَاضَعُ لِأَحَدٍ كَتَوَاضُعِهِ لَهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
حَسَّانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ هَارُونَ، أَبُو الْوَلِيدِ الْقُرَشِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، إِمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِخُرَاسَانَ فِي زَمَانِهِ، وَأَزْهَدُهُمْ وَأَعْبَدُهُمْ، أَخَذَ الْفِقْهَ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ، وَلَهُ التَّصَانِيفُ الْمُفِيدَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيِّينَ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ مَضَيْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
حَمْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ
سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَصَنَّفَ التَّصَانِيفَ، مِنْهَا: " الْمَعَالِمُ " شَرَحَ فِيهَا سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ،

وَ " الْأَعْلَامُ " شَرَحَ فِيهِ الْبُخَارِيَّ وَ " غَرِيبُ الْحَدِيثِ ". وَلَهُ فَهْمٌ مَلِيحٌ، وَعِلْمٌ غَزِيرٌ، وَمَعْرِفَةٌ بِاللُّغَةِ وَالْمَعَانِي وَالْفِقْهِ.
وَمِنْ أَشْعَارِهِ:
مَا دُمْتَ حَيًّا فَدَارِ النَّاسَ كُلَّهُمُ فَإِنَّمَا أَنْتَ فِي دَارِ الْمُدَارَاةِ مَنْ يَدْرِ دَارَى وَمَنْ لَمْ يَدْرِ سَوْفَ يُرَى
عَمَّا قَلِيلٍ نَدِيمًا لِلنَّدَامَاتِ
هَكَذَا تَرْجَمَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُنْتَظَمِهِ حَرْفًا بِحَرْفٍ.
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ
كَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِحُرُوفِ الْقُرْآنِ وَوُجُوهِ الْقِرَاءَاتِ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٌ، وَكَانَ مِنَ الْأُمَنَاءِ الثِّقَاتِ، رَوَى عَنِ ابْنِ مُجَاهِدٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، وَعَنْهُ أَبُو الْحَسَنِ الْحَمَّامِيُّ. تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الْخَيْزُرَانِ.
أَبُو أَحْمَدَ الْعَسَّالُ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو أَحْمَدَ الْعَسَّالُ الْأَصْبَهَانِيُّ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ وَأَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَحَدَّثَ بِهِ.

قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ: كَتَبْتُ عَنْ أَلْفِ شَيْخٍ لَمْ أَرَ فِيهِمْ أَتْقَنَ مِنْ أَبِي أَحْمَدَ الْعَسَّالِ. تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا مَرِضَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ بِانْحِصَارِ الْبَوْلِ، فَقَلِقَ مِنْ ذَلِكَ، وَجَمَعَ بَيْنَ حَاجِبِهِ سُبُكْتِكِينَ وَوَزِيرِهِ الْمُهَلَّبِيِّ، وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا وَوَصَّاهُمَا بِوَلَدِهِ بَخْتِيَارَ خَيْرًا، ثُمَّ عُوفِيَ مِنْ ذَلِكَ، فَعَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ مِنْ هَوَاءِ بَغْدَادَ وَمَائِهَا، فَأُشِيرَ عَلَيْهِ بِالْمُقَامِ بِهَا، وَأَنْ يَبْنِيَ بِهَا دَارًا فِي أَعْلَاهَا حَيْثُ الْهَوَاءُ أَرَقُّ وَالْمَاءُ أَصْفَى، فَبَنَى لَهُ دَارًا غَرِمَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَاحْتَاجَ لِذَلِكَ أَنْ يُصَادِرَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ وَيُقَالُ: أَنْفَقَ عَلَى هَذِهِ الدَّارِ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمَاتَ وَهُوَ يَبْنِي فِيهَا، وَقَدْ خَرَّبَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ مَعَالِمِ بَغْدَادَ فِي بِنَائِهَا، وَكَانَ مِمَّا خَرَّبَ فِيهَا الْمَعْشُوقُ مِنْ سُرَّ مَنْ رَأَى، وَقَلَعَ الْأَبْوَابَ الْحَدِيدَ الَّتِي عَلَى مَدِينَةِ الْمَنْصُورِ وَالرُّصَافَةِ وَقَصْرِهَا، وَحَوَّلَهَا إِلَى دَارِهِ هَذِهِ لَا تَمَّتْ فَرْحَتُهُ بِهَا.
وَفِيهَا مَاتَ الْقَاضِي أَبُو السَّائِبِ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَقُبِضَتْ أَمْلَاكُهُ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ الْقَضَاءَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، وَضَمِنَ أَنْ يُؤَدِّيَ فِي كُلِّ سَنَةٍ إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ، وَسَارَ وَمَعَهُ الدَّبَادِبُ وَالْبُوقَاتُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ ضَمِنَ الْقَضَاءَ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْخَلِيفَةُ الْمُطِيعُ لِلَّهِ

فِي الْحُضُورِ عِنْدَهُ وَلَا فِي حُضُورِ الْمَوْكِبِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ ضَمِنَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ الشُّرْطَةَ وَضَمِنَ الْحِسْبَةَ أَيْضًا.
وَفِيهَا سَارَ قَفَلٌ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ يُرِيدُونَ طَرَسُوسَ وَفِيهِمْ نَائِبُ أَنْطَاكِيَةَ فَثَارَ عَلَيْهِمُ الْفِرِنْجُ، فَأَخَذُوهُمْ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ سِوَى النَّائِبِ جَرِيحًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ بَدَنِهِ.
وَفِيهَا دَخَلَ نَجَا غُلَامُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِلَادَ الرُّومِ، فَقَتَلَ وَسَبَى وَغَنِمَ، وَرَجَعَ سَالِمًا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ نُوحٍ
صَاحِبُ خُرَاسَانَ سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ، فَمَاتَ، فَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ مَنْصُورُ بْنُ نُوحٍ السَّامَانِيُّ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ
صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ خَمْسِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ يَوْمَ مَاتَ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَتَرَكَ أَحَدَ عَشَرَ وَلَدًا، وَكَانَ أَبْيَضَ حَسَنَ الْوَجْهِ، عَظِيمَ الْجِسْمِ، طَوِيلَ الظَّهْرِ، قَصِيرَ السَّاقَيْنِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَلَقَّبَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَوْلَادِ الْأُمَوِيِّينَ الدَّاخِلِينَ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَذَلِكَ حِينَ بَلَغَهُ ضَعْفُ الْخُلَفَاءِ بِالْعِرَاقِ، وَتَغَلُّبُ الْفَاطِمِيِّينَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَتَلَقَّبَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَلَمَّا تُوُفِّيَ قَامَ

بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ الْحَكَمُ، وَتَلَقَّبَ بِالْمُسْتَنْصِرِ، وَمِنْ جُمْلَةِ أَوْلَادِ النَّاصِرِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ نَاسِكًا شَاعِرًا، وَلَا يُعْرَفُ فِي الْخُلَفَاءِ أَطْوَلَ مُدَّةً مِنَ النَّاصِرِ الْأُمَوِيِّ - فَإِنَّهُ مَكَثَ خَمْسِينَ سَنَةً - سِوَى الْمُسْتَنْصِرِ بْنِ الْحَاكِمِ الْفَاطِمِيِّ صَاحِبِ مِصْرَ، فَإِنَّهُ مَكَثَ سِتِّينَ سَنَةً، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَبُو سَهْلِ بْنُ زِيَادٍ الْقَطَّانُ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، أَبُو سَهْلٍ الْقَطَّانُ
كَانَ ثِقَةً حَافِظًا كَثِيرَ التِّلَاوَةِ لِلْقُرْآنِ، حَسَنَ الِانْتِزَاعِ لِلْمَعَانِي مِنْهُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى تَكْفِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [ آلِ عِمْرَانَ: 156 ]
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَيَانٍ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْخُطَبِيُّ، سَمِعَ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي أُسَامَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ الْكُدَيْمِيَّ وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا فَاضِلًا نَبِيلًا عَارِفًا بِأَيَّامِ النَّاسِ وَالْخُلَفَاءِ، وَلَهُ تَارِيخٌ مُرَتَّبٌ عَلَى السِّنِينَ، وَكَانَ أَدِيبًا لَبِيبًا عَاقِلًا صَدُوقًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ الْوَرَّاقُ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ فُطَيْسٍ، وَكَانَ حَسَنَ الْكِتَابَةِ مَشْهُورًا بِهَا، وَكَانَ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ لِابْنِ جَوْصَا تَرْجَمَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ بِثَانِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
تَمَّامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ - بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَبُو بَكْرٍ الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ
حَدَّثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، وَعَنْهُ ابْنُ رِزْقَوَيْهِ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً أَيْضًا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، أَحَدُ الْأَئِمَّةِ، لَهُ " الْمُحَرَّرُ " فِي الْخِلَافِ، وَهُوَ أَوَّلُ مُصَنِّفٍ فِيهِ، وَلَهُ " الْإِفْصَاحُ " فِي الْمَذْهَبِ، وَكِتَابٌ فِي الْجَدَلِ، وَكِتَابٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " الطَّبَقَاتِ ".
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عِيسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ

الْمَنْصُورُ، أَبُو جَعْفَرٍ الْهَاشِمِيُّ الْإِمَامُ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ بُرَيْهٍ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، رَوَى عَنِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ ابْنُ رِزْقَوَيْهِ، وَكَانَ خَطِيبًا بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَقَدْ خَطَبَ فِيهِ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقَبْلَهَا بِمِائَةِ سَنَةٍ خَطَبَ فِيهِ الْوَاثِقُ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهُمَا فِي النَّسَبِ إِلَى الْمَنْصُورِ سَوَاءٌ. تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا.
عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَبُو السَّائِبِ الْهَمَذَانِيُّ
الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ، كَانَ فَاضِلًا بَارِعًا، تَقَدَّمَ. وَوَلِيَ الْقَضَاءَ، وَكَانَ فِيهِ تَخْلِيطٌ فِي الْأُمُورِ، وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي، وَأَمَرَ بِي إِلَى الْجَنَّةِ عَلَى مَا كَانَ مِنِّي مِنَ التَّخْلِيطِ، وَقَالَ لِي: إِنِّي آلَيْتُ أَنْ لَا أُعَذِّبَ أَبْنَاءَ الثَّمَانِينَ.
وَهَذَا الرَّجُلُ أَوَّلُ مَنْ وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَنْبِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رَاجِيَانَ
أَبُو بَكْرٍ الدِّهْقَانُ،

بَغْدَادِيٌّ، سَكَنَ بُخَارَى، وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْحَسَنِ بْنِ مُكْرَمٍ وَغَيْرِهِمَا، وَتُوُفِّيَ عَنْ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
أَبُو عَلِيٍّ الْخَازِنُ
تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا، فَوُجِدَ فِي دَارِهِ مِنَ الدَّفَائِنِ وَعِنْدَ النَّاسِ مِنَ الْوَدَائِعِ مَا يُقَارِبُ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
دُخُولُ الرُّومِ إِلَى حَلَبَ
فِيهَا دَخَلَ الدُّمُسْتُقُ مَلِكُ الرُّومِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - إِلَى حَلَبَ فِي مِائَتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَيْهَا بَغْتَةً، فَنَهَضَ إِلَيْهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ بِمَنْ حَضَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَاتَلَهُ فَلَمْ يَقْوَ بِهِ لِكَثْرَةِ جُنُودِهِ، وَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ قَلِيلَ الصَّبْرِ، فَفَرَّ مُنْهَزِمًا فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا اسْتَفْتَحَ بِهِ أَنِ اسْتَحْوَذَ عَلَى دَارِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ ظَاهِرَ الْبَلَدِ، فَأَخَذَ مِنْهَا أَمْوَالًا عَظِيمَةً وَحَوَاصِلَ، وَعُدَدًا لِلْحَرْبِ لَا تُحْصَى كَثْرَةً، ثُمَّ تَدَنَّى فَحَاصَرَ السُّورَ، فَقَاتَلَ أَهْلَ الْبَلَدِ دُونَهُ قِتَالًا عَظِيمًا، وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الرُّومِ، وَثَلَمَتِ الرُّومُ فِي السُّورِ ثُلْمَةً عَظِيمَةً، فَوَقَفَ فِيهَا الرُّومُ، فَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، فَأَزَاحُوهُمْ عَنْهَا، فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ جَدَّ الْمُسْلِمُونَ فِي عِمَارَتِهَا، فَمَا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ إِلَّا وَهِيَ كَمَا كَانَتْ، وَحَفِظُوا السُّورَ حِفْظًا عَظِيمًا، ثُمَّ بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ رَجَّالَةَ الشُّرَطِ قَدْ عَاثُوا فِي الْبَلَدِ يَنْهَبُونَ الدُّورَ، فَرَجَعَ النَّاسُ إِلَى مَنَازِلِهِمْ يَمْنَعُونَهَا مِنْهُمْ، وَغَلَبَتِ الرُّومُ عَلَى السُّورِ، فَعَلَوْهُ وَدَخَلُوا الْبَلَدَ يَقْتُلُونَ مَنْ لَقُوهُ، فَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَانْتَهَبُوا الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ وَالنِّسَاءَ، وَخَلَّصُوا مَنْ كَانَ

بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ أُسَارَى الرُّومِ، وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، فَأَخَذُوا السُّيُوفَ فَقَاتَلُوا مَعَ قَوْمِهِمْ، وَكَانُوا أَضْرَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَسَرُوا نَحْوًا مِنْ بِضْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مَا بَيْنَ صَبِيٍّ وَصَبِيَّةٍ، وَمِنَ النِّسَاءِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَمِنَ الرِّجَالِ أَلْفَيْنِ، وَخَرَّبُوا الْمَسَاجِدَ وَأَحْرَقُوهَا، وَصَبُّوا فِي جِبَابِ الزَّيْتِ الْمَاءَ حَتَّى فَاضَ الزَّيْتُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَهَلَكَ، وَكُلُّ شَيْءٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى حَمْلِهِ أَحْرَقُوهُ، وَأَقَامُوا فِي الْبَلَدِ تِسْعَةَ أَيَّامٍ يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْمَفَاسِدَ الْعَظِيمَةَ، ثُمَّ عَزَمَ الدُّمُسْتُقُ عَلَى الِانْصِرَافِ خَوْفًا مِنْ رُجُوعِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ أُخْتِهِ: أَتَذْهَبُ وَتَتْرُكُ الْقَلْعَةَ وَرَاءَكَ ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّا قَدْ بَلَغْنَا فَوْقَ مَا كُنَّا نُؤَمِّلُهُ، وَإِنَّ بِهَا مُقَاتِلَةً وَرِجَالًا غُزَاةً، فَقَالَ: لَا بُدَّ لَنَا مِنْهَا. فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَيْهَا. فَصَمَدَ إِلَيْهَا لِيُحَاصِرَهَا فَرَمَوْهُ بِحَجَرٍ، فَقَتَلَهُ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ مِنْ بَيْنِ الْجَيْشِ كُلِّهِ، فَغَضِبَ الدُّمُسْتُقُ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ مَنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ أَلْفَيْنِ، فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا، قَبَّحَهُ اللَّهُ وَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ دَخَلُوا عَيْنَ زَرْبَةَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَاسْتَأْمَنَهُمْ أَهْلُهَا فَأَمَّنَهُمُ الْمَلِكُ، وَأَمَرَ بِأَنْ يَدْخُلُوا كُلُّهُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَمَنْ بَقِيَ فِي مَنْزِلِهِ قُتِلَ، فَصَارَ أَهْلُهَا كُلُّهُمْ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ مِنْهُمْ قُتِلَ، ثُمَّ قَالَ: لَا يَبْقَيْنَ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْيَوْمَ إِلَّا ذَهَبَ حَيْثُ شَاءَ، وَمَنْ تَأَخَّرَ قُتِلَ، فَازْدَحَمُوا فِي خُرُوجِهِمْ مِنَ

الْمَسْجِدِ، فَمَاتَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَخَرَجُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ لَا يَدْرُونَ أَيْنَ يَذْهَبُونَ، فَمَاتَ فِي الطُّرُقَاتِ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ هَدَمَ الْجَامِعَ، وَكَسَرَ الْمِنْبَرَ، وَقَطَعَ مِنْ حَوْلِ الْبَلَدِ أَرْبَعِينَ أَلْفَ نَخْلَةٍ، وَهَدَمَ سُورَ الْبَلَدِ وَالْمَنَازِلَ الْمُشَارَ إِلَيْهَا مِنْهَا، وَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً، وَفَتَحَ حَوْلَهَا أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ حِصْنًا، بَعْضُهَا بِالسَّيْفِ وَبَعْضُهَا بِالْأَمَانِ، وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرَتِ الرُّومُ أَبَا فِرَاسِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ نَائِبَ مَنْبِجَ مِنْ جِهَةِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ شَاعِرًا مُطْبِقًا، لَهُ دِيوَانٌ حَسَنٌ. وَكَانَ مُدَّةُ مُقَامِهِ بِعَيْنِ زَرْبَةَ أَحَدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى قَيْسَارِيَّةَ فَلَقِيَهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ طَرَسُوسَ مَعَ نَائِبِهَا ابْنِ الزَّيَّاتِ فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ، وَأَدْرَكَهُ صَوْمُ النَّصَارَى فَاشْتَغَلَ بِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْهُ، ثُمَّ هَجَمَ عَلَى حَلَبَ بَغْتَةً، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَتِ الْعَامَّةُ مِنَ الرَّوَافِضِ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ بِبَغْدَادَ: لَعَنَ اللَّهُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَلَعَنَ مَنْ غَصَبَ فَاطِمَةَ فَدَكَ - يَعْنُونَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَنْ أَخْرَجَ الْعَبَّاسَ مِنَ الشُّورَى - يَعْنُونَ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَنْ نَفَى أَبَا ذَرٍّ - يَعْنُونَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَنْ مَنَعَ دَفْنَ الْحَسَنِ عِنْدَ جَدِّهِ - يَعْنُونَ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ -، وَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ لَمْ يُنْكِرْهُ وَلَمْ يُغَيِّرْهُ، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مَحَوْا ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِأَنْ يُكْتَبَ: لَعَنَ اللَّهُ الظَّالِمِينَ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَالتَّصْرِيحِ بِاسْمِ مُعَاوِيَةَ فِي اللَّعْنِ، فَكُتِبَ ذَلِكَ. قَبَّحَ اللَّهُ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ وَشِيعَتَهُ مِنَ الرَّوَافِضِ، وَكَذَلِكَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ بِحَلَبَ فِيهِ تَشَيُّعٌ وَمَيْلٌ إِلَى الرَّوَافِضِ، وَلَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَنْصُرُ أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ، وَيُدِيلُ عَلَيْهِمْ أَعْدَاءَهُمْ ; لِمُتَابَعَتِهِمْ أَهْوَاءَهُمْ، وَتَقْلِيدِهِمْ سَادَتَهُمْ وَكُبَرَاءَهُمْ وَآبَاءَهُمْ، وَتَرْكِ

مُتَابَعَتِهِمْ أَنْبِيَاءَهُمْ وَعُلَمَاءَهُمْ، وَلِهَذَا لَمَّا مَلَكَتِ الْفَاطِمِيَّةُ بِلَادَ الشَّامِ ; اسْتَحْوَذَ عَلَى سَوَاحِلِهَا كُلِّهَا حَتَّى بَيْتِ الْمَقْدِسِ الْفِرِنْجُ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ سِوَى حَلَبَ وَحِمْصَ وَحَمَاةَ وَدِمَشْقَ وَبَعْضِ أَعْمَالِهَا، وَجَمِيعُ السَّوَاحِلِ مَعَ الْفِرِنْجِ وَالنَّوَاقِيسُ النَّصْرَانِيَّةُ وَالْقُسُوسُ الْإِنْجِيلِيَّةُ تَنْعَرُ فِي الشَّوَاهِقِ مِنَ الْحُصُونِ وَالْقِلَاعِ، وَتَكْنُو فِي أَمَاكِنِ الْمَسَاجِدِ وَشَرِيفِ الْبِقَاعِ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِسَبَبِ الْمَذَاهِبِ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ.
وَفِيهَا أَعَادَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بِنَاءَ عَيْنِ زَرْبَةَ وَبَعَثَ مَوْلَاهُ نَجَا، فَدَخَلَ بِلَادَ الرُّومِ، فَقَتَلَ مِنْهَا خَلْقًا كَثِيرًا وَسَبَى جَمًّا غَفِيرًا، وَغَنِمَ وَسَلِمَ، وَبَعَثَ حَاجِبَهُ مَعَ جَيْشِ طَرَسُوسَ فَدَخَلُوا بِلَادَ الرُّومِ فَغَنِمُوا وَسَبَوْا وَرَجَعُوا سَالِمِينَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا فَتَحَ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ حِصْنَ طَبَرْمِينَ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ - وَكَانَ مِنْ أَحْصَنِ بِلَادِ الْفِرِنْجِ - افْتَتَحَهُ قَسْرًا بَعْدَ مُحَاصَرَةٍ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفَ شَهْرٍ. وَقَصَدَتِ الْفِرِنْجُ جَزِيرَةَ أَقْرِيطِشَ فَاسْتَنْجَدَ أَهْلُهَا بِالْمُعِزِّ، فَسَيَّرَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا، فَانْتَصَرُوا عَلَى الْفِرِنْجِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيُّ
الْوَزِيرُ لِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، مَكَثَ وَزِيرًا فِي وِزَارَتِهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ فِيهِ حِلْمٌ وَكَرَمٌ وَأَنَاةٌ.
حَكَى أَبُو إِسْحَاقَ الصَّابِئُ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَهُ وَقَدْ جِيءَ بِدَوَاةٍ قَدْ صُنِعَتْ لَهُ وَمِرْفَعٍ قَدْ حُلِّيَا بِحِلْيَةٍ كَثِيرَةٍ، فَقَالَ لِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشِّيرَازِيُّ - سِرًّا بَيْنِي وَبَيْنَهُ -: مَا كَانَ أَحْوَجَنِي إِلَيْهَا لِأَبِيعَهَا وَأَنْتَفِعَ بِهَا، فَقُلْتُ: وَأَيُّ شَيْءٍ يَفْعَلُ الْوَزِيرُ ؟ فَقَالَ: يَدْخُلُ فِي حِرِ أُمِّهِ، فَسَمِعَهَا الْوَزِيرُ وَهُوَ مُصْغٍ إِلَيْنَا وَلَا نَشْعُرُ، فَلَمَّا أَمْسَى بَعَثَ بِالدَّوَاةِ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ الشِّيرَازِيِّ وَمِرْفَعِهَا وَعَشْرَةِ ثِيَابٍ وَخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَاصْطَنَعَ لَهُ غَيْرَهَا، فَاجْتَمَعْنَا يَوْمًا آخَرَ عِنْدَهُ، وَهُوَ يُوَقِّعُ مِنْ تِلْكَ الدَّوَاةِ الْجَدِيدَةِ، فَنَظَرَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: هِيهِ، مَنْ مِنْكُمَا يُرِيدُهَا مَعَ الْإِعْفَاءِ مِنَ الدُّخُولِ ؟ قَالَ: فَاسْتَحْيَيْنَا، وَعَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ سَمِعَ كَلَامَنَا يَوْمَئِذٍ، وَقُلْنَا: بَلْ يُمَتِّعُ اللَّهُ الْوَزِيرَ بِهَا، وَيُبْقِيهِ لِيَهَبَ أَلْفًا مِثْلَهَا.

تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
دَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ دَعْلَجَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَبُو مُحَمَّدٍ السِّجِسْتَانِيُّ الْمُعَدِّلُ، سَمِعَ بِخُرَاسَانَ وَحُلْوَانَ وَبَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَمَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ ذَوِي الْيَسَارِ وَالْمَشْهُورِينَ بِالْبِرِّ وَالْإِفْضَالِ، وَلَهُ صَدَقَاتٌ جَارِيَةٌ، وَأَوْقَافٌ دَارَّةٌ عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ بِبَغْدَادَ وَمَكَّةَ وَسِجِسْتَانَ.
وَكَانَتْ لَهُ دَارٌ عَظِيمَةٌ بِبَغْدَادَ، فَكَانَ يَقُولُ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِثْلُهَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِثْلُ بَغْدَادَ وَلَا فِي بَغْدَادَ مِثْلُ الْقَطِيعَةِ، وَلَا فِي الْقَطِيعَةِ مِثْلُ دَرْبِ أَبِي خَلَفٍ، وَلَيْسَ فِي دَرْبِ أَبِي خَلَفٍ مَثَلُ دَارِي.
وَصَنَّفَ الدَّارَقُطْنِيُّ لَهُ مُسْنَدًا، وَكَانَ إِذَا شَكَّ فِي حَدِيثٍ تَرَكَهُ، فَكَانَ الدَّارَقُطْنِيُّ يَقُولُ: لَمْ أَرَ فِي مَشَايِخِنَا أَثْبَتَ مِنْهُ.
وَقَدْ أَنْفَقَ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَذَوِي الْحَاجَاتِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً كَثِيرَةً جِدًّا، اقْتَرَضَ مِنْهُ بَعْضُ التُّجَّارِ عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ فَضَمِنَ بِهَا ضِيَاعًا، فَرَبَحَ فِي مُدَّةِ ثَلَاثِ سِنِينَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَعَزَلَ مِنْهَا عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَجَاءَهُ بِهَا، فَأَضَافَهُ دَعْلَجُ ضِيَافَةً حَسَنَةً، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ شَأْنِهَا قَالَ: مَا شَأْنُكَ ؟ قَالَ لَهُ: هَذِهِ الدَّنَانِيرُ الَّتِي تَفَضَّلْتَ بِهَا قَدْ حَضَرَتْ. فَقَالَ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ ! إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهَا لِتَرُدَّهَا،

فَحَلِّ بِهَا الْأَهْلَ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَبِحْتُ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَهَذِهِ مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ دَعْلَجُ: اذْهَبْ بِهَا، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ. فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ يَتَّسِعُ مَالُكَ لِهَذَا ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَفَدْتَ هَذَا الْمَالَ ؟ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ فِي حَدَاثَةِ سِنِّي أَطْلُبُ الْحَدِيثَ، فَجَاءَنِي رِجُلٌ تَاجِرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَحْرِ، فَدَفَعَ إِلَيَّ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ: اتَّجِرْ فِي هَذِهِ، فَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فَبَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَمَا كَانَ مِنْ خَسَارَةٍ فَعَلَيَّ دُونَكَ، وَعَلَيْكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ إِنْ وَجَدْتَ حَاجَةً أَوْ خَلَّةً فَسُدَّهَا مِنْ مَالِي هَذَا. ثُمَّ جَاءَنِي فَقَالَ: إِنِّي سَأَرْكَبُ فِي الْبَحْرِ، فَإِنْ هَلَكْتُ، فَالْمَالُ فِي يَدِكَ عَلَى مَا شَرَطْتُ عَلَيْكَ. فَهُوَ فِي يَدِي عَلَى مَا قَالَ. ثُمَّ قَالَ لِي: لَا تُخْبِرْ بِهَذَا أَحَدًا مُدَّةَ حَيَاتِي. فَلَمْ أُخْبِرْ بِهِ أَحَدًا حَتَّى مَاتَ.
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعِ بْنِ مَرْزُوقٍ أَبُو الْحُسَيْنِ الْأُمَوِيُّ مَوْلَاهُمْ، سَمِعَ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي أُسَامَةَ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ وَالْحِفْظِ، وَلَكِنَّهُ تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ يُخْطِئُ وَيُصِرُّ عَلَى الْخَطَأِ. تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ الْمُفَسِّرُ، مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادِ بْنِ هَارُونَ

بْنِ جَعْفَرٍ، أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ
الْمُفَسِّرُ الْمُقْرِئُ، مَوْلَى أَبِي دُجَانَةَ سِمَاكِ بْنِ خَرَشَةَ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَوْصِلِ وَكَانَ عَالِمًا بِالتَّفْسِيرِ وَالْقِرَاءَاتِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى عَنْ خَلْقٍ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ وَالْخُلْدِيُّ وَابْنُ شَاهِينَ وَابْنُ رِزْقَوَيْهِ وَخَلْقٌ، وَآخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، وَتَفَرَّدَ بِأَشْيَاءَ مُنْكَرَةٍ، وَقَدْ وَقَفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَخْطَائِهِ، فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِتَكْذِيبِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَهُ كِتَابُ التَّفْسِيرِ الَّذِي سَمَّاهُ " شِفَاءَ الصُّدُورِ " فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ إِشْفَاءُ الصُّدُورِ.
وَقَدْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا فِي نَفْسِهِ، عَابِدًا نَاسِكًا، حَكَى مَنْ حَضَرَهُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ يَدْعُو بِدُعَاءٍ، ثُمَّ رَفَعَ صَوْتَهُ يَقُولُ: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [ الصَّافَّاتِ: 61 ] يُرَدِّدُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ خَرَجَتْ رُوحُهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الثَّانِي مِنْ شَوَّالٍ مِنْهَا، وَدُفِنَ فِي دَارِهِ بِدَارِ الْقُطْنِ.
مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو بَكْرٍ الْحَرْبِيُّ
الزَّاهِدُ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الضَّرِيرِ، كَانَ ثِقَةً عَابِدًا. وَمِنْ قَوْلِهِ: دَافَعْتُ الشَّهَوَاتِ حَتَّى صَارَتْ شَهْوَتِي الْمُدَافَعَةُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - أَنْ تُغْلَقَ الْأَسْوَاقُ وَأَنْ يَلْبَسَ النَّاسُ الْمُسُوحَ مِنَ الشَّعْرِ، وَأَنْ تَخْرُجَ النِّسَاءُ حَاسِرَاتٍ عَنْ وُجُوهِهِنَّ، نَاشِرَاتٍ شُعُورَهُنَّ فِي الْأَسْوَاقِ، يَلْطُمْنَ وُجُوهَهُنَّ، يَنُحْنَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ فَفُعِلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُمْكِنْ أَهْلَ السُّنَّةِ مَنْعُ ذَلِكَ ; لِكَثْرَةِ الشِّيعَةِ، وَكَوْنِ السُّلْطَانِ مَعَهُمْ.
وَفِي ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا أَمَرَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِإِظْهَارِ الزِّينَةِ بِبَغْدَادَ وَأَنْ تُفْتَحَ الْأَسْوَاقُ بِاللَّيْلِ كَمَا فِي الْأَعْيَادِ، وَأَنْ تُضْرَبَ الدَّبَادِبُ وَالْبُوقَاتُ، وَأَنْ تُشْعَلَ النِّيرَانُ بِأَبْوَابِ الْأُمَرَاءِ وَعِنْدَ الشُّرَطِ ; فَرَحًا بَعِيدِ الْغَدِيرِ - غَدِيرِ خُمٍّ - فَكَانَ وَقْتًا عَجِيبًا وَيَوْمًا مَشْهُودًا، وَبِدْعَةً ظَاهِرَةً مُنْكَرَةً.
وَفِيهَا أَغَارَتِ الْأَرْمَنُ عَلَى الرُّهَا فَقَتَلُوا وَأَسَرُوا، وَرَجَعُوا مُوقَرِينَ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - وَثَارَتِ الرُّومُ بِمَلِكِهِمْ فَقَتَلُوهُ، وَوَلَّوْا غَيْرَهُ، وَمَاتَ الدُّمُسْتُقُ مَلِكُ الْأَرْمَنِ، وَاسْمُهُ النِّقْفُورُ، وَهُوَ الَّذِي أَخَذَ حَلَبَ وَلِتُكْتَبَ تَرْجَمَتُهُ فِي آخِرِ الْجُزْءِ.

وَفِيهَا عُزِلَ ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ عَنِ الْقَضَاءِ، وَنُقِضَتْ سِجِلَّاتُهُ، وَأُبْطِلَتْ أَحْكَامُهُ مُدَّةَ أَيَّامِهِ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ أَبُو بِشْرٍ عُمَرُ بْنُ أَكْثَمَ بِلَا رِزْقٍ، وَرُفِعَ عَنْهُ مَا كَانَ يَحْمِلُهُ ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ اسْتَسْقَى النَّاسُ لِتَأَخُّرِ الْمَطَرِ وَذَلِكَ فِي كَانُونَ الثَّانِي.
وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " عَنْ ثَابِتِ بْنِ سِنَانٍ الْمُؤَرِّخِ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ مِمَّنْ أَثِقُ بِهِمْ أَنَّ بَعْضَ بَطَارِقَةِ الْأَرْمَنِ أَنْفَذَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْأَرْمَنِ مُلْتَصِقَيْنِ، سِنُّهُمَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، مُلْتَحِمَيْنِ وَمَعَهُمَا أَبُوهُمَا، وَلَهُمَا سُرَّتَانِ وَبِطَنَّانِ وَمَعِدَتَانِ، وَجُوعُهُمَا يَخْتَلِفُ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا يَمِيلُ إِلَى النِّسَاءِ، وَالْآخَرُ يَمِيلُ إِلَى الْغِلْمَانِ، وَكَانَ يَقَعُ بَيْنَهُمَا خُصُومَةٌ وَتَشَاجُرٌ، وَرُبَّمَا حَلَفَ أَحَدُهُمَا لَا يُكَلِّمُ الْآخَرَ، فَيَمْكُثُ كَذَلِكَ أَيَّامًا، ثُمَّ يَصْطَلِحَانِ، فَوَهَبَهُمَا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمَا، وَدَعَاهُمَا إِلَى الْإِسْلَامِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمَا أَسْلَمَا. وَأَرَادَ أَنْ يَبْعَثَهُمَا إِلَى بَغْدَادَ لِيَرَاهُمَا النَّاسُ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُمَا رَجَعَا إِلَى بَلَدِهِمَا

مَعَ أَبِيهِمَا، فَاعْتَلَّ أَحَدُهُمَا، وَمَاتَ وَأَنْتَنَ رِيحُهُ، وَبَقِيَ الْآخَرُ لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ اتِّصَالُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْخَاصِرَتَيْنِ، وَقَدْ كَانَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أَرَادَ فَصْلَ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، وَجَمَعَ الْأَطِبَّاءَ لِذَلِكَ فَلَمْ يُمْكِنْ، فَلَمَّا مَاتَ أَحَدُهُمَا حَارَ أَبُوهُمَا فِي فَصْلِهِ عَنْ أَخِيهِ، فَاتَّفَقَ اعْتِلَالُ الْآخَرِ مِنْ غَمِّهِ وَنَتْنِ رَائِحَةِ أَخِيهِ، فَمَاتَ غَمًّا، فَدُفِنَا جَمِيعًا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

عُمَرُ بْنُ أَكْثَمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَيَّانَ بْنِ بِشْرٍ، أَبُو بِشْرٍ الْأَسَدِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ فِي زَمَنِ الْمُطِيعِ نِيَابَةً عَنْ أَبِي السَّائِبِ عُتْبَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ سِوَى أَبِي السَّائِبِ، وَكَانَ مَحْمُودَ السِّيرَةِ فِي الْقَضَاءِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا عَمِلَتِ الرَّافِضَةُ عَزَاءَ الْحُسَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، فَاقْتَتَلَ الرَّوَافِضُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْتُهِبَتِ الْأَمْوَالُ.
وَفِيهَا عَصَى نَجَا غُلَامُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي قَدْ صَادَرَ أَهْلَ حَرَّانِ وَأَخَذَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا كَثِيرَةً فَتَمَرَّدَ بِهَا، وَذَهَبَ إِلَى بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ فَأَخَذَ طَائِفَةً مِنْهَا مِنْ يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْأَعْرَابِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الْوَرْدِ، فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَسَارَ إِلَيْهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ فَأَخَذَهُ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأُلْقِيَتْ جِيفَتُهُ فِي الْأَقْذَارِ وَمَحَلِّ الْجِيَفِ وَالنَّتَنِ.
وَفِيهَا جَاءَ الدُّمُسْتُقُ إِلَى الْمِصِّيصَةِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فَحَاصَرَهَا وَنَقَبَ سُورَهَا، فَدَافَعَهُ أَهْلُهَا، فَأَحْرَقَ رُسْتَاقَهَا، وَقَتَلَ مِمَّنْ حَوْلَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ

إِنْسَانٍ، وَعَاثُوا فَسَادًا فِي بِلَادِ أَذَنَةَ وَطَرَسُوسَ، وَكَرُّوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا قَصَدَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ الْمَوْصِلَ وَجَزِيرَةَ ابْنِ عُمَرَ فَأَخْذَهَا مِنْ يَدِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، ثُمَّ سَارَ فِي طَلَبِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَكَرَّ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ فِي جَيْشٍ قَدْ هَيَّأَهُ، فَاسْتَرْجَعَ الْمُلْكَ مِنْ يَدِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَعَادَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ فَأَخَذَ الْمَوْصِلَ وَأَقَامَ بِهَا، فَرَاسَلَهُ فِي الصُّلْحِ صَاحِبُهَا، فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْحِمْلُ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَأَنْ يَكُونَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ وَلِيَّ عَهْدِ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَجَابَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَكَرَّ رَاجِعًا إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ مَا جَرَتْ لَهُ خُطُوبٌ عَظِيمَةٌ طَوِيلَةٌ قَدِ اسْتَقْصَاهَا ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ " وَبَسَطَهَا.
وَفِيهَا ظَهَرَ رَجُلٌ بِبِلَادِ الدَّيْلَمِ، وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ مِنْ أَوْلَادِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَيُعْرَفُ بِابْنِ الدَّاعِي، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، وَتَسَمَّى بِالْمَهْدِيِّ، وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْ بَغْدَادَ وَعَظُمَ شَأْنُهُ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، وَهَرَبَ مِنْهُ ابْنُ النَّاصِرِ الْعَلَوِيُّ.
وَفِيهَا قَصَدَ مَلِكُ الرُّومِ، وَفِي صُحْبَتِهِ الدُّمُسْتُقُ مَلِكُ الْأَرْمَنِ بِلَادَ طَرَسُوسَ فَحَاصَرُوهَا مُدَّةً، ثُمَّ غَلَتْ عَلَيْهِمُ الْأَسْعَارُ، وَأَخَذَ فِيهِمُ الْوَبَاءُ، فَمَاتَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، فَكَّرُوا رَاجِعِينَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [ الْأَحْزَابِ: 25 ]. وَكَانَ مِنْ عَزْمِهِمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَسْتَحْوِذُونَ عَلَى الْبِلَادِ كُلِّهَا، فَرَجَعُوا خَاسِئِينَ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الْمَجَازِ بِبِلَادِ صِقِلِّيَّةَ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَقْبَلَ مِنَ الرُّومِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَمِنَ الْفِرِنْجِ مَا يُقَارِبُ الْمِائَةَ أَلْفٍ، فَبَعَثَ أَهْلُ صِقِلِّيَّةَ إِلَى الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ يَسْتَنْجِدُونَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِجُيُوشٍ كَثِيرَةٍ فِي الْأُسْطُولِ، فَكَانَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ صَبَرَ فِيهَا الْفَرِيقَانِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ، ثُمَّ قُتِلَ أَمِيرُ الرُّومِ مَنْوِيلُ وَفَّرَتِ الرُّومُ وَانْهَزَمُوا هَزِيمَةً قَبِيحَةً، فَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَسَقَطَ الْفِرِنْجُ فِي وَادٍ مِنَ الْمَاءِ عَمِيقٍ فَغَرِقَ أَكْثَرُهُمْ، وَرَكِبَ الْبَاقُونَ فِي الْمَرَاكِبِ، فَبَعَثَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ صَاحِبُ صِقِلِّيَّةَ فِي آثَارِهِمْ مَرَاكِبَ أُخَرَ، فَقَتَلُوا أَكْثَرَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْبَحْرِ أَيْضًا، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ شَيْئًا كَثِيرًا، مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْأَسْلِحَةِ، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ سَيْفٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: هَذَا سَيْفٌ هِنْدِيٌّ زِنَتُهُ مِائَةٌ وَسَبْعُونَ مِثْقَالًا، طَالَمَا قُوتِلَ بِهِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبُعِثَ فِي جُمْلَةِ تُحَفٍ إِلَى الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ.

وَفِيهَا قَصَدَتِ الْقَرَامِطَةُ مَدِينَةَ طَبَرِيَّةَ لِيَأْخُذُوهَا مِنْ يَدِ الْإِخْشِيدِ صَاحِبِ مِصْرَ وَالشَّامِ، وَطَلَبُوا مِنْ سَيْفِ الدَّوْلَةِ أَنْ يَمُدَّهُمْ بِحَدِيدٍ يَتَّخِذُونَ مِنْهُ سِلَاحًا، فَقَلَعَ لَهُمْ أَبْوَابَ الرَّقَّةِ - وَكَانَتْ مِنْ حَدِيدٍ - حَتَّى أَخَذَ أَوَاقِيَّ الْبَاعَةِ، وَأَرْسَلَ

بِذَلِكَ كُلِّهِ إِلَيْهِمْ حَتَّى قَالُوا: اكْتَفَيْنَا.
وَفِيهَا طَلَبَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مِنَ الْخَلِيفَةِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي دُخُولِ دَارِ الْخِلَافَةِ لِيَتَفَرَّجَ فِيهَا، فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَهَا، فَبَعَثَ خَادِمَهُ وَحَاجِبَهُ مَعَهُ، فَطَافُوا مَعَهُ فِيهَا، وَهُوَ مُسْرِعٌ خَائِفٌ، ثُمَّ خَرَجَ وَقَدْ خَافَ مِنْ غَائِلَةِ ذَلِكَ، وَخَشِيَ أَنْ يُقْتَلَ فِي بَعْضِ الدَّهَالِيزِ، فَتَصَدَّقَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ لَمَّا خَرَجَ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى سَلَامَتِهِ، وَازْدَادَ حُبًّا فِي الْخَلِيفَةِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ مِنْ يَوْمِئِذٍ، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا رَأَى مِنَ الْعَجَائِبِ بِهَا صَنَمٌ مِنْ نُحَاسٍ عَلَى صُورَةِ امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ جِدًّا، وَحَوْلَهَا أَصْنَامٌ صِغَارٌ فِي هَيْئَةِ الْخَدَمِ لَهَا، كَانَ قَدْ أُتِيَ بِهِ فِي زَمَنِ الْمُقْتَدِرِ، فَأُقِيمَ هُنَاكَ لِيَتَفَرَّجَ عَلَيْهِ الْجَوَارِي وَالنِّسَاءُ، فَهَمَّ الْمُعِزُّ أَنْ يَطْلُبَهُ مِنَ الْخَلِيفَةِ، ثُمَّ ارْتَأَى فَتَرَكَ ذَلِكَ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا خَرَجَ رَجُلٌ بِالْكُوفَةِ، فَادَّعَى أَنَّهُ عَلَوِيٌّ، وَكَانَ يَتَبَرْقَعُ فَسُمِّي الْمُبَرْقَعَ، وَغَلُظَتْ قَضِيَّتُهُ وَبَعُدَ صِيتُهُ، وَذَلِكَ فِي غَيْبَةِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ عَنْ بَغْدَادَ وَاشْتِغَالِهِ بِأَمْرِ الْمَوْصِلِ وَنَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَلَمَّا تَوَطَّدَتِ الْأُمُورُ وَعَادَ إِلَى بَغْدَادَ اخْتَفَى الْمُبَرْقَعُ، وَذَهَبَ فِي الْبِلَادِ، فَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ أَمْرٌ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

بَكَّارُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَكَّارِ بْنِ بُنَانِ بْنِ بَكَّارِ بْنِ زِيَادِ بْنِ دَرَسْتَوَيْهِ،

أَبُو عِيسَى الْمُقْرِئُ
رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، وَعَنْهُ أَبُو الْحَسَنِ الْحَمَّامِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً، أَقْرَأَ الْقُرْآنَ أَزْيَدَ مِنْ سِتِّينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ وَقَارَبَ الثَّمَانِينَ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الْخَيْزُرَانِ عِنْدَ قَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ.
أَبُو إِسْحَاقَ الْهُجَيْمِيُّ
وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ إِذَا سُئِلَ أَنْ يُحَدِّثَ يُقْسِمُ أَنْ لَا يُحَدِّثَ حَتَّى يُجَاوِزَ الْمِائَةَ، فَأَبِرَّ اللَّهُ قَسَمَهُ، وَجَاوَزَهَا فَأَسْمَعَ. تُوُفِّيَ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ وَثَلَاثِ سِنِينَ. رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا عَمِلَتِ الشِّيعَةُ الْمَآتِمَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي السَّنَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ وَعُلِّقَتِ الْمُسُوحُ، وَخَرَجَتِ النِّسَاءُ سَافِرَاتٍ نَاشِرَاتٍ، يَنُحْنَ وَيَلْطُمْنَ وُجُوهَهُنَّ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْأَزِقَّةِ، وَهَذَا تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ وَلَا فِي الدُّنْيَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا أَمْرًا مَحْمُودًا لَكَانَ صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَخِيرَتُهَا أَوْلَى بِهِ ; إِذْ لَوْ كَانَ خَيْرًا لَسَبَقُونَا إِلَيْهِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقْتَدُونَ وَلَا يَبْتَدِعُونَ، وَتَسَلَّطَتْ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى الرَّوَافِضِ، فَكَبَسُوا مَسْجِدَ بَرَاثَا الَّذِي هُوَ عُشُّ الرَّوَافِضِ، وَقَتَلُوا بَعْضَ مَنْ كَانَ فِيهِ مِنَ الْقَوَمَةِ.
وَفِيهَا فِي رَجَبٍ مِنْهَا جَاءَ مَلِكُ الرُّومِ بِجُيُوشٍ كَثِيفَةٍ إِلَى الْمِصِّيصَةِ فَفَتَحَهَا قَسْرًا، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا، وَاسْتَاقَ بَقِيَّتَهُمْ مَعَهُ أُسَارَى، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفِ إِنْسَانٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَجَاءَ إِلَى طَرَسُوسَ فَسَأَلَ أَهْلُهَا مِنْهُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِالْجَلَاءِ عَنْهَا وَالِانْتِقَالِ مِنْهَا، فَاتَّخَذَ الْجَامِعَ إِسْطَبْلًا لِخُيُولِهِ، وَحَرَّقَ الْمِنْبَرَ، وَنَقَلَ قَنَادِيلَهُ إِلَى كَنَائِسِ بَلَدِهِ، وَتَنَصَّرَ بَعْضُ أَهْلِهَا مَعَهُ، لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَكَانَ أَهْلُ طَرَسُوسَ وَالْمِصِّيصَةِ قَدْ أَصَابَهُمْ قَبْلَ هَذَا الْبَلَاءِ غَلَاءٌ عَظِيمٌ وَوَبَاءٌ

شَدِيدٌ بِحَيْثُ كَانَ يَمُوتُ مِنْهُمْ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثُمِائَةِ نَفَرٍ، ثُمَّ دَهَمَهُمْ هَذَا الْأَمْرُ الشَّدِيدُ، فَانْتَقَلُوا مِنْ شَهَادَةٍ إِلَى شَهَادَةٍ أَعْظَمَ مِنْهَا.
وَعَزَمَ مَلِكُ الرُّومِ عَلَى الْمُقَامِ بِطَرَسُوسَ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ عَنَّ لَهُ، فَسَارَ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَفِي خِدْمَتِهِ الدُّمُسْتُقُ مَلِكُ الْأَرْمَنِ، لَعَنَهُمَا اللَّهُ.
وَفِيهَا جُعِلَ أَمْرُ تَسْفِيرِ الْحَجِيجِ إِلَى نَقِيبِ الطَّالِبِيِّينَ، وَكُتِبَ لَهُ مَنْشُورٌ بِالنِّقَابَةِ وَالْحَجِيجِ، وَهُوَ أَبُو أَحْمَدَ الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى الْمُوسَوِيُّ وَهُوَ وَالِدُ الرَّضِيِّ وَالْمُرْتَضَى.
وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ أُخْتُ مُعَزِّ الدَّوْلَةِ، فَرَكِبَ الْخَلِيفَةُ فِي طَيَّارَةٍ، وَجَاءَ إِلَيْهِ فَعَزَّاهُ، فَقَبَّلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَشَكَرَ لَهُ سَعْيَهُ إِلَيْهِ، وَصَدَقَاتِهِ عَلَيْهِ.
وَفِي ثَامِنِ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ عَمِلَتِ الرَّوَافِضُ عِيدَ غَدِيرِ خُمٍّ عَلَى الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
وَفِيهَا تَغَلَّبَ عَلَى أَنْطَاكِيَةَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: رَشِيقٌ النُّسَيْمِيُّ، بِمُسَاعَدَةِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْأَهْوَازِيِّ. وَكَانَ يَضْمَنُ الطَّوَاحِينَ، فَأَعْطَاهُ أَمْوَالًا، وَأَطْمَعَهُ فِي أَخْذِ أَنْطَاكِيَةَ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ سَيْفَ الدَّوْلَةِ قَدِ اشْتَغَلَ بِمَيَّافَارِقِينَ، وَعَجَزَ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى حَلَبَ فَتَمَّ لَهُمَا مَا رَامَاهُ مِنْ أَخْذِ أَنْطَاكِيَةَ ثُمَّ رَكِبَا مِنْهَا فِي جُيُوشٍ إِلَى حَلَبَ فَجَرَتْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ نَائِبِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ حُرُوبٌ عَظِيمَةٌ، ثُمَّ أَخَذَ الْبَلَدَ،

وَتَحَصَّنَ النَّائِبُ بِالْقَلْعَةِ، وَجَاءَتِ النَّجْدَةُ مِنْ سَيْفِ الدَّوْلَةِ إِلَى حَلَبَ مَعَ غُلَامٍ لَهُ اسْمُهُ بِشَارَةُ، فَانْهَزَمَ رَشِيقٌ، فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ، فَابْتَدَرَهُ بَعْضُ الْأَعْرَابِ، فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ رَأْسَهُ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى حَلَبَ وَاسْتَقَلَّ ابْنُ الْأَهْوَازِيِّ سَائِرًا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ فَأَقَامَ رَجُلًا مِنَ الرُّومِ اسْمُهُ دَزْبَرُ، فَسَمَّاهُ الْأَمِيرَ، وَأَقَامَ آخَرَ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ لِيَجْعَلَهُ خَلِيفَةً، وَسَمَّاهُ الْأُسْتَاذَ، فَقَصَدَهُ نَائِبُ حَلَبَ وَهُوَ قَرْعُوَيْهِ، فَاقْتَتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا، فَهَزَمَهُ ابْنُ الْأَهْوَازِيِّ وَاسْتَقَرَّ بِأَنْطَاكِيَةَ، فَلَمَّا عَادَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى حَلَبَ لَمْ يَبِتْ بِهَا إِلَّا لَيْلَةً وَاحِدَةً حَتَّى سَارَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا، ثُمَّ انْهَزَمَ دَزْبَرُ وَابْنُ الْأَهْوَازِيِّ وَأُسِرَا، فَقَتَلَهُمَا سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ.
وَفِيهَا ثَارَ رَجُلٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ اسْمُهُ مَرْوَانُ، كَانَ يَحْفَظُ الطُّرُقَاتِ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ بِحِمْصَ، فَمَلَكَهَا وَمَا حَوْلَهَا، فَقَصَدَهُ جَيْشٌ مِنْ حَلَبَ مَعَ الْأَمِيرِ بَدْرٍ فَاقْتَتَلُوا مَعَهُ، فَرَمَاهُ بَدْرٌ بِسَهْمٍ مَسْمُومٍ فَأَصَابَهُ، وَاتَّفَقَ أَنْ أَسَرَ أَصْحَابُ مَرْوَانَ بَدْرًا، فَقَتَلَهُ مَرْوَانُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَبْرًا، وَمَاتَ مَرْوَانُ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا عَصَى أَهْلُ سِجِسْتَانَ أَمِيرَهُمْ خَلَفَ بْنَ أَحْمَدَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ حَجَّ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ فَطَمِعَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ، وَاسْتَمَالَ أَهْلَ الْبَلَدِ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الْحَجِّ لَمْ يُسَلِّمْهُ الْبَلَدَ، وَعَصَى عَلَيْهِ، فَذَهَبَ

إِلَى بُخَارَى إِلَى الْأَمِيرِ مَنْصُورِ بْنِ نُوحٍ السَّامَانِيِّ فَاسْتَنْجَدَهُ، فَبَعَثَ مَعَهُ جَيْشًا، فَاسْتَنْقَذَ الْبَلَدَ مِنْ طَاهِرٍ، وَسَلَّمَهَا إِلَى الْأَمِيرِ خَلَفِ بْنِ أَحْمَدَ - وَقَدْ كَانَ خَلَفٌ عَالِمًا مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ - فَذَهَبَ طَاهِرٌ، فَجَمَعَ جُمُوعًا، ثُمَّ جَاءَ فَحَاصَرَ خَلَفًا، وَأَخَذَ مِنْهُ الْبَلَدَ، فَرَجَعَ خَلَفٌ إِلَى الْأَمِيرِ مَنْصُورٍ السَّامَانِيِّ فَبَعَثَ مَعَهُ مَنِ اسْتَرْجَعَ لَهُ الْبَلَدَ ثَانِيَةً، وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ خَلَفٌ بِهَا وَتَمَكَّنَ مِنْهَا، مَنَعَ مَا كَانَ يَحْمِلُهُ مِنَ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ وَالْخِلَعِ إِلَى الْأَمِيرِ مَنْصُورٍ السَّامَانِيِّ بِبُخَارَى، فَبَعَثَ إِلَيْهِ جَيْشًا، فَتَحَصَّنَ خَلْفٌ فِي حِصْنٍ يُقَالُ لَهُ: حِصْنُ أَرْكَ. فَنَازَلَهُ الْجَيْشُ فِيهِ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِمَنَاعَةِ هَذَا الْحِصْنِ وَصُعُوبَتِهِ وَعُمْقِ خَنْدَقِهِ وَارْتِفَاعِهِ، وَسَيَأْتِي مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا قَصَدَتْ طَائِفَةٌ مِنَ التُّرْكِ بِلَادَ الْخَزَرِ، فَاسْتَنْجَدَ الْخَزَرُ بِأَهْلِ خُوَارِزْمَ فَقَالُوا: لَوْ أَسْلَمْتُمْ لَنَصَرْنَاكُمْ. فَأَسْلَمُوا إِلَّا مَلِكُهُمْ، فَقَاتَلُوا مَعَهُمُ التُّرْكَ، فَأَجْلَوْهُمْ عَنْهُمْ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْمَلِكُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْمُتَنَبِّي الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ أَبُو الطَّيِّبِ الْجُعْفِيُّ
الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ بِالْمُتَنَبِّي، كَانَ أَبُوهُ يُعَرَفُ بِعِيدَانَ السَّقَّاءِ،

وَكَانَ يَسْتَقِي الْمَاءَ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ.
وَعِيدَانُ هَذَا، قَالَ ابْنُ مَاكُولَا وَالْخَطِيبُ: هُوَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَبَعْدَهَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتُ. وَقِيلَ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَا كَسْرِهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
كَانَ مَوْلِدُ الْمُتَنَبِّي بِالْكُوفَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَنَشَأَ بِالشَّامِ بِالْبَادِيَةِ، وَطَلَبَ الْأَدَبَ، فَفَاقَ أَهْلَ زَمَانِهِ فِيهِ، وَلَزِمَ جَنَابَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ وَامْتَدَحَهُ وَحَظِيَ عِنْدَهُ، ثُمَّ صَارَ إِلَى مِصْرَ، فَامْتَدَحَ كَافُورًا الْإِخْشِيدِيَّ ثُمَّ هَجَاهُ، وَهَرَبَ مِنْهُ، وَوَرَدَ بَغْدَادَ فَامْتَدَحَ بَعْضَ أَهْلِهَا، وَقُرِئَ عَلَيْهِ دِيوَانُهُ فِيهَا.
وَقَدِمَ الْكُوفَةَ فَامْتَدَحَ ابْنَ الْعَمِيدِ، فَوَصَلَهُ مِنْ جِهَتِهِ ثَلَاثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ سَارَ إِلَى فَارِسَ فَامْتَدَحَ عَضُدَ الدَّوْلَةِ بْنَ بُوَيْهِ، فَأَطْلَقَ لَهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً تُقَارِبُ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ: بَلْ حَصَلَ لَهُ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ دَسَّ إِلَيْهِ مَنْ يَسْأَلُهُ: أَيُّمَا أَحْسَنُ ; عَطَايَا عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، أَوْ عَطَايَا سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ ؟ فَقَالَ: هَذِهِ أَجْزَلُ وَلَكِنَّ فِيهَا تَكَلُّفٌ، وَتِلْكَ أَقَلُّ وَلَكِنْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْ مُعْطِيهَا ; لِأَنَّهَا عَنْ طَبِيعَةٍ وَهَذِهِ عَنْ تَكَلُّفٍ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ، وَدَسَّ إِلَيْهِ طَائِفَةً مِنَ الْأَعْرَابِ، فَوَقَفُوا لَهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى بَغْدَادَ وَيُقَالُ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ هَجَا مُقَدِّمَهُمُ ابْنَ فَاتَكٍ الْأَسَدِيَّ - وَقَدْ كَانُوا يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ - فَلِهَذَا أَوْعَزَ إِلَيْهِمْ عَضُدُ الدَّوْلَةِ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ فَيَقْتُلُوهُ، وَيَأْخُذُوا مَا مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَانْتَهَوْا إِلَيْهِ وَهُمْ سِتُّونَ رَاكِبًا فِي يَوْمِ

الْأَرْبِعَاءِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ رَمَضَانَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: بَلْ قُتِلَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ. وَيُقَالُ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ. وَقَدْ نَزَلَ عِنْدَ عَيْنٍ تَحْتَ شَجَرَةِ إِنْجَاصٍ، وَقَدْ وُضِعَتْ سُفْرَتُهُ لِيَتَغَدَّى وَمَعَهُ وَلَدُهُ مُحَسَّدٌ وَخَمْسَةَ عَشَرَ غُلَامًا لَهُ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ: هَلُمُّوا يَا وُجُوهَ الْعَرَبِ. فَلَمَّا لَمْ يُكَلِّمُوهُ أَحَسَّ بِالشَّرِّ، فَنَهَضَ إِلَى سِلَاحِهِ وَخَيْلِهِ، فَتَوَاقَفُوا سَاعَةً، فَقُتِلَ ابْنُهُ مُحَسَّدٌ وَبَعْضُ غِلْمَانِهِ، وَأَرَادَ هُوَ أَنْ يَنْهَزِمَ، فَقَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: أَيْنَ تَذْهَبُ، وَأَنْتَ الْقَائِلُ:
فَالْخَيْلُ وَاللَّيْلُ وَالْبَيْدَاءُ تَعْرِفُنِي وَالْحَرْبُ وَالضَّرْبُ وَالْقِرْطَاسُ وَالْقَلَمُ
فَقَالَ: وَيْحَكَ ! قَتَلْتَنِي. ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا، فَطَعَنَ زَعِيمَ الْقَوْمِ بِرُمْحٍ فِي عُنُقِهِ فَقَتَلَهُ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فَشَجَرُوهُ بِالرِّمَاحِ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا جَمِيعَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَذَلِكَ بِالْقُرْبِ مِنَ النُّعْمَانِيَّةِ، وَهُوَ آيِبٌ إِلَى بَغْدَادَ وَدُفِنَ هُنَالِكَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً.
وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ فِي الْمَنْزِلَةِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ مَنْزِلَتِهِ هَذِهِ ; سَأَلَهُ بَعْضُ الْأَعْرَابِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَيَخْفِرُونَهُ، فَمَنَعَهُ الشُّحُّ وَالْكِبْرُ

وَدَعْوَى الشَّجَاعَةِ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ كَانَ الْمُتَنَبِّي جُعْفِيَّ النَّسَبِ، صُلْبُهُ مِنْهُمْ، وَقَدِ ادَّعَى حِينَ كَانَ مَعَ بَنِي كَلْبٍ بِأَرْضِ السَّمَاوَةِ قَرِيبًا مِنْ حِمْصَ أَنَّهُ عَلَوِيٌّ ثُمَّ حَسَنِيُّ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَاتَّبَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ جَهَلَتِهِمْ وَسَفِلَتِهِمُ، وَزَعَمَ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ قُرْآنٌ، فَمِنْ ذَلِكَ: وَالنَّجْمِ السَّيَّارِ، وَالْفَلَكِ الدَّوَّارِ، وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، إِنَّ الْكَافِرَ لَفِي أَخْطَارٍ، امْضِ عَلَى سُنَّتِكِ وَاقْفُ أَثَرَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَامِعٌ بِكَ مَنْ أَلْحَدَ فِي دِينِهِ، وَضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ. وَهَذَا مِنْ خِذْلَانِهِ، وَكَثْرَةِ هَذَيَانِهِ فِي قُرْآنِهِ، وَلَوْ لَزِمَ قَافِيَةَ مَدْحِهِ، وَالْهِجَاءِ لَكَانَ أَشْعَرَ الشُّعَرَاءِ وَأَفْصَحَ الْفُصَحَاءِ، وَلَكِنْ أَرَادَ بِجَهْلِهِ وَقِلَّةِ عَقْلِهِ أَنْ يَقُولَ مَا يُشْبِهُ كَلَامَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، الَّذِي لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ، لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، تَعَالَى اللَّهُ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ.
وَلَمَّا اشْتَهَرَ خَبَرُهُ بِأَرْضِ السَّمَاوَةِ، وَأَنَّهُ قَدِ الْتَفَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ، خَرَجَ إِلَيْهِ نَائِبُ حِمْصَ مِنْ جِهَةِ بَنِي الْإِخْشِيدِ وَهُوَ الْأَمِيرُ لُؤْلُؤٌ - بَيَّضَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فَقَاتَلَهُ وَشَرَّدَ شَمْلَهُ، وَأَسَرَهُ وَسَجَنَهُ دَهْرًا طَوِيلًا، فَمَرِضَ فِي السِّجْنِ، وَأَشْرَفَ عَلَى التَّلَفِ، فَاسْتَحْضَرَهُ وَاسْتَتَابَهُ، وَكَتَبَ عَلَيْهِ كِتَابًا اعْتَرَفَ فِيهِ بِبُطْلَانِ

مَا ادَّعَاهُ، وَأَنَّهُ قَدْ تَابَ مِنْ ذَلِكَ، وَرَجَعَ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَأَطْلَقَ سَرَاحَهُ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا ذُكِّرَ بِهَذَا يَجْحَدُهُ إِنْ أَمْكَنَهُ جَحْدُهُ وَإِلَّا اعْتَذَرَ مِنْهُ وَاسْتَحْيَا، وَقَدِ اشْتُهِرَ بِلَفْظَةٍ تَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ فِيمَا كَانَ ادَّعَاهُ مِنَ الْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، وَهِيَ لَفْظَةُ " الْمُتَنَبِّي " الدَّالَّةُ عَلَى الْكَذِبِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ يَهْجُوهُ:
أَيُّ فَضْلٍ لِشَاعِرٍ يَطْلُبُ الْفَضْ لَ مِنَ النَّاسِ بُكْرَةً وَعَشِيَّا
عَاشَ حِينًا يَبِيعُ فِي الْكُوفَةِ الْمَا ءَ وَحِينًا يَبِيعُ مَاءَ الْمُحَيَّا
وَلِلْمُتَنَبِّي دِيوَانٌ مَشْهُورٌ فِي الشِّعْرِ، فِيهِ أَشْعَارٌ رَائِقَةٌ وَمَعَانٍ لَيْسَتْ بِمَسْبُوقَةٍ، بَلْ مُبْتَكَرَةٌ سَابِقَةٌ، وَهُوَ فِي الشُّعَرَاءِ الْمُحْدَثِينَ كَامْرِئِ الْقَيْسِ فِي الشُّعَرَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ - وَهُوَ عِنْدِي بِخَطِّ يَدِهِ - فِيمَا ذَكَرَ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، مَعَ تَقَدُّمِ أَمْرِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ " قِطَعًا رَائِقَةً اسْتَحْسَنَهَا مِنْ دِيوَانِهِ، وَكَذَلِكَ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ شَيْخُ إِقْلِيمِهِ وَحَافِظُ زَمَانِهِ.
فَمِمَّا اسْتَمْلَحَهُ أُسْتَاذُ الْوُعَّاظِ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ قَوْلُ الْمُتَنَبِّي:
عَزِيزُ أَسًى مَنْ دَاؤُهُ الْحَدَقُ النُّجْلُ عَيَاءٌ بِهِ مَاتَ الْمُحِبُّونَ مِنْ قَبْلُ
فَمَنْ شَاءَ فَلْيَنْظُرْ إِلَيَّ فَمَنْظَرِي نَذِيرٌ إِلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْهَوَى سَهْلُ

جَرَى حُبُّهَا مَجْرَى دَمِي فِي مَفَاصِلِي فَأَصْبَحَ لِي عَنْ كُلِّ شُغْلٍ بِهَا شُغْلُ
وَمِنْ جَسَدِي لَمْ يَتْرُكِ السُّقْمُ شَعْرَةً فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا وَفِيهِ لَهُ فِعْلُ
كَأَنَّ رَقِيبًا مِنْكَ سَدَّ مَسَامِعِي عَنِ الْعَذْلِ حَتَّى لَيْسَ يَدْخُلُهَا الْعَذْلُ
كَأَنَّ سُهَادَ اللَّيْلِ يَعْشَقُ مُقْلَتِي فَبَيْنَهُمَا فِي كُلِّ هَجْرٍ لَنَا وَصْلُ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
كَشَفَتْ ثَلَاثَ ذَوَائِبٍ مِنْ شَعْرِهَا فِي لَيْلَةٍ فَأَرَتْ لَيَالِيَ أَرْبَعَا
وَاسْتَقْبَلَتْ قَمَرَ السَّمَاءِ بِوَجْهِهَا فَأَرَتْنِيَ الْقَمَرَيْنِ فِي وَقْتٍ مَعَا
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
مَا نَالَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كُلُّهُمْ شِعْرِي وَلَا سَمِعَتْ بِسِحْرِيَ بَابِلُ
وَإِذَا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ نَاقِصٍ فَهِيَ الشَّهَادَةُ لِي بِأَنِّيَ فَاضِلُ
مَنْ لِي بِفَهْمِ أُهِيلِ عَصْرٍ يَدَّعِي أَنْ يَحْسُبَ الْهِنْدِيَّ مِنْهُمْ بَاقِلُ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَمِنْ نَكَدِ الدُّنْيَا عَلَى الْحُرِّ أَنْ يَرَى عَدُوًّا لَهُ مَا مِنْ صَدَاقَتِهِ بُدُّ
وَقَوْلُهُ:

وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الْأَجْسَامُ
وَقَوْلُهُ:
وَمَنْ صَحِبَ الدُّنْيَا طَوِيلًا تَقَلَّبَتْ عَلَى عَيْنِهِ حَتَّى يَرَى صِدْقَهَا كِذْبَا
وَلَهُ أَيْضًا:
خُذْ مَا تَرَاهُ وَدَعْ شَيْئًا سَمِعْتَ بِهِ فِي طَلْعَةِ الشَّمْسِ مَا يُغْنِيكَ عَنْ زُحَلِ
وَلَهُ فِي مَدْحِ بَعْضِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَمْنَحُ مِنْهُمُ الْعَطَاءُ:
تَمْضِي الْمَوَاكِبُ وَالْأَبْصَارُ شَاخِصَةٌ مِنْهَا إِلَى الْمَلِكِ الْمَيْمُونِ طَائِرُهُ
قَدْ حِرْنَ فِي بِشْرٍ فِي تَاجِهِ قَمَرُ فِي دِرْعِهِ أَسَدٌ تَدْمَى أَظَافِرُهُ
حُلْوٍ خَلَائِقُهُ شُوسٍ حَقَائِقُهُ يُحْصَى الْحَصَى قَبْلَ أَنْ تُحْصَى مَآثِرُهُ
وَمِنْهَا قَوْلُهُ:
يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّا أُحَاذِرُهُ
لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسَرُهُ وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جَابِرُهُ
وَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ شَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ

كَانَ يُنْكِرُ عَلَى الْمُتَنَبِّي هَذِهِ الْمُبَالَغَةَ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا يَصْلُحُ هَذَا لِجَنَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَخْبَرَنِي الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْقَيِّمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ سَمِعَ الشَّيْخَ يَقُولُ: رُبَّمَا قُلْتُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فِي السُّجُودِ.
وَمِمَّا أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ مِنْ شِعْرِ الْمُتَنَبِّي فِي تَرْجَمَتِهِ قَوْلُهُ:
وَبِعَيْنِ مُفْتَقِرٍ إِلَيْكَ رَأَيْتَنِي فَهَجَرْتَنِي وَنَزَلْتَ بِي مِنْ حَالِقِ
لَسْتَ الْمَلُومَ أَنَا الْمَلُومُ لِأَنَّنِي أَنْزَلْتُ حَاجَاتِي بِغَيْرِ الْخَالِقِ
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ لَيْسَا فِي دِيوَانِهِ، وَقَدْ عَزَاهُمَا الْحَافِظُ الْكِنْدِيُّ إِلَيْهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِذَا غَامَرْتَ فِي شَرَفٍ مَرُومٍ فَلَا تَقْنَعْ بِمَا دُونَ النُّجُومِ

فَطَعْمُ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ حَقِيرٍ كَطَعْمِ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ عَظِيمِ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَمَا أَنَا بِالْبَاغِي عَلَى الْحُبِّ رِشْوَةً قَبِيحٌ هَوًى يُرْجَى عَلَيْهِ ثَوَابُ
إِذَا نِلْتُ مِنْكَ الْوُدَّ فَالْمَالُ هَيِّنٌ وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ وُلِدَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَنَّهُ قُتِلَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
قَالَ ابْنَ خَلِّكَانَ: وَقَدْ فَارَقَ سَيْفَ الدَّوْلَةِ بْنَ حَمْدَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ ; لَمَّا كَانَ مِنَ ابْنِ خَالَوَيْهِ مَا كَانَ مِنْ ضَرْبِهِ إِيَّاهُ بِمِفْتَاحٍ فِي وَجْهِهِ فَأَدْمَاهُ، فَصَارَ إِلَى مِصْرَ، فَامْتَدَحَ كَافُورًا الْإِخْشِيدِيَّ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَكَانَ الْمُتَنَبِّي يَرْكَبُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ مَمَالِيكِهِ، فَتَوَهَّمَ مِنْهُ كَافُورٌ فَجْأَةً، فَخَافَ مِنْهُ الْمُتَنَبِّي فَهَرَبَ، فَأَرْسَلَ فِي إِثْرِهِ فَأَعْجَزَهُ، فَقِيلَ لِكَافُورٍ: مَا قِيمَةُ هَذَا حَتَّى تَتَوَهَّمَ مِنْهُ ؟ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَفَلَا يَرُومُ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا بِدِيَارِ مِصْرَ ؟
ثُمَّ صَارَ الْمُتَنَبِّي إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَامْتَدَحَهُ فَأَعْطَاهُ مَالًا كَثِيرًا، ثُمَّ رَجَعَ مِنْ عِنْدِهِ، فَعَرَضَ لَهُ فَاتَكُ بْنُ أَبِي الْجَهْلِ الْأَسَدِيُّ، فَقَتَلَهُ وَابْنَهُ مُحَسَّدًا وَغُلَامَهُ

مُفْلِحًا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لَسِتٍّ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَقِيلَ: لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَمَضَانَ. وَقِيلَ: يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِثَمَانٍ - وَقِيلَ: لِخَمْسٍ - بَقِينَ مِنْهُ. وَذَلِكَ بِسَوَادِ بَغْدَادَ.
وَقَدْ رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ، وَقَدْ شَرَحَ دِيوَانَهُ الْعُلَمَاءُ بِالشِّعْرِ وَاللُّغَةِ نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ شَرْحًا وَجِيزًا وَبَسِيطًا.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ أَيْضًا:
أَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ بْنُ حِبَّانَ، صَاحِبُ الصَّحِيحِ.
مُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حِبَّانَ بْنِ مُعَاذِ بْنِ مَعْبَدٍ أَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ
صَاحِبُ " الْأَنْوَاعِ وَالتَّقَاسِيمِ "، وَأَحَدُ الْحُفَّاظِ الْكِبَارِ الْمُصَنِّفِينَ الْمُجْتَهِدِينَ، رَحَلَ إِلَى الْبُلْدَانِ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَشَايِخِ، ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ بَلَدِهِ، وَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُهُمُ الْكَلَامَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ مُعْتَقَدِهِ، وَنَسَبَهُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النُّبُوَّةَ مُكْتَسَبَةٌ، وَهِيَ نَزْعَةٌ فَلْسَفِيَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا عَنْهُ. وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ".
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مِقْسَمٍ، أَبُو بَكْرِ بْنُ مِقْسَمٍ
الْعَطَّارُ الْمُقْرِئُ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ مِنَ

الْمَشَايِخِ، وَرَوَى عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ مِنْ أَعْرَفِ النَّاسِ بِالْقِرَاءَاتِ، وَلَهُ كِتَابٌ فِي النَّحْوِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكُوفِيِّينَ، سَمَّاهُ كِتَابَ " الْأَنْوَارِ ".
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ، وَلَهُ تَصَانِيفُ أُخْرَى، وَلَكِنْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ بِسَبَبِ تَفَرُّدِهِ بِقِرَاءَاتٍ لَا تَجُوزُ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَكَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُخَالِفُ الرَّسْمَ وَيَسُوغُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ، تَصِحُّ الْقِرَاءَةُ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [ يُوسُفُ: 80 ] أَيْ يَتَنَاجَوْنَ، قَالَ: لَوْ قُرِئَ نَجِيبًا مِنَ النَّجَابَةِ لَكَانَ قَوِيًّا. وَقَدِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ، وَكُتِبَ عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ قَدْ رَجَعَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَنْتَهِ عَمَّا كَانَ يَذْهَبُ إِلَيْهِ حَتَّى مَاتَ. قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدُوَيْهِ بْنِ مُوسَى، أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ
وُلِدَ بِجَبُّلَ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَسَكَنَ بَغْدَادَ وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتًا كَثِيرَ الرِّوَايَةِ، سَمِعَ مِنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ يُحَدِّثُ بِفَضَائِلِ الصَّحَابَةِ حِينَ مَنَعَتِ الدَّيْلَمُ مِنْ ذَلِكَ جَهْرَةً فِي الْجَامِعِ بِمَدِينَةِ الْمَنْصُورِ مُخَالَفَةً لَهُمْ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْجِدِهِ بِبَابِ الشَّامِ. وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ عَمِلَتِ الرَّوَافِضُ بِبَغْدَادَ بِدْعَتَهُمُ الشَّنْعَاءَ وَفِتْنَتَهُمُ الصَّلْعَاءَ. وَفِيهَا أَخَذَتِ الْقَرَامِطَةُ الْهَجَرِيُّونَ عُمَانَ.
وَفِيهَا قَصَدَتِ الرُّومُ آمِدَ فَحَاصَرُوهَا، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا، وَلَكِنْ قَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا ثَلَاثَمِائَةٍ وَأَسَرُوا مِنْهُمْ أَرْبَعَمِائَةٍ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى نَصِيبِينَ وَفِيهَا سَيْفُ الدَّوْلَةِ، فَهَمَّ بِالْهَرَبِ مَعَ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَأَخَّرَ مَجِيءُ الرُّومِ، فَثَبَتَ مَكَانَهُ، وَقَدْ كَادُوا يُزِيلُونَ أَرْكَانَهُ.
وَفِيهَا وَرَدَتْ طَائِفَةٌ مِنْ جَيْشِ خُرَاسَانَ فِي بِضْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ غَزْوَ الرُّومِ، فَأَكْرَمَهُمْ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ، وَأَمِنُوا إِلَيْهِمْ، فَنَهَضُوا إِلَيْهِمْ، لِيَأْخُذُوا الدَّيْلَمَ عَلَى غِرَّةٍ، فَقَاتَلَهُمْ رُكْنُ الدَّوْلَةِ، فَظَفِرَ بِهِمْ - لِأَنَّ الْبَغْيَ مَصْرَعَةٌ - وَهَرَبَ أَكْثَرُهُمْ.
وَفِيهَا خَرَجَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى وَاسِطٍ لِقِتَالِ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ حِينَ تَفَاقَمَ الْحَالُ بِأَمْرِهِ، وَاشْتَهَرَ فِي تِلْكَ النَّوَاحِي صِيتُ ذِكْرِهِ، فَقَوِيَ الْمَرَضُ بِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَاسْتَنَابَ عَلَى الْحَرْبِ، وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ فَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ

كَمًّا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا قَوِيَ أَمْرُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّاعِي بِبِلَادِ الدَّيْلَمِ، وَأَظْهَرَ النُّسُكَ وَالْعِبَادَةَ، وَلَبِسَ الصُّوفَ، وَكَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ - حَتَّى إِلَى بَغْدَادَ - يَدْعُو إِلَى الْجِهَادِ.
وَفِيهَا تَمَّ الْفِدَاءُ بَيْنَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَبَيْنَ الرُّومِ، فَاسْتَنْقَذَ مِنْهُمْ أُسَارَى كَثِيرَةً، مِنْهُمُ ابْنُ عَمِّهِ أَبُو فِرَاسِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ حِصْنٍ الْقَاضِيَ، وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ نُودِيَ بِرَفْعِ الْمَوَارِيثِ الْحَشْرِيَّةِ، وَأَنْ تُرَدَّ إِلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ.
وَفِيهَا ابْتَدَأَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ فِي بِنَاءِ مَارَسْتَانٍ، وَأَرْصَدَ لَهُ أَوْقَافًا جَزِيلَةً.
وَفِيهَا قَطَعَتْ بَنُو سُلَيْمٍ السَّابِلَةَ عَلَى الْحَجِيجِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ عِشْرِينَ أَلْفَ بَعِيرٍ بِأَحْمَالِهَا، وَكَانَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ مَا لَا يُقَوَّمُ كَثْرَةً، وَكَانَ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْخَوَاتِيمِيِّ، قَاضِي طَرَسُوسَ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ عَيْنًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ التَّحَوُّلَ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ إِلَى الْعِرَاقِ بَعْدَ الْحَجِّ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَحِينَ أُخِذَتِ الْجِمَالُ تَرَكُوهُمْ عَلَى بَرْدِ الدِّيَارِ لَا شَيْءَ لَهُمْ، فَقَلَّ مِنْهُمْ مَنْ سَلِمَ، وَمَا أَكْثَرَ مَنْ عَطِبَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الشَّرِيفُ أَبُو أَحْمَدَ نَقِيبُ الطَّالِبِيِّينَ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِرَاقِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْحَسَنُ بْنُ دُوَادَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَلَوِيُّ الْحَسَنِيُّ
قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ: كَانَ شَيْخَ آلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَصْرِهِ بِخُرَاسَانَ، وَسَيِّدَ الْعَلَوِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، وَكَانَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ صَلَاةً وَصَدَقَةً وَمَحَبَّةً لِلصَّحَابَةِ، وَصَحِبْتُهُ مُدَّةً، فَمَا سَمِعْتُهُ ذَكَرَ عُثْمَانَ إِلَّا قَالَ: الشَّهِيدُ، وَبَكَى، وَمَا سَمِعْتُهُ ذَكَرَ عَائِشَةَ إِلَّا قَالَ: الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللَّهِ، وَبَكَى.
وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَطَبَقَتِهِ، وَكَانَ آبَاؤُهُ بِخُرَاسَانَ وَفِي سَائِرِ بُلْدَانِهِمْ سَادَاتٍ نُجَبَاءَ، حَيْثُ كَانُوا مِنْ آلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْهُمْ، لَهُمْ دَانَتْ رِقَابُ بَنِي مَعَدٍّ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَسَّانِ بْنِ الْوَضَّاحِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْبَارِيُّ
الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ بِالْوَضَّاحِيِّ، كَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْمَحَامِلِيِّ وَابْنِ مَخْلَدٍ وَأَبِي رَوْقٍ، وَرَوَى عَنْهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ شَيْئًا مِنْ شِعْرِهِ، وَكَانَ أَشْعَرَ مَنْ فِي وَقْتِهِ.
وَمِنْ شَعْرِهِ:

سَقَى اللَّهُ بَابَ الْكَرْخِ رَبْعًا وَمَنْزِلًا وَمَنْ حَلَّهُ صَوْبَ السَّحَابِ الْمُجَلْجِلِ فَلَوْ أَنَّ بَاكِي دِمْنَةِ الدَّارِ بِاللِّوَى
وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ رَأَى عَرَصَاتِ الْكَرْخِ أَوْ حَلَّ أَرْضَهَا
لَأَمْسَكَ عَنْ ذِكْرِ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
أَبُو بَكْرِ بْنُ الْجَعَّابِيِّ: مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلْمِ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ سَبْرَةَ بْنِ سَيَّارٍ، أَبُو بَكْرِ بْنُ الْجَعَّابِيِّ
قَاضِي الْمَوْصِلِ وُلِدَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَتَخَرَّجَ بِأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ عُقْدَةَ، وَأَخَذَ عَنْهُ عِلْمَ الْحَدِيثِ وَشَيْئًا مِنَ التَّشَيُّعِ أَيْضًا، وَكَانَ حَافِظًا مُكْثِرًا مُطَبِّقًا، يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ بِأَسَانِيدِهَا وَمُتُونِهَا، وَيُذَاكِرُ بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، وَيَحْفَظُ مِنَ الْمَرَاسِيلِ وَالْمَقَاطِيعِ وَالْحِكَايَاتِ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، وَيَحْفَظُ أَسْمَاءَ الرِّجَالِ وَجَرْحَهُمْ وَتَعْدِيلَهُمْ وَأَوْقَاتَ وَفَيَاتِهِمْ وَمَذَاهِبَهُمْ، حَتَّى تَقَدَّمَ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ، وَفَاقَ سَائِرَ أَقْرَانِهِ.
وَكَانَ يَجْلِسُ لِلْإِمْلَاءِ فَيَزْدَحِمُ النَّاسُ عِنْدَ مَنْزِلِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُمْلِي مِنْ حَفِظَهُ

إِسْنَادَ الْحَدِيثِ وَمَتْنَهُ مُحَرَّرًا جَيِّدًا صَحِيحًا. وَقَدْ نُسِبَ إِلَى التَّشَيُّعِ كَأُسْتَاذِهِ ابْنِ عُقْدَةَ، وَكَانَ يَسْكُنُ بَابَ الْبَصْرَةِ عِنْدَهُمْ.
وَقَدْ سُئِلَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ، فَقَالَ: خَلَّطَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ: كَانَ صَاحِبَ غَرَائِبَ، وَمَذْهَبُهُ مَعْرُوفٌ فِي التَّشَيُّعِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ قِلَّةُ دِينٍ وَشُرْبُ خَمْرٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمَّا احْتُضِرَ أَوْصَى أَنْ تُحْرَقَ كُتُبُهُ فَحُرِقَتْ، وَحُرِقَ مَعَهَا كُتُبٌ كَثِيرَةٌ مِنَ النَّاسِ كَانَتْ عِنْدَهُ. فَبِئْسَ مَا عَمِلَ. وَحِينَ أَخْرَجَ جِنَازَتَهُ كَانَتْ سُكَيْنَةُ نَائِحَةُ الرَّافِضَةِ تَنَوحُ عَلَيْهِ فِي جِنَازَتِهِ.

تَرْجَمَةُ النِّقْفُورِ مِلْكِ الْأَرْمَنِ، وَاسْمُهُ الدُّمُسْتُقُ
الَّذِي تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ - وَقِيلَ: سِتٍّ - وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. لَا رَحِمَهُ اللَّهُ.

كَانَ هَذَا الْمَلْعُونُ مِنْ أَغْلَظِ الْمُلُوكِ قَلْبًا، وَأَشَدِّهِمْ كُفْرًا، وَأَقْوَاهُمْ بَأْسًا، وَأَحَدِّهِمْ شَوْكَةً، وَأَكْثَرِهِمْ قِتَالًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِهِ، اسْتَحْوَذَ فِي أَيَّامِهِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - عَلَى كَثِيرٍ مِنَ السَّوَاحِلِ، أَوْ أَكْثَرِهَا، وَانْتَزَعَهَا مِنْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ قَسْرًا، وَاسْتَمَرَّتْ فِي يَدِهِ قَهْرًا، وَأُضِيفَتْ إِلَى مَمْلَكَةِ الرُّومِ قَدَرًا، وَذَلِكَ لِتَقْصِيرِ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَظُهُورِ الْبِدَعِ الشَّنِيعَةِ فِيهِمْ وَكَثْرَةِ الْعِصْيَانِ.
وَقَدْ وَرَدَ حَلَبَ فِي مِائَتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ بَغْتَةً فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَجَالَ فِيهَا جَوْلَةً، فَفَرَّ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ صَاحِبُهَا سَيْفُ الدَّوْلَةِ، فَفَتَحَهَا اللَّعِينُ عَنْوَةً، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَخَرَّبَ دَارَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ الَّتِي كَانَتْ ظَاهِرَ حَلَبَ وَأَخَذَ أَمْوَالَهَا وَحَوَاصِلَهَا وَعُدَدَهَا، وَبَدَّدَ شَمْلَهَا، وَفَرَّقَ عَدَدَهَا، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ الْمَلْعُونِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَبَالَغَ فِي الِاجْتِهَادِ فِي قِتَالِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَجَدَّ فِي التَّشْمِيرِ، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ.
وَقَدْ كَانَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - لَا يَدْخُلُ فِي بَلْدَةٍ إِلَّا قَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَبَقِيَّةَ الرِّجَالِ، وَسَبَى النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، وَجَعَلَ جَامِعَهَا إِصْطَبْلًا لِخُيُولِهِ، وَكَسَرَ مِنْبَرَهَا، وَأَسْكَتَ مُؤَذِّنِيهَا بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ وَطُبُولِهِ. وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ مِنْ دَأْبِهِ وَدَيْدَنِهِ حَتَّى سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ

زَوْجَتَهُ، فَقَتَلَتْهُ بِجَوَارِيهَا فِي وَسَطِ مَسْكَنِهِ، وَأَرَاحَ اللَّهُ مِنْهُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَأَزَاحَ عَنْهُمْ قَتَامَ ذَلِكَ الْغَمَامِ، وَمَزَّقَ شَمْلَهُ، فَلِلَّهِ النِّعْمَةُ وَالْإِفْضَالُ، وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَاتَّفَقَ فِي سَنَةِ وَفَاتِهِ مَوْتُ صَاحِبِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَتَكَامَلَتِ الْمَسَرَّاتُ، وَحَصَلَتِ الْأُمْنِيَّةُ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ وَتَذْهَبُ السَّيِّئَاتُ، وَبِرَحْمَتِهِ تُغْفَرُ الزَّلَّاتُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا اللَّعِينَ - أَعْنِي النِّقْفُورَ الْمُلَقَّبَ بِالدُّمُسْتُقِ مَلِكَ الْأَرْمَنِ - كَانَ قَدْ أَرْسَلَ قَصِيدَةً إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ نَظَمَهَا لَهُ بَعْضُ كُتَّابِهِ - مِمَّنْ كَانَ قَدْ خَذَلَهُ اللَّهُ وَأَذَلَّهُ، وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ، وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً، وَصَرَفَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَأَصْلِهِ - يَفْتَخِرُ فِيهَا لِهَذَا اللَّعِينِ، وَيَتَعَرَّضُ لِسَبِّ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَتَوَعَّدُ فِيهَا أَهْلَ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ سَيَمْلِكُهَا كُلَّهَا حَتَّى الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، عَمَّا قَرِيبٍ مِنَ الْأَعْوَامِ، وَهُوَ أَقَلُّ وَأَذَلُّ وَأَخَسُّ وَأَضَلُّ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْتَصِرُ لِدِينِ الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ابْنِ الْبَتُولِ. وَرُبَّمَا يُعَرِّضُ فِيهَا بِجَنَابِ الرَّسُولِ، عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ التَّحِيَّةُ وَالْإِكْرَامُ وَدَوَامُ الصَّلَاةِ مَدَى الْأَيَّامِ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِ جَوَابَهُ، رُبَّمَا أَنَّهَا لَمْ تَشْتَهِرْ، أَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ

أَقَلُّ مِنْ أَنْ يَرُدُّوا خِطَابَهُ ; لِأَنَّهُ كَالْمُعَانِدِ الْجَاحِدِ، وَنَفَسُ نَاظِمِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَيْطَانٌ مَارِدٌ. وَقَدِ انْتَخَى لِلْجَوَابِ عَنْهَا فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ، فَأَفَادَ وَأَجَادَ، وَأَجَابَ عَنْ كُلِّ فَصْلٍ بَاطِلٍ بِالصَّوَابِ وَالسَّدَادِ، فَبَلَّ اللَّهُ بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ، وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مُنْقَلَبَهُ وَمَثْوَاهُ.
وَهَا أَنَا أَذْكُرُ الْقَصِيدَةَ الْأَرْمَنِيَّةَ الْمَخْذُولَةَ الْمَلْعُونَةَ، وَأُتْبِعُهَا بِالْفَرِيدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمَنْصُورَةِ الْمَيْمُونَةِ.
قَالَ الْمُرْتَدُّ الْكَافِرُ الْأَرْمَنِيُّ عَلَى لِسَانِ مَلِكِهِ، لَعَنَهُمَا اللَّهُ وَأَهْلَ مِلَّتِهِمْ أَجْمَعِينَ أَكْتَعِينَ أَبْتَعِينَ أَبْصَعِينَ، آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَمِنْ خَطِّ ابْنِ عَسَاكِرَ كَتَبْتُهَا، وَقَدْ نَقَلُوهَا مِنْ كِتَابِ " صِلَةِ الصِّلَةِ " لِلْفَرْغَانِيِّ:
مِنَ الْمَلِكِ الطُّهْرِ الْمَسِيحِيِّ مَالِكٍ إِلَى خَلَفِ الْأَمْلَاكِ مِنْ آلِ هَاشِمِ إِلَى الْمَلِكِ الْفَضْلِ الْمُطِيعِ أَخِي الْعُلَا
وَمَنْ يُرْتَجَى لِلْمُعْضِلَاتِ الْعَظَائِمِ أَمَا سَمِعَتْ أُذْنَاكَ مَا أَنَا صَانِعٌ
بَلَى فَدَهَاكَ الْوَهْنُ عَنْ فِعْلِ حَازِمِ

فَإِنْ تَكُ عَمَّا قَدْ تَقَلَّدْتَ نَائِمًا
فَإِنِّيَ عَمَّا هَمَّنِي غَيْرُ نَائِمِ ثُغُورُكُمُ لَمْ يَبْقَ فِيهَا لِوَهْنِكُمْ
وَضَعْفِكُمُ إِلَّا رُسُومُ الْمَعَالِمِ فَتَحْنَا الثُّغُورَ الْأَرْمَنِيَّةَ كُلَّهَا
بِفِتْيَانِ صِدْقٍ كَاللُّيُوثِ الضَّرَاغِمِ وَنَحْنُ جَلَبْنَا الْخَيْلَ تَعْلُكُ لُجْمَهَا
وَيَبْلُغُ مِنْهَا قَضْمُهَا لِلشَّكَائِمِ إِلَى كُلِّ ثَغْرٍ بِالْجَزِيرَةِ آهِلٍ
إِلَى جُنْدِ قِنَّسْرِينِكُمْ فَالْعَوَاصِمِ مَلَطْيَهْ مَعَ سْمَيْسَاطَ مِنْ بَعْدِ كَرْكَرٍ
وَفِي الْبَحْرِ أَضْعَافُ الْفُتُوحِ التَّوَاخِمِ وَبِالْحَدَثِ الْحَمْرَاءِ جَالَتْ عَسَاكِرِي
وَكَيْسُومَ بَعْدَ الْجَعْفَرِيِّ الْمَعَالِمِ وَكَمْ قَدْ ذَلَلْنَا مِنْ أَعِزَّةِ أَهْلِهَا
فَصَارُوا لَنَا مِنْ بَيْنِ عَبْدٍ وَخَادِمِ وَسَدِّ سَرُوجٍ إِذْ خَرَبْنَا بِجَمْعِنَا
لِمِئْذَنَةٍ تَعْلُو عَلَى كُلِّ قَائِمِ وَأَهْلُ الرُّهَا لَاذُوا بِنَا وَتَحَزَّمُوا
بِمِنْدِيلِ مَوْلًى جَلَّ عَنْ وَصْفِ آدَمِ وَصَبَّحَ رَأْسَ الْعَيْنِ مِنَّا بَطَارِقٌ
بِبَيْضٍ غَذَوْنَاهَا بِضَرْبِ الْجَمَاجِمِ وَدَارَا وَمَيَّافَارِقِينَ وَأَرْزَنَا
صَبَحْنَاهُمُ بِالْخَيْلِ مِثْلِ الضَّرَاغِمِ وَأَقْرِيطِشٌ جَرَتْ إِلَيْهَا مَرَاكِبِي
عَلَى ظَهْرِ بِحَرٍ مُزْبِدٍ مُتَلَاطِمِ

فَحُزْتُهُمُ أَسْرَى وَسِيقَتْ نِسَاؤُهُمْ
ذَوَاتُ الشُّعُورِ الْمُسْبِلَاتِ الْفَوَاحِمِ هُنَاكَ فَتَحْنَا عَيْنَ زَرْبَةَ عَنْوَةً
نَعَمْ وَأَبَدْنَا كُلَّ طَاغٍ وَظَالِمِ إِلَى حَلَبٍ حَتَّى اسْتَبَحْنَا حَرِيمَهَا
وَهَدَّمَ مِنْهَا سُورَهَا كُلُّ هَادِمِ أَخَذْنَا النِّسَا ثُمَّ الْبَنَاتِ نَسُوقُهُمْ
وَصِبْيَانَهُمْ مِثْلَ الْمَمَالِيكِ خَادِمِ وَقَدْ فَرَّ عَنْهَا سَيْفُ دَوْلَةِ دِينِكُمْ
وَنَاصِرُهَا مِنَّا عَلَى رَغْمِ رَاغِمِ وَمِلْنَا عَلَى طَرَسُوسَ مَيْلَةَ هَائِلٍ
أَذَقْنَا لِمَنْ فِيهَا لِحَزِّ الْحَلَاقِمِ فَكَمْ ذَاتِ عِزٍّ حُرَّةٍ عَلَوِيَّةٍ
مُنَعَّمَةِ الْأَطْرَافِ رَيَّا الْمَعَاصِمِ سَبَيْنَا فَسُقْنَا خَاضِعَاتٍ حَوَاسِرًا
بِغَيْرِ مُهُورٍ لَا وَلَا حُكْمِ حَاكِمِ وَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ قَدْ تَرَكْنَا مُجَدَّلًا
يَصُبُّ دَمًا بَيْنَ اللَّهَا وَاللَّهَازِمِ وَكَمْ وَقْعَةٍ فِي الدَّرْبِ أَفْنَتْ كُمَاتَكُمْ
وَسُقْنَاهُمُ قَسْرًا كَسَوْقِ الْبَهَائِمِ وَمِلْنَا عَلَى أَرْتَاحِكُمْ وَحَرِيمُهَا
مُدَوَّخَةٌ تَحْتَ الْعَجَاجِ السَّوَاهِمِ فَأَهْوَتْ أَعَالِيهَا وَبُدِّلَ رَسْمُهَا
مِنَ الْأُنْسِ وَحْشًا بَعْدَ بِيضٍ نَوَاعِمِ إِذَا صَاحَ فِيهَا الْبُومُ جَاوَبَهُ الصَّدَى
وَأَتْبَعَهُ فِي الرَّبْعِ نَوْحُ الْحَمَائِمِ وَأَنْطَاكُ لَمْ تَبْعُدْ عَلَيَّ وَإِنَّنِي
سَأَفْتَحُهَا يَوْمًا بِهَتْكِ الْمَحَارِمِ وَمَسْكَنُ آبَائِي دِمَشْقُ فَإِنَّنِي
سَأُرْجِعُ فِيهَا مُلْكَنَا تَحْتَ خَاتَمِي

وَمِصْرُ سَأَفْتَحْهَا بِسَيْفِيَ عَنْوَةً
وَآخُذُ أَمْوَالًا بِهَا لِبَهَائِمِي وَأَجْزِيَ كَافُورًا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ
بِمُشْطٍ وَمِقْرَاضٍ وَمَصِّ مَحَاجِمِ أَلَا شَمِّرُوا يَا أَهْلَ حَرَّانَ شَمِّرُوا
أَتَتْكُمْ جُيُوشُ الرُّومِ مَثْلَ الْغَمَائِمِ فَإِنْ تَهْرُبُوا تَنْجُوا كِرَامًا وَتَسْلَمُوا
مِنَ الْمَلِكِ الضَّارِي بِقَتْلِ الْمُسَالِمِ هُنَاكَ نَصِيبِينٌ وَمَوْصِلُهَا إِلَى
جَزِيرَةِ آبَائِي وَمُلْكِ الْأَقَادِمِ سَأَفْتَحُ سَامَرَّا وَكُوثَى وَعُكْبَرَا
وَتَكْرِيتَهَا مَعْ مَارِدِينَ الْعَوَاصِمِ وَأَقْتُلُ أَهْلِيهَا الرِّجَالَ بِأَسْرِهِمْ
وَأَغْنَمُ أَمْوَالًا بِهَا لِكَتَايِمِ أَلَا شَمِّرُوا يَا أَهْلَ بَغْدَادَ وَيْلَكُمْ
فَكُلُّكُمُ مُسْتَضْعَفٌ غَيْرُ رَائِمِ رَضِيتُمْ بِحُكْمِ الدَّيْلَمِيِّ خَلِيفَةً
فَصِرْتُمْ عَبِيدًا لِلْعَبِيدِ الدَّيَالِمِ وَيَا قَاطِنِي الرَّمْلَاتِ وَيْلَكُمُ ارْجِعُوا
إِلَى أَرْضِ صَنْعَاءَ وَأَرْضِ التَّهَائِمِ وَعُودُوا إِلَى أَرْضِ الْحِجَازِ أَذِلَّةً
وَخَلُّوا بِلَادَ الرُّومِ أَهْلِ الْمَكَارِمِ سَأُلْقِي جُيُوشِي نَحْوَ بَغْدَادَ سَائِرًا
إِلَى بَابِ طَاقٍ حَيْثُ دَارُ الْقَمَاقِمِ وَأَحْرِقُ أَعْلَاهَا وَأَهْدِمُ سُورَهَا
وَأَسْبِي ذَرَارِيهَا عَلَى رَغْمِ رَاغِمِ وَأُحْرِزُ أَمْوَالًا بِهَا وَأَسِرَّةً
وَأَقْتُلُ مَنْ فِيهَا بِسَيْفِ النَّقَائِمِ وَأَسْرِي بِجَيْشِي نَحْوَ الَاهْوَازِ مُسْرِعًا
لِإِحْرَازِ دِيبَاجٍ وَخَزِّ السَّوَاسِمِ

وَأُشْعِلُهَا نَهْبًا وَأُخَرِبْ قُصُورَهَا
وَأَسْبِي ذَرَارِيهَا كَفِعْلِ الْأَقَادِمِ وَمِنْهَا إِلَى شِيرَازَ وَالرَّيِّ فَاعْلَمُوا
خُرَاسَانُ قَصْدِي وَالْجُيُوشُ لِخَادِمِ إِلَى شَاسِ بَلْخٍ بَعْدَهَا وَخَوَاتِهَا
وَفَرْغَانَةٍ مَعْ مَرْوِهَا وَالْمَخَازِمِ فَسَابُورُ أُخْرِبُهَا وَأَهْدِمُ حِصْنَهَا
وَأُورِدُهَا يَوْمًا كَيَوْمِ الْمَسَارِمِ إِلَى السُّوسِ أَقْصَاهَا أُدَمِّرُ مُلْكَهَا
إِلَى أَصْبَهَانَ الْأَرْضِ شَرْقَ الْأَعَاجِمِ وَكَرْمَانُ لَا أَنْسَى سِجِسْتَانَ كُلَّهَا
وَكَابُلَهَا الثَّانِي وَمُلْكَ الْأَعَاجِمِ مِنَ الْمَشْرِقِ الْأَقْصَى إِلَى الْمَغْرِبِ انْثَنَى
إِلَى قَيْرَوَانِ الْأَرْضِ عُرْبِ الْكَتَائِمِ أَسِيرُ بِجُنْدِي نَحْوَ بَصْرَتِهَا الَّتِي
لَهَا بَحُرُ عَاجٍ رَائِعٍ مُتَلَازِمِ إِلَى وَاسِطٍ وَسْطَ الْعِرَاقِ وَكُوفَةٍ
بِمَا كَانَ يَوْمًا جَدُّنَا ذُو الْعَزَائِمِ وَأُسْرِعُ مِنْهَا نَحْوَ مَكَّةَ سَائِرًا
أَجُرُّ جُيُوشًا كَاللَّيَالِي السَّوَاجِمِ فَأَمْلِكُهَا دَهْرًا عَزِيزًا مُسَلَّمًا
أُقِيمُ بِهَا لِلْحَقِّ كُرْسِيَّ عَالِمِ وَأَحْوِيَ نَجْدًا كُلَّهَا وَتِهَامَهَا
وَسَرْوَاتِهَا مِنْ مَذْحِجٍ وَقَحَاطِمِ وَأَغْزُو يَمَانًا كُلَّهَا وَزَبِيدَهَا
وَصَنْعَاءَهَا مَعْ صَعْدَةٍ وَالتَّهَائِمِ إِلَى حَضْرَمَوْتٍ سَهْلِهَا وَجِبَالِهَا
إِلَى هَجَرٍ أَحْسَائِهَا وَالتَّهَائِمِ

. فَأَتْرُكُهَا أَيْضًا يَبَابًا بَلَاقِعًا
خَلَاءً مِنَ الْأَهْلِينَ أَرْضَ نَعَائِمِ وَأَحْوِيَ أَمْوَالَ الْيَمَانِينَ كُلَّهَا
وَمَا جَمَعَ الْقِرْمَاطُ يَوْمَ مَحَارِمِ أَعُودُ إِلَى الْقُدْسِ الَّتِي شَرُفَتْ لَنَا
بِعِزٍّ مَكِينٍ ثَابِتِ الْأَصْلِ قَائِمِ وَأَعْلُو سَرِيرِي لِلسُّجُودِ فَيَشْتَفِي
مُلُوكُ بَنِيَ حَوَّا بِحَمْلِ الدَّرَاهِمِ هُنَالِكَ تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ
لِكُلِّ نَقِيِّ الدِّينِ أَغْلَفَ نَاعِمِ نُصِرْنَا عَلَيْكُمْ حِينَ جَارَ وُلَاتُكُمْ
وَأَعْلَنْتُمُ بِالْمُنْكَرَاتِ الْعَظَائِمِ قُضَاتُكُمُ بَاعُوا الْقَضَاءَ بِدِينِهِمْ
كَبَيْعِ ابْنِ يَعْقُوبَ بِبَخْسِ الدَّرَاهِمِ عُدُولُكُمُ بِالزُّورِ يَشْهَدُ كُلُّهُمْ
وَبِالْبُرِّ وَالْبِرْطِيلِ مَعْ كُلِّ قَائِمِ سَأَفْتَحُ أَرْضَ اللَّهِ شَرْقًا وَمَغْرِبًا
وَأَنْشُرُ دِينَ الصَّلْبِ نَشْرَ الْعَمَائِمِ فَعِيسَى عَلَا فَوْقَ السَّمَاوَاتِ عَرْشُهُ
فَفَازَ الَّذِي وَالَاهُ يَوْمَ الْخَصَائِمِ وَصَاحِبُكُمْ فِي التُّرْبِ أَوْدَى بِهِ الثَّرَى
فَصَارَ رُفَاتًا بَيْنَ تِلْكَ الرَّمَائِمِ تَنَاوَلْتُمُ أَصْحَابَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ
بِسَبٍّ وَقَذْفٍ وَانْتِهَاكِ مَحَارِمِ
هَذَا آخِرُهَا، لَعَنَ اللَّهُ نَاظِمَهَا وَأَسْكَنَهُ النَّارَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [ غَافِرٍ: 52 ] يَوْمَ يَدْعُو نَاظِمُهَا ثُبُورًا، وَيَصْلَى سَعِيرًا، وَيُبَاشِرُ ذُلًّا طَوِيلًا وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا.

وَهَذَا جَوَابُهَا لِأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ الْفَقِيهِ الظَّاهِرِيِّ الْأَنْدَلُسِيِّ، قَالَهَا ارْتِجَالًا حِينَ بَلَغَتْهُ هَذِهِ الْمَلْعُونَةُ ; غَضَبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، كَمَا شَاهَدَهُ مَنْ رَآهُ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَغَفَرَ لَهُ زَلَلَهُ وَخَطَايَاهُ:
مِنَ الْمُحْتَمِي بِاللَّهِ رَبِّ الْعَوَالِمِ وَدِينِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ آلِ هَاشِمِ
مُحَمَّدٍ الْهَادِي إِلَى اللَّهِ بِالتُّقَى وَبِالرُّشْدِ وَالْإِسْلَامِ أَفْضَلِ قَائِمِ
عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ السَّلَامُ مُرَدَّدًا إِلَى أَنْ يُوَافِي الْبَعْثَ كُلُّ الْعَوَالِمِ
إِلَى قَائِلٍ بِالْإِفْكِ جَهْلًا وَضِلَّةً عَنِ النِّقْفُورِ الْمُفْتَرِي فِي الْأَعَاجِمِ
دَعَوْتَ إِمَامًا لَيْسَ مِنْ أَمْرِ آلِهِ بِكَفَّيْهِ إِلَّا كَالرُّسُومِ الطَّوَاسِمِ
دَهَتْهُ الدَّوَاهِي فِي خِلَافَتِهِ كَمَا دَهَتْ قَبْلَهُ الْأَمْلَاكَ دُهْمُ الدَّوَاهِمِ
وَلَا عَجَبٌ مِنْ نَكْبَةٍ أَوْ مُلِمَّةٍ تُصِيبُ الْكَرِيمَ الْحُرَّ وَابْنَ الْأَكَارِمِ
وَلَوْ أَنَّهُ فِي حَالِ مَاضِي جُدُودِهِ لَجُرِّعْتُمُ مِنْهُ سُمُومَ الْأَرَاقِمِ
عَسَى عَطْفَةٌ لِلَّهِ فِي أَهْلِ دِينِهِ تُجَدِّدُ مِنْهُمْ دَارِسَاتِ الْمَعَالِمِ
فَخَرْتُمْ بِمَا لَوْ كَانَ فَهْمٌ يُرِيكُمُ حَقَائِقَ حُكْمِ اللَّهِ أَحْكَمِ حَاكِمِ
إِذَنْ لَعَرَتْكُمْ خَجْلَةٌ عِنْدَ ذِكْرِهِ وَأُخْرِسَ مِنْكُمْ كُلُّ فَاهٍ مُخَاصِمِ

سَلَبْنَاكُمُ كَرًّا فَفُزْتُمْ بِغِرَّةٍ مِنَ الْكَرِّ أَفْعَالَ الضِّعَافِ الْعَزَائِمِ
فَطِرْتُمْ سُرُورًا عِنْدَ ذَاكَ وَنَخْوَةً كَفِعْلِ الْمَهِينِ النَّاقِصِ الْمُتَعَاظِمِ
وَمَا ذَاكَ إِلَّا فِي تَضَاعِيفِ غَفْلَةٍ عَرَتْنَا وَصَرْفُ الدَّهْرِ جَمُّ الْمَلَاحِمِ
وَلَمَّا تَنَازَعْنَا الْأُمُورَ تَخَاذُلًا وَدَالَتْ لِأَهْلِ الْجَهْلِ دَوْلَةُ ظَالِمِ
وَقَدْ شَغَلَتْ فِينَا الْخَلَائِفَ فِتْنَةٌ لِعُبْدَانِهِمْ مِنْ تُرْكِهِمْ وَالدَّيَالِمِ
بِكُفْرِ أَيَادِيهِمْ وَجَحْدِ حُقُوقِهِمْ بِمَنْ رَفَعُوهُ مِنْ حَضِيضِ الْبَهَائِمِ
وَثَبْتُمْ عَلَى أَطْرَافِنَا عِنْدَ ذَاكُمُ وُثُوبَ لُصُوصٍ عِنْدَ غَفْلَةِ نَائِمِ
أَلَمْ نَنْتَزِعْ مِنْكُمْ بِأَيْدٍ وَقُوَّةٍ جَمِيعَ بِلَادِ الشَّامِ ضَرْبَةَ لَازِمِ
وَمِصْرَ وَأَرْضَ الْقَيْرَوَانِ بِأَسْرِهَا وَأَنْدَلُسًا قَسْرًا بِضَرْبِ الْجَمَاجِمِ
أَلَمْ تَنْتَصِفُ مِنْكُمْ عَلَى ضَعْفِ حَالِهَا صِقِلِّيَّةٌ فِي بَحْرِهَا الْمُتَلَاطِمِ
. أَحَلَّتْ بِقُسْطَنْطِينَةٍ كُلُّ نَكْبَةٍ وَسَامَتْكُمُ سُوءَ الْعَذَابِ الْمُلَازِمِ
مَشَاهِدُ تَقْدِيسَاتِكُمْ وَبُيُوتُهَا لَنَا وَبِأَيْدِينَا عَلَى رَغْمِ رَاغِمِ
أَمَا بَيْتُ لَحْمٍ وَالْقُمَامَةُ بَعْدَهَا بِأَيْدِي رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ الْأَعَاظِمِ
وَكُرْسِيُّكُمْ فِي أَرْضِ إِسْكَنْدَرِيَّةٍ وَكُرْسِيُّكُمْ فِي الْقُدْسِ فِي أُورَشَالِمِ

ضَمَمْنَاهُمُ قَسْرًا بِرَغْمِ أُنُوفِكُمْ كَمَا ضَمَّتِ السَّاقَيْنِ سُودُ الْأَدَاهِمِ
وَكُرْسِيُّ أَنْطَاكِيَّةٍ كَانَ بُرْهَةً وَدَهْرًا بِأَيْدِينَا بَذُلِّ الْمَلَاغِمِ
فَلَيْسَ سِوَى كُرْسِيِّ رُومَةَ فِيكُمُ وَكُرْسِيِّ قُسْطَنْطِينَةٍ فِي الْمَقَادِمِ
وَلَا بُدَّ مِنْ عَوْدِ الْجَمِيعِ بِأَسْرِهِ إِلَيْنَا بِعِزٍّ قَاهِرٍ مُتَعَاظِمِ
أَلَيْسَ يَزِيدٌ حَلَّ وَسْطَ دِيَارِكُمْ عَلَى بَابِ قُسْطَنْطِينَةٍ بِالصَّوَارِمِ
وَمَسْلَمَةٌ قَدْ دَاسَهَا بَعْدَ ذَاكُمُ بِجَيْشٍ لُهَامٍ كَاللُّيُوثِ الضَّرَاغِمِ
وَأَخْدَمَكُمْ بِالذُّلِّ مَسْجِدَنَا الَّذِي بُنِي فِيكُمُ فِي عَصْرِهِ الْمُتَقَادِمِ
إِلَى جَنْبِ قَصْرِ الْمُلْكِ مِنْ دَارِ مُلْكِكُمْ أَلَا هَذِهِ حَقًّا صَرِيمَةُ صَارِمِ
وَأَدَّى لِهَارُونَ الرَّشْيدِ مَلِيكُكُمْ إِتَاوَةَ مَغْلُوبٍ وَجِزْيَةَ غَارِمِ
سَلَبْنَاكُمُ مَسْرَى شُهُورًا بِقُوَّةٍ حَبَانَا بِهَا الرَّحْمَنُ أَرْحَمُ رَاحِمِ
إِلَى بَيْتِ يَعْقُوبٍ وَأَرْيَافِ دُومَةٍ إِلَى لُجَّةِ الْبَحْرِ الْبَعِيدِ الْمَحَارِمِ
فَهَلْ سِرْتُمُ فِي أَرْضِنَا قَطُّ جُمْعَةً أَبَى اللَّهُ ذَاكُمْ يَا بَقَايَا الْهَزَائِمِ
فَمَا لَكُمُ إِلَّا الْأَمَانِيُّ وَحْدَهَا بَضَائِعَ نَوْكَى تِلْكَ أَحْلَامُ نَائِمِ
رُوَيْدًا يَعُدْ نَحْوَ الْخِلَافَةِ نُورُهَا وَيُسْفِرُ مُغْبَرُّ الْوُجُوهِ السَّوَاهِمِ

وَحِينَئِذٍ تَدْرُونَ كَيْفَ فِرَارُكُمْ إِذَا صَدَمَتْكُمْ خَيْلُ جَيْشٍ مُصَادِمِ
عَلَى سَالِفِ الْعَادَاتِ مِنَّا وَمِنْكُمُ لَيَالِيَ أَنْتُمْ فِي عِدَادِ الْغَنَائِمِ
سُبِيتُمْ سَبَايَا يَحْصَرُ الْعَدُّ دُونَهَا وَسَبْيُكُمْ فِينَا كَقَطْرِ الْغَمَائِمِ
فَلَوْ رَامَ خَلْقٌ عَدَّهَا رَامَ مُعْجِزًا وَأَنَّى بِتَعْدَادٍ لِرِيشِ الْحَمَائِمِ
بِأَبْنَاءِ حَمْدَانَ وَكَافُورَ صُلْتُمُ أَرَاذِلَ أَنْجَاسٍ قِصَارِ الْمَعَاصِمِ
دَعِيُّ وَحَجَّامٌ سَطَوْتُمْ عَلَيْهِمَا وَمَا قَدْرُ مَصَّاصٍ دِمَاءَ الْمَحَاجِمِ
فَهَلَّا عَلَى دِمْيَانَةٍ قَبْلَ ذَاكَ أَوْ عَلَى مَحَلٍ أَرْبَا رُمَاةُ الضَّرَاغِمِ
لَيَالِيَ قَادُوكُمْ كَمَا اقْتَادَ جَازِرٌ حَلَائِبَ أَتْيَاسٍ لَحَزِّ الْحَلَاقِمِ
وَسَاقُوا عَلَى رِسْلٍ بَنَاتِ مُلُوكِكُمْ سَبَايَا كَمَا سِيقَتْ ظِبَاءُ الصَّرَائِمِ
وَلَكِنْ سَلُوا عَنَّا هِرَقْلًا وَمَنْ خَلَا لَكُمْ مِنْ مُلُوكٍ مُكْرَمِينَ قُمَاقِمِ
يُخَبِّرْكُمُ عَنَّا الْمُتَوَّجُ مِنْكُمُ وَقَيْصَرُكُمْ عَنْ سَبْيِنَا لِلْكَرَائِمِ
وَعَمَّا فَتَحْنَا مِنْ مَنِيعِ بِلَادِكُمْ وَعَمَّا أَقَمْنَا فِيكُمُ مِنْ مَآتِمِ
وَدَعْ كُلَّ نَذْلٍ مُفْتَرٍ لَا تَعُدَّهُ إِمَامًا وَلَا مِنْ مُحْكَمَاتِ الدَّعَائِمِ
فَهَيْهَاتَ سَامَرَّا وَتَكْرِيتُ مِنْكُمُ إِلَى جَبَلٍ تِلْكُمْ أَمَانِيُّ هَائِمِ
مَتَى يَتَمَنَّاهَا الضَّعِيفُ وَدُونَهَا تَطَايُرُ هَامَاتٍ وَحَزُّ الْغَلَاصِمِ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهل التأويل يتعرون أمام قانوني الحق والميزان

    بسم الله الرحمن الرحيم خلاصة قانون الحق = أن الله خلق السماوات والارض وما فيهم وما بينهم وما لأجلهم بقدر قام في وقت محدد وزمن مع...