الأحد، 1 أغسطس 2021

3/24البداية والنهاية - عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ

  3/24البداية والنهاية - عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ  

      لَيْتَ أَنَّ الرِّيَاحَ كُنَّ يُؤَدِّي نَ إِلَيْكُمْ مَا قَدْ يُجِنُّ الضَّمِيرُ
لَمْ أَزَلْ صَبَّةً فَإِنْ كُنْتَ بَعْدِي فِي سُرُورٍ فَدَامَ ذَاكَ السُّرُورُ
وَذَكَرُوا أَنَّهُ أَهْدَى إِلَيْهَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ نَائِبُ الْبَصْرَةِ مِائَةَ وَصَيْفٍ، مَعَ كُلِّ وَصَيْفٍ جَامٌ مِنْ فِضَّةٍ مَمْلُوءٌ مِسْكًا. فَكَتَبَتْ إِلَيْهِ: إِنْ كَانَ مَا بَعَثْتَهُ ثَمَنًا عَنْ ظَنِّنَا فِيكَ فَظَنُّنَا فِيكَ أَكْثَرُ مِمَّا بَعَثْتَ، وَقَدْ بَخَسْتَنَا فِي الثَّمَنِ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ زِيَادَةَ الْمَوَدَّةِ فَقَدِ اتَّهَمْتَنِي فِي الْمَوَدَّةِ. وَرَدَّتْهَا عَلَيْهِ.
وَقَدِ اشْتَرَتِ الدَّارَ الْمَشْهُورَةَ بِهَا بِمَكَّةَ الْمَعْرُوفَةَ بِدَارِ الْخَيْزُرَانِ، فَزَادَتْهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَكَانَ مُغَلُّ ضِيَاعِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ أَلْفٍ وَسِتِّينَ أَلْفًا.
وَاتَّفَقَ مَوْتُهَا بِبَغْدَادَ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَخَرَجَ ابْنُهَا الرَّشِيدُ فِي جِنَازَتِهَا وَهُوَ حَامِلٌ سَرِيرَهَا يَخُبُّ فِي الطِّينِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْمَقْبَرَةِ أُتِيَ بِمَاءٍ، فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ وَلَبِسَ خُفًّا، وَصَلَّى عَلَيْهَا، وَنَزَلَ فِي لَحْدِهَا، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْقَبْرِ أُتِيَ بِسَرِيرٍ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَاسْتَدْعَى بِالْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَوَلَّاهُ الْخَاتَمَ وَالنَّفَقَاتِ. وَأَنْشَدَ الرَّشِيدُ قَوْلَ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ حِينَ دَفَنَ أُمَّهُ الْخَيْزُرَانَ:

وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا
فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعَا
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَادِرُ جَارِيَةٌ كَانَتْ لِمُوسَى الْهَادِي، وَكَانَ يُحِبُّهَا حُبًّا شَدِيدًا جِدًّا، وَكَانَتْ تُحْسِنُ الْغِنَاءَ جَيِّدًا، فَبَيْنَمَا هِيَ يَوْمًا تُغَنِّيهِ إِذْ أَخَذَتْهُ فِكْرَةٌ غَيَّبَتْهُ عَنْهَا، وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ، فَسَأَلَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: مَا هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: أَخَذَتْنِي فِكْرَةٌ; أَنِّي أَمُوتُ، وَأَنَّ أَخِي هَارُونَ يَتَوَلَّى الْخِلَافَةَ بَعْدِي، وَيَتَزَوَّجُ جَارِيَتِي هَذِهِ. فَفَدَاهُ الْحَاضِرُونَ، وَدَعَوْا لَهُ بِطُولِ الْعُمْرِ، فَاسْتَدْعَى أَخَاهُ هَارُونَ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا وَقَعَ فِي فِكْرِهِ، فَعَوَّذَهُ الرَّشِيدُ مِنْ ذَلِكَ، فَاسْتَحْلَفَهُ الْهَادِي بِالْأَيْمَانِ الْمُغَلَّظَةِ مِنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْحَجِّ مَاشِيًا حَافِيًا أَنْ لَا يَتَزَوَّجَهَا، فَحَلَفَ لَهُ، وَاسْتَحْلَفَ الْجَارِيَةَ بِالْحَجِّ وَالْعَتَاقِ، فَحَلَفَتْ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا أَقَلُّ مِنْ شَهْرٍ حَتَّى مَاتَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعَثَ الرَّشِيدُ إِلَيْهَا يَخْطُبُهَا، فَقَالَتْ: كَيْفَ بِالْأَيْمَانِ الَّتِي حَلَفْتُهَا وَحَلَفْتَهَا؟ فَقَالَ: أَنَا أُكَفِّرُ عَنْكِ وَعَنِّي. وَتَزَوَّجَهَا فَحَظِيَتْ عِنْدَهُ أَيْضًا جِدًّا حَتَّى كَانَتْ تَنَامُ فِي حِجْرِهِ فَلَا يَتَحَرَّكُ خَشْيَةَ أَنْ يُزْعِجَهَا مِنْ مَنَامِهَا، فَبَيْنَمَا هِيَ ذَاتَ لَيْلَةٍ نَائِمَةٌ مَعَهُ إِذِ انْتَبَهَتْ مَذْعُورَةً تَبْكِي، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، رَأَيْتُ الْهَادِي مَوْلَايَ فِي مَنَامِي هَذَا وَهُوَ يَقُولُ:
أَخْلَفْتِ عَهْدِي بَعْدَ مَا جَاوَرْتُ سُكَّانَ الْمَقَابِرْ
وَنَسِيتِنِي وَحَنَثْتِ فِي أَيْمَانِكَ الْكُذُبِ الْفَوَاجِرْ
وَنَكَحْتِ غَادِرَةً أَخِي صَدَقَ الَّذِي سَمَّاكِ غَادِرْ

أَمْسَيْتُ فِي أَهْلِ الْبِلَى وَغَدَوْتِ فِي الْحُورِ الْغَرَائِرْ
لَا يَهْنِكِ الْإِلْفُ الْجَدِي دُ وَلَا تَدُرْ عَنْكِ الدَّوَائِرْ
وَلَحِقْتِ بِي قَبْلَ الصَّبَا حِ وَصِرْتِ حَيْثُ غَدَوْتُ صَائِرْ
فَقَالَ لَهَا الرَّشِيدُ: إِنَّمَا هَذَا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ. فَقَالَتْ: كَلَّا وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَكَأَنَّمَا كُتِبَتٍ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَلْبِي. ثُمَّ مَا زَالَتْ تَضْطَرِبُ وَتَرْتَعِدُ حَتَّى مَاتَتْ قَبْلَ الصَّبَاحِ.
هَيْلَانَةُ جَارِيَةُ الرَّشِيدِ، وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهَا هَيْلَانَةَ لِكَثْرَةِ قَوْلِهَا: هِيَ لَانَةُ.
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَكَانَ لَهَا مُحِبًّا، وَكَانَتْ قَبْلَهُ لِيَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، فَدَخَلَ الرَّشِيدُ يَوْمًا مَنْزِلَهُ قَبْلَ الْخِلَافَةِ، فَاعْتَرَضَتْهُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَتْ: أَمَا لَنَا مِنْكَ نَصِيبٌ؟ فَقَالَ لَهَا؟ وَكَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ: اسْتَوْهِبْنِي مِنْ هَذَا الشَّيْخِ. فَاسْتَوْهَبَهَا مِنْ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، فَوَهَبَهَا لَهُ فَحَظِيَتْ عِنْدَهُ، وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ، فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا وَرَثَاهَا وَاسْتَرْثَاهَا، وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ فِيهَا:
قَدْ قُلْتُ لَمَّا ضَمَّنُوكِ الثَّرَى وَجَالَتِ الْحَسْرَةُ فِي صَدْرِي
اذْهَبْ فَلَا وَاللَّهِ لَا سَرَّنِي بَعْدَكِ شَيْءٌ آخِرَ الدَّهْرِ
وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ فِي مَوْتِهَا:

يَا مَنْ تَبَاشَرَتِ الْقُبُورُ بِمَوْتِهَا قَصَدَ الزَّمَانُ مَسَاءَتِي فَرَمَاكِ
أَبْغِي الْأَنِيسَ فَمَا أَرَى لِي مُؤْنِسًا إِلَّا التَّرَدُّدَ حَيْثُ كُنْتُ أَرَاكِ
مَلِكٌ بَكَاكِ وَطَالَ بَعْدَكِ حُزْنُهُ لَوْ يَسْتَطِيعُ بِمُلْكِهِ لَفَدَاكِ
تَحْمِي الْفُؤَادَ عِنِ النِّسَاءِ حَفِيظَةٌ كَيْلَا يَحِلَّ حِمَى الْفُؤَادِ سِوَاكِ
قَالَ: فَأَمَرَ لَهُ الرَّشِيدُ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا; لِكُلِّ بَيْتٍ عَشَرَةُ آلَافٍ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا وَقَعَتْ عَصَبِيَّةٌ بِالشَّامِ وَتَخْبِيطٌ بَيْنَ أَهْلِهَا.
وَفِيهَا اسْتَقْضَى الرَّشِيدُ يُوسُفَ ابْنَ الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ وَأَبُوهُ حَيٌّ.
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ، فَدَخَلَ بِلَادَ الرُّومِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدُ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ مَكَّةَ بَلَغَهُ أَنَّ بِهَا وَبَاءً، فَلَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ حَتَّى كَانَ وَقْتُ الْوُقُوفِ فَوَقَفَ، ثُمَّ جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ، ثُمَّ مِنًى، ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ، فَطَافَ وَسَعَى، وَارْتَحَلَ، وَلَمْ يَنْزِلْ بِهَا.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا أَخَذَ الرَّشِيدُ الْبَيْعَةَ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ مُحَمَّدٍ ابْنِ زُبَيْدَةَ، وَسَمَّاهُ الْأَمِينَ، وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ خَمْسُ سِنِينَ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ سَلْمٌ الْخَاسِرُ:
قَدْ وَفَّقَ اللَّهُ الْخَلِيفَةَ إِذْ بَنَى بَيْتَ الْخِلَافَةِ لِلْهِجَانِ الْأَزْهَرِ فَهُوَ الْخَلِيفَةُ عَنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ
شَهِدَا عَلَيْهِ بِمَنْظَرٍ وِبَمَخْبَرِ قَدْ بَايَعَ الثَّقَلَانِ فِي مَهْدِ الْهُدَى
لِمُحَمَّدٍ ابْنِ زُبَيْدَةَ ابْنَةِ جَعْفَرِ
وَقَدْ كَانَ الرَّشِيدُ يَتَوَسَّمُ النَّجَابَةَ وَالرَّجَاحَةَ فِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَأْمُونِ، وَيَقُولُ: وَاللَّهِ إِنَّ فِيهِ حَزْمَ الْمَنْصُورِ، وَنُسُكَ الْمَهْدِيِّ، وَعِزَّةَ نَفْسِ الْهَادِي، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ الرَّابِعَةَ مِنِّي لَقُلْتُ، وَإِنِّي لَأُقَدِّمُ مُحَمَّدًا ابْنَ زُبَيْدَةَ عَلَيْهِ وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ هَوَاهُ، وَلَكِنْ لَا أَسْتَطِيعُ غَيْرَ ذَلِكَ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
لَقَدْ بَانَ وَجْهُ الرَّأْيِ لِي غَيْرَ أَنَّنِي غُلِبْتُ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ أَحْزَمَا
وَكَيْفَ يُرَدُّ الدَّرُّ فِي الضَّرْعِ بَعْدَمَا تَوَزَّعَ حَتَّى صَارَ نَهْبًا مُقَسَّمًا
أَخَافُ الْتَوَاءَ الْأَمْرِ بَعْدَ اسْتِوَائِهِ وَأَنْ يُنْقَضَ الْأَمْرُ الَّذِي كَانَ أُبْرِمَا
وَغَزَا الصَّائِفَةَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ، فِي قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدُ.

وَفِيهَا سَارَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ إِلَى الدَّيْلَمِ، وَتَحَرَّكَ هُنَالِكَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

شَعْوَانَةُ الْعَابِدَةُ الزَّاهِدَةُ، كَانَتْ أَمَةً سَوْدَاءَ، كَثِيرَةَ الْعِبَادَةِ، رُوِيَ عَنْهَا كَلِمَاتٌ حَسَّانٌ، وَقَدْ سَأَلَهَا الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ الدُّعَاءَ، فَقَالَتْ: أَمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَا إِنْ دَعَوْتَهُ اسْتَجَابَ لَكَ؟ فَشَهِقَ الْفُضَيْلُ، وَوَقَعَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ.
وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَهْمِيُّ مَوْلَاهُمْ، قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: كَانَ مَوْلَى قَيْسِ بْنِ رَفَاعَةَ، وَهُوَ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُسَافِرٍ الْفَهْمِيُّ، إِمَامُ أَهْلِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وُلِدَ بِقَرْقَشَنْدَةَ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَنَشَأَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: أَصْلُهُ مِنْ قَلْقَلَشَنْدَةَ، وَضَبَطَهُ بِلَامَيْنِ، الثَّانِيَةُ مُتَحَرِّكَةٌ.

وَحَكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ، وَأَنَّهُ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِمِصْرَ، وَأَنَّهُ وُلِدَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَذَلِكَ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ لَهُ مِنْ مِلْكِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ خَمْسَةُ آلَافِ دِينَارٍ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ يَدْخُلُ لَهُ مِنَ الْغَلَّةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَمَانُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ.
وَكَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْعَرَبِيَّةِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَ اللَّيْثُ أَفْقَهَ مِنْ مَالِكٍ إِلَّا أَنَّهُ ضَيَّعَهُ أَصْحَابُهُ.
وَبَعَثَ إِلَيْهِ مَالِكٌ يَسْتَهْدِيهِ شَيْئًا مِنَ الْعُصْفُرِ لِأَجْلِ جِهَازِ ابْنَتِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ ثَلَاثِينَ حِمْلًا، فَاسْتَعْمَلَ مِنْهُ مَالِكٌ حَاجَتَهُ، وَبَاعَ مِنْهُ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ، وَبَقِيَ عِنْدَهُ بَقِيَّةٌ.
وَحَجَّ مَرَّةً فَأَهْدَى لَهُ مَالِكٌ طَبَقًا فِيهِ رُطَبٌ، فَرَدَّ الطَّبَقَ وَفِيهِ أَلْفُ دِينَارٍ.
وَكَانَ يَهَبُ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ الْأَلْفَ دِينَارٍ وَمَا يُقَارِبُ ذَلِكَ.
وَكَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي الْبَحْرِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي مَرْكَبٍ، وَمَطْبَخُهُ

فِي مَرْكَبٍ. وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " التَّكْمِيلِ ".
وَحَكَى ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّهُ سُمِعَ قَائِلٌ يَقُولُ يَوْمَ مَاتَ اللَّيْثُ:
ذَهَبَ اللَّيْثُ فَلَا لَيْثَ لَكُمْ وَمَضَى الْعِلْمُ غَرِيبًا وَقُبِرْ
فَالْتَفَتُوا فَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا.
الْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُنْذِرِ الْقُرَشِيُّ، عَرَضَ عَلَيْهِ الْمَهْدِيُّ أَنْ يَلِيَ الْقَضَاءَ وَيُعْطِيَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ عَاهَدْتُ اللَّهَ أَنْ لَا أَلِيَ شَيْئًا، وَأُعِيذُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ أَنْ أَخِيسَ بِعَهْدِي. فَقَالَ لَهُ الْمَهْدِيُّ: آللَّهِ؟ قَالَ: آللَّهِ. قَالَ: انْطَلِقْ فَقَدْ أَعْفَيْتُكَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ ظُهُورُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِبِلَادِ الدَّيْلَمِ، وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَارْتَحَلَ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنَ الْكُوَرِ وَالْأَمْصَارِ، فَانْزَعَجَ لِذَلِكَ الرَّشِيدُ، وَقَلِقَ مِنْ أَمْرِهِ، فَنَدَبَ إِلَيْهِ الْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ فِي خَمْسِينَ أَلْفًا، وَوَلَّاهُ كُوَرَ الْجَبَلِ وَالرَّيَّ وَجُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ وَقُومَسَ وَالرُّويَانِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَسَارَ الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَكُتُبُ الرَّشِيدِ تَلْحَقُهُ مَعَ الْبُرُدِ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ، وَأَنْوَاعُ التُّحَفِ وَالْبِرِّ، وَكَاتَبَ الْفَضْلُ صَاحِبَ الدَّيْلَمِ، وَوَعَدَهُ بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ إِنْ هُوَ سَهَّلَ خُرُوجَ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، وَكَتَبَ الْفَضْلُ إِلَى يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَعِدُهُ وَيُمَنِّيهِ وَيُؤَمِّلُهُ وَيُرَجِّيهِ وَيَبْسُطُ أَمَلَهُ، إِنْ هُوَ خَرَجَ إِلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ لَهُ الْعُذْرَ عِنْدَ الرَّشِيدِ، فَامْتَنَعَ يَحْيَى أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ حَتَّى يَكْتُبَ لَهُ الرَّشِيدُ كِتَابَ أَمَانٍ بِيَدِهِ، فَكَتَبَ الْفَضْلُ إِلَى الرَّشِيدِ بِذَلِكَ، فَفَرِحَ الرَّشِيدُ، وَوَقَعَ مِنْهُ مَوْقِعًا عَظِيمًا، وَكَتَبَ الْأَمَانَ بِيَدِهِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ وَمَشْيَخَةَ بَنِي هَاشِمٍ، مِنْهُمْ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ، وَبَعَثَ الْأَمَانَ، وَأَرْسَلَ مَعَهُ جَوَائِزَ وَتُحَفًا كَثِيرَةً جِدًّا، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَى الْفَضْلِ بَعَثَهَا بِكَمَالِهَا إِلَى يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَخَرَجَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، فَسَارَ بِهِ الْفَضْلُ، فَدَخَلَ بِهِ بَغْدَادَ وَتَلْقَّاهُ الرَّشِيدُ، وَأَكْرَمَهُ وَأَجْزَلَ لَهُ الْعَطَاءَ، وَخَدَمَهُ آلُ بَرْمَكَ خِدْمَةً عَظِيمَةً، بِحَيْثُ إِنَّ يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ كَانَ يَتَوَلَّى

خِدْمَتَهُ بِنَفْسِهِ، وَعَظُمَ الْفَضْلُ عِنْدَ الرَّشِيدِ جَدًّا بِهَذِهِ الْفِعْلَةِ; حَيْثُ سَعَى فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْعَبَّاسِيِّينَ وَالْفَاطِمِيِّينَ.
فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ مَرْوَانُ ابْنُ أَبِي حَفْصَةَ يَمْدَحُ الْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى، وَيَشْكُرُهُ عَلَى سَعْيِهِ هَذَا:
ظَفِرْتَ فَلَا شُلَّتْ يَدٌ بَرْمَكِيَّةٌ رَتَقْتَ بِهَا الْفَتْقَ الَّذِي بَيْنَ هَاشِمٍ عَلَى حِينِ أَعْيَا الرَّاتِقينَ الْتِئَامُهُ
فَكَفُّوا وَقَالُوا لَيْسَ بِالْمُتَلَائِمِ فَأَصْبَحَتْ قَدْ فَازَتْ يَدَاكَ بِخُطَّةٍ
مِنَ الْمَجْدِ بَاقٍ ذِكْرُهَا فِي الْمَوَاسِمِ وَمَا زَالَ قِدْحُ الْمُلِكِ يَخْرُجُ فَائِزًا
لَكُمْ كُلَّمَا ضُمَّتْ قِدَاحُ الْمُسَاهِمِ
قَالُوا: ثُمَّ إِنَّ الرَّشِيدَ تَنَكَّرَ لِيَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، وَتَغَيَّرَ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَجَنَهُ، ثُمَّ اسْتَحْضَرَهُ الرَّشِيدُ وَعِنْدَهُ الْقَاضِيَانِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَعِنْدَهُ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْهَاشِمِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَأَحْضَرَ الْأَمَانَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ، فَسَأَلَ الرَّشِيدُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ عَنْ هَذَا الْأَمَانِ أَصَحِيحٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَتَغَيَّظَ الرَّشِيدُ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: لَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ، فَاحْكُمْ فِيهِ بِمَا شِئْتَ. وَمَزَّقَ الْأَمَانَ، وَبَصَقَ فِيهِ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَأَقْبَلَ الرَّشِيدُ عَلَى يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: هِيهِ هِيهِ. وَهُوَ يَتَبَسَّمُ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، وَقَالَ إِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّا سَمَمْنَاكَ. فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ لَنَا قَرَابَةً وَرَحِمًا وَحَقًّا، فَعَلَامَ تُعَذِّبُنِي وَتَحْبِسُنِي؟ فَرَقَّ لَهُ الرَّشِيدُ، فَاعْتَرَضَ بَكَّارُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: لَا يُغْرُنَّكَ كَلَامُ هَذَا، فَإِنَّهُ عَاصٍ شَاقٌّ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْهُ مَكْرٌ وَخُبْثٌ، وَقَدْ أَفْسَدَ عَلَيْنَا مَدِينَتَنَا، وَأَظْهَرَ فِيهَا

الْعِصْيَانَ. فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: وَمَنْ أَنْتُمْ عَافَاكُمُ اللَّهُ؟ وَإِنَّمَا هَاجَرَ أَبُوكَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِآبَائِي، وَآبَاءِ هَذَا. ثُمَّ قَالَ يَحْيَى: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا النَّاسُ نَحْنُ وَأَنْتُمْ، وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَقَدْ جَاءَ إِلَيَّ هَذَا حِينَ قُتِلَ أَخِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ قَاتِلَهُ. وَأَنْشَدَنِي فِيهِ مَرْثِيَّةً نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ بَيْتًا، وَقَالَ: إِنْ تَحَرَّكْتَ فِي هَذَا الْأَمْرِ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُبَايِعُكَ، وَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَلْحَقَ بِالْبَصْرَةِ وَأَيْدِينَا مَعَ يَدِكَ؟ قَالَ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُ الزُّبَيْرِيِّ، وَأَنْكَرَ وَشَرَعَ يَحْلِفُ بِالْأَيْمَانِ الْمُغَلَّظَةِ: إِنَّهُ لَكَاذِبٌ فِي ذَلِكَ. وَتَنَمَّرَ الرَّشِيدُ، وَقَالَ لِيَحْيَى: أَتَحْفَظُ شَيْئًا مِنَ الْمَرْثِيَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَأَنْشَدَهُ مِنْهَا جَانِبًا. فَازْدَادَ الزُّبَيْرِيُّ فِي الْإِنْكَارِ، فَقَالَ لَهُ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فَقُلْ: إِنْ كُنْتُ كَاذِبًا فَقَدْ بَرِئْتَ مِنْ حَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ، وَوَكَلَنِي اللَّهُ إِلَى حَوْلِي وَقُوَّتِي. فَامْتَنَعَ مِنَ الْحَلِفِ بِذَلِكَ، فَعَزَمَ عَلَيْهِ الرَّشِيدُ، وَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ، فَحَلَفَ بِذَلِكَ، فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ الرَّشِيدِ فَرَمَاهُ اللَّهُ بِالْفَالِجِ فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ. وَيُقَالُ: إِنَّ امْرَأَتَهُ غَمَّتْ وَجْهَهُ بِمِخَدَّةٍ، فَقَتَلَتْهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ إِنَّ الرَّشِيدَ أَطْلَقَ يَحْيَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، وَأَطْلَقَ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَيُقَالُ: إِنَّمَا حَبَسَهُ بَعْضَ يَوْمٍ. وَكَانَ جُمْلَةُ مَا وَصَلَهُ مِنَ الْمَالِ مِنَ الرَّشِيدِ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ شَهْرًا وَاحِدًا، ثُمَّ مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِالشَّامِ بَيْنَ النِّزَارِيَّةِ - وَهُمْ قِيسٌ - وَالْيَمَانِيَّةِ، وَهَذَا كَانَ أَوَّلَ بَدُوِّ أَمْرِ الْعِشْرَيْنِ بِحُورَانَ، وَهُمْ قَيْسٌ وَيَمَنٌ، أَعَادُوا

مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي هَذَا الْأَوَانِ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ عَلَى نِيَابَةِ الشَّامِ كُلِّهَا مِنْ جِهَةِ الرَّشِيدِ ابْنُ عَمِّهِ مُوسَى بْنُ عِيسَى، وَقِيلَ: عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ عَلَى نِيَابَةِ دِمَشْقَ بِخُصُوصِهَا سِنْدِيُّ بْنُ شَاهَكَ أَحَدُ مَوَالِي أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَقَدْ هَدَمَ سُورَ دِمَشْقَ حِينَ هَاجَتْ هَذِهِ الْفِتْنَةُ; خَوْفًا مِنْ أَنْ يَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا أَبُو الْهَيْذَامِ الْمُرِّيُّ رَأْسُ الْقَيْسِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ سِنْدِيٌّ هَذَا دَمِيمَ الْخَلْقِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَكَانَ لَا يُحَلِّفُ الْمُكَارِي وَلَا الْمَلَّاحَ وَلَا الْحَائِكَ، يَقُولُ: الْقَوْلُ قَوْلُهُمْ. وَيَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِي الْجَمَّالِ وَمُعَلِّمِ الْكُتَّابِ. وَقَدْ تُوُفِّيَ سِنْدِيٌّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ.
فَلَمَّا تَفَاقَمَ الْأَمْرُ بَعَثَ الرَّشِيدُ مِنْ جِهَتِهِ مُوسَى بْنَ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ وَرُءُوسِ الْكُتَّابِ فَأَصْلَحُوا بَيْنَ النَّاسِ، وَهَدَأَتِ الْفِتْنَةُ، وَاسْتَقَامَ أَمْرُ الشَّامِ، وَحَمَلُوا جَمَاعَاتٍ مِنْ رُءُوسِ الْفِتْنَةِ إِلَى مَدِينَةِ السَّلَامِ، فَرَدَّ الرَّشِيدُ أَمْرَهُمْ إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، فَعَفَا عَنْهُمْ وَأَطَلْقَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
قَدْ هَاجَتِ الشَّامُ هَيْجًا يُشِيبُ رَاسَ وَلِيدِهِ
فَصَبَّ مُوسَى عَلَيْهَا بِخَيْلِهِ وَجُنُودِهِ

فَدَانَتِ الشَّامُ لَمَّا أَتَى نَسِيجُ وَحِيدِهِ
هَذَا الْجَوَادُ الَّذِي بَذَّ كُلَّ جُودٍ بِجُودِهِ
أَعْدَاهُ جُودُ أَبِيهِ يَحْيَى وَجُودُ جُدُودِهِ
فَجَادَ مُوسَى بْنُ يَحْيَى بِطَارِفٍ وَتَلِيدِهِ
وَنَالَ مُوسَى ذُرَى الْمَجْ دِ وَهُوَ حَشْوُ مُهُودِهِ
خَصَصْتُهُ بِمَدِيحِي مَنْثُورِهِ وَقَصِيدِهِ
مِنَ الْبَرَامِكِ عُودٌ لَهُ فَأَكْرِمْ بَعُودِهِ
حَوَوْا عَلَى الشِّعْرِ طُرًّا خَفِيفِهِ وَمَدِيدِهِ
وَفِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ الْغِطْرِيفَ بْنَ عَطَاءٍ عَنْ خُرَاسَانَ، وَوَلَّاهَا حَمْزَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيَّ الْمُلَقَّبَ بِالْعَرُوسِ.
وَفِيهَا وَلَّى الرَّشِيدُ جَعْفَرَ بْنَ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ نِيَابَةَ مِصْرَ، فَاسْتَنَابَ جَعْفَرٌ عَلَيْهَا عُمَرَ بْنَ مِهْرَانَ، وَكَانَ شَنِيعَ الشَّكْلِ، زَرِيَّ الْخَلْقِ، بَيِّنَ الْكِنْبَةِ، أَحْوَلَ، وَمَا كَانَ سَبَبَ وِلَايَةِ الرَّشِيدِ إِيَّاهُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ إِلَّا أَنَّ نَائِبَهَا مُوسَى بْنَ عِيسَى كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى خَلْعِ الرَّشِيدِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَعْزِلَنَّهُ وَلَأُوَلِّيَنَّ عَلَيْهَا أَخَسَّ النَّاسِ. فَاسْتَدْعَى عُمَرَ بْنَ مَهْرَانَ هَذَا، وَوَلَّاهُ عَلَيْهَا نِيَابَةً عَنْ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ الْبَرْمَكِيِّ، فَسَارَ إِلَيْهَا عُمَرُ بْنُ مِهْرَانَ عَلَى بَغْلٍ وَغُلَامُهُ أَبُو دُرَّةَ عَلَى بَغْلٍ آخَرَ، فَدَخَلَهَا كَذَلِكَ، فَانْتَهَى إِلَى مَجْلِسِ نَائِبِهَا مُوسَى بْنِ عِيسَى، فَجَلَسَ فِي

أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَلَمَّا انْفَضَّ النَّاسُ أَقْبَلَ عَلَيْهِ مُوسَى بْنُ عِيسَى وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَنْ هُوَ، فَقَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ يَا شَيْخُ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ. ثُمَّ قَامَ بِالْكُتُبِ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَرَأَهَا قَالَ: أَنْتَ عُمَرُ بْنُ مِهْرَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ حِينَ قَالَ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ [ الزُّخْرُفِ: 51 ]. ثُمَّ سَلَّمَ إِلَيْهِ الْعَمَلَ، وَارْتَحَلَ عَنْهَا، وَأَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ مِهْرَانَ عَلَى عَمَلِهِ، فَكَانَ لَا يَقْبَلُ شَيْئًا مِنَ الْهَدَايَا إِلَّا مَا كَانَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ قُمَاشًا، وَيَكْتُبُ عَلَى ذَلِكَ اسْمَ مُهْدِيهِ، ثُمَّ إِنَّهُ طَالَبَ بِالْخَرَاجِ وَأَلَحَّ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَشَرَعَ بَعْضُهُمْ فِي مُمَاطَلَتِهِ، فَأَقْسَمَ لَا يُمَاطِلُهُ أَحَدٌ فَيَقْبِضَ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَبْعَثُهُ إِلَى بَغْدَادَ وَيَزِنُ خَرَاجَهُ بِهَا، وَيَأْتِي بِوَرَقَةِ الْقَبْضِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ بِبَعْضِ النَّاسِ فَتَأَدَّبَ بَقِيَّتُهُمْ، ثُمَّ جَبَاهُمُ الْقِسْطَ الثَّانِي، فَلَمَّا كَانَ الثَّالِثُ عَجَزَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَنِ الْأَدَاءِ، فَجَعَلَ يَسْتَحْضِرُ مَا كَانُوا أَهْدَوْا إِلَيْهِ; فَإِنْ كَانَ نَقْدًا أَدَّاهُ عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ بُرًّا بَاعَهُ وَاعْتَدَّ بِهِ عَنْهُمْ، وَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا ادَّخَرْتُ هَذَا لَكْمْ إِلَى وَقْتِ حَاجَتِكُمْ. ثُمَّ أَكْمَلَ اسْتِخْرَاجَ جَمِيعَ الْخَرَاجِ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدٌ قَبْلَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهَا; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ شَرَطَ عَلَى الرَّشِيدِ أَنَّهُ إِذَا مَهَّدَ الْبِلَادَ وَجَبَى الْخَرَاجَ، فَذَاكَ إِذْنُهُ فِي الِانْصِرَافِ. وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ سِوَى مَوْلَاهُ أَبِي دُرَّةَ وَهُوَ حَاجِبُهُ، وَهُوَ مَنْفِذُ أُمُورِهِ.
وَغَزَا الصَّائِفَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَفَتَحَ حِصْنًا.
وَحَجَّتْ زُبَيْدَةُ زَوْجَةُ الْخَلِيفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَمَعَهَا أَخُوهَا. وَكَانَ أَمِيرَ الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سُلَيْمَانُ ابْنَ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَمُّ الرَّشِيدِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

إِبْرَاهِيمُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، كَانَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ، تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ، حَكَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ.
وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ هَرْمَةَ، الشَّاعِرُ، وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ هَرْمَةَ أَبُو إِسْحَاقَ الْفِهْرِيُّ الْمَدَنِيُّ، شَاعِرٌ مُفَلِّقٌ، وَفَدَ عَلَى الْمَنْصُورِ بَغْدَادَ فِي وَفْدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حِينَ اسْتَوْفَدَهُمْ إِلَيْهِ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ، فَجَلَسُوا إِلَى سِتْرٍ دُونَ الْمَنْصُورِ، يَرَى النَّاسَ مِنْ وَرَائِهِ وَلَا يَرَوْنَهُ، وَأَبُو الْخَصِيبِ الْحَاجِبُ وَاقِفٌ يَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا فُلَانٌ الْخَطِيبُ. فَيَأْمُرُهُ فَيَخْطُبُ، وَيَقُولُ: هَذَا فُلَانٌ الشَّاعِرُ. فَيَسْتَنْشِدُهُ، حَتَّى كَانَ مِنْ آخِرِهِمْ ابْنُ هَرْمَةَ هَذَا، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَا مَرْحَبًا وَلَا أَهْلًا، وَلَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَيْنًا. قَالَ: فَقُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ذَهَبَتْ وَاللَّهِ نَفْسِي، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَيَّ نَفْسِي فَقُلْتُ: يَا نَفْسُ، هَذَا مَوْقِفٌ إِنْ لَمْ تَشْتَدِّي فِيهِ هَلَكْتِ. ثُمَّ اسْتَنْشَدَنِي، فَأَنْشَدْتُهُ قَصِيدَتِي الَّتِي أَقُولُ فِيهَا:
سَرَى ثَوْبَهُ عَنْكَ الصِّبَا الْمُتَخَايِلُ وَقَرَّبَ لِلْبَيْنِ الْخَلِيطُ الْمُزَايِلُ

حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى قَوْلِي:
فَأَمَّا الَّذِي أَمَّنْتَهُ يَأْمِنُ الرَّدَى وَأَمَّا الَّذِي حَاوَلْتَ بِالثُّكْلِ ثَاكِلُ
قَالَ: فَأَمَرَ بِرَفْعِ الْحِجَابِ، فَإِذَا وَجْهُهُ كَأَنَّهُ فِلْقَةُ قَمَرٍ، فَاسْتَنْشَدَنِي بَقِيَّةَ الْقَصِيدَةِ، وَأَمَرَنِي بِالْقُرْبِ إِلَيْهِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ يَا إِبْرَاهِيمُ ! لَوْلَا ذُنُوبٌ بَلَغَتْنِي عَنْكَ لَفَضَّلْتُكَ عَلَى أَصْحَابِكَ، فَأَقِرَّ عَلَيَّ بِذُنُوبِكَ أَعْفُهَا عَنْكَ. فَقُلْتُ: هَذَا رَجُلٌ فَقِيهٌ عَالِمٌ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَنِي بِحُجَّةٍ تَجِبُ عَلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كُلُّ ذَنْبٍ بَلَغَكَ مِمَّا عَفَوْتَهُ عَنِّي فَأَنَا مُقِرٌّ بِهِ. فَتَنَاوَلَ الْمِخْصَرَةَ، فَضَرَبَنِي بِهَا ضَرْبَتَيْنِ وَأَمَرَ لِي بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَخِلْعَةٍ، وَعَفَا عَنِّي وَأَلْحَقَنِي بِنُظَرَائِي.
وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَنْقِمُهُ الْمَنْصُورُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
وَمَهْمَا أُلَامُ عَلَى حُبِّهِمْ فَإِنِّي أُحِبُّ بَنِي فَاطِمَهْ
بَنِي بِنْتِ مَنْ جَاءَ بِالْمُحْكَمَاتِ وَبِالدِّينِ وَالسُّنَّةِ الْقَائِمَهْ
فَلَسْتُ أُبَالِي بِحُبِّي لَهُمْ سِوَاهُمْ مِنَ النَّعْمِ السَّائِمَهْ

قَالَ الْأَخْفَشُ: قَالَ لَنَا ثَعْلَبٌ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: خُتِمَ الشُّعَرَاءُ بِابْنِ هَرْمَةَ، وَهُوَ آخِرُ الْحُجَجِ.
ذَكَرَ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظِمِ ".
وَالْجَرَّاحُ بْنُ مَلِيحٍ، وَالِدُ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ. وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَمِيلٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدِينِيُّ، وَلِيَ قَضَاءَ بَغْدَادَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً بِعَسْكَرِ الْمَهْدِيِّ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ.
صَالِحُ بْنُ بَشِيرٍ الْمُرِّيُّ
وَصَالِحُ بْنُ بَشِيرٍ الْمُرِّيُّ، أَحَدُ الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ، كَانَ كَثِيرَ الْبُكَاءِ، وَكَانَ يَعِظُ، فَيَحْضُرُ مَجْلِسَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فَيَقُولُ: هَذَا نَذِيرُ قَوْمٍ. وَقَدِ اسْتَدْعَاهُ الْمَهْدِيُّ لِيَحْضُرَ عِنْدَهُ، فَجَاءَ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ، فَدَنَا مِنْ بِسَاطِ الْخَلِيفَةِ، فَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ ابْنَيْهِ - وَلِيَّيِ الْعَهْدِ; مُوسَى الْهَادِيَ وَهَارُونَ الرَّشِيدَ - فَابْتَدَرَا إِلَيْهِ لِيُنْزِلَاهُ عَنْ دَابَّتِهِ، فَأَقْبَلَ صَالِحٌ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: لَقَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ كُنْتُ عَمِلْتُ لِهَذَا الْيَوْمِ. ثُمَّ جَلَسَ إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَوَعَظَهُ فَقَالَ لَهُ: اعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

خَصَمَ مَنْ خَالَفَهُ فِي أُمَّتِهِ، وَمَنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصْمَهُ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ، فَأَعِدَّ لِمُخَاصَمَةِ اللَّهِ وَمُخَاصَمَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَجًا تَضْمَنُ لَكَ النَّجَاةَ، وَإِلَّا فَاسْتَسْلِمْ لِلْهَلَكَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَبْطَأَ الصَّرْعَى نَهْضَةً صَرِيعُ هَوًى يَدَّعِي إِلَى اللَّهِ قُرْبَةً، وَأَنَّ أَثْبَتَ النَّاسِ قَدَمًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِذُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ، فَبَكَى الْمَهْدِيُّ، وَأَمَرَ بِكِتَابَةِ ذَلِكَ الْكَلَامِ فِي دَوَاوِينِهِ.
وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، قَدِمَ قَاضِيًا بِالْعِرَاقِ فَمَاتَ فِي هَذَا الْعَامِ.
فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ الْحِمْصِيُّ التَّنُّوخِيُّ، كَانَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ بِبَغْدَادَ فِي خِلَافَةِ الرَّشِيدِ، فَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ فَمَاتَ وَلَهُ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ سَنَةً.
وَمِنْ مَنَاقِبِهِ أَنَّ الْمَنْصُورَ دَخَلَ يَوْمًا إِلَى قَصْرِ الذَّهَبِ، فَقَامَ النَّاسُ إِلَّا الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، فَقَالَ لَهُ وَقَدْ غَضِبَ عَلَيْهِ: لِمَ لَمْ تَقُمْ؟! فَقَالَ: خِفْتُ أَنْ يَسْأَلَنِي اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَيَسْأَلَكَ لِمَ رَضِيتَ بِذَلِكَ وَقَدْ كَرِهَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: فَبَكَى الْمَنْصُورُ، وَقَرَّبَهُ بِهِ وَقَضَى حَوَائِجَهُ.

الْمُسَيَّبُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو أَبُو مُسْلِمٍ الضَّبِّيُّ، كَانَ وَالِيَ الشُّرْطَةِ بِبَغْدَادَ فِي أَيَّامِ الْمَنْصُورِ وَالْمَهْدِيِّ وَالرَّشِيدِ، وَوَلِيَ خُرَاسَانَ مَرَّةً لِلْمَهْدِيِّ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
الْوَضَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَوَانَةَ الْيَشْكُرِيُّ مَوْلَاهُمْ، كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَشَايِخِ فِي الرِّوَايَةِ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ جَعْفَرَ بْنَ يَحْيَى الْبَرْمَكِيَّ عَنْ مِصْرَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا إِسْحَاقَ بْنَ سُلَيْمَانَ، وَعَزَلَ حَمْزَةَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ خُرَاسَانَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا الْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى الْبَرْمَكِيَّ مُضَافًا إِلَى مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ بِالرَّيِّ وَسِجِسْتَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ أَصَابَ النَّاسَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَظُلْمَةٌ فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ صَفَرٍ مِنْهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونُ الرَّشِيدُ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي الْكُوفِيُّ النَّخَعِيُّ، سَمِعَ أَبَا إِسْحَاقَ السَّبِيعِيَّ وَغَيْرَ وَاحِدٍ، وَكَانَ مَشْكُورًا فِي حُكْمِهِ وَتَنْفِيذِهِ وَتَضْمِينِهِ، وَكَانَ لَا يَجْلِسُ لِلْحُكْمِ حَتَّى يَتَغَدَّى، ثُمَّ يُخْرِجُ وَرَقَةً مِنْ قِمْطَرَةٍ فَيَنْظُرُ فِيهَا، ثُمَّ يَأْمُرُ

بِتَقْدِيمِ الْخُصُومِ إِلَيْهِ، فَحَرَصَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَلَى قِرَاءَةِ مَا فِي تِلْكَ الْوَرَقَةِ، فَإِذَا فِيهَا: يَا شَرِيكُ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، اذْكُرِ الصِّرَاطَ وَحِدَّتَهُ، يَا شَرِيكُ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، اذْكُرِ الْمَوْقِفَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتَ مُسْتَهَلَّ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا.
وَعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَمُوسَى بْنُ أَعْيَنَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا وَثَبَتَ طَائِفَةٌ مِنَ الْحُوفِيَّةِ مِنْ قَيْسٍ وَقُضَاعَةَ بِعَامِلِ مِصْرَ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ، فَقَاتَلُوهُ وَجَرَتْ بِهَا فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ، فَبَعَثَ الرَّشِيدُ هَرْثَمَةَ بْنَ أَعْيَنَ نَائِبَ فِلَسْطِينَ فِي خَلْقٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ مَدَدًا لِإِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ، فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى أَذْعَنُوا بِالطَّاعَةِ، وَأَدَّوْا مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَرَاجِ وَالْوَظَائِفِ، وَاسْتَمَرَّ هَرْثَمَةُ نَائِبًا عَلَى مِصْرَ نَحْوًا مِنْ شَهْرٍ عِوَضًا عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْهَا، وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ صَالِحٍ.
وَفِيهَا وَثَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَقَتَلُوا الْفَضْلَ بْنَ رَوْحِ بْنِ حَاتِمٍ، وَأَخْرَجُوا مَنْ كَانَ بِهَا مِنْ آلِ الْمُهَلَّبِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الرَّشِيدُ هَرْثَمَةَ، فَرَجَعُوا إِلَى الطَّاعَةِ عَلَى يَدَيْهِ.
وَفِيهَا فَوَّضَ الرَّشِيدُ أُمُورَ الْخِلَافَةِ كُلَّهَا إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ.
وَفِيهَا خَرَجَ الْوَلِيدُ بْنُ طَرِيفٍ بِالْجَزِيرَةِ، وَحَكَمَ بِهَا وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ مَضَى مِنْهَا إِلَى أَرْمِينِيَّةَ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَفِيهَا سَارَ الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى إِلَى خُرَاسَانَ، فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ بِهَا، وَبَنَى فِيهَا

الرُّبُطَ وَالْمَسَاجِدَ، وَغَزَا مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَاتَّخَذَ بِهَا جُنْدًا مِنَ الْعَجَمِ سَمَّاهُمُ الْعَبَّاسِيَّةَ، وَجَعَلَ وَلَاءَهُمْ لَهُمْ وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ خَمْسِمِائَةِ أَلْفٍ، وَبَعَثَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا إِلَى بَغْدَادَ فَكَانُوا يُعْرَفُونَ بِهَا بِالْكُرُنْبِيَّةِ.
وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ:
مَا الْفَضْلُ إِلَّا شِهَابٌ لَا أُفُولَ لَهُ عِنْدَ الْحُرُوبِ إِذَا مَا تَأْفُلُ الشُّهُبُ حَامٍ عَلَى مُلْكِ قَوْمٍ عَزَّ سَهْمُهُمُ
مِنَ الْوِرَاثَةِ فِي أَيْدِيهِمُ سَبَبُ أَمْسَتْ يَدٌ لِبَنِي سَاقِي الْحَجِيجِ بِهَا
كَتَائِبُ مَا لَهَا فِي غَيْرِهِمْ أَرَبُ كَتَائِبُ لِبَنِي الْعَبَّاسِ قَدْ عَرَفَتْ
مَا أَلَّفَ الْفَضْلُ مِنْهَا الْعُجْمُ وَالْعَرَبُ أَثْبَتَّ خَمْسَ مِئِينٍ فِي عِدَادِهِمْ
مِنَ الْأُلُوفِ الَّتِي أَحْصَتْ لَهَا الْكُتُبُ يُقَارِعُونَ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينُ هُمُ
أَوْلَى بِأَحْمَدَ فِي الْفُرْقَانِ إِنْ نُسِبُوا إِنَّ الْجَوَادَ ابْنَ يَحْيَى الْفَضْلَ لَا وَرِقٌ
يَبْقَى عَلَى جُودِ كَفَّيْهِ وَلَا ذَهَبُ مَا مَرَّ يَوْمٌ لَهُ مُذْ شَدَّ مِئْزَرَهُ
إِلَّا تَمَوَّلَ أَقْوَامٌ بِمَا يَهَبُ كَمْ غَايَةٍ فِي النَّدَى وَالْبَأْسِ أَحْرَزَهَا
لِلطَّالِبِينَ مَدَاهَا دُونَهَا تَعَبُ يُعْطِي اللُّهَى حِينَ لَا يُعْطِي الْجَوَادُ وَلَا
يَنْبُو إِذَا سُلَّتِ الْهِنْدِيَّةُ الْقُضُبُ وَلَا الرِّضَا وَالرِّضَا لِلَّهِ غَايَتُهُ
إِلَى سِوَى الْحَقِّ يَدْعُوهُ وَلَا الْغَضَبُ قَدْ فَاضَ عَرْفُكَ حَتَّى مَا يُعَادِلُهُ
غَيْثٌ مُغِيثٌ وَلَا بَحْرٌ لَهُ حَدَبُ
وَكَانَ قَدْ أَنْشَدَهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى خُرَاسَانَ:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْجُودَ مِنْ لَدْنِ آدَمَ تَحَدَّرَ حَتَّى صَارَ فِي رَاحَةِ الْفَضْلِ
إِذَا مَا أَبُو الْعَبَّاسِ رَاحَتْ سَمَاؤُهُ فَيَا لَكَ مِنْ هَطِلٍ وَيَا لَكَ مِنْ وَبْلِ
إِذَا أُمَّ طِفْلٍ رَاعَهَا جُوعُ طِفْلِهَا دَعَتْهُ بِإِسْمِ الْفَضْلِ فَاسْتَطْعَمَ الطِّفْلُ
لِيَحْيَى بِكَ الْإِسْلَامُ إِنَّكَ عِزُّهُ وَإِنَّكَ مِنْ قَوْمٍ صَغِيرُهُمْ كَهْلُ
قَالَ: فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ سَلْمٌ الْخَاسِرُ فِيهِمْ أَيْضًا:
وَكَيْفَ تَخَافُ مِنْ بُؤْسٍ بِدَارٍ تَكَنَّفَهَا الْبَرَامِكَةُ الْبُحُورُ
وَقَوْمٌ مِنْهُمُ الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى نَفِيرٌ مَا يُوَازِنُهُ نَفِيرُ
لَهُ يَوْمَانِ يَوْمُ نَدًى وَبَأْسٍ كَأَنَّ الدَّهْرَ بَيْنَهُمَا أَسِيرُ
إِذَا مَا الْبَرْمَكِيُّ غَدَا ابْنَ عَشْرٍ فَهِمَّتُهُ أَمِيرٌ أَوْ وَزِيرُ
وَقَدِ اتَّفَقَ لِلْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى فِي هَذِهِ السَّفْرَةِ إِلَى خُرَاسَانَ أَشْيَاءُ غَرِيبَةٌ، وَفَتَحَ بِلَادًا كَثِيرَةً، مِنْهَا كَابُلُ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَقَهَرَ مَلِكَ التُّرْكِ هُنَاكَ وَكَانَ مُمْتَنِعًا، وَأَطْلَقَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً جِدًّا، ثُمَّ قَفَلَ رَاجِعًا إِلَى بَغْدَادَ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهَا خَرَجَ الرَّشِيدُ وَوُجُوهُ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ الشُّعَرَاءُ وَالْخُطَبَاءُ وَأَكَابِرُ النَّاسِ، فَجَعَلَ يُطْلِقُ الْأَلْفَ أَلْفٍ، وَالْخَمْسَمِائَةِ أَلْفٍ وَنَحْوَهَا، فَصَرَفَ مِنَ الْأَمْوَالِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا

جِدًّا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ إِلَّا بِكُلْفَةٍ عَظِيمَةٍ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ، وَالْبِدَرُ مَوْضُوعَةٌ مَخْتُومَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهِيَ تُفَرَّقُ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ:
كَفَى اللَّهُ بِالْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ وَجُودِ يَدَيْهِ بُخْلَ كُلِّ بَخِيلِ
فَأَمَرَ لَهُ بِمَالٍ جَزِيلٍ.
وَغَزَا الصَّائِفَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُعَاوِيَةُ بْنُ زُفَرَ بْنِ عَاصِمٍ، وَغَزَا الشَّاتِيَةَ سُلَيْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ نَائِبُ مَكَّةَ، كَرَّمَهَا اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَبْثَرُ بْنُ الْقَاسِمِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْقَاضِي بِبَغْدَادَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الرَّشِيدُ، وَدُفِنَ بِهَا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ قُدُومُ الْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى مِنْ خُرَاسَانَ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا عَمْرَو بْنَ شُرَحْبِيلَ، فَوَلَّى الرَّشِيدُ عَلَيْهَا مَنْصُورَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مَنْصُورٍ الْحِمْيَرِيَّ.
وَفِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ مُحَمَّدَ بْنَ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ عَنِ الْحَجَبَةِ، وَرَدَّهَا إِلَى الْفَضْلِ بْنِ رَبِيعٍ.
وَفِيهَا خَرَجَ بِخُرَاسَانَ حَمْزَةُ بْنُ أَتْرَكَ السِّجِسْتَانِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَيَأْتِي طَرَفٌ مِنْ ذِكْرِهِ.
وَفِيهَا رَجَعَ الْوَلِيدُ بْنُ طَرِيفٍ الشَّارِي إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَاشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الرَّشِيدُ يَزِيدَ بْنَ مَزْيَدٍ الشَّيْبَانِيَّ، فَرَاوَغَهُ حَتَّى قَتَلَهُ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، فَقَالَتِ الْفَارِعَةُ أُخْتُ الْوَلِيدِ بْنِ طَرِيفٍ تَرِثِيهِ:
أَيَا شَجَرَ الْخَابُورِ مَا لَكَ مُورِقًا كَأَنَّكَ لَمْ تَجْزَعْ عَلَى ابْنِ طَرِيفِ فَتًى لَا يُحِبُّ الزَّادَ إِلَّا مِنَ الْتُّقَى
وَلَا الْمَالَ إِلَّا مِنْ قَنًا وَسُيُوفِ
وَفِيهَا خَرَجَ الرَّشِيدُ مِنْ بَغْدَادَ مُعْتَمِرًا شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمَّا قَضَى عُمْرَتَهُ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَمَشَى مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى، ثُمَّ إِلَى

عَرَفَاتٍ، وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ وَالْمَشَاعِرَ كُلَّهَا مَاشِيًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَغْدَادَ عَلَى طَرِيقِ الْبَصْرَةِ.

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ السَّادَةِ الْأَعْيَانِ
السَّيِّدُ الْحِمْيَرِيُّ الشَّاعِرُ الرَّافِضِيُّ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رَبِيعَةَ، أَبُو هَاشِمٍ الْحِمْيَرِيُّ الْمُلَقَّبُ بِالسَّيِّدِ، كَانَ مِنَ الشُّعَرَاءِ الْمَشْهُورِينَ، وَالْمُبَرَّزِينَ فِي هَذِهِ الصِّنَاعَةِ الْمُفَوَّهِينَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ رَافِضِيًّا خَبِيثًا، وَشِيعِيًّا غَثِيثًا، كَانَ مِمَّنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَيَقُولُ بِالرَّجْعَةِ، أَيْ بِالدَّوْرِ.
قَالَ يَوْمًا لِرَجُلٍ: أَقْرِضْنِي دِينَارًا، وَلَكَ عِنْدِي مِائَةُ دِينَارٍ إِذَا عُدْنَا إِلَى الدُّنْيَا. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ تَعُودَ كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا، فَيَذْهَبُ مَالِي.
وَكَانَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، يَسُبُّ الصَّحَابَةَ فِي شِعْرِهِ وَيَشْتُمُ الْخِيَرَةَ.
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا قَدَّمْتُ عَلَيْهِ أَحَدًا فِي طَبَقَتِهِ. وَلَا سِيَّمَا الشَّيْخَيْنِ وَابْنَيْهِمَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَعَنَهُ وَأَسْحَقُهُ وَأَبْعَدَهُ.

وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ شَيْئًا مِنْ شِعْرِهِ فِي ذَلِكَ كَرِهْتُ كِتَابَتَهُ، وَقَدِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ وَأَصَابَهُ كَرْبٌ شَدِيدٌ جِدًّا. وَلَمَّا مَاتَ لَمْ يَدْفِنُوهُ; لِسَبِّهِ الصَّحَابَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ، مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَشَرَى نَفْسَهُ مِنَ اللَّهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ.
وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ الْإِمَامُ. وَالْهِقْلُ بْنُ زِيَادٍ صَاحِبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ. وَكُلُّهُمْ ذَكَرْنَاهُمْ فِي كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ " بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ وَكِفَايَةٌ بِمَا يُغْنِي عَنْ ذِكْرِهِمْ هَاهُنَا، وَلَكِنِ الْإِمَامُ مَالِكٌ هُوَ أَشْهَرُهُمْ، فَإِنَّهُ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْمُتَّبَعَةِ.
الْإِمَامُ مَالِكٌ
فَهُوَ مَالِكُ بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ غَيَمَانَ بْنِ خُثَيْلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ ذُو أَصْبَحَ الْحِمْيَرِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ

الْمَدَنِيُّ، إِمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ فِي زَمَانِهِ.
رَوَى عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمُ; السُّفْيَانَانِ، وَشُعْبَةُ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ مَهْدِيٍّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ شَيْخُهُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ شَيْخُهُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى الْأَنْدَلُسِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ: مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَا كَانَ أَشَدَّ انْتِقَادِهِ لِلرِّجَالِ!
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كُلُّ مَنْ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ فَهُوَ ثِقَةٌ، إِلَّا أَبَا أُمَيَّةَ.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ أَثْبَتُ أَصْحَابِ نَافِعٍ وَالزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا جَاءَ الْحَدِيثُ فَمَالِكٌ النَّجْمُ.
وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ أَرَادَ الْحَدِيثَ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى مَالِكٍ.

وَمَنَاقِبُهُ وَفَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَثَنَاءُ الْأَئِمَّةِ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ يُحْصَرَ فِي هَذَا الْمَكَانِ.
قَالَ أَبُو مُصْعَبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: مَا أَفْتَيْتُ حَتَّى شَهِدَ لِي سَبْعُونَ أَنِّي أَهْلٌ لِذَلِكَ.
وَكَانَ إِذَا أَرَادَ التَّحْدِيثَ تَنَظَّفَ وَتَطَيَّبَ، وَلَبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، وَكَانَ يَلْبَسُ حَسَنًا. وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: حَسْبِيَ= اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وَكَانَ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلَهُ يَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَكَانَ مَنْزِلُهُ مَبْسُوطًا بِأَنْوَاعِ الْفُرُشِ. وَمِنْ وَقْتِ خُرُوجِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ لَزِمَ مَالِكٌ بَيْتَهُ، فَلَمْ يَكُنْ يَتَرَدَّدُ إِلَى أَحَدٍ لَا لِعَزَاءٍ وَلَا لِهَنَاءٍ، حَتَّى قِيلَ: وَلَا يَخْرُجُ إِلَى جَمَاعَةٍ وَلَا جُمْعَةٍ. وَيَقُولُ: مَا كَلُّ مَا =يُعْلَمُ يُقَالُ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَى الِاعْتِذَارِ. وَلَمَّا احْتُضِرَ رَحِمَهُ اللَّهُ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ. ثُمَّ قُبِضَ فِي لَيْلَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ، وَقِيلَ: مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ خَمْسٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: بَلَغَ تِسْعِينَ سَنَةً. وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ

أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةَ: يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَلَا يَجِدُونَ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ ". ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. وَعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ. وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " فَأَطْنَبَ وَأَتَى بِفَوَائِدَ جَمَّةٍ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا هَاجَتِ الْفِتْنَةُ بِالشَّامِ بَيْنَ النِّزَارِيَّةِ وَالْيَمَانِيَّةِ، فَانْزَعَجَ الرَّشِيدُ لِذَلِكَ، فَنَدَبَ جَعْفَرًا الْبَرْمَكِيَّ إِلَى الشَّامِ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْجُنُودِ، فَدَخَلَ الشَّامَ، فَانْقَادَ النَّاسُ لَهُ، وَلَمْ يَدَعْ جَعْفَرٌ بِالشَّامِ فَرَسًا وَلَا سَيْفًا وَلَا رُمْحًا إِلَّا اسْتَلَبَهُ مِنَ النَّاسِ. وَأَطْفَأَ اللَّهُ بِهِ نَارَ تِلْكَ الْفِتْنَةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ:
لَقَدْ أُوقِدَتْ بِالشَّامِ نِيرَانُ فِتْنَةٍ فَهَذَا أَوَانُ الشَّامِ تُخْمَدُ نَارُهَا إِذَا جَاشَ مَوْجُ الْبَحْرِ مِنْ آلِ بَرْمَكَ
عَلَيْهَا خَبَتْ شُهْبَانُهَا وَشِرَارُهَا رَمَاهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِجَعْفَرٍ
وَفِيهِ تَلَاقَى صَدْعُهَا وَانْجِبَارُهَا رَمَاهَا بِمَيْمُونِ النَّقِيبَةِ مَاجِدٍ
تَرَاضَى بِهِ قَحْطَانُهَا وَنِزَارُهَا
ثُمَّ كَرَّ جَعْفَرٌ رَاجِعًا إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَمَا اسْتَخْلَفَ عَلَى الشَّامِ عِيسَى ابْنَ الْعَكِّيِّ، وَلَمَّا قَدِمَ عَلَى الرَّشِيدِ أَكْرَمَهُ وَقَرَّبَهُ وَأَدْنَاهُ، وَشَرَعَ جَعْفَرٌ يَذْكُرُ كَثْرَةَ وَحْشَتِهِ لَهُ فِي الشَّامِ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي مَنَّ عَلَيْهِ بِرُجُوعِهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَرُؤْيَتِهِ وَجْهَهُ.
وَفِيهَا وَلَّى الرَّشِيدُ جَعْفَرًا خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَى ذَلِكَ مُحَمَّدَ

بْنَ الْحَسَنِ بْنِ قَحْطَبَةَ، ثُمَّ عَزَلَ الرَّشِيدُ جَعْفَرًا عَنْ خُرَاسَانَ بَعْدَ عِشْرِينَ لَيْلَةً.
وَفِيهَا هَدَمَ الرَّشِيدُ سُورَ الْمَوْصِلِ ; بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْخَوَارِجِ هُنَاكَ، وَجَعَلَ الرَّشِيدُ جَعْفَرًا عَلَى الْحَرَسِ، وَنَزَلَ الرَّشِيدُ الرَّقَّةَ وَاسْتَوْطَنَهَا، وَاسْتَنَابَ عَلَى بَغْدَادَ ابْنَهُ الْأَمِينَ مُحَمَّدًا، وَوَلَّاهُ الْعِرَاقَيْنِ، وَعَزَلَ هَرْثَمَةَ بْنَ أَعْيَنَ عَنْ إِفْرِيقِيَّةَ وَاسْتَدْعَاهُ إِلَى بَغْدَادَ فَاسْتَنَابَهُ جَعْفَرٌ عَلَى الْحَرَسِ.
وَفِيهَا كَانَتْ بِمِصْرَ زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ سَقَطَ مِنْهَا رَأْسُ مَنَارَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ.
وَفِيهَا خَرَجَ بِالْجَزِيرَةِ خُرَاشَةُ الشَّيْبَانِيُّ، فَقَتَلَهُ مُسْلِمُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ مُسْلِمٍ الْعُقَيْلِيُّ.
وَفِيهَا ظَهَرَتْ طَائِفَةٌ بِجُرْجَانَ يُقَالُ لَهُمُ: الْمُحَمِّرَةُ. لَبِسُوا الْحُمْرَةَ، وَاتَّبَعُوا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَمْرَكِيُّ. وَكَانَ يُنْسَبُ إِلَى الزَّنْدَقَةِ، فَبَعَثَ الرَّشِيدُ يَأْمُرُ بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ بِمَرْوَ، وَأَطْفَأَ اللَّهُ نَارَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ مُعَاوِيَةُ بْنُ زُفَرَ بْنِ عَاصِمٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُوسَى بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.

وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْأَنْصَارِيُّ،
قَارِئُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ أَقَامَ

مُدَّةً بِبَغْدَادَ يُؤَدِّبُ عَلِيًّا ابْنَ الْمَهْدِيِّ، حَتَّى تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ عَلِيٍّ ابْنِ الْمَهْدِيٍّ، وَقَدْ وَلِيَ إِمْرَةَ الْحَجِّ غَيْرَ مَرَّةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنَ الرَّشِيدِ بِشُهُورٍ.
حَسَّانُ بْنُ سِنَانٍ
حَسَّانُ بْنُ سِنَانِ بْنِ أَوْفَى بْنِ عَوْفٍ التَّنُوخِيُّ الْأَنْبَارِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ سِتِّينَ، وَرَأَى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَدَعَا لَهُ، فَجَاءَ مِنْ نَسْلِهِ قُضَاةٌ وَوُزَرَاءُ وَصُلَحَاءُ، وَأَدْرَكَ الدَّوْلَتَيْنِ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ يَكْتُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَالسُّرْيَانِيَّةِ، وَكَانَ يُعَرِّبُ الْكُتُبَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِيعَةَ لَمَّا وَلَّاهُ السَّفَّاحُ الْأَنْبَارَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، أَحَدُ الثِّقَاتِ.
وَعَافِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قَيْسٍ، الْقَاضِي لِلْمَهْدِيِّ عَلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَغْدَادَ هُوَ وَابْنُ عُلَاثَةَ، وَكَانَا يَحْكُمَانِ بِجَامِعِ الرُّصَافَةِ، وَكَانَ عَافِيَةُ عَابِدًا زَاهِدًا وَرِعًا، دَخَلَ يَوْمًا عَلَى الْمَهْدِيِّ فِي وَقْتِ الظَّهِيرَةِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَعْفِنِي. فَقَالَ:

لِمَ؟ أَعْتَرَضَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ خُصُومَةٌ عِنْدِي، فَعَمَدَ أَحَدُهُمَا إِلَى رُطَبِ السُّكَّرِ، وَكَأَنَّهُ سَمِعَ أَنِّي أُحِبُّهُ، فَأَهْدَى إِلَيَّ مِنْهُ طَبَقًا لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَرَدَدْتُهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَا وَجَلَسَا لِلْحُكُومَةِ، لَمْ يَسْتَوِيَا عِنْدِي فِي قَلْبِي وَلَا نَظَرِي، وَمَالَ قَلْبِي إِلَى الْمُهْدِي مِنْهُمَا، هَذَا وَمَا قَبِلْتُ مِنْهُ، فَكَيْفَ لَوْ قَبِلْتُ مِنْهُ؟! فَأَعْفِنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. فَأَعْفَاهُ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: كُنْتُ عِنْدَ الرَّشِيدِ يَوْمًا وَعِنْدَهُ عَافِيَةُ الْقَاضِي، وَقَدْ أَحْضَرَهُ لِأَنَّ قَوْمًا اسْتَعَدَوْا عَلَيْهِ إِلَى الرَّشِيدِ، فَجَعَلَ الرَّشِيدُ يُوقِفُهُ عَلَى مَا قِيلَ عَنْهُ، وَهُوَ يُجِيبُ الْخَلِيفَةَ عَمَّا يَسْأَلُهُ، وَطَالَ الْمَجْلِسُ، فَعَطَسَ الْخَلِيفَةُ، فَشَمَّتَهُ النَّاسُ وَلَمْ يُشَمِّتْهُ عَافِيَةُ، فَقَالَ لَهُ: لِمَ لَمْ تُشَمِّتْنِي مَعَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: لِأَنَّكَ لَمْ تَحْمَدِ اللَّهَ. وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: ارْجِعْ إِلَى عَمَلِكَ، فَوَاللَّهِ مَا كُنْتَ لِتَفْعَلَ مَا قِيلَ عَنْكَ، وَأَنْتَ لَمْ تُسَامِحْنِي فِي عَطْسَةٍ. وَرَدَّهُ رَدًّا جَمِيلًا إِلَى وِلَايَتِهِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ سِيبَوَيْهِ إِمَامُ النُّحَاةِ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قَنْبَرٍ أَبُو بِشْرٍ، الْمَعْرُوفُ بِسِيبَوَيْهِ النَّحْوِيِّ، مَوْلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، وَقِيلَ: مَوْلَى آلِ الرَّبِيعِ بْنِ زِيَادٍ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ سِيبَوَيْهِ; لِأَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ تُرَقِّصُهُ وَتَقُولُ لَهُ ذَلِكَ، وَمَعْنَى

سِيبَوَيْهِ: رَائِحَةُ التُّفَّاحِ. وَقَدْ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ يَصْحَبُ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءَ، وَكَانَ يَسْتَمْلِي عَلَى حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، فَلَحَنَ يَوْمًا، فَرَدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَأَنِفَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَزِمَ الْخَلِيلَ بْنَ أَحْمَدَ، فَبَرَعَ فِي النَّحْوِ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ وَنَاظَرَ الْكِسَائِيَّ.
وَكَانَ سِيبَوَيْهِ شَابًّا جَمِيلًا نَظِيفًا، تَعَلَّقَ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ بِسَبَبٍ، وَضَرَبَ فِي كُلِّ أَدَبٍ بِسَهْمٍ، مَعَ حَدَاثَةِ سِنِّهِ وَبَرَاعَتِهِ فِي النَّحْوِ. وَقَدْ صَنَّفَ فِي النَّحْوِ كِتَابًا لَا يُلْحَقُ شَأْوُهُ، وَشَرَحَهُ أَئِمَّةُ النُّحَاةِ بَعْدَهُ، فَانْغَمَرُوا فِي لُجُجِ بَحْرِهِ، وَاسْتَخْرَجُوا مِنْ جَوَاهِرِ حَاصِلِهِ، وَلَمْ يَبْلُغُوا إِلَى قَعْرِهِ. وَقَدْ زَعَمَ ثَعْلَبٌ أَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ بِتَصْنِيفِهِ، وَقَدْ تَسَاعَدَ جَمَاعَةٌ فِي تَصْنِيفِهِ نَحْوٌ مَنْ أَرْبَعِينَ نَفَسًا، هُوَ أَحَدُهُمْ. قَالَ: وَهُوَ أَصُولُ الْخَلِيلِ، فَادَّعَاهُ سِيبَوَيْهِ لِنَفْسِهِ، وَقَدِ اسْتَبْعَدَ ذَلِكَ السِّيرَافِيُّ فِي كِتَابِ " طَبَقَاتِ النُّحَاةِ " قَالَ: وَقَدْ أَخَذَ سِيبَوَيْهِ اللُّغَاتِ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ الْأَخْفَشِ وَغَيْرِهِ، وَكِتَابُهُ الْمَشْهُورُ " بِالْكِتَابِ " لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ، وَلَا يَلْحَقُهُ فِيهِ أَحَدٌ.
وَكَانَ سِيبَوَيْهِ يَقُولُ: سَعِيدُ بْنُ أَبِي الْعَرُوبَةِ، وَالْعَرُوبَةُ يَوْمُ الْجُمْعَةِ. وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ قَالَ: عَرُوبَةُ. فَقَدْ أَخْطَأَ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لِيُونُسَ فَقَالَ: أَصَابَ، لِلَّهِ دَرُّهُ.

وَقَدِ ارْتَحَلَ إِلَى خُرَاسَانَ لِيَحْظَى عِنْدَ طَلْحَةَ بْنِ طَاهِرٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ النَّحْوَ، فَمَرِضَ هُنَاكَ مَرَضَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَتَمَثَلَ عِنْدَ الْمَوْتِ:
يُؤَمِّلُ دُنْيَا لِتَبْقَى لَهُ فَمَاتَ الْمُؤَمِّلُ قَبْلَ الْأَمَلْ حَثِيثًا يَرْوِي أُصُولَ الْفَسِيلِ
فَعَاشَ الْفَسِيلُ وَمَاتَ الرَّجُلْ
وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ وَضَعَ رَأْسَهُ فِي حِجْرِ أَخِيهِ، فَدَمَعَتْ عَيْنُ أَخِيهِ، فَأَفَاقَ فَرَآهُ يَبْكِي، فَقَالَ:
وَكُنَّا جَمِيعًا فَرَّقَ الدَّهْرُ بَيْنَنَا إِلَى الْأَمَدِ الْأَقْصَى فَمَنْ يَأْمَنُ الدَّهَرَا
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَيُقَالُ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ وَعُمْرُهُ ثِنْتَانِ وَثَلَاثُونَ سَنَةً.
وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ عُفَيْرَةُ الْعَابِدَةُ، كَانَتْ طَوِيلَةَ الْحُزْنِ كَثِيرَةَ الْبُكَاءِ، قَدِمَ قَرِيبٌ لَهَا مِنْ سَفَرٍ، فَجَعَلَتْ تَبْكِي، فَقِيلَ لَهَا: لَيْسَ هَذَا وَقْتَ بُكَاءٍ! فَقَالَتْ: لَقَدْ ذَكَّرَنِي قُدُومُ هَذَا الْفَتَى يَوْمَ الْقُدُومِ عَلَى اللَّهِ، فَمِنْ مَسْرُورٍ وَمَثْبُورٍ.
وَفِيهَا مَاتَ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ شَيْخُ الشَّافِعِيِّ، كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَلَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ لِسُوءِ حِفْظِهِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونُ الرَّشِيدُ بِلَادَ الرُّومِ، فَافْتَتَحَ حِصْنًا يُقَالُ لَهُ: الصَّفْصَافُ. فَقَالَ فِي ذَلِكَ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ:
إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصْطَفَى قَدْ تَرَكَ الصَّفْصَافَ قَاعًا صَفْصَفًا
وَفِيهَا غَزَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ بِلَادَ الرُّومِ، فَبَلَغَ أَنْقَرَةَ وَافْتَتَحَ مَطْمُورَةَ.
وَفِيهَا تَغَلَّبَتِ الْمُحَمِّرَةُ عَلَى جُرْجَانَ.
وَفِيهَا أَمَرَ الرَّشِيدُ أَنْ يُكْتَبَ فِي صُدُورِ الرَّسَائِلِ الصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الرَّشِيدُ وَتَعَجَّلَ فِي النَّفْرِ، وَسَأَلَهُ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ أَنْ يُعْفِيَهُ مِنَ الْوِلَايَةِ، فَأَعْفَاهُ وَأَقَامَ يَحْيَى بِمَكَّةَ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ أَحَدُ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ الْعَبَّاسِيَّةِ، وَحَمْزَةُ بْنُ مَالِكٍ، وَلِيَ إِمْرَةَ خُرَاسَانَ فِي أَيَّامِ الرَّشِيدِ.

وَخَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ شَيْخُ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَرْوَزِيُّ، كَانَ أَبُوهُ تُرْكِيًّا مَوْلًى لِرَجُلٍ مِنَ التُّجَّارِ مِنْ بَنِي حَنْظَلَةَ مِنْ أَهْلِ هَمَذَانَ، فَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ إِذَا قَدِمَهَا أَحْسَنَ إِلَى وَلَدِ مَوْلَاهُمْ، وَكَانَتْ أُمُّهُ خَوَارِزْمِيَّةً، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَسَمِعَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ، وَالْأَعْمَشَ، وَهِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ، وَحُمَيْدًا الطَّوِيلَ، وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ. وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلَائِقُ مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالْحِفْظِ وَالْفِقْهِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالزُّهْدِ وَالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ، وَلَهُ التَّصَانِيفُ الْحِسَانُ، وَالشِّعْرُ الْمُتَضَمِّنُ حِكَمًا جَمَّةً، وَكَانَ كَثِيرَ الْغَزْوِ وَالْحَجِّ، وَكَانَ لَهُ رَأْسُ مَالٍ نَحْوُ أَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ يَدُورُ يَتَّجِرُ بِهِ فِي الْبُلْدَانِ، فَحَيْثُ اجْتَمَعَ بِعَالِمِ بَلْدَةٍ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَرْبُو كَسْبُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ، يُنْفِقُهَا كُلَّهَا فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، وَرُبَّمَا أَنْفَقَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: نَظَرْتُ فِي أَمْرِهِ وَأَمْرِ الصَّحَابَةِ، فَمَا رَأَيْتُهُمْ يَفْضُلُونَ عَلَيْهِ إِلَّا بِصُحْبَتِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ: مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِثْلُهُ، وَمَا أَعْلَمُ خَصْلَةً مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَلِقَدْ حَدَّثَنِي أَصْحَابِي أَنَّهُمْ صَحِبُوهُ مِنْ

مِصْرَ إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ يُطْعِمُهُمُ الْخَبِيصَ، وَهُوَ الدَّهْرَ صَائِمٌ.
وَقَدِمَ مَرَّةً إِلَى الرَّقَّةِ، وَبِهَا هَارُونُ الرَّشِيدُ، فَلَمَّا دَخَلَهَا انْجَفَلَ النَّاسُ يُهْرَعُونَ إِلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَازْدَحَمَ النَّاسُ حَوْلَهُ، فَأَشْرَفَتْ أُمُّ وَلَدٍ لِلرَّشِيدِ مِنْ قَصْرٍ هُنَاكَ فَقَالَتْ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَقِيلَ لَهَا: قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ عُلَمَاءِ خُرَاسَانَ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ. فَانْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ. فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: هَذَا هُوَ الْمُلْكُ، لَا مُلْكَ هَارُونَ الرَّشِيدِ الذى يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَيْهِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا وَالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ.
وَخَرَجَ مَرَّةً إِلَى الْحَجِّ، فَاجْتَازَ بِبَعْضِ الْبِلَادِ، فَمَاتَ طَائِرٌ مَعَهُمْ، فَأَمَرَ بِإِلْقَائِهِ عَلَى مَزْبَلَةٍ، وَسَارَ أَصْحَابُهُ أَمَامَهُ وَتَخَلَّفَ هُوَ وَرَاءَهُمْ، فَلَمَّا مَرَّ بِالْمَزْبَلَةِ إِذَا جَارِيَةٌ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ دَارٍ قَرِيبَةٍ مِنْهَا، فَأَخَذَتْ ذَلِكَ الطَّائِرَ الْمَيِّتَ، فَكَشَفَ عَنْ أَمْرِهَا وَفَحَصَ، حَتَّى سَأَلَهَا، فَقَالَتْ: أَنَا وَأُخْتِي هَاهُنَا، لَيْسَ لَنَا شَيْءٌ إِلَّا هَذَا الْإِزَارَ، وَقَدْ حَلَّتْ لَنَا الْمَيْتَةُ، وَكَانَ أَبُونَا لَهُ مَالٌ= عَظِيمٌ، فَظُلِمَ وَأُخِذَ مَالُهُ وَقُتِلَ. فَأَمَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ بِرَدِّ الْأَحْمَالِ، وَقَالَ لِوَكِيلِهِ: كَمْ مَعَكَ مِنَ النَّفَقَةِ؟ فَقَالَ: أَلْفُ دِينَارٍ. فَقَالَ: عُدَّ مِنْهَا عِشْرِينَ دِينَارًا تَكْفِينَا إِلَىمَرْوَ، وَأَعْطِهَا الْبَاقِيَ، فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ حَجِّنَا فِي هَذَا الْعَامِ. ثُمَّ رَجَعَ.
وَكَانَ إِذَا عَزَمَ عَلَى الْحَجِّ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ عَزَمَ مِنْكُمْ عَلَى

الْحَجِّ؟ فَيَأْخُذُ مِنْهُمْ نَفَقَاتِهِمْ، وَيَكْتُبُ عَلَى كُلِّ صُرَّةٍ اسْمَ صَاحِبِهَا وَيَجْمَعُهَا فِي صُنْدُوقٍ، ثُمَّ يَخْرُجُ بِهِمْ فِي أَوْسَعِ مَا يَكُونُ مِنَ النَّفَقَاتِ وَالرُّكُوبِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَالتَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا قَضَوْا حَجَّتَهُمْ يَقُولُ لَهُمْ: هَلْ أَوْصَاكُمْ أَهْلُوكُمْ بِهَدِيَّةٍ؟ فَيَشْتَرِي لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا وَصَّاهُ أَهْلُهُ مِنَ الْهَدَايَا الْمَكِّيَّةِ وَالْيَمَنِيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَإِذَا جَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةَ اشْتَرَى لَهُمْ مِنْهَا الْهَدَايَا الْمَدَنِيَّةَ، فَإِذَا قَفَلُوا بَعَثَ مِنْ أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ إِلَى بُيُوتِهِمْ فَأُصْلِحَتْ وَبُيِّضَتْ أَبْوَابُهَا وَرُمِّمَ شَعَثُهَا، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى أَوْطَانِهِمْ عَمِلَ وَلِيمَةً بَعْدَ قُدُومِهِمْ وَدَعَاهُمْ فَأَكَلُوا وَكَسَاهُمْ، ثُمَّ دَعَا بِذَلِكَ الصُّنْدُوقِ فَفَتَحَهُ وَأَخْرَجَ مِنْهُ تِلْكَ الصُّرَرَ، ثُمَّ يُقْسِمُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ نَفَقَتَهُ الَّتِي عَلَيْهَا اسْمُهُ، فَيَأْخُذُونَهَا وَيَنْصَرِفُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ وَهُمْ شَاكِرُونَ نَاشِرُونَ لِوَاءَ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ.
وَكَانَتْ سُفْرَتُهُ تُحْمَلُ عَلَى بَعِيرٍ وَحْدَهَا، وَفِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَأْكُولِ مِنَ اللَّحْمِ وَالدَّجَاجِ وَالْحَلْوَى وَغَيْرِ ذَلِكَ، يُطْعِمُهُ وَهُوَ صَائِمٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ.
وَسَأَلَهُ مَرَّةً سَائِلٌ، فَأَعْطَاهُ دِرْهَمًا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّ هَؤُلَاءِ يَأْكُلُونَ فِي غَدَائِهِمُ الشِّوَاءَ وَالْفَالَوْذَجَ، وَقَدْ كَانَ يَكْفِيهِ قِطْعَةٌ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَأْكُلُ إِلَّا الْبَقْلَ وَالْخُبْزَ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ يَأْكُلُ الشِّوَاءَ وَالْفَالَوْذَجَ فَلَا بُدَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، يَا غُلَامُ: رُدَّهُ وَأَعْطِهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. وَفَضَائِلُهُ وَمَنَاقِبُهُ وَمَآثِرُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا.

قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَبُولِهِ وَجَلَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ وَعَدْلِهِ. تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ بِهَيْتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَمَضَانِهَا عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
وَمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ، وَلِيَ قَضَاءَ مِصْرَ مَرَّتَيْنِ، وَكَانَ دَيِّنًا ثِقَةً، سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُذْهِبَ عَنْهُ الْأَمَلَ، فَأَذْهَبَهُ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُهَنِّئُهُ عَيْشٌ وَلَا شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ فَرَدَّهُ، فَرَجَعَ إِلَى حَالِهِ.
وَيَعْقُوبُ التَّائِبُ الْعَابِدُ الْكُوفِيُّ، قَالَ عَلِيٌّ ابْنُ الْمُوَفَّقِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ: خَرَجْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَأَنَا أَظُنُّ أَنِّي قَدْ أَصْبَحْتُ، فَإِذَا عَلَيَّ لَيْلٌ، فَجَلَسْتُ إِلَى بَابٍ صَغِيرٍ، وَإِذَا شَابٌّ يَبْكِي وَهُوَ يَقُولُ: وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ مَا أَرَدْتُ بِمَعْصِيَتِكَ مُخَالَفَتَكَ، وَلَكِنْ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، وَغَلَبَتْنِي شِقْوَتِي، وَغَرَّنِي سِتْرُكَ الْمُرْخَى عَلَيَّ، فَالْآنَ مِنْ عَذَابِكَ مَنْ يَسْتَنْقِذُنِي؟ وَبِحَبْلِ مَنْ أَتَّصِلُ إِنْ قَطَعْتَ حَبْلَكَ عَنِّي؟ وَاسَوْأَتَاهُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ أَيَّامِي فِي مَعْصِيَةِ رَبِّي! يَا وَيْلِي كَمْ أَتُوبُ، وَكَمْ أَعُودُ! قَدْ حَانَ لِي أَنْ أَسْتَحْيِيَ مِنْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ مَنْصُورٌ: فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [ التَّحْرِيمِ: 6 ]. قَالَ: فَسَمِعْتُ صَوْتًا وَاضْطِرَابًا شَدِيدًا، فَذَهَبْتُ لِحَاجَتِي، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ رَجَعْتُ، فَلَمَّا مَرَرْتُ عَلَى ذَلِكَ الْبَابِ، فَإِذَا جِنَازَةٌ، فَسَأَلْتُ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ مِنْ سَمَاعِ هَذِهِ الْآيَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا أَخَذَ الرَّشِيدُ لِوَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَأْمُونِ الْبَيْعَةَ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ ابْنِ زُبَيْدَةَ الْأَمِينِ، وَذَلِكَ بِالرَّقَّةِ بَعْدَ مَرْجِعِهِ مِنَ الْحَجِّ، وَضَمَّ ابْنَهُ الْمَأْمُونَ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى الْبَرْمَكِيِّ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ إِلَى بَغْدَادَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الرَّشِيدِ خَدَمَةً لَهُ، وَوَلَّاهُ خُرَاسَانَ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا، وَسَمَّاهُ الْمَأْمُونَ.
وَفِيهَا رَجَعَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ الْبَرْمَكِيُّ مِنْ مُجَاوَرَتِهِ بِمَكَّةَ إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ، فَبَلَغَ مَدِينَةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ.
وَفِيهَا سَمَلَتِ الرُّومُ عَيْنَيْ مَلِكِهِمْ قُسْطَنْطِينَ بْنِ أَلْيُونَ، وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ أُمَّهُ رِينَى، وَتُلَقَّبُ أُغُسْطَةَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُوسَى بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ الْحِمْصِيُّ أَحَدُ الْمَشَاهِيرِ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّامِيِّينَ، وَفِيهِ كَلَامٌ.

وَمَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ الْمَشْكُورُ، كَانَ يَمْدَحُ الْخُلَفَاءَ وَالْبَرَامِكَةَ وَمَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ، وَكَانَ قَدْ تَحَصَّلَ لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَبْخَلِ النَّاسِ، لَا يَكَادُ يَأْكُلُ اللَّحْمَ مِنْ بُخْلِهِ، وَلَا يُشْعِلُ فِي بَيْتِهِ سِرَاجًا، وَلَا يَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ إِلَّا الْكِرْبَاسَ وَالْفَرْوَ الْغَلِيظَ، وَكَانَ رَفِيقُهُ سَلْمٌ الْخَاسِرُ إِذَا رَكِبَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ يَأْتِي عَلَى بِرْذَوْنٍ، وَبَدْلَةٍ سَنِيَّةٍ تُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ، وَالطِّيبُ يَنْفُحُ مِنْ ثِيَابِهِ، وَيَأْتِي مَرْوَانَ فِي شَرِّ حَالَةٍ وَأَسْوَئِهَا.
وَخَرَجَ يَوْمًا إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِهِ: إِنْ أَطْلَقَ لَكَ الْخَلِيفَةُ شَيْئًا فَاجْعَلْ لِي مِنْهُ شَيْئًا. فَقَالَ: إِنْ أَعْطَانِي مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَكِ دِرْهَمٌ. فَأَعْطَاهُ سِتِّينَ أَلْفًا، فَأَعْطَاهَا أَرْبَعَةَ دَوَانِيقَ. تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ.
وَالْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ حَبْتَةَ، وَهِيَ أُمُّهُ، وَأَبُوهُ بَحِيرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَسَعْدٌ هَذَا لَهُ صُحْبَةٌ، اسْتُصْغِرَ يَوْمَ

أُحُدٍ، وَأَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي هَذَا كَانَ أَكْبَرَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَعَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِيِنٍ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: تُوُفِّيَ أَبِي وَأَنَا صَغِيرٌ، فَأَسْلَمَتْنِي أُمِّي إِلَى قَصَّارٍ، فَكُنْتُ أَمُرُّ عَلَى حَلْقَةِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَأَجْلِسُ فِيهَا، فَكَانَتْ أُمِّي تَتْبَعُنِي، فَتَأْخُذُ بِيَدِي مِنَ الْحَلْقَةِ وَتَذْهَبُ بِي إِلَى الْقَصَّارِ، ثُمَّ كُنْتُ أُخَالِفُهَا فِي ذَلِكَ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ قَالَتْ أُمِّي لِأَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ هَذَا صَبِيٌّ يَتِيمٌ، لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا أُطْعِمُهُ مِنْ مِغْزَلِي، وَإِنَّكَ قَدْ أَفْسَدْتَهُ عَلَيَّ. فَقَالَ لَهَا: اسْكُتِي يَا رَعْنَاءُ، هَا هُوَ ذَا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ، وَسَيَأْكُلُ الْفَالَوْذَجَ بِدُهْنِ الْفُسْتُقِ. فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّكَ شَيْخٌ قَدْ خَرِفْتَ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: فَلَمَّا وَلِيتُ الْقَضَاءَ - وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ وَلَّاهُ الْقَضَاءَ الْهَادِي، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ لُقِّبَ بِقَاضِي الْقُضَاةِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: قَاضِي قُضَاةِ الدُّنْيَا. لِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَنِيبُ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ الَّتِي يَحْكُمُ فِيهَا الْخَلِيفَةُ - قَالَ أَبُو يُوسُفَ: فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ الرَّشِيدِ إِذْ أُتِيَ بِفَالَوْذَجَ وَكُنْتُ لَا أَعْرِفُهَا، فَقَالَ لِي: كُلْ مِنْ هَذَا; فَإِنَّهُ لَا يُصْنَعُ لَنَا كُلَّ وَقْتٍ. فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: هَذَا الْفَالَوْذَجُ. قَالَ: فَتَبَسَّمْتُ، فَقَالَ: مَا لَكَ تَتَبَسَّمُ؟ فَقُلْتُ: لَا شَيْءَ، أَبْقَى اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: لَتُخْبِرَنِّي: فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ مِنْ أَوَّلِهَا، فَقَالَ: إِنَّ الْعِلْمَ يَنْفَعُ وَيَرْفَعُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا حَنِيفَةَ، فَلِقَدْ كَانَ يَنْظُرُ بِعَيْنِ عَقْلِهِ مَا لَا يَرَاهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ.

وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِنَّهُ أَعْلَمُ أَصْحَابِهِ.
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: كَانَ أَبُو يُوسُفَ أَتْبَعَهُمْ لِلْحَدِيثِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: كَانَ صَدُوقًا. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: كَانَ ثِقَةً. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: كَانَ سَلِيمًا مِنَ التَّجَهُّمِ.
وَقَالَ بَشَّارٌ الْخَفَّافُ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ: مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. فَحَرَامُ كَلَامُهُ، وَفَرْضٌ مُبَايَنَتُهُ.
وَمِنْ كَلَامِهِ الَّذِي يَنْبَغِي كِتَابَتُهُ بِمَاءِ الذَّهَبِ قَوْلُهُ: مَنْ طَلَبَ الْمَالَ بِالْكِيمْيَاءِ أَفْلَسَ، وَمَنْ تَتَبَّعَ غَرَائِبَ الْحَدِيثِ كَذَبَ، وَمَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ.
وَلَمَّا تَنَاظَرَ هُوَ وَمَالِكٌ بِالْمَدِينَةِ بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ فِي مَسْأَلَةِ الصَّاعِ وَزَكَاةِ الْخَضْرَاوَاتِ احْتَجَّ مَالِكٌ بِمَا اسْتَدْعَى بِهِ مِنْ تِلْكَ الصِّيعَانِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ، وَبِأَنَّهُ لَمْ تَكُنِ الْخَضْرَاوَاتُ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ. فَقَالَ: لَوْ رَأَى صَاحِبِي مَا رَأَيْتُ لَرَجَعَ كَمَا رَجَعْتُ. وَهَذَا إِنْصَافٌ.
وَقَدْ كَانَ يَحْضُرُ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى طَبَقَاتِهِمْ، حَتَّى إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ كَانَ شَابًّا، وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ فِي أَثْنَاءِ النَّاسِ، فَيَتَنَاظَرُونَ وَيَتَبَاحَثُونَ فِيهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَحْكُمُ وَيُصَنِّفُ أَيْضًا.

وَقَالَ: وُلِّيتُ هَذَا الْحُكْمَ، وَأَرْجُو اللَّهَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ جَوْرٍ وَلَا مَيْلٍ إِلَى أَحَدٍ إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا; جَاءَنِي رَجُلٌ فَذَكَرَ أَنَّ لَهُ بُسْتَانًا، وَأَنَّهُ فِي يَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَدَخَلْتُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَعْلَمْتُهُ، فَقَالَ: الْبُسْتَانُ لِي، اشْتَرَاهُ لِي الْمَهْدِيُّ. فَقُلْتُ: إِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُحْضِرَهُ لِأَسْمَعَ دَعْوَاهُ. فَأَحْضَرَهُ فَادَّعَى بِالْبُسْتَانِ، فَقُلْتُ: مَا تَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: هُوَ بُسْتَانِي. فَقُلْتُ لِلرَّجُلِ: قَدْ سَمِعْتَ مَا أَجَابَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَحْلِفُ. فَقُلْتُ: أَتَحْلِفُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: لَا. فَقُلْتُ: سَأَعْرِضُ عَلَيْكَ الْيَمِينَ ثَلَاثًا، فَإِنْ حَلَفْتَ وَإِلَّا حَكَمْتُ عَلَيْكَ. فَعَرَضْتُهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَامْتَنَعَ، فَحَكَمْتُ بِالْبُسْتَانِ لِلْمُدَّعِي. قَالَ: فَكُنْتُ فِي أَثْنَاءِ الْخُصُومَةِ أَوَدُّ أَنْ نَنْفَصِلَ، وَلَمْ يُمْكِنِّي أَنْ أُجْلِسَ الرَّجُلَ مَعَ الْخَلِيفَةِ. وَبَعَثَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ فِي تَسْلِيمِ الْبُسْتَانِ إِلَى الرَّجُلِ.
وَرَوَى الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ أَبِي الْأَزْهَرِ، عَنْ حَمَّادِ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ - الْمَوْصِلِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ قَدْ نِمْتُ فِي الْفِرَاشِ، إِذَا رَسُولُ الْخَلِيفَةِ يَطْرُقُ الْبَابَ، فَخَرَجْتُ مُنْزَعِجًا فَقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُوكَ. فَذَهَبْتُ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ وَمَعَهُ عِيسَى بْنُ جَعْفَرٍ، فَقَالَ لِي الرَّشِيدُ: إِنَّ هَذَا قَدْ طَلَبْتُ مِنْهُ جَارِيَةً يَهَبُنِيهَا، فَلَمْ يَفْعَلْ، أَوْ يَبِيعُنِيهَا فَلَمْ يَفْعَلْ، وَإِنِّي أُشْهِدُكَ إِنْ لَمْ يُجِبْنِي إِلَى ذَلِكَ قَتَلْتُهُ. فَقُلْتُ لِعِيسَى: لِمَ لَمْ تَفْعَلْ؟ فَقَالَ: إِنِّي حَالِفٌ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَصَدَقَةِ مَالِي كُلِّهِ أَنْ لَا أَبِيعَهَا وَلَا أَهَبَهَا. فَقَالَ لِي الرَّشِيدُ: فَهَلْ لَهُ مِنْ مَخْلَصٍ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، يَبِيعُكُ نِصْفَهَا، وَيَهَبُكَ نِصْفَهَا. فَوَهَبَهُ النِّصْفَ، وَبَاعَهُ النِّصْفَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَقَبِلَ مِنْهُ ذَلِكَ،

وَأُحْضِرَتِ الْجَارِيَةُ، فَلَمَّا رَآهَا الرَّشِيدُ قَالَ: هَلْ لِي مِنْ سَبِيلٍ عَلَيْهَا اللَّيْلَةَ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا مَمْلُوكَةٌ، وَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِبْرَائِهَا، إِلَّا أَنْ تُعْتِقَهَا وَتَتَزَوَّجَهَا، فَإِنَّ الْحُرَّةَ لَا تُسْتَبْرَأُ. قَالَ: فَأَعْتَقَهَا وَزَوَّجْتُهَا مِنْهُ بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَمَرَ لِي بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَعِشْرِينَ تَخْتًا مِنْ ثِيَابٍ، وَأَرْسَلَتْ إِلَيَّ الْجَارِيَةُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ.
قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَجَاءَتْهُ هَدِيَّةٌ مِنْ ثِيَابٍ دَبِيقِيٍّ وَطِيبٍ وَتَمَاثِيلَ نِدٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَذَاكَرَنِي رَجُلٌ فِي إِسْنَادِ حَدِيثِ: " مَنْ أُهْدِيَتْ لَهُ هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ جُلُوسٌ فَهُمْ شُرَكَاؤُهُ ". فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنَّمَا ذَاكَ فِي الْأَقِطِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَلَمْ تَكُنِ الْهَدَايَا مَا تَرَوْنَ، يَا غُلَامُ، شِلْ إِلَى الْخَزَائِنِ.
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ: صَحِبْتُ أَبَا حَنِيفَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ انْصَبَّتْ عَلَيَّ الدُّنْيَا سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَا أَظُنُّ أَجَلِي إِلَّا قَدِ اقْتَرَبَ. فَمَا كَانَ شُهُورٌ حَتَّى مَاتَ.
وَقَدْ مَاتَ أَبُو يُوسُفَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ تِسْعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَقَدْ مَكَثَ فِي الْقَضَاءِ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ يُوسُفُ.

وَقَدْ كَانَ نَائِبَهُ عَلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَادَ. وَمَنْ زَعَمَ مِنَ الرُّوَاةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اجْتَمَعَ بِأَبِي يُوسُفَ كَمَا يَقُولُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلَوِيُّ الْكَذَّابُ فِي الرِّحْلَةِ الَّتِي سَاقَهَا الشَّافِعِيُّ، فَقَدْ أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا وَرَدَ بَغْدَادَ فِي أَوَّلِ قَدْمَةٍ قَدِمَهَا إِلَيْهَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ. وَإِنَّمَا اجْتَمَعَ بِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا شَنَآنٌ، كَمَا قَدْ يَذْكُرُهُ بَعْضُ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِهَذَا الشَّأْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ طَهْمَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ السُّلَمِيِّ، اسْتَوْزَرَهُ الْمَهْدِيُّ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ أَزِمَّةَ الْأُمُورِ، وَحَظِيَ عِنْدَهُ جِدًّا، ثُمَّ لَمَّا أَمَرَهُ بِقَتْلِ ذَلِكَ الْعَلَوِيِّ فَأَرْسَلَهُ، وَنَمَّتْ عَلَيْهِ الْجَارِيَةُ، وَتَحَقَّقَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، سَجَنَهُ فِي بِئْرٍ، وَبُنِيَتْ عَلَيْهِ قُبَّةٌ، وَنَبَتَ عَلَيْهِ شَعْرٌ كَمَا يَنْبُتُ شَعْرُ الْأَنْعَامِ، وَعَمِيَ، وَيُقَالُ: عَشِيَ بَصَرُهُ، وَمَكَثَ نَحْوًا مِنْ خَمْسَ عَشْرَ سَنَةً فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لَا يَرَى شَيْئًا، وَلَا يَسْمَعُ صَوْتًا إِلَّا حِينَ الصَّلَوَاتِ يُعْلَمُ بِهِ، وَيُدَلَّى إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ رَغِيفٌ وَكُوزُ مَاءٍ، حَتَّى انْقَضَتْ أَيَّامُ الْمَهْدِيِّ وَأَيَّامُ الْهَادِي وَصَدْرٌ مِنْ خِلَافَةِ الرَّشِيدِ، قَالَ يَعْقُوبُ: فَأَتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي فَقَالَ:
عَسَى الْكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتَ فِيهِ يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ فَيَأَمَنَ خَائِفٌ وَيُفَكُّ عَانٍ
وَيَأْتِي أَهْلَهُ النَّائِي الْغَرِيبُ

فَلَمَّا أَصْبَحْتُ نُودِيتُ فَظَنَنْتُ أَنِّي أُعْلَمُ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ، وَدُلِيَّ إِلَيَّ حَبْلٌ، وَقِيلَ لِي: ارْبُطْ هَذَا الْحَبْلَ فِي وَسَطِكِ. فَأَخْرَجُونِي، فَلَمَّا نَظَرْتُ إِلَى الضِّيَاءِ لَمْ أُبْصِرْ شَيْئًا، وَأُوقِفْتُ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ. فَظَنَنْتُهُ الْمَهْدِيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ، فَقَالَ: لَسْتُ بِهِ. قُلْتُ: فَالْهَادِي؟ فَقَالَ: لَسْتُ بِهِ. فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدَ. فَقَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمْ يَشْفَعْ فِيكَ عِنْدِي أَحَدٌ، وَلَكِنِّي الْبَارِحَةَ حَمَلْتُ جَارِيَةً لِي صَغِيرَةً عَلَى عُنُقِي، فَذَكَرْتُ حَمْلَكَ إِيَّايَ عَلَى عُنُقِكَ، فَرَحِمْتُ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الضِّيقِ، فَأَخْرَجْتُكَ. ثُمَّ أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ. فَغَارَ مِنْهُ يَحْيِي بْنُ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، وَخَشِيَ أَنْ يُعِيدَهُ إِلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا أَيَّامِ الْمَهْدِيِّ، وَفَهِمَ ذَلِكَ يَعْقُوبُ، فَاسْتَأْذَنَ الْخَلِيفَةَ فِي الذَّهَابِ إِلَى مَكَّةَ، فَأَذِنَ لَهُ، فَكَانَ بِهَا حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ أَبُو مُعَاوِيَةَ الْعَيْشِيُّ، كَانَ ثِقَةً عَالِمًا عَابِدًا وَرِعًا، تُوُفِّيَ أَبُوهُ وَكَانَ وَالِيَ الْبَصْرَةِ، وَتَرَكَ مِنَ الْمَالِ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا يَزِيدُ دِرْهَمًا وَاحِدًا، وَكَانَ يَعْمَلُ الْخُوصَ، وَيَأْكُلُ مِنْهُ. وَتُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ قَبْلَ ذَلِكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَتِ الْخَزَرُ عَلَى النَّاسِ مِنْ ثُلْمَةِ أَرْمِينِيَّةَ، فَعَاثُوا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ فَسَادًا، وَسَبَوْا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ نَحْوًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ، وَقَتَلُوا بَشَرًا كَثِيرًا، وَانْهَزَمَ نَائِبُ أَرْمِينِيَّةَ سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، فَأَرْسَلَ الرَّشِيدُ إِلَيْهِمْ خُزَيْمَةَ بْنَ خَازِمٍ وَيَزِيدَ بْنَ مَزْيَدٍ فِي جُيُوشٍ كَثِيفَةٍ، إِلَى تِلْكَ الْبِلَادِ فَأَصْلَحُوا مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْعَيْثِ وَالْفَسَادِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى الْهَادِي.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ عَلِيُّ بْنُ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالْخَوْفِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ صُبَيْحٍ أَبُو الْعَبَّاسِ، مَوْلَى بَنِي عِجْلٍ، الْمُذَكِّرُ. وَيُعْرَفُ بِابْنِ السَّمَّاكِ. رَوَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ وَالْأَعْمَشِ وَالثَّوْرِيِّ وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وَغَيْرِهِمْ.

وَدَخَلَ يَوْمًا عَلَى الرَّشِيدِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ لَكَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ مَوْقِفًا، فَانْظُرْ أَيْنَ مُنْصَرَفُكَ; إِلَى الْجَنَّةِ أَمْ إِلَى النَّارِ؟ فَبَكَى الرَّشِيدُ حَتَّى كَادَ يَمُوتُ.
وَمُوسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْهَاشِمِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ: الْكَاظِمُ. وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ وَالْمُرُوءَةِ، إِذَا بَلَغَهُ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ يُؤْذِيهِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالتُّحَفِ وَالذَّهَبِ، وُلِدَ لَهُ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ أَرْبَعُونَ نَسَمَةً. وَأَهْدَى لَهُ مَرَّةً عَبْدٌ عَصِيدَةً فَاشْتَرَاهُ وَاشْتَرَى الْمَزْرَعَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَأَعْتَقَهُ، وَوَهَبَهَا لَهُ.
وَقَدِ اسْتَدْعَاهُ الْمَهْدِيُّ إِلَى بَغْدَادَ فَحَبَسَهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي رَأَى الْمَهْدِيُّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [ مُحَمَّدٍ: 22 ]. فَاسْتَيْقَظَ مَذْعُورًا، وَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ مِنَ السِّجْنِ لَيْلًا، فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ، وَعَانَقَهُ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هَذَا مِنْ شَأْنِي. فَقَالَ: صَدَقْتَ. وَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَأَمَرَ بِهِ فَرُدَّ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ إِلَّا وَهُوَ عَلَى الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَزَلْ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى كَانَتْ خِلَافَةُ الرَّشِيدِ فَحَجَّ، فَلَمَّا دَخَلَ لِيُسَلِّمَ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ، فَقَالَ الرَّشِيدُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا ابْنِ عَمِّ. فَقَالَ مُوسَى: السَّلَامُ عَلَيْكَ

يَا أَبَهْ. فَقَالَ الرَّشِيدُ: هَذَا هُوَ الْفَخْرُ يَا أَبَا الْحَسَنِ. ثُمَّ لَمْ يَزَلْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ حَتَّى اسْتَدْعَاهُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ، وَسَجَنَهُ فَأَطَالَ سِجْنَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُوسَى رِسَالَةً يَقُولُ فِيهَا: أَمَّا بَعْدُ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ لَنْ يَنْقَضِيَ عَنِّي يَوْمٌ مِنَ الْبَلَاءِ إِلَّا انْقَضَى عَنْكَ يَوْمٌ مِنَ الرَّخَاءِ، حَتَّى يُفْضِيَ بِنَا ذَلِكَ إِلَى يَوْمٍ يَخْسَرُ فِيهِ الْمُبْطِلُونَ. تُوُفِّيَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِبَغْدَادَ، وَقَبْرُهُ هُنَاكَ مَشْهُورٌ.
هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرِ بْنِ أَبِي خَازِمٍ الْقَاسِمِ بْنِ دِينَارٍ، أَبُو مُعَاوِيَةَ السُّلَمِيُّ الْوَاسِطِيُّ، كَانَ أَبُوهُ طَبَّاخًا لِلْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَبِيعُ الصَّحْنَاةَ وَالْكَوَامِخَ، وَكَانَ يَمْنَعُ ابْنَهُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِيُسَاعِدَهُ عَلَى صِنَاعَتِهِ، فَيَأْبَى إِلَّا أَنْ يَسْمَعَ الْحَدِيثَ. فَاتَّفَقَ أَنَّ هُشَيْمًا مَرِضَ، فَجَاءَهُ أَبُو شَيْبَةَ قَاضِي وَاسِطَ لِيَعُودَهُ، وَمَعَهُ خَلْقٌ مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ بَشِيرٌ فَرِحَ بِذَلِكَ وَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، أَبَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ أَنْ جَاءَ الْقَاضِي إِلَى مَنْزِلِي؟! لَا أَمْنَعُكَ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مِنْ طَلَبِ الْحَدِيثِ.
كَانَ مِنْ سَادَاتِ الْعُلَمَاءِ، حَدَّثَ عَنْهُ; مَالِكٌ، وَشُعْبَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَخَلْقٌ سِوَاهُمْ، وَكَانَ مِنَ الصُّلَحَاءِ الْعُبَّادِ. مَكَثَ يُصَلِّي

الصُّبْحَ بِوُضُوءِ الْعَشَاءِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ عَشْرَ سِنِينَ.
يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، قَاضِي الْمَدَائِنِ كَانَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الثِّقَاتِ.
يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، أَحَدُ النُّحَاةِ النُّجَبَاءِ، وَقَدْ أَخَذَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَغَيْرِهِ، وَأَخَذَ عَنْهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ، وَقَدْ كَانَتْ لَهُ حَلْقَةٌ بِالْبَصْرَةِ يَنْتَابُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَالْفُصَحَاءُ مِنَ الْحَاضِرِينَ وَالْعَرَبِ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا رَجَعَ الرَّشِيدُ مِنَ الرَّقَّةِ إِلَى بَغْدَادَ، فَأَخَذَ النَّاسَ بِأَدَاءِ بَقَايَا الْخَرَاجِ الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَوَلَّى رَجُلًا يَضْرِبُ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ وَيَحْبِسُ، وَوَلَّى عَلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ، وَعَزَلَ وَقَطَعَ وَوَصَلَ.

وَخَرَجَ بِالْجَزِيرَةِ أَبُو عَمْرٍو الشَّارِي، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الرَّشِيدُ مَنْ قَتَلَهُ بِشَهْرَزُورَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ الْعَبَّاسِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدِ كَانَ زَاهِدًا عَابِدًا قَدْ تَنَسَّكَ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ، يَعْمَلُ فِي الطِّينِ، وَلَيْسَ يَمْلِكُ إِلَّا مَرًّا وَزِنْبِيلًا - أَيْ مِجْرَفَةً وَقُفَّةً - وَكَانَ أُجْرَتُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَعْمَلُ فِيهِ مِنَ الْجُمْعَةِ إِلَى الْجُمْعَةِ دِرْهَمًا وَدَانِقًا، وَكَانَ لَا يَعْمَلُ إِلَّا فِي يَوْمِ السَّبْتِ فَقَطْ، ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى الْعِبَادَةِ بَقِيَّةَ أَيَّامِ الْجُمْعَةِ، وَكَانَ مِنْ زُبَيْدَةَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنَ امْرَأَةٍ غَيْرِهَا كَانَ الرَّشِيدُ قَدْ أَحَبَّهَا فَتَزَوَّجَهَا سِرًّا، فَحَمَلَتْ مِنْهُ بِهَذَا الْغُلَامِ ثُمَّ أَحْدَرَهَا إِلَى الْبَصْرَةِ وَأَعْطَاهَا خَاتَمًا مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ، وَأَشْيَاءَ مَعَهَا

نَفِيسَةً، وَأَمَرَهَا إِذَا أَفْضَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ أَنْ تَأْتِيَهُ. فَلَمَّا صَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَيْهِ لَمْ تَأْتِهِ وَلَا وَلَدُهَا، وَبَلَغَهُ أَنَّهُمَا مَاتَا، وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَكَانَ هَذَا الشَّابُّ يَعْمَلُ بِيَدِهِ، وَيَأْكُلُ مِنْ كَدِّهَا، فَاتَّفَقَ مَرَضُهُ فِي دَارِ مَنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُهُ فِي الطِّينِ، فَمَرَّضَهُ عِنْدَهُ، فَلَمَّا احْتُضِرَ أَخْرَجَ الْخَاتَمَ، وَقَالَ لِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ: اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى الرَّشِيدِ، وَقُلْ لَهُ: صَاحِبُ هَذَا الْخَاتَمِ يَقُولُ لَكَ: إِيَّاكَ أَنْ تَمُوتَ فِي سَكْرَتِكَ هَذِهِ فَتَنْدَمَ فَلَمَّا مَاتَ وَدَفَنَهُ وَطَلَبَ الْحُضُورَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، فَقَالَ: مَا حَاجَتُكَ؟ قُلْتُ: هَذَا الْخَاتَمُ دَفَعَهُ إِلَيَّ رَجُلٌ، وَأَوْصَانِي أَنْ أَقُولَ لَكَ كَلَامًا. فَلَمَّا نَظَرَ عَرَفَهُ فَقَالَ: وَيْحَكَ! وَأَيْنَ صَاحِبُ الْخَاتَمِ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: مَاتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ يَقُولُ لَكَ: احْذَرْ أَنْ تَمُوتَ فِي سَكْرَتِكَ فَتَنْدَمَ. قَالَ: فَقَامَ الرَّشِيدُ فَضَرَبَ بِنَفْسِهِ الْبِسَاطَ وَجَعَلَ يَتَقَلَّبُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ وَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَقَدْ نَصَحْتَنِي يَا بُنَيَّ. ثُمَّ قَالَ: أَتَعْرِفُ قَبْرَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: إِذَا كَانَ الْعَشِيُّ فَأْتِنِي. فَأَتَيْتُهُ، فَذَهَبَ إِلَى قَبْرِهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي عِنْدَهُ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ أَمَرَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَكَتَبَ لَهُ وَلِعِيَالِهِ رِزْقًا.

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ، وَالِدُ بَكَّارٍ. أَلْزَمَهُ الْخَلِيفَةُ الرَّشِيدُ بِوِلَايَةِ الْمَدِينَةِ، فَقَبِلَهَا بِشُرُوطٍ عِدَّةٍ اشْتَرَطَهَا، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَضَافَ إِلَيْهِ نِيَابَةَ الْيَمَنِ، وَكَانَ مِنْ أَعْدَلِ الْوُلَاةِ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ تُوُفِّيَ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ سَنَةً.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعُمَرِيُّ أَدْرَكَ أَبَا طُوَالَةَ، وَرَوَى عَنْ أَبِيهِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا، وَعَظَ الرَّشِيدَ يَوْمًا فَأَطْنَبَ وَأَطْيَبَ; قَالَ لَهُ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الصَّفَا: انْظُرْ كَمْ حَوْلَهَا مِنَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: بَشَرٌ كَثِيرٌ. فَقَالَ: كُلٌّ مِنْهُ يُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَأَنْتَ تُسْأَلُ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ. فَبَكَى الرَّشِيدُ بُكَاءً كَثِيرًا، وَجَعَلُوا يَأْتُونَهُ بِمَنْدِيلٍ بَعْدَ مَنْدِيلٍ لِلدُّمُوعِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا هَارُونُ، إِنَّ الرَّجُلَ لِيُسْرِعُ فِي مَالِهِ فَيَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يُسْرِعُ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ؟! ثُمَّ تَرَكَهُ وَانْصَرَفَوَالرَّشِيدُ يَبْكِي. وَلَهُ مَعَهُ مَوَاقِفُ مَحْمُودَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. تُوُفِّيَ عَنْ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مَعْدَانَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبِهَانِيُّ، أَدْرَكَ التَّابِعِينَ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالتَّعَبُّدِ وَالزَّهَادَةِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ يُسَمِّيهِ عَرُوسَ الزُّهَّادِ.

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ: مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَكَانَ كَأَنَّهُ قَدْ عَايَنَ.
وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ. قَالُوا: وَكَانَ لَا يَشْتَرِي زَادَهُ مِنْ خَبَّازٍ وَاحِدٍ، وَلَا مِنْ بَقَّالٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَشْتَرِي إِلَّا مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهُ، يَقُولُ: أَخْشَى أَنْ يُحَابُونِي فَأَكُونَ مِمَّنْ يَعِيشُ بِدِينِهِ. وَكَانَ لَا يَضَعُ جَنْبَهُ لِلنَّوْمِ صَيْفًا وَلَا شِتَاءً. وَمَاتَ وَلَمْ يُجَاوِزِ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا قَتَلَ أَهْلُ طَبَرِسْتَانَ مُتَوَلِّيَهُمْ مَهْرَوَيْهِ الرَّازِيَّ، فَوَلَّى الرَّشِيدُ عَلَيْهِمْ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعِيدٍ الْحَرِشِيَّ.
وَفِيهَا قَتَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَبْنَاوِيُّ أَبَانَ بْنَ قَحْطَبَةَ الْخَارِجِيَّ بِمَرَجِ الْقَلْعَةِ.
وَفِيهَا عَاثَ حَمْزَةُ الشَّارِي بِبَاذَغِيسَ مِنْ خُرَاسَانَ، فَنَهَضَ عِيسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى إِلَى عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ جَيْشِ حَمْزَةَ، فَقَتَلَهُمْ، وَسَارَ وَرَاءَ جَيْشِ حَمْزَةَ إِلَى كَابُلَ وَزَابُلِسْتَانَ.
وَفِيهَا خَرَجَ أَبُو الْخَصِيبِ فَتَغَلَّبَ عَلَى أَبِيوَرْدَ وَطُوسَ وَنَيْسَابُورَ، وَحَاصَرَ مَرْوَ وَقَوِيَ أَمْرُهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَزِيدُ بْنُ مَزْيَدٍ بِبَرْذَعَةَ، فَوَلَّى الرَّشِيدُ مَكَانَهُ ابْنَهُ أَسَدَ بْنَ يَزِيدَ. وَاسْتَأْذَنَ الْوَزِيرُ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ الْخَلِيفَةَ فِي أَنْ يَعْتَمِرَ فِي رَمَضَانَ، فَأَذِنَ لَهُ، فَاعْتَمَرَ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ رَابَطَ بِجُدَّةَ إِلَى وَقْتِ الْحَجِّ فَحَجَّ مَعَ النَّاسِ، وَكَانَ أَمِيرَ الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَنْصُورُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ.

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيُّ، عَمُّ السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ، وَكَانَ ضَخْمَ الْخَلْقِ جَدًّا وَلَمْ يُبَدِّلْ أَسْنَانَهُ، وَكَانَتْ أُصُولُهَا صَفِيحَةً وَاحِدَةً. وَقَدْ قَالَ يَوْمًالِلرَّشِيدِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا مَجْلِسٌ اجْتَمَعَ فِيهِ عَمُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَمُّ عَمِّهِ، وَعَمُّ عَمِّ عَمِّهِ. وَذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي جَعْفَرٍ عَمُّ الرَّشِيدِ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَمُّ سُلَيْمَانَ، وَعَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ عَلِيٍّ عَمُّ الْعَبَّاسِ، وَتَلْخِيصُ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ الصَّمَدِ عَمُّ عَمِّ عَمِّ الرَّشِيدِ، لِأَنَّهُ عَمُّ جَدِّهِ.
رَوَى عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الْبَرَّ وَالصِّلَةَ لَيُطِيلَانِ الْأَعْمَارَ، وَيُعَمِّرَانِ الدِّيَارَ، وَيُثْرِيَانِ الْأَمْوَالَ، وَلَوْ كَانَ الْقَوْمُ فُجَّارًا ". وَبِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ الْبَرَّ وَالصِّلَةَ لَيُخَفِّفَانِ سُوءَ الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ " [ الرَّعْدِ: 21 ]. وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، الْمَعْرُوفُ

بِالْإِمَامِ، كَانَ يَلِي إِمَارَةَ الْحَاجِّ وَإِقَامَةَ شَعَائِرِ الْحَجِّ فِي خِلَافَةِ الْمَنْصُورِ عِدَّةَ سِنِينَ. تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فَصَلَّى عَلَيْهِ الْأَمِينُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِالْعَبَّاسِيَّةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنْ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ ضِمَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَعُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَالْمُطَّلِبُ بْنُ زِيَادٍ، وَالْمُعَافَى بْنُ عُمْرَانَ فِي قَوْلٍ، وَيُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، إِمَامُ أَهْلِ الشَّامِ بَعْدَ الْأَوْزَاعِيِّ فِي الْمَغَازِي وَالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ.
رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ، هِيَ رَابِعَةُ بِنْتُ إِسْمَاعِيلَ الْعَدَوِيَّةُ مَوْلَاةُ آلِ عَتِيكٍ، الْبَصَرِيَّةُ الْعَابِدَةُ الْمَشْهُورَةُ. ذَكَرَهَا الْقُشَيْرِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي " الْحِلْيَةِ "،

وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " صِفَةِ الصَّفْوَةِ "، وَالشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ السُّهْرَوَرْدِيُّ فِي " الْمَعَارِفِ " وَأَثْنَى عَلَيْهَا أَكْثَرُ النَّاسِ، وَتَكَلَّمَ فِيهَا أَبُو دُوَادَ السِّجِسْتَانِيُّ، وَاتَّهَمَهَا بِالزَّنْدَقَةِ، فَلَعَلَّهُ بَلَغَهُ عَنْهَا أَمْرٌ. وَأَنْشَدَ لَهَا السُّهْرَوَرْدِيُّ فِي " الْمَعَارِفِ ":
إِنِّي جَعَلْتُكَ فِي الْفُؤَادِ مُحَدِّثِي وَأَبَحْتُ جِسْمِي مَنْ أَرَادَ جُلُوسِي فَالْجِسْمُ مِنِّى لِلْجَلِيسِ مُؤَانِسٌ
وَحَبِيبُ قَلْبِي فِي الْفُؤَادِ أَنِيسِي
وَقَدْ ذُكِرَ لَهَا أَحْوَالٌ وَأَعْمَالٌ صَالِحَةٌ، وَقِيَامُ لَيْلٍ وَصِيَامُ نَهَارٍ، وَرُؤِيَتْ لَهَا مَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ. فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَتُوُفِّيَتْ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَقَبْرُهَا شَرْقِيُّهُ بِالطُّورِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ مِنْ مَرْوَ لِحَرْبِ أَبِي الْخَصِيبِ إِلَى نَسَا، فَقَاتَلَهُ بِهَا، وَسَبَى نِسَاءَهُ وَذَرَارِيَّهُ، وَاسْتَقَامَتْ خُرَاسَانُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونُ الرَّشِيدُ، وَمَعَهُ ابْنَاهُ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ وَعَبْدُ اللَّهِ الْمَأْمُونُ، فَبَلَغَ جُمْلَةُ مَا أَعْطَى لِأَهْلِ الْحَرَمَيْنِ أَلْفَ أَلْفَ دِينَارٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُعْطِي، ثُمَّ يَذْهَبُ النَّاسُ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى وَلَدِهِ الْأَمِينِ فَيُعْطِي، ثُمَّ يَذْهَبُونَ إِلَى وَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَأْمُونِ فَيُعْطِي.
وَكَانَ إِلَى الْأَمِينِ وِلَايَةُ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَإِلَى الْمَأْمُونِ مِنْ هَمَذَانَ إِلَى بِلَادِ الْمَشْرِقِ. ثُمَّ بَايَعَ الرَّشِيدُ لِوَلَدِهِ الْقَاسِمِ مِنْ بَعْدِ أَخَوَيْهِ، وَلَقَّبَهُ الْمُؤْتَمَنَ، وَوَلَّاهُ الْجَزِيرَةَ وَالثُّغُورَ وَالْعَوَاصِمَ، وَكَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ ابْنَهُ الْقَاسِمَ هَذَا كَانَ فِي حِجْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ، فَلَمَّا بَايَعَ الرَّشِيدُ لِوَلَدَيْهِ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ كَتَبَ إِلَيْهِ:
يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ الَّذِي لَوْ كَانَ نَجْمًا كَانَ سَعْدَا اعْقِدْ لِقَاسِمِ بَيْعَةً
وَاقْدَحْ لَهُ فِي الْمُلْكِ زَنْدَا اللَّهُ فَرْدٌ وَاحِدٌ
فَاجَعَلْ وُلَاةَ الْعَهْدِ فَرْدَا

فَفَعَلَ الرَّشِيدُ ذَلِكَ، وَقَدْ حَمِدَهُ قَوْمٌ عَلَى ذَلِكَ، وَذَمَّهُ آخَرُونَ، وَلَمْ يَنْتَظِمْ لِلْقَاسِمِ هَذَا أَمْرٌ، بَلِ اخْتَرَمَتْهُ الْأَقْدَارُ عَنْ بُلُوغِ الْأَوْطَارِ.
وَلَمَّا قَضَى الرَّشِيدُ حَجَّهُ وَمَنَاسِكَهُ أَحْضَرَ مِنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ، وَأَحْضَرَ وَلِيِّيَ الْعَهْدِ; مُحَمَّدًا الْأَمِينَ وَعَبْدَ اللَّهِ الْمَأْمُونَ، وَأَشْهَدَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ لِأَخِيهِ، وَأَلَّا يُنَازِعَهُ مَا وَلَّاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَتَبَ بِمَضْمُونِ ذَلِكَ صَحِيفَةً، وَكَتَبَ فِيهَا الْأُمَرَاءُ وَالْوُزَرَاءُ خُطُوطَهُمْ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهَا بِذَلِكَ، وَأَرَادَ الرَّشِيدُ أَنْ يُعَلِّقَهَا فِي الْكَعْبَةِ فَسَقَطَتْ، فَقِيلَ: هَذَا الْأَمْرُ سَرِيعٌ انْتِقَاضُهُ. وَكَذَا وَقَعَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلِيُّ فِي عَقْدِ هَذِهِ الْبَيْعَةِ فِي الْكَعْبَةِ:
خَيْرُ الْأُمُورِ مَغَبَّةً وَأَحَقُّ أَمْرٍ بِالتَّمَامِ
أَمْرٌ قَضَى أَحْكَامَهُ الرَّ حْمَنُ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ
وَقَدْ أَطَالَ الْقَوْلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَبُو جَعْفَرٍ ابْنُ جَرِيرٍ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " الْمُنْتَظَمِ " أَيْضًا.

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَصْبَغُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَبُو زَبَّانَ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا.
وَحَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَاضِي كَرْمَانَ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ.

سَلْمٌ الْخَاسِرُ الشَّاعِرُ، وَهُوَ سَلْمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَمَّادِ بْنِ عَطَاءٍ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: الْخَاسِرُ. لِأَنَّهُ بَاعَ مُصْحَفًا وَاشْتَرَى بِهِ دِيوَانَ شِعْرٍ لِامْرِئِ الْقَيْسٍ. وَقِيلَ لِلْأَعْشَى. وَقِيلَ: طُنْبُورًا: وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَنْفَقَ مِائَتَيْ أَلْفٍ فِي صِنَاعَةِ الْأَدَبِ. وَقَدْ كَانَ شَاعِرًا مُطَبِّقًا، لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْإِنْشَاءِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُوسَى الْهَادِي:
مُوسَى الْمَطَرْ غَيْثُ بَكَرْ ثُمَّ انْهَمَرْ
كَمِ اعْتَسَرْ ثُمَّ ايْتَسَرْ
وَكَمْ قَدَرْ ثُمَّ غَفَرْ
عَدْلُ السِّيَرْ بَاقِي الْأَثَرْ
خَيْرُ الْبَشَرْ فَرْعُ مُضَرْ
بَدْرٌ بَدَرْ لِمَنْ نَظَرْ
هُوَ الْوَزَرْ لِمَنْ حَضَرْ
وَالْمُفْتَخَرْ لِمَنْ غَبَرْ
وَالْمُجْتَبَرْ لِمَنْ عَثَرْ
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّهُ كَانَ عَلَى طَرِيقَةٍ غَيْرِ مَرْضِيَّةٍ مِنَ الْمُجُونِ وَالْفِسْقِ، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ تَلَامِيذِ بَشَّارِ بْنِ بُرْدٍ، وَأَنَّ نَظْمَهُ أَحْسَنُ مِنْ نَظْمِ بِشَّارٍ، فَمِمَّا غَلَبَ

فِيهِ بَشَّارًا قَوْلُ بَشَّارٍ:
مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ لَمْ يَظْفَرْ بِحَاجَتِهِ وَفَازَ بِالطَّيِّبَاتِ الْفَاتِكُ اللَّهِجْ
فَقَالَ سَلْمٌ:
مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ مَاتَ غَمًّا وَفَازَ بِاللَّذَّةِ الْجَسُورُ
فَغَضِبَ بَشَّارٌ وَقَالَ: أَخَذَ مَعَانِيَّ فَكَسَاهَا أَلْفَاظًا أَخَفَّ مِنْ أَلْفَاظِي.
وَقَدْ حَصَلَ لَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَالْبَرَامِكَةِ نَحْوٌ مَنْ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَمَّا مَاتَ تَرَكَ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فَأَوْدَعَهَا عِنْدَ أَبِي السَّمْرَاءِ الْغَسَّانِيِّ، فَغَنَّى إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلِيُّ الرَّشِيدَ يَوْمًا فَأَطْرَبَهُ، فَقَالَ لَهُ: سَلْ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَسْأَلُكُ شَيْئًا لَا أَرْزُؤُكَ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ فَذَكَرَ لَهُ وَدِيعَةَ سَلْمٍ الْخَاسِرِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا، فَأَمَرَ لَهُ بِهَا. وَيُقَالُ: إِنَّهَا كَانَتْ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ.
الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ، عَمُّ الرَّشِيدِ، كَانَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ، وَلِيَ إِمَارَةَ الْجَزِيرَةِ فِي أَيَّامِ الرَّشِيدِ، وَقَدْ أَطْلَقَ لَهُ الرَّشِيدُ فِي يَوْمٍ خَمْسَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْعَبَّاسِيَّةُ، وَبِهَا دُفِنَ وَعُمْرُهُ خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْأَمِينُ.
يَقْطِينُ بْنُ مُوسَى، كَانَ أَحَدَ الدُّعَاةِ إِلَى دَوْلَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَكَانَ دَاهِيَةً ذَا رَأْيٍ، وَقَدِ احْتَالَ مَرَّةً حِيلَةً عَظِيمَةً وَذَلِكَ حِينَ حَبَسَ مَرْوَانُ الْحِمَارُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ

مُحَمَّدٍ بِحَرَّانَ، فَتَحَيَّرَتِ الشِّيعَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ فِيمَنْ يَكُونُ وَلِيَّ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، فَذَهَبَ يَقْطِينُ هَذَا إِلَى مَرْوَانَ، فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي صُورَةِ تَاجِرٍ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي قَدْ بِعْتُ بِضَاعَةً مِنْ رَجُلٍ وَلَمْ أَقْبِضْ ثَمَنَهَا مِنْهُ حَتَّى أَخَذَتْهُ رُسُلُكَ فَحَبَسُوهُ، فَإِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لِأُطَالِبَهُ بِمَالِي؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَيْهِ مَعَ غُلَامٍ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ، إِلَى مَنْ تَرَكْتَ بَعْدَكَ آخُذُ مَالِيَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: إِلَى ابْنِ الْحَارِثِيَّةِ. يَعْنِي أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ السَّفَّاحَ، فَرَجَعَ يَقْطِينُ إِلَى الدُّعَاةِ إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ، فَأَعْلَمَهُمْ بِمَا قَالَ، فَبَايَعُوا السَّفَّاحَ، وَكَانَ مَا قَدْ كَانَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ مَهْلِكُ الْبَرَامِكَةِ
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ الرَّشِيدِ جَعْفَرَ بْنَ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ الْبَرْمَكِيَّ، وَدَمَارُ دِيَارِهِمْ وَانْدِثَارُ آثَارِهِمْ، وَذَهَابُ صِغَارِهِمْ وَكِبَارِهِمْ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ ذَكَرَهَا أَبُو جَعْفَرٍ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ، فَمِمَّا قِيلَ: إِنَّ الرَّشِيدَ كَانَ قَدْ سَلَّمَ يَحْيَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ إِلَى جَعْفَرٍ الْبَرْمَكِيِّ فَسَجَنَهُ عِنْدَهُ، فَمَا زَالَ يَحْيَى يَتَرَقَّقُ لَهُ حَتَّى أَطْلَقَهُ جَعْفَرٌ، فَنَمَّ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ عَلَى جَعْفَرٍ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: وَيْلَكَ لَا تَدْخُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ جَعْفَرٍ فَلَعَلَّهُ أَطْلَقَهُ عَنْ أَمْرِي وَأَنَا لَا أَشْعُرُ. ثُمَّ سَأَلَ الرَّشِيدُ جَعْفَرًا عَنْ ذَلِكَ فَصَدَقَهُ الْحَالَ، فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ الرَّشِيدُ وَحَلَفَ لَيَقْتُلَنَّهُ وَكَرِهَ الْبَرَامِكَةَ وَمَقَتَهُمْ وَقَلَاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، بَعْدَ مَا كَانُوا أَحْظَى النَّاسِ عِنْدَهُ وَأَحَبَّهُمْ إِلَيْهِ.
وَكَانَتْ أُمُّ جَعْفَرٍ وَالْفَضْلِ أُمَّهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَحَصَلَ لَهُمْ مِنَ الرِّفْعَةِ فِي الدُّنْيَا وَكَثْرَةِ الْمَالِ بِسَبَبِ ذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ لَمْ يَحْصُلْ لِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْوُزَرَاءِ وَلَا لِمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَكَابِرِ وَالرُّؤَسَاءِ، بِحَيْثُ إِنَّ جَعْفَرًا بَنَى دَارًا غَرِمَ عَلَيْهَا عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا نَقَمَهُ عَلَيْهِ الرَّشِيدُ. وَيُقَالُ: إِنَّ الرَّشِيدَ

كَانَ لَا يَكَادُ يَمُرُّ بِبَلَدٍ وَلَا إِقْلِيمٍ فَيَسْأَلُ عَنْ قَرْيَةٍ أَوْ مَزْرَعَةٍ أَوْ بُسْتَانٍ إِلَّا قِيلَ: هَذَا لِجَعْفَرٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْبَرَامِكَةَ كَانُوا يُرِيدُونَ إِبْطَالَ خِلَافَةِ الرَّشِيدِ وَإِظْهَارَ الزَّنْدَقَةِ. وَقِيلَ: بِسَبَبِ الْعَبَّاسَةِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ ابْنُ جَرِيرٍ قَدْ ذَكَرَهُ.
رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الرَّشِيدَ سُئِلَ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أَهْلَكَ الْبَرَامِكَةَ فَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ قَمِيصِي يَعْلَمُ ذَلِكَ لَأَحْرَقْتُهُ. وَقَدْ كَانَ جَعْفَرٌ يَدْخُلُ عَلَى الرَّشِيدِ بِغَيْرِ إِذْنٍ حَتَّى كَانَ رُبَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْفِرَاشِ مَعَ حَظَايَاهُ، وَهَذِهِ وَجَاهَةٌ عَظِيمَةٌ وَمَنْزِلَةٌ عَالِيَةٌ، وَكَانَ مِنْ أَحْظَى الْعُشَرَاءِ عَلَى الشَّرَابِ - فَإِنَّ الرَّشِيدَ كَانَ يَسْتَعْمِلُ فِي أَوَاخِرِ مُلْكِهِ الْمُسْكِرَ، وَكَأَنَّهُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ - وَكَانَ أَحَبَّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ أُخْتُهُ الْعَبَّاسَةُ بِنْتُ الْمَهْدِيِّ، وَكَانَ يُحْضِرُهَا مَعَهُ، وَجَعْفَرٌ الْبَرْمَكِيُّ حَاضِرٌ أَيْضًا، فَزَوَّجَهُ بِهَا لِيَحِلَّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَأْهَا، فَكَانَ الرَّشِيدُ رُبَّمَا قَامَ وَتَرَكَهُمَا وَهُمَا ثَمِلَانِ مِنَ الشَّرَابِ، فَرُبَّمَا وَاقَعَهَا جَعْفَرٌ فَاتَّفَقَ حَمْلُهَا مِنْهُ فَوَلَدَتْ وَلَدًا، وَبَعْثَتْهُ مَعَ بَعْضِ جَوَارِيهَا إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ يُرَبَّى بِهَا.
وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " صِفَةً أُخْرَى فِي مَقْتَلِ جَعْفَرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا زَوَّجَ الرَّشِيدُ جَعْفَرًا مِنَ الْعَبَّاسَةِ أَحَبَّتْهُ حُبًّا شَدِيدًا، فَرَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ فَامْتَنَعَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ مِنْ خَشْيَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَاحْتَالَتْ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ

تُهْدِي إِلَيْهِ فِي كُلِّ لَيْلَةِ جُمْعَةٍ جَارِيَةً حَسْنَاءَ بِكْرًا فَقَالَتْ لِأُمِّهِ: أَدْخِلِينِي عَلَيْهِ فِي صِفَةِ جَارِيَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجَوَارِي فَهَابَتْ مِنْ تِلْكَ، فَتَهَدَّدَتْهَا حَتَّى فَعَلَتْ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ وَكَانَ لَا يَتَحَقَّقُ وَجْهَهَا مِنْ مَهَابَةِ الرَّشِيدِ، فَوَاقَعَهَا فَقَالَتْ لَهُ: كَيْفَ رَأَيْتَ خَدِيعَةَ بَنَاتِ الْمُلُوكِ. فَقَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْعَبَّاسَةُ. وَحَمَلَتْ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَدَخَلَ عَلَى أُمِّهِ فَقَالَ لَهَا. بِعْتِينِي وَاللَّهِ بِرَخِيصٍ. ثُمَّ إِنَّ وَالِدَهُ يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ جَعَلَ يُضَيِّقُ عَلَى عِيَالِ الرَّشِيدِ فِي النَّفَقَةِ، حَتَّى شَكَتْهُ إِلَى الرَّشِيدِ زُبَيْدَةُ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَفْشَتْ لَهُ سِرَّ الْعَبَّاسَةِ، فَاسْتَشَاطَ غَضَبًا، وَلَمَّا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ الْوَلَدَ قَدْ أَرْسَلَتْ بِهِ إِلَى مَكَّةَ حَجَّ عَامَهُ ذَلِكَ حَتَّى تَحَقَّقَ الْأَمْرَ. وَيُقَالُ: إِنَّ بَعْضَ الْجَوَارِي نَمَّتْ عَلَيْهَا إِلَى الرَّشِيدِ، وَأَخْبَرَتْهُ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ، وَأَنَّ الْوَلَدَ بِمَكَّةَ، وَعِنْدَهُ جَوَارٍ وَمَعَهُ أَمْوَالٌ وَحُلِيٌّ كَثِيرٌ، فَلَمْ يُصَدِّقْ حَتَّى حَجَّ فِي السَّنَةِ الْحَالِيَّةِ، فَكَشَفَ عَنِ الْحَالِ، فَإِذَا هُوَ كَمَا ذَكَرَتْ تِلْكَ الْجَارِيَةُ.
وَقَدْ حَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ الْوَزِيرُ، وَقَدِ اسْتَشْعَرَ الْغَضَبَ مِنَ الرَّشِيدِ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ يَدْعُو عِنْدَ الْكَعْبَةِ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ يُرْضِيكَ عَنِّي سَلْبُ مَالِيَ وَوَلَدِي وَأَهْلِي فَافْعَلْ ذَلِكَ بِي، وَأَبْقِ عَلَيَّ مِنْهُمُ الْفَضْلَ. ثُمَّ خَرَجَ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ رَجَعَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ وَالْفَضْلُ مَعَهُمْ، فَإِنِّي رَاضٍ بِرِضَاكَ عَنِّي وَلَا تَسْتَثْنِ مِنْهُمْ أَحَدًا.
فَلَمَّا قَفَلَ الرَّشِيدُ مِنَ الْحَجِّ صَارَ إِلَى الْحِيرَةِ، ثُمَّ رَكِبَ فِي السُّفُنِ إِلَى الْعُمْرِ مِنْ أَرْضِ الْأَنْبَارِ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ السَّبْتِ سَلْخَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ أَرْسَلَ مَسْرُورًا الْخَادِمَ، وَمَعَهُ حَمَّادُ بْنُ سَالِمٍ أَبُو عِصْمَةَ فِي جَمَاعَةٍ

مِنَ الْجُنْدِ فَأَطَافُوا بِجَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى لَيْلًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَسْرُورٌ الْخَادِمُ، وَعِنْدَهُ بُخْتَيَشُوعُ الْمُتَطَبِّبُ، وَأَبُو زَكَّارٍ الْأَعْمَى الْمُغَنِّي الْكَلْوَذَانِيُّ، وَهُوَ فِي أَمْرِهِ، وَأَبُو زَكَّارٍ يُغَنِّيهِ:
فَلَا تَبْعَدْ فَكُلُّ فَتًى سَيَأْتِي عَلَيْهِ الْمَوْتُ يَطْرُقُ أَوْ يُغَادِي
فَقَالَ الْخَادِمُ لَهُ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، هَذَا الْمَوْتُ قَدْ طُرَقَكَ، أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَامَ إِلَيْهِ، فَقَبَّلَ قَدَمَيْهِ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ، أَنْ يَدْخُلَ إِلَى أَهْلِهِ، فَيُوصِيَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَمَّا الدُّخُولُ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، فَأَوْصَى جَعْفَرٌ وَأَعْتَقَ جَمَاعَةً مِنْ مَمَالِيكِهِ، وَجَاءَتْ رُسُلُ الرَّشِيدِ تَسْتَحِثُّ الْخَادِمَ، فَأَخْرَجَهُ إِخْرَاجًا عَنِيفًا يَقُودُهُ، حَتَّى أَتَى الْمَنْزِلَ الَّذِي كَانَ فِيهِ الرَّشِيدُ فَحَبَسَهُ وَقَيَّدَهُ بِقَيْدِ حِمَارٍ، وَأَعْلَمَ الرَّشِيدَ بِمَا كَانَ فَعَلَ، فَأَمَرَهُ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَجَاءَ إِلَى جَعْفَرٍ فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِرَأْسِكَ، فَقَالَ: يَا أَبَا هَاشِمٍ، لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سَكْرَانُ، فَإِذَا صَحَا عَاتَبَكَ عَلَى ذَلِكَ، فَعَاوِدْهُ. فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَعَلَّكَ مَشْغُولٌ. فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا مَاصَّ بَظْرِ أُمِّهِ ! ائْتِنِي بِرَأْسِهِ. فَكَرَّرَ عَلَيْهِ جَعْفَرٌ الْمُعَاوَدَةَ، فَقَالَ لَهُ: بَرِئْتُ مِنَ الْمَهْدِيِّ لَئِنْ لَمْ تَأْتِنِي بِرَأْسِهِ لَأَبْعَثَنَّ مَنْ يَأْتِينِي بِرَأْسِكَ وَرَأْسِهِ. فَرَجَعَ إِلَى جَعْفَرٍ، فَحَزَّ رَأْسَهُ، وَجَاءَ بِهِ إِلَى الرَّشِيدِ، فَأَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَرْسَلَ الرَّشِيدُ مِنْ لَيْلَتِهِ الْبُرُدَ فِي الِاحْتِيَاطِ عَلَى الْبَرَامِكَةِ جَمِيعِهِمْ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ بِسَبِيلٍ فَأُخِذُوا كُلُّهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَحَبَسَ يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ فِي مَنْزِلِهِ، وَحَبَسَ الْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى فِي مَنْزِلٍ آخَرَ، وَأَخَذَ جَمِيعَ مَا كَانُوا يَمْلِكُونَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَالْمَوَالِي، وَالْحَشَمِ، وَالْخَدَمِ، وَاحْتِيطَ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ، وَبَعَثَ الرَّشِيدُ بِرَأْسِ جَعْفَرٍ وَجُثَّتِهِ، ثُمَّ قُطِعَتْ بِاثْنَيْنِ، فَنُصِبَ الرَّأْسُ عِنْدَ الْجِسْرِ الْأَعْلَى، وَشِقُّ الْجُثَّةِ عِنْدَ الْجِسْرِ الْأَسْفَلِ، وَشِقُّهَا الْآخَرُ عِنْدَ الْجِسْرِ الْآخَرِ، ثُمَّ أُحْرِقَتْ بَعْدَ

ذَلِكَ، وَنُودِيَ فِي بَغْدَادَ أَنْ لَا أَمَانَ لِلْبَرَامِكَةِ وَلَا لِمَنْ آوَاهُمْ، إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، فَإِنَّهُ اسْتَثْنَاهُ مِنْ بَيْنِ الْبَرَامِكَةِ لِنُصْحِهِ لِلْخَلِيفَةِ.
وَأَتَى الرَّشِيدُ بِأَنَسِ بْنِ أَبِي شَيْخٍ - وَكَانَ يُتَّهَمُ بِالزَّنْدَقَةِ، وَكَانَ مُصَاحِبًا لِجَعْفَرٍ الْبَرْمَكِيِّ - وَذَلِكَ لَيْلَةَ قُتِلَ جَعْفَرٌ، فَدَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ كَلَامٌ، فَأَخْرَجَ الرَّشِيدُ سَيْفًا مِنْ تَحْتِ فِرَاشِهِ، وَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ بِهِ، وَجَعَلَ يَتَمَثَّلُ بِبَيْتٍ قِيلَ فِي أَنَسٍ قَبْلَ ذَلِكَ:
تَلَمَّظَ السَّيْفُ مِنْ شَوْقٍ إِلَى أَنَسٍ فَالسَّيْفُ يَلْحَظُ وَالْأَقْدَارُ تَنْتَظِرُ
فَضُرِبَتْ عُنُقُ أَنَسٍ، فَسَبَقَ السَّيْفُ الدَّمَ، فَقَالَ الرَّشِيدُ: رَحِمَ اللَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُصْعَبٍ. فَقَالَ النَّاسُ: إِنَّ السَّيْفَ كَانَ سَيْفَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ. وَشُحِنَتِ السُّجُونُ بِالْبَرَامِكَةِ، وَاسْتُلِبَتْ أَمْوَالُهُمْ كُلُّهَا.
وَقَدْ كَانَ الرَّشِيدُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي قَتَلَ فِي آخِرِهِ جَعْفَرًا، هُوَ وَإِيَّاهُ رَاكِبَيْنِ فِي الصَّيْدِ، وَقَدْ خَلَا بِهِ دُونَ وُلَاةِ الْعُهُودِ، وَطَيَّبَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالْغَالِيَةِ بِيَدِهِ، وَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ وَوَدَّعَهُ الرَّشِيدُ، ضَمَّهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ اللَّيْلَةَ لَيْلَةُ خَلْوَتِي بِالنِّسَاءِ مَا فَارَقْتُكَ، فَاذْهَبْ إِلَى مَنْزِلِكَ وَاشْرَبْ وَاطْرَبْ لِتَكُونَ عَلَى مِثْلِ حَالِي. فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا أَشْتَهِي ذَلِكَ إِلَّا مَعَكَ. فَانْصَرَفَ عَنْهُ جَعْفَرٌ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ بَعْضُهُ حَتَّى أَوْقَعَ بِهِ مِنَ الْبَأْسِ وَالنَّكَالِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ السَّبْتِ آخَرَ لَيْلَةٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مُسْتَهَلُّ صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ. وَكَانَ عُمْرُ جَعْفَرٍ إِذْ ذَاكَ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
وَلَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ إِلَى أَبِيهِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ بِقَتْلِهِ قَالَ: قَتَلَ اللَّهُ ابْنَهُ. وَلَمَّا قِيلَ لَهُ:

قَدْ خُرِّبَتْ دَارُكَ. قَالَ: خَرَّبَ اللَّهُ دَوْرَهُ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا نَظَرَ إِلَى دَارِهِ وَقَدْ هُتِكَتْ سُتُورُهَا، وَاسْتُبِيحَتْ قُصُورُهَا، وَانْتُهِبَ مَا فِيهَا، قَالَ: هَكَذَا تَقُومُ السَّاعَةُ.
وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يُعَزِّيهِ فِيمَا وَقَعَ، فَكَتَبَ جَوَابَ التَّعْزِيَةِ: أَنَا بِقَضَاءِ اللَّهِ رَاضٍ، وَبِالْخِيَارِ عَالِمٌ، وَلَا يُؤَاخِذُ اللَّهُ الْعِبَادَ إِلَّا بِذُنُوبِهِمْ، وَمَا اللَّهُ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، وَمَا يَغْفِرُ اللَّهُ أَكْثَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ مِنَ الْمَرَاثِي فِي الْبَرَامِكَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الرَّقَاشِيِّ - وَيُذْكَرُ أَنَّهَا لِأَبِي نُوَاسٍ -:
أَلَانَ اسْتَرَحْنَا وَاسْتَرَاحَتْ رِكَابُنَا وَأَمْسَكَ مَنْ يُجْدِي وَمَنْ كَانَ يَجْتَدِي
فَقُلْ لِلْمَطَايَا قَدْ أَمِنْتِ مِنَ السُّرَى وَطَيِّ الْفَيَافِي فَدْفَدًا بَعْدَ فَدْفَدِ
وَقُلْ لِلْمَنَايَا قَدْ ظَفِرْتِ بِجَعْفَرٍ وَلَنْ تَظْفَرِي مِنْ بَعْدِهِ بَمُسَوَّدِ
وَقُلْ لِلْعَطَايَا بَعْدْ فَضْلٍ تَعَطَّلِي وَقُلْ لِلرَّزَايَا كُلَّ يَوْمٍ تَجَدَّدِي
وَدُونَكِ سَيْفًا بَرْمَكِيًّا مُهَنَّدًا أُصِيبَ بِسَيْفٍ هَاشِمِيٍّ مُهَنَّدِ
وَقَالَ الرَّقَاشِيُّ وَقَدْ نَظَرَ إِلَى جَعْفَرٍ وَهُوَ عَلَى جِذْعِهِ مَصْلُوبٌ:
أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا خَوْفُ وَاشٍ وَعَيْنٌ لِلْخَلِيفَةِ لَا تَنَامُ
لَطُفْنَا حَوْلِ جِذْعِكَ وَاسْتَلَمْنَا كَمَا لِلنَّاسِ بِالْحَجَرِ اسْتِلَامُ
فَمَا أَبْصَرْتُ قُبْلَكَ يَابْنَ يَحْيَى حُسَامًا فَلَّهُ السَّيْفُ الْحُسَامُ
عَلَى اللَّذَّاتِ وَالدُّنْيَا جَمِيعًا وَدَوْلَةِ آلِ بَرْمَكٍ السَّلَامُ

قَالَ: فَاسْتَدْعَى بِهِ الرَّشِيدُ وَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ! كَمْ كَانَ يُعْطِيكَ جَعْفَرٌ كُلَّ عَامٍ؟ قَالَ: أَلْفُ دِينَارٍ. فَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفَيْ دِينَارٍ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عَمِّهِ مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى وَقَفَتِ امْرَأَةٌ عَلَى حِمَارٍ فَارِهٍ، فَقَالَتْ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ: وَاللَّهِ لَئِنْ صِرْتَ الْيَوْمَ آيَةً فَلَقَدْ كُنْتَ فِي الْمَكَارِمِ غَايَةً. ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ:
وَلَمَّا رَأَيْتُ السَّيْفَ خَالَطَ جَعْفَرًا وَنَادَى مُنَادٍ لِلْخَلِيفَةِ فِي يَحْيَى
بَكَيْتُ عَلَى الدُّنْيَا وَأَيْقَنْتُ أَنَّمَا قُصَارَى الْفَتَى يَوْمًا مُفَارَقَةُ الدُّنْيَا
وَمَا هِيَ إِلَّا دَوْلَةٌ بَعْدَ دَوْلَةٍ تُخَوِّلُ ذَا نُعْمَى وَتُعْقِبُ ذَا بَلْوَى
إِذَا أَنْزَلَتْ هَذَا مَنَازِلَ رِفْعَةٍ مِنَ الْمُلْكِ حَطَّتْ ذَا إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى
قَالَ ثُمَّ حَرَّكَتْ حِمَارَهَا، فَذَهَبَتْ فَكَأَنَّهَا كَانَتْ رِيحًا لَا أَثَرَ لَهَا، وَلَا يُعْرَفُ أَيْنَ ذَهَبَتْ
وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " الْمُنْتَظَمِ " أَنَّ جَعْفَرًا كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا: فَنْفَنَةُ. مُغَنِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الدُّنْيَا نَظِيرٌ، كَانَ مُشْتَرَاهَا عَلَيْهِ بِمَنْ مَعَهَا مِنَ الْجَوَارِي مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَطَلَبَهَا مِنْهُ الرَّشِيدُ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَتَلَهُ الرَّشِيدُ اصْطَفَى تِلْكَ الْجَارِيَةَ، فَأَحْضَرَهَا لَيْلَةً فِي مَجْلِسِ شَرَابِهِ، وَعِنْدَهُ

جَمَاعَةٌ مِنْ جُلَسَائِهِ وَسُمَّارِهِ وَأَحْبَابِهِ، فَأَمَرَ مَنْ مَعَهَا أَنْ يُغَنِّينَ، فَانْدَفَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَغَنِّي، حَتَّى انْتَهَتِ النَّوْبَةُ إِلَى فَنْفَنَةَ، فَأَمَرَهَا بِالْغِنَاءِ، فَأَسْبَلَتْ دَمْعَهَا وَقَالَتْ: أَمَّا بَعْدَ السَّادَةِ فَلَا. فَغَضِبَ الرَّشِيدُ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَأَمَرَ بَعْضَ الْحَاضِرِينَ أَنْ يَأْخُذَهَا إِلَيْهِ فَقَدْ وَهَبَهَا لَهُ، ثُمَّ لَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ قَالَ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ: لَا تَطَأْهَا. فَفَهِمُوا أَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ كَسْرَهَا. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَحْضَرَهَا، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْهَا وَأَمَرَهَا بِالْغِنَاءِ، فَامْتَنَعَتْ وَأَرْسَلَتْ دُمُوعَهَا وَقَالَتْ: أَمَّا بَعْدَ السَّادَةِ فَلَا. فَغَضِبَ الرَّشِيدُ أَشَدَّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَقَالَ: النِّطْعُ وَالسَّيْفُ. وَجَاءَ السَّيَّافُ، فَوَقَفَ عَلَى رَأْسِهَا، وَقَالَ لَهُ: إِذَا أَمَرْتُكَ ثَلَاثًا وَعَقَدْتُ أَصَابِعِي ثَلَاثًا فَاضْرِبْ. ثُمَّ قَالَ لَهَا: غَنِّي. فَبَكَتْ وَقَالَتْ: أَمَّا بَعْدَ السَّادَةِ فَلَا. فَعَقَدَ أُصْبَعَهُ الْخِنْصَرَ، ثُمَّ أَمَرَهَا الثَّانِيَةَ فَامْتَنَعَتْ، فَعَقَدَ اثْنَتَيْنِ، فَارْتَعَدَ الْحَاضِرُونَ، وَأَشْفَقُوا غَايَةَ الْإِشْفَاقِ، وَأَقْبَلُوا عَلَيْهَا يَسْأَلُونَهَا أَنْ لَا تَقْتَلَ نَفْسَهَا، وَأَنْ تُجِيبَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا يُرِيدُ مِنْهَا. ثُمَّ أَمَرَهَا الثَّالِثَةَ، فَانْدَفَعَتْ تَغَنِّي:
لَمَّا رَأَيْتُ الدِّيَارَ قَدْ دَرَسَتْ أَيْقَنْتُ أَنَّ النَّعِيمَ لَمْ يَعُدْ
قَالَ: فَوَثَبَ إِلَيْهَا الرَّشِيدُ، وَأَخَذَ الْعُودَ مِنْ يَدِهَا، وَأَقْبَلَ يَضْرِبُ بِهِ وَجْهَهَا، وَرَأْسَهَا حَتَّى تَكَسَّرَ، وَأَقْبَلَتِ الدِّمَاءُ، وَتَطَايَرْنَا مِنْ حَوْلِهَا، وَحُمِلَتِ الْجَارِيَةُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَمَاتَتْ بَعْدَ ثَلَاثٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ الرَّشِيدَ كَانَ يَقُولُ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَغْرَانِي بِالْبَرَامِكَةِ، فَمَا وَجَدْتُ

بَعْدَهُمْ لَذَّةً وَلَا رَاحَةً وَلَا رَخَاءً، وَوَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنِّي شُوطِرْتُ نِصْفَ عُمْرِي وَمُلْكِي وَأَنِّي تَرَكْتُهُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ.
وَحَكَى ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّ جَعْفَرًا اشْتَرَى جَارِيَةً مِنْ رَجُلٍ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَالْتَفَتَتْ إِلَى بَائِعِهَا وَقَالَتْ لَهُ: اذْكُرِ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَنْ لَا تَأْكُلَ مِنْ ثَمَنِي شَيْئًا. فَبَكَى سَيِّدُهَا وَقَالَ: اشْهَدُوا أَنَّهَا حُرَّةٌ، وَأَنِّي قَدْ تَزَوَّجْتُهَا. فَقَالَ جَعْفَرٌ: اشْهَدُوا أَنَّ الثَّمَنَ لَهُ أَيْضًا.
قَالَ: وَكَتَبَ إِلَى نَائِبٍ لَهُ: أَمَّا بَعْدُ; فَقَدْ كَثُرَ شَاكُوكَ، وَقَلَّ شَاكِرُوكَ، فَإِمَّا أَنْ تَعْدِلَ وَإِمَّا أَنْ تَعْتَزِلَ.
وَمِنْ أَحْسَنِ مَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ التَّلَطُّفِ فِي إِزَالَةِ هَمِّ الرَّشِيدِ وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ مُنَجِّمٌ يَهُودِيٌّ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَمُوتُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَحَمَلَ الرَّشِيدُ هَمًّا عَظِيمًا، فَدَخَلَ جَعْفَرٌ فَسَأَلَ: مَا الْخَبَرُ؟ فَأُخْبِرَ بِقَوْلِ الْيَهُودِيِّ لِلْخَلِيفَةِ: أَنَّهُ سَيَمُوتُ مِنْ عَامِهِ هَذَا، فَاسْتَدْعَى جَعْفَرٌ الْيَهُودِيَّ، فَقَالَ لَهُ: كَمْ وَجَدْتَ بَقِيَ لَكَ مِنَ الْعُمْرِ؟ فَذَكَرَ مُدَّةً طَوِيلَةً، فَأَقْبَلَ عَلَى الرَّشِيدِ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْتُلْهُ حَتَّى تَعْلَمَ كَذِبَهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ مَوْتِكَ، كَمَا عَلِمْتَ كَذِبَهُ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْ عُمْرِهِ. فَأَمَرَ الرَّشِيدُ بِالْيَهُودِيِّ فَقُتِلَ، وَسُرِّيَ عَنِ الرَّشِيدِ هَمُّهُ الَّذِي كَانَ يَجِدُهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَبَعْدَ مَقْتَلِ الْبَرَامِكَةِ قَتَلَ الرَّشِيدُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ نَهِيكٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ

حَزِنَ عَلَى مَقْتَلِ الْبَرَامِكَةِ، وَلَاسِيَّمَا عَلَى جَعْفَرٍ، وَكَانَ يُكْثِرُ الْبُكَاءَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ حَيِّزِ الْبُكَاءِ إِلَى حَيِّزِ الِانْتِصَارِ لَهُمْ وَالْأَخْذِ بِثَأْرِهِمْ، وَكَانَ إِذَا شَرِبَ فِي مَنْزِلِهِ يَقُولُ لِجَارِيَتِهِ: ائْتِينِي بِسَيْفِي. فَيَسُلُّهُ ثُمَّ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ قَاتِلَهُ. فَأَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، فَخَشِيَ ابْنُهُ عُثْمَانُ أَنْ يَطَّلِعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَيُهْلِكُهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَرَأَى أَنَّ أَبَاهُ لَا يَنْزِعُ عَنْ هَذَا، فَذَهَبَ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ فَأَعْلَمَهُ، فَأَخْبَرَ الْفَضْلُ الْخَلِيفَةَ، فَاسْتَدْعَى بِهِ، فَاسْتَخْبَرَهُ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: مَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ؟ قَالَ: فَلَانٌ الْخَادِمُ. فَجَاءَ بِهِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ الرَّشِيدُ: لَا يَحِلُّ لِي قَتْلُ أَمِيرٍ كَبِيرٍ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ غُلَامٍ وَخَصِيٍّ، لَعَلَّهُمَا قَدْ تَوَاصَيَا عَلَى ذَلِكَ. فَأَحْضُرُهُ الرَّشِيدُ مَعَهُ عَلَى الشَّرَابِ، ثُمَّ خَلَا بِهِ فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ يَا إِبْرَاهِيمُ، إِنَّ عِنْدِي سِرًّا أُحِبُّ أَنْ أُطْلِعَكَ عَلَيْهِ، قَدْ أَقْلَقَنِي فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ إِنِّي نَدِمْتُ عَلَى قَتْلِ الْبَرَامِكَةِ وَوَدِدْتُ أَنِّي قَدْ خَرَجْتُ مِنْ نِصْفِ مُلْكِي وَنُقِصْتُ نِصْفَ عُمْرِي وَلَمْ أَكُنْ فَعَلْتُ بِهِمْ مَا فَعَلْتُ، فَإِنِّي لَمْ أَجِدْ بَعْدَهُمْ لَذَّةً وَلَا رَاحَةً، فَقَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَبِي الْفَضْلِ - يَعْنِي جَعْفَرًا، وَبَكَى - وَاللَّهِ يَا سَيِّدِي، لَقَدْ أَخْطَأْتَ فِي قَتْلِهِ. فَقَالَ لَهُ: قُمْ، لَعَنَكَ اللَّهُ. ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَسَلَّمَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَضِبَ الرَّشِيدُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ بِسَبَبِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْخِلَافَةَ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ بِسَبَبِهِ أَيْضًا عَلَى الْبَرَامِكَةِ الَّذِينَ هُمْ فِي الْحُبُوسِ، وَسَجَنَهُ، فَلَمْ يَزَلْ فِي السِّجْنِ حَتَّى تُوُفِّيَ الرَّشِيدُ فَأَخْرَجَهُ الْأَمِينُ، وَعَقَدَ لَهُ عَلَى نِيَابَةِ الشَّامِ.

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَارَتِ الْعَصَبِيَّةُ أَيْضًا بِالشَّامِ بَيْنَ الْمُضَرِيَّةِ وَالْيَمَانِيَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الرَّشِيدُ مُحَمَّدَ بْنَ مَنْصُورِ بْنِ زِيَادٍ فَأَصْلَحَ بَيْنِهِمْ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِالْمِصِّيصَةِ، فَانْهَدَمَ بَعْضُ سُورِهَا، وَنَضَبَ مَاؤُهُمْ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ.
وَفِيهَا بَعَثَ الرَّشِيدُ وَلَدَهُ الْقَاسِمَ عَلَى الصَّائِفَةِ، وَجَعَلَهُ قُرْبَانًا وَوَسِيلَةً، وَوَلَّاهُ الْعَوَاصِمَ، فَسَارَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَحَاصَرَهُمْ حَتَّى افْتَدَوْا مِنْهُ بِخَلْقٍ مِنَ الْأَسَارَى يُطْلِقُونَهُمْ وَيَرْجِعُ عَنْهُمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا نَقَضَتِ الرُّومُ الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي كَانَ عَقَدَهُ الرَّشِيدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِينَى مَلِكَةِ الرُّومِ الْمُلَقَّبَةِ أُغُسْطَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ الرُّومَ عَزَلُوهَا عَنْهُمْ، وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمُ النَّقْفُورَ، وَكَانَ شُجَاعًا، يُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ آلِ جَفْنَةَ، وَإِنَّهُ قَبْلَ الْمُلْكِ كَانَ يَلِي دِيوَانَ الْخَرَاجِ، وَمَلَّكُوا نَقْفُورَ هَذَا عَلَيْهِمْ، فَخَلَعُوا رِينَى وَسَمَلُوا عَيْنَيْهَا، فَكَتَبَ إِلَى الرَّشِيدِ: مِنْ نَقْفُورَ مَلِكِ الرُّومِ إِلَى هَارُونَ مَلِكِ الْعَرَبِ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْمَلِكَةَ الَّتِي كَانَتْ قَبِلُ أَقَامَتْكَ مُقَامِ الرُّخِّ، وَأَقَامَتْ نَفْسَهَا مُقَامِ الْبَيْدَقِ، فَحَمَلَتْ إِلَيْكَ مِنْ أَمْوَالِهَا مَا كُنْتَ حَقِيقًا بِحَمْلِ أَمْثَالِهِ إِلَيْهَا،

وَلَكِنَّ ذَلِكَ مِنْ ضَعْفِ النِّسَاءِ وَحُمْقِهِنَّ، فَإِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي هَذَا فَارْدُدْ مَا حَصَلَ لَكَ مِنْ أَمْوَالِهَا، وَافْتَدِ نَفْسَكَ، وَإِلَّا فَالسَّيْفُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ. فَلَمَّا قَرَأَ الرَّشِيدُ الْكِتَابَ اسْتَفَزَّهُ الْغَضَبُ، حَتَّى لَمْ يُمْكِنْ أَحَدًا أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ دُونَ أَنْ يُخَاطِبَهُ، وَتَفَرَّقَ جُلَسَاؤُهُ خَوْفًا مِنْهُ، وَاسْتَدْعَى بِدَوَاةٍ وَكَتَبَ عَلَى ظَهْرِ الْكِتَابِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ هَارُونَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نَقْفُورَ كَلْبِ الرُّومِ، قَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ يَا ابْنَ الْكَافِرَةِ، وَالْجَوَابُ مَا تَرَاهُ دُونَ مَا تَسْمَعُهُ، وَالسَّلَامُ. ثُمَّ شَخَصَ مِنْ يَوْمِهِ حَتَّى أَقَامَ بِبَابِ هَرْقَلَةَ، فَفَتَحَهَا وَاصْطَفَى ابْنَةَ مَلِكِهَا، وَغَنِمَ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَخَرَّبَ وَأَحْرَقَ، وَاصْطَلَمَ، فَطَلَبَ نَقْفُورُ مِنْهُ الْمُوَادَعَةَ عَلَى خَرَاجٍ يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَأَجَابَهُ الرَّشِيدُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَتِهِ وَصَارَ بِالرِّقَّةِ، نَقَضَ الْكَافِرُ الْعَهْدَ، وَخَانَ الْمِيثَاقَ، وَكَانَ الْبَرْدُ قَدِ اشْتَدَّ جِدًّا، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى إِخْبَارِ الرَّشِيدِ بِذَلِكَ; لِخَوْفِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَيْهِ، حَتَّى يَنْفَصِلَ الشِّتَاءُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ أَبُو الْفَضْلِ الْبَرْمَكِيُّ الْوَزِيرُ ابْنُ

الْوَزِيرِ، وَقَدْ وَلَّاهُ الرَّشِيدُ الشَّامَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الرَّشِيدَ بَعَثَهُ إِلَى دِمَشْقَ لَمَّا ثَارَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنِ الْعِشْرَيْنِ بَحُورَانَ بَيْنَ قَيْسٍ وَيَمَنٍ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا أَنْشَئُوهُ فِي الْإِسْلَامِ، كَانَ خَامِدًا فَأَثَارُوهُ فِي هَذَا الْأَوَانِ، فَلِمَا قَدِمَ جَعْفَرٌ بِجَيْشِهِ خَمَدَتِ الشُّرُورُ وَظَهَرَ السُّرُورُ، وَقِيلَتْ فِي ذَلِكَ أَشْعَارٌ حِسَانٌ قَدْ ذَكَرَهَا فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ " تَارِيخِهِ " فَمِنْهَا:
لَقَدْ أُوقِدَتْ فِي الشَّامِ نِيرَانُ فِتْنَةٍ فَهَذَا أَوَانُ الشَّامِ تُخْمَدُ نَارُهَا
إِذَا جَاشَ مَوْجُ الْبَحْرِ مِنْ آلِ بَرْمَكٍ عَلَيْهَا خَبَتْ شُهْبَانُهَا وَشِرَارُهَا
رَمَاهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِجَعْفَرٍ وَفِيهِ تَلَاقَى صَدْعُهَا وَانْجِبَارُهَا
رَمَاهَا بِمَيْمُونِ النَّقِيبَةِ مَاجِدٍ تَرَاضَى بِهِ قَحْطَانُهَا وَنِزَارُهَا
هُوَ الْمَلِكُ الْمَأْمُولُ لِلَّبِرِّ وَالتُّقَى وَصَوْلَاتُهُ لَا يُسْتَطَاعُ خِطَارُهَا
وَزِيرُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَسَيْفُهُ وَمُدْيَتُهُ وَالْحَرْبُ تَدْمَى شِفَارُهَا
وَمَنْ تُطْوَ أَسْرَارُ الْخَلِيفَةِ دُونَهُ فَعِنْدَكَ مَأْوَاهَا وَأَنْتَ قَرَارُهَا
إِذَا مَا ابْنُ يَحْيَى جَعْفَرٌ قَصَدَتْ لَهُ مُلِمَّاتُ خَطْبٍ لَمْ تَرُعْهُ كِبَارُهَا
لَقَدْ نَشَأَتْ بِالشَّامِ مِنْكَ غَمَامَةٌ يُؤْمَلُ جَدْوَاهَا وَيُخْشَى دَمَارُهَا
وَهِيَ قَصِيدَةٌ طَوِيلَةٌ، اقْتَصَرْنَا مِنْهَا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ، وَكَانَتْ لَهُ فَصَاحَةٌ وَبَلَاغَةٌ وَكَرَمٌ زَائِدٌ، كَانَ أَبُوهُ قَدْ ضَمَّهُ إِلَى الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ، فَتَفَقَّهُ عَلَيْهِ،

وَصَارَ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِالرَّشِيدِ، وَقَدْ وَقَّعَ لَيْلَةً بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ زِيَادَةً عَلَى أَلْفِ تَوْقِيعٍ فَلَمْ يَخْرُجْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا عَنْ مُوجَبِ الْفِقْهِ.
وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْكَاتِبِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ هِشَامٍ الْكَاتِبِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ كَاتِبِ عُثْمَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ كَاتِبِ الْوَحْيِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَتَبْتَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَبَيِّنِ السِّينَ فِيهِ ". رَوَاهُ الْخَطِيبُ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْقَاسِمِ الْكَعْبِيِّ الْمُتَكَلِّمِ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْبَلْخِيُّ - وَقَدْ كَانَ كَاتِبًا لِمُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ - عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، عَنْ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ رُزَيْقٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ ذِى الرِّيَاسَتَيْنِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بِهِ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ الْجَاحِظُ: قَالَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى لِلرَّشِيدِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ لِي أَبِي يَحْيَى: إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكَ فَأَعْطِ ; فَإِنَّهَا لَا تَفْنَى، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْكَ فَأَعْطِ ; فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى. قَالَ جَعْفَرٌ: وَأَنْشَدَنَا أَبِي:
لَا تَبْخَلَنَّ لِدُنْيَا وَهْيَ مُقْبِلَةٌ فَلَيْسَ يَنْقُصُهَا التَّبْذِيرُ وَالسَّرَفُ
فَإِنْ تَوَلَّتْ فَأَحْرَى أَنْ تَجُودَ بِهَا فَالْحَمْدُ مِنْهَا إِذَا مَا أَدْبَرَتْ خَلَفُ

قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَقَدْ كَانَ جَعْفَرٌ مِنْ عُلُوِّ الْقَدْرِ وَنَفَاذِ الْأَمْرِ وَعِظَمِ الْمَحَلِّ وَجَلَالَةِ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ الرَّشِيدِ بِحَالَةٍ انْفَرَدَ بِهَا، وَلَمْ يُشَارَكْ فِيهَا، وَكَانَ سَمْحَ الْأَخْلَاقِ، طَلْقَ الْوَجْهِ، ظَاهِرَ الْبِشْرِ. فَأَمَّا جُودُهُ وَسَخَاؤُهُ وَبَذْلُهُ وَعَطَاؤُهُ فَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ وَأَبْيَنُ مِنْ أَنْ يَظْهَرَ، وَكَانَ أَيْضًا مِنْ ذَوِي الْفَصَاحَةِ الْمَذْكُورِينَ وَالْبَلَاغَةِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ مُهَذَّبٍ حَاجِبِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ، صَاحِبِ قَطِيعَةِ الْعَبَّاسِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ، أَنَّهُ أَصَابَتْهُ ضَائِقَةٌ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ الْمُطَالِبُونَ، وَعِنْدَهُ سَفَطٌ فِيهِ جَوْهَرٌ شِرَاؤُهُ عَلَيْهِ أَلْفُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَحَمَلَهُ إِلَى جَعْفَرٍ لِيَبِيعَهُ مِنْهُ، فَاشْتَرَاهُ بِثَمَنِهِ وَوَزَنَ لَهُ أَلْفَ أَلْفٍ، وَقَبَضَ مِنْهُ السَّفَطَ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ إِذَا السَّفَطُ قَدْ سَبَقَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَيْهِ لِيَشْكُرَهُ، فَوَجَدَهُ مَعَ أَخِيهِ الْفَضْلِ عَلَى بَابِ الرَّشِيدِ يَسْتَأْذِنَانِ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: إِنِّي قَدْ ذَكَرْتُ أَمْرَكَ لِلْفَضْلِ، وَقَدْ أَمَرَ لَكَ بِأَلْفِ أَلْفٍ، وَمَا أَظُنُّهَا إِلَّا قَدْ سَبَقَتْكَ إِلَى أَهْلِكَ، وَسَأُفَاوِضُ فِيكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا دَخَلَ ذَكَرَ أَمْرَهُ وَمَا لَحِقَهُ مِنَ الدُّيُونِ، فَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَكَانَ جَعْفَرٌ لَيْلَةً فِي سَمَرِهِ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَتِ الْخُنْفُسَاءُ، حَتَّى رَكِبَتْ ثِيَابَ الرَّجُلِ، فَأَلْقَاهَا عَنْهُ جَعْفَرٌ. وَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: إِنَّ مَنْ

قَصَدَتْهُ الْخُنْفُسَاءُ يُبَشَّرُ بِمَالٍ يُصِيبُهُ. فَأَمَرَ لَهُ جَعْفَرٌ بِأَلْفِ دِينَارٍ. ثُمَّ عَادَتِ الْخُنْفُسَاءُ، فَرَجَعَتْ إِلَى الرَّجُلِ، فَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ أُخْرَى.
وَحَجَّ مَرَّةً مَعَ الرَّشِيدِ، فَلَمَّا كَانُوا بِالْمَدِينَةِ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: انْظُرْ جَارِيَةً أَشْتَرِيهَا تَكُونُ فَائِقَةً فِي جَمَالِهَا وَغِنَائِهَا وَذَكَائِهَا. فَفَتَّشَ الرَّجُلُ فَوَجَدَ جَارِيَةً عَلَى النَّعْتِ، فَطَلَبَ سَيِّدُهَا فِيهَا مَالًا كَثِيرًا عَلَى أَنْ يَرَاهَا جَعْفَرٌ، فَذَهَبَ جَعْفَرٌ إِلَى مَنْزِلِ سَيِّدِهَا، فَلَمَّا رَآهَا أُعْجِبَ بِهَا، فَلَمَّا غَنَّتْهُ أَعْجَبَتْهُ أَكْثَرَ، فَسَاوَمَ صَاحِبَهَا فِيهَا، وَقَالَ: قَدْ أَحْضَرْنَا مَالًا فَإِنْ أَعْجَبَكَ وَإِلَّا زِدْنَاكَ. فَقَالَ لَهَا سَيِّدُهَا: إِنِّي كُنْتُ فِي نِعْمَةٍ، وَكُنْتِ عِنْدِي فِي غَايَةِ السُّرُورِ وَالسِّعَةِ، وَإِنَّهُ قَدِ انْقَبَضَ عَلَيَّ حَالِي، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَبِيعَكَ لِهَذَا الْمَلِكِ، لِتَكُونِي عِنْدَهُ كَمَا كُنْتِ عِنْدِي. فَقَالَتْ: يَا سَيِّدِي، وَاللَّهِ لَوْ مَلَكْتُ مِنْكَ مَا مَلَكْتَ مِنِّي لَمْ أَبِعْكَ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَأَيْنَ مَا كُنْتَ عَاهَدْتَنِي أَنْ لَا تَبِيعَنِي، وَلَا تَأْكُلَ ثَمَنِي؟! فَقَالَ سَيِّدُهَا لِجَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ: أُشْهِدُكُمْ أَنَّهَا حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنِّي قَدْ تَزَوَّجْتُهَا. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ نَهَضَ جَعْفَرٌ، وَقَامَ أَصْحَابُهُ، وَأَمَرُوا الْحَمَّالَ أَنْ يَحْمِلَ الدَّرَاهِمَ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: وَاللَّهِ لَا تَتْبَعُنِي. وَقَالَ لِلرَّجُلِ: قَدْ مَلَّكْتُكَهَا. فَأَنْفِقْهَا عَلَى أَهْلِكَ. وَذَهَبَ وَتَرَكَهُ.
هَذَا وَقَدْ كَانَ يُبَخَّلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَخِيهِ الْفَضْلِ، إِلَّا أَنَّ الْفَضْلَ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ مَالًا.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الدَّارَقُطْنِيِّ بِسَنَدِهِ أَنَّهُ لَمَّا أُصِيبَ جَعْفَرٌ وَجَدُوا لَهُ فِي جَرَّةٍ أَلْفَ دِينَارٍ، زِنَةُ كُلِّ دِينَارٍ مِائَةُ دِينَارٍ، مَكْتُوبٌ عَلَى صَفْحَةِ الدِّينَارِ

الْوَاحِدَةُ جَعْفَرٌ، وَالْأُخْرَى:
وَأَصْفَرَ مِنْ ضَرْبِ دَارِ الْمُلُوكِ يَلُوحُ عَلَى وَجْهِهِ جَعْفَرُ
يَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ وَاحِدًا مَتَى تُعْطِهِ مُعْسِرًا يُوسِرُ
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْمُعَلَّى الرَّاوِيَةُ: كَتَبَتْ عِنَانُ جَارِيَةُ النَّاطِفِيِّ إِلَى جَعْفَرٍ تَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ لِأَبِيهِ يَحْيَى أَنْ يُشِيرَ عَلَى الرَّشِيدِ بِشِرَائِهَا، وَكَتَبَتْ إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ مِنْ شَعْرِهَا فِي جَعْفَرٍ:
يَا لَائِمِي جَهْلًا أَلَا تُقْصِرُ مَنْ ذَا عَلَى حَرِّ الْهَوَى يَصْبِرُ
لَا تَلْحَنِي إِذَا شَرِبْتُ الْهَوَى صَرْفًا فَمَمْزُوجُ الْهَوَى سُكْرُ
أَحَاطَ بِيَ الْحُبُّ فَخَلْفِي لَهُ بَحْرٌ وَقُدَّامِي لَهُ أَبْحُرُ
تُخْفِقُ رَايَاتِ الْهَوَى بِالرَّدَى فَوْقِي وَحَوْلِي لِلْهَوَى عَسْكَرُ
سِيَّانَ عِنْدِي فِي الْهَوَى لَائِمٌ أَقَلَّ فِيهِ وَالَّذِي يَكْثُرُ
أَنْتَ الْمُصَفَّى مِنْ بَنِي بَرْمَكٍ يَا جَعْفَرَ الْخَيْرَاتِ يَا جَعْفَرُ
لَا يَبْلُغُ الْوَاصِفُ فِي وَصْفِهِ مَا فِيكَ مِنْ فَضْلٍ وَلَا يَعْشُرُ
مَنْ وَفَّرَ الْمَالَ بِأَعْرَاضِهِ فَجَعْفَرٌ أَعْرَاضُهُ أَوْفَرُ
دِيبَاجَةُ الْمُلْكِ عَلَى وَجْهِهِ وَفِي يَدَيْهِ الْعَارِضُ الْمُمْطِرُ
سَحَّتْ عَلَيْنَا مِنْهُمَا دِيمَةٌ يَنْهَلُّ مِنْهَا الذَّهَبُ الْأَحْمَرُ
لَوْ مَسَحَتْ كَفَّاهُ جُلْمُودَةً أَنْضَرَ فِيهَا الْوَرَقُ الْأَخْضَرُ
لَا يَسْتَتِمُّ الْمَجْدُ إِلَّا فَتًى يَصْبِرُ لِلْبَذْلِ كَمَا يَصْبِرُ

يَهْتَزُّ تَاجُ الْمُلْكِ مِنْ فَوْقِهِ فَخْرًا وَيُزْهِي تَحْتَهُ الْمِنْبَرُ
أَشْبَهَهُ الْبَدْرُ إِذَا مَا بَدَا أَوْ غُرَّةٌ فِي وَجْهِهِ تُزْهِرُ
وَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَبَدْرُ الدُّجْى فِي وَجْهِهِ أَمْ وَجْهُهُ أَنْوَرُ
يَسْتَمْطِرُ الزُّوَّارُ مِنْكَ النَّدَى وَأَنْتَ بِالزُّوَّارِ تَسْتَبْشِرُ
وَكَتَبَتْ تَحْتَ أَبْيَاتِهَا حَاجَتَهَا، فَرَكِبَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى أَبِيهِ، فَأَدْخَلَهُ عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِشِرَائِهَا، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَشْتَرِيهَا وَقَدْ قَالَ فِيهَا الشُّعَرَاءُ فَأَكْثَرُوا، وَاشْتَهَرَ أَمْرُهَا، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا أَبُو نُوَاسٍ:
إِنَّ عِنَانَ النِّطَافَ جَارِيَةٌ أَصْبَحَ حِرُّهَا لِلنَّيْكِ مَيْدَانَا
لَا يَشْتَرِيهَا إِلَّا ابْنُ زَانِيَةٍ أَوْ قَلْطَبَانٌ يَكُونُ مَنْ كَانَا
وَعَنْ ثُمَامَةَ بْنِ أَشْرَسَ قَالَ: بِتُّ لَيْلَةً مَعَ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، فَانْتَبَهَ مِنْ مَنَامِهِ يَبْكِي مَذْعُورًا، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ شَيْخًا جَاءَ فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيْ هَذَا الْبَابِ وَقَالَ:
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إِلَى الصَّفَا أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ
قَالَ فَأَجَبْتُهُ:

بَلَى نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا فَأَبَادَنَا صُرُوفُ اللَّيَالِي وَالْجُدُودُ الْعَوَاثِرُ
قَالَ ثُمَامَةُ بْنُ أَشْرَسَ: فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الْمُقْبِلَةُ قَتَلَهُ الرَّشِيدُ، وَنَصَبَ رَأَّسَهُ عَلَى الْجِسْرِ، ثُمَّ خَرَجَ الرَّشِيدُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَتَأَمَّلَهُ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
تَقَاضَاكَ دَهْرُكَ مَا أَسْلَفَا وَكَدَّرَ عَيْشَكَ بَعْدَ الصَّفَا
فَلَا تَعْجَبَنَّ فَإِنَّ الزَّمَانَ رَهِينٌ بِتَفْرِيقِ مَا أَلَّفَا
قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى جَعْفَرٍ، وَقُلْتُ: أَمَا لَئِنْ أَصْبَحْتَ آيَةً، فَلَقَدْ كُنْتُ فِي الْخَيْرِ غَايَةً. قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيَّ الرَّشِيدُ كَأَنَّهُ جَمَلٌ صَئُولٌ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
مَا يُعْجِبُ الْعَالَمَ مِنْ جَعْفَرٍ مَا عَايَنُوهُ فَبِنَا كَانَا
مَنْ جَعْفَرٌ أَوْ مَنْ أَبُوهُ وَمَنْ كَانَتْ بَنُو بَرْمَكٍ لَوْلَانَا
ثُمَّ حَوَّلَ وَجْهَ فَرَسِهِ وَانْصَرَفَ.
وَقَدْ كَانَ مَقْتَلُ جَعْفَرٍ فِي لَيْلَةِ السَّبْتِ مُسْتَهَلَّ صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ عُمْرُهُ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَ لَهُمْ فِي الْوِزَارَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَقَدْ دَخَلَتْ عُبَادَةُ أُمُّ جَعْفَرٍ عَلَى أُنَاسٍ فِي يَوْمِ عِيدِ أَضْحَى تَسْتَمْنِحُ مِنْهُمْ جِلْدَ شَاةٍ تَتَدَفَّأُ بِهِ، وَسَأَلُوهَا عَنْ أَمْرِهِمْ: فَقَالَتْ: أَذْكُرُ أَصْبَحْتُ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ وَإِنَّ عَلَى رَأْسِي أَرْبَعَمِائَةِ وَصِيفَةٍ، وَإِنِّي لَأَقُولُ: إِنَّ ابْنِي جَعْفَرًا عَاقٌّ بِي.

وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ الرَّشِيدِ جَعْفَرًا، وَمَا أَحَلَّ بِالْبَرَامِكَةِ مِنَ النِّقْمَةِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ جَعْفَرًا كَانَ قَدْ كَفَانِي مَئُونَةَ الدُّنْيَا فَاكْفِهِ مَئُونَةَ الْآخِرَةِ.

حِكَايَةٌ غَرِيبَةٌ
ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " الْمُنْتَظَمِ " أَنَّ الْمَأْمُونَ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا يَأْتِي كُلَّ يَوْمٍ إِلَى قُبُورِ الْبَرَامِكَةِ فَيَبْكِي عَلَيْهِمْ وَيَنْدُبُهُمْ، فَبَعَثَ مَنْ جَاءَهُ بِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقَدْ يَئِسَ مِنَ الْحَيَاةِ، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ! مَا يَحْمِلُكَ عَلَى صَنِيعِكَ هَذَا؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُمْ أَسْدَوْا إِلَى مَعْرُوفًا وَخَيْرًا كَثِيرًا، وَلِي خَبَرٌ طَوِيلٌ. فَقَالَ: قُلْ. قَالَ: أَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ، كُنْتُ فِي نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ، فَزَالَتْ عَنِّي حَتَّى أَفْضَى بِي الْحَالُ إِلَى أَنْ بِعْتُ دَارِي، وَلَمْ يَبْقَ لِي شَيْءٌ فَأَشَارَ بَعْضُ أَصْحَابِي عَلَيَّ بِقَصْدِ الْبَرَامِكَةِ فَأَتَيْتُ بَغْدَادَ وَمَعِي نَيِّفٌ وَعِشْرُونَ امْرَأَةً وَصَبِيًّا، فَأَنْزَلْتُهُنَّ فِي مَسْجِدٍ ثُمَّ قَصَدْتُ مَسْجِدًا أَصْلِيُّ فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ جَمَاعَةٌ لَمْ أَرَ أَحْسَنَ مِنْهُمْ، فَجَلَسْتُ

إِلَيْهِمْ، فَجَعَلْتُ أُدِيرُ فِي نَفْسِي كَلَامًا أَطْلُبُ بِهِ مِنْهُمْ قُوتًا لِلْعِيَالِ، فَيَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ ذُلُّ السُّؤَالِ، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذَا بِخَادِمٍ قَدْ أَقْبَلَ فَاسْتَدْعَاهُمْ، فَقَامُوا كُلُّهُمْ وَقُمْتُ مَعَهُمْ، فَدَخَلُوا دَارًا عَظِيمَةً، فَإِذَا الْوَزِيرُ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ فِيهَا، فَجَلَسُوا حَوْلَهُ، فَعَقَدَ عَقْدَ ابْنَتِهِ عَائِشَةَ عَلَى ابْنِ عَمٍّ لَهُ، وَنَثَرُوا عَلَيْنَا سَحِيقَ الْمِسْكِ وَبَنَادِقَ الْعَنْبَرِ، ثُمَّ جَاءَتِ الْخَدَمُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ بِصِينِيَّةٍ مِنْ فِضَّةٍ فِيهَا أَلْفُ دِينَارٍ، وَمَعَهَا فُتَاتُ الْمِسْكِ، فَأَخَذَهَا الْقَوْمُ وَنَهَضُوا، وَبَقِيَتْ بَيْنَ يَدَيَّ الصِّينِيَّةُ الَّتِي وَضَعُوهَا لِي، وَأَنَا أَهَابُ أَنْ آخُذَهَا مِنْ عَظَمَتِهَا عِنْدِي، فَقَالَ لِي بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: أَلَّا تَأْخُذُهَا وَتَقُومُ ؟ فَمَدَدْتُ يَدِي، فَأَخَذْتُهَا فَأَفْرَغْتُ ذَهَبَهَا فِي جَيْبِي وَأَخَذْتُ الصِّينِيَّةَ تَحْتَ إِبِطِي وَقُمْتُ وَأَنَا خَائِفٌ أَنْ تُؤْخَذَ مِنِّي، فَجَعَلْتُ أَتَلَفَّتُ وَالْوَزِيرُ يَنْظُرُ إِلَيَّ وَأَنَا لَا أَشْعُرُ، فَلَمَّا بَلَغْتُ السِّتَارَةَ أَمَرَهُمْ فَرَدُّونِي، فَيَئِسْتُ مِنَ الْمَالِ، فَلَمَّا رَجَعْتُ قَالَ لِي: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ خَبَرِي، فَبَكَى ثُمَّ قَالَ لِأَوْلَادِهِ: خُذُوا هَذَا فَضَمُّوهُ إِلَيْكُمْ. فَجَاءَنِي خَادِمٌ، فَأَخَذَ مِنِّي الذَّهَبَ وَالصِّينِيَّةَ، وَأَقَمْتُ عِنْدَهُمْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ وَلَدٍ إِلَى وَلَدٍ وَخَاطِرِي كُلُّهُ عِنْدَ عِيَالِي، وَلَا يُمْكِنُنِي الِانْصِرَافُ، فَلَمَّا انْقَضَتِ الْعَشْرَةُ جَاءَنِي خَادِمٌ فَقَالَ: أَلَا تَذْهَبُ إِلَى أَهْلِكَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى وَاللَّهِ. فَقَامَ يَمْشِي أَمَامِي وَلَمْ يُعْطِنِي الذَّهَبَ، فَقُلْتُ: يَا لَيْتَ هَذَا كَانَ قَبْلَ هَذَا. فَسَارَ يَمْشِي أَمَامِي إِلَى دَارٍ لَمْ أَرَ أَحْسَنَ مِنْهَا، فَإِذَا

عِيَالِي يَتَمَرَّغُونَ فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ فِيهَا، وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ، وَكِتَابٌ فِيهِ تَمْلِيكُ الدَّارِ بِمَا فِيهَا، وَبِقَرْيَتَيْنِ جَلِيلَتَيْنِ لَهُمْ، فَكُنْتُ مَعَ الْبَرَامِكَةِ فِي أَطْيَبِ عَيْشٍ، فَلَمَّا أُصِيبُوا أَخَذَ مِنِّي عَمْرُو بْنُ مَسْعَدَةَ الْقَرْيَتَيْنِ، وَأَلْزَمَنِي بِخَرَاجِهِمَا، فَكُلَّمَا لَحِقَتْنِي فَاقَةٌ قَصَدْتُ دَوْرَهُمْ وَقُبُورَهُمْ فَبَكَيْتُ عَلَيْهِمْ. فَأَمَرَ الْمَأْمُونُ بِرَدِّ الْقَرْيَتَيْنِ عَلَيْهِ وَخَرَاجِهِمَا. فَبَكَى الشَّيْخُ بُكَاءً شَدِيدًا، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: أَلَمْ أَسْتَأْنِفْ بِكَ جَمِيلًا ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ هُوَ مِنْ بَرَكَةِ الْبَرَامِكَةِ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: امْضِ مُصَاحَبًا فَإِنَّ الْوَفَاءَ مُبَارَكٌ، وَحُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ،
أَبُو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْعُبَّادِ، وَعَلَمُ الزُّهَّادِ، وَوَاحِدُ الْعُلَمَاءِ الْأَوْلِيَاءِ، وُلِدَ بِخُرَاسَانَ بِكَوْرَةِ أَبِيوَرْدَ، وَقَدِمَ الْكُوفَةَ وَهُوَ كَبِيرٌ، فَسَمِعَ الْأَعْمَشَ، وَمَنْصُورَ بْنَ الْمُعْتَمِرِ وَعَطَاءَ بْنَ السَّائِبِ، وَحُصَيْنَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَغَيْرَهُمْ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مَكَّةَ فَتَعَبَّدَ بِهَا، وَكَانَ حَسَنَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَكَانَ سَيِّدًا كَبِيرَ الشَّأْنِ، ثِقَةً مِنْ أَئِمَّةِ الرِّوَايَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَرَضِيَ عَنْهُ، وَلَهُ مَعَ الرَّشِيدِ قِصَّةُ مَوْعِظَتِهِ لَهُ، وَقَدْ رُوِّينَا ذَلِكَ

مُطَوَّلًا فِي كَيْفِيَّةِ دُخُولِ الرَّشِيدِ عَلَيْهِ مَنْزِلَهُ، وَمَا قَالَ لَهُ الْفُضَيْلُ، وَعَرْضِ الرَّشِيدِ عَلَيْهِ الْمَالَ، فَأَبَى ذَلِكَ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَّةَ فِي هَذَا الْعَامِ، فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ شَاطِرًا يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَكَانَ يَتَعَشَّقُ جَارِيَةً، فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ لَيْلَةٍ يَتَسَوَّرُ عَلَيْهَا جِدَارًا إِذْ سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [ الْحَدِيدِ: 61 ]. فَقَالَ: بَلَى يَا رَبِّ. وَأَقْلَعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ، وَرَجَعَ إِلَى خَرِبَةٍ، فَبَاتَ بِهَا فَسَمِعَ سِفَارًا يَقُولُونَ: إِنَّ فُضَيْلًا أَمَامَكُمْ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ. فَأَمَّنَهُمْ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى تَوْبَتِهِ، حَتَّى كَانَ مِنْهُ مَا كَانَ مِنَ السِّيَادَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ، ثُمَّ صَارَ عَلَمًا يُقْتَدَى بِهِ وَيُهْتَدَى بِكَلَامِهِ وَفِعَالِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ الْفُضَيْلُ: لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا حَلَالٌ لَا أُحَاسَبُ بِهَا، لَكُنْتُ أَتَقَذَّرُهَا كَمَا يَتَقَذَّرُ أَحَدُكُمُ الْجِيفَةَ إِذَا مَرَّ بِهَا أَنْ تُصِيبُ ثَوْبَهُ.
وَقَالَ: الْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ، وَتَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ، وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُعَافِيَكَ اللَّهُ مِنْهُمَا.

وَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ يَوْمًا: مَا أَزْهَدَكَ! فَقَالَ: أَنْتَ أَزْهَدُ مِنِّي ; لِأَنِّي زَهِدْتُ فِي الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَأَنْتَ زَهِدْتَ فِي الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ.
وَمِنْ كَلَامِهِ: لَوْ أَنَّ لِي دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً لَدَعَوْتُ بِهَا لِإِمَامِ عَامَّةٍ ; فَإِنَّهُ إِذَا صَلَحَ أَمِنَتِ الْبِلَادُ وَالْعِبَادُ.
وَقَالَ: إِنِّي لَأَعْصِي اللَّهَ فَأَعْرِفُ ذَلِكَ فِي خُلِقِ حِمَارِي وَخَادِمِي.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [ الْمُلْكِ: 2 ]. قَالَ: يَعْنِي أَخْلَصَهُ وَأَصْوَبَهُ ;إِنَّ الْعَمَلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ، وَصَوَابًا عَلَى مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، وَعَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ

مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ الْعَمِّيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْأَمِيرُ بِبِلَادِ الرُّومِ مَعَ الْقَاسِمِ ابْنِ الرَّشِيدِ فِي الصَّائِفَةِ، وَمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَأَبُو شُعَيْبٍ الْبَرَاثِيُّ الزَّاهِدُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَكَنَ بَرَاثَا فِي كُوخٍ لَهُ يَتَعَبَّدُ فِيهِ، فَهَوِيَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ الرُّؤَسَاءِ، فَانْخَلَعَتْ مِمَّا كَانَتْ فِيهِ مِنَ السَّعَادَةِ وَالْحِشْمَةِ، وَتَزَوَّجَتْهُ وَأَقَامَتْ مَعَهُ يَتَعَبَّدَانِ فِي ذَلِكَ الْكُوخِ حَتَّى مَاتَا، رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَيُقَالُ إِنَّ اسْمَهَا جَوْهَرَةُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ جِبْرِيلَ الصَّائِفَةَ، فَدَخَلَ بِلَادَ الرُّومِ مِنْ دَرْبِ الصَّفْصَافِ، فَخَرَجَ النَّقْفُورُ لِلِقَائِةِ، فَجُرِحَ النَّقْفُورُ ثَلَاثَ جِرَاحَاتٍ، وَانْهَزَمَ وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَغَنِمُوا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ دَابَّةٍ.
وَفِيهَا رَابَطَ الْقَاسِمُ ابْنُ الرَّشِيدِ بِمَرْجِ دَابِقٍ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الرَّشِيدُ، وَكَانَتْ آخِرَ حَجَّاتِهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ حِينَ رَأَى الرَّشِيدَ مُنْصَرِفًا مِنَ الْحَجِّ، وَقَدِ اجْتَازَ بِالْكُوفَةِ: لَا يَحُجُّ الرَّشِيدُ بَعْدَهَا، وَلَا يَحُجُّ بَعْدَهُ خَلِيفَةٌ أَبَدًا.
وَقَدْ لَقِيَهُ بُهْلُولٌ الْمُوَلَّهُ الْعَاقِلُ فَوَعَظَهُ مَوْعِظَةً حَسَنَةً، فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ الْحَاجِبِ قَالَ: حَجَجْتُ مَعَ الرَّشِيدِ فَمَرَرْنَا بِالْكُوفَةِ، فَإِذَا بُهْلُولٌ الْمَجْنُونُ يَهْذِي، فَقُلْتُ: اسْكُتْ، فَقَدْ أَقْبَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَسَكَتَ، فَلَمَّا حَاذَاهُ الْهَوْدَجُ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، حَدَّثَنِي أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ، ثَنَا قُدَامَةُ بْنُ

عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيُّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنَى عَلَى جَمَلٍ وَتَحْتَهٌ رَحْلٌ رَثٌّ، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ طَرْدٌ وَلَا ضَرْبٌ وَلَا إِلَيْكَ إِلَيْكَ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ بُهْلُولٌ الْمَجْنُونُ. فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُهُ، قُلْ يَا بُهْلُولُ. فَقَالَ:
فَهَبْ أَنْ قَدْ مَلَكْتَ الْأَرْضَ طُرًّا وَدَانَ لَكَ الْعِبَادُ فَكَانَ مَاذَا أَلَيْسَ غَدًا مُصِيرُكَ جَوْفَ قَبْرِ
وَيَحْثُو عَلَيْكَ التُّرْبَ هَذَا ثُمَّ هَذَا
قَالَ: أَجَدْتَ يَا بُهْلُولُ، أَفَغَيْرُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ جَمَالًا وَمَالًا ; فَعَفَّ فِي جَمَالِهِ، وَوَاسَى فِي مَالِهِ، كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْأَبْرَارِ. قَالَ: فَظَنَّ أَنَّهُ يُرِيدُ شَيْئًا، فَقَالَ: إِنَّا قَدْ أَمَرْنَا بِقَضَاءِ دَيْنِكَ. قَالَ: لَا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَقْضِ دَيْنًا بِدَيْنٍ، ارْدُدِ الْحَقَّ إِلَى أَهْلِهِ، وَاقْضِ دَيْنَ نَفْسِكَ مِنْ نَفْسِكَ. قَالَ: إِنَّا أَمَرْنَا أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْكَ رِزْقٌ. قَالَ: لَا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ لَا يُعْطِيكَ وَيَنْسَانِي، وَلَا حَاجَةَ لِي فِي جِرَايَتِكَ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسْمَاءَ بْنِ

خَارِجَةَ
، إِمَامُ أَهْلِ الشَّامِ فِي الْمَغَازِي وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَخَذَ عَنِ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقِيلَ: قَبْلَهَا.
وَإِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلِيُّ، النَّدِيمُ،
وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَاهَانَ بْنِ بَهْمَنَ بْنِ نُسْكَ أَبُو إِسْحَاقَ، أَحَدُ الشُّعَرَاءِ وَالْمُغَنِّينَ وَالنُّدَمَاءِ، أَصْلُهُ مِنَ الْفُرْسِ وَوَلَاؤُهُ لِلْحَنْظَلِيِّينَ، وُلِدَ بِالْكُوفَةِ، وَصَحِبَ شَبَابَهَا وَأَخَذَ عَنْهُمُ الْغِنَاءَ، فَأَجَادَ فِي عِلْمِهِ، ثُمَّ سَافَرَ إِلَى الْمَوْصِلِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْكُوفَةِ فَقَالُوا لَهُ: الْمَوْصِلِيُّ. وَقَدِ اتَّصَلَ بِالْخُلَفَاءِ ; أَوَّلُهُمُ الْمَهْدِيُّ، وَحَظِيَ عِنْدَ الرَّشِيدِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ سُمَّارِهِ وَنُدَمَائِهِ وَمُغَنِّيهِ، وَقَدْ أَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ جِدًّا، حَتَّى إِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّهُ تَرَكَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَكَانَتْ لَهُ طُرَفٌ وَحِكَايَاتٌ غَرِيبَةٌ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ فِي الْكُوفَةِ، وَنَشَأَ فِي كَفَالَةِ بَنِي تَمِيمٍ، فَتَعَلَّمَ مِنْهُمْ وَنُسِبَ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ فَاضِلًا بَارِعًا فِي صِنَاعَةِ الْغِنَاءِ، وَكَانَ مُزَوَّجًا بِأُخْتِ مَنْصُورٍ الْمُلَقَّبِ بِزَلْزَلٍ الَّذِي كَانَ يَضْرِبُ مَعَهُ، فَإِذَا غَنَّى هَذَا وَضَرَبَ هَذَا اهْتَزَّ الْمَجْلِسُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَحَكَى ابْنُ خِلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " قَوْلًا أَنَّهُ تُوُفِّيَ هُوَ وَأَبُو الْعَتَاهِيَةِ وَأَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ النَّحْوِيُّ بِبَغْدَادَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ

سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. وَصَحَّحَ الْأَوَّلَ.
وَمِنْ أَشْعَارِهِ عِنْدَ احْتِضَارِهِ قَوْلُهُ:
مَلَّ وَاللَّهِ طَبِيبِي مِنْ مُقَاسَاةِ الَّذِي بِي سَوْفَ أُنْعَى عَنْ
قَرِيبٍ لَعَدُوٍّ وَحَبِيبِ
وَفِيهَا مَاتَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَرِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، وَعُمَرُ بْنُ أَيُّوبَ الْعَابِدُ أَحَدُ مَشَايِخِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ فِي قَوْلٍ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا رَجَعَ الرَّشِيدُ مِنَ الْحَجِّ، وَسَارَ إِلَى الرَّيِّ، فَوَلَّى وَعَزَلَ وَقَطَعَ وَوَصَلَ، وَرَدَّ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى إِلَى وِلَايَةِ خُرَاسَانَ، وَجَاءَهُ نُوَّابُ تِلْكَ الْبُلْدَانِ بِالْهَدَايَا وَالتُّحَفِ مِنْ سَائِرِ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ فَأَدْرَكَهُ عِيدُ الْأَضْحَى بِقَصْرِ اللُّصُوصِ، فَضَحَّى عِنْدَهُ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِالْجِسْرِ أَمَرَ بِجُثَّةِ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى الْبَرْمَكِيِّ، فَأُحْرِقَتْ، وَكَانَتْ مَصْلُوبَةً مُنْذُ قَتَلَهُ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ الرَّشِيدُ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الرَّقَّةِ وَهُوَ مُتَأَسِّفٌ عَلَى بَغْدَادَ وَطِيبِهَا، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ بِمُقَامِهِ بِالرَّقَّةِ رَدْعُ الْمُفْسِدِينَ بِهَا، وَقَدْ قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ فِي سُرْعَةِ خُرُوجِهِمْ مِنْ بَغْدَادَ مَعَ الرَّشِيدِ:
مَا أَنَخْنَا حَتَّى ارْتَحَلْنَا فَمَا نُ فَرِّقُ بَيْنَ الْمُنَاخِ وَالْإِرْتِحَالِ سَاءَلُونَا عَنْ حَالِنَا إِذْ قَدِمْنَا
فَقَرَنَّا وَدَاعَهُمْ بِالسُّؤَالِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فَادَى الرَّشِيدُ الْأُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِبِلَادِ الرُّومِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِهَا أَسِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ الْأَلِبَّاءِ:
وَفُكَّتْ بِكَ الْأَسْرَى الَّتِي شُيِّدَتْ لَهَا مَحَابِسُ مَا فِيهَا حَمِيمٌ يَزُورُهَا
عَلَى حِينِ أَعْيَا الْمُسْلِمِينَ فِكَاكُهَا وَقَالُوا سُجُونُ الْمُشْرِكِينَ قُبُورُهَا

وَفِيهَا رَابَطَ الْقَاسِمُ ابْنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ بِمَرْجِ دَابِقٍ مُحَاصِرًا الرُّومَ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَيْرُوزَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَسَدِيُّ مَوْلَاهُمُ، الْكُوفِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالْكِسَائِيِّ ; لِإِحْرَامِهِ فِي كِسَاءٍ، وَقِيلَ: لِاشْتِغَالِهِ عَلَى حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ فِي كِسَاءٍ. النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ، أَصْلُهُ مِنَ الْكُوفَةِ، ثُمَّ اسْتَوْطَنَ بَغْدَادَ، فَأَدَّبَ الرَّشِيدَ وَوَلَدَهُ الْأَمِينَ، وَقَدْ قَرَأَ عَلَى حَمْزَةَ بْنِ حَبِيبٍ الزَّيَّاتِ قِرَاءَتَهُ، وَكَانَ يُقْرِئُ بِهَا، ثُمَّ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ قِرَاءَةً، فَكَانَ يَقْرَأُ بِهَا.
رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدٍ.
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي النَّحْوِ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى الْكِسَائِيِّ.

وَقَدْ كَانَ الْكِسَائِيُّ أَخَذَ عَنِ الْخَلِيلِ صِنَاعَةَ النَّحْوِ، فَسَأَلَهُ يَوْمًا: عَمَّنْ أَخَذْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ بَوَادِي الْحِجَازِ. فَرَحَلَ الْكِسَائِيُّ إِلَى هُنَاكَ، فَكَتَبَ عَنِ الْعَرَبِ شَيْئًا كَثِيرًا، ثُمَّ عَادَ - وَمِنْ هِمَّتِهِ الْعَوْدُ - إِلَى الْخَلِيلِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، وَتَصَدَّرَ فِي مَوْضِعِهِ يُونُسُ، فَجَرَتْ بَيْنَهُمَا مُنَاظَرَاتٌ أَقَرَّ لَهُ فِيهَا يُونُسُ وَأَجْلَسَهُ فِي مَوْضِعِهِ.
قَالَ الْكِسَائِيُّ: صَلَّيْتُ يَوْمًا بِالرَّشِيدِ، فَأَعْجَبَتْنِي قِرَاءَتِي، فَغَلِطْتُ غَلْطَةً مَا غَلِطَهَا صَبِيٌّ، أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ الْأَعْرَافِ: 168 ]. فَقُلْتُ: لَعَلَّهُمْ يَرجِعِينَ. فَمَا تَجَاسَرَ الرَّشِيدُ أَنْ يَرُدَّهَا، لَكِنْ لَمَّا سَلَّمْتُ قَالَ: أَيُّ لُغَةٍ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ الْجَوَادَ قَدْ يَعْثُرُ. فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَنَعَمْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقِيتُ الْكِسَائِيَّ فَإِذَا هُوَ مَهْمُومٌ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ قَدْ وَجَّهَ إِلَيَّ يَسْأَلُنِي عَنْ أَشْيَاءَ، فَأَخْشَى مِنَ الْخَطَأِ. فَقُلْتُ لَهُ: قُلْ مَا شِئْتَ فَأَنْتَ الْكِسَائِيُّ. فَقَالَ: قَطْعُهُ اللَّهُ - يَعْنِي لِسَانَهُ - إِنْ قُلْتُ مَا لَمْ أَعْلَمْ.
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: قُلْتُ يَوْمًا لِنَجَّارٍ: بِكَمْ هَذَانَ الْبَابَانِ؟ فَقَالَ: بَسَلْحَتَانِ يَا مَصْفَعَانِ.
تُوُفِّيَ الْكِسَائِيُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً. وَكَانَ فِي

صُحْبَةِ الرَّشِيدِ بِبِلَادِ الرَّيِّ، فَمَاتَ بِنَوَاحِيهَا هُوَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَيْضًا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ الرَّشِيدُ يَقُولُ: دَفَنْتُ الْفِقْهَ وَالْعَرَبِيَّةَ بِالرَّيِّ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: وَقِيلَ: إِنَّ الْكِسَائِيَّ تُوُفِّيَ بِطُوسَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَأَى بَعْضُهُمُ الْكِسَائِيَّ فِي الْمَنَامِ وَوَجْهُهُ كَالْبَدْرِ، فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ رَبُّكَ بِكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِالْقُرْآنِ. فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ حَمْزَةُ ؟ قَالَ: ذَاكَ فِي عِلِّيِّينَ، مَا نَرَاهُ إِلَّا كَمَا نَرَى الْكَوْكَبَ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ فَرْقَدٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّيْبَانِيُّ مَوْلَاهُمْ، صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى دِمَشْقَ، قَدِمَ أَبُوهُ الْعِرَاقَ، فَوُلِدَ بِوَاسِطَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَنَشَأَ بِالْكُوفَةِ، فَسَمِعَ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمِسْعَرٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ ذَرٍّ، وَمَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، وَكَتَبَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَسَكَنَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا، وَكَتَبَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ حِينَ قَدِمَهَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ وَقْرَ بَعِيرٍ، وَوَلَّاهُ الرَّشِيدُ قَضَاءَ الرَّقَّةِ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَخَرَجَ مَعَ الرَّشِيدِ إِلَى الرَّيِّ فَمَاتَ بِهَا.

وَكَانَ يَقُولُ لِأَهْلِهِ: لَا تَسْأَلُونِي حَاجَةً مِنْ حَاجَاتِ الدُّنْيَا فَتَشْغَلُوا قَلْبِي، وَخُذُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ وَكِيلِي، فَإِنَّهُ أَقَلُّ لِهَمِّي وَأَفْرَغُ لِقَلْبِي. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا رَأَيْتُ حَبْرًا سَمِينًا مِثْلَهُ، وَلَا رَأَيْتُ أَخَفَّ رُوحًا مِنْهُ، وَلَا أَفْصَحَ مِنْهُ، كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ كَأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِ.
وَقَالَ أَيْضًا: مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، كَانَ يَمْلَأُ الْعَيْنَ وَالْقَلْبَ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: كَانَ الشَّافِعِيُّ قَدْ طَلَبَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ كِتَابَ السِّيَرِ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى الْإِعَارَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ:
قُلْ لِلَّذِي لَمْ تَرَ عَيْ نَا مَنْ رَآهُ مِثْلَهُ حَتَّى كَأَنَّ مَنْ رَآهُ
قَدْ رَأَى مَنْ قَبْلَهْ الْعِلْمُ يَنْهَى أَهْلَهُ أَنْ يَمْنَعُوهُ أَهْلَهْ
لَعَلَّهُ يَبْذُلُهُ لِأَهْلِهِ لَعَلَّهْ
قَالَ: فَوَجَّهَ بِهِ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ هَدِيَّةً لَا عَارِيَّةً.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ هَذِهِ الْمَسَائِلُ

الدِّقَاقُ مِنْ أَيْنَ هِيَ لَكَ؟ قَالَ: مِنْ كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.
وَكَانَتْ وَفَاةُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالْكِسَائِيِّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَقَالَ الرَّشِيدُ: دَفَنْتُ الْيَوْمَ اللُّغَةَ وَالْفِقْهَ جَمِيعًا. وَكَانَ عُمْرُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ثَمَانِيًا وَخَمْسِينَ سَنَةً.

سَنَةَ تِسْعِينَ وَمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِيهَا خَلَعَ رَافِعُ بْنُ لَيْثِ بْنِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ نَائِبُ سَمَرْقَنْدَ الطَّاعَةَ، وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، وَتَابَعَهُ أَهْلُ بَلَدِهِ وَطَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ نَائِبُ خُرَاسَانَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى، فَهَزَمَهُ رَافِعٌ وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ بِهِ.
وَفِيهَا سَارَ هَارُونُ الرَّشِيدُ لِغَزْوِ بِلَادِ الرُّومِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَقَدْ لَبِسَ عَلَى رَأْسِهِ قَلَنْسُوَةً، فَقَالَ فِيهَا أَبُو الْمُعَلَّى الْكِلَابِيُّ:
فَمَنْ يَطْلُبْ لِقَاءَكَ أَوْ يُرِدْهُ فَبِالْحَرَمَيْنِ أَوْ أَقْصَى الثُّغُورِ فَفِي أَرْضِ الْعُدُوِّ عَلَى طِمِرٍّ
وَفِي أَرْضِ التَّرَفُّهِ فَوْقَ كُورِ
ثُمَّ وَصَلَ إِلَى الطُّوَانَةِ، فَعَسْكَرَ بِهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ نَقْفُورُ بِالطَّاعَةِ، وَحَمَلَ الْخَرَاجَ وَالْجِزْيَةَ حَتَّى عَنْ رَأْسِهِ وَرَأْسِ وَلَدِهِ، وَأَهْلِ مَمْلَكَتِهِ - فِي كُلِّ سَنَةٍ - خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَبَعَثَ يَطْلُبُ مِنَ الرَّشِيدِ جَارِيَةً قَدْ أَسَرُوهَا، كَانَتِ ابْنَةَ مَلِكِ هِرَقْلَةَ، وَكَانَ قَدْ خَطَبَهَا عَلَى وَلَدِهِ، فَبَعَثَ بِهَا الرَّشِيدُ مَعَ هَدَايَا وَتُحَفٍ، وَطِيبٍ بَعَثَ بِطَلَبِهِ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ الرَّشِيدُ أَنْ يَحْمِلَ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَنْ لَا يُعَمِّرَ هِرَقْلَةَ. ثُمَّ انْصَرَفَ الرَّشِيدُ رَاجِعًا، وَاسْتَنَابَ عَلَى الْغَزْوِ عَقَبَةَ بْنَ جَعْفَرٍ.

وَنَقَضَ أَهْلُ قُبْرُسَ الْعَهْدَ، فَغَزَاهُمْ مَعْيُوفُ بْنُ يَحْيَى، فَسَبَى أَهْلَهَا، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الرَّشِيدُ مَنْ قَتَلَهُ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عِيسَى بْنُ مُوسَى الْهَادِي.

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْمَشَاهِيرِ
أَسَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، أَبُو الْمُنْذِرِ الْبَجَلِيُّ الْكُوفِيُّ،
صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحَكَمَ بِبَغْدَادَ وَبِوَاسِطَ، فَلَمَّا أَنْكَرَ بَصَرَهُ عَزَلَ نَفْسَهُ عَنِ الْقَضَاءِ، وَرَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَقَالَ: كَانَ صَدُوقًا. وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ عَلِيٌّ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالْبُخَارِيُّ.
سَعْدُونُ الْمَجْنُونُ، صَامَ سِتِّينَ سَنَةً، فَخَفَّ دِمَاغُهُ، فَسَمَّاهُ النَّاسُ الْمَجْنُونَ. وَقَفَ يَوْمًا عَلَى حَلْقَةِ ذِي النُّونِ الْمِصْرِيِّ فَسَمِعَ كَلَامَهُ، فَصَرَخَ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
وَلَا خَيْرَ فِي شَكْوَى إِلَى غَيْرِ مُشْتَكَى وَلَا بُدَّ مِنْ شَكْوَى إِذَا لَمْ يَكُنْ صَبْرُ
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: مَرَرْتُ بِهِ وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَ رَأْسِ شَيْخٍ سَكْرَانَ يَذُبُّ عَنْهُ، فَقُلْتُ: مَا لِي أَرَاكَ عِنْدَ رَأْسِ هَذَا الشَّيْخِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ. فَقُلْتُ:

أَنْتَ الْمَجْنُونُ أَوْ هُوَ؟ قَالَ: لَا، بَلْ هُوَ، لِأَنِّي صَلَّيْتُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمَاعَةً، وَهُوَ لَمْ يُصَلِّ جَمَاعَةً وَلَا فُرَادَى. قُلْتُ: فَهَلْ قُلْتَ فِي هَذَا شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
تَرَكْتُ النَّبِيذَ لِأَهْلِ النَّبِيذِ وَأَصْبَحْتُ أَشْرَبُ مَاءَ قَرَاحًا
لِأَنَّ النَّبِيذَ يُذِلُّ الْعَزِيزَ وَيَكْسُو بِذَاكَ الْوُجُوهَ الصِّبَاحَا
فَإِنْ كَانَ ذَا جَائِزًا لِلشَّبَابِ فَمَا الْعُذْرُ مِنْهُ إِذَا الشَّيْبُ لَاحَا
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: فَقُلْتُ لَهُ: صَدَقْتَ. وَانْصَرَفْتُ.
عُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ صُهَيْبٍ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّيْمِيُّ الْكُوفِيُّ، مُؤَدِّبُ الْأَمِينِ، رَوَى عَنِ الْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَكَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ

يَحْيَى بْنُ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، أَبُو عَلِيٍّ الْوَزِيرُ، وَالِدُ جَعْفَرٍ الْبَرْمَكِيُّ، ضَمَّ إِلَيْهِ الْمَهْدِيُّ وَلَدَهُ الرَّشِيدَ، فَرَبَّاهُ وَأَرْضَعَتْهُ امْرَأَتُهُ مَعَ الْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى، فَلَمَّا وَلِيَ الرَّشِيدُ عَرَفَ لَهُ حَقَّهُ، وَكَانَ يَقُولُ: قَالَ أَبِي. وَفَوَّضَ إِلَيْهِ أُمُورَ الْخِلَافَةِ وَأَزِمَّتَهَا، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى نُكِبَتِ الْبَرَامِكَةُ، فَقَتَلَ جَعْفَرًا، وَخَلَّدَ أَبَاهُ فِي الْحَبْسِ حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَكَانَ كَرِيمًا فَصِيحًا، ذَا رَأْيٍ سَدِيدٍ،

وَيَظْهَرُ مِنْ أُمُورِهِ خَيْرٌ وَصَلَاحٌ.
قَالَ يَوْمًا لِوَلَدِهِ: خُذُوا مَنْ كُلِّ شَيْءٍ طَرَفًا، فَإِنَّ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ.
وَقَالَ لِأَوْلَادِهِ: اكْتُبُوا أَحْسَنَ مَا تَسْمَعُونَ، وَاحْفَظُوا أَحْسَنَ مَا تَكْتُبُونَ، وَتُحَدَّثُوا بِأَحْسَنِ مَا تَحْفَظُونَ.
وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ: إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا فَأَنْفِقُوا مِنْهَا فَإِنَّهَا لَا تَفْنَى، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَأَنْفِقُوا مِنْهَا فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى.
وَكَانَ إِذَا سَأَلَهُ سَائِلٌ فِي الطَّرِيقِ وَهُوَ رَاكِبٌ أَقَلُّ مَا يَأْمُرُ لَهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَوْمًا:
:
يَا سَمِيَّ الْحَصُورِ يَحْيَى أُتِيحَتْ لَكَ مِنْ فَضْلِ رَبِّنَا جَنَّتَانِ كُلُّ مَنْ مَرَّ فِي الطَّرِيقِ عَلَيْكُمْ
فَلَهُ مِنْ نَوَالِكُمْ مِائَتَانِ مِائَتَا دِرْهَمٍ لِمِثْلِي قَلِيلٌ
هِيَ مِنْكُمْ لِلْقَابِسِ الْعَجْلَانِ
فَقَالَ: صَدَقْتَ. وَأَمَرَ أَنْ يُسْبَقَ بِهِ إِلَى الدَّارِ، فَلَمَّا رَجَعَ سَأَلَ عَنْهُ، فَإِذَا هُوَ قَدْ تَزَوَّجَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى أَهْلِهِ، فَأَعْطَاهُ صَدَاقَهَا أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَثَمَنَ دَارٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَثَمَنَ الْأَمْتِعَةِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَثَمَنَ الدُّخُولِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَأَرْبَعَةَ آلَافٍ يَسْتَظْهِرُ بِهَا.

وَجَاءَ رَجُلٌ يَوْمًا يَسْأَلُهُ شَيْئًا، فَقَالَ: وَيْحَكْ! لَقَدْ جِئْتَنِي فِي وَقْتٍ لَا أَمْلِكُ فِيهِ مَالًا، وَلَكِنْ قَدْ بَعَثَ إِلَيَّ صَاحِبٌ لِي يَطْلُبُ مِنِّي أَنْ يُهْدِيَ إِلَيَّ مَا أُحِبُّ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَبِيعَ جَارِيَةً لَكَ، وَأَنَّكَ قَدْ أُعْطِيتَ فِيهَا ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَإِنِّي سَأَطْلُبُهَا مِنْهُ، فَلَا تَبِعْهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا جَائَنِي يُسَاوِمُنِي فِيهَا أَلْحَحْتُ أَنْ لَا أَبِيعَهَا بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَبَلَغَ ثَمَنُهَا عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا سَمِعْتُهَا ضَعُفُ قَلْبِي وَأَجَبْتُ إِلَى بَيْعِهَا، فَلَمَّا اجْتَمَعْتُ بِيَحْيَى، قَالَ: بِكُمْ بِعْتَهَا؟ قُلْتُ: بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. قَالَ: إِنَّكَ لَخَسِيسٌ، خُذْ جَارِيَتَكَ إِلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيَّ نَائِبُ فَارِسَ يَطْلُبُ مِنِّي أَنْ أَسْتَهْدِيَهُ شَيْئًا، وَإِنِّي سَأَطْلُبُهَا مِنْهُ، فَلَا تَبِعْهَا بِأَقَلِّ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَجَاءُونِي فَوَصَلُوا إِلَى ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَبِعْتُهَا. فَلَمَّا جِئْتُهُ لَامَنِي أَيْضًا، وَرَدَّهَا عَلَيَّ، فَقُلْتُ: أُشْهِدُكَ أَنَّهَا حُرَّةٌ، وَأَنِّي قَدْ تَزَوَّجْتُهَا.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ أَنَّ الرَّشِيدَ طَلَبَ مِنْ مَنْصُورِ بْنِ زِيَادٍ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا سِوَى أَلْفِ أَلْفٍ، فَضَاقَ ذَرْعًا، وَقَدْ تَوَعَّدَهُ إِنْ لَمْ يَحْمِلْهَا فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ وَإِلَّا قَتَلَهُ، فَدَخَلَ عَلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، وَذَكَرَ لَهُ أَمْرَهُ، فَأَطْلَقَ لَهُ خَمْسَةَ آلَافِ أَلْفٍ، وَاسْتَطْلَقَ لَهُ مِنَ ابْنِهِ الْفَضْلِ أَلْفَيْ أَلْفٍ، وَقَالَ لِابْنِهِ:

يَا بُنَيَّ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَشْتَرِيَ بِهَا ضَيْعَةً، وَهَذِهِ ضَيْعَةٌ تُغِلُّ الشُّكْرَ وَتَبْقَى مَدَى الدَّهْرِ. وَأَخَذَ لَهُ مِنَ ابْنِهِ جَعْفَرٍ أَلْفَ أَلْفٍ، وَأَخَذَ لَهُ مَنْ جَارَيْتِهِ دَنَانِيرَ عُقْدًا مُشَتَرَاهُ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَعِشْرُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَقَالَ لِلْمُتَرَسِّمِ عَلَيْهِ: قَدْ حَسَبْنَاهُ عَلَيْكَ بِأَلْفَيْ أَلْفٍ. فَلَمَّا عُرِضَتِ الْأَمْوَالُ عَلَى الرَّشِيدِ رَدَّ الْعُقْدِ، وَكَانَ قَدْ وَهَبَهُ لِجَارِيَةِ يَحْيَى، فَلْمْ يَعُدْ فِيهِ بَعْدَ أَنْ وَهَبَهُ لَهَا.
وَقَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُ بَنِيهِ وَهُمْ فِي السِّجْنِ وَالْقُيُودِ: يَا أَبَتِ، بَعْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالنِّعْمَةِ صِرْنَا إِلَى هَذَا الْحَالِ. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، دَعْوَةُ مَظْلُومٍ سَرَتْ بِلَيْلٍ وَنَحْنُ عَنْهَا غَافِلُونَ، وَلَمْ يَغْفُلِ اللَّهُ عَنْهَا. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
رُبَّ قَوْمٍ قَدْ غَدَوْا فِي نِعْمَةٍ زَمَنًا وَالدَّهْرُ رَيَّانُ غَدَقْ
سَكَتَ الدَّهْرُ زَمَانًا عَنْهُمُ ثُمَّ أَبْكَاهُمْ دَمًا حِينَ نَطَقْ
وَقَدْ كَانَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ يُجْرِي عَلَى سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كُلَّ شَهْرٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَكَانَ سُفْيَانُ يَدْعُو لَهُ فِي سُجُودِهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ قَدْ كَفَانِي أَمْرَ دُنْيَايَ فَاكْفِهِ أَمْرَ آخِرَتِهِ. فَلَمَّا مَاتَ يَحْيَى رَآهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي بِدُعَاءِ سُفْيَانَ.
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاةُ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، فِي الْحَبْسِ بِالرَّافِقَةِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْفَضْلُ، وَدُفِنَ عَلَى شَطِّ الْفُرَاتِ. وَقَدْ وُجِدَ فِي جَيْبِهِ رُقْعَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا بِخَطِّهِ: قَدْ تَقَدَّمَ الْخَصْمُ وَالْمُدَّعَى

عَلَيْهِ بِالْأَثَرِ، وَالْحَاكِمُ الْحَكَمُ الْعَدْلُ الَّذِي لَا يَجُورُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ. فَحُمِلَتْ إِلَى الرَّشِيدِ، فَلَمَّا قَرَأَهَا مَا زَالَ يَبْكِي يَوْمَهُ ذَلِكَ، وَبَقِيَ أَيَّامًا يُتَبَيَّنُ الْأَسَى فِي وَجْهِهِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ هَذَا:
سَأَلْتُ النَّدَا هَلْ أَنْتَ حُرٌّ فَقَالَ لَا وَلَكِنَّنِي عَبْدٌ لِيَحْيَى بْنِ خَالِدِ
فَقُلْتُ شِرَاءً؟ قَالَ لَا بَلْ وِرَاثَةً تَوَارَثَنِي عَنْ وَالِدٍ بَعْدَ وَالِدِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ يُقَالُ لَهُ: ثَرْوَانُ بْنُ سَيْفٍ وَجَعَلَ يَتَنَقَّلُ فِيهَا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الرَّشِيدُ طَوْقَ بْنَ مَالِكٍ فَهَزَمَهُ، وَجُرِحَ ثَرْوَانُ وَقُتِلَ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ، وَكُتِبَ بِالْفَتْحِ إِلَى الرَّشِيدِ.
وَفِيهَا خَرَجَ بِالشَّامِ أَبُو النِّدَاءِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الرَّشِيدُ يَحْيَى بْنَ مُعَاذٍ وَاسْتَنَابَهُ عَلَى الشَّامِ.
وَفِيهَا وَقَعَ الثَّلْجُ بِبَغْدَادَ.
وَفِيهَا غَزَا بِلَادَ الرُّومِ يَزِيدُ بْنُ مَخْلَدٍ الْهُبَيْرِيُّ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، فَأَخَذَتْ عَلَيْهِ الرُّومُ الْمَضِيقَ فَقَتَلُوهُ فِي خَمْسِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ طَرَسُوسَ فَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ، وَوَلَّى الرَّشِيدُ غَزْوَ الصَّائِفَةِ لِهَرْثَمَةَ بْنِ أَعْيَنَ، وَضَمَّ إِلَيْهِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا فِيهِمْ مَسْرُورٌ الْخَادِمُ، وَإِلَيْهِ النَّفَقَاتُ.

وَخَرَجَ الرَّشِيدُ إِلَى الْحَدَثِ لِيَكُونَ قَرِيبًا مِنْهُمْ، وَأَمَرَ الرَّشِيدُ بِهَدْمِ الْكَنَائِسِ بِالثُّغُورِ، وَأَلْزَمَ أَهْلَ الذِّمَّةِ بِتَمْيِيزِ لِبَاسِهِمْ وَهَيْئَاتِهِمْ فِي بَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ وَوَلَّاهَا هَرْثَمَةَ بْنَ أَعْيَنَ
وَفِيهَا فَتَحَ الرَّشِيدُ هِرَقْلَةَ فِي شَوَّالٍ، وَخَرَّبَهَا وَسَبَى أَهْلَهَا، وَبَثَّ الْجُيُوشَ وَالسَّرَايَا بِأَرْضِ الرُّومِ، وَخَرَجَتِ الرُّومُ إِلَى عَيْنِ زَرْبَى، وَالْكَنِيسَةِ السَّوْدَاءِ. وَكَانَ خَرَاجُ هِرَقْلَةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ أَلْفٍ وَخَمْسَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ مَرْفُوقٍ. وَوَلَّى حُمَيْدَ بْنَ مَعْيُوفٍ سَوَاحِلَ الشَّامِ إِلَى مِصْرَ، وَدَخَلَ جَزِيرَةَ قُبْرُصَ، فَسَبَى أَهْلَهَا وَحَمَلَهُمْ حَتَّى بَاعَهُمْ بِالرَّافِقَةِ، فَبَلَغَ ثَمَنُ الْأُسْقُفِّ أَلْفَيْ دِينَارٍ، بَاعَهُمْ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ الْقَاضِي
وَفِيهَا أَسْلَمَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ عَلَى يَدَيِ الْمَأْمُونِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَكَانَ وَالِيَ مَكَّةَ

وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ بَعْدَ هَذِهِ السَّنَةِ صَائِفَةٌ إِلَى سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ.

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ الْأَبْرَشُ.
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ.
الْفَقِيهُ الرَّاوِي عَنْ مَالِكٍ؛ الَّذِي هُوَ الْعُمْدَةُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ.
وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ.
قَدِمَ عَلَى الرَّشِيدِ فَأَمَرَ لَهُ بِمَالٍ جَزِيلٍ؛ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا، فَلَمْ يَقْبَلْهُ. وَالْفَضْلُ بْنُ مُوسَى السِّينَانِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ. وَمَخْلَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمِصِّيصِيُّ أَحَدُ

الزُّهَّادِ الثِّقَاتِ، قَالَ: لَمْ أَتَكَلَّمْ بِكَلِمَةٍ أَحْتَاجُ إِلَى الِاعْتِذَارِ مِنْهَا مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً. وَمُعَمَّرٌ الرَّقِّيُّ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا دَخَلَ هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ إِلَى خُرَاسَانَ نَائِبًا عَلَيْهَا، وَقَبَضَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، فَأَخَذَ أَمْوَالَهُ وَحَوَاصِلَهُ، وَأَرْكَبَهُ عَلَى رَاحِلَةٍ، وَنَادَى عَلَيْهِ بِبِلَادِ خُرَاسَانَ وَكَتَبَ إِلَى الرَّشِيدِ بِذَلِكَ، فَشَكَرَهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ سَيَّرَهُ إِلَى الرَّشِيدِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَحُبِسَ بِدَارِهِ بِبَغْدَادَ.
وَفِيهَا وَلَّى الرَّشِيدُ ثَابِتَ بْنَ نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ نِيَابَةَ الثُّغُورِ فَدَخَلَ بِلَادَ الرُّومِ، وَفَتَحَ مَطْمُورَةَ.
وَفِيهَا كَانَ الْفِدَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ عَلَى يَدَيْ ثَابِتِ بْنِ نَصْرٍ.
وَفِيهَا خَرَجَتْ الْخُرَّمِيَّةُ بِالْجَبَلِ وَبِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ فَوَجَّهَ الرَّشِيدُ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيَّ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرَ وَسَبَى ذَرَارِيهِمْ، وَقَدِمَ بِهِمْ بَغْدَادَ فَأَمَرَ الرَّشِيدُ بِقَتْلِ الرِّجَالِ مِنْهُمْ، وَبِالذُّرِّيَّةِ فَبِيعُوا بِهَا، وَكَانَ قَدْ غَزَاهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا قَدِمَ الرَّشِيدُ مِنَ الرَّقَّةِ إِلَى بَغْدَادَ فِي السُّفُنِ، وَقَدْ

اسْتَخْلَفَ عَلَى الرَّقَّةِ ابْنَهُ الْقَاسِمَ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ وَمِنْ نِيَّةِ الرَّشِيدِ الذَّهَابُ إِلَى خُرَاسَانَ لِغَزْوِ رَافِعِ بْنِ لَيْثٍ؛ الَّذِي كَانَ قَدْ خَلَعَ الطَّاعَةَ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى بِلَادٍ كَثِيرَةٍ مِنْ بِلَادِ سَمَرْقَنْدَ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ خَرَجَ الرَّشِيدُ فِي شَعْبَانَ قَاصِدًا خُرَاسَانَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَادَ ابْنَهُ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ، وَسَأَلَ الْمَأْمُونُ مِنْ أَبِيهِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ خَوْفًا مِنْ غَدْرِ أَخِيهِ الْأَمِينِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَسَارَ مَعَهُ وَقَدْ شَكَا الرَّشِيدُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ إِلَى بَعْضِ أُمَرَائِهِ جَفَاءَ بَنِيهِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ وُلَاةَ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَرَاهُ دَاءً فِي جَسَدِهِ، وَقَالَ: إِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ وَالْقَاسِمِ عِنْدِي عَيْنًا عَلَيَّ، وَهُمْ يَعُدُّونَ أَنْفَاسِي، وَيَتَمَنَّوْنَ انْقِضَاءَ أَيَّامِي وَذَلِكَ شَرٌّ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. فَدَعَا لَهُ ذَلِكَ الْأَمِيرُ، ثُمَّ أَمَرَهُ الرَّشِيدُ بِالِانْصِرَافِ إِلَى عَمَلِهِ وَوَدَّعَهُ، وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ.
وَفِيهَا تَحَرَّكَ ثَرْوَانُ الْحَرُورِيُّ، وَقَتَلَ عَامِلَ السُّلْطَانِ بِطَفِّ الْبَصْرَةِ. وَفِيهَا قَتَلَ الرَّشِيدُ الْهَيْصَمَ الْيَمَانِيَّ. وَمَاتَ عِيسَى بْنُ جَعْفَرٍ وَهُوَ يُرِيدُ اللَّحَاقَ بِالرَّشِيدِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَامِعِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ

أَبُو الْقَاسِمِ، أَحَدُ الْمَشَاهِيرِ بِالْغِنَاءِ، وَمِمَّنْ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِيهِ، فَيُقَالُ: غِنَاءُ بْنُ جَامِعٍ. وَقَدْ كَانَ أَوَّلًا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ ثُمَّ صَارَ إِلَى صِنَاعَةِ الْغِنَاءِ، وَذَكَرَ عَنْهُ أَبُو الْفَرَجِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأَصْبَهَانِيُّ صَاحِبُ الْأَغَانِي حِكَايَاتٍ غَرِيبَةً؛ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا مُشْرِفًا فِي غُرْفَةٍ بِحَرَّانَ إِذْ أَقْبَلَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ مَعَهَا قِرْبَةٌ تَسْتَقِي فِيهَا مِنْ مَشْرَعَةٍ فَجَلَسَتْ وَوَضَعَتْ قِرْبَتَهَا وَانْدَفَعَتْ تُغَنِّي.
إِلَى اللَّهِ أَشْكُو بُخْلَهَا وَسَمَاحَتِي لَهَا عَسَلٌ مِنِّي وَتَبْذُلُ عَلْقَمَا فَرُدِّي مُصَابَ الْقَلْبِ أَنْتِ قَتَلْتِهِ
وَلَا تُبْعِدِي فِيمَا تَجَشَّمْتِ كُلْثُمَا
قَالَ: فَسَمِعْتُ مَا لَا صَبْرَ لِي عَنْهُ، وَرَجَوْتُ أَنْ تُعِيدَهُ، فَقَامَتْ وَانْصَرَفَتْ، فَنَزَلْتُ وَانْطَلَقْتُ وَرَاءَهَا وَسَأَلْتُهَا أَنْ تُعِيدَهُ، فَقَالَتْ: إِنَّ عَلَيَّ خَرَاجًا كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَانِ. فَأَعْطَيْتُهَا دِرْهَمَيْنِ فَأَعَادَتْهُ فَحَفِظْتُهُ وَسَلَكْتُهُ يَوْمِي ذَلِكَ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أُنْسِيتُهُ، فَأَقْبَلَتِ السَّوْدَاءُ فَسَأَلْتُهَا أَنْ تُعِيدَهُ فَلَمْ تَفْعَلْ إِلَّا بِدِرْهَمَيْنِ، ثُمَّ قَالَتْ: كَأَنَّكَ تَسْتَكْثِرُ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، كَأَنِّي بِكَ وَقَدْ أَخَذْتَ بِهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِينَارٍ. قَالَ ابْنُ جَامِعٍ: فَغَنَّيْتُهُ لَيْلَةً لِلرَّشِيدِ فَأَعْطَانِي أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ

اسْتَعَادَنِيهِ ثَلَاثًا أُخْرَى وَأَعْطَانِي ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَتَبَسَّمْتُ فَقَالَ: مِمَّ تَتَبَسَّمُ ؟ فَذَكَرْتُ لَهُ الْقِصَّةَ، فَضَحِكَ وَأَلْقَى إِلَيَّ كِيسًا آخَرَ فِيهِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَقَالَ: لَا تُكْذِبِ السَّوْدَاءَ.
وَحُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: أَصْبَحْتُ يَوْمًا بِالْمَدِينَةِ وَلَيْسَ مَعِي إِلَّا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، فَإِذَا جَارِيَةٌ عَلَى رَقَبَتِهَا جَرَّةٌ تُرِيدُ الرَّكِيَّ، وَهِيَ تَسْعَى وَتَتَرَنَّمُ بِصَوْتٍ شَجِيٍّ، وَتَقُولُ:
شَكَوْنَا إِلَى أَحْبَابِنَا طُولَ لَيْلِنَا فَقَالُوا لَنَا مَا أَقْصَرَ اللَّيْلَ عِنْدَنَا
وَذَاكَ لِأَنَّ النَّوْمَ يَغْشَى عُيُونَهُمْ سِرَاعًا وَلَا يَغْشَى لَنَا النَّوْمُ أَعْيُنَا
إِذَا مَا دَنَا اللَّيْلُ الْمُضِرُّ لِذِي الْهَوَى جَزِعْنَا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ إِذَا دَنَا
فَلَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُلَاقُونَ مِثْلَ مَا نُلَاقِي لَكَانُوا فِي الْمَضَاجِعِ مِثْلَنَا
قَالَ: فَاسْتَعَدْتُهُ مِنْهَا وَأَعْطَيْتُهَا الثَّلَاثَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالَتْ: لَتَأْخُذَنَّ بَدَلَهَا أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَلْفَ دِينَارٍ، وَأَلْفَ دِينَارٍ. فَأَعْطَانِي الرَّشِيدُ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ فِي لَيْلَةٍ عَلَى ذَلِكَ الصَّوْتِ.
بَكْرُ بْنُ النَّطَّاحِ أَبُو وَائِلٍ الْحَنَفِيُّ الْبَصْرِيُّ، الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، نَزَلَ بَغْدَادَ فِي زَمَنِ الرَّشِيدِ، وَكَانَ يُعَاشِرُ أَبَا الْعَتَاهِيَةِ.

قَالَ أَبُو هِفَّانَ: أَشْعَرُ أَهْلِ الْغَزَلِ مِنَ الْمُحْدَثِينَ أَرْبَعَةٌ؛ أَوَّلُهُمْ بَكْرُ بْنُ النَّطَّاحِ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ رَجَاءٍ يَقُولُ: اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ وَمَعَهُمْ بَكْرُ بْنُ النَّطَّاحِ يَتَنَاشَدُونَ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ طِوَالِهِمْ أَنْشَدَ بَكْرُ بْنُ النَّطَّاحِ لِنَفْسِهِ:
مَا ضَرَّهَا لَوْ كَتَبَتْ بِالرِّضَا فَجَفَّ جَفْنُ الْعَيْنِ أَوْ أُغْمِضَا
شَفَاعَةٌ مَرْدُودَةٌ عِنْدَهَا فِي عَاشِقٍ تَنْدَمُ لَوْ قَدْ قَضَى
يَا نَفْسُ صَبْرًا وَاعْلَمِي أَنَّ مَا يُأْمَلُ مِنْهَا مِثْلَ مَا قَدْ مَضَى
لَمْ تَمْرَضِ الْأَجْفَانُ مِنْ قَاتِلٍ بِلَحْظِهِ إِلَّا لِأَنْ أَمْرَضَا
قَالَ: فَابْتَدَرُوهُ يُقَبِّلُونَ رَأْسَهُ.
وَلَمَّا مَاتَ رَثَاهُ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ فَقَالَ:
مَاتَ ابْنُ نَطَّاحٍ أَبُو وَائِلٍ بَكْرٌ فَأَمْسَى الشِّعْرُ قَدْ بَانَا
بُهْلُولٌ الْمَجْنُونُ كَانَ يَأْوِي إِلَى مَقَابِرِ الْكُوفَةِ وَكَانَ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَاتٍ حَسَنَةٍ، وَقَدْ لَقِيَ الرَّشِيدَ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى الْحَجِّ، فَوَعَظَهُ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ.

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَزْدِيُّ الْكُوفِيُّ، سَمِعَ الْأَعْمَشَ وَابْنَ جُرَيْجٍ، وَشُعْبَةَ، وَمَالِكًا، وَخَلْقًا سِوَاهُمْ.
وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَقَدِ اسْتَدْعَاهُ الرَّشِيدُ لِيُوَلِّيَهُ الْقَضَاءَ، فَقَالَ: لَا أَصْلُحُ. وَامْتَنَعَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَكَانَ قَدْ سَأَلَ قَبْلَهُ وَكِيعًا، فَامْتَنَعَ أَيْضًا، فَطَلَبَ حَفْصَ بْنَ غِيَاثٍ فَقَبِلَ.
وَأَطْلَقَ لِكُلِّ وَاحِدٍ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ؛ عِوَضًا عَنْ كُلْفَةِ السَّفَرِ، فَلَمْ يَقْبَلْ وَكِيعٌ، وَلَا ابْنُ إِدْرِيسَ، وَقَبِلَ ذَلِكَ حَفْصٌ، فَحَلَفَ ابْنُ إِدْرِيسَ لَا يُكَلِّمُهُ أَبَدًا.
وَحَجَّ الرَّشِيدُ فِي بَعْضِ السِّنِينَ فَاجْتَازَ بِالْكُوفَةِ وَمَعَهُ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ وَالْأَمِينُ وَالْمَأْمُونُ، فَأَمَرَ الرَّشِيدُ بِجَمْعِ شُيُوخِ الْحَدِيثِ لِيُسْمِعُوا وَلَدَيْهِ، فَاجْتَمَعُوا إِلَّا ابْنَ إِدْرِيسَ هَذَا، وَعِيسَى بْنَ يُونُسَ، فَرَكِبَ الْأَمِينُ وَالْمَأْمُونُ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَمَاعِهِمَا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ فَأَسْمَعَهُمَا مِائَةَ حَدِيثٍ، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: يَا عَمِّ، إِنْ أَذِنْتَ لِي أَعَدْتُهَا مِنْ حِفْظِي. فَأَذِنَ لَهُ، فَأَعَادَهَا مِنْ حِفْظِهِ كَمَا سَمِعَهَا، فَتَعَجَّبَ لِحِفْظِهِ ابْنُ إِدْرِيسَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ الْمَأْمُونُ بِمَالٍ، فَلَمْ

يَقْبَلْ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ سَارَا إِلَى عِيسَى بْنِ يُونُسَ، فَسَمَّعَا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ الْمَأْمُونُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، فَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَظَنَّ أَنَّهُ اسْتَقَلَّهَا فَأَضْعَفَهَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ وَلَا إِهْلِيلَجَةَ، لَوْ مَلَأْتَ لِي الْمَسْجِدَ مَالًا إِلَى سَقْفِهِ مَا قَبِلْتُ مِنْهُ شَيْئًا عَلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَمَّا احْتُضِرَ ابْنُ إِدْرِيسَ بَكَتِ ابْنَتُهُ، فَقَالَ: لَا تَبْكِي فَقَدْ خَتَمْتُ الْقُرْآنَ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَرْبَعَةَ آلَافِ خَتْمَةٍ.
صَعْصَعَةُ بْنُ سَلَّامٍ وَيُقَالُ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدِّمَشْقِيُّ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ فَاسْتَوْطَنَهَا فِي زَمَنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَابْنِهِ هِشَامٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَ عِلْمَ الْحَدِيثِ وَمَذْهَبَ الْأَوْزَاعِيِّ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَوَلِيَ الصَّلَاةَ بِقُرْطُبَةَ، وَفِي أَيَّامِهِ غُرِسَتِ الْأَشْجَارُ بِالْمَسْجِدِ الْجَامِعِ هُنَاكَ، كَمَا يَرَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّامِيُّونَ، وَيَكْرَهُهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ.
وَقَدْ رَوَى عَنْ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ؛ مِنْهُمْ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ الْفَقِيهُ، وَذَكَرَهُ فِي كِتَابِ

" الْفُقَهَاءِ " وَذَكَرَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي تَارِيخِهِ " " تَارِيخِ مِصْرَ " " وَالْحُمَيْدِيُّ فِي " " تَارِيخِ الْأَنْدَلُسِ " " وَحَرَّرَ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ.
وَحَكَى عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ حَزْمٍ أَنَّ صَعْصَعَةَ هَذَا أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَ مَذْهَبَ الْأَوْزَاعِيِّ إِلَى الْأَنْدَلُسِ.
وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَ عِلْمَ الْحَدِيثِ إِلَيْهَا. وَذَكَرَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ قَرِيبًا مِنْ سَنَةِ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَالَّذِي حَرَّرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَثْبَتُ.
عَلِيُّ بْنُ ظَبْيَانَ، أَبُو الْحَسَنِ الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ، قَاضِي الشَّرْقِيَّةِ مِنْ بَغْدَادَ زَمَنَ الرَّشِيدِ، كَانَ ثِقَةً عَالِمًا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ وَلَّاهُ الرَّشِيدُ قَاضِيَ الْقُضَاةِ، وَكَانَ الرَّشِيدُ يَخْرُجُ مَعَهُ إِذَا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، مَاتَ بِقَرْمِيسِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
الْعَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ طَلْحَةَ، الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ كَانَ مِنْ

عَرَبِ خُرَاسَانَ وَنَشَأَ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ لَطِيفًا ظَرِيفًا مَقْبُولًا، حَسَنَ الشَّعْرِ.
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ: لَوْ قِيلَ لِي مَنْ أَحْسَنُ النَّاسِ شِعْرًا تَعْرِفُهُ ؟ لَقُلْتُ: الْعَبَّاسُ
قَدْ سَحَّبَ النَّاسُ أَذْيَالَ الظُّنُونِ بِنَا وَفَرَّقَ النَّاسُ فِينَا قَوْلَهُمْ فِرَقَا
فَكَاذِبٌ قَدْ رَمَى بِالْحُبِّ غَيْرَكُمْ وَصَادِقٌ لَيْسَ يَدْرِي أَنَّهُ صَدَقَا
وَقَدْ طَلَبَهُ الرَّشِيدُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ، فَانْزَعَجَ لِذَلِكَ وَخَافَ نِسَاؤُهُ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّشِيدِ قَالَ لَهُ: وَيْحَكَ، إِنَّهُ قَدْ عَنَّ لِي بَيْتٌ فِي جَارِيَةٍ لِي، فَأَحْبَبْتُ أَنْ تَشْفَعَهُ بِمِثْلِهِ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا خِفْتُ قَطُّ أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ اللَّيْلَةِ. فَقَالَ: وَلِمَ ؟ فَذَكَرَ لَهُ دُخُولَ الْحَرَسِ عَلَيْهِ فِي اللَّيْلِ، ثُمَّ جَلَسَ حَتَّى سَكَنَ رَوْعُهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا قُلْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ:
جِنَانٌ قَدْ رَأَيْنَاهَا فَلَمْ نَرَ مِثْلَهَا بَشَرَا
فَقَالَ الْعَبَّاسُ:
يَزِيدُكَ وَجْهُهَا حُسْنًا إِذَا مَا زِدْتَهُ نَظَرَا
فَقَالَ الرَّشِيدُ: زِدْ. فَقَالَ:
إِذَا مَا اللَّيْلُ مَالَ عَلَيْ كَ بِالْإِظْلَامِ وَاعْتَكَرَا
وَدَجَّ فَلَمْ تَرَ قَمَرًا فَأَبْرِزْهَا تَرَى قَمَرَا

فَقَالَ: إِنَّا قَدْ رَأَيْنَاهَا وَقَدْ أَمَرْنَا لَكَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَمِنْ شَعْرِهِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ وَأَثْبَتَهُ فِي سِلْكِ الشُّعَرَاءِ بِسَبَبِهِ قَوْلُهُ:
أَبْكَي الَّذِينَ أَذَاقُونِي مَوَدَّتَهُمْ حَتَّى إِذَا أَيْقَظُونِي لِلْهَوَى رَقَدُوا
وَاسْتَنْهَضُونِي فَلَمَّا قُمْتُ مُنْتَصِبًا بِثِقْلِ مَا حَمَّلُونِي مِنْهُمْ قَعَدُوا
وَلَهُ أَيْضًا:
وَحَدَّثْتَنِي يَا سَعْدُ عَنْهَا فِزِدْتَنِي جُنُونًا فَزِدْنِي مِنْ حَدِيثِكَ يَا سَعْدُ
هَوَاهَا هَوًى لَمْ يَعْرِفِ الْقَلْبُ غَيْرَهُ فَلَيْسَ لَهُ قَبْلٌ وَلَيْسَ لَهُ بَعْدُ
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: دَخَلْتُ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ بِالْبَصْرَةِ وَهُوَ طَرِيحٌ عَلَى فِرَاشِهِ يَجُودُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
يَا بَعِيدَ الدَّارِ عَنْ وَطَنِهِ مُفْرَدًا يَبْكِي عَلَى شَجَنِهْ
كُلَّمَا شَدَّ النُّجَاءُ بِهِ زَادَتِ الْأَسْقَامُ فِي بَدَنِهْ
ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ انْتَبَهَ بِصَوْتِ طَائِرٍ عَلَى شَجَرَةٍ فَقَالَ:

وَلَقَدْ زَادَ الْفَؤَادَ شَجًى هَاتِفٌ يَبْكِي عَلَى فَنَنِهْ
شَاقَهُ مَا شَاقَنِي فَبَكَى كُلُّنَا يَبْكِي عَلَى سَكَنِهْ
قَالَ: ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أُخْرَى، فَحَرَّكْتُهُ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ.
قَالَ الصُّولِيُّ: كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَحَكَى الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ بَعْدَهَا.
وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ بَقِيَ بَعْدَ الرَّشِيدِ
عِيسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، أَخُو زُبَيْدَةَ، كَانَ نَائِبًا عَلَى الْبَصْرَةِ فِي أَيَّامِ الرَّشِيدِ، فَمَاتَ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ السَّنَةِ.
الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، أَخُو جَعْفَرٍ وَإِخْوَتِهِ، كَانَ هُوَ وَالرَّشِيدُ يَتَرَاضَعَانِ، أَرْضَعَتِ الْخَيْزُرَانُ فَضْلًا هَذَا وَأَرْضَعَتْ أُمُّ الْفَضْلِ - وَهِيَ زُبَيْدَةُ بِنْتُ سِنِينَ بَرْبَرِيَّةٌ - هَارُونَ الرَّشِيدَ وَكَانَتْ زُبَيْدَةُ هَذِهِ مِنْ

مُوَلَّدَاتِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
كَفَى لَكَ فَضْلًا أَنَّ أَفْضَلَ حُرَّةٍ غَذَتْكَ بِثَدِيٍ وَالْخَلِيفَةَ وَاحِدِ
لَقَدْ زِنْتَ يَحْيَى فِي الْمَشَاهِدِ كُلِّهَا كَمَا زَانَ يَحْيَى خَالِدًا فِي الْمَشَاهِدِ
قَالُوا: وَكَانَ الْفَضْلُ أَكْرَمَ مِنْ أَخِيهِ جَعْفَرٍ، وَلَكِنْ كَانَ فِيهِ كِبْرٌ شَدِيدٌ، وَكَانَ عَبُوسًا، وَكَانَ جَعْفَرٌ أَحْسَنَ بِشْرًا مِنْهُ، وَأَطْلَقَ وَجْهًا، وَأَقَلَّ عَطَاءً، وَكَانَ النَّاسُ إِلَيْهِ أَمْيَلَ.
وَقَدْ وَهَبَ الْفَضْلُ لِطَبَّاخِهِ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَعَاتَبَهُ أَبُوهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا أَبَتِ، إِنَّ هَذَا كَانَ يَصْحَبُنِي فِي الْعُسْرِ وَالْعَيْشِ الْخَشِنِ، وَاسْتَمَرَّ مَعِي فِي هَذَا الْحَالِ فَأَحْسَنَ صُحْبَتِي، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ الْكِرَامَ إِذَا مَا أُسْهَلُوا ذَكَرُوا مَنْ كَانَ يُؤْنِسُهُمْ فِي الْمَنْزِلِ الْخَشِنِ
وَوَهَبَ يَوْمًا لِبَعْضِ الْأُدَبَاءِ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَبَكَى الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ: مِمَّ تَبْكِي، أَسْتَقْلَلْتَهَا ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ؛ وَلَكِنِّي أَبْكِي أَسَفًا أَنَّ الْأَرْضَ تُوَارِي مِثْلَكَ !

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ عَنْ أَبِيهِ: أَصْبَحْتُ يَوْمًا لَا أَمْلِكُ شَيْئًا وَلَا عَلَفَ الدَّابَّةِ، فَقَصَدْتُ الْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى فَإِذَا هُوَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ فِي مَوْكِبٍ مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا رَآنِي رَحَّبَ بِي، وَقَالَ: هَلُمَّ. فَسِرْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ سَمِعَ غُلَامًا يَدْعُو جَارِيَةً مِنْ دَارٍ، وَإِذَا هِيَ بَاسِمِ جَارِيَةٍ لَهُ يُحِبُّهَا، فَانْزَعَجَ لِذَلِكَ وَشَكَا إِلَيَّ مَا لَقِيَ مِنْ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَصَابَكَ مَا أَصَابَ أَخَا بَنِي عَامِرٍ حَيْثُ يَقُولُ:
وَدَاعٍ دَعَا إِذْ نَحْنُ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى فَهَيَّجَ أَحْزَانَ الْفُؤَادِ وَلَا يَدْرِي
دَعَا بِاسْمِ لَيْلَى غَيْرَهَا فَكَأَنَّمَا أَطَارَ بِلَيْلَى طَائِرًا كَانَ فِي صَدْرِي
فَقَالَ: اكْتُبْ لِي هَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ. قَالَ: فَذَهَبْتُ إِلَى بَقَّالٍ، فَرَهَنْتُ عِنْدَهُ خَاتِمِي عَلَى ثَمَنِ وَرَقَةٍ، وَكَتَبْتُهُمَا لَهُ فَأَخَذَهُمَا وَقَالَ: انْطَلِقْ رَاشِدًا. فَرَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي، فَقَالَ لِي غُلَامِي: هَاتِ خَاتِمَكَ حَتَّى نَرْهَنَهُ عَلَى طَعَامٍ لَنَا وَعَلَفٍ لِلدَّابَّةِ. فَقُلْتُ: إِنِّي رَهَنْتُهُ. فَمَا أَمْسَيْنَا حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ الْفَضْلُ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَعَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ سَلَفًا لِشَهْرَيْنِ مِنْ رِزْقٍ أَجْرَاهُ عَلَيَّ.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَكَابِرِ، فَأَكْرَمَهُ الْفَضْلُ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ،

فَشَكَا إِلَيْهِ الرَّجُلُ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُكَلِّمَ فِي ذَلِكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: نَعَمْ، وَكَمْ دَيْنُكَ ؟ قَالَ: ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ مَهْمُومٌ لِضَعْفِ رَدِّهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَالَ إِلَى بَعْضِ إِخْوَانِهِ، فَاسْتَرَاحَ عِنْدَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَإِذَا الْمَالُ قَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
لَكَ الْفَضْلُ يَا فَضْلُ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ وَمَا كُلُّ مَنْ يُدْعَى بِفَضْلٍ لَهُ الْفَضْلُ
رَأَى اللَّهُ فَضْلًا مِنْكَ فِي النَّاسِ وَاسِعًا فَسَمَّاكَ فَضْلًا فَالْتَقَى الِاسْمُ وَالْفِعْلُ
وَقَدْ كَانَ الْفَضْلُ أَكْبَرَ رُتْبَةً مِنْ جَعْفَرٍ، وَلَكِنَّ جَعْفَرًا أَحْظَى عِنْدَ الرَّشِيدِ مِنْهُ وَأَخَصُّ. وَقَدْ وَلِيَ الْفَضْلُ أَعْمَالًا كِبَارًا، مِنْهَا نِيَابَةُ خُرَاسَانَ وَغَيْرُهَا.
فَلَمَّا قَتَلَ الرَّشِيدُ جَعْفَرًا وَحَبَسَ الْبَرَامِكَةَ، جَلَدَ الْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ مِائَةَ سَوْطٍ، وَخَلَّدَهُ فِي السِّجْنِ حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَبْلَ الرَّشِيدِ بِشُهُورٍ خَمْسَةٍ بِالرَّقَّةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ بِالْقَصْرِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ أُخْرِجَتْ جِنَازَتُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا النَّاسُ، وَدُفِنَ هُنَاكَ وَلَهُ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ ثِقَلٌ أَصَابَهُ فِي لِسَانِهِ اشْتَدَّ بِهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ وَتُوُفِّيَ قَبْلَ أَذَانِ الْغَدَاةِ مِنْ يَوْمِ السَّبْتِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ.

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ تَرْجَمَتَهُ، وَذَكَرَ طَرَفًا صَالِحًا مِنْ مَحَاسِنِهِ وَمَكَارِمِهِ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ بَلْخَ حِينَ كَانَ نَائِبًا عَلَى خُرَاسَانَ وَكَانَ بِهَا بَيْتُ النَّارِ الَّتِي كَانَتْ تَعْبُدُهَا الْمَجُوسُ، وَقَدْ كَانَ جَدُّهُ بَرْمَكُ مِنْ خُدَّامِهَا، فَهَدَمَ بَعْضَهُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ هَدْمِهِ كُلِّهِ؛ لِقُوَّةِ إِحْكَامِهِ وَبَنَى مَكَانَهُ مَسْجِدًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَمَثَّلُ فِي السِّجْنِ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
إِلَى اللَّهِ فِيمَا نَالَنَا نَرْفَعُ الشَّكْوَى فَفِي يَدِهِ كَشْفُ الْمَضَرَّةِ وَالْبَلْوَى
خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنْ أَهْلِهَا فَلَا نَحْنُ فِي الْأَمْوَاتِ فِيهَا وَلَا الْأَحْيَا
إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا
وَمُحَمَّدُ بْنُ أُمَيَّةَ، الشَّاعِرُ الْكَاتِبُ، وَهُوَ مِنْ بَيْتٍ كُلُّهُمْ شُعَرَاءُ، وَقَدِ اخْتَلَطَ أَشْعَارُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ وَلَهُ شِعْرٌ رَائِقٌ، وَمَدِيحٌ فَائِقٌ.

مَنْصُورُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ بْنِ سَلَمَةَ، أَبُو الْفَضْلِ النُّمَيْرِيُّ، الشَّاعِرُ، امْتَدَحَ الرَّشِيدَ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْجَزِيرَةِ وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ، وَيُقَالُ لِجَدِّهِ: مُطْعِمُ الْكَبْشِ الرَّخَمَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ أَضَافَ قَوْمًا، فَجَعَلَتِ الرَّخَمُ تُحَمْلِقُ حَوْلَهُمْ، فَأَمَرَ بِكَبْشٍ يُذْبَحُ لِلرَّخَمِ حَتَّى لَا يَتَأَذَّى بِهَا أَضْيَافُهُ، فَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ لِذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَبُوكَ زَعِيمُ بَنِي قَاسِطٍ وَخَالُكَ ذُو الْكَبْشِ يَقْرِي الرَّخَمَ
وَلَهُ أَشْعَارٌ حَسَنَةٌ، وَكَانَ يَرْوِي عَنْ كُلْثُومِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ شَيْخَهُ الَّذِي أَخَذَ عَنْهُ الْغِنَاءَ.
يُوسُفُ بْنُ الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ السَّرِيِّ بْنِ يَحْيَى، وَيُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَنَظَرَ فِي الرَّأْيِ، وَتَفَقَّهَ، وَوَلِيَ قَضَاءَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ بِبَغْدَادَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ، عَنْ أَمْرِ الرَّشِيدِ. تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَهُوَ قَاضٍ بِبَغْدَادَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا تُوُفِّيَ الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى، وَقَدْ أَرَّخَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَفَاتَهُ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ، وَتِسْعِينَ، وَمِائَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ سَعِيدٌ الْجَوْهَرِيُّ. قَالَ: وَفِيهَا وَافَى الرَّشِيدُ جُرْجَانَ وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ خَزَائِنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى تُحْمَلُ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ بَعِيرٍ، وَذَلِكَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا، ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْهَا إِلَى طُوسَ وَهُوَ عَلِيلٌ، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ فِيهَا.
وَفِيهَا تَوَاقَعَ هَرْثَمَةُ نَائِبُ الْعِرَاقِ هُوَ وَرَافِعُ بْنُ اللَّيْثِ، فَكَسَرَهُ هَرْثَمَةُ، وَافْتَتَحَ بُخَارَى، وَأَسَرَ أَخَاهُ بَشِيرَ بْنَ اللَّيْثِ، فَبَعَثَهُ إِلَى الرَّشِيدِ، وَهُوَ بِطُوسَ مُثْقَلٌ عَنِ السَّيْرِ، فَلَمَّا أُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَرَعَ يَتَرَقَّقُ لَهُ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، بَلْ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي إِلَّا أَنْ أُحَرِّكَ شَفَتَيْ بِقَتْلِكَ لَقَتَلْتُكَ. ثُمَّ دَعَا بِقَصَّابٍ، فَجَزَّأَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ عُضْوًا، ثُمَّ رَفَعَ الرَّشِيدُ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُمَكِّنَهُ

مِنْ رَافِعٍ كَمَا مَكَّنَهُ مِنْ أَخِيهِ بَشِيرٍ

ذِكْرُ وَفَاةِ هَارُونَ الرَّشِيدِ
كَانَ قَدْ رَأَى، وَهُوَ بِالرَّقَّةِ رُؤْيَا أَفْزَعَتْهُ، وَغَمَّهُ ذَلِكَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بْنُ بَخْتَيْشُوعَ، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ كَأَنَّ كَفًّا فِيهَا تُرْبَةٌ حَمْرَاءُ خَرَجَتْ مِنْ تَحْتِ سَرِيرِي هَذَا، وَقَائِلًا يَقُولُ هَذِهِ تُرْبَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَهَوَّنَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ أَمْرَهَا، وَقَالَ: هَذِهِ مِنْ أَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ، وَمِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، فَتَنَاسَهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا سَارَ يُرِيدُ خُرَاسَانَ وَمَرَّ بِطُوسَ، وَاعْتَقَلَتْهُ الْعِلَّةُ بِهَا، ذَكَرَ رُؤْيَاهُ الَّتِي كَانَ رَأَى؛ فَهَالَهُ ذَلِكَ، وَانْزَعَجَ جِدًّا فَدَخَلَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِجِبْرِيلَ: وَيْحَكَ ؟ أَمَا تَذْكُرُ مَا قَصَصْتُهُ عَلَيْكَ مِنَ الرُّؤْيَا ؟ فَقَالَ: بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانَ مَاذَا ؟ فَدَعَا مَسْرُورًا الْخَادِمَ، وَقَالَ: ائْتِنِي بِشَيْءٍ مِنْ تُرْبَةِ هَذِهِ الْأَرْضِ. فَجَاءَهُ بِتُرْبَةٍ حَمْرَاءَ فِي يَدِهِ، فَلَمَّا رَآهَا قَالَ: وَاللَّهِ هَذِهِ الْكَفُّ الَّتِي رَأَيْتُ، وَالتُّرْبَةُ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا. قَالَ جِبْرِيلُ: فَوَاللَّهِ مَا أَتَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثٌ حَتَّى تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ.

وَقَدْ أَمَرَ بِحَفْرِ قَبْرِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فِي الدَّارِ الَّتِي كَانَ فِيهَا، وَهِيَ دَارُ حُمَيْدِ بْنِ أَبِي غَانِمٍ الطَّائِيِّ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى قَبْرِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: ابْنَ آدَمَ تَصِيرُ إِلَى هَذَا ! ثُمَّ أَمَرَ بِقُرَّاءٍ فَقَرَءُوا فِي الْقَبْرِ الْقُرْآنَ حَتَّى خَتَمُوهُ، وَهُوَ فِي مَحَفَّةٍ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ احْتَبَى بِمُلَاءَةٍ وَجَلَسَ يُقَاسِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوِ اضْطَجَعْتَ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْكَ. فَضَحِكَ ضَحِكَ صَحِيحٍ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
وَإِنِّي مِنْ قَوْمٍ كِرَامٍ يَزِيدُهُمْ شِمَاسًا، وَصَبْرًا شِدَّةُ الْحَدَثَانِ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، وَقِيلَ: لَيْلَةَ الْأَحَدِ. مُسْتَهَلَّ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، عَنْ خَمْسٍ، وَقِيلَ: سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. فَكَانَ مُلْكُهُ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً.

وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ
هُوَ هَارُونُ الرَّشِيدُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ابْنُ الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَنْصُورِ أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ، وَيُقَالُ: أَبُو جَعْفَرٍ. وَأُمُّهُ الْخَيْزُرَانُ أُمُّ وَلَدٍ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ، وَقِيلَ: سَبْعٍ، وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ وُلِدَ

سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ مُوسَى الْهَادِي فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ، بِعَهْدٍ مِنْ أَبِيهِ الْمَهْدِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ.
رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، وَحَدَّثَ عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اتَّقُوا النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ أَوْرَدَهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ. وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ ابْنُهُ، وَسُلَيْمَانُ الْهَاشِمِيُّ، وَالِدُ إِسْحَاقَ، وَنُبَاتَةُ بْنُ عَمْرٍو. وَكَانَ الرَّشِيدُ أَبْيَضَ طَوِيلًا سَمِينًا جَمِيلًا.
وَقَدْ غَزَا الصَّائِفَةَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ مِرَارًا، وَعَقَدَ الْهُدْنَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالرُّومِ بَعْدَ مُحَاصَرَتِهِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَقَدْ لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ جَهْدًا جَهِيدًا، وَخَوْفًا شَدِيدًا، وَكَانَ الصُّلْحُ مَعَ امْرَأَةِ أَلْيُونَ، وَهِيَ الْمُلَقَّبَةُ بِأُغُسْطَةَ عَلَى حَمْلٍ كَثِيرٍ تَبْذُلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ عَامٍ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي حَدَا أَبَاهُ عَلَى أَنْ بَايَعَ لَهُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ بَعْدَ أَخِيهِ مُوسَى الْهَادِي، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ. ثُمَّ لَمَّا أَفْضَتِ الْخِلَافَةُ إِلَيْهِ بَعْدَ أَخِيهِ فِي سَنَةِ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ، كَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ سِيرَةً، وَأَكْثَرِهِمْ غَزْوًا وَحَجًّا بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا قَالَ فِيهِ أَبُو السَّعْلِيِّ:

فَمَنْ يَطْلُبْ لِقَاءَكَ أَوْ يُرِدْهُ فَبِالْحَرَمَيْنِ أَوْ أَقْصَى الثُّغُورِ فَفِي أَرْضِ الْعَدُوِّ عَلَى طِمِرٍّ
وَفِي أَرْضِ الْبَنِيَّةِ فَوْقَ كُورِ وَمَا حَازَ الثُّغُورَ سِوَاكَ خَلْقٌ
مِنَ الْمُسْتَخْلَفِينَ عَلَى الْأُمُورِ
وَكَانَ يَتَصَدَّقُ مِنْ صُلْبِ مَالِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَإِذَا حَجَّ أَحَجَّ مَعَهُ مِائَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَبْنَائِهِمْ، وَإِذَا لَمْ يَحُجَّ أَحَجَّ ثَلَاثَمِائَةٍ بِالنَّفَقَةِ السَّابِغَةِ، وَالْكُسْوَةِ التَّامَّةِ، وَكَانَ يُحِبُّ التَّشَبُّهَ بِجَدِّهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ إِلَّا فِي الْعَطَاءِ، فَإِنَّهُ كَانَ سَرِيعَ الْعَطَاءِ جَزِيلَهُ، وَكَانَ يُحِبُّ الْفُقَهَاءَ، وَالشُّعَرَاءَ، وَيُعْطِيهِمْ كَثِيرًا، وَلَا يَضِيعُ لَدَيْهِ بِرٌّ وَلَا مَعْرُوفٌ، وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَكَانَ يُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ رَكْعَةٍ تَطَوُّعًا، إِلَى أَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا، إِلَّا أَنْ تَعْرِضَ لَهُ عِلَّةٌ.
وَكَانَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ الْمَدَنِيُّ هُوَ الَّذِي يُضْحِكُهُ، وَكَانَ عِنْدَهُ فَضِيلَةٌ بِأَخْبَارِ الْحِجَازِ، وَغَيْرِهَا، وَكَانَ الرَّشِيدُ قَدْ أَنْزَلَهُ فِي قَصْرِهِ، وَخَلَطَهُ بِأَهْلِهِ. نَبَّهَهُ الرَّشِيدُ يَوْمًا إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَامَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ أَدْرَكَ الرَّشِيدَ، وَهُوَ يَقْرَأُ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي [ يس: 22 ] فَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: لَا أَدْرِي وَاللَّهِ. فَضَحِكَ الرَّشِيدُ، وَقَطَعَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَيْحَكَ ! اجْتَنِبِ الصَّلَاةَ وَالْقُرْآنَ،

وَلَكَ مَا عَدَا ذَلِكَ.
وَدَخَلَ يَوْمًا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَلَى الرَّشِيدِ، وَمَعَهُ بَرْنِيَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ فِيهَا غَالِيَةٌ مِنْ أَحْسَنِ الطِّيبِ، فَجَعَلَ يَمْدَحُهَا، وَيَزِيدُ فِي شُكْرِهَا، وَسَأَلَ مِنَ الرَّشِيدِ أَنْ يَقْبَلَهَا مِنْهُ فَقَبِلَهَا، فَاسْتَوْهَبَهَا مِنْهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ فَوَهَبَهَا لَهُ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: وَيَحَكَ ! جِئْتُ بِشَيْءٍ مَنَعْتُهُ نَفْسِي، وَآثَرْتُ بِهِ سَيِّدِي فَأَخَذْتَهُ. فَحَلَفَ ابْنُ مَرْيَمَ لَيُطَيِّبَنَّ بِهِ اسْتَهُ، ثُمَّ أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا فَطَلَى بِهِ اسْتَهُ، وَدَهَنَ جَوَارِحَهُ كُلَّهَا مِنْهَا، وَالرَّشِيدُ لَا يَتَمَالَكُ نَفْسَهُ مِنَ الضَّحِكِ. ثُمَّ قَالَ لِخَادِمٍ قَائِمٍ يُقَالُ لَهُ خَاقَانُ: اطْلُبْ لِي غُلَامِي. فَقَالَ الرَّشِيدُ: ادْعُ لَهُ غُلَامَهُ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ هَذِهِ الْغَالِيَةَ، وَاذْهَبْ بِهَا إِلَى سِتِّكَ فَمُرْهَا فَلْتُطَيِّبْ مِنْهَا اسْتَهَا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْهَا فَأَنِيكَهَا. فَذَهَبَ الضَّحِكُ بِالرَّشِيدِ كُلَّ مَذْهَبٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ: جِئْتَ بِهَذِهِ الْغَالِيَةِ تَمْدَحُهَا عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي مَا تُمْطِرُ السَّمَاءُ شَيْئًا، وَلَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ تَحْتَ تَصَرُّفِهِ، وَفِي يَدِهِ ؟ وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنْ قِيلَ لِمَلَكِ الْمَوْتِ: مَا أَمَرَكَ بِهِ هَذَا فَأَنْفِذْهُ. وَأَنْتَ تَمْدَحُ هَذِهِ الْغَالِيَةَ عِنْدَهُ كَأَنَّهُ بَقَّالٌ، أَوْ خَبَّازٌ، أَوْ طَبَّاخٌ، أَوْ تَمَّارٌ. فَكَادَ الرَّشِيدُ يَهْلِكُ مِنْ شِدَّةِ

الضَّحِكِ ثُمَّ أَمَرَ لِابْنِ أَبِي مَرْيَمَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَقَدْ شَرِبَ الرَّشِيدُ يَوْمًا دَوَاءً فَسَأَلَهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَنْ يَلِيَ الْحِجَابَةَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَمَهْمَا حَصَلَ لَهُ فَهُوَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَلَّاهُ الْحِجَابَةَ، فَجَاءَتِ الرُّسُلُ بِالْهَدَايَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ عِنْدِ زُبَيْدَةَ، وَالْبَرَامِكَةِ، وَكِبَارِ الْأُمَرَاءِ، فَكَانَ حَاصِلُهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ سِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَهُ الرَّشِيدُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَمَّا تَحَصَّلَ، فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: فَأَيْنَ نَصِيبِي ؟ قَالَ: مَعْزُولٌ. قَالَ: قَدْ صَالَحْتُكَ عَلَيْهِ بِعَشَرَةِ آلَافِ تُفَّاحَةٍ.
وَقَدِ اسْتَدْعَى إِلَيْهِ أَبَا مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرَ مُحَمَّدَ بْنَ خَازِمٍ لِيَسْمَعَ مِنْهُ الْحَدِيثَ، قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: مَا ذَكَرْتُ عِنْدَهُ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ إِلَّا قَالَ: صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِي. وَإِذَا سَمِعَ حَدِيثًا فِيهِ مَوْعِظَةٌ يَبْكِي حَتَّى يَبُلَّ الثَّرَى. وَأَكَلْتُ عِنْدَهُ يَوْمًا ثُمَّ قُمْتُ لِأَغْسِلَ يَدِي فَصَبَّ الْمَاءَ عَلَيَّ، وَأَنَا لَا أَرَاهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُعَاوِيَةَ، أَتَدْرِي مَنْ يَصُبُّ عَلَيْكَ ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: أَنَا. فَدَعَا لَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ تَعْظِيمَ الْعِلْمِ، وَقَدْ حَدَّثَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ يَوْمًا عَنِ

الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِحَدِيثِ: " احْتَجَّ آدَمُ، وَمُوسَى " " فَقَالَ عَمُّ الرَّشِيدِ: أَيْنَ الْتَقَيَا يَا أَبَا مُعَاوِيَةَ ؟ فَغَضِبَ الرَّشِيدُ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: أَتَعْتَرِضُ عَلَى الْحَدِيثِ ؟ ! عَلَيَّ بِالنَّطْعِ، وَالسَّيْفِ. فَأُحْضِرَ ذَلِكَ، فَقَامَ النَّاسُ إِلَيْهِ يَشْفَعُونَ فِيهِ، فَقَالَ الرَّشِيدُ: هَذِهِ زَنْدَقَةٌ. ثُمَّ أَمَرَ بِسَجْنِهِ، وَقَالَ: لَا يَخْرُجُ حَتَّى يُخْبِرَنِي مَنْ أَلْقَى إِلَيْهِ هَذَا. فَأَقْسَمَ بِالْأَيْمَانِ الْمُغَلَّظَةِ مَا قَالَ لَهُ أَحَدٌ وَإِنَّمَا كَانَتْ بَادِرَةً مِنِّي، فَأَطْلَقَهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَخَلْتُ عَلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلٌ مَضْرُوبُ الْعُنُقِ، وَالسَّيَّافُ يَمْسَحُ سَيْفَهُ فِي قَفَا الرَّجُلِ الْمَقْتُولِ، فَقَالَ هَارُونُ: قَتَلْتُهُ لِأَنَّهُ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. فَقَتَلْتُهُ قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، انْظُرْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَيُقَدِّمُونَهُمَا فَأَكْرِمْهُمْ يَعِزُّ سُلْطَانُكَ. فَقَالَ الرَّشِيدُ: أَوَلَسْتُ كَذَلِكَ ؟ ! أَنَا وَاللَّهِ كَذَلِكَ أُحِبُّهُمَا، وَأُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهُمَا، وَأُعَاقِبُ مَنْ يُبْغِضُهُمَا.
وَقَالَ لَهُ ابْنُ السِّمَاكِ أَوْ غَيْرُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ فَوْقَكُ، فَاجْتَهِدْ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِمْ أَحَدٌ أَطْوَعَ إِلَى اللَّهِ مِنْكَ. فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ فِي الْكَلَامِ لَقَدْ أَبْلَغْتَ فِي الْمَوْعِظَةِ.

وَدَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُ السِّمَاكِ يَوْمًا فَاسْتَسْقَى الرَّشِيدُ فَأُتِيَ بِقُلَّةٍ فِيهَا مَاءٌ مُبَرَّدٌ، فَقَالَ لِابْنِ السِّمَاكِ: عِظْنِي. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِكُمْ كُنْتَ مُشْتَرِيًا هَذِهِ الشَّرْبَةَ لَوْ مُنِعْتَهَا ؟ فَقَالَ: بِنِصْفِ مُلْكِي. فَقَالَ: اشْرَبْ هَنِيئًا. فَلَمَّا شَرِبَ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ مُنِعْتَ خُرُوجَهَا مِنْ بَدَنِكَ، بِكَمْ كُنْتَ تَشْتَرِي ذَلِكَ ؟ قَالَ: بِمُلْكِي كُلِّهِ. فَقَالَ: إِنَّ مُلْكًا قِيمَتُهُ شَرْبَةُ مَاءٍ لَخَلِيقٌ أَنْ لَا يُتَنَافَسَ فِيهِ. فَبَكَى هَارُونُ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ثِنَا الرِّيَاشِيُّ، سَمِعْتُ الْأَصْمَعِيَّ، يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى الرَّشِيدِ، وَهُوَ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَخْذُ الْأَظْفَارِ يَوْمَ الْخَمِيسِ مِنَ السُّنَّةِ، وَبَلَغَنِي أَنَّ أَخْذَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَنْفِي الْفَقْرَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوَ تَخْشَى الْفَقْرَ ؟ ! فَقَالَ: يَا أَصْمَعِيُّ، وَهَلْ أَحَدٌ أَخْشَى لِلْفَقْرِ مِنَى ؟
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَ الرَّشِيدِ فَدَعَا طَبَّاخَهُ، فَقَالَ: أَعِنْدَكَ فِي الطَّعَامِ لَحْمُ جَزُورٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَلْوَانٌ مِنْهُ. فَقَالَ: أَحْضِرْهُ مَعَ الطَّعَامِ، فَلَمَّا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَخَذَ لُقْمَةً مِنْهُ، فَوَضَعَهَا فِي فِيهِ، فَضَحِكَ جَعْفَرٌ الْبَرْمَكِيُّ، فَتَرَكَ الرَّشِيدُ مَضْغَ اللُّقْمَةِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ:

مِمَّ تَضْحَكُ ؟ قَالَ: لَا شَيْءَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ذَكَرْتُ كَلَامًا دَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ جَارِيَتِي الْبَارِحَةَ. فَقَالَ: بِحَقِّي عَلَيْكَ لَمَا أَخْبَرْتَنِي بِهِ. قَالَ: حَتَّى تَأْكُلَ هَذِهِ اللُّقْمَةَ، فَأَلْقَاهَا مِنْ فِيهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَتُخْبِرَنِّي. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِكَمْ تَقُولُ إِنَّ هَذَا الطَّعَامَ مِنْ لَحْمِ الْجَزُورِ يُقَوَّمُ عَلَيْكَ ؟ قَالَ: بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ. قَالَ: لَا، وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ: إِنَّكَ طَلَبْتَ مِنْ طَبَّاخِكَ هَذَا لَحْمَ جَزُورٍ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ فَلَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ، فَقُلْتُ: لَا يَخْلُوَنَّ الْمَطْبَخُ مِنْ لَحْمِ جَزُورٍ، فَنَحْنُ نَنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ جَزُورًا؛ لِأَنَّا لَا نَشْتَرِي لَحْمَ الْجَزُورِ مِنَ السُّوقِ، فَصُرِفَ فِي لَحْمِ الْجَزُورِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَطْلُبْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَحْمَ الْجَزُورِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ، قَالَ جَعْفَرٌ: فَضَحِكْتُ؛ لِأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا نَالَهُ مِنْ ذَلِكَ هَذِهِ اللُّقْمَةُ، فَهِيَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ. قَالَ: فَبَكَى الرَّشِيدُ بُكَاءً شَدِيدًا، وَأَقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ يُوَبِّخُهَا، وَيَقُولُ: هَلَكْتَ وَاللَّهِ يَا هَارُونُ. وَأَمَرَ بِرَفْعِ السِّمَاطِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى آذَنَهُ الْمُؤَذِّنُونَ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ، فَخَرَجَ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ، ثُمَّ رَجَعَ يَبْكِي، وَقَدْ أَمَرَ بِأَلْفَيْ أَلْفٍ تُصْرَفُ إِلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمَيْنِ، فِي كُلِّ حَرَمٍ أَلْفُ أَلْفٍ صَدَقَةً، وَأَمَرَ بِأَلْفَيْ أَلْفٍ يَتَصَدَّقُ بِهَا فِي جَانِبَيْ بَغْدَادَ؛ الْغَرْبِيِّ، وَالشَّرْقِيِّ، وَبِأَلْفِ أَلْفٍ يُتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى

فَقُرَاءِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ. ثُمَّ خَرَجَ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ رَجَعَ يَبْكِي حَتَّى صَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَاكِيًا فِي هَذَا الْيَوْمِ ؟ فَذَكَرَ أَمْرَهُ، وَمَا صَرَفَ مِنَ الْمَالِ الْجَزِيلِ لِأَجْلِ شَهْوَتِهِ، وَإِنَّمَا نَالَهُ مِنْهَا لُقْمَةٌ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لِجَعْفَرٍ: هَلْ كَانَ مَا يَذْبَحُونَهُ مِنَ الْجَزُورِ يَفْسَدُ، أَوْ يَأْكُلُهُ النَّاسُ ؟ قَالَ: بَلْ يَأْكُلُهُ النَّاسُ. فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِثَوَابِ اللَّهِ فِيمَا صَرَفْتَهُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي أَكَلَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْأَيَّامِ الْمَاضِيَةِ، وَبِمَا يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَبِمَا رَزَقَكَ اللَّهُ مِنْ خَشْيَتِهِ وَخَوْفِهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [ الرَّحْمَنِ: 46 ] فَأَمَرَ لَهُ الرَّشِيدُ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِطَعَامٍ، فَأَكَلَ مِنْهُ فَكَانَ غَدَاؤُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَشَاءً.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ الْجَاحِظُ: اجْتَمَعَ لِلرَّشِيدِ مِنَ الْجِدِّ وَالْهَزْلِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ، كَانَ أَبُو يُوسُفَ قَاضِيَهُ، وَالْبَرَامِكَةُ وُزَرَاءَهُ، وَحَاجِبُهُ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ أَنْبَهُ النَّاسِ، وَأَشَدُّهُمْ تَعَاظُمًا، وَنَدِيمُهُ عَمُّ أَبِيهِ الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ صَاحِبُ الْعَبَّاسِيَّةِ، وَشَاعِرُهُ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ وَمُغَنِّيهِ إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلِيُّ وَاحِدُ

عَصْرِهِ فِي صِنَاعَتِهِ وَضَارِبُهُ زَلْزَلٌ، وَزَامِرُهُ بَرْصُومَا، وَزَوْجَتُهُ أُمُّ جَعْفَرٍ يَعْنِي زُبَيْدَةَ، وَكَانَتْ أَرْغَبَ النَّاسِ فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَأَسْرَعَهُمْ إِلَى كُلِّ بِرٍّ وَمَعْرُوفٍ، أَدْخَلَتِ الْمَاءَ الْحَرَمَ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْ ذَلِكَ، إِلَى أَشْيَاءَ مِنَ الْمَعْرُوفِ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ الرَّشِيدَ كَانَ يَقُولُ: إِنَّا مِنْ قَوْمٍ عَظُمَتْ رَزِيَّتُهُمْ، وَحَسُنَتْ بَقِيَّتُهُمْ، وَرِثْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَقِيَتْ فِينَا خِلَافَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَبَيْنَمَا الرَّشِيدُ يَطُوفُ يَوْمًا بِالْبَيْتِ إِذْ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُكَلِّمَكَ بِكَلَامٍ فِيهِ غِلْظَةٌ. فَقَالَ: لَا، وَلَا نِعْمَتْ عَيْنٌ، قَدْ بَعَثَ اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ إِلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا.
وَعَنْ شُعَيْبِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: رَأَيْتُ الرَّشِيدَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: قَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَخَوَّفَتْنِي، وَقَالَتْ: إِنَّهُ الْآنَ يَضْرِبُ عُنُقَكَ. فَقُلْتُ: لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ. فَنَادَيْتُهُ: فَقُلْتُ: يَا هَارُونُ، قَدْ أَتْعَبْتَ الْأُمَّةَ، وَالْبَهَائِمَ. فَقَالَ: خُذُوهُ. فَأُدْخِلْتُ عَلَيْهِ، وَفِي يَدِهِ

لَتٌّ مِنْ حَدِيدٍ يَلْعَبُ بِهِ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ، فَقَالَ: مِمَّنِ الرَّجُلُ ؟ فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، مِمَّنْ أَنْتَ ؟ فَقُلْتُ: مِنَ الْأَبْنَاءِ. فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ دَعَوْتَنِي بِاسْمِي ؟ قَالَ: فَخَطَرَ بِبَالِي شَيْءٌ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَنَا أَدْعُو اللَّهَ بِاسْمِهِ، يَا اللَّهُ، يَا رَحْمَنُ أَفَلَا أَدْعُوكَ بِاسْمِكَ ؟ ! وَهَذَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ دَعَا أَحَبَّ خَلْقِهِ إِلَيْهِ بِاسْمِهِ: مُحَمَّدًا، وَكَنَّى أَبْغَضَ الْخَلْقِ إِلَيْهِ، فَقَالَ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [ الْمَسَدِ: 1 ] فَقَالَ الرَّشِيدُ: أَخْرِجُوهُ أَخْرِجُوهُ.
وَقَالَ لَهُ ابْنُ السِّمَاكِ يَوْمًا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ تَمُوتُ وَحْدَكَ، وَتُقْبَرُ وَحْدَكَ، فَاحْذَرِ الْمُقَامَ بَيْنَ يَدَيِ الْجَبَّارِ، وَالْوُقُوفَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حِينَ يُؤْخَذُ بِالْكَظَمِ، وَتَزِلُّ الْقَدَمُ، وَيَقَعُ النَّدَمُ، فَلَا تَوْبَةَ تُنَالُ، وَلَا عَثْرَةَ تُقَالُ، وَلَا يُقْبَلُ فِدَاءٌ بِمَالٍ. فَجَعَلَ الرَّشِيدُ يَبْكِي حَتَّى عَلَا صَوْتُهُ، فَقَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ لَهُ: يَا ابْنَ السِّمَاكِ لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ اللَّيْلَةَ. فَقَامَ فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، وَهُوَ يَبْكِي.

وَقَالَ لَهُ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ فِي جُمْلَةِ مَوْعِظَتِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بِمَكَّةَ: يَا صَبِيحَ الْوَجْهِ، إِنَّكَ مَسْئُولٌ عَنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [ الْبَقَرَةِ: 166 ] قَالَ: حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ: الْوُصَلَاتُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا. فَبَكَى حَتَّى جَعَلَ يَشْهَقُ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: اسْتَدْعَانِي الرَّشِيدُ يَوْمًا، وَقَدْ زَخْرَفَ مَنَازِلَهُ، وَأَكْثَرَ الطَّعَامَ، وَالشَّرَابَ، وَاللَّذَّاتِ فِيهَا، ثُمَّ اسْتَدْعَى أَبَا الْعَتَاهِيَةِ، فَقَالَ لَهُ: صِفْ لَنَا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْعَيْشِ، وَالنَّعِيمِ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
عِشْ مَا بَدَا لَكَ سَالِمًا فِي ظِلِّ شَاهِقَةِ الْقُصُورِ
يَسْعَى عَلَيْكَ بِمَا اشْتَهَيْ تَ لَدَى الرَّوَاحِ وَفِي الْبُكُورِ
فَإِذَا النُّفُوسُ تَقَعْقَعَتْ عَنْ ضِيقِ حَشْرَجَةِ الصُّدُورِ
فَهُنَاكَ تَعْلَمُ مُوقِنًا مَا كُنْتَ إِلَّا فِي غُرُورِ
قَالَ: فَبَكَى الرَّشِيدُ بُكَاءً شَدِيدًا. فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى: دَعَاكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لِتَسُرَّهُ فَأَحْزَنْتَهُ ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: دَعْهُ؛ فَإِنَّهُ رَآنَا فِي عَمًى فَكَرِهَ أَنْ يَزِيدَنَا عَمًى.
وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ الرَّشِيدَ قَالَ لِأَبِي الْعَتَاهِيَةِ: عِظْنِي بِأَبْيَاتٍ مِنَ الشِّعْرِ

وَأَوْجِزْ. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَا تَأْمَنِ الْمَوْتَ فِي طَرَفٍ وَلَا نَفَسٍ وَلَوْ تَمَنَّعْتَ بِالْحُجَّابِ وَالْحَرَسِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ سِهَامَ الْمَوْتِ قَاصِدَةٌ لِكُلِّ مُدَّرِعٍ مِنْهَا وَمُتَّرِسِ
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ
قَالَ: فَخَرَّ الرَّشِيدُ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ.
وَقَدْ حَبَسَ الرَّشِيدُ مَرَّةً أَبَا الْعَتَاهِيَةِ، وَأَرْصَدَ عَلَيْهِ مَنْ يَأْتِيهِ بِمَا يَقُولُ، فَكَتَبَ مَرَّةً عَلَى جِدَارِ الْحَبْسِ:
أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ الظُّلْمَ لُومٌ وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ
إِلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي وَعِنْدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ
قَالَ: فَاسْتَدْعَاهُ وَاسْتَجْعَلَهُ فِي حِلٍّ، وَوَهَبَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَطْلَقَهُ.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهْمِ: ثِنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الرَّشِيدِ فَقَالَ: مَا خَبَرُكَ ؟ فَقُلْتُ:
بِعَيْنِ اللَّهِ مَا تَخْفَى الْبُيُوتُ فَقَدْ طَالَ التَّحَمُّلُ وَالسُّكُوتُ
فَقَالَ: يَا فُلَانُ، مِائَةُ أَلْفٍ لِابْنِ عُيَيْنَةَ تُغْنِيهِ، وَتُغْنِي عَقِبَهُ، وَلَا تَضُرُّ الرَّشِيدَ شَيْئًا.

وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: كُنْتُ مَعَ الرَّشِيدِ فِي الْحَجِّ، فَمَرَرْنَا بِوَادٍ، فَإِذَا عَلَى شَفِيرِهِ امْرَأَةٌ صَبِيَّةٌ حَسْنَاءُ بَيْنَ يَدَيْهَا قَصْعَةٌ، وَهِيَ تَسْأَلُ فِيهَا، وَتَقُولُ:
طَحْطَحَتْنَا طَحَاطِحُ الْأَعْوَامِ وَرَمَتْنَا حَوَادِثُ الْأَيَّامِ
فَأَتَيْنَاكُمْ نَمُدُّ أَكُفًّا لِفَضَالَاتِ زَادِكُمْ، وَالطَّعَامِ
فَاطْلُبُوا الْأَجْرَ، وَالْمَثُوبَةَ فِينَا أَيُّهَا الزَّائِرُونَ بَيْتَ الْحَرَامِ
مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي، وَرَحْلِي فَارْحَمُوا غُرْبَتِي، وَذُلَّ مَقَامِي
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: فَذَهَبْتُ إِلَى الرَّشِيدِ فَأَخْبَرْتُهُ بِأَمْرِهَا، فَجَاءَ بِنَفْسِهِ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهَا، فَسَمِعَهَا فَرَحِمَهَا وَبَكَى، وَأَمَرَ مَسْرُورًا الْخَادِمَ أَنْ يَمْلَأَ قَصْعَتَهَا ذَهَبًا، فَمَلَأَهَا حَتَّى جَعَلَتْ تَفِيضُ يَمِينًا، وَشِمَالًا.
وَسَمِعَ مَرَّةً الرَّشِيدُ أَعْرَابِيًّا يَحْدُو إِبِلَهُ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ، وَهُوَ يَقُولُ:
يَا أَيُّهَا الْمُجْمِعُ هَمًّا لَا تُهَمْ إِنَّكَ إِنْ تُقْضَى لَكَ الْحُمَّى تُحَمْ
كَيْفَ تَوَقِّيكَ وَقَدْ جَفَّ الْقَلَمْ

وَحَطَّتِ الصِّحَّةُ مِنْكَ وَالسَّقَمْ
فَقَالَ الرَّشِيدُ لِبَعْضِ الْخَدَمِ: مَا مَعَكَ ؟ قَالَ: أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ. فَقَالَ: ادْفَعْهَا إِلَى هَذَا الْأَعْرَابِيِّ. فَلَمَّا قَبَضَهَا ضَرَبَ رَفِيقُهُ بِيَدِهِ عَلَى كَتِفِهِ، وَقَالَ مُتَمَثِّلًا:
وَكُنْتُ جَلِيسَ قَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو وَلَا يَشْقَى بِقَعْقَاعٍ جَلِيسُ
فَأَمَرَ الرَّشِيدُ بَعْضَ الْخَدَمِ أَنْ يُعْطِيَ الْمُتَمَثِّلَ مَا مَعَهُ مِنَ الذَّهَبِ، فَإِذَا مَعَهُ مِائَتَا دِينَارٍ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَصْلُ هَذَا الْمَثَلِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أُهْدِيَتْ لَهُ هَدِيَّةٌ؛ جَامَاتٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَفَرَّقَهَا عَلَى جُلَسَائِهِ، وَإِلَى جَانِبِهِ قَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَإِلَى جَانِبِ الْقَعْقَاعِ أَعْرَابِيٌّ لَمْ يَفْضُلْ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ، فَأَطْرَقَ الْأَعْرَابِيُّ حَيَاءً، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْقَعْقَاعُ الْجَامَ الَّذِي حَصَلَ لَهُ، فَنَهَضَ الْأَعْرَابِيُّ، وَهُوَ يَقُولُ:
وَكُنْتُ جَلِيسَ قَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو وَلَا يَشْقَى بِقَعْقَاعٍ جَلِيسُ
وَخَرَجَ الرَّشِيدُ يَوْمًا مِنْ عِنْدِ زُبَيْدَةَ، وَهُوَ يَضْحَكُ فَقِيلَ لَهُ: مِمَّ تَضْحَكُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ: دَخَلَتْ إِلَيَّ هَذِهِ الْمَرْأَةُ - يَعْنِي زَوْجَتَهُ زُبَيْدَةَ - فَأَكَلْتُ عِنْدَهَا، وَنِمْتُ، فَمَا اسْتَيْقَظْتُ إِلَّا بِصَوْتِ ذَهَبٍ يُصَبُّ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا ؟

قَالُوا: هَذِهِ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ قَدِمَتْ مِنْ مِصْرَ. فَقَالَتْ: هَبْهَا لِي يَابْنَ عَمِّ. فَقُلْتُ: هِيَ لَكِ. ثُمَّ مَا خَرَجْتُ حَتَّى عَرْبَدَتْ عَلَيَّ، وَقَالَتْ: أَيُّ خَيْرٍ رَأَيْتُ مِنْكَ ؟
وَقَالَ الرَّشِيدُ مَرَّةً لِلْمُفَضَّلِ الضَّبِّيِّ: مَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الذِّئْبِ، وَلَكَ هَذَا الْخَاتَمُ، وَشِرَاؤُهُ أَلْفٌ وَسِتُّمِائَةِ دِينَارٍ ؟ فَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
يَنَامُ بِإِحْدَى مُقْلَتَيْهِ وَيَتَّقِي بِأُخْرَى الرَّزَايَا فَهُو يَقْظَانُ هَاجِعُ
فَقَالَ: مَا قُلْتَ هَذَا إِلَّا لِتَسْلُبَنَا الْخَاتَمَ. ثُمَّ أَلْقَاهُ إِلَيْهِ، فَبَعَثَتْ زُبَيْدَةُ فَاشْتَرَتْهُ مِنْهُ بِأَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ دِينَارٍ، وَبَعَثَتْ بِهِ إِلَى الرَّشِيدِ، وَقَالَتْ: إِنِّي رَأَيْتُكَ مُعْجَبًا بِهِ. فَرَدَّهُ إِلَى الْمُفَضَّلِ، وَالدَّنَانِيرَ، وَقَالَ: مَا كُنَّا لِنَهَبَ شَيْئًا، وَنَرْجِعَ فِيهِ.
وَقَالَ الرَّشِيدُ يَوْمًا لِلْعَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ: أَيُّ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ أَرَقُّ ؟ فَقَالَ: قَوْلُ جَمِيلٍ فِي بُثَيْنَةَ:
أَلَا لَيْتَنِي أَعْمَى أَصَمُّ تَقُودُنِي بُثَيْنَةُ لَا يَخْفَى عَلَيَّ كَلَامُهُا
فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: فَقَوْلُكَ أَرَقُّ مِنْ هَذَا حَيْثُ قُلْتَ:
طَافَ الْهَوَى فِي عِبَادِ اللَّهِ كُلِّهِمْ حَتَّى إِذَا مَرَّ بِي مِنْ بَيْنِهِمْ وَقَفَا
فَقَالَ الْعَبَّاسُ: فَقَوْلُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَقُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ:
أَمَا يَكْفِيكِ أَنَّكِ تَمْلِكِينِي وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَبِيدِي

وَأَنَّكِ لَوْ قَطَعْتِ يَدِي، وَرِجْلِي لَقُلْتُ مِنَ الْهَوَى أَحْسَنْتِ زِيدِي
قَالَ: فَضَحِكَ الرَّشِيدُ، وَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ.
وَمِنْ شَعْرِ الرَّشِيدِ فِي ثَلَاثِ حَظِيَّاتٍ كُنَّ عِنْدَهُ مِنَ الْخَوَاصِّ:
مَلَكَ الثَّلَاثُ الْآنِسَاتُ عِنَانِي وَحَلَلْنَ مِنْ قَلْبِي بِكُلِّ مَكَانِ
مَا لِي تُطَاوِعُنِي الْبَرِيَّةُ كُلُّهَا وَأُطِيعُهُنَّ، وَهُنَّ فِي عِصْيَانِي
مَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ سُلْطَانَ الْهَوَى وَبِهِ قَوَيْنَ أَعَزُّ مِنْ سُلْطَانِي
وَمِنْ شَعْرِهِ فِيمَا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْعِقْدِ فِي كِتَابِهِ:
تُبْدِي صُدُودًا وَتُخْفِي تَحْتَهُ مِقَّةً فَالنَّفْسُ رَاضِيَةٌ وَالطَّرْفُ غَضْبَانُ
يَا مَنْ بَذَلْتُ لَهُ خَدِّي فَزَلَّلَهُ وَلَيْسَ فَوْقِي سِوَى الرَّحْمَنِ سُلْطَانُ
وَذَكَرَ أَبُو هِفَّانَ أَنَّهُ كَانَ فِي دَارِ الرَّشِيدِ مِنَ الْجَوَارِي، وَالْحَظَايَا، وَخَدَمِهِنَّ، وَخَدَمِ زَوْجَتِهِ، وَأَخَوَاتِهِ أَرْبَعَةُ آلَافِ جَارِيَةٍ، وَأَنَّهُنَّ حَضَرْنَ كُلُّهُنَّ يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَغَنَّتْهُ الْمُطْرِبَاتُ فَطَرِبَ جِدًّا، وَأَمَرَ بِمَالٍ فَنُثِرَ عَلَيْهِنَّ، فَكَانَ

مَبْلَغُهُ سِتَّةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَرَوَى أَنَّهُ اشْتَرَى جَارِيَةً مِنَ الْمَدِينَةِ فَأُعْجِبَ بِهَا جِدًّا، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِ مَوَالِيهَا، وَمَنْ يَلُوذُ بِهِمْ لِيَقْضِيَ حَوَائِجَهُمْ، فَقَدِمُوا فِي ثَمَانِينَ نَفْسًا، فَأَمَرَ الْحَاجِبَ الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ أَنْ يَتَلَقَّاهُمْ، وَيَكْتُبَ حَوَائِجَهُمْ، فَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ قَدْ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ يَهْوَى تِلْكَ الْجَارِيَةَ، فَقَالَ لَهُ الْحَاجِبُ: مَا حَاجَتُكَ ؟ قَالَ: حَاجَتِي أَنْ يُجْلِسَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ فُلَانَةٍ فَأَشْرَبَ ثَلَاثَةَ أَرْطَالٍ مِنْ شَرَابٍ، فَتُغَنِّينِي ثَلَاثَةَ أَصْوَاتٍ. فَقَالَ: أَمَجْنُونٌ أَنْتَ ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِ اعْرِضْ ذَلِكَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، ذَكَرَ لَهُ مَا قَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، وَأَنْ تَجْلِسَ مَعَهُ الْجَارِيَةُ بِحَيْثُ يَنْظُرُ إِلَيْهِمَا، فَجَلَسَتْ عَلَى كُرْسِيٍّ، وَالْخُدَّامُ بَيْنَ يَدَيْهَا وَجَلَسَ الرَّجُلُ عَلَى كُرْسِيٍّ، فَشَرِبَ رِطْلًا، وَقَالَ لَهَا: غَنِّينِي:
خَلِيلَيَّ عُوجَا بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هِنْدُ بِأَرْضِكُمَا قَصْدَا
وَقُولَا لَهَا لَيْسَ الضَّلَالُ أَجَازَنَا وَلَكِنَّنَا جُزْنَا لِنَلْقَاكُمْ عَمْدَا
غَدًا يَكْثُرُ الْبَاكُونَ مِنَّا، وَمِنْكُمُ وَتَزْدَادُ دَارِي مِنْ دِيَارِكُمْ بُعْدَا
فَغَنَّتْهُ ثُمَّ اسْتَعْجَلَهُ الْخَادِمُ فَشَرِبَ رِطْلًا آخَرَ، وَقَالَ: غَنِّينِي، جُعِلْتُ فِدَاكِ:

تَكَلَّمُ مِنَّا فِي الْوُجُوهِ عُيُونُنَا فَنَحْنُ سُكُوتٌ، وَالْهَوَى يَتَكَلَّمُ
وَنَغْضَبُ أَحْيَانًا وَنَرْضَى بِطَرْفِنَا وَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَنَا لَيْسَ يُعْلَمُ
فَغَنَّتْهُ، ثُمَّ شَرِبَ رِطْلًا ثَالِثًا، وَقَالَ: غَنِّينِي جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكِ:
أَحْسَنُ مَا كُنَّا تَفَرُّقُنَا وَخَانَنَا الدَّهْرُ، وَمَا خُنَّا
فَلَيْتَ ذَا الدَّهْرَ لَنَا مَرَّةً عَادَ لَنَا يَوْمًا كَمَا كُنَّا
قَالَ: ثُمَّ قَامَ الشَّابُّ إِلَى دَرَجَةٍ هُنَاكَ فَعَلَاهَا، ثُمَّ أَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ أَعْلَاهَا عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَمَاتَ. فَقَالَ الرَّشِيدُ: عَجِلَ الْفَتَى، وَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَعْجَلْ لَوَهَبْتُهَا لَهُ.
وَفَضَائِلُهُ، وَمَكَارِمُهُ، وَمَآثِرُهُ، وَأَشْعَارُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، قَدْ أَوْرَدَ الْأَئِمَّةُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ أُنْمُوذَجًا صَالِحًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَدْ كَانَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ يَقُولُ: لَيْسَ أَحَدٌ أَعَزَّ عَلَيْنَا مِنْ مَوْتِ هَارُونَ الرَّشِيدِ وَإِنِّي لَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَزِيدَ فِي عُمُرِهِ مِنْ عُمُرِي. قَالُوا: فَلَمَّا مَاتَ الرَّشِيدُ، وَظَهَرَتْ تِلْكَ الْفِتَنُ وَالِاخْتِلَافَاتُ، وَالْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، عَرَفْنَا مَا كَانَ يَحْمِلُ الْفُضَيْلَ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا رَآهُ فِي مَنَامِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ تُرْبَةٌ حَمْرَاءُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: هَذِهِ تُرْبَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَتْ بِطُوسَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الرَّشِيدَ رَأَى فِي مَنَامِهِ قَائِلًا يَقُولُ:
كَأَنِّي بِهَذَا الْقَصْرِ قَدْ بَادَ أَهْلُهُ..........

الشِّعْرَ إِلَى آخِرِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ رَآهُ أَخُوهُ مُوسَى الْهَادِي، وَأَبُوهُ مُحَمَّدٌ الْمَهْدِيُّ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ أَمَرَ بِحَفْرِ قَبْرِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَأَمَرَ بِقِرَاءَةِ خَتْمَةٍ فِيهِ، وَأَنَّهُ حُمِلَ حَتَّى نَظَرَ إِلَيْهِ فَجَعَلَ يَقُولُ: إِلَى هَاهُنَا تَصِيرُ يَابْنَ آدَمَ! وَيَبْكِي، وَأَمَرَ أَنْ يُوَسَّعَ عِنْدَ صَدْرِهِ، وَأَنْ يُمَدَّ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [ الْحَاقَّةِ: 28، 29 ] وَيَبْكِي.
وَيُقَالُ: إِنَّ آخَرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ حِينَ احْتُضِرَ: اللَّهُمَّ انْفَعْنَا بِالْإِحْسَانِ، وَاغْفِرْ لَنَا الْإِسَاءَةَ، يَا مَنْ لَا يَمُوتُ، ارْحَمْ مَنْ يَمُوتُ.
وَكَانَ مَرَضُهُ بِالدَّمِ، وَقِيلَ: بِالسُّلِّ. وَكَانَ جِبْرِيلُ بْنُ بَخْتَيْشُوعَ يَكْتُمُهُ مَا بِهِ مِنَ الْعِلَّةِ، فَأَمَرَ الرَّشِيدُ رَجُلًا أَنْ يَأْخُذَ مَاءَهُ فِي قَارُورَةٍ، وَيَذْهَبَ بِهِ إِلَى جِبْرِيلَ فَيُرِيَهُ إِيَّاهُ، عَلَى أَنَّهُ لِمَرِيضٍ عِنْدَهُ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ: هَذَا مِثْلُ مَاءِ ذَلِكَ الرَّجُلِ. فَفَهِمَ صَاحِبُ الْقَارُورَةِ مَنْ عَنَى بِهِ، فَقَالَ لَهُ: بِاللَّهِ عَلَيْكَ أَخْبِرْنِي عَنْ حَالِ صَاحِبِ هَذَا الْمَاءِ؛ فَإِنَّ لِي عَلَيْهِ مَالًا، فَإِنْ كَانَ بِهِ رَجَاءٌ، وَإِلَّا أَخَذْتُهُ مِنْهُ. فَقَالَ: اذْهَبْ فَتَخَلَّصْ مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَعِيشُ إِلَّا أَيَّامًا. فَلَمَّا جَاءَ، وَأَخْبَرَ الرَّشِيدَ، بَعَثَ إِلَى جِبْرِيلَ فَتَغَيَّبَ حَتَّى مَاتَ الرَّشِيدُ. وَقَدْ قَالَ الرَّشِيدُ فِي هَذِهِ الْحَالِ:
إِنِّي بِطُوسَ مُقِيمٌ مَا لِي بِطُوسَ حَمِيمُ أَرْجُو إِلَهِي
لِمَا بِي فَإِنَّهُ بِي رَحِيمُ

لَقَدْ أَتَانِي بِطُوسَ
قَضَاؤُهُ الْمَحْتُومُ وَلَيْسَ إِلَّا رِضَائِي
وَالصَّبْرُ وَالتَّسْلِيمُ
مَاتَ بِطُوسَ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى. وَقِيلَ: فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ خَمْسٌ، وَقِيلَ: سِتٌّ، وَقِيلَ: سَبْعٌ، وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. وَمُدَّةُ وِلَايَتِهِ لِلْخِلَافَةِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَشَهْرٌ، وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقِيلَ: وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ صَالِحٌ، وَدُفِنَ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى طُوسَ يُقَالُ لَهَا سَنَابَاذُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَسَامَحَهُ، وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَرَأْتُ عَلَى خِيَامِ الرَّشِيدِ بِسَنَابَاذَ، وَالنَّاسُ مُنْصَرِفُونَ مِنْ طُوسَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ:
مَنَازِلُ الْعَسْكَرِ مَعْمُورَةٌ وَالْمَنْزِلُ الْأَعْظَمُ مَهْجُورُ
خَلِيفَةُ اللَّهِ بِدَارِ الْبِلَى تَسْفِي عَلَى أَجْدَاثِهِ الْمُورُ
أَقْبَلَتِ الْعِيرُ تُبَاهِي بِهِ وَانْصَرَفَتْ تَنْدُبُهُ الْعِيرُ
وَقَدْ رَثَاهُ أَبُو الشِّيصِ فَقَالَ:

غَرَبَتْ فِي الشَّرْقِ شَمْسٌ فَلَهَا الْعَيْنَانِ تَدْمَعْ
مَا رَأَيْنَا قَطُّ شَمْسًا غَرَبَتْ مِنْ حَيْثُ تَطْلُعْ
وَقَدْ رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ بِقَصَائِدَ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " " الْمُنْتَظَمِ " ": وَقَدْ خَلَّفَ الرَّشِيدُ مِنَ الْمِيرَاثِ مَا لَمْ يُخَلِّفْهُ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ، مِنَ الْجَوَاهِرِ، وَالْأَثَاثِ، وَالْأَمْتِعَةِ سِوَى الضِّيَاعِ، وَالدُّورِ مَا قِيمَتُهُ مِائَةُ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَخَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَكَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَصَالِحِ النَّاسِ تِسْعُمِائَةِ أَلْفِ أَلْفٍ، وَنَيِّفٍ.
ذِكْرُ زَوْجَاتِهِ، وَبَنِيهِ، وَبَنَاتِهِ
تَزَوَّجَ أُمَّ جَعْفَرٍ زُبَيْدَةَ بِنْتَ عَمِّهِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ الْمَهْدِيِّ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ، وَمَاتَتْ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي. وَتَزَوَّجَ أَمَةَ الْعَزِيزِ أُمَّ وَلَدٍ كَانَتْ لِأَخِيهِ مُوسَى الْهَادِي فَوَلَدَتْ لَهُ عَلِيَّ بْنَ الرَّشِيدِ. وَتَزَوَّجَ أُمَّ مُحَمَّدٍ بِنْتَ صَالِحٍ الْمِسْكِينِ، وَالْعَبَّاسَةَ بِنْتَ عَمِّهِ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي جَعْفَرٍ، فَزُفَّتَا إِلَيْهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ سَنَةَ سَبْعٍ

وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ بِالرَّقَّةِ. وَتَزَوَّجَ عَزِيزَةَ بِنْتَ الْغِطْرِيفِ، وَهِيَ بِنْتُ خَالِهِ أَخِي أُمِّهِ الْخَيْزُرَانِ وَتَزَوَّجَ ابْنَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْعُثْمَانِيَّةَ، وَيُقَالُ لَهَا: الْجُرَشِيَّةُ. لِأَنَّهَا وُلِدَتْ بِجُرَشَ بِالْيَمَنِ. وَتُوُفِّيَ الرَّشِيدُ عَنْ أَرْبَعِ حَرَائِرَ: زُبَيْدَةَ، وَعَبَّاسَةَ، وَابْنَةِ صَالِحٍ، وَالْعُثْمَانِيَّةِ هَذِهِ. وَأَمَّا الْحَظَايَا مِنَ الْجَوَارِي فَكَثِيرٌ جِدًّا حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ فِي دَارِهِ أَرْبَعَةُ آلَافِ جَارِيَةٍ.
وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الذُّكُورُ فَمُحَمَّدٌ الْأَمِينُ بْنُ زُبَيْدَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ الْمَأْمُونُ مِنْ جَارِيَةٍ اسْمُهَا مَرَاجِلُ، وَمُحَمَّدٌ أَبُو إِسْحَاقَ الْمُعْتَصِمُ مِنْ أُمِّ وَلَدٍ يُقَالُ لَهَا: مَارِدَةُ، وَالْقَاسِمُ الْمُؤْتَمَنُ مِنْ جَارِيَةٍ يُقَالُ لَهَا: قَصْفُ. وَعَلِيٌّ أُمُّهُ أَمَةُ الْعَزِيزِ، وَصَالِحٌ مِنْ جَارِيَةٍ اسْمُهَا رَثْمُ، وَمُحَمَّدٌ أَبُو يَعْقُوبَ، وَمُحَمَّدٌ أَبُو عِيسَى، وَمُحَمَّدٌ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَمُحَمَّدٌ أَبُو عَلِيٍّ، كُلُّ هَؤُلَاءِ مِنْ أُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ.
وَمِنَ الْإِنَاثِ سَكِينَةُ مِنْ قَصْفَ، وَأُمُّ حَبِيبٍ مِنْ مَارِدَةَ، وَأَرْوَى، وَأُمُّ الْحَسَنِ، وَأُمُّ مُحَمَّدٍ حَمْدُونَةَ، وَفَاطِمَةُ، وَأُمُّهَا غُصَصُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَخَدِيجَةُ، وَأُمُّ الْقَاسِمِ، وَرَمْلَةُ، وَأُمُّ عَلِيٍّ، وَأُمُّ الْغَالِيَةِ، وَرَيْطَةُ، كُلُّهُنَّ مِنْ أُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ.

خِلَافَةُ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَهْدِيِّ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ
لَمَّا تُوُفِّيَ الرَّشِيدُ بِطُوسَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ كَتَبَ صَالِحُ بْنُ الرَّشِيدِ إِلَى أَخِيهِ، وَلِيِّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ الرَّشِيدِ الْمُلَقَّبِ بِالْأَمِينِ، وَهُوَ ابْنُ زُبَيْدَةَ، يُعْلِمُهُ بِبَغْدَادَ بِوَفَاةِ أَبِيهِ، وَيُعَزِّيهِ فِيهِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ صُحْبَةَ رَجَاءٍ الْخَادِمِ، وَمَعَهُ الْخَاتَمُ، وَالْقَضِيبُ وَالْبُرْدَةُ يَوْمَ الْخَمِيسِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ فَرَكِبَ الْأَمِينُ مِنْ قَصْرِهِ بِالْخُلْدِ إِلَى قَصْرِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ قَصْرُ الذَّهَبِ عَلَى شَطِّ بَغْدَادَ وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ النِّصْفَ مِنْ جُمَادَى، فَصَلَّى بِالنَّاسِ ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَهُمْ، وَعَزَّاهُمْ فِي الرَّشِيدِ، وَبَسَطَ آمَالَ النَّاسِ، وَوَعَدَهُمُ الْخَيْرَ، فَبَايَعَهُ الْخَوَاصُّ مِنْ قَوْمِهِ، وَوُجُوهُ الْأُمَرَاءِ، وَأَمَرَ بِصَرْفِ أُعْطِيَاتِ الْجُنْدِ عَنْ سَنَتَيْنِ، نَزَلَ وَأَمَرَ عَمَّهُ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي جَعْفَرٍ أَنْ يَأْخُذَ الْبَيْعَةَ لَهُ مِنْ بَقِيَّةِ النَّاسِ، فَلَمَّا انْتَظَمَ أَمْرُ الْأَمِينِ بِبَغْدَادَ، وَاسْتَقَامَ حَالُهُ فِيهَا حَسَدَهُ أَخُوهُ الْمَأْمُونُ وَوَقَعَ

الْخُلْفُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.

اخْتِلَافُ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ
وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الرَّشِيدَ لَمَّا كَانَ قَدْ وَصَلَ إِلَى أَوَّلِ بِلَادِ خُرَاسَانَ وَهَبَ جَمِيعَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْحَوَاصِلِ، وَالدَّوَابِّ، وَالسِّلَاحِ لِوَلَدِهِ الْمَأْمُونِ وَجَدَّدَ لَهُ الْبَيْعَةَ، وَكَانَ الْأَمِينُ قَدْ بَعَثَ بَكْرَ بْنَ الْمُعْتَمِرِ بِكُتُبٍ فِي خِفْيَةٍ لِيُوَصِّلَهَا إِلَى الْأُمَرَاءِ إِذَا مَاتَ الرَّشِيدُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الرَّشِيدُ نَفَذَتِ الْكُتُبُ إِلَى الْأُمَرَاءِ، وَإِلَى صَالِحِ بْنِ الرَّشِيدِ، وَفِيهَا كِتَابٌ إِلَى الْمَأْمُونِ يَأْمُرُهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَأَخَذَ صَالِحٌ الْبَيْعَةَ مِنَ النَّاسِ لِلْأَمِينِ، وَارْتَحَلَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ الْحَاجِبُ بِالْجَيْشِ إِلَى بَغْدَادَ وَقَدْ بَقِيَ فِي نُفُوسِهِمْ تَحَرُّجٌ مِنَ الْبَيْعَةِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهُمْ لِلْمَأْمُونِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمُ الْمَأْمُونُ يَدْعُوهُمْ إِلَى بَيْعَتِهِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَوَقَعَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ، وَلَكِنْ تَحَوَّلَ عَامَّةُ الْجَيْشِ إِلَى الْأَمِينِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ كَتَبَ الْمَأْمُونُ إِلَى أَخِيهِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ مِنْ هَدَايَا خُرَاسَانَ وَتُحَفِهَا، مِنَ الدَّوَابِّ، وَالْمِسْكِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ نَائِبٌ عَلَيْهَا، وَقَدْ أَمَرَ الْأَمِينُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ السَّبْتِ بَعْدَ أَخْذِ الْبَيْعَةِ لَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِبِنَاءِ مَيْدَانَيْنِ لِلصَّوَالِجَةِ،

فَقَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
بَنَى أَمِينُ اللَّهِ مَيْدَانًا وَصَيَّرَ السَّاحَةَ بُسْتَانًا وَكَانَتِ الْغِزْلَانُ فِيهِ بَانَا
يُهْدَى إِلَيْهِ فِيهِ غِزْلَانَا
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا قَدِمَتْ زُبَيْدَةُ مِنَ الرَّقَّةِ بِالْخَزَائِنِ، وَمَا كَانَ عِنْدَهَا مِنَ التُّحَفِ وَالثِّيَابِ، فَتَلَقَّاهَا ابْنُهَا الْأَمِينُ إِلَى الْأَنْبَارِ وَمَعَهُ وُجُوهُ النَّاسِ.
وَأَقَرَّ الْأَمِينُ أَخَاهُ الْمَأْمُونَ عَلَى مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ خُرَاسَانَ وَالرَّيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَقَرَّ أَخَاهُ الْقَاسِمَ عَلَى الْجَزِيرَةِ وَالثُّغُورِ، وَأَقَرَّ عُمَّالَ أَبِيهِ عَلَى الْبِلَادِ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ.
وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ نِقْفُورُ مَلِكُ الرُّومِ، قَتَلَهُ الْبُرْجَانُ، وَكَانَ مُلْكُهُ سَبْعَ سِنِينَ، وَأَقَامَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ إِسْتِبْرَاقُ شَهْرَيْنِ فَمَاتَ، فَمَلَكَهُمْ مِيخَائِيلُ زَوْجُ أُخْتِ نِقْفُورَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا تَوَاقَعَ هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ نَائِبُ خُرَاسَانَ وَرَافِعُ بْنُ اللَّيْثِ فَاسْتَجَاشَ رَافِعٌ بِالتُّرْكِ، ثُمَّ هَرَبُوا وَبَقِيَ رَافِعٌ وَحْدَهُ فَضَعُفَ أَمْرُهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ نَائِبُ الْحِجَازِ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى

بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ
وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ الرُّفَعَاءِ رَوَى عَنْهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَقَدْ وَلِيَ الْمَظَالِمَ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ نَاظِرَ الصَّدَقَاتِ بِالْبَصْرَةِ، وَكَانَ ثِقَةً نَبِيلًا جَلِيلًا كَبِيرَ الْقَدْرِ، قَلِيلَ التَّبَسُّمِ، وَكَانَ يَتَّجِرُ فِي الْبَزِّ فَيُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَيَحُجُّ مِنْهُ، وَيَبَرُّ أَصْحَابَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ السُّفْيَانَانِ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ وَلَّاهُ الرَّشِيدُ الْقَضَاءَ، فَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ وَلِيَ الْقَضَاءَ بَعَثَ إِلَيْهِ يَعْتِبُ عَلَيْهِ وَيَلُومُهُ نَظْمًا وَنَثْرًا، فَاسْتَعْفَى ابْنُ عُلَيَّةَ الرَّشِيدَ مِنَ الْقَضَاءِ فَأَعْفَاهُ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ
الْمُلَقَّبُ بِغُنْدَرٍ، رَوَى عَنْ شُعْبَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْ خَلْقٍ. وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ

حَنْبَلٍ. وَكَانَ ثِقَةً جَلِيلًا حَافِظًا مُتْقِنًا فِي الْحَدِيثِ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ حِكَايَاتٌ تَدُلُّ عَلَى تَغْفِيلِهِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا.
وَقَدْ لُقِّبَ بِهَذَا اللَّقَبِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
هَارُونُ الرَّشِيدُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ قَرِيبًا.
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ
أَحَدُ الْأَئِمَّةِ، سَمِعَ أَبَا إِسْحَاقَ السَّبِيعِيَّ، وَالْأَعْمَشَ، وَهِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ وَجَمَاعَةً.
وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ الثِّقَاتِ، مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. قَالَ فِيهِ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ كَانَ خَيِّرًا فَاضِلًا لَمْ يَضَعْ جَنْبَهُ إِلَى الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
قَالُوا: وَمَكَثَ سِتِّينَ سَنَةً يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَتْمَةً كَامِلَةً، وَصَامَ

ثَمَانِينَ رَمَضَانًا، وَتُوُفِّيَ وَلَهُ سِتٌّ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَلَمَّا احْتُضِرَ بَكَى عَلَيْهِ ابْنُهُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ عَلَامَ تَبْكِي ؟ وَاللَّهِ مَا أَتَى أَبُوكَ فَاحِشَةً قَطُّ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَلَعَ أَهْلُ حِمْصَ نَائِبَهُمْ، فَعَزَلَهُ عَنْهُمُ الْأَمِينُ، وَوَلَّى عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعِيدٍ الْحَرَشِيَّ فَقَتَلَ طَائِفَةً مِنْ وُجُوهِهَا، وَحَرَّقَ نَوَاحِيَهَا بِالنَّارِ، فَسَأَلُوهُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، ثُمَّ هَاجُوا، فَضَرَبَ أَعْنَاقَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَيْضًا.
وَفِيهَا عَزَلَ الْأَمِينُ أَخَاهُ الْقَاسِمَ عَنِ الْجَزِيرَةِ وَالثُّغُورِ، وَوَلَّى عَلَى ذَلِكَ خُزَيْمَةَ بْنَ خَازِمٍ وَأَمَرَ أَخَاهُ بِالْمُقَامِ عِنْدَهُ بِبَغْدَادَ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْأَمِينُ بِالدُّعَاءِ لِوَلَدِهِ مُوسَى عَلَى الْمَنَابِرِ فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ، وَبِالْإِمْرَةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَسَمَّاهُ النَّاطِقَ بِالْحَقِّ، ثُمَّ يُدْعَى بَعْدَهُ لِلْمَأْمُونِ، ثُمَّ لِلْقَاسِمِ، وَمِنْ نِيَّةِ الْأَمِينِ الْوَفَاءُ لِأَخَوَيْهِ بِمَا شَرَطَ لَهُمَا، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ حَتَّى غَيَّرَ نِيَّتَهُ فِي أَخَوَيْهِ، وَحَسَّنَ لَهُ خَلْعَ الْمَأْمُونِ وَالْقَاسِمِ، وَصَغَّرَ عِنْدَهُ شَأْنَ الْمَأْمُونِ وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ خَوْفُهُ مِنَ الْمَأْمُونِ إِنْ أَفْضَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، فَيَسْعَى فِي خَلْعِهِ، وَزَوَالِ الْوِلَايَةِ عَنْهُ، فَوَافَقَهُ الْأَمِينُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ لِوَلَدِهِ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ بِوِلَايَةِ عَهْدِهِ، وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا.
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَأْمُونَ قَطَعَ الْبَرِيدَ عَنْهُ، وَتَرَكَ ضَرْبَ اسْمِهِ عَلَى السِّكَّةِ

وَالطُّرُزِ، وَتَنَكَّرَ لِأَخِيهِ الْأَمِينِ، وَبَعَثَ رَافِعُ بْنُ اللَّيْثِ إِلَى الْمَأْمُونِ يَسْأَلُ مِنْهُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ بِمَنْ مَعَهُ، فَأَكْرَمَهُ الْمَأْمُونُ وَعَظَّمَهُ، وَجَاءَ هَرْثَمَةُ عَلَى إِثْرِهِ فَتَلَقَّاهُ الْمَأْمُونُ وَوُجُوهُ النَّاسِ، وَوَلَّاهُ الْحَرَسَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْأَمِينَ أَنَّ الْجُنُودَ قَدِ الْتَفَّتَ عَلَى أَخِيهِ الْمَأْمُونِ سَاءَهُ ذَلِكَ وَأَنْكَرَهُ، وَكَتَبَ إِلَى الْمَأْمُونِ كِتَابًا وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رُسُلًا ثَلَاثَةً مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، يَسْأَلُهُ أَنْ يُجِيبَهُ إِلَى تَقْدِيمِ وَلَدِهِ مُوسَى عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ قَدْ سَمَّاهُ النَّاطِقَ بِالْحَقِّ، فَأَظْهَرَ الْمَأْمُونُ الِامْتِنَاعَ وَشَرَعُوا فِي مُطَايَبَتِهِ، وَمُلَايَنَتِهِ، وَأَنْ يُجِيبَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَأَبَى كُلَّ الْإِبَاءِ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى: فَقَدْ خَلَعَ أَبِي نَفْسَهُ فَمَاذَا كَانَ ؟ فَقَالَ: إِنَّ أَبَاكَ كَانَ امْرَأً مُكْرَهًا، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْمَأْمُونُ يَعِدُ الْعَبَّاسَ وَيُمَنِّيهِ حَتَّى بَايَعَهُ بِالْخِلَافَةِ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ كَانَ يُرَاسِلُهُ بِمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ بِبَغْدَادَ وَيُنَاصِحُهُ، وَلَمَّا رَجَعَ الرُّسُلُ إِلَى الْأَمِينِ أَخْبَرُوهُ بِمَا كَانَ مِنْ جَوَابِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ صَمَّمَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ عَلَى الْأَمِينِ فِي خَلْعِ الْمَأْمُونِ فَخَلَعَهُ، وَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ لِوَلَدِهِ فِي الْعِرَاقِ كُلِّهِ وَبِلَادِ الْحِجَازِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَسَمَّاهُ النَّاطِقَ بِالْحَقِّ، وَجَعَلُوا مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْمَأْمُونِ وَيَذْكُرُ مَسَاوِئَهُ، وَبَعَثُوا إِلَى مَكَّةَ فَأَخَذُوا الْكِتَابَ الَّذِي كَتَبَهُ الرَّشِيدُ، وَأَوْدَعَهُ فِي الْكَعْبَةِ، فَمَزَّقَهُ الْأَمِينُ، وَأَكَّدُوا الْبَيْعَةَ لِلنَّاطِقِ بِالْحَقِّ مُوسَى بْنِ الْأَمِينِ عَلَى مَا يَلِيهِ أَبُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَجَرَتْ بَيْنَ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ مُكَاتَبَاتٌ وَرُسُلٌ يَطُولُ بَسْطُهَا، وَقَدِ اسْتَقْصَاهَا الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي " " تَارِيخِهِ " " ثُمَّ آلَ

الْحَالُ إِلَى أَنِ احْتَفَظَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى بِلَادِهِ وَحَصَّنَهَا وَهَيَّأَ الْجُيُوشَ وَالْجُنُودَ وَتَأَلَّفَ الرَّعَايَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَدَتِ الرُّومُ عَلَى مَلِكِهِمْ مِيخَائِيلَ فَرَامُوا خَلْعَهُ وَقَتْلَهُ فَتَرَكَ الْمُلْكَ وَتَرَهَّبَ، وَوَلَّوْا عَلَيْهِمْ لِيُونَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا نَائِبُ الْحِجَازِ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى، وَقِيلَ: عَلِيُّ بْنُ الرَّشِيدِ.

وَقَدْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سَلْمُ بْنُ سَالِمٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَلْخِيُّ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ وَالثَّوْرِيِّ. وَعَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ. وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا، مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ نَرَ لَهُ فِرَاشًا، وَصَامَهَا كُلَّهَا إِلَّا يَوْمَ عِيدِ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى، وَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَكَانَ دَاعِيَةً إِلَى الْإِرْجَاءِ، ضَعِيفَ الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ رَأْسًا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ بَغْدَادَ فَشَنَّعَ عَلَى الرَّشِيدِ، فَحَبَسَهُ وَقَيَّدَهُ بِاثْنَيْ عَشَرَ قَيْدًا، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو مُعَاوِيَةَ يَشْفَعُ فِيهِ حَتَّى تَرَكُوهُ فِي أَرْبَعَةِ قُيُودٍ، ثُمَّ كَانَ يَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى أَهْلِهِ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ الرَّشِيدُ أَطْلَقَتْهُ زُبَيْدَةُ

فَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ وَكَانُوا بِمَكَّةَ قَدْ جَاءُوا حُجَّاجًا فَمَرِضَ بِمَكَّةَ.
وَاشْتَهَى يَوْمًا بَرَدًا، فَسَقَطَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَرَدٌ، فَأَكَلَ مِنْهُ. وَمَاتَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، كَانَتْ غَلَّتُهُ فِي السَّنَةِ قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا يُنْفِقُهَا كُلَّهَا عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ. تُوُفِّيَ عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
أَبُو النَّصْرِ الْجُهَنِيُّ الْمُصَابُ، كَانَ مُقِيمًا بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ بِالصُّفَّةِ مِنَ الْمَسْجِدِ فِي الْحَائِطِ الشَّمَالِيِّ مِنْهُ، وَكَانَ يُطِيلُ السُّكُوتَ، فَإِذَا سُئِلَ أَجَابَ بِجَوَابٍ حَسَنٍ، وَيَتَكَلَّمُ بِكَلِمَاتٍ مُفِيدَةٍ تُؤْثَرُ عَنْهُ، وَتُكْتَبُ، وَكَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَيَقِفُ عَلَى مَجَامِعِ النَّاسِ فَيَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا [ لُقْمَانَ: 33 ] وَ يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [ الْبَقَرَةِ: 48 ] ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْ جَمَاعَةٍ إِلَى جَمَاعَةٍ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ فَيُصَلِّيَ فِيهِ الْجُمُعَةَ، ثُمَّ لَا يَخْرُجُ حَتَّى يُصَلِّيَ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهل التأويل يتعرون أمام قانوني الحق والميزان

    بسم الله الرحمن الرحيم خلاصة قانون الحق = أن الله خلق السماوات والارض وما فيهم وما بينهم وما لأجلهم بقدر قام في وقت محدد وزمن مع...