الأحد، 1 أغسطس 2021

2/20.. البداية والنهاية تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي

 2/20..  البداية والنهاية تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).  

 ..... وَعَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ابْنُهُ يَزِيدُ غَائِبًا، فَصَلَّى عَلَيْهِ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِمَسْجِدِ دِمَشْقَ، ثُمَّ دُفِنَ فَقِيلَ: بِدَارِ الْإِمَارَةِ. وَهِيَ الْخَضْرَاءُ، وَقِيلَ: بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ. وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَمَانِيًا وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: جَاوَزَ الثَّمَانِينَ. وَهُوَ الْأَشْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ رَكِبَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ فِي جَيْشٍ، وَخَرَجَ لِيَتَلَقَّى يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ يَزِيدُ بِحُوَّارِينَ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ تَلَقَّتْهُمْ أَثْقَالُ يَزِيدَ، وَإِذَا يَزِيدُ رَاكِبٌ عَلَى بُخْتِيٍّ وَعَلَيْهِ الْحُزْنُ ظَاهِرٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ النَّاسُ بِالْإِمَارَةِ، وَعَزَّوْهُ فِي أَبِيهِ، وَهُوَ يَخْفِضُ صَوْتَهُ فِي رَدِّهِ عَلَيْهِمْ، وَالنَّاسُ صَامِتُونَ لَا يَتَكَلَّمُ مَعَهُ إِلَّا الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، فَانْتَهَى إِلَى بَابِ تُومَاءَ، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْخُلُ مِنْهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَجَازَهُ مَعَ السُّورِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَابِ الشَّرْقِيِّ، فَقِيلَ: يَدْخُلُ مِنْهُ. لِأَنَّهُ بَابُ خَالِدٍ، فَجَازَهُ حَتَّى أَتَى الْبَابَ الصَّغِيرَ، فَعَرَفَ النَّاسُ أَنَّهُ قَاصِدٌ قَبْرَ أَبِيهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَابِ الصَّغِيرِ تَرَجَّلَ عِنْدَ الْمَقْبَرَةِ، ثُمَّ دَخَلَ، فَصَلَّى عَلَى أَبِيهِ بَعْدَ مَا دُفِنَ، ثُمَّ انْفَتَلَ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْمَقْبَرَةِ أَتَى بِمَرَاكِبِ الْخِلَافَةِ، فَرَكِبَ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَلَدَ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ فِي النَّاسِ أَنِ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. وَدَخَلَ الْخَضْرَاءَ، فَاغْتَسَلَ وَلَبِسَ ثِيَابًا حَسَنَةً، ثُمَّ خَرَجَ فَخَطَبَ النَّاسَ أَوَّلَ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَنَاءِ عَلَيْهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ، أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَبَضَهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ خَيْرٌ مِمَّنْ بَعْدَهُ، وَدُونَ مَنْ قَبْلَهُ، وَلَا أُزَكِّيهِ عَلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ أَعْلَمُ بِهِ، إِنْ عَفَا عَنْهُ فَبِرَحْمَتِهِ، وَإِنْ عَاقَبَهُ

فَبِذَنْبِهِ، وَقَدْ وَلِيتُ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَسْتُ آسَى عَلَى طَلَبٍ، وَلَا أَعْتَذِرُ مِنْ تَفْرِيطٍ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ شَيْئًا كَانَ. وَقَالَ لَهُمْ فِي خُطْبَتِهِ هَذِهِ: وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يُغْزِيكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَإِنِّي لَسْتُ حَامِلًا أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَحْرِ، وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يُشَتِّيكُمْ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَلَسْتُ مُشَتِّيًا أَحَدًا بِأَرْضِ الرُّومِ، وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يُخْرِجُ لَكُمُ الْعَطَاءَ أَثْلَاثًا، وَأَنَا أَجْمَعُهُ لَكُمْ كُلَّهُ. قَالَ: فَافْتَرَقَ النَّاسُ عَنْهُ وَهُمْ لَا يُفَضِّلُونَ عَلَيْهِ أَحَدًا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: بَعَثَ مُعَاوِيَةُ وَهُوَ مَرِيضٌ إِلَى ابْنِهِ يَزِيدَ، فَلَمَّا جَاءَهُ الْبَرِيدُ رَكِبَ وَهُوَ يَقُولُ:
جَاءَ الْبَرِيدُ بِقِرْطَاسٍ يَخُبُّ بِهِ فَأَوْجَسَ الْقَلْبُ مِنْ قِرْطَاسِهِ فَزَعًا
قُلْنَا لَكَ الْوَيْلُ مَاذَا فِي صَحِيفَتِكُمْ قَالَ الْخَلِيفَةُ أَمْسَى مُثْبَتًا وَجِعًا
فَمَادَتِ الْأَرْضُ أَوْ كَادَتْ تَمِيدُ بِنَا كَأَنَّ أَغْبَرَ مِنْ أَرْكَانِهَا انْقَلَعَا
ثُمَّ انْبَعَثْنَا إِلَى خُوصٍ مُضَمَّرَةٍ نَرْمِي الْفِجَاجَ بِهَا مَا نَأْتَلِي سُرَعًا
فَمَا نُبَالِي إِذَا بَلَّغْنَ أَرْحُلَنَا مَا مَاتَ مِنْهُنَّ بِالْمَوْمَاةِ أَوْ ظَلَعَا

وَزَادَ غَيْرُهُ:
لَمَّا انْتَهَيْنَا وَبَابُ الدَّارِ مُنْصَفِقٌ بِصَوْتِ رَمْلَةَ رِيعَ الْقَلْبُ فَانْصَدَعَا
مَنْ لَا تَزَلْ نَفْسُهُ تُوفِي عَلَى شَرَفٍ تُوشِكُ مَقَادِيرُ تِلْكَ النَّفْسِ أَنْ تَقَعَا
أَوْدَى ابْنُ هِنْدَ وَأَوْدَى الْمَجْدُ يَتْبَعُهُ كَانَا جَمِيعًا خَلِيطًا سَالِمَيْنِ مَعَا
أَغَرُّ أَبْلَجُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِهِ لَوْ قَارَعَ النَّاسَ عَنْ أَحْلَامِهِمْ قَرَعَا
لَا يَرْقَعُ النَّاسُ مَا أَوْهَى وَإِنْ جَهِدُوا أَنْ يَرْقَعُوهُ وَلَا يُوهُونَ مَا رَقَعَا
قَالَ الشَّافِعِيُّ: سَرَقَ يَزِيدُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ مِنَ الْأَعْشَى. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ دَخَلَ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ دِمَشْقَ، وَأَنَّهُ أَوْصَى إِلَيْهِ. وَهَذَا قَدْ قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ يَزِيدَ لَمْ يَدْخُلْ دِمَشْقَ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ، وَأَنَّهُ صَلَّى عَلَى قَبْرِهِ بِالنَّاسِ، كَمَا قَدَّمْنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو الْوَرْدِ الْعَنْبَرِيُّ يَرْثِي مُعَاوِيَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَلَا أَنْعَى مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ نَعَاهُ الْحِلُّ لِلشَّهْرِ الْحَرَامِ
نَعَاهُ النَّاعِجَاتُ بِكُلِّ فَجٍّ خَوَاضِعَ فِي الْأَزِمَّةِ كَالسِّهَامِ
فَهَاتِيكَ النُّجُومُ وَهُنَّ خُرْسٌ يَنُحْنَ عَلَى مُعَاوِيَةَ الشَّآمِ

وَقَالَ أَيْمَنُ بْنُ خُرَيْمٍ يَرْثِيهِ أَيْضًا:
رَمَى الْحِدْثَانُ نِسْوَةَ آلِ حَرْبٍ بِمِقَدْارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُودَا
فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضَا وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ الْبِيضَ سُودَا
فَإِنَّكَ لَوْ شَهِدْتَ بُكَاءَ هِنْدَ وَرَمْلَةَ إِذْ يُصَفِّقْنَ الْخُدُودَا
بَكَيْتَ بُكَاءَ مُعْوِلَةٍ قَرِيحٍ أَصَابَ الدَّهْرُ وَاحِدَهَا الْفَرِيدَا

ذِكْرُ مَنْ تَزَوَّجَ مِنَ النِّسَاءِ وَمَنْ وُلِدَ لَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ
كَانَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ ضَعِيفَ الْعَقْلِ، وَأُمُّهُمَا فَاخِتَةُ بِنْتُ قَرَظَةَ بْنِ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَقَدْ تَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا مُنْفَرِدَةً عَنْهَا بَعْدَهَا، وَهِيَ كَنُودُ بِنْتُ قَرَظَةَ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ حِينَ افْتَتَحَ قُبْرُسَ، وَتَزَوَّجَ نَائِلَةَ بِنْتَ عُمَارَةَ الْكَلْبِيَّةَ، فَأَعْجَبَتْهُ، وَقَالَ لِمَيْسُونَ

بِنْتِ بَحْدَلٍ: ادْخُلِي فَانْظُرِي إِلَى ابْنةِ عَمِّكِ، فَدَخَلَتْ فَسَأَلَهَا عَنْهَا، فَقَالَتْ: إِنَّهَا لَكَامِلَةُ الْجَمَالِ، وَلَكِنْ رَأَيْتُ تَحْتَ سُرَّتِهَا خَالًا، وَإِنِّي لَأُرَى هَذِهِ يُقْتَلُ زَوْجُهَا، وَيُوضَعُ رَأْسُهُ فِي حِجْرِهَا. فَطَلَّقَهَا مُعَاوِيَةُ فَتَزَوُّجَهَا بَعْدَهُ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيُّ، ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا بَعْدَهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، فَقُتِلَ وَوُضِعَ رَأْسُهُ فِي حِجْرِهَا.
وَمِنْ أَشْهَرِ أَوْلَادِهِ يَزِيدُ، وَأُمُّهُ مَيْسُونُ بِنْتُ بَحْدَلِ بْنِ أُنَيْفِ بْنِ دُلْجَةَ بْنِ قُنَافَةَ الْكَلْبِيِّ، وَهِيَ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَى نَائِلَةَ، فَأَخْبَرَتْ مُعَاوِيَةَ عَنْهَا بِمَا أَخْبَرَتْهُ، وَكَانَتْ حَازِمَةً عَظِيمَةَ الشَّأْنِ جَمَالًا وَرِيَاسَةً وَعَقْلًا وَدِينًا، دَخَلَ عَلَيْهَا مُعَاوِيَةُ يَوْمًا وَمَعَهُ خَادِمٌ خَصِيٌّ، فَاسْتَتَرَتْ مِنْهُ، وَقَالَتْ: مَا هَذَا الرَّجُلُ مَعَكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ خَصِيٌّ، فَاظْهَرِي عَلَيْهِ. فَقَالَتْ: مَا كَانَتِ الْمُثْلَةُ لِتُحِلَّ لَهُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَحَجَبَتْهُ عَنْهَا. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: إِنَّ مُجَرَّدَ مُثْلَتِكَ لَهُ لَنْ تُحِلَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ وَلِيَ ابْنُهَا يَزِيدُ الْخِلَافَةَ بَعْدَ أَبِيهِ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ مَيْسُونَ هَذِهِ وَلَدَتْ لِمُعَاوِيَةَ بِنْتًا أُخْرَى يُقَالُ لَهَا: أَمَةُ رَبِّ الْمَشَارِقِ. مَاتَتْ صَغِيرَةً.
وَرَمْلَةُ، تَزَوَّجَهَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، كَانَتْ دَارُهَا بِدِمَشْقَ عِنْدَ عَقَبَةِ السَّمَكِ تُجَاهَ زُقَاقِ الرُّمَّانِ. قَالَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، قَالَ: وَلَهَا طَاحُونٌ مَعْرُوفَةٌ إِلَى الْآنَ.

وَهِنْدُ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ، تَزَوَّجَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ بِالْخَضْرَاءِ، أَرَادَهَا عَنْ نَفْسِهَا فَتَمَنَّعَتْ عَلَيْهِ، وَأَبَتْ أَشَدَّ الْإِبَاءِ، فَضَرَبَهَا فَصَرَخَتْ، فَلَمَّا سَمِعَ الْجَوَارِيَ صَوْتَهَا صَرَخْنَ وَعَلَتْ أَصْوَاتُهُنَّ، فَسَمِعَ مُعَاوِيَةُ، فَنَهَضَ إِلَيْهِنَّ، فَاسْتَعْلَمَهُنَّ مَا الْخَبَرُ، فَقُلْنَ: سَمِعْنَا صَوْتَ سَيِّدَتِنَا فَصِحْنَا. فَدَخَلَ فَإِذَا بِهَا تَبْكِي مِنْ ضَرْبِهِ، فَقَالَ لِابْنِ عَامِرٍ: وَيْحَكَ ! مِثْلُ هَذِهِ تُضْرَبُ فِي مِثْلِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ ؟ ! ثُمَّ قَالَ لَهُ: اخْرُجْ مِنْ هَاهُنَا. فَخَرَجَ وَخَلَا بِهَا مُعَاوِيَةُ فَقَالَ لَهَا: يَا بُنَيَّةُ، إِنَّهُ زَوْجُكِ الَّذِي أَحَلَّهُ اللَّهُ لَكِ، أَوَ مَا سَمِعْتِ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
مِنَ الْخَفِرَاتِ الْبِيضِ أَمَّا حَرَامُهَا فَصَعْبٌ وَأَمَّا حِلُّهَا فَذَلُولُ
ثُمَّ خَرَجَ مُعَاوِيَةُ مِنْ عِنْدِهَا، وَقَالَ لِزَوْجِهَا: ادْخُلْ فَقَدْ مَهَّدْتُ لَكَ خُلُقَهَا وَوَطَّأْتُهُ، فَدَخَلَ ابْنُ عَامِرٍ، فَوَجَدَهَا قَدْ طَابَتْ أَخْلَاقُهَا، فَقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.

فَصْلٌ ( فِيمَنِ اتَّخَذَهُمْ مُعَاوِيَةُ عَلَى الْقَضَاءِ وَالْحِرَاسَةِ وَالْحِجَابَةِ وَالشُّرْطَةِ )
وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ مُعَاوِيَةَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، ثُمَّ مَاتَ فَضَالَةُ فَوَلَّى أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ.

وَكَانَ عَلَى حَرَسِهِ رَجُلٌ مِنَ الْمَوَالِي يُقَالُ لَهُ: الْمُخْتَارُ. وَقِيلَ: مَالِكٌ. وَيُكَنَّى أَبَا الْمُخَارِقِ، مَوْلًى لِحِمْيَرَ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَ الْحَرَسَ، وَكَانَ عَلَى حُجَّابِهِ سَعْدٌ مَوْلَاهُ، وَعَلَى الشُّرْطَةِ قَيْسُ بْنُ حَمْزَةَ، ثُمَّ زِمْلُ بْنُ عَمْرٍو الْعُذْرِيُّ، ثُمَّ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الْفِهْرِيُّ، وَكَانَ صَاحِبَ أَمْرِهِ سَرْجُونُ بْنُ مَنْصُورٍ الرُّومِيُّ. وَكَانَ مُعَاوِيَةُ أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَ دِيوَانَ الْخَاتَمِ وَخَزْمِ الْكُتُبِ.

فَصْلٌ ( مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ )
وَمِمَّنْ ذُكِرَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ سِتِّينَ - صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ بْنِ رَحَضَةَ بْنِ الْمُؤَمَّلِ بْنِ خُزَاعِيٍّ، أَبُو عَمْرٍو، وَأَوَّلُ مَشَاهِدِهِ الْمُرَيْسِيعُ، وَكَانَ فِي السَّاقَةِ يَوْمَئِذٍ، وَهُوَ الَّذِي رَمَاهُ أَهْلُ الْإِفْكِ بِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ وَإِيَّاهَا مِمَّا قَالُوا، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ يَنَامُ نَوْمًا شَدِيدًا حَتَّى إِنَّهُ كَانَ رُبَّمَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَهُوَ نَائِمٌ لَا يَسْتَيْقِظُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اسْتَيْقَظْتَ فَصَلِّ ". وَقَدْ قُتِلَ صَفْوَانُ شَهِيدًا.

وَأَبُو مُسْلِمٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثُوَبٍ الْخَوْلَانِيُّ الْيَمَنِيُّ
مِنْ خَوْلَانَ بِبِلَادِ الْيَمَنِ. دَعَاهُ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ إِلَى أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ فَقَالَ: لَا أَسْمَعُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَأَجَّجَ لَهُ نَارًا، وَأَلْقَاهُ فِيهَا، فَلَمْ تَضُرَّهُ، وَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ، فَكَانَ يُشَبَّهُ بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، ثُمَّ هَاجَرَ فَوَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ، فَقَدِمَ عَلَى الصِّدِّيقِ، فَأَجْلَسَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُمَرَ، وَقَالَ لَهُ عُمَرُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَرَانِي فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ. وَقَبَّلَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَكَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ وَمُكَاشَفَاتٌ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِيهَا النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

إِمَارَةُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَمَا جَرَى فِي أَيَّامِهِ مِنَ الْحَوَادِثِ وَالْفِتَنِ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَبِيهِ فِي رَجَبٍ سَنَةَ سِتِّينَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ، فَكَانَ يَوْمَ بُويِعَ ابْنَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَأَقَرَّ نُوَّابُ أَبِيهِ عَلَى الْأَقَالِيمِ، لَمْ يَعْزِلْ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَهَذَا مِنْ ذَكَائِهِ.

قَالَ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ لُوطِ بْنِ يَحْيَى الْكُوفِيِّ الْأَخْبَارِيِّ: وَلِيَ يَزِيدُ فِي هِلَالِ رَجَبٍ سَنَةَ سِتِّينَ، وَأَمِيرُ الْمَدِينَةِ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَمِيرُ الْكُوفَةَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، وَأَمِيرُ الْبَصْرَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، وَأَمِيرُ مَكَّةَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَزِيدَ هِمَّةٌ حِينَ وَلِيَ إِلَّا بَيْعَةُ النَّفَرِ الَّذِينَ أَبَوْا عَلَى مُعَاوِيَةَ الْبَيْعَةَ لِيَزِيدَ، فَكَتَبَ إِلَى نَائِبِ الْمَدِينَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ يَزِيدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، أَكْرَمَهُ اللَّهُ وَاسْتَخْلَفَهُ وَخَوَّلَهُ وَمَكَّنَ لَهُ، فَعَاشَ بِقَدَرٍ، وَمَاتَ بِأَجَلٍ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَدْ عَاشَ مَحْمُودًا، وَمَاتَ بَرًّا تَقِيًّا، وَالسَّلَامُ.
وَكَتَبَ إِلَيْهِ فِي صَحِيفَةٍ كَأَنَّهَا أُذُنُ الْفَأْرَةِ: أَمَّا بَعْدُ، فَخُذْ حُسَيْنًا وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ بِالْبَيْعَةِ أَخْذًا شَدِيدًا لَيْسَتْ فِيهِ رُخْصَةٌ حَتَّى يُبَايِعُوا، وَالسَّلَامُ. فَلَمَّا أَتَاهُ نَعْيُ مُعَاوِيَةَ فَظِعَ بِهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِ، فَبَعَثَ إِلَى مَرْوَانَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَاسْتَشَارَهُ فِي أَمْرِ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ، فَقَالَ: أَرَى أَنْ تَدْعُوَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِمَوْتِ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْبَيْعَةِ، فَإِنْ أَبَوْا ضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ. فَأَرْسَلَ مِنْ فَوْرِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ إِلَى الْحُسَيْنِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُمَا: أَجِيبَا الْأَمِيرَ. فَقَالَا: انْصَرِفِ، الْآنَ نَأْتِيهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ عَنْهُمَا قَالَ الْحُسَيْنُ لِابْنِ الزُّبَيْرِ: إِنِّي أَرَى طَاغِيَتَهُمْ قَدْ هَلَكَ. قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: وَأَنَا مَا أَظُنُّ غَيْرَهُ. قَالَ: ثُمَّ نَهَضَ حُسَيْنٌ فَأَخَذَ مَعَهُ مَوَالِيَهُ، وَجَاءَ بَابَ الْأَمِيرِ، فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ وَحْدَهُ، وَأَجْلَسَ مَوَالِيَهُ عَلَى الْبَابِ، وَقَالَ: إِنْ سَمِعْتُمْ أَمْرًا يُرِيبُكُمْ فَادْخُلُوا. فَسَلَّمَ وَجَلَسَ وَمَرْوَانُ عِنْدَهُ، فَنَاوَلَهُ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ الْكِتَابَ، وَنَعَى إِلَيْهِ

مُعَاوِيَةَ، فَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ مُعَاوِيَةَ، وَعَظَّمَ لَكَ الْأَجْرَ. فَدَعَاهُ الْأَمِيرُ إِلَى الْبَيْعَةِ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: إِنَّ مِثْلِي لَا يُبَايِعُ سِرًّا، وَمَا أَرَاكَ تَجْتَزِئُ مِنِّي بِهَذَا، وَلَكِنْ إِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ دَعَوْتَنَا مَعَهُمْ، فَكَانَ أَمْرًا وَاحِدًا. فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ وَكَانَ يُحِبُّ الْعَافِيَةَ: فَانْصَرِفْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ حَتَّى تَأْتِيَنَا فِي جَمَاعَةِ النَّاسِ. فَقَالَ مَرْوَانُ لِلْوَلِيدِ: وَاللَّهِ لَئِنْ فَارَقَكَ وَلَمْ يُبَايِعِ السَّاعَةَ، لَيَكْثُرَنَّ الْقَتْلُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، فَاحْبِسْهُ وَلَا تُخْرِجْهُ حَتَّى يُبَايِعَ، وَإِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ. فَنَهَضَ الْحُسَيْنُ وَقَالَ: يَابْنَ الزَّرْقَاءِ، أَنْتَ تَقْتُلُنِي ؟ ! كَذَبْتَ وَاللَّهِ وَأَثِمْتَ. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى دَارِهِ، فَقَالَ مَرْوَانُ لِلْوَلِيدِ: وَاللَّهِ لَا تَرَاهُ بَعْدَهَا أَبَدًا. فَقَالَ الْوَلِيدُ: وَاللَّهِ يَا مَرْوَانُ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَأَنِّي قَتَلْتُ الْحُسَيْنَ، سُبْحَانَ اللَّهِ ! أَقْتُلُ حُسَيْنًا أَنْ قَالَ: لَا أُبَايِعُ ؟ ! وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ مَنْ يَقْتُلُ الْحُسَيْنَ يَكُونُ خَفِيفَ الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَبَعَثَ الْوَلِيدُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ وَمَاطَلَهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ رَكِبَ فِي مَوَالِيهِ وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ أَخَاهُ جَعْفَرًا، وَسَارَ إِلَى مَكَّةَ عَلَى طَرِيقِ الْفُرْعِ، وَبَعَثَ الْوَلِيدُ خَلْفَ ابْنِ الزُّبَيْرِ الرِّجَالَ وَالْفُرْسَانَ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى رَدِّهِ، وَقَدْ قَالَ جَعْفَرٌ لِأَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُمَا سَائِرَانِ، مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ صَبِرَةَ الْحَنْظَلِيِّ:
وَكُلُّ بَنِي أُمٍّ سَيُمْسُونَ لَيْلَةً وَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَعْقَابِهِمْ غَيْرُ وَاحِدِ
فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَا أَرَدْتَ إِلَى هَذَا ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِهِ شَيْئًا يَسُوءُكَ. فَقَالَ: إِنْ كَانَ إِنَّمَا جَرَى عَلَى لِسَانِكَ فَهُوَ أَكْرَهُ إِلَيَّ. قَالُوا: وَتَطَيَّرَ بِهِ. وَأَمَّا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فَإِنَّ الْوَلِيدَ تَشَاغَلَ عَنْهُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَجَعَلَ كُلَّمَا بَعَثَ

إِلَيْهِ يَقُولُ: حَتَّى تَنْظُرَ وَنَنْظُرَ. ثُمَّ جَمَعَ أَهْلَهُ وَبَنِيهِ، وَرَكِبَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ، لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، بَعْدَ خُرُوجِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِلَيْلَةٍ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ سِوَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ: وَاللَّهِ يَا أَخِي، لَأَنْتَ أَعَزُّ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلِيَّ، وَإِنِّي نَاصِحٌ لَكَ ; لَا تَدْخُلَنَّ مِصْرًا مِنْ هَذِهِ الْأَمْصَارِ، وَلَكِنِ اسْكُنِ الْبَوَادِيَ وَالرِّمَالَ، وَابْعَثْ إِلَى النَّاسِ، فَإِذَا بَايَعُوكَ وَاجْتَمَعُوا عَلَيْكَ فَادْخُلِ الْمِصْرَ، وَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا سُكْنَى الْمِصْرِ فَاذْهَبْ إِلَى مَكَّةَ، فَإِنْ رَأَيْتَ مَا تُحِبُّ، وَإِلَّا تَرَفَّعْتَ إِلَى الرِّمَالِ وَالْجِبَالِ. فَقَالَ لَهُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ نَصَحْتَ وَأَشْفَقْتَ. وَسَارَ الْحُسَيْنُ إِلَى مَكَّةَ، فَاجْتَمَعَ هُوَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ بِهَا، وَبَعَثَ الْوَلِيدُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ: بَايِعْ لِيَزِيدَ. فَقَالَ: إِذَا بَايَعَ النَّاسُ بَايَعْتُ. فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّمَا تُرِيدُ أَنْ يَخْتَلِفَ النَّاسُ وَيَقْتَتِلُوا حَتَّى يَتَفَانَوْا، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ غَيْرُكَ بَايَعُوكَ ! فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا أُحِبُّ شَيْئًا مِمَّا قُلْتَ، وَلَكِنْ إِذَا بَايَعَ النَّاسُ فَلَمْ يَبْقَ غَيْرِي بَايَعْتُ. قَالَ: فَتَرَكُوهُ، وَكَانُوا لَا يَتَخَوَّفُونَهُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمْ يَكُنِ ابْنُ عُمَرَ بِالْمَدِينَةِ حِينَ قَدِمَ نَعْيُ مُعَاوِيَةَ، وَإِنَّمَا كَانَ هُوَ وَابْنُ عَبَّاسٍ بِمَكَّةَ، فَلَقِيَهُمَا وَهُمَا مُقْبِلَانِ مِنْهَا، الْحُسَيْنُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَا: مَا وَرَاءَكُمَا ؟ قَالَا: مَوْتُ مُعَاوِيَةَ وَالْبَيْعَةُ لِيَزِيدَ. فَقَالَ لَهُمَا ابْنُ عُمَرَ: اتَّقِيَا اللَّهَ، وَلَا تُفَرِّقَا بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدِمَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا جَاءَتِ الْبَيْعَةُ مِنَ الْأَمْصَارِ بَايَعَا مَعَ النَّاسِ، وَأَمَّا الْحُسَيْنُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُمَا قَدِمَا مَكَّةَ

فَوَجَدَا بِهَا عَمْرَو بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَخَافَاهُ وَقَالَا: إِنَّا جِئْنَا عُوَّاذًا بِهَذَا الْبَيْتِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَمَضَانَ مِنْهَا، عَزَلَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ ; لِتَفْرِيطِهِ، وَأَضَافَهَا إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ نَائِبِ مَكَّةَ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي رَمَضَانَ - وَقِيلَ: فِي ذِي الْقَعْدَةِ - وَكَانَ مُفَوَّهًا مُتَكَبِّرًا، وَسَلَّطَ عَمْرَو بْنَ الزُّبَيْرِ - وَكَانَ عَدُوًّا لِأَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ - عَلَى حَرْبِهِ وَجَرَّدَهُ لَهُ، وَجَعَلَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ لِحَرْبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّ أَبَا شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيَّ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أَنْ أُحَدِّثَكَ حَدِيثًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ ; إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهَا لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ قَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ ". فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ لَكَ ؟ فَقَالَ: قَالَ لِي: نَحْنُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ

عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَلَّى عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ شُرْطَةَ الْمَدِينَةِ عَمْرَو بْنَ الزُّبَيْرِ ; فَتَتَبَّعَ أَصْحَابَ أَخِيهِ وَمَنْ يَهْوَى هَوَاهُ، فَضَرَبَهُمْ ضَرْبًا شَدِيدًا، حَتَّى ضَرَبَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ ضَرَبَ أَخَاهُ الْمُنْذِرَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَجَمَاعَةً مِنَ الْأَعْيَانِ ثُمَّ جَاءَ الْعَزْمُ مِنْ يَزِيدَ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ فِي تَطَلُّبِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُ وَإِنْ بَايَعَ، حَتَّى يُؤْتَى بِهِ إِلَيَّ فِي جَامِعَةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ مِنْ فِضَّةٍ تَحْتَ بُرْنُسِهِ، فَلَا تُرَى إِلَّا أَنَّهُ يُسْمَعُ صَوْتُهَا، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ مَنَعَ الْحَارِثَ بْنَ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيَّ مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ بِأَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَ نَائِبَ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عَلَيْهَا، فَحِينَئِذٍ صَمَّمَ عَمْرٌو عَلَى تَجْهِيزِ سَرِيَّةٍ إِلَى مَكَّةَ بِسَبَبِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَاسْتَشَارَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ عَمْرَو بْنَ الزُّبَيْرِ: مَنْ يَصْلُحُ أَنْ نَبْعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ لِأَجْلِ قِتَالِهِ ؟ فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الزُّبَيْرِ: إِنَّكَ لَا تَبْعَثُ إِلَيْهِ

مَنْ هُوَ أَنَكَى لَهُ مِنِّي. فَعَيَّنَهُ عَلَى تِلْكَ السَّرِيَّةِ، وَجَعَلَ عَلَى مَقْدُمَتِهِ أُنَيْسَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ فِي سَبْعِمِائَةِ مُقَاتِلٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّمَا عَيَّنَهُمَا يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ نَفْسُهُ، وَبَعَثَ بِذَلِكَ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ فِي كِتَابٍ، فَعَسْكَرَ أُنَيْسٌ بِالْجُرْفِ، وَأَشَارَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ عَلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ أَنْ لَا يَغْزُوَ مَكَّةَ، وَأَنْ يَتْرُكَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِهَا، فَإِنَّهُ عَمَّا قَلِيلٍ إِنْ لَمْ يُقْتَلْ يَمُتْ، فَقَالَ أَخُوهُ عَمْرُو بْنُ الزُّبَيْرِ وَاللَّهِ لَنَغْزُوَنَّهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، عَلَى رَغْمِ أَنْفِ مَنْ رَغِمَ. فَقَالَ مَرْوَانُ: وَاللَّهِ إِنَّ ذَلِكَ لَيَسُوءُنِي. فَسَارَ أُنَيْسٌ وَاتَّبَعَهُ عَمْرُو بْنُ الزُّبَيْرِ فِي بَقِيَّةِ الْجَيْشِ، وَكَانُوا أَلْفَيْنِ، حَتَّى نَزَلَ بِالْأَبْطَحِ، وَقِيلَ: بِدَارِهِ عِنْدَ الصَّفَا. وَنَزَلَ أُنَيْسٌ بِذِي طَوًى، فَكَانَ عَمْرُو بْنُ الزُّبَيْرِ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، وَيُصَلِّي وَرَاءَهُ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَأَرْسَلَ عَمْرٌو إِلَى أَخِيهِ يَقُولُ لَهُ: بَرَّ يَمِينَ الْخَلِيفَةِ، وَأْتِهِ وَفِي عُنُقِكَ جَامِعَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَلَا تَدَعِ النَّاسَ يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَاتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّكَ فِي بَلَدٍ حَرَامٍ. فَأَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ لِأَخِيهِ: مَوْعِدُكَ الْمَسْجِدُ. وَبَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فِي سَرِيَّةٍ، فَاقْتَتَلُوا مَعَ أُنَيْسِ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ، فَهَزَمُوا أُنَيْسًا هَزِيمَةً قَبِيحَةً، وَتَفَرَّقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الزُّبَيْرِ أَصْحَابُهُ، وَهَرَبَ عَمْرٌو إِلَى دَارِ ابْنِ عَلْقَمَةَ، فَأَجَارَهُ أَخُوهُ عُبَيْدَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَلَامَهُ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَقَالَ: تُجِيرُ مَنْ فِي عُنُقِهِ حُقُوقُ النَّاسِ ! ثُمَّ ضَرَبَهُ بِكُلِّ مَنْ ضَرَبَهُ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا الْمُنْذِرَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَابْنَهُ ; فَإِنَّهُمَا أَبَيَا أَنْ

يَسْتَقِيدَا مِنْ عَمْرٍو، وَسَجَنَهُ وَمَعَهُ عَارِمٌ فَسُمِّيَ سِجْنَ عَارِمٍ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ الزُّبَيْرِ مَاتَ تَحْتَ السِّيَاطِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قِصَّةُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَسَبَبُ خُرُوجِهِ بِأَهْلِهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْعِرَاقِ فِي طَلَبِ الْإِمَارَةِ وَكَيْفِيَّةِ مَقْتَلِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَلْنَبْدَأْ قَبْلَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ تَرْجَمَتِهِ، ثُمَّ نُتْبِعُ الْجَمِيعَ بِذِكْرِ مَنَاقِبِهِ وَفَضَائِلِهِ.
هُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ، السِّبْطُ الشَّهِيدُ بِكَرْبَلَاءَ، ابْنُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ وَرَيْحَانَتُهُ مِنَ الدُّنْيَا، وُلِدَ بَعْدَ أَخِيهِ الْحَسَنِ، وَكَانَ مَوْلِدُ الْحَسَنِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَ بَيْنَهُمَا طُهْرٌ وَاحِدٌ وَمُدَّةُ الْحَمْلِ. وَوُلِدَ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ.

وَقَالَ قَتَادَةُ: وُلِدَ الْحُسَيْنُ لِسِتِّ سِنِينَ وَخَمْسَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ مِنَ التَّارِيخِ، وَقُتِلَ يَوْمَ الْجُمُعَةَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ وَنِصْفٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَنَّكَهُ، وَتَفَلَ فِي فِيهِ، وَدَعَا لَهُ، وَسَمَّاهُ حُسَيْنًا، وَقَدْ كَانَ سَمَّاهُ أَبُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ حَرْبًا، وَقِيلَ: جَعْفَرًا. وَقِيلَ: إِنَّمَا سَمَّاهُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَعَقَّ عَنْهُ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هَانِئِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: الْحَسَنُ أَشْبَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيْنَ الصَّدْرِ إِلَى الرَّأْسِ، وَالْحُسَيْنُ أَشْبَهُ بِهِ مَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ الْحِزَامِيُ قَالَ: كَانَ وَجْهُ الْحَسَنِ يُشْبِهُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ جَسَدُ الْحُسَيْنِ يُشْبِهُ جَسَدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَأُخْتُهُ حَفْصَةُ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ زِيَادٍ، فَجِيءَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ، فَجَعَلَ يَقُولُ بِقَضِيبٍ فِي أَنْفِهِ وَيَقُولُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا حُسْنًا. فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ أَشْبَهِهِمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ: قُلْتُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ: رَأَيْتَ الْحُسَيْنَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَسْوَدُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ إِلَّا شَعَرَاتٍ هَاهُنَا فِي مُقَدَّمِ لِحْيَتِهِ، فَلَا أَدْرِي أَخَضَبَ وَتَرَكَ ذَلِكَ الْمَكَانَ تَشَبُّهًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لَمْ يَكُنْ شَابَ مِنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ ؟
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَطَاءٍ قَالَ: رَأَيْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ يَصْبُغُ بِالْوَسْمَةِ، أَمَّا هُوَ فَكَانَ ابْنَ سِتِّينَ، وَكَانَ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ شَدِيدَيِ السَّوَادِ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ مِنْ طَرِيقَيْنِ ضَعِيفَيْنِ، أَنَّ فَاطِمَةَ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ أَنْ يَنْحَلَ وَلَدَيْهَا شَيْئًا، فَقَالَ: " أَمَّا الْحَسَنُ فَلَهُ هَيْبَتِي وَسُؤْدُدِي، وَأَمَّا الْحُسَيْنُ فَلَهُ جُرْأَتِي وُجُودِي ". فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ

أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَقَدْ أَدْرَكَ الْحُسَيْنُ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَ سِنِينَ أَوْ نَحْوَهَا، وَرَوَى عَنْهُ أَحَادِيثَ.
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ: لَهُ رُؤْيَةٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رَوَى صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّهُ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ. وَهَذَا غَرِيبٌ، فَلَأَنْ يَقُولَ فِي الْحُسَيْنِ: إِنَّهُ تَابِعِيٌّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَسَنَذْكُرُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْرِمُهُمَا بِهِ، وَمَا كَانَ يُظْهِرُ مِنْ مَحَبَّتِهِمَا وَالْحُنُوِّ عَلَيْهِمَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْحُسَيْنَ عَاصَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحِبَهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ صَغِيرًا، ثُمَّ كَانَ الصِّدِّيقُ يُكْرِمُهُ وَيُعَظِّمُهُ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَصَحِبَ أَبَاهُ وَرَوَى عَنْهُ، وَكَانَ مَعَهُ فِي مَغَازِيهِ كُلِّهَا ; فِي الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، وَكَانَ مُعَظَّمًا مُوَقَّرًا، وَلَمْ يَزَلْ فِي طَاعَةِ أَبِيهِ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمَّا آلَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى أَخِيهِ، وَأَرَادَ أَنْ يُصَالِحَ مُعَاوِيَةَ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُسَدِّدْ رَأْيَ أَخِيهِ فِي ذَلِكَ، بَلْ حَثَّهُ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ: وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَسْجُنَكَ فِي بَيْتٍ، وَأُطْبِقَ عَلَيْكَ بَابَهُ حَتَّى أَفْرُغَ مِنْ هَذَا الشَّأْنِ، ثُمَّ أُخْرِجَكَ. فَلَمَّا رَأَى الْحُسَيْنُ ذَلِكَ سَكَتَ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ لِمُعَاوِيَةَ كَانَ الْحُسَيْنُ يَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ مَعَ أَخِيهِ الْحَسَنِ، فَكَانَ مُعَاوِيَةُ يُكْرِمُهُمَا إِكْرَامًا زَائِدًا، وَيَقُولُ لَهُمَا: مَرْحَبًا وَأَهْلًا. وَيُعْطِيهِمَا عَطَاءً جَزِيلًا، وَقَدْ أَطْلَقَ لَهُمَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِائَتَيْ

أَلْفٍ، وَقَالَ: خُذَاهَا وَأَنَا ابْنُ هِنْدَ، وَاللَّهِ لَا يُعْطِيكُمَاهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا أَحَدٌ بَعْدِي. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لَنْ تُعْطِيَ أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ قَبْلَكَ وَلَا بَعْدَكَ رَجُلَيْنِ أَفْضَلَ مِنَّا. وَلِمَا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ كَانَ الْحُسَيْنُ يَفِدُ إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي كُلِّ عَامٍ فَيُعْطِيهِ وَيُكْرِمُهُ، وَقَدْ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ غَزَوُا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ مَعَ ابْنِ مُعَاوِيَةَ يَزِيدَ، فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. وَلَمَّا أَخُذَتِ الْبَيْعَةُ لِيَزِيدَ فِي حَيَاةِ مُعَاوِيَةَ، كَانَ الْحُسَيْنُ مِمَّنِ امْتَنَعَ مِنْ مُبَايَعَتِهِ هُوَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، ثُمَّ مَاتَ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ مُصَمِّمٌ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ سَنَةَ سِتِّينَ وَبُويِعَ لِيَزِيدَ، بَايَعَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَصَمَّمَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ الْحُسَيْنُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَخَرَجَا مِنَ الْمَدِينَةِ فَارِّينَ إِلَى مَكَّةَ فَأَقَامَا بِهَا، فَعَكَفَ النَّاسُ عَلَى الْحُسَيْنِ يَفِدُونَ إِلَيْهِ وَيَقْدَمُونَ عَلَيْهِ، وَيَجْلِسُونَ حَوَالَيْهِ وَيَسْتَمِعُونَ كَلَامَهُ، حِينَ سَمِعُوا بِمَوْتِ مُعَاوِيَةَ وَخِلَافَةِ يَزِيدَ، وَأَمَّا ابْنُ الزُّبَيْرِ فَإِنَّهُ لَزِمَ مُصَلَّاهُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَجَعَلَ يَتَرَدَّدُ فِي غُبُونِ ذَلِكَ إِلَى الْحُسَيْنِ فِي جُمْلَةِ النَّاسِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَرَّكَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِي نَفْسِهِ مَعَ وُجُودِ الْحُسَيْنِ ; لِمَا يَعْلَمُ مِنْ تَعْظِيمِ النَّاسِ لَهُ وَتَقْدِيمِهِمْ إِيَّاهُ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَتِ السَّرَايَا وَالْبُعُوثِ إِلَى مَكَّةَ بِسَبَبِهِ، وَلَكِنْ أَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ آنِفًا، فَانْقَشَعَتِ السَّرَايَا عَنْ مَكَّةَ مَفْلُولِينَ، وَانْتَصَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى مَنْ أَرَادَ هَلَاكَهُ مِنَ الْيَزِيدِيِّينَ، وَضَرَبَ أَخَاهُ عَمْرًا وَسَجَنَهُ، وَاقْتَصَّ مِنْهُ وَأَهَانَهُ، وَعَظُمَ شَأْنُ ابْنِ الزُّبَيْرِ عِنْدَ ذَلِكَ بِبِلَادِ الْحِجَازِ، وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ وَبَعُدَ صِيتُهُ،

وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَيْسَ هُوَ مُعَظَّمًا عِنْدَ النَّاسِ مِثْلَ الْحُسَيْنِ، بَلِ النَّاسُ إِنَّمَا مَيْلُهُمْ إِلَى الْحُسَيْنِ، لِأَنَّهُ السَّيِّدُ الْكَبِيرُ، وَابْنُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ يُسَامِيهِ وَلَا يُسَاوِيهِ، وَلَكِنَّ الدَّوْلَةَ الْيَزِيدِيَّةَ كُلَّهَا تُنَاوِئُهُ.
وَقَدْ كَثُرَ وُرُودُ الْكُتُبِ عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِ الْعِرَاقِ يَدْعُونَهُ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ حِينَ بَلَغَهُمْ مَوْتُ مُعَاوِيَةَ وَوِلَايَةُ يَزِيدَ، وَمَصِيرُ الْحُسَيْنِ إِلَى مَكَّةَ فِرَارًا مِنْ بَيْعَةِ يَزِيدَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبْعٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَالٍ، مَعَهُمَا كِتَابٌ فِيهِ السَّلَامُ وَالتَّهْنِئَةُ بِمَوْتِ مُعَاوِيَةَ، فَقَدِمَا عَلَى الْحُسَيْنِ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ بَعَثُوا بَعْدَهُمَا نَفَرًا ; مِنْهُمْ قَيْسُ بْنُ مُسْهِرٍ الصَّيْدَاوِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْكَوَّاءِ الْأَرْحَبِيُّ، وَعُمَارَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّلُولِيُّ، وَمَعَهُمْ نَحْوٌ مَنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ كِتَابًا إِلَى الْحُسَيْنِ، ثُمَّ بَعَثُوا هَانِئَ بْنَ هَانِئٍ السَّبِيعِيَّ وَسَعِيدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنَفِيَّ، وَمَعَهُمَا كِتَابٌ فِيهِ الِاسْتِعْجَالُ فِي السَّيْرِ إِلَيْهِمْ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَحَجَّارُ بْنُ أَبْجَرَ، وَيَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رُوَيْمٍ،

وَعَزْرَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَعَمْرُو بْنُ حَجَّاجٍ الزُّبَيْدِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَقَدِ اخْضَرَّ الْجَنَابُ وَأَيْنَعَتِ الثِّمَارُ وَطَمَّتِ الْجِمَامُ، فَإِذَا شِئْتَ فَاقْدَمْ عَلَى جُنْدٍ لَكَ مُجَنَّدٍ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ. فَاجْتَمَعَتِ الرُّسُلُ كُلُّهَا بِكُتُبِهَا عِنْدَ الْحُسَيْنِ، وَجَعَلُوا يَسْتَحِثُّونَهُ وَيَسْتَقْدِمُونَهُ عَلَيْهِمْ، لِيُبَايِعُوهُ عِوَضًا عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ; وَيَذْكُرُونَ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُمْ فَرِحُوا بِمَوْتِ مُعَاوِيَةَ، وَيَنَالُونَ مِنْهُ وَيَتَكَلَّمُونَ فِي دَوْلَتِهِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُبَايِعُوا أَحَدًا إِلَى الْآنَ، وَأَنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ قُدُومَكَ إِلَيْهِمْ لِيُقَدِّمُوكَ عَلَيْهِمْ. فَعِنْدَ ذَلِكَ بَعَثَ ابْنَ عَمِّهِ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الْعِرَاقِ، لِيَكْشِفَ لَهُ حَقِيقَةَ هَذَا الْأَمْرِ وَالِاتِّفَاقِ، فَإِنْ كَانَ مُتَحَتِّمًا وَأَمْرًا حَازِمًا مُحْكَمًا، بَعَثَ إِلَيْهِ لِيَرْكَبَ فِي أَهْلِهِ وَذَوِيهِ، وَيَأْتِيَ الْكُوفَةَ لِيَظْفَرَ بِمَنْ يُعَادِيهِ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ بِذَلِكَ، فَلَمَّا سَارَ مُسْلِمٌ مِنْ مَكَّةَ اجْتَازَ بِالْمَدِينَةِ، فَأَخَذَ مِنْهَا دَلِيلَيْنِ، فَسَارَا بِهِ عَلَى بَرَارِيَّ مَهْجُورَةِ الْمَسَالِكِ، فَكَانَ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ مِنْهُمَا أَوَّلَ هَالِكٍ، وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ، وَقَدْ أَضَلُّوا الطَّرِيقَ، فَهَلَكَ الدَّلِيلُ الْوَاحِدُ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الْمَضِيقُ. مِنْ بَطْنِ خُبَيْتٍ، فَتَطَيَّرَ بِهِ مُسْلِمُ بْنُ

عَقِيلٍ، فَتَلَبَّثَ مُسْلِمٌ عَلَى مَا هُنَالِكَ، وَمَاتَ الدَّلِيلُ الْآخَرُ، فَكَتَبَ إِلَى الْحُسَيْنِ يَسْتَشِيرُهُ فِي أَمْرِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَعْزِمُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ الْعِرَاقَ، وَأَنْ يَجْتَمِعَ بِأَهْلِ الْكُوفَةِ ; لِيَسْتَعْلِمَ أَمْرَهُمْ وَيَسْتَخْبِرَ خَبَرَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَ الْكُوفَةَ نَزَلَ عَلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: مُسْلِمُ بْنُ عَوْسَجَةَ الْأَسَدِيُّ. وَقِيلَ: نَزَلَ فِي دَارِ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيِّ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَتَسَامَعَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِقُدُومِهِ فَجَاءُوا إِلَيْهِ فَبَايَعُوهُ عَلَى إِمْرَةِ الْحُسَيْنِ، وَحَلَفُوا لَهُ لَيَنْصُرُنَّهُ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَاجْتَمَعَ عَلَى بَيْعَتِهِ مِنْ أَهْلِهَا اثَنَا عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ تَكَاثَرُوا حَتَّى بَلَغُوا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا، فَكَتَبَ مُسْلِمٌ إِلَى الْحُسَيْنِ لِيَقْدَمَ عَلَيْهِمْ فَقَدْ تَمَهَّدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ وَالْأُمُورُ، فَتَجَهَّزَ الْحُسَيْنُ مِنْ مَكَّةَ قَاصِدًا الْكُوفَةَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَانْتَشَرَ خَبَرُهُمْ حَتَّى بَلَغَ أَمِيرَ الْكُوفَةِ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، أَخْبَرَهُ رَجُلٌ بِذَلِكَ، فَجَعَلَ يَضْرِبُ عَنْ ذَلِكَ صَفْحًا وَلَا يَعْبَأُ بِهِ وَلَكِنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الِاخْتِلَافِ وَالْفِتْنَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِالِائْتِلَافِ وَالسُّنَّةِ، وَقَالَ: إِنِّي لَا أُقَاتِلُ مَنْ لَا يُقَاتِلُنِي، وَلَا أَثِبُ عَلَى مَنْ لَا يَثِبُ عَلِيَّ، وَلَا آخُذُكُمْ بِالظِّنَّةِ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَئِنْ فَارَقْتُمْ إِمَامَكُمْ وَنَكَثْتُمْ بَيْعَتَهُ، لَأُقَاتِلَنَّكُمْ مَا دَامَ فِي يَدِي مِنْ سَيْفِي قَائِمَتُهُ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ سَعِيدٍ الْحَضْرَمِيُّ. فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِالْغَشْمِ، وَإِنَّ الَّذِي سَلَكْتَهُ أَيُّهَا الْأَمِيرُ مَسْلَكُ الْمُسْتَضْعَفِينَ. فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ: لِأَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْأَعَزِّينَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. ثُمَّ نَزَلَ،

فَكَتَبَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى يَزِيدَ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَى يَزِيدَ عُمَارَةُ بْنُ عُقْبَةَ وَعُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَبَعَثَ يَزِيدُ، فَعَزَلَ النُّعْمَانَ عَنِ الْكُوفَةِ وَضَمَّهَا إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ مَعَ الْبَصْرَةِ، وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ سَرْجُونَ مَوْلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَكَانَ يَزِيدُ يَسْتَشِيرُهُ، فَقَالَ سَرْجُونُ: أَكُنْتَ قَابِلًا مِنْ مُعَاوِيَةَ مَا أَشَارَ بِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَاقْبَلْ مِنِّي، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْكُوفَةِ إِلَّا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، فَوَلِّهِ إِيَّاهَا، وَكَانَ يَزِيدُ يُبْغِضُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، وَكَانَ يُرِيدُ أَنْ يَعْزِلَهُ عَنِ الْبَصْرَةِ فَوَلَّاهُ الْبَصْرَةَ وَالْكُوفَةَ مَعًا لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ بِهِ وَبِغَيْرِهِ.
ثُمَّ كَتَبَ يَزِيدُ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ: إِذَا قَدِمْتَ الْكُوفَةَ فَتَطَلَّبْ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ فَإِنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ فَاقْتُلْهُ أَوِ انْفِهِ. وَبَعَثَ الْكِتَابَ مَعَ الْعَهْدِ مَعَ مُسْلِمِ بْنِ عَمْرٍو الْبَاهِلِيِّ، فَسَارَ ابْنُ زِيَادٍ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَلَمَّا دَخَلَهَا دَخَلَهَا مُتَلَثِّمًا بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ، فَجَعَلَ لَا يَمُرُّ بِمَلَأٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكَمْ. فَيَقُولُونَ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، مَرْحَبًا يَابْنَ رَسُولِ اللَّهِ. يَظُنُّونَ أَنَّهُ الْحُسَيْنُ، وَقَدْ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ قُدُومَهُ، وَتَكَاثَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَدَخَلَهَا فِي سَبْعَةَ عَشَرَ رَاكِبًا، فَقَالَ لَهُمْ مُسْلِمُ بْنُ عَمْرٍو الَّذِي مِنْ جِهَةِ يَزِيدَ: تَأَخَّرُوا، هَذَا الْأَمِيرُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ فَلَمَّا عَلِمُوا ذَلِكَ عَلَتْهُمْ كَآبَةٌ وَحُزْنٌ شَدِيدٌ، فَتَحَقَّقَ عُبَيْدُ اللَّهِ الْخَبَرَ، وَنَزَلَ قَصْرَ الْإِمَارَةِ مِنَ الْكُوفَةِ.
وَلَمَّا انْتَهَى ابْنُ زِيَادٍ إِلَى بَابِ الْقَصْرِ وَهُوَ مُتَلَثِّمٌ ظَنَّهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ الْحُسَيْنَ قَدْ قَدِمَ، فَأَغْلَقَ بَابَ الْقَصْرِ، وَقَالَ: مَا أَنَا بِمُسْلِمٍ إِلَيْكَ أَمَانَتِي. فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ: افْتَحْ لَا فَتَحْتَ. فَفَتَحَ وَهُوَ يَظُنُّهُ الْحُسَيْنَ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ أَنَّهُ عُبَيْدُ اللَّهِ أُسْقِطَ فِي يَدِهِ، فَدَخَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ، وَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى

أَنِ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. أَصْلَحَهُ اللَّهُ، وَلَّانِي مِصْرَكُمْ وَثَغْرَكُمْ وَفَيْئَكُمْ، وَأَمَرَنِي بِإِنْصَافِ مَظْلُومِكُمْ، وَإِعْطَاءِ مَحْرُومِكُمْ، وَبِالْإِحْسَانِ إِلَى سَامِعِكُمْ وَمُطِيعِكُمْ، وَبِالشِّدَّةِ عَلَى مُرِيبِكُمْ وَعَاصِيكُمْ، وَأَنَا مُمْتَثِلٌ فِيكُمْ أَمْرَهُ وَمُنَفِّذٌ عَهْدَهُ. ثُمَّ نَزَلَ وَأَمَرَ الْعُرَفَاءَ أَنْ يَكْتُبُوا مَنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ وَأَهْلِ الرِّيَبِ وَالْخِلَافِ وَالشِّقَاقِ، وَأَيُّمَا عَرِيفٍ لَمْ يُطْلِعْنَا عَلَى ذَلِكَ صُلِبَ وَنُفِيَ وَأُسْقِطَتْ عِرَافَتُهُ مِنَ الدِّيوَانِ.
فَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ أَرْسَلَ مَوْلًى لِبَنِي تَمِيمٍ - وَقِيلَ: كَانَ مَوْلًى لَهُ اسْمُهُ مَعْقِلٌ - وَمَعَهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فِي صُورَةِ قَاصِدٍ مِنْ بِلَادِ حِمْصَ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ لِهَذِهِ الْبَيْعَةِ، فَذَهَبَ ذَلِكَ الْمَوْلَى، فَلَمْ يَزَلْ يَتَلَطَّفُ وَيَسْتَدِلُّ عَلَى الدَّارِ الَّتِي يُبَايِعُونَ بِهَامُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ، حَتَّى دَخَلَهَا، وَهِيَ دَارُ هَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ الَّتِي تَحَوَّلَ إِلَيْهَا مِنَ الدَّارِ الْأُولَى، فَبَايَعَ وَأَدْخَلُوهُ عَلَى مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، فَلَزِمَهُمْ أَيَّامًا حَتَّى اطَّلَعَ عَلَى جَلِيَّةِ أَمْرِهِمْ، فَدَفَعَ الْمَالَ إِلَى أَبِي ثُمَامَةَ الصَّائِدِيِّ بِأَمْرِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ وَكَانَ هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ مَا يُؤْتَى بِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَيَشْتَرِي السِّلَاحَ وَكَانَ مِنْ فُرْسَانِ الْعَرَبِ - فَرَجَعَ ذَلِكَ الْمَوْلَى، وَأَعْلَمَ عُبَيْدَ اللَّهِ بِالدَّارِ وَصَاحِبِهَا، وَقَدْ تَحَوَّلَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ مِنْ دَارِ هَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ الْمُرَادِيِّ، إِلَى دَارِ شَرِيكِ بْنِ الْأَعْوَرِ،

وَكَانَ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْأَكَابِرِ، وَبَلَغَهُ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ يُرِيدُ عِيَادَتَهُ، فَبَعَثَ إِلَى هَانِئٍ يَقُولُ لَهُ: ابْعَثْ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ حَتَّى يَكُونَ فِي دَارِي لِيَقْتُلَ عُبَيْدَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ يَعُودُنِي. فَبَعَثَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ شَرِيكٌ: كُنْ أَنْتَ فِي الْخِبَاءِ، فَإِذَا جَلَسَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَإِنِّي أَطْلُبُ الْمَاءَ، وَهِيَ إِشَارَتِي إِلَيْكَ، فَاخْرُجْ فَاقْتُلْهُ. فَلَمَّا جَاءَ عُبَيْدُ اللَّهِ جَلَسَ عَلَى فِرَاشِ شَرِيكٍ وَعِنْدَهُ هَانِئُ بْنُ عُرْوَةَ، وَقَامَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ غُلَامٌ يُقَالُ لَهُ: مِهْرَانُ. فَتَحَدَّثَ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ شَرِيكٌ: اسْقُونِي مَاءً. فَتَجَبَّنَ مُسْلِمٌ عَنْ قَتْلِهِ، وَخَرَجَتْ جَارِيَةٌ بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ، فَوَجَدَتْ مُسْلِمًا فِي الْخِبَاءِ فَاسْتَحْيَتْ وَرَجَعَتْ. قَالَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: اسْقُونِي وَلَوْ كَانَ فِيهِ ذَهَابُ نَفْسِي، أَتَحْمُونَنِي مِنَ الْمَاءِ ؟ فَفَهِمَمِهْرَانُ الْغَدْرَ، فَغَمَزَ مَوْلَاهُ، فَنَهَضَ سَرِيعًا وَخَرَجَ، فَقَالَ شَرِيكٌ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُوصِيَ إِلَيْكَ. فَقَالَ: إِنِّي سَأَعُودُ إِلَيْكَ. فَخَرَجَ بِهِ مَوْلَاهُ، فَأَذْهَبَهُ وَجَعَلَ يَطْرُدُ بِهِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ الْقَوْمَ أَرَادُوا قَتْلَكَ. فَقَالَ: وَيْحَكَ ! إِنِّي بِهِمْ لَرَفِيقٌ، فَمَا بَالُهُمْ ؟ ! وَقَالَ شَرِيكٌ لِمُسْلِمٍ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَخْرُجَ فَتَقْتُلَهُ ؟ قَالَ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " الْإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ، لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ ". وَكَرِهْتُ أَنْ أَقْتُلَهُ فِي بَيْتِكَ. فَقَالَ: أَمَا لَوْ قَتَلْتَهُ لَجَلَسْتَ فِي الْقَصْرِ لَمْ يَسْتَعِدَّ مِنْهُ أَحَدٌ وَلَتُكْفَيَنَّ أَمْرَ الْبَصْرَةِ، وَلَوْ قَتَلْتَهُ لَقَتَلْتَ ظَالِمًا فَاجِرًا. وَمَاتَ شَرِيكٌ بَعْدَ ثَلَاثٍ.

وَكَانَ هَانِئٌ أَحَدَ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ مُنْذُ قَدِمَ وَتَمَارَضَ، فَذَكَرَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَقَالَ: مَا بَالُ هَانِئٍ لَمْ يَأْتِنِي مَعَ الْأُمَرَاءِ ؟ فَقَالُوا: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنَّهُ يَشْتَكِي. فَقَالَ: قَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَى بَابِ دَارِهِ.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عَادَهُ قَبْلَ شَرِيكِ بْنِ الْأَعْوَرِ وَمُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ عِنْدَهُ، وَقَدْ هَمُّوا بِقَتْلِهِ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُمْ هَانِئٌ لِكَوْنِهِ فِي دَارِهِ، فَجَاءَ الْأُمَرَاءُ إِلَى هَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَدْخَلُوهُ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَالْتَفَتَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى الْقَاضِي شُرَيْحٍ، فَقَالَ مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أُرِيدُ حَيَاتَهُ وَيُرِيدُ قَتْلِي عَذِيرُكَ مِنْ خَلِيلِكَ مِنْ مُرَادِ
فَلَمَّا سَلَّمَ هَانِئٌ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: يَا هَانِئُ، أَيْنَ مُسْلِمُ بْنَ عَقِيلٍ ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. فَقَامَ ذَلِكَ الْمَوْلَى التَّمِيمِيُّ - الَّذِي دَخَلَ دَارَ هَانِئٍ فِي صُورَةِ قَاصِدٍ مِنْ حِمْصَ، فَبَايَعَ فِي دَارِهِ، وَدَفَعَ الدَّرَاهِمَ بِحَضْرَةِ هَانِئٍ إِلَى مُسْلِمٍ - فَقَالَ: أَتَعْرِفُ هَذَا ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا رَآهُ هَانِئٌ قُطِعَ بِهِ وَأُسْقِطَ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، وَاللَّهِ مَا دَعَوْتُهُ إِلَى مَنْزِلِي، وَلَكِنَّهُ جَاءَ فَطَرَحَ نَفْسَهُ عَلَيَّ. فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَأْتِنِي بِهِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَا رَفَعْتُهُمَا عَنْهُ. فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي. فَأَدْنَوْهُ فَضَرَبَهُ بِحَرْبَةٍ عَلَى وَجْهِهِ، فَشَجَّهُ عَلَى حَاجِبِهِ، وَكَسَرَ أَنْفَهُ، وَتَنَاوَلَ هَانِئٌ سَيْفَ شُرْطِيٍّ لِيَسُلَّهُ، فَدُفِعَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ لِي دَمَكَ ; لَأَنَّكَ حَرُورِيٌّ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ، فَحَبَسَهُ فِي جَانِبِ الدَّارِ، وَجَاءَ قَوْمُهُ مِنْ بَنِي

مَذْحِجٍ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْحَجَّاجِ، فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ الْقَصْرِ، يَظُنُّونَ أَنَّهُ قَدْ قُتِلَ، فَسَمِعَ عُبَيْدُ اللَّهِ لَهُمْ جَلَبَةً، فَقَالَ لِشُرَيْحٍ الْقَاضِي وَهُوَ عِنْدَهُ: اخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ الْأَمِيرَ لَمْ يَحْبِسْهُ إِلَّا لَيَسْأَلَهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ. فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ صَاحِبَكُمْ حَيٌّ، وَقَدْ ضَرَبَهُ سُلْطَانُنَا ضَرْبًا لَمْ يَبْلُغْ نَفْسَهُ، فَانْصَرِفُوا وَلَا تُحِلُّوا بِأَنْفُسِكُمْ وَلَا بِصَاحِبِكُمْ. فَتَفَرَّقُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَسَمِعَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ الْخَبَرَ، فَرَكِبَ وَنَادَى بِشِعَارِهِ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ. فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ مَعَهُ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَمَعَهُ رَايَةٌ خَضْرَاءُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ بِرَايَةٍ حَمْرَاءَ، فَرَتَّبَهُمْ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً، وَسَارَ هُوَ فِي الْقَلْبِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ فِي أَمْرِ هَانِئٍ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَأَشْرَافُ النَّاسِ وَأُمَرَاؤُهُمْ تَحْتَ مِنْبَرِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَتِ النَّظَّارَةُ يَقُولُونَ: جَاءَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ. فَبَادَرَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَدَخَلَ الْقَصْرَ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَلَمَّا انْتَهَى مُسْلِمٌ إِلَى بَابِ الْقَصْرِ وَقَفَ بِجَيْشِهِ هُنَاكَ، فَأَشْرَفَ أُمَرَاءُ الْقَبَائِلِ الَّذِينَ عِنْدَ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي الْقَصْرِ، فَأَشَارُوا إِلَى قَوْمِهِمُ الَّذِينَ مَعَ مُسْلِمٍ بِالِانْصِرَافِ وَتَهَدَّدُوهُمْ وَوَعَدُوهُمْ وَتَوَعَّدُوهُمْ، وَأَخْرَجَ عُبَيْدُ اللَّهِ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْكَبُوا فِي الْكُوفَةِ يُخَذِّلُونَ النَّاسَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تَجِيءُ إِلَى ابْنِهَا وَأَخِيهَا فَتَقُولُ: ارْجِعِ، النَّاسُ يَكْفُونَكَ. وَيَقُولُ الرَّجُلُ لَابْنِهِ وَأَخِيهِ: كَأَنَّكَ غَدًا بِجُنُودِ الشَّامِ قَدْ أَقْبَلَتْ، فَمَاذَا تَصْنَعُ مَعَهُمْ ؟ فَتَخَاذَلَ النَّاسُ وَقَصَّرُوا وَتَصَرَّمُوا وَانْصَرَفُوا عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ فَمَا أَمْسَى إِلَّا وَهُوَ فِي

خَمْسِمِائَةِ نَفْسٍ، ثُمَّ بَقِيَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ، ثُمَّ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا ثَلَاثُونَ رَجُلًا، فَصَلَّى بِهِمُ الْمَغْرِبَ، وَقَصَدَ أَبْوَابَ كِنْدَةَ، فَخَرَجَ مِنْهَا فِي عَشَرَةٍ، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَبَقِيَ وَحْدَهُ، لَيْسَ مَعَهُ مَنْ يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَلَا مَنْ يُوَاسِيهِ بْنفْسِهِ، وَلَا مَنْ يَأْوِيهِ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَذَهَبَ عَلَى وَجْهِهِ، وَاخْتَلَطَ الظَّلَامُ وَهُوَ وَحْدَهُ يَتَرَدَّدُ فِي الطَّرِيقِ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ، فَأَتَى بَابًا فَنَزَلَ عِنْدَهُ وَطَرَقَهُ، فَخَرَجَتْ مِنْهُ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا: طَوْعَةُ - كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَلْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَقَدْ كَانَ لَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ يُقَالُ لَهُ: بِلَالُ بْنُ أُسَيْدٍ. خَرَجَ مَعَ النَّاسِ، وَأُمُّهُ قَائِمَةٌ بِالْبَابِ تَنْتَظِرُهُ - فَقَالَ لَهَا مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ: اسْقِنِي مَاءً. فَسَقَتْهُ، ثُمَّ دَخَلَتْ وَخَرَجَتْ فَوَجَدَتْهُ، فَقَالَتْ: أَلَمْ تَشْرَبْ ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَتْ: فَاذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ. فَسَكَتَ، فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَهُوَ سَاكِتٌ، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا عَبْدَ اللَّهِ ! قُمْ إِلَى أَهْلِكَ، عَافَاكَ اللَّهُ، فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَكَ الْجُلُوسُ عَلَى بَابِي، وَلَا أُحِلُّهُ لَكَ. فَقَامَ فَقَالَ: يَا أَمَةَ اللَّهِ، لَيْسَ لِي فِي هَذَا الْبَلَدِ مَنْزِلٌ وَلَا عَشِيرَةٌ، فَهَلْ لَكِ إِلَى أَجْرٍ وَمَعْرُوفٍ وَفِعْلٍ نُكَافِئُكِ بِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ. فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ: أَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ، كَذَّبَنِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ وَغَرُّونِي. فَقَالَتْ: أَنْتَ مُسْلِمٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتِ: ادْخُلْ. فَأَدْخَلَتْهُ بَيْتًا مِنْ دَارِهَا غَيْرَ الْبَيْتِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ، وَفَرَشَتْ لَهُ، وَعَرَضَتْ عَلَيْهِ الْعَشَاءَ فَلَمْ يَتَعَشَّ، فَلَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ جَاءَ ابْنُهَا فَرَآهَا تُكْثِرُ الدُّخُولَ وَالْخُرُوجَ، فَسَأَلَهَا عَنْ شَأْنِهَا فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، الْهُ عَنْ هَذَا. فَأَلَحَّ عَلَيْهَا، فَأَخَذَتْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُحَدِّثَ أَحَدًا، فَأَخْبَرَتْهُ خَبَرَ مُسْلِمٍ، فَاضْطَجَعَ وَسَكَتَ إِلَى الصَّبَاحِ.

وَأَمَّا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ فَإِنَّهُ نَزَلَ مِنَ الْقَصْرِ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَشْرَافِ بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَصَلَّى بِهِمُ الْعِشَاءَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، ثُمَّ خَطَبَهُمْ وَطَلَبَ مِنْهُمْ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ، وَحَثَّ عَلَى طَلَبِهِ، وَمِنْ وُجِدَ عِنْدِهِ وَلَمْ يُعْلِمْ بِهِ فَدَمُهُ هَدَرٌ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ فَلَهُ دِيَتُهُ، وَطَلَبَ الشُّرَطَ، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى تَطَلُّبِهِ وَتَهَدَّدَهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ابْنُ تِلْكَ الْعَجُوزِ ذَهَبَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، فَأَعْلَمَهُ بِأَنَّ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ فِي دَارِهِمْ، فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَسَارَّ أَبَاهُ بِذَلِكَ وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ: مَا سَارَّكَ بِهِ ؟ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَّ مُسْلِمًا فِي بَعْضِ دُورِنَا. فَنَخَسَ بِقَضِيبٍ فِي جَنْبِهِ، وَقَالَ: قُمْ فَأْتِنِي بِهِ السَّاعَةَ.
وَبَعَثَ ابْنُ زِيَادٍ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيَّ - وَكَانَ صَاحِبَ شُرْطَتِهِ - وَمَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ فِي سَبْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ فَارِسًا، فَلَمْ يَشْعُرْ مُسْلِمٌ إِلَّا وَقَدْ أُحِيطَ بِالدَّارِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَقَامَ إِلَيْهِمْ بِالسَّيْفِ فَأَخْرَجَهُمْ مِنَ الدَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأُصِيبَتْ شَفَتُهُ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى، ثُمَّ جَعَلُوا يَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ وَيُلْهِبُونَ النَّارَ فِي أَطْنَانِ الْقَصَبِ وَيُلْقُونَهَا عَلَيْهِ، فَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ بِسَيْفِهِ فَقَاتَلَهُمْ، فَأَعْطَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَمَانَ، فَأَمْكَنَهُ مِنْ يَدِهِ، وَجَاءُوا بِبَغْلَةٍ، فَأَرْكَبُوهُ عَلَيْهَا، وَسَلَبُوا مِنْهُ سَيْفَهُ، فَلَمْ يَبْقَ يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا، فَبَكَى عِنْدَ ذَلِكَ، وَعَرَفَ أَنَّهُ مَقْتُولٌ، فَيَئِسَ مِنْ نَفْسِهِ، وَقَالَ: إِنَّا لَلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. فَقَالَ

لَهُ بَعْضُ مَنْ حَوْلَهُ: إِنَّ مَنْ يَطْلُبُ مِثْلَ الَّذِي تَطْلُبُ لَا يَبْكِي إِذَا نَزَلَ بِهِ هَذَا. فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَسْتُ أَبْكِي عَلَى نَفْسِي، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى الْحُسَيْنِ وَآلِ الْحُسَيْنِ، إِنَّهُ قَدْ خَرَجَ إِلَيْكُمُ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا مِنْ مَكَّةَ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ فَقَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى الْحُسَيْنِ عَلَى لَسَانِي تَأْمُرُهُ بِالرُّجُوعِ فَافْعَلْ. فَبَعَثَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى الْحُسَيْنِ يَأْمُرُهُ بِالرُّجُوعِ، فَلَمْ يُصَدِّقِ الرَّسُولَ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: كُلُّ مَا حُمَّ وَاقِعٌ.
قَالُوا: وَلَمَّا انْتَهَى مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ إِلَى بَابِ الْقَصْرِ إِذَا عَلَى بَابِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ يَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَهُ، يَنْتَظِرُونَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ، وَمُسْلِمٌ مُخَضَّبٌ بِالدِّمَاءِ وَجْهُهُ وَثِيَابُهُ، وَهُوَ مُثْخَنٌ بِالْجِرَاحِ، فِي غَايَةِ الْعَطَشِ، وَإِذَا قُلَّةٌ مِنْ مَاءٍ بَارِدٍ هُنَالِكَ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا لَيَشْرَبَ مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أُولَئِكَ: وَاللَّهِ لَا تَشْرَبُ مِنْهَا حَتَّى تَشْرَبَ مِنَ الْحَمِيمِ. فَقَالَ لَهُ: وَيْلَكَ يَا ابْنَ بَاهِلَةَ ! أَنْتَ أَوْلَى بِالْحَمِيمِ وَالْخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ مِنِّي. ثُمَّ جَلَسَ مُتَسَانِدًا إِلَى الْحَائِطِ مِنَ التَّعَبِ وَالْكَلَالِ وَالْعَطَشِ، فَبَعَثَ عُمَارَةُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مَوْلًى لَهُ إِلَى دَارِهِ، فَجَاءَ بِقُلَّةٍ عَلَيْهَا مِنْدِيلٌ وَمَعَهُ قَدَحٌ، فَجَعَلَ يُفْرِغُ لَهُ فِي الْقَدَحِ، وَيُعْطِيهِ فَيَشْرَبُ، فَلَا يَسْتَطِيعُ مِنْ كَثْرَةِ الدِّمَاءِ الَّتِي تَعْلُو عَلَى الْمَاءِ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَلَمَّا شَرِبَ سَقَطَتْ ثَنْيَتَاهُ مَعَ الْمَاءِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لَلَّهِ، لَقَدْ كَانَ لِي مِنَ الرِّزْقِ الْمَقْسُومِ شَرْبَةُ مَاءٍ.
ثُمَّ أُدْخِلَ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَلَمَّا أُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ

الْحَرَسِيُّ: أَلَا تُسَلِّمُ عَلَى الْأَمِيرِ ؟ ! فَقَالَ: لَا، إِنْ كَانَ يُرِيدُ قَتْلِي فَلَا حَاجَةَ لِي بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ قَتْلِي فَسَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ كَثِيرًا. فَأَقْبَلَ ابْنُ زِيَادٍ عَلَيْهِ فَقَالَ: إِيهِ يَا ابْنَ عَقِيلٍ، أَتَيْتَ النَّاسَ وَأَمْرُهُمْ جَمِيعٌ وَكَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ ; لِتُشَتِّتَهُمْ، وَتُفَرِّقَ كَلِمَتَهُمْ، وَتَحْمِلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ؟ ! قَالَ: كَلَّا لَسْتُ لَذَلِكَ أَتَيْتُ، وَلَكِنْ أَهْلُ الْمِصْرِ زَعَمُوا أَنَّ أَبَاكَ قَتَلَ خِيَارَهُمْ، وَسَفَكَ دِمَاءَهُمْ، وَعَمِلَ فِيهِمْ أَعْمَالَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، فَأَتَيْنَاهُمْ لَنَأْمُرَ بِالْعَدْلِ وَنَدْعُوَ إِلَى حُكْمِ الْكِتَابِ. قَالَ: وَمَا أَنْتَ وَذَاكَ يَا فَاسِقُ، أَوَ لَمْ نَكُنْ نَعْمَلُ بِذَلِكَ فِيهِمْ إِذْ أَنْتَ بِالْمَدِينَةِ تَشْرَبُ الْخَمْرَ ؟ فَقَالَ: أَنَا أَشْرَبُ الْخَمْرَ ! وَاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَيَعْلَمُ أَنَّكَ غَيْرُ صَادِقٍ، وَأَنَّكَ قُلْتَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنِّي، فَإِنِّي لَسْتُ كَمَا ذَكَرْتَ، وَإِنَّ أَوْلَى بِهَا مِنِّي مَنْ يَلَغُ فِي دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَغًا، وَيَقْتُلُ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ بِغَيْرِ نَفْسٍ، وَيَقْتُلُ عَلَى الْغَضَبِ وَالظَّنِّ، وَهُوَ يَلْهُو وَيَلْعَبُ كَأَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: يَا فَاسِقُ، إِنَّ نَفْسَكَ تُمَنِّيكَ مَا حَالَ اللَّهُ دُونَكَ وَدُونَهُ، وَلَمْ يَرَكَ أَهْلَهُ. قَالَ: فَمَنْ أَهْلُهُ يَا ابْنَ زِيَادٍ ؟ قَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ. قَالَ: الْحَمْدُ لَلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، رَضِينَا بِاللَّهِ حَكَمًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. قَالَ: كَأَنَّكَ تَظُنُّ أَنَّ لَكُمْ فِي الْأَمْرِ شَيْئًا ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالظَّنِّ، وَلَكِنَّهُ الْيَقِينُ. قَالَ لَهُ: قَتَلَنِي اللَّهُ إِنْ لَمْ أَقْتُلْكَ قِتْلَةً لَمْ يُقْتَلْهَا أَحَدٌ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ النَّاسِ. قَالَ: أَمَا إِنَّكَ أَحَقُّ مَنْ أَحْدَثَ فِي الْإِسْلَامِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ، أَمَا إِنَّكَ لَا تَدَعُ سُوءَ الْقِتْلَةِ، وَقُبْحَ الْمُثْلَةِ، وَخُبْثَ السِّيرَةِ الْمُكْتَسَبَةِ عَنْ آبَائِكُمْ وَجُهَّالِكُمْ. وَأَقْبَلَ ابْنُ زِيَادٍ يَشْتُمُهُ وَيَشْتُمُ حُسَيْنًا وَعَلِيًّا، وَمُسْلِمٌ

سَاكِتٌ لَا يُكَلِّمُهُ. ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ وَغَيْرِهِ مِنْ رُوَاةِ الشِّيعَةِ.
ثُمَّ قَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: إِنِّي قَاتِلُكَ. قَالَ: كَذَلِكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَدَعْنِي أُوصِي إِلَى بَعْضِ قَوْمِي. قَالَ: أَوْصِ. فَنَظَرَ فِي جُلَسَائِهِ وَفِيهِمْ عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. فَقَالَ: يَا عُمَرُ، إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَرَابَةٌ، وَلِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ، وَهُوَ سِرٌّ. فَأَبَى أَنْ يَقُومَ مَعَهُ حَتَّى أَذِنَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ، فَقَامَ فَتَنَحَّى قَرِيبًا مِنِ ابْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ لَهُ مُسْلِمٌ: إِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فِي الْكُوفَةِ ; سَبْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَاقْضِهَا عَنِّي، وَاسْتَوْهِبْ جُثَّتِي مِنِ ابْنِ زِيَادٍ فَوَارِهَا، وَابْعَثْ إِلَى الْحُسَيْنِ، فَإِنِّي قَدْ كَتَبْتُ إِلَيْهِ أُعْلِمُهُ أَنَّ النَّاسَ مَعَهُ، وَلَا أَرَاهُ إِلَّا مُقْبِلًا. فَقَامَ عُمَرُ فَعَرَضَ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ مَا قَالَ لَهُ، فَأَجَازَ لَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَقَالَ: وَأَمَّا الْحُسَيْنُ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُرِدْنَا لَا نُرِدْهُ، وَإِنْ أَرَادَنَا لَمْ نَكُفَّ عَنْهُ. ثُمَّ أَمَرَ ابْنُ زِيَادٍ بِمُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، فَأُصْعِدَ إِلَى أَعَلَى الْقَصْرِ، وَهُوَ يُكَبِّرُ وَيَسْتَغْفِرُ وَيُصَلِّي عَلَى مَلَائِكَةِ اللَّهِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ غَرُّونَا وَخَذَلُونَا. ثُمَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: بُكَيْرُ بْنُ حُمْرَانَ. ثُمَّ أَلْقَى رَأْسَهُ إِلَى أَسْفَلِ الْقَصْرِ، وَأَتْبَعَ رَأْسَهُ بِجَسَدِهِ.
ثُمَّ أَمَرَ بِهَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ الْمَذْحِجِيِّ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ بِسُوقِ الْغَنَمِ، وَصُلِبَ بِمَكَانٍ مِنَ الْكُوفَةِ يُقَالُ لَهُ: الْكُنَاسَةُ. فَقَالَ رَجُلٌ شَاعِرٌ فِي ذَلِكَ قَصِيدَةً، وَيُقَالُ: إِنَّهَا لَلْفَرَزْدَقِ:
فَإِنْ كُنْتِ لَا تَدْرِينَ مَا الْمَوْتُ فَانْظُرِي إِلَى هَانِئٍ فِي السُّوقِ وَابْنِ عَقِيلِ

أَصَابَهُمَا أَمْرُ الْإِمَامِ فَأَصْبَحَا أَحَادِيثَ مَنْ يَسْعَى بِكُلِّ سَبِيلِ
إِلَى بَطَلٍ قَدْ هَشَّمَ السَّيْفُ وَجْهَهُ وَآخَرُ يَهْوَى فِي طَمَارِ قَتِيلِ
تَرَيْ جَسَدًا قَدْ غَيَّرَ الْمَوْتُ لَوْنَهُ وَنَضَحَ دَمٍ قَدْ سَالَ كُلَّ مَسِيلِ
فَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَثْأَرُوا بِأَخِيكُمُ فَكُونُوا بَغَايَا أُرْضِيَتْ بِقَلِيلِ
ثُمَّ بُعِثَ بِرُءُوسِهِمَا إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى الشَّامِ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا بِصُورَةِ مَا وَقَعَ مِنْ أَمْرِهِمَا.
وَقَدْ كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْبَصْرَةِ بِيَوْمٍ خَطَبَ أَهْلَهَا خُطْبَةً بَلِيغَةً، وَوَعَظَهُمْ فِيهَا وَحَذَّرَهُمْ وَأَنْذَرَهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالْفِتْنَةِ وَالتَّفَرُّقِ.
وَذَلِكَ كَمَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ وَأَبُو مِخْنَفٍ، عَنِ الصَّقْعَبِ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: وَكَتَبَ الْحُسَيْنُ مَعَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ: سُلَيْمانُ. كِتَابًا إِلَى أَشْرَافِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَلْقِهِ، وَأَكْرَمَهُ بِنُبُوَّتِهِ، وَاخْتَارَهُ لِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ قَبَضَهُ إِلَيْهِ وَقَدْ نَصَحَ لِعِبَادِهِ وَبَلَّغَ مَا أُرْسِلَ بِهِ، وَكُنَّا أَهْلَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ وَأَوْصِيَاءَهُ وَوَرَثَتَهُ، وَأَحَقَّ النَّاسِ بِمَقَامِهِ فِي النَّاسِ، فَاسْتَأْثَرَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا بِذَلِكَ، فَرَضِينَا وَكَرِهْنَا الْفُرْقَةَ، وَأَحْبَبْنَا الْعَافِيَةَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّا أَحَقُّ بِذَلِكَ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْنَا مِمَّنْ تَوَلَّاهُ، وَقَدْ أَحْسَنُوا وَأَصْلَحُوا، وَتَحَرَّوُا الْحَقَّ،

فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَغَفَرَ لَنَا وَلَهُمْ، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ بِهَذَا الْكِتَابِ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ قَدْ أُمِيتَتْ، وَإِنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ أُحْيِيَتْ، فَإِنْ تَسْمَعُوا قَوْلِي وَتُطِيعُوا أَمْرِي أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ - وَعِنْدِي فِي صِحَّةِ هَذَا عَنِ الْحُسَيْنِ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُطَرَّزٌ بِكَلَامٍ مَزِيدٍ مِنْ بَعْضِ رُوَاةِ الشِّيعَةِ - قَالَ: فَكُلُّ مَنْ قَرَأَ الْكِتَابَ مِنَ الْأَشْرَافِ كَتَمَهُ إِلَّا الْمُنْذِرَ بْنَ الْجَارُودِ فَإِنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ دَسِيسَةٌ مِنِ ابْنِ زِيَادٍ، فَجَاءَ بِهِ إِلَيْهِ، فَبَعَثَ خَلْفَ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ. وَصَعِدَ عُبَيْدُ اللَّهِ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَوَاللَّهِ مَا بِي تُقْرَنُ الصَّعْبَةُ، وَمَا يُقَعْقَعُ لِي بِالشِّنَانِ، وَإِنِّي لَنِكْلٌ لِمَنْ عَادَانِي، وَسِمَامٌ لِمَنْ حَارَبَنِي، أَنْصَفَ الْقَارَّةَ مَنْ رَامَاهَا، يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّانِي الْكُوفَةَ وَأَنَا غَادٍ إِلَيْهَا الْغَدَاةَ، وَقَدِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكَمْ عُثْمَانَ بْنَ زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِيَّاكُمْ وَالْخِلَافَ وَالْإِرْجَافَ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَئِنْ بَلَغَنِي عَنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ خِلَافٌ لَأَقْتُلَنَّهُ وَعَرِيفَهُ وَوَلِيَّهُ، وَلَآخُذَنَّ الْأَدْنَى بِالْأَقْصَى، حَتَّى تَسْتَقِيمُوا لِي، وَلَا يَكُونُ فِيكُمْ مُخَالِفٌ وَلَا مُشَاقٌّ، أَنَا ابْنُ زِيَادٍ، أَشْبَهْتُهُ مِنْ بَيْنِ مَنْ وَطِئَ الْحَصَى، وَلَمْ يَنْتَزِعْنِي شَبَهُ خَالٍ وَلَا عَمٍّ. ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ وَمَعَهُ مُسْلِمُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا تَقَدَّمَ.

قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنِ الصَّقْعَبِ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: كَانَ مَخْرَجُ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ بِالْكُوفَةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءَ لَثَمَانٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَقِيلَ: يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِتِسْعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَذَلِكَ يَوْمَ عَرَفَةَ سَنَةَ سِتِّينَ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَخْرَجِ الْحُسَيْنِ مِنْ مَكَّةَ قَاصِدًا أَرْضَ الْعِرَاقِ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ خُرُوجُ الْحُسَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ يَوْمَ الْأَحَدِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ سِتِّينَ، وَدَخَلَ مَكَّةَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِثَلَاثٍ مَضَيْنَ مِنْ شَعْبَانَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ بَقِيَّةَ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ وَشَوَّالًا وَذَا الْقَعْدَةِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا لِثَمَانٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ.

صِفَةُ مَخْرَجِ الْحُسَيْنِ وَمَا جَرَى لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ
لَمَّا تَوَاتَرَتِ الْكُتُبُ إِلَى الْحُسَيْنِ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَتَكَرَّرَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَجَاءَهُ كِتَابُ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ بِأَهْلِهِ، ثُمَّ وَقَعَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ مَا وَقَعَ مِنْ مَقْتَلِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ وَالْحُسَيْنُ لَا يَعْلَمُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ وَالْقُدُومِ عَلَيْهِمْ، فَاتَّفَقَ خُرُوجُهُ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ قَبْلَ مَقْتَلِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ - فَإِنَّ مُسْلِمًا قُتِلَ يَوْمَ عَرَفَةَ - وَلَمَّا اسْتَشْعَرَ النَّاسُ خُرُوجَهُ أَشْفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، وَحَذَّرُوهُ مِنْهُ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ بِعَدَمِ الْخُرُوجِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَأَمَرُوهُ بِالْمُقَامِ بِمَكَّةَ، وَذَكَّرُوهُ مَا جَرَى لِأَبِيهِ وَأَخِيهِ مَعَهُمْ.
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اسْتَشَارَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي الْخُرُوجِ فَقُلْتُ: لَوْلَا أَنْ يُزْرَى بِي وَبِكَ لَشَبِثْتُ يَدِي فِي رَأْسِكَ. فَكَانَ الَّذِي رَدَّ عَلَيَّ أَنْ قَالَ: لَأَنْ أُقْتَلَ فِي

مَكَانِ كَذَا وَكَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُقْتَلَ بِمَكَّةَ. قَالَ: فَكَانَ هَذَا الَّذِي سَلَا نَفْسِي عَنْهُ.
وَرَوَى أَبُو مِخْنَفٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ الْوَالِبِيِّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ سَمْعَانَ، أَنَّ حُسَيْنًا لَمَّا أَجْمَعَ الْمَسِيرُ إِلَى الْكُوفَةِ أَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَمِّ، إِنَّهُ قَدْ أَرْجَفَ النَّاسُ أَنَّكَ سَائِرٌ إِلَى الْعِرَاقِ، فَبَيِّنْ لِي مَا أَنْتَ صَانِعٌ. فَقَالَ: إِنِّي قَدْ أَجْمَعْتُ الْمَسِيرَ فِي أَحَدِ يَوْمَيَّ هَذَيْنِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبِرْنِي إِنْ كَانَ قَدْ دَعَوْكَ بَعْدَ مَا قَتَلُوا أَمِيرَهُمْ وَنَفَوْا عَدُوَّهُمْ وَضَبَطُوا بِلَادَهُمْ، فَسِرْ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ أَمِيرُهُمْ عَلَيْهِمْ قَاهِرًا لَهُمْ، وَعُمَّالُهُ تَجْبِي بِلَادَهُمْ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا دَعَوْكَ لِلْفِتْنَةِ وَالْقِتَالِ، وَلَا آمَنُ عَلَيْكَ أَنْ يَسْتَنْفِرُوا إِلَيْكَ النَّاسَ، فَيَكُونُ الَّذِينَ دَعَوْكَ أَشَدَّ النَّاسِ عَلَيْكَ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: إِنِّي أَسْتَخِيرُ اللَّهَ وَأَنْظُرُ مَا يَكُونُ. فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَدَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَدْرِي مَا تَرْكُنَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَنَحْنُ أَبْنَاءَ الْمُهَاجِرِينَ، وَوُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ دُونَهُمْ، أَخْبِرْنِي مَا تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لَقَدْ حَدَّثْتُ نَفْسِي بِإِتْيَانِ الْكُوفَةِ، وَلَقَدْ كَتَبَ إِلَيَّ شِيعَتِي بِهَا وَأَشْرَافُ أَهْلِهَا، وَأَسْتَخِيرُ اللَّهَ. فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَا لَوْ كَانَ لِي بِهَا مِثْلُ شِيعَتِكَ مَا عَدَلْتُ عَنْهَا. فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ الْحُسَيْنُ: قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ مَعِي شَيْءٌ، وَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْدِلُوهُ بِي،

فَوَدَّ أَنِّي خَرَجْتُ لِتَخْلُوَ لَهُ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَشِيِّ أَوْ مِنَ الْغَدِ جَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى الْحُسَيْنِ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَمِّ، إِنِّي أَتَصَبَّرُ وَلَا أَصْبِرُ، إِنِّي أَتَخَوَّفُ عَلَيْكَ فِي هَذَا الْوَجْهِ الْهَلَاكَ، إِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ قَوْمٌ غُدُرٌ فَلَا تَغْتَرَّنَّ بِهِمْ، أَقِمْ فِي هَذَا الْبَلَدِ حَتَّى يَنْفِيَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَدُوَّهُمْ، ثُمَّ اقْدَمْ عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَسِرْ إِلَى الْيَمَنِ فَإِنَّ بِهِ حُصُونًا وَشِعَابًا، وَلِأَبِيكَ بِهِ شِيعَةٌ، وَكُنْ عَنِ النَّاسِ فِي مَعْزِلٍ، وَاكْتُبْ إِلَيْهِمْ، وَبُثَّ دُعَاتَكَ فِيهِمْ، فَإِنِّي أَرْجُو إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا تُحِبُّ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: يَا ابْنَ عَمِّ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ نَاصِحٌ شَفِيقٌ، وَلَكِنِّي قَدْ أَزْمَعْتُ الْمَسِيرَ. فَقَالَ لَهُ: فَإِنْ كُنْتَ وَلَا بُدَّ سَائِرًا فَلَا تَسِرْ بِنِسَائِكَ وَصِبْيَتِكَ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَخَائِفٌ أَنْ تُقْتَلَ كَمَا قُتِلَ عُثْمَانُ وَنِسَاؤُهُ وَوَلَدُهُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَقْرَرْتَ عَيْنَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِتَخْلِيَتِكَ إِيَّاهُ بِالْحِجَازِ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ إِذَا أَخَذْتُ بِشَعْرِكَ وَنَاصِيَتِكَ حَتَّى يَجْتَمِعَ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ النَّاسُ أَطَعْتَنِي وَأَقَمْتَ، لَفَعَلْتُ ذَلِكَ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِيَ ابْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: قَرَّتْ عَيْنُكَ يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ. ثُمَّ قَالَ:
يَا لَكِ مِنْ قُنْبَرَةٍ بِمَعْمَرِ خَلَا لَكِ الْجَوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِي

ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا حُسَيْنٌ يَخْرُجُ إِلَى الْعِرَاقِ وَيُخَلِّيكَ وَالْحِجَازَ.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ شَبَابَةَ بْنِ سَوَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمٍ الْأَسَدِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ بِمَاءٍ لَهُ، فَبَلَغَهُ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَلَحِقَهُ عَلَى مَسِيرَةِ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ ؟ فَقَالَ لَهُ: الْعِرَاقَ. وَإِذَا مَعَهُ طَوَامِيرُ وَكُتُبٌ. فَقَالَ: هَذِهِ كُتُبُهُمْ وَبَيْعَتُهُمْ. فَقَالَ: لَا تَأْتِهِمْ. فَأَبَى، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا ; إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ، وَلَمْ يُرِدِ الدُّنْيَا، وَإِنَّكَ بَضْعَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ لَا يَلِيهَا أَحَدٌ مِنْكُمْ أَبَدًا، وَمَا صَرَفَهَا اللَّهُ عَنْكُمْ إِلَّا لِلَّذِي هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. فَأَبَى أَنْ يَرْجِعَ. قَالَ: فَاعْتَنَقَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَبَكَى وَقَالَ: أَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ مِنْ قَتِيلٍ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ، ثَنَا سُلَيْمُ بْنُ حَيَّانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مِينَا قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: عَجَّلَ حُسَيْنٌ قَدَرَهُ، عَجَّلَ حُسَيْنٌ قَدَرَهُ، وَاللَّهِ لَوْ أَدْرَكْتُهُ مَا كَانَ لِيَخْرُجَ إِلَّا أَنْ يَغْلِبَنِي ; بِبَنِي هَاشِمٍ فُتِحَ،

وَبِبَنِي هَاشِمٍ خُتِمَ، فَإِذَا رَأَيْتَ الْهَاشِمِيَّ قَدْ مَلَكَ فَقَدْ ذَهَبَ الزَّمَانُ. قُلْتُ: وَهَذَا مَعَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاطِمِيِّينَ أَدْعِيَاءُ، لَمْ يَكُونُوا مِنْ سُلَالَةِ فَاطِمَةَ، كَمَا زَعَمُوا، وَإِنَّمَا كَانُوا كَذَبَةً فِيمَا ادَّعَوْهُ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ، ثَنَا سُفْيَانُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ غَالِبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِلْحُسَيْنِ: أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ ! إِلَى قَوْمٍ قَتَلُوا أَبَاكَ وَطَعَنُوا أَخَاكَ ؟ فَقَالَ: لِأَنْ أُقْتَلَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تُسْتَحَلَّ بِي. يَعْنِي مَكَّةَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ هِشَامَ بْنَ يُوسُفَ يَقُولُ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يُحَدِّثُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَتَتْنِي بَيْعَةُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: أَتَخْرُجُ إِلَى قَوْمٍ قَتَلُوا أَبَاكَ وَأَخْرَجُوا أَخَاكَ ؟ قَالَ هِشَامٌ: فَسَأَلْتُ مَعْمَرًا عَنِ

الرَّجُلِ فَقَالَ: هُوَ ثِقَةٌ. قَالَ الزُّبَيْرُ: وَقَالَ عَمِّي: وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي قَالَ هَذَا.
وَقَدْ سَاقَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتِبُ الْوَاقِدِيِّ هَذَا سِيَاقًا حَسَنًا مَبْسُوطًا، فَقَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ، عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ لُوطِ بْنِ يَحْيَى الْغَامِدِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نَشْرٍ الْهَمْدَانِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَعَنْ هَارُونَ بْنِ عِيسَى، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ قَدْ حَدَّثَنِي أَيْضًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِطَائِفَةٍ، فَكَتَبْتُ جَوَامِعَ حَدِيثِهِمْ فِي مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، قَالُوا: لَمَّا بَايَعَ النَّاسُ مُعَاوِيَةَ لِيَزِيدَ كَانَ الْحُسَيْنُ مِمَّنْ لَمْ يُبَايِعْ لَهُ، وَكَانَ أَهْلُ الْكُوفَةِ يَكْتُبُونَ إِلَى حُسَيْنٍ يَدْعُونَهُ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى، فَقَدِمَ مِنْهُمْ قَوْمٌ إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ يَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمْ، فَأَبَى وَجَاءَ إِلَى الْحُسَيْنِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا عَرَضُوا عَلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ يَأْكُلُوا بِنَا، وَيُشِيطُوا دِمَاءَنَا. فَأَقَامَ حُسَيْنٌ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْهُمُومِ، مَرَّةً

يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِمْ، وَمَرَّةً يُجْمِعُ الْإِقَامَةَ. فَجَاءَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، إِنِّي لَكُمْ نَاصِحٌ، وَإِنِّي عَلَيْكُمْ مُشْفِقٌ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ كَاتَبَكَ قَوْمٌ مِنْ شِيعَتِكُمْ بِالْكُوفَةِ يَدْعُونَكَ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ، فَلَا تَخْرُجْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ يَقُولُ بِالْكُوفَةِ: وَاللَّهِ لَقَدْ مَلِلْتُهُمْ وَأَبْغَضْتُهُمْ، وَمَلُّونِي وَأَبْغَضُونِي، وَمَا بَلَوْتُ مِنْهُمْ وَفَاءً، وَمَنْ فَازَ بِهِمْ فَازَ بِالسَّهْمِ الْأَخْيَبِ، وَاللَّهِ مَا لَهُمْ ثَبَاتٌ وَلَا عَزْمٌ عَلَى أَمْرٍ، وَلَا صَبْرٌ عَلَى السَّيْفِ. قَالَ: وَقَدِمَ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ الْفَزَارِيُّ فِي عِدَّةٍ مَعَهُ إِلَى الْحُسَيْنِ بَعْدَ وَفَاةِ الْحَسَنِ، فَدَعَوْهُ إِلَى خَلْعِ مُعَاوِيَةَ وَقَالُوا: قَدْ عَلِمْنَا رَأْيَكَ وَرَأْيَ أَخِيكَ. فَقَالَ: إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ يُعْطِيَ اللَّهُ أَخِي عَلَى نِيَّتِهِ فِي حُبِّهِ الْكَفَّ، وَأَنْ يُعْطِيَنِي عَلَى نِيَّتِي فِي حُبِّي جِهَادَ الظَّالِمِينَ. وَكَتَبَ مَرْوَانُ إِلَى مُعَاوِيَةَ: إِنِّي لَسْتُ آمَنُ أَنْ يَكُونَ حُسَيْنٌ مَرْصَدًا لِلْفِتْنَةِ، وَأَظُنُّ يَوْمَكُمْ مِنْ حُسَيْنٍ طَوِيلًا. فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْحُسَيْنِ: إِنَّ مَنْ أَعْطَى اللَّهَ صَفْقَةَ يَمِينِهِ وَعَهْدِهِ لَجَدِيرٌ بِالْوَفَاءِ، وَقَدْ أُنْبِئْتُ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَدْ دَعَوْكَ إِلَى الشِّقَاقِ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ مَنْ قَدْ جَرَّبْتَ ; قَدْ أَفْسَدُوا عَلَى أَبِيكَ وَأَخِيكَ، فَاتَّقِ اللَّهَ وَاذْكُرِ الْمِيثَاقَ ; فَإِنَّكَ مَتَى تَكِدْنِي أَكِدْكَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ: أَتَانِي كِتَابُكَ وَأَنَا بِغَيْرِ الَّذِي بَلَغَكَ عَنِّي جَدِيرٌ، وَالْحَسَنَاتُ لَا يَهْدِي لَهَا إِلَّا اللَّهُ، وَمَا أَرَدْتُ لَكَ مُحَارَبَةً وَلَا عَلَيْكَ خِلَافًا، وَمَا أَظُنُّ لِي عِنْدَ اللَّهِ عُذْرًا فِي تَرْكِ جِهَادِكَ، وَمَا أَعْلَمُ فِتْنَةً أَعْظَمَ مِنْ وِلَايَتِكَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّ أَثَرْنَا بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إِلَّا أَسَدًا. وَكَتَبَ

إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ أَيْضًا فِي بَعْضِ مَا بَلَغَهُ عَنْهُ: إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ فِي رَأْسِكَ نَزْوَةً، فَوَدِدْتُ أَنِّي أُدْرِكُهَا فَأَغْفِرَهَا لَكَ. قَالُوا: فَلَمَّا حَضَرَ مُعَاوِيَةُ دَعَا يَزِيدَ فَأَوْصَاهُ بِمَا أَوْصَاهُ بِهِ، وَقَالَ لَهُ: انْظُرْ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيِّ، ابْنِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى النَّاسِ، فَصِلْ رَحِمَهُ، وَارْفُقْ بِهِ، يَصْلُحْ لَكَ أَمْرُهُ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْهُ شَيْءٌ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكْفِيَكَهُ اللَّهُ بِمَنْ قَتَلَ أَبَاهُ وَخَذَلَ أَخَاهُ. وَتُوُفِّيَ مُعَاوِيَةُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ سِتِّينَ، وَبَايَعَ النَّاسُ يَزِيدَ، فَكَتَبَ يَزِيدُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُوَيْسٍ الْعَامِرِيِّ - عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ - إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ عَلَى الْمَدِينَةِ ; أَنِ ادْعُ النَّاسَ فَبَايِعْهُمْ، وَابْدَأْ بِوُجُوهِ قُرَيْشٍ، وَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَنْ تَبْدَأُ بِهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَهِدَ إِلَيَّ فِي أَمْرِهِ الرِّفْقَ بِهِ وَاسْتِصْلَاحَهُ. فَبَعَثَ الْوَلِيدُ مِنْ سَاعَتِهِ نِصْفَ اللَّيْلِ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَأَخْبَرَهُمَا بِوَفَاةِ مُعَاوِيَةَ، وَدَعَاهُمَا إِلَى الْبَيْعَةِ لِيَزِيدَ، فَقَالَا: نُصْبِحُ وَنَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ. وَوَثَبَ الْحُسَيْنُ، فَخَرَجَ وَخَرَجَ مَعَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ يَقُولُ: هُوَ يَزِيدُ الَّذِي نَعْرِفُ، وَاللَّهِ مَا حَدَثَ لَهُ حَزْمٌ وَلَا مُرُوءَةٌ. وَقَدْ كَانَ الْوَلِيدُ أَغْلَظَ لِلْحُسَيْنِ، فَشَتَمَهُ الْحُسَيْنُ، وَأَخَذَ بِعِمَامَتِهِ، وَنَزَعَهَا مِنْ رَأْسِهِ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: إِنْ هِجْنَا بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إِلَّا أَسَدًا. فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ أَوْ بَعْضُ جُلَسَائِهِ: اقْتُلْهُ. فَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَدَمٌ مَضْنُونٌ بِهِ فِي بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ. قَالُوا: وَخَرَجَ الْحُسَيْنُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ لَيْلَتِهِمَا إِلَى مَكَّةَ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ فَغَدَوْا عَلَى الْبَيْعَةِ لِيَزِيدَ، وَطُلِبَ الْحُسَيْنُ وَابْنُ

الزُّبَيْرِ، فَلَمْ يُوجَدَا، فَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: عَجِلَ الْحُسَيْنُ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ يَلْفِتُهُ وَيُزْجِيهِ إِلَى الْعِرَاقِ لِيَخْلُوَ بِمَكَّةَ. فَقَدِمَا مَكَّةَ، فَنَزَلَ الْحُسَيْنُ دَارَ الْعَبَّاسِ، وَلَزِمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجْرَ، وَلَبِسَ الْمَعَافِرِيَّ، وَجَعَلَ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ يَغْدُو وَيَرُوحُ إِلَى الْحُسَيْنِ، وَيُشِيرُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْدَمَ الْعِرَاقَ، وَيَقُولُ: هُمْ شِيعَتُكَ وَشِيعَةُ أَبِيكَ. فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَيَقُولُ: لَا تَفْعَلْ. وَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ: إِنِّي فِدَاؤُكَ وَأَبِي وَأُمِّي، فَأَمْتِعْنَا بِنَفْسِكَ وَلَا تَسِرْ إِلَى الْعِرَاقِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلَكَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ لَيَتَّخِذُونَا عَبِيدًا وَخَوَلًا. قَالُوا: وَلَقِيَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بِالْأَبْوَاءِ مُنْصَرِفِينَ مِنَ الْعُمْرَةِ، فَقَالَ لَهُمَا ابْنُ عُمَرَ: أُذَكِّرُكُمَا اللَّهَ إِلَّا رَجَعْتُمَا فَدَخَلْتُمَا فِي صَالِحِ مَا يَدْخُلُ فِيهِ النَّاسُ، وَتَنْظُرَا، فَإِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ لَمْ تَشِذَّا، وَإِنِ افْتَرَقَ عَلَيْهِ كَانَ الَّذِي تُرِيدَانِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لِلْحُسَيْنِ: لَا تَخْرُجْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ، وَإِنَّكَ بَضْعَةٌ مِنْهُ وَلَا تَنَالُهَا. يَعْنِي الدُّنْيَا، وَاعْتَنَقَهُ وَبَكَى وَوَدَّعَهُ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: غَلَبَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ بِالْخُرُوجِ، وَلَعَمْرِي لَقَدْ رَأَى فِي أَبِيهِ وَأَخِيهِ عِبْرَةً، وَرَأَى مِنَ الْفِتْنَةِ وَخِذْلَانِ النَّاسِ لَهُمَا مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَلَّا يَتَحَرَّكَ مَا عَاشَ، وَأَنْ يَدْخُلَ فِي صَالِحِ مَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ، فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ خَيْرٌ. وَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْنَ تُرِيدُ يا ابْنَ فَاطِمَةَ ؟ فَقَالَ: الْعِرَاقَ وَشِيعَتِي. فَقَالَ: إِنِّي لَكَرِهٌ لِوَجْهِكَ هَذَا ; تَخْرُجُ إِلَى قَوْمٍ قَتَلُوا أَبَاكَ وَطَعَنُوا أَخَاكَ

حَتَّى تَرَكَهُمْ سَخْطَةً وَمَلَالَةً لَهُمْ ؟ ! أُذَكِّرُكَ اللَّهَ أَنْ تَغْرُرَ بِنَفْسِكَ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: غَلَبَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى الْخُرُوجِ، وَقَدْ قُلْتُ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ وَالْزَمْ بَيْتَكَ، وَلَا تَخْرُجْ عَلَى إِمَامِكَ. وَقَالَ أَبُو وَاقَدٍ اللِّيثِيُّ: بَلَغَنِي خُرُوجُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَأَدْرَكْتُهُ بِمَلَلٍ، فَنَاشَدْتُهُ اللَّهَ أَنْ لَا يَخْرُجَ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ فِي غَيْرِ وَجْهِ خُرُوجٍ، إِنَّمَا خَرَجَ يَقْتُلُ نَفْسَهُ. فَقَالَ: لَا أَرْجِعُ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كَلَّمْتُ حُسَيْنًا فَقُلْتُ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَضْرِبِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، فَوَاللَّهِ مَا حُمِدْتُمْ مَا صَنَعْتُمْ. فَعَصَانِي. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ لَوْ أَنَّ حُسَيْنًا لَمْ يَخْرُجْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: قَدْ كَانَ يَنْبَغِي لِحُسَيْنٍ أَنْ يَعْرِفَ أَهْلَ الْعِرَاقِ وَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، وَلَكِنْ شَجَّعَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الزُّبَيْرِ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ إِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِكُتُبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَبِقَوْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: الْحَقْ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ نَاصِرُوكَ. إِيَّاكَ أَنْ تَبْرَحَ الْحَرَمَ، فَإِنَّهُمْ إِنْ كَانَتْ لَهُمْ بِكَ حَاجَةٌ فَسَيَضْرِبُونَ إِلَيْكَ آبَاطَ الْإِبِلِ حَتَّى يُوَافُوكَ فَتَخْرُجَ فِي قُوَّةٍ وَعُدَّةٍ. فَجَزَاهُ خَيْرًا وَقَالَ: أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِي ذَلِكَ. وَكَتَبَتْ إِلَيْهِ عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ تُعَظِّمُ عَلَيْهِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَصْنَعَ، وَتَأْمُرُهُ بِالطَّاعَةِ وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، وَتُخْبِرُهُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُسَاقُ إِلَى مَصْرَعِهِ، وَتَقُولُ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ إِنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يُقْتَلُ الْحُسَيْنُ بِأَرْضِ بَابِلَ ". فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهَا قَالَ: فَلَا بُدَّ لِي إِذًا مِنْ مَصْرَعِي. وَمَضَى. وَأَتَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ

هِشَامٍ فَقَالَ: يا ابْنَ عَمِّ، إِنَّ الرَّحِمَ تَظْأَرُنِي عَلَيْكَ، وَمَا أَدْرِي كَيْفَ أَنَا عِنْدَكَ فِي النَّصِيحَةِ لَكَ ؟ قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا أَنْتَ مِمَّنْ يُسْتَغَشُّ وَلَا يُتَّهَمُ، فَقُلْ. قَالَ: قَدْ رَأَيْتَ مَا صَنَعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ بِأَبِيكَ وَأَخِيكَ، وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَسِيرَ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ عَبِيدُ الدُّنْيَا، فَيُقَاتِلُكَ مَنْ قَدْ وَعَدَكَ أَنْ يَنْصُرَكَ، وَيَخْذُلُكَ مَنْ أَنْتَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَنْصُرُهُ، فَأُذَكِّرُكَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ. فَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ يا ابْنَ عَمِّ خَيْرًا، وَمَهْمَا يَقْضِ اللَّهُ مِنْ أَمْرٍ يَكُنْ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّا لِلَّهِ، عِنْدَ اللَّهِ نَحْتَسِبُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ كِتَابًا يُحَذِّرُهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَيُنَاشِدُهُ اللَّهَ أَنْ يَشْخَصَ إِلَيْهِمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ: إِنِّي رَأَيْتُ رُؤْيَا، وَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَنِي بِأَمْرٍ، وَأَنَا مَاضٍ لَهُ، وَلَسْتُ بِمُخْبِرٍ بِهَا أَحَدًا حَتَّى أُلَاقِيَ عَمَلِي. وَكَتَبَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ نَائِبُ الْحَرَمَيْنِ: إِنِّي أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُلْهِمَكَ رُشْدَكَ، وَأَنْ يَصْرِفَكَ عَمَّا يُرْدِيكَ، بَلَغَنِي أَنَّكَ قَدْ عَزَمْتَ عَلَى الشُّخُوصِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَإِنِّي أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنَ الشِّقَاقِ، فَإِنْ كُنْتَ خَائِفًا فَأَقْبِلْ إِلَيَّ، فَلَكَ عِنْدِي الْأَمَانُ وَالْبِرُّ وَالصِّلَةُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِالْحُسَيْنُ: إِنْ كُنْتَ أَرَدْتَ بِكِتَابِكَ بِرِّي وَصِلَتِي فَجُزِيتَ خَيْرًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يُشَاقِقْ مَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالَحًا، وَقَالَ: إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَخَيْرُ الْأَمَانِ أَمَانُ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ مَنْ لَمْ يَخَفْهُ فِي الدُّنْيَا، فَنَسْأَلُ اللَّهَ مَخَافَةً فِي الدُّنْيَا تُوجِبُ لَنَا أَمَانَ الْآخِرَةِ عِنْدَهُ
وَقَالُوا: وَكَتَبَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ يُخْبِرُهُ بِخُرُوجِ الْحُسَيْنِ

إِلَى مَكَّةَ وَيَحْسَبُهُ قَدْ جَاءَهُ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْمَشْرِقِ فَمَنَّوْهُ الْخِلَافَةَ، وَعِنْدَكَ مِنْهُمْ خِبْرَةٌ وَتَجْرِبَةٌ، فَإِنْ كَانَ فَعَلَ فَقَدْ قَطَعَ وَاشِجَ الْقَرَابَةِ، وَأَنْتَ كَبِيرُ أَهْلِ بَيْتِكَ وَالْمَنْظُورُ إِلَيْهِ، فَاكْفُفْهُ عَنِ السَّعْيِ فِي الْفُرْقَةِ، وَكَتَبَ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ إِلَيْهِ وَإِلَى مَنْ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مِنْ قُرَيْشٍ:
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْغَادِي لِطَيَّتِهِ عَلَى عُذَافِرَةٍ فِي سَيْرِهَا قُحَمُ
أَبْلِغْ قُرَيْشًا عَلَى نَأْيِ الْمَزَارِ بِهَا بَيْنِي وَبَيْنَ حُسَيْنِ اللَّهُ وَالرَّحِمُ
وَمَوْقِفٌ بِفِنَاءِ الْبَيْتِ أَنْشُدُهُ عَهْدَ الْإِلَهِ وَمَا تُوفَى بِهِ الذِّمَمُ
عَنَّيْتُمُ قَوْمَكُمْ فَخْرًا بِأُمِّكُمُ أُمٌّ لَعَمْرِي حَصَانٌ بَرَّةٌ كَرَمُ
هِيَ الَّتِي لَا يُدَانِي فَضْلَهَا أَحَدٌ بِنْتُ الرَّسُولِ وَخَيْرُ النَّاسِ قَدْ عَلِمُوا
وَفَضْلُهَا لَكُمُ فَضْلٌ وَغَيْرُكُمُ مِنْ قَوْمِكُمْ لَهُمْ فِي فَضْلِهَا قِسَمُ
إِنِّي لَأَعْلَمُ أَوْ ظَنًّا كَعَالِمِهِ وَالظَّنُّ يَصْدُقُ أَحْيَانًا فَيَنْتَظِمُ
أَنْ سَوْفَ يَتْرُكُكُمْ مَا تَدَّعُونَ بِهَا قَتْلَى تَهَادَاكُمُ الْعِقْبَانُ وَالرَّخَمُ
يَا قَوْمَنَا لَا تُشِبُّوا الْحَرْبَ إِذْ سَكَنَتْ وَأَمْسِكُوا بِحِبَالِ السِّلْمِ وَاعْتَصِمُوا
قَدْ غَرَّتِ الْحَرْبُ مَنْ قَدْ كَانَ قَبْلَكُمُ مِنَ الْقُرُونِ وَقَدْ بَادَتْ بِهَا الْأُمَمُ

فَأَنْصِفُوا قَوْمَكُمْ لَا تَهْلِكُوا بَذَخًا فَرُبَّ ذِي بَذَخٍ زَلَّتْ بِهِ الْقَدَمُ
قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ خُرُوجُ الْحُسَيْنِ لِأَمْرٍ تَكْرَهُهُ، وَلَسْتُ أَدَعُ النَّصِيحَةَ لَهُ فِي كُلِّ مَا يَجْمَعُ اللَّهُ بِهِ الْأُلْفَةَ وَتُطْفَى بِهِ النَّائِرَةُ. وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ عَلَى الْحُسَيْنِ، فَكَلَّمَهُ لَيْلًا طَوِيلًا، وَقَالَ لَهُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ تَهْلِكَ غَدًا بِحَالِ مَضِيعَةٍ، لَا تَأْتِ الْعِرَاقَ، وَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَأَقِمْ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْمَوْسِمُ، وَتَلْقَى النَّاسَ وَتَعْلَمَ مَا يُصْدِرُونَ، ثُمَّ تَرَى رَأْيَكَ. وَذَلِكَ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ. فَأَبَى الْحُسَيْنُ إِلَّا أَنْ يَمْضِيَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّكَ سَتُقْتَلُ غَدًا بَيْنَ نِسَائِكَ وَبَنَاتِكَ، كَمَا قُتِلَ عُثْمَانُ بَيْنَ نِسَائِهِ وَبَنَاتِهِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخَافُ أَنْ تَكُونَ الَّذِي يُقَادُ بِهِ عُثْمَانُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. فَقَالَ: أَبَا الْعَبَّاسِ، إِنَّكَ شَيْخٌ قَدْ كَبِرْتَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْلَا أَنْ يُزْرِيَ ذَلِكَ بِي أَوْ بِكَ لَنَشِبْتُ يَدِي فِي رَأْسِكَ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّا إِذَا تَنَاصَيْنَا أَقَمْتَ لَفَعَلْتُ، وَلَكِنْ لَا إِخَالُ ذَلِكَ نَافِعِي. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: لَأَنْ أُقْتَلَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تُسْتَحَلَّ بِي. يَعْنِي مَكَّةَ، قَالَ: فَبَكَى ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: أَقْرَرْتَ عَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ الَّذِي سَلَا نَفْسِي عَنْهُ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ عَنْهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى الْبَابِ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: يا ابْنَ الزُّبَيْرِ، قَدْ أَتَى مَا أَحْبَبْتَ، قَرَّتْ عَيْنُكَ، هَذَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَخْرُجُ

وَيَتْرُكُكَ وَالْحِجَازَ. ثُمَّ قَالَ:
يَا لَكِ مِنْ قُنْبَرَةٍ بِمَعْمَرِ خَلَا لَكِ الْجَوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي
وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِي
قَالَ: وَبَعَثَ الْحُسَيْنُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِ مَنْ خَفَّ مَعَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ مِنْ إِخْوَانِهِ وَبَنَاتِهِ وَنِسَائِهِمْ، وَتَبِعَهُمْ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ فَأَدْرَكَ حُسَيْنًا بِمَكَّةَ، فَأَعْلَمَهُ أَنَّ الْخُرُوجَ لَيْسَ لَهُ بِرَأْيِ يَوْمِهِ هَذَا، فَأَبَى الْحُسَيْنُ أَنْ يَقْبَلَ، فَحَبَسَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَلَدَهُ، فَلَمْ يَبْعَثْ مَعَهُ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى وَجَدَ الْحُسَيْنُ فِي نَفْسِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَقَالَ: تَرْغَبُ بِوَلَدِكَ عَنْ مَوْضِعٍ أُصَابُ فِيهِ ؟ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَا حَاجَتِي أَنْ تُصَابَ، وَيُصَابُونَ مَعَكَ ؟ وَإِنْ كَانَتْ مُصِيبَتُكَ أَعْظَمَ عِنْدَنَا مِنْهُمْ. قَالُوا: وَبَعَثَ أَهْلُ الْعِرَاقِ إِلَى الْحُسَيْنِ الرُّسُلَ وَالْكُتُبَ يَدْعُونَهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْعِرَاقِ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَسِتِّينَ شَيْخًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتِّينَ. فَكَتَبَ مَرْوَانُ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَيْكَ، وَهُوَ الْحُسَيْنُ ابْنُ فَاطِمَةَ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِاللَّهِ مَا أَحَدٌ يُسَلِّمُهُ اللَّهُ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنَ الْحُسَيْنِ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُهَيِّجَ عَلَى نَفْسِكَ مَا لَا يَسُدُّهُ شَيْءٌ، وَلَا تَنْسَاهُ الْعَامَّةُ وَلَا تَدَعُ ذِكْرَهُ، وَالسَّلَامُ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ تَوَجَّهَ إِلَيْكَ الْحُسَيْنُ، وَفِي مِثْلِهَا تُعْتَقُ أَوْ تَكُونُ عَبْدًا تُسْتَرَقُّ

كَمَا تُسْتَرَقُّ الْعَبِيدُ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَتَبَ يَزِيدُ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، أَنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ حُسَيْنًا قَدْ سَارَ إِلَى الْكُوفَةِ وَقَدِ ابْتُلِيَ بِهِ زَمَانُكَ مِنْ بَيْنِ الْأَزْمَانِ، وَبَلَدُكَ مِنْ بَيْنِ الْبُلْدَانِ، وَابْتُلِيتَ بِهِ أَنْتَ مِنْ بَيْنِ الْعُمَّالِ، وَعِنْدَهَا تُعْتَقُ أَوْ تَعُودُ عَبْدًا كَمَا تُعْتَبَدُ الْعَبِيدُ. فَقَتَلَهُ ابْنُ زِيَادٍ، وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ إِلَيْهِ.
قُلْتُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ إِلَى الشَّامِ، كَمَا سَيَأْتِي. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ يَزِيدَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ: قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الْحُسَيْنَ قَدْ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْعِرَاقِ. فَضَعِ الْمَنَاظِرَ وَالْمَسَالِحَ، وَاحْتَرِسْ وَاحْبِسْ عَلَى الظِّنَّةِ وَخُذْ عَلَى التُّهْمَةِ، غَيْرَ أَنْ لَا تَقْتُلَ إِلَّا مَنْ قَاتَلَكَ، وَاكْتُبْ إِلَيَّ فِي كُلِّ مَا يَحْدُثُ مِنْ خَبَرٍ، وَالسَّلَامُ.
قَالَ الزُّبَيْرُ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ قَالَ: خَرَجَ الْحُسَيْنُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْعِرَاقِ فَلَمَّا مَرَّ بِبَابِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ:

لَا ذَعَرْتُ السَّوَامَ فِي فَلَقِ الصُّبْ حِ مُغِيرًا وَلَا دُعِيتُ يَزِيدَا
يَوْمَ أُعْطَى مَخَافَةَ الْمَوْتِ ضَيْمًا وَالْمَنَايَا تَرْصُدْنَنِي أَنْ أَحِيدَا
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: قَالَ أَبُو جَنَابٍ يَحْيَى بْنُ أَبِي حَيَّةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَرْمَلَةَ الْأَسَدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمٍ وَالْمَذْرِيِّ بْنِ الْمُشْمَعِلِّ الْأَسَدِيَّيْنِ قَالَا: خَرَجْنَا حَاجَّيْنَ مِنَ الْكُوفَةِ حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ فَدَخَلْنَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالْحُسَيْنِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَائِمَيْنِ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الضُّحَى فِيمَا بَيْنَ الْحِجْرِ وَالْبَابِ، فَسَمِعْنَا ابْنَ الزُّبَيْرِ وَهُوَ يَقُولُ لِلْحُسَيْنِ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تُقِيمَ أَقَمْتَ فَوُلِّيتَ هَذَا الْأَمْرَ، فَآزَرْنَاكَ وَسَاعَدْنَاكَ وَنَصَحْنَا لَكَ وَبَايَعْنَاكَ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: إِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي أَنَّ لَهَا كَبْشًا يَسْتَحِلُّ حُرْمَتَهَا، فَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْكَبْشَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَأَقِمْ إِنْ شِئْتَ وَوَلِّنِي أَنَا الْأَمْرَ فَتُطَاعَ وَلَا تُعْصَى. فَقَالَ: وَمَا أُرِيدُ هَذَا أَيْضًا. قَالَا: ثُمَّ إِنَّهُمَا أَخْفَيَا كَلَامَهُمَا دُونَنَا، فَمَا زَالَا يَتَنَاجَيَانِ، حَتَّى سَمِعْنَا دُعَاءَ النَّاسِ رَائِحِينَ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى مِنًى عِنْدَ الظَّهِيرَةِ. قَالَا: فَطَافَ الْحُسَيْنُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَصَّرَ مِنْ شِعْرِهِ، وَحَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ، ثُمَّ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْكُوفَةِ، وَتَوَجَّهْنَا نَحْنُ مَعَ النَّاسِ إِلَى مِنًى.
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ كَعْبٍ الْوَالِبِيُّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ الْحُسَيْنُ مِنْ مَكَّةَ اعْتَرَضَهُ رُسُلُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ - يَعْنِي نَائِبَ مَكَّةَ - عَلَيْهِمْ أَخُوهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، فَقَالُوا لَهُ: انْصَرِفْ، أَيْنَ تَذْهَبُ ؟

فَأَبَى عَلَيْهِمْ وَمَضَى، وَتَدَافَعَ الْفَرِيقَانِ فَاضْطَرَبُوا بِالسِّيَاطِ، ثُمَّ إِنَّ حُسَيْنًا وَأَصْحَابَهُ امْتَنَعُوا مِنْهُمُ امْتِنَاعًا قَوِيًّا، وَمَضَى الْحُسَيْنُ عَلَى وَجْهِهِ، فَنَادَاهُ: يَا حُسَيْنُ، أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ ! تَخْرُجُ مِنَ الْجَمَاعَةِ وَتُفَرِّقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ ؟ ! قَالَ: فَتَأَوَّلَ الْحُسَيْنُ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [ يُونُسَ: 41 ]. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ الْحُسَيْنَ مَرَّ بِالتَّنْعِيمِ، فَلَقِيَ بِهَا عِيرًا قَدْ بَعَثَ بِهَا بَحِيرُ بْنُ رَيْسَانَ الْحِمْيَرِيُّ نَائِبُ الْيَمَنِ، قَدْ أَرْسَلَهَا مِنَ الْيَمَنِ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَلَيْهَا وَرْسٌ وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ، فَأَخَذَهَا الْحُسَيْنُ وَانْطَلَقَ بِهَا، وَاسْتَأْجَرَ أَصْحَابَ الْجِمَالِ عَلَيْهَا إِلَى الْكُوفَةِ وَدَفَعَ إِلَيْهِمْ أُجْرَتَهُمْ.
ثُمَّ سَاقَ أَبُو مِخْنَفٍ بِإِسْنَادِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْفَرَزْدَقَ لَقِيَ الْحُسَيْنَ فِي الطَّرِيقِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: أَعْطَاكَ اللَّهُ سُؤْلَكَ وَأَمَلَكَ فِيمَا تُحِبُّ. فَسَأَلَهُ الْحُسَيْنُ عَنْ أَمْرِ النَّاسِ وَمَا وَرَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ: قُلُوبُ النَّاسِ مَعَكَ، وَسُيُوفُهُمْ مَعَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَالْقَضَاءُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَاللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. فَقَالَ لَهُ: صَدَقْتَ، لِلَّهِ الْأَمْرُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَكُلَّ يَوْمٍ رَبُّنَا فِي شَأْنٍ، إِنْ نَزَلَ الْقَضَاءُ بِمَا نُحِبُّ فَنَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى نَعْمَائِهِ، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ عَلَى أَدَاءِ الشُّكْرِ، وَإِنْ حَالَ الْقَضَاءُ دُونَ الرَّجَاءِ، فَلَمْ يَعْتَدِ مَنْ كَانَ الْحَقُّ نِيَّتَهُ، وَالتَّقْوَى سَرِيرَتَهُ، ثُمَّ حَرَّكَ الْحُسَيْنُ رَاحِلَتَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ. ثُمَّ افْتَرَقَا.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ، عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ لَبَطَةَ بْنِ الْفَرَزْدَقِ، عَنْ

أَبِيهِ قَالَ: حَجَجْتُ بِأُمِّي، فَبَيْنَمَا أَنَا أَسُوقُ بَعِيرَهَا حِينَ دَخَلْتُ الْحَرَمَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، وَذَلِكَ سَنَةَ سِتِّينَ، إِذْ لَقِيتُ الْحُسَيْنَ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ مَعَهُ أَسْيَافُهُ وَتِرَاسُهُ، فَقُلْتُ لَهُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، مَا أَعْجَلَكَ عَنِ الْحَجِّ ؟ فَقَالَ: لَوْ لَمْ أَعْجَلْ لَأُخِذْتُ. ثُمَّ سَأَلَنِي: مِمَّنْ أَنْتَ ؟ فَقُلْتُ: امْرُؤٌ مِنَ الْعِرَاقِ. فَسَأَلَنِي عَنِ النَّاسِ. فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْفَرَزْدَقُ اجْتِمَاعَهُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَوْلَهُ لَهُ: إِنَّ الْحُسَيْنَ لَا يَحِيكُ فِيهِ السِّلَاحُ. فَنَدِمَ الْفَرَزْدَقُ أَنْ لَا يَكُونُ تَابَعَ الْحُسَيْنَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُهُ، جَعَلَ يَتَذَكَّرُ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: لَا يَحِيكُ فِيهِ السِّلَاحُ. وَلَمْ يَفْهَمْ عَنْهُ، إِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ السِّلَاحَ لَا يَضُرُّهُ فِي آخِرَتِهِ. وَكَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ. ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: أَرَادَ الْهَزْلَ بِالْفَرَزْدَقِ. قَالُوا: ثُمَّ سَارَ الْحُسَيْنُ لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ حَتَّى نَزَلَ ذَاتَ عِرْقٍ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ كَعْبٍ الْوَالِبِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا خَرَجْنَا مِنْ مَكَّةَ كَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ إِلَى الْحُسَيْنِ مَعَ ابْنَيْهِ عَوْنٍ وَمُحَمَّدٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ لَمَا انْصَرَفْتَ حِينَ تَنْظُرَ فِي كِتَابِي هَذَا، فَإِنِّي مُشْفِقٌ عَلَيْكَ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي تَوَجَّهْتَ لَهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ هَلَاكُكَ وَاسْتِئْصَالُ أَهْلِ بَيْتِكَ، إِنْ هَلَكْتَ الْيَوْمَ طَفِئَ نُورُ الْأَرْضِ، فَإِنَّكَ عَلَمُ الْمُهْتَدِينَ، وَرَجَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا تَعْجَلْ بِالسَّيْرِ، فَإِنِّي فِي إِثْرِ كِتَابِي، وَالسَّلَامُ. ثُمَّ نَهَضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ

جَعْفَرٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ نَائِبِ مَكَّةَ، فَقَالَ: اكْتُبْ إِلَى الْحُسَيْنِ كِتَابًا تَجْعَلُ لَهُ فِيهِ الْأَمَانَ، وَتُمَنِّيهِ فِيهِ الْبِرَّ وَالصِّلَةَ، وَتُوَثِّقُ لَهُ فِي كِتَابِكَ، وَتَسْأَلُهُ الرُّجُوعَ ; عَلَّهُ يَطْمَئِنُّ إِلَى ذَلِكَ فَيَرْجِعَ. فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: اكْتُبْ عَنِّي مَا شِئْتَ وَأْتِنِي بِهِ حَتَّى أَخْتِمَهُ. فَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ مَا أَرَادَ، ثُمَّ جَاءَ بِالْكِتَابِ إِلَى عَمْرٍو، فَخَتَمَهُ بِخَاتَمِهِ، وَقَالَ لَهُ: ابْعَثْ مَعِي أَخَاكَ. فَبَعَثَ مَعَهُ أَخَاهُ يَحْيَى، فَانْصَرَفَا حَتَّى لَحِقَا الْحُسَيْنَ، فَقَرَآ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَأَبَى أَنْ يَرْجِعَ، وَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، وَقَدْ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ، وَأَنَا مَاضٍ لَهُ. فَقَالَا: مَا تِلْكَ الرُّؤْيَا ؟ فَقَالَ: مَا حَدَّثْتُ بِهَا أَحَدًا وَلَا أُحَدِّثُهُ حَتَّى أَلْقَى رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ أَنَّ الْحُسَيْنَ أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْحَاجِرَ مِنْ بَطْنِ الرُّمَّةِ، بَعَثَ قَيْسَ بْنَ مُسْهِرٍ الصَّيْدَاوِيَّ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَيْهِمْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ كِتَابَ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ جَاءَنِي يُخْبِرُنِي فِيهِ بِحُسْنِ رَأْيِكُمْ، وَاجْتِمَاعِ مَلَئِكُمْ عَلَى نَصْرِنَا، وَالطَّلَبِ بِحَقِّنَا، فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُحْسِنَ لَنَا الصَّنِيعَ، وَأَنْ يُثِيبَكُمْ عَلَى ذَلِكَ أَعْظَمَ الْأَجْرِ، وَقَدْ شَخَصْتُ إِلَيْكُمْ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِثَمَانٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَسُولِي فَاكْمِشُوا أَمْرَكُمْ وَجِدُّوا فَإِنِّي قَادِمٌ عَلَيْكُمْ فِي أَيَّامِي هَذِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
قَالَ: وَكَانَ كِتَابُ مُسْلِمٍ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَمَضْمُونُهُ:

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الرَّائِدَ لَا يَكْذِبُ أَهْلَهُ، وَإِنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَعَكَ، فَأَقْبِلْ حِينَ تَقْرَأُ كِتَابِي هَذَا، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ. قَالَ: وَأَقْبَلَ قَيْسُ بْنُ مُسْهِرٍ الصَّيْدَاوِيُّ إِلَى الْكُوفَةِ بِكِتَابِ الْحُسَيْنِ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى الْقَادِسِيَّةِ أَخَذَهُ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: اصْعَدْ إِلَى أَعْلَى الْقَصْرِ فَسُبَّ الْكَذَّابَ ابْنَ الْكَذَّابِ. فَصَعِدَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ خَيْرُ خَلْقِ اللَّهِ، ابْنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا رَسُولُهُ إِلَيْكُمْ، وَقَدْ فَارَقْتُهُ بِالْحَاجِزِ مِنْ بَطْنِ الرُّمَّةِ، فَأَجِيبُوهُ. ثُمَّ لَعَنَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ وَأَبَاهُ، وَاسْتَغْفَرَ لِعَلِيٍّ وَالْحُسَيْنِ. فَأَمَرَ بِهِ ابْنُ زِيَادٍ، فَأُلْقِيَ مِنْ رَأَسِ الْقَصْرِ فَتَقَطَّعَ، وَيُقَالُ: بَلْ تَكَسَّرَتْ عِظَامُهُ وَبَقِيَ فِيهِ بَقِيَّةُ رَمَقٍ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّخْمِيُّ فَذَبَحَهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ إِرَاحَتَهُ مِنَ الْأَلَمِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ رَجُلٌ يُشْبِهُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ عُمَيْرٍ وَلَيْسَ بِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الَّذِي قَدِمَ بِكِتَابِ الْحُسَيْنِ إِنَّمَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُقْطُرٍ أَخُو الْحُسَيْنِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَأُلْقِيَ مِنْ أَعْلَى الْقَصْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ أَقْبَلَ الْحُسَيْنُ يَسِيرُ نَحْوَ الْكُوفَةِ، وَلَا يَعْلَمُ بِشَيْءٍ مِمَّا وَقَعَ مِنَ الْأَخْبَارِ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ بَكْرِ بْنِ مُصْعَبٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ: وَكَانَ الْحُسَيْنُ لَا يَمُرُّ بِمَاءٍ مِنْ مِيَاهِ الْعَرَبِ إِلَّا اتَّبَعُوهُ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ أَبِي جَنَابٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

سُلَيْمٍ وَالْمَذْرِيِّ بْنِ الْمُشْمَعِلِّ الْأَسَدِيَّيْنِ قَالَا: لَمَّا قَضَيْنَا حَجَّنَا لَمْ يَكُنْ لَنَا هِمَّةٌ إِلَّا اللَّحَاقُ بِالْحُسَيْنِ - فَذَكَرَا أَنَّهُمَا اتَّبَعَاهُ - فَأَدْرَكْنَاهُ وَقَدْ مَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَهَمَّ الْحُسَيْنُ أَنْ يُكَلِّمَهُ وَيَسْأَلَهُ فَتَرَكَ ذَلِكَ، فَجِئْنَا ذَلِكَ الرَّجُلَ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ أَخْبَارِ النَّاسِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَمْ أَخْرُجْ مِنَ الْكُوفَةِ حَتَّى قُتِلَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ وَهَانِئُ بْنُ عُرْوَةَ، وَرَأَيْتُهُمَا يَجُرَّانِ بِأَرْجُلِهِمَا فِي السُّوقِ. قَالَا: فَلَحِقْنَا الْحُسَيْنَ فَأَخْبَرْنَاهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. مِرَارًا. فَقُلْنَا لَهُ: اللَّهَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ. فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُمَا. فَقُلْنَا: خَارَ اللَّهُ لَكَ. وَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: وَاللَّهِ مَا أَنْتَ مِثْلُ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، وَلَوْ قَدِمْتَ الْكُوفَةَ لَكَانَ النَّاسُ إِلَيْكَ أَسْرَعَ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: لَمَّا سَمِعَ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ بِمَقْتَلِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ وَثَبَ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نُدْرِكَ ثَأْرَنَا، أَوْ نَذُوقَ مَا ذَاقَ أَخُونَا. فَسَارَ الْحُسَيْنُ حَتَّى إِذَا كَانَ بِزَرْوَدَ بَلَغَهُ خَبَرُ مَقْتَلِ الَّذِي بَعَثَهُ بِكِتَابِهِ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَوَصْلَ إِلَى حَاجِرٍ، فَقَالَ: قَدْ خَذَلَتْنَا شِيعَتُنَا، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمُ الِانْصِرَافَ فَلْيَنْصَرِفْ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنَّا ذِمَامٌ. قَالَ: فَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ أَيَادِيَ سَبَا يَمِينًا وَشِمَالًا، حَتَّى بَقِيَ فِي أَصْحَابِهِ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهُ مِنْ مَكَّةَ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْأَعْرَابِ إِنَّمَا اتَّبَعُوهُ لِأَنَّهُ يَأْتِي بَلَدًا قَدِ اسْتَقَامَتْ لَهُ طَاعَةُ أَهْلِهَا، فَكَرِهَ أَنْ يَسِيرُوا مَعَهُ إِلَّا وَهُمْ يَعْلَمُونَ عَلَامَ يُقْدِمُونَ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا بَيَّنَ لَهُمُ الْأَمْرَ لَمْ يَصْحَبْهُ إِلَّا مَنْ يُرِيدُ مُوَاسَاتَهُ فِي الْمَوْتِ مَعَهُ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ مِنَ السَّحَرِ أَمَرَ فِتْيَانَهُ أَنْ يَسْتَقُوا

مِنَ الْمَاءِ فَأَكْثَرُوا مِنْهُ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى مَرَّ بِبَطْنِ الْعَقَبَةِ، فَنَزَلَ بِهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ شَافَهَ الْحُسَيْنَ قَالَ: رَأَيْتُ أَبْنِيَةً مَضْرُوبَةً بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذِهِ ؟ قَالُوا: هَذِهِ لِحُسَيْنٍ. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَإِذَا شَيْخٌ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالدُّمُوعُ تَسِيلُ عَلَى خَدَّيْهِ وَلِحْيَتِهِ. قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ ! مَا أَنْزَلَكَ هَذِهِ الْبِلَادَ وَالْفَلَاةَ الَّتِي لَيْسَ بِهَا أَحَدٌ ؟ فَقَالَ: هَذِهِ كُتُبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَيَّ وَلَا أَرَاهُمْ إِلَّا قَاتِلِيَّ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ لَمْ يَدَعُوَا لِلَّهِ حُرْمَةً إِلَّا انْتَهَكُوهَا، فَيُسَلِّطُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ يُذِلُّهُمْ حَتَّى يَكُونُوا أَذَلَّ مِنْ فَرَمِ الْأُمَّةِ. يَعْنِي مِقْنَعَتَهَا.
وَأَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: قَالَ الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لَيُعْتَدَنَّ عَلَيَّ كَمَا اعْتَدَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي السَّبْتِ.
وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيِّ قَالَ: قَالَ الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لَا يَدْعُونِي حَتَّى يَسْتَخْرِجُوا هَذِهِ الْعَلَقَةَ مِنْ جَوْفِي، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ يُذِلُّهُمْ حَتَّى يَكُونُوا أَذَلَّ مِنْ فَرَمِ الْأَمَةِ. فَقُتِلَ بِنِينَوَى يَوْمَ عَاشُورَاءَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ، ثَنَا

سُفْيَانُ، ثَنَا شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالَ: كُنْتُ فِي الْجَيْشِ الَّذِي بَعَثَهُمُ ابْنُ زِيَادٍ إِلَى الْحُسَيْنِ، وكَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ يُرِيدُونَ قِتَالَ الدَّيْلَمِ، فَصَرَفَهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى الْحُسَيْنِ، فَلَقِيتُ حُسَيْنًا، فَرَأَيْتُهُ أَسْوَدَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، فَقُلْتُ لَهُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ. وَكَانَتْ فِيهِ غُنَّةٌ، فَقَالَ: لَقَدْ بَاتَتْ مِنْكُمْ فِينَا سَلَّةٌ مُنْذُ اللَّيْلَةِ. يَعْنِي: سَرَقٌ. قَالَ شِهَابٌ: فَحَدَّثْتُ بِهِ زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ فَأَعْجَبَهُ، وَكَانَتْ فِيهِ غُنَّةٌ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: وَهِيَ فِي الْحُسَيْنِيَّيْنِ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْكَاهِلِيِّ قَالَ: لَمَّا صَبَّحَتِ الْخَيْلُ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ وَرَجَائِي فِي كُلِّ شِدَّةٍ، وَأَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ، فَكَمْ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الْفُؤَادُ، وَتَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ، وَيَخْذُلُ فِيهِ الصَّدِيقُ، وَيَشْمَتُ فِيهِ الْعَدُوُّ، فَأَنْزَلْتُهُ بِكَ وَشَكَوْتُهُ إِلَيْكَ، رَغْبَةً فِيكَ إِلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، فَفَرَّجْتَهُ وَكَشَفَتْهُ وَكَفَيْتَنِيهِ، فَأَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَصَاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ، وَمُنْتَهَى كُلِّ غَايَةٍ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: حَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ بَعْضِ مَشْيَخَتِهِ قَالَ: قَالَ الْحُسَيْنُ حِينَ نَزَلُوا كَرْبَلَاءَ: مَا اسْمُ هَذِهِ الْأَرْضِ ؟ قَالُوا: كَرْبَلَاءُ. قَالَ: كَرْبٌ وَبَلَاءٌ. وَبَعَثَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ يُقَاتِلُهُمْ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: يَا عُمَرُ ; اخْتَرْ مِنِّي إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ ; إِمَّا أَنْ تَتْرُكَنِي أَرْجِعُ كَمَا جِئْتُ ; فَإِنْ أَبَيْتَ هَذِهِ فَسَيِّرْنِي إِلَى يَزِيدَ فَأَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ

فَيَحْكُمَ فِيَّ مَا رَأَى، فَإِنْ أَبَيْتَ هَذِهِ فَسَيِّرْنِي إِلَى التُّرْكِ فَأُقَاتِلَهُمْ حَتَّى أَمُوتَ. فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ بِذَلِكَ، فَهَمَّ أَنْ يُسَيِّرَهُ إِلَى يَزِيدَ، فَقَالَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ: لَا، إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ عَلَى حُكْمِكَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ. وَأَبْطَأَ عُمَرُ عَنْ قِتَالِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ زِيَادٍ شَمِرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ فَقَالَ لَهُ: إِنْ تَقَدَّمَ عُمَرُ فَقَاتَلَ، وَإِلَّا فَاقْتُلْهُ وَكُنْ أَنْتَ مَكَانَهُ. وَكَانَ مَعَ عُمَرَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقَالُوا لَهُمْ: يَعْرِضُ عَلَيْكُمُ ابْنُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ خِصَالٍ، فَلَا تَقْبَلُوا مِنْهَا شَيْئًا ؟ ! فَتَحَوَّلُوا مَعَ الْحُسَيْنِ فَقَاتَلُوا مَعَهُ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ حُصَيْنٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ ذَاكَ - يَعْنِي مَقْتَلَ الْحُسَيْنِ - قَالَ: فَحَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ قَالَ: فَرَأَيْتُ الْحُسَيْنَ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ بَرُودٌ، وَرَمَاهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ الطُّهَوِيُّ. بِسَهْمٍ، فَنَظَرْتُ إِلَى السَّهْمِ مُعَلَّقًا بِجُبَّتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، ثَنَا حُصَيْنٌ، أَنَّ الْحُسَيْنَ بَعَثَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ: إِنَّ مَعَكَ مِائَةَ أَلْفٍ. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ. فَذَكَرَ قِصَّةَ مَقْتَلِ مُسْلِمٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ حُصَيْنٌ: فَحَدَّثَنِي هِلَالُ بْنُ يَسَافٍ، أَنَّ ابْنَ زِيَادٍ أَمَرَ بِأَخْذِ مَا بَيْنَ وَاقِصَةَ إِلَى طَرِيقِ الشَّامِ إِلَى طَرِيقِ الْبَصْرَةِ، فَلَا يَدَعُونَ أَحَدًا يَلِجُ وَلَا أَحَدًا يَخْرُجُ،

وَأَقْبَلَ الْحُسَيْنُ وَلَا يَشْعُرُ بِشَيْءٍ حَتَّى أَتَى الْأَعْرَابَ فَسَأَلَهُمْ، عَنِ النَّاسِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَدْرِي، غَيْرَ أَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَلِجَ وَلَا تَخْرُجَ. قَالَ: فَانْطَلَقَ يَسِيرُ نَحْوَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَتَلَقَّتْهُ الْخُيُولُ بِكَرْبَلَاءَ، فَنَزَلَ يُنَاشِدُهُمُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ. قَالَ: وَكَانَ بَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ زِيَادٍ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ وَشَمِرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ وَحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ، فَنَاشَدَهُمُ الْحُسَيْنُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ أَنْ يُسَيِّرُوهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدَ، فَيَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ. فَقَالُوا لَهُ: لَا ; إِلَّا عَلَى حُكْمِ ابْنِ زِيَادٍ. وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ بَعَثَهُمْ إِلَيْهِ الْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ الْحَنْظَلِيُّ ثُمَّ النَّهْشَلِيُّ عَلَى خَيْلٍ، فَلَمَّا سَمِعَ مَا يَقُولُ الْحُسَيْنُ قَالَ لَهُمْ: أَلَا تَقْبَلُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَا يَعْرِضُونَ عَلَيْكُمْ، وَاللَّهِ لَوْ سَأَلَكُمْ هَذَا التُّرْكُ وَالدَّيْلَمُ مَا حَلَّ لَكُمْ أَنْ تَرُدُّوهُمْ. فَأَبَوْا إِلَّا عَلَى حُكْمِ ابْنِ زِيَادٍ، فَضَرَبَ الْحُرُّ وَجْهَ فَرَسِهِ، وَانْطَلَقَ إِلَى الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ، فَظَنُّوا أَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ لِيُقَاتِلَهُمْ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ قَلَبَ تُرْسَهُ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ كَرَّ عَلَى أَصْحَابِ ابْنِ زِيَادٍ فَقَاتَلَهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ ثُمَّ قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَذُكِرَ أَنَّ زُهَيْرَ بْنَ الْقَيْنِ الْبَجَلِيَّ لَقِيَ الْحُسَيْنَ، وَكَانَ حَاجًّا، فَأَقْبَلَ مَعَهُ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ ابْنُ أَبِي بَحْرِيَّةَ الْمُرَادِيُّ وَرَجُلَانِ آخَرَانِ ; وَهَمَا عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ وَمَعْنٌ السُّلَمِيُّ، قَالَ الْحَصِينُ: وَقَدْ رَأَيْتُهُمَا. قَالَ: وَأَقْبَلَ الْحُسَيْنُ يُكَلِّمُ مَنْ بَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ زِيَادٍ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ بَرُودٍ، فَلَمَّا كَلَّمَهُمُ انْصَرَفَ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ: عَمْرٌو الطُّهَوِيُّ. بِسَهْمٍ، فَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى السَّهْمِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ

مُتَعَلِّقًا بِجُبَّتِهِ، فَلَمَّا أَبَوْا عَلَيْهِ رَجَعَ إِلَى مَصَافِّهِ، وَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ، فِيهِمْ لِصُلْبِ عَلِيٍّ خَمْسَةٌ، وَمِنْ بَنِي هَاشِمٍ سِتَّةَ عَشَرَ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ حَلِيفٌ لَهُمْ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ حَلِيفٌ لَهُمْ، وَابْنُ عَمِّ ابْنِ زِيَادٍ.
وَقَالَ حُصَيْنٌ: وَحَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ قَالَ: إِنَّا لَمُسْتَنْقَعُونَ فِي الْمَاءِ مَعَ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَسَارَّهُ فَقَالَ لَهُ: قَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ ابْنُ زِيَادٍ جُوَيْرِيَةَ بْنَ بَدْرٍ التَّمِيمِيَّ، وَأَمَرَهُ إِنْ لَمْ تُقَاتِلِ الْقَوْمَ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَكَ. قَالَ: فَوَثَبَ إِلَى فَرَسِهِ فَرَكِبَهَا، ثُمَّ دَعَا بِسِلَاحِهِ فَلَبِسَهُ وَإِنَّهُ لَعَلَى فَرَسِهِ، وَنَهَضَ بِالنَّاسِ إِلَيْهِمْ فَقَاتَلُوهُمْ، فَجِيءَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ بِقَضِيبِهِ فِي أَنْفِهِ، وَيَقُولُ: إِنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ كَانَ شَمِطَ. قَالَ: وَجِيءَ بِنِسَائِهِ وَبَنَاتِهِ وَأَهْلِهِ. قَالَ: وَكَانَ أَحْسَنَ شَيْءٍ صَنَعَهُ أَنْ أَمَرَ لَهُمْ بِمَنْزِلٍ فِي مَكَانٍ مُعْتَزِلٍ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ رِزْقًا، وَأَمَرَ لَهُمْ بِنَفَقَةٍ وَكُسْوَةٍ. قَالَ: وَانْطَلَقَ غُلَامَانِ مِنْهُمْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ - أَوِ ابْنِ ابْنِ جَعْفَرٍ - فَأَتَيَا رَجُلًا مِنْ طَيِّئَ فَلَجَآ إِلَيْهِ، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمَا، وَجَاءَ بِرَأْسَيْهِمَا حَتَّى وَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ زِيَادٍ. قَالَ: فَهَمَّ ابْنُ زِيَادٍ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، وَأَمَرَ بِدَارِهِ فَهُدِمَتْ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي مَوْلًى لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: لَمَّا أُتِيَ يَزِيدُ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَأَيْتُهُ يَبْكِي وَيَقُولُ: لَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رَحِمٌ مَا فَعَلَ هَذَا. يَعْنِي ابْنَ زِيَادٍ. قَالَ الْحُصَيْنُ: وَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ لَبِثُوا

شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، كَأَنَّمَا تُلَطَّخُ الْحَوَائِطُ بِالدِّمَاءِ سَاعَةَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ.
وَقَدْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَكَانَ عَامِلَ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ لِيَزِيدَ، وَقَدْ عَزَلَ يَزِيدُ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَوَلَّاهَا عَمْرَو بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْهَا. وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ سَائِرٌ إِلَى الْكُوفَةِ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْعِرَاقِ، وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ وَقَرَابَاتُهُ، فَقُتِلَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي صَحَّحَهُ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قُتِلَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَهَذِهِ صِفَةُ مَقْتَلِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مَأْخُوذَةً مِنْ كَلَامِ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ، لَا كَمَا يَزْعُمُهُ أَهْلُ التَّشَيُّعِ مِنَ الْكَذِبِ الصَّرِيحِ وَالْبُهْتَانِ
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ أَبِي جَنَابٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمٍ وَالْمَذْرِيِّ بْنِ الْمُشْمَعِلِّ الْأَسَدِيَّيْنِ قَالَا: أَقْبَلَ الْحُسَيْنُ، فَلَمَّا نَزَلَ شَرَافَ قَالَ لِغِلْمَانِهِ وَقْتَ السَّحَرِ: اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ. فَأَكْثَرُوا ثُمَّ سَارُوا إِلَى صَدْرِ النَّهَارِ، فَسَمِعَ الْحُسَيْنُ رَجُلًا يُكَبِّرُ فَقَالَ لَهُ: مِمَّ كَبَّرْتَ ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ النَّخْلَ. فَقَالَ لَهُ الْأَسَدِيَّانِ: إِنَّ هَذَا الْمَكَانَ لَمْ يَرَ أَحَدٌ مِنْهُ نَخْلَةً. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: فَمَاذَا تَرَيَانِهِ رَأَى ؟

فَقَالَا: هَذِهِ الْخَيْلُ قَدْ أَقْبَلَتْ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: أَمَا لَنَا مَلْجَأٌ نَجْعَلُهُ فِي ظُهُورِنَا وَنَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ ؟ فَقَالَا: بَلَى، ذُو حُسُمٍ. فَأَخَذَ ذَاتَ الْيَسَارِ إِلَى ذِي حُسُمٍ فَنَزَلَ، وَأَمَرَ بِأَبْنِيَتِهِ فَضُرِبَتْ، وَجَاءَ الْقَوْمُ وَهُمْ أَلْفُ فَارِسٍ مَعَ الْحُرِّ بْنِ يَزِيدَ التَّمِيمِيِّ، وَهُمْ مُقَدِّمَةُ الْجَيْشِ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ ابْنُ زِيَادٍ، حَتَّى وَقَفُوا فِي مُقَابَلَتِهِ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، وَالْحُسَيْنُ وَأَصْحَابُهُ مُعْتَمُّونَ مُتَقَلِّدُونَ سُيُوفَهُمْ، فَأَمَرَ الْحُسَيْنُ أَصْحَابَهُ أَنْ يَتَرَوَّوْا مِنَ الْمَاءِ وَيَسْقُوا خُيُولَهُمْ، وَأَنْ يَسْقُوا خُيُولَ أَعْدَائِهِمْ أَيْضًا.
وَرَوَى هُوَ وَغَيْرُهُ قَالُوا: لَمَّا دَخَلَ وَقْتُ الظُّهْرِ أَمَرَ الْحُسَيْنُ الْحَجَّاجَ بْنَ مَسْرُوقٍ الْجُعْفِيَّ فَأَذَّنَ، ثُمَّ خَرَجَ الْحُسَيْنُ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ، فَخَطَبَ النَّاسَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَعْدَائِهِ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ فِي مَجِيئِهِ هَذَا إِلَى هَاهُنَا، بِأَنَّهُ قَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ إِمَامٌ، وَإِنْ أَنْتَ قَدِمْتَ عَلَيْنَا بَايَعْنَاكَ وَقَاتَلْنَا مَعَكَ. ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَقَالَ الْحُسَيْنُ لِلْحُرِّ: تُرِيدُ أَنْ تُصَلِّيَ بِأَصْحَابِكَ ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ صِلِّ أَنْتَ وَنُصَلِّي نَحْنُ وَرَاءَكَ. فَصَلَّى بِهِمُ الْحُسَيْنُ، ثُمَّ دَخَلَ إِلَى خَيْمَتِهِ، وَاجْتَمَعَ بِهِ أَصْحَابُهُ، وَانْصَرَفَ الْحُرُّ إِلَى جَيْشِهِ، وَكُلٌّ عَلَى أُهْبَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ صَلَّى بِهِمُ الْحُسَيْنُ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَخَطَبَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُ وَخَلْعِ مَنْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَدْعِيَاءِ السَّائِرِينَ بِالْجَوْرِ فِي الرَّعِيَّةِ. فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: إِنَّا لَا نَدْرِي مَا هَذِهِ الْكُتُبُ، وَلَا مَنْ كَتَبَهَا. فَأَحْضَرَ الْحُسَيْنُ خُرْجَيْنِ مَمْلُوءَيْنِ كُتُبًا، فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَرَأَ مِنْهَا طَائِفَةً، فَقَالَ الْحُرُّ: لَسْنَا مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَتَبُوا إِلَيْكَ، وَقَدْ أُمِرْنَا إِذَا نَحْنُ لَقِينَاكَ أَنْ لَا نُفَارِقُكَ حَتَّى نُقْدِمَكَ عَلَى

عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ الْحُسَيْنُ: الْمَوْتُ أَدْنَى إِلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ الْحُسَيْنُ لِأَصْحَابِهِ: ارْكَبُوا، فَرَكِبُوا وَرَكِبَ النِّسَاءُ، فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ حَالَ الْقَوْمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِانْصِرَافِ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ لِلْحُرِّ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، مَا تُرِيدُ ؟ فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُهَا لِي مِنَ الْعَرَبِ وَهُوَ عَلَى مِثْلِ الْحَالِ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا لَأَقْتَصَّنَّ مِنْهُ، وَلَمَا تَرَكْتُ ذِكْرَ أُمِّهِ، وَلَكِنْ لَا سَبِيلَ إِلَى ذِكْرِ أُمِّكَ إِلَّا بِأَحْسَنِ مَا نقَدْرُ عَلَيْهِ. وَتَقَاوَلَ الْقَوْمُ وَتَرَاجَعُوا، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: إِنِّي لَمْ أُؤْمَرْ بِقِتَالِكَ، وَإِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ لَا أُفَارِقَكَ حَتَّى أُقْدِمَكَ الْكُوفَةَ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَإِذَا أَبَيْتَ فَخُذْ طَرِيقًا لَا تُقْدِمُكَ الْكُوفَةَ وَلَا تَرُدَّكَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَكْتُبُ أَنَا إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، وَاكْتُبْ أَنْتَ إِلَى يَزِيدَ، أَوْ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ إِنْ شِئْتَ، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَأْتِيَ بِأَمْرٍ يَرْزُقُنِي فِيهِ الْعَافِيَةَ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِكَ. قَالَ: فَأَخَذَ الْحُسَيْنُ يَسَارًا عَنْ طَرِيقِ الْعُذَيْبِ وَالْقَادِسِيَّةِ، وَالْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ يُسَايِرُهُ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: يَا حُسَيْنُ، إِنِّي أُذَكِّرُكَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ، فَإِنِّي أَشْهَدُ لَئِنْ قَاتَلْتَ لَتُقْتَلَنَّ، وَلَئِنْ قُوتِلْتَ لَتَهْلِكَنَّ فِيمَا أَرَى. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: أَفَبِالْمَوْتِ تُخَوِّفُنِي ؟ وَلَكِنْ أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخُو الْأَوْسِ لِابْنِ عَمِّهِ وَقَدْ لَقِيَهُ وَهُوَ يُرِيدُ نُصْرَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيْنَ تَذْهَبُ فَإِنَّكَ مَقْتُولٌ ؟ فَقَالَ:
سَأَمْضِي وَمَا بِالْمَوْتِ عَارٌ عَلَى الْفَتَى إِذَا مَا نَوَى حَقًّا وَجَاهَدَ مُسْلِمًا وَآسَى الرِّجَالَ الصَّالِحِينَ بِنَفْسِهِ
وَفَارَقَ خَوْفًا أَنْ يَعِيشَ وَيُرْغَمَا
وَيُرْوَى عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى:

سَأَمْضِي وَمَا بِالْمَوْتِ عَارٌ عَلَى امْرِئٍ إِذَا مَا نَوَى حَقًّا وَلَمْ يُلْفَ مُجْرِمًا
فَإِنْ مِتُّ لَمْ أَنْدَمْ وَإِنْ عِشْتُ لَمْ أُلَمْ كَفَى بِكَ مَوْتًا أَنْ تُذَلَّ وَتُرْغَمَا
فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْحُرُّ مِنْهُ تَنَحَّى عَنْهُ وَجَعَلَ يَسِيرُ بِأَصْحَابِهِ نَاحِيَةً عَنْهُ، فَانْتَهَوْا إِلَى عُذَيْبِ الْهِجَانَاتِ، وَكَانَ بِهَا هَجَائِنُ النُّعْمَانِ تَرْعَى هُنَالِكَ، وَإِذَا سَفْرٌ أَرْبَعَةٌ - أَيْ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ - قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الْكُوفَةِ عَلَى رَوَاحِلِهِمْ يَخُبُّونَ وَيَجْنُبُونَ فَرَسًا لِنَافِعِ بْنِ هِلَالٍ يُقَالُ لَهُ: الْكَامِلُ. يَقْصِدُونَ الْحُسَيْنَ، وَدَلِيلُهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الطِّرِمَّاحُ بْنُ عَدِيٍّ. رَاكِبٌ عَلَى فَرَسٍ وَهُوَ يَقُولُ:
يَا نَاقَتِي لَا تُذْعَرِي مِنْ زَجْرِي وَشَمِّرِي قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
بِخَيْرِ رُكْبَانٍ وَخَيْرِ سَفْرِ حَتَّى تَحَلِّي بِكَرِيمِ النَّجْرِ
الْمَاجِدِ الْحُرِّ رَحِيبِ الصَّدْرِ أَتَى بِهِ اللَّهُ لِخَيْرِ أَمْرِ
ثُمَّتَ أَبْقَاهُ بَقَاءَ الدَّهْرِ
فَأَرَادَ الْحُرُّ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحُسَيْنِ، فَمَنَعَهُ الْحُسَيْنُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا خَلَصُوا إِلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: أَخْبِرُونِي عَنِ النَّاسِ وَرَاءَكُمْ. فَقَالَ لَهُ مُجَمِّعُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَائِذِيُّ أَحَدُ النَّفَرِ الْأَرْبَعَةِ: أَمَّا أَشْرَافُ النَّاسِ فَهُمْ أَلْبٌ وَاحِدٌ عَلَيْكَ ; لِأَنَّهُمْ قَدْ عَظُمَتْ رِشْوَتُهُمْ وَمُلِئَتْ غَرَائِرُهُمْ، يُسْتَمَالُ بِذَلِكَ وُدُّهُمْ وَيُسْتَخْلَصُ بِهِ نَصِيحَتُهُمْ، وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ فَأَفْئِدَتُهُمْ تَهْوَى إِلَيْكَ، وَسُيُوفُهُمْ غَدًا مَشْهُورَةٌ عَلَيْكَ. قَالَ لَهُمْ: فَهَلْ لَكَمَ بِرَسُولَيْ عِلْمٍ ؟ قَالُوا: وَمَنْ رَسُولُكَ ؟ قَالَ: قَيْسُ بْنُ

مُسْهِرٍ الصَّيْدَاوِيُّ. قَالُوا: نَعَمْ، أَخَذَهُ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَأَمَرَهُ ابْنُ زِيَادٍ أَنْ يَلْعَنَكَ وَيَلْعَنَ أَبَاكَ، فَصَلَّى عَلَيْكَ وَعَلَى أَبِيكَ، وَلَعَنَ ابْنَ زِيَادٍ وَأَبَاهُ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى نُصْرَتِكَ وَأَخْبَرَهُمْ بِقُدُومِكَ، فَأَمَرَ بِهِ، فَأُلْقِيَ مِنْ رَأَسَ الْقَصْرِ فَمَاتَ. فَتَرَقْرَقَتْ عَيْنَا الْحُسَيْنِ، وَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [ الْأَحْزَابِ: 23 ]. اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَنَازِلَهُمُ الْجَنَّةَ، وَاجْمَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي مُسْتَقَرٍّ مِنْ رَحْمَتِكَ، وَرَغَائِبِ مَذْخُورِ ثَوَابِكَ. ثُمَّ إِنَّ الطِّرِمَّاحَ بْنَ عَدِيٍّ قَالَ لِلْحُسَيْنِ: أَنْظُرُ فَمَا أَرَى مَعَكَ أَحَدًا إِلَّا هَذِهِ الشِّرْذِمَةَ الْيَسِيرَةَ، وَإِنِّي لَأَرَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ يُسَايِرُونَكَ أَكْفَاءً لِمَنْ مَعَكَ، فَكَيْفَ وَظَاهِرُ الْكُوفَةِ مَمْلُوءٌ بِالْخُيُولِ وَالْجُيُوشِ يُعْرَضُونَ لِيَقْصِدُوكَ ؟ ! فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ إِنْ قَدَرْتَ أَنْ لَا تُقْدِمَ إِلَيْهِمْ شِبْرًا إِلَّا فَعَلْتَ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَنْزِلَ بَلَدًا يَمْنَعُكَ اللَّهُ بِهِ حَتَّى تَرَى رَأْيَكَ، فَسِرْ مَعِي حَتَّى أُنْزِلَكَ مَنَاعَ جَبَلِنَا، وَهُوَ أَجَأٌ مَنَعَنَا اللَّهُ بِهِ مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ وَحِمْيَرَ، وَمِنَ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَمِنَ الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ، وَاللَّهِ إِنْ دَخَلَ عَلَيْنَا ذُلٌّ قَطُّ ; فَأَسِيرُ مَعَكَ حَتَّى أُنْزِلَكَ الْقُرَيَّةَ، ثُمَّ نَبْعَثُ إِلَى الرِّجَالِ مِنْ أَجَأَ وَسَلْمَى مِنْ طَيِّئٍ، ثُمَّ أَقِمْ فِينَا مَا بَدَا لَكَ، فَأَنَا زَعِيمٌ بِعَشَرَةِ آلَافِ طَائِيٍّ يَضْرِبُونَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِأَسْيَافِهِمْ، وَاللَّهِ لَا يُوصَلُ إِلَيْكَ أَبَدًا وَمِنْهُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا. وَلَمْ يَرْجِعْ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ، فَوَدَّعَهُ الطِّرِمَّاحُ، وَمَضَى الْحُسَيْنُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ أَمَرَ فِتْيَانَهُ أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْمَاءِ كِفَايَتَهُمْ، ثُمَّ سَرَى، فَنَعَسَ فِي مَسِيرِهِ حَتَّى خَفَقَ بِرَأْسِهِ،

وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ فَارِسًا عَلَى فَرَسٍ وَهُوَ يَقُولُ: الْقَوْمُ يَسِيرُونَ وَالْمَنَايَا تَسْرِي إِلَيْهِمْ. فَعَلِمْتُ أَنَّهَا أَنْفُسُنَا نُعِيَتْ إِلَيْنَا. فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ وَعَجَّلَ الرُّكُوبَ، ثُمَّ تَيَاسَرَ فِي مَسِيرِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى نِينَوَى، فَإِذَا رَاكِبٌ مُتَنَكِّبٌ قَوْسًا قَدْ قَدِمَ مِنَ الْكُوفَةِ فَسَلَّمَ عَلَى الْحُرِّ بْنِ يَزِيدَ، وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَى الْحُسَيْنِ، وَدَفَعَ إِلَى الْحُرِّ كِتَابًا مِنِ ابْنِ زِيَادٍ، وَمَضْمُونُهُ أَنْ يَعْدِلَ بِالْحُسَيْنِ فِي السَّيْرِ إِلَى الْعِرَاقِ فِي غَيْرِ قَرْيَةٍ وَلَا حِصْنٍ، حَتَّى تَأْتِيَهُ رُسُلُهُ وَجُنُودُهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ الثَّانِي مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَكَانَ قَدْ جَهَّزَهُ ابْنُ زِيَادٍ فِي هَؤُلَاءِ إِلَى الدَّيْلَمِ، وَخَيَّمَ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ أَمْرُ الْحُسَيْنِ قَالَ لَهُ: سِرْ إِلَيْهِ، فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْهُ فَسِرْ إِلَى الدَّيْلَمِ. فَاسْتَعْفَاهُ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: إِنْ شِئْتَ أَعْفَيْتُكَ وَعَزَلْتُكَ عَنْ وِلَايَةِ هَذِهِ الْبِلَادِ الَّتِي قَدِ اسْتَنَبْتُكَ عَلَيْهَا. فَقَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِي. فَجَعَلَ لَا يَسْتَشِيرُ أَحَدًا إِلَّا نَهَاهُ عَنِ الْمَسِيرِ إِلَى الْحُسَيْنِ، حَتَّى قَالَ لَهُ ابْنُ أُخْتِهِ حَمْزَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: إِيَّاكَ أَنْ تَسِيرَ إِلَى الْحُسَيْنِ فَتَعْصِيَ رَبَّكَ وَتَقْطَعَ رَحِمَكَ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ تَخْرُجَ مِنْ سُلْطَانِ الْأَرْضِ كُلِّهَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تَلْقَى اللَّهَ بِدَمِ الْحُسَيْنِ. فَقَالَ: إِنِّي أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ تَهَدَّدَهُ وَتَوَعَّدَهُ بِالْعَزْلِ وَالْقَتْلِ، فَسَارَ إِلَى الْحُسَيْنِ، فَنَازَلَهُ فِي الْمَكَانَ الَّذِي ذَكَرْنَا، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الْحُسَيْنِ الرُّسُلَ: مَا الَّذِي أقْدَمَكَ ؟ فَقَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ أَهْلُ الْكُوفَةِ أَنْ أَقَدَمَ عَلَيْهِمْ، فَإِذْ قَدْ كَرِهُونِي فَأَنَا أَرْجِعُ إِلَى مَكَّةَ وَأَذَرُكُمْ. فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ هَذَا قَالَ: أَرْجُو أَنْ يُعَافِيَنِي اللَّهُ مِنْ حَرْبِهِ. وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ بِذَلِكَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ زِيَادٍ أَنْ حُلْ بَيْنِهِمْ وَبَيْنَ الْمَاءِ، كَمَا فُعِلَ بِالتَّقِيِّ الزَّكِيِّ

الْمَظْلُومِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَاعْرِضْ عَلَى الْحُسَيْنِ أَنْ يُبَايِعَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ رَأَيْنَا رَأْيَنَا. وَجَعَلَ أَصْحَابُ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ يَمْنَعُونَ أَصْحَابَ الْحُسَيْنِ مِنَ الْمَاءِ وَعَلَى سَرِيَّةٍ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ، فَدَعَا عَلَيْهِ الْحُسَيْنُ بِالْعَطَشِ، فَمَاتَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ. ثُمَّ إِنَّ الْحُسَيْنَ طَلَبَ مِنْ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ، فَجَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ فَارِسًا، فَتَكَلَّمَا طَوِيلًا حَتَّى ذَهَبَ هَزِيعٌ مِنَ اللَّيْلِ، وَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَا قَالَا، وَلَكِنْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يَذْهَبَ مَعَهُ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَيَتْرُكَا الْعَسْكَرَيْنِ مُتَوَاقِفَيْنَ، فَقَالَ عُمَرُ: إِذَنْ يَهْدِمُ ابْنُ زِيَادٍ دَارِي. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: أَنَا أَبْنِيهَا لَكَ. قَالَ: إِذَنْ يَأْخُذُ ضَيَاعِي. قَالَ: أَنَا أُعْطِيكَ خَيْرًا مِنْهَا مِنْ مَالِي بِالْحِجَازِ. قَالَ: فَتَكَرَّهَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ سَأَلَ مِنْهُ إِمَّا أَنْ يَذْهَبَا إِلَى يَزِيدَ، أَوْ يَتْرُكَهُ يَرْجِعُ إِلَى الْحِجَازِ، أَوْ يَذْهَبُ إِلَى بَعْضِ الثُّغُورِ فَيُقَاتِلَ التُّرْكَ. فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بِذَلِكَ، فَقَالَ: نَعَمْ، قَدْ قَبِلْتُ. فَقَامَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَى حُكْمِكَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ حُسَيْنًا وَعُمَرَ بْنَ سَعْدٍ يَجْلِسَانِ بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ فَيَتَحَدَّثَانِ عَامَّةَ اللَّيْلِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: فَنِعْمَ مَا رَأَيْتَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُنْدَبٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: لَقَدْ صَحِبْتُ الْحُسَيْنَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى حِينِ قُتِلَ، وَاللَّهِ مَا مِنْ كَلِمَةٍ قَالَهَا فِي مَوْطِنٍ

إِلَّا وَقَدْ سَمِعْتُهَا، وَإِنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى يَزِيدَ فَيَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ، وَلَا أَنْ يَذْهَبَ إِلَى ثَغْرٍ مِنَ الثُّغُورِ وَلَكِنْ طَلَبَ مِنْهُمْ أَحَدَ أَمْرَيْنِ ; إِمَّا أَنْ يَرْجِعَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ، وَإِمَّا أَنْ يَدَعُوهُ يَذْهَبُ فِي الْأَرْضِ الْعَرِيضَةِ حَتَّى يَنْظُرَ مَا يَصِيرُ أَمْرُ النَّاسِ إِلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ بَعَثَ شَمِرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ فَقَالَ: اذْهَبْ فَإِنْ جَاءَ حُسَيْنٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى حُكْمِي، وَإِلَّا فَمُرْ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ، فَإِنْ تَبَاطَأَ عَنْ ذَلِكَ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، ثُمَّ أَنْتَ الْأَمِيرُ عَلَى النَّاسِ. وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ يَتَهَدَّدُهُ عَلَى تَوَانِيهِ فِي قِتَالِ الْحُسَيْنِ، وَأَمَرَهُ إِنْ لَمْ يَجِئِ الْحُسَيْنُ إِلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَهُ وَمَنْ مَعَهُ، فَإِنَّهُمْ مُشَاقُّونَ. فَاسْتَأْمَنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْمُحِلِّ لِبَنِي عَمَّتِهِ أُمِّ الْبَنِينَ بِنْتِ حِزَامٍ مِنْ عَلِيٍّ ; وَهُمُ الْعَبَّاسُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَجَعْفَرٌ وَعُثْمَانُ.
فَكَتَبَ لَهُمُ ابْنُ زِيَادٍ كِتَابَ أَمَانٍ، وَبَعْثَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْمُحِلِّ مَعَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ: كُزْمَانُ. فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ قَالُوا: أَمَّا أَمَانُ ابْنِ سُمَيَّةَ فَلَا نُرِيدُهُ، وَإِنَّا لَنَرْجُو أَمَانًا خَيْرًا مِنْ أَمَانِ ابْنِ سُمَيَّةَ. وَلَمَّا قَدِمَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ عَلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ بِكِتَابِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ لَهُ عُمَرُ: أَبْعَدَ اللَّهُ دَارَكَ، وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّكَ الَّذِي صَرَفْتَهُ عَنِ الَّذِي عَرَضْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي طَلَبَهَا الْحُسَيْنُ. فَقَالَ لَهُ شَمِرٌ: فَأَخْبِرْنِي مَا أَنْتَ صَانِعٌ ; أَتُقَاتِلُهُمْ أَنْتَ أَوْ تَارِكِي وَإِيَّاهُمْ ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَا، وَلَا كَرَامَةَ لَكَ، أَنَا أَتَوَلَّى ذَلِكَ. وَجَعَلَهُ عَلَى الرَّجَّالَةِ، وَنَهَضُوا إِلَيْهِمْ عَشِيَّةَ يَوْمِ الْخَمِيسِ التَّاسِعِ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَقَامَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ فَقَالَ: أَيْنَ بَنُو أُخْتِنَا ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ الْعَبَّاسُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَجَعْفَرٌ وَعُثْمَانُ بَنُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: أَنْتُمْ آمِنُونَ. فَقَالُوا: إِنْ أَمَّنْتَنَا وَابْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمَانِكَ. قَالَ: ثُمَّ نَادَى عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ فِي الْجَيْشِ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي وَأَبْشِرِي. فَرَكِبُوا وَزَحَفُوا

إِلَيْهِمْ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِئِذٍ، هَذَا وَحُسَيْنٌ جَالِسٌ أَمَامَ خَيْمَتِهِ مُحْتَبِيًا بِسَيْفِهِ، وَنَعَسَ فَخَفَقَ بِرَأْسِهِ، وَسَمِعَتْ أُخْتُهُ زَيْنَبُ الضَّجَّةَ فَدَنَتْ مِنْهُ فَأَيْقَظَتْهُ، فَرَجَعَ بِرَأْسِهِ كَمَا هُوَ، وَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لِي: " إِنَّكَ تَرُوحُ إِلَيْنَا ". فَلَطَمَتْ وَجْهَهَا، وَقَالَتْ: يَا وَيْلَتَا. فَقَالَ: لَيْسَ لَكِ الْوَيْلُ يَا أُخَيَّةُ، اسْكُنِي رَحِمَكِ الرَّحْمَنُ. وَقَالَ لَهُ أَخُوهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَلِيٍّ: يَا أَخِي، جَاءَكَ الْقَوْمُ. فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَيْهِمْ فَسَلْهُمْ مَا بَدَا لَهُمْ. فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ فِي نَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ فَارِسًا فَقَالَ: مَا لَكُمْ ؟ فَقَالُوا: جَاءَ أَمْرُ الْأَمِيرِ ; إِمَّا أَنْ تَأْتُوا عَلَى حُكْمِهِ، وَإِمَّا أَنْ نُقَاتِلَكُمْ. فَقَالَ: مَكَانَكُمْ حَتَّى أَذْهَبَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَأُعْلِمَهُ. فَرَجَعَ وَوَقَفَ أَصْحَابُهُ، فَجَعَلُوا يَتَرَاجَعُونَ الْقَوْلَ وَيُؤَنِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، يَقُولُ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ: بِئْسَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ، تُرِيدُونَ قَتْلَ ذُرِّيَّةَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخِيَارَ النَّاسِ فِي زَمَانِهِمْ ؟ ! ثُمَّ رَجَعَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَلِيٍّ مِنْ عِنْدِ الْحُسَيْنِ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: يَقُولُ لَكُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: انْصَرِفُوا عَشِيَّتَكُمْ هَذِهِ حَتَّى يَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ اللَّيْلَةَ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ لِشَمِرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ: مَا تَقَولُ ؟ فَقَالَ: أَنْتَ الْأَمِيرُ وَالرَّأْيُ رَأْيُكَ. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ بْنِ سَلَمَةَ الزُّبَيْدِيُّ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! وَاللَّهِ لَوْ سَأَلَكُمْ ذَلِكَ رَجُلٌ مَنَ الدَّيْلَمِ لَكَانَ يَنْبَغِي إِجَابَتُهُ. وَقَالَ قَيْسُ بْنُ الْأَشْعَثِ: أَجِبْهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوكَ، فَلَعَمْرِي لَيُصَبِّحُنَّكَ بِالْقِتَالِ غُدْوَةً. وَهَكَذَا جَرَى الْأَمْرُ، فَإِنَّ الْحُسَيْنَ لَمَّا رَجَعَ الْعَبَّاسُ قَالَ لَهُ: ارْجِعْ فَارْدُدْهُمْ هَذِهِ الْعَشِيَّةَ، لَعَلَّنَا نُصَلِّي لِرَبِّنَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَنَدْعُوهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، فَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ مِنِّي أَنِّي أُحِبُّ الصَّلَاةَ لَهُ، وَتِلَاوَةَ كِتَابِهِ، وَالِاسْتِغْفَارَ وَالدُّعَاءَ. وَأَوْصَى الْحُسَيْنُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ إِلَى أَهْلِهِ، وَخَطَبَ

أَصْحَابَهُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِبَارَةٍ فَصِيحَةٍ بَلِيغَةٍ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى أَهْلِهِ فِي لَيْلَتِهِ هَذِهِ، فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ، فَإِنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا يُرِيدُونَنِي. فَقَالَ مَالِكُ بْنُ النَّضْرِ: عَلَيَّ دَيْنٌ وَلِي عِيَالٌ. فَقَالَ: هَذَا اللَّيْلُ قَدْ غَشِيَكُمْ فَاتَّخِذُوهُ جَمَلًا، لِيَأْخُذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِيَدِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، ثُمَّ اذْهَبُوا فِي بَسِيطِ الْأَرْضِ فِي سَوَادِ هَذَا اللَّيْلِ إِلَى بِلَادِكُمْ وَمَدَائِنِكُمْ، فَإِنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا يُرِيدُونَنِي، فَلَوْ قَدْ أَصَابُونِي لَهَوْا عَنْ طَلَبِ غَيْرِي، فَاذْهَبُوا حَتَّى يُفَرِّجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ وَأَبْنَاؤُهُ وَبَنُو أَخِيهِ: لَا بَقَاءَ لَنَا بَعْدَكَ، وَلَا أَرَانَا اللَّهُ فِيكَ مَا نَكْرَهُ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: يَا بَنِي عَقِيلٍ، حَسْبُكُمْ بِمُسْلِمٍ أَخِيكُمْ، اذْهَبُوا فَقَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ. قَالُوا: فَمَا يَقُولُ النَّاسُ ! أَنَّا تَرَكْنَا شَيْخَنَا وَسَيِّدَنَا وبَنِي عُمُومَتِنَا خَيْرَ الْأَعْمَامِ، لَمْ نَرْمِ مَعَهُمْ بِسَهْمٍ، وَلَمْ نَطْعَنْ مَعَهُمْ بِرُمْحٍ، وَلَمْ نَضْرِبْ مَعَهُمْ بِسَيْفٍ، رَغْبَةً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ؟ ! لَا وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ، وَلَكِنْ نَفْدِيكَ بِأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا وَأَهْلِينَا، وَنُقَاتِلُ مَعَكَ حَتَّى نَرِدَ مَوْرِدَكَ، فَقَبَّحَ اللَّهُ الْعَيْشَ بَعْدَكَ. وَقَالَ نَحْوَ ذَلِكَ مُسْلِمُ بْنُ عَوْسَجَةَ الْأَسَدِيُّ، وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنَفِيُّ: وَاللَّهِ لَا نُخَلِّيكَ حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّا قَدْ حَفِظْنَا غَيْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيكَ، وَاللَّهِ لَوْ عَلِمْتُ أَنِّي أُقْتَلُ دُونَكَ أَلْفَ قَتْلَةٍ، وَأَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِذَلِكَ الْقَتْلَ عَنْكَ وَعَنْ أَنْفُسِ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ، لَأَحْبَبْتُ ذَلِكَ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا هِيَ قَتْلَةٌ وَاحِدَةٌ. وَتَكَلَّمَ جَمَاعَةُ أَصْحَابِهِ بِكَلَامٍ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نُفَارِقُكَ، وَأَنْفُسُنَا الْفِدَاءُ لَكَ، نَقِيكَ بِنُحُورِنَا وَجِبَاهِنَا، وَأَيْدِينَا وَأَبْدَانِنَا، فَإِذَا نَحْنُ قُتِلْنَا وَفَّيْنَا وَقَضَيْنَا مَا عَلَيْنَا. وَقَالَ

أَخُوهُ الْعَبَّاسُ: لَا أَرَانَا اللَّهُ يَوْمَ فَقْدِكَ، وَلَا حَاجَةَ لَنَا فِي الْحَيَاةِ بَعْدَكَ. وَتَتَابَعَ أَصْحَابُهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو الضَّحَّاكِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ قَالَ: إِنِّي لَجَالِسٌ تِلْكَ الْعَشِيَّةَ الَّتِي قُتِلَ أَبِي فِي صَبِيحَتِهَا، وَعَمَّتِي زَيْنَبُ تُمَرِّضُنِي، إِذِ اعْتَزَلَ أَبِي فِي خِبَائِهِ، وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَعِنْدَهُ حُوَيٌّ مَوْلَى أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، وَهُوَ يُعَالِجُ سَيْفَهُ وَيُصْلِحُهُ، وَأَبِي يَقُولُ:
يَا دَهْرُ أُفٍّ لَكَ مِنْ خَلِيلِ كَمْ لَكَ بِالْإِشْرَاقِ وَالْأَصِيلِ
مِنْ صَاحِبٍ أَوْ طَالِبٍ قَتِيلِ وَالدَّهْرُ لَا يَقْنَعُ بِالْبَدِيلِ
وَإِنَّمَا الْأَمْرُ إِلَى الْجَلِيلِ وَكُلُّ حَيٍّ سَالِكُ السَّبِيلِ
قَالَ: فَأَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَفَهِمْتُ مَا أَرَادَ، فَخَنَقَتْنِي الْعَبْرَةُ، فَرَدَدْتُهَا وَلَزِمْتُ السُّكُوتَ، وَعَلِمْتُ أَنَّ الْبَلَاءَ قَدْ نَزَلَ، وَأَمَّا عَمَّتِي فَقَامْتَ حَاسِرَةً حَتَّى انْتَهَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: وَاثُكْلَاهُ، لَيْتَ الْمَوْتَ أَعْدَمَنِي الْحَيَاةَ الْيَوْمَ، مَاتَتْ أُمِّي فَاطِمَةُ، وَعَلِيٌّ أَبِي، وَحَسَنٌ أَخِي، يَا خَلِيفَةَ الْمَاضِي وَثِمَالَ الْبَاقِي. فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَقَالَ: يَا أُخَيَّةُ، لَا يُذْهِبَنَّ حِلْمُكِ الشَّيْطَانُ. فَقَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، اسْتُقْتِلْتَ. وَلَطَمَتْ وَجْهَهَا، وَشَقَّتْ جَيْبَهَا، وَخَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، فَقَامَ إِلَيْهَا فَصَبَّ عَلَى وَجْهِهَا الْمَاءَ، وَقَالَ: يَا أُخَيَّةُ، اتَّقِي اللَّهَ وَتَعَزِّي بِعَزَاءِ اللَّهِ، وَاعْلَمِي أَنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ يَمُوتُونَ، وَأَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ لَا يَبْقَوْنَ، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ

إِلَّا وَجْهَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ بِقُدْرَتِهِ، وَيُمِيتُهُمْ بِقَهْرِهِ وَعِزَّتِهِ، وَيُعِيدُهُمْ فَيَعُودُونَ، وَهُوَ فَرْدٌ وَحْدَهُ، وَاعْلَمِي أَنَّ أَبِي خَيْرٌ مِنِّي وَأُمِّي خَيْرٌ مِنِّي، وَأَخِي خَيْرٌ مِنِّي، وَلِي وَلَهُمْ وَلِكُلِّ مُسْلِمٍ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. ثُمَّ حَرَّجَ عَلَيْهَا أَلَّا تَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ هَذَا بَعْدَ مَهْلِكِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهَا فَرَدَّهَا إِلَى عِنْدِي، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُقَرِّبُوا بُيُوتَهُمْ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى تَدْخُلَ الْأَطْنَابُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، وَأَلَّا يَجْعَلُوا لِلْعَدُوِّ مَخْلَصًا إِلَيْهِمْ إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَتَكُونُ الْبُيُوتُ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَمِنْ وَرَائِهِمْ.
وَبَاتَ الْحُسَيْنُ وَأَصْحَابُهُ طُولَ لَيْلِهِمْ يُصَلُّونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ وَيَدْعُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ، وَخُيُولُ حَرَسِ عَدُوِّهِمْ تَدُورُ مِنْ وَرَائِهِمْ، عَلَيْهَا عَزْرَةُ بْنُ قَيْسٍ الْأَحْمَسِيُّ وَالْحُسَيْنُ يَقْرَأُ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ: 179، 178 ]. فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنْ تِلْكَ الْخَيْلِ الَّتِي كَانَتْ تَحْرُسُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ: نَحْنُ وَرَبِّ الْكَعْبةِ الطَّيِّبُونَ، مَيَّزَنَا اللَّهُ مِنْكُمْ. قَالَ: فَعَرَفْتُهُ، فَقُلْتُ لِبُرَيْرِ بْنِ خُضَيْرٍ أَتَدْرِي مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: لَا. فَقُلْتُ: هَذَا أَبُو حَرْبٍ السَّبِيعِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَهْرٍ، وَكَانَ مِضْحَاكًا بَطَّالًا، وَكَانَ شَرِيفًا شُجَاعًا فَاتِكًا، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ رُبَّمَا حَبَسَهُ فِي جِنَايَةٍ. فَقَالَ لَهُ بُرَيْرُ بْنُ خُضَيْرٍ:

يَا فَاسِقُ، مَتَى كُنْتَ مِنَ الطَّيِّبِينَ ؟ ! فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ، وَيْلَكَ ؟ ! قَالَ: أَنَا بُرَيْرُ بْنُ خُضَيْرٍ. قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ، هَلَكْتَ وَاللَّهِ، عَزَّ وَاللَّهِ عَلَيَّ يَا بُرَيْرُ قَتْلَكَ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا حَرْبٍ، هَلْ لَكَ أَنْ تَتُوبَ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذُنُوبِكَ الْعِظَامِ ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَحْنُ الطَّيِّبُونَ وَإِنَّكُمْ لَأَنْتُمُ الْخِبِيثُونَ. قَالَ: نَعَمْ، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ. قَالَ: وَيْحَكَ ! أَفَلَا تَنْفَعُكَ مَعْرِفَتُكَ ؟ ! قَالَ: فَانْتَهَرَهُ عَزْرَةُ بْنُ قَيْسٍ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ الَّتِي تَحْرُسُنَا، فَانْصَرَفَ عَنَّا. قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ الصُّبْحَ بِأَصْحَابِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقِيلَ: يَوْمَ السَّبْتِ - وَكَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ - انْتَصَبَ لِلْقِتَالِ، وَصَلَّى الْحُسَيْنُ أَيْضًا بِأَصْحَابِهِ، وَهُمُ اثَنَانِ وَثَلَاثُونَ فَارِسًا وَأَرْبَعُونَ رَاجِلًا، ثُمَّ انْصَرَفَ فَصَفَّهُمْ، فَجَعَلَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ زُهَيْرَ بْنَ الْقَيْنِ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ حَبِيبَ بْنَ مُظَهِّرٍ، وَأَعْطَى رَايَتَهُ الْعَبَّاسَ بْنَ عَلِيٍّ أَخَاهُ، وَجَعَلُوا الْبُيُوتَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْحَرَمِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَقَدْ أَمَرَ الْحُسَيْنُ مِنَ اللَّيْلِ، فَحَفَرُوا وَرَاءَ بُيُوتِهِمْ خَنْدَقًا، وَقَذَفُوا فِيهِ حَطَبًا وَخَشَبًا وَقَصَبًا، ثُمَّ أُضْرِمَتْ فِيهِ النَّارُ ; لِئَلَّا يَخْلُصَ أَحَدٌ إِلَى بُيُوتِهِمْ مِنْ وَرَائِهَا. وَجَعَلَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى مَيْمَنَتِهِ عَمْرَو بْنَ الْحَجَّاجِ الزُّبَيْدِيَّ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ شَمِرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ - وَاسْمُ ذِي الْجَوْشَنِ شُرَحْبِيلُ بْنُ الْأَعْوَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ الضِّبَابُ بْنُ كِلَابٍ - وَعَلَى الْخَيْلِ عَزْرَةَ بْنَ قَيْسٍ

الْأَحْمَسِيَّ، وَعَلَى الرَّجَّالَةِ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ، وَأَعْطَى الرَّايَةَ ذُوَيْدًا مَوْلَاهُ، وَتَوَاقَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَعَدَلَ الْحُسَيْنُ إِلَى خَيْمَةٍ قَدْ نُصِبَتْ لَهُ، فَاغْتَسَلَ فِيهَا، وَاطَّلَى بِالنُّورَةِ، وَتَطَيَّبَ بِمِسْكٍ كَثِيرٍ، وَدَخَلَ بَعْدَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ، فَفَعَلُوا كَمَا فَعَلَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا هَذَا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ ؟ ! فَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَعْنَا مِنْكَ، وَاللَّهِ مَا هَذِهِ بِسَاعَةِ بَاطِلٍ. فَقَالَ بُرَيْرُ بْنُ خُضَيْرٍ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنِّي مَا أَحْبَبْتُ الْبَاطِلَ شَابًّا وَلَا كَهْلًا، وَلَكِنْ وَاللَّهِ إِنِّي لَمُسْتَبْشِرٌ بِمَا نَحْنُ لَاقُونَ، وَاللَّهِ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحُورِ الْعِينِ إِلَّا أَنْ يَمِيلَ عَلَيْنَا هَؤُلَاءِ فَيَقْتُلُونَا. ثُمَّ رَكِبَ الْحُسَيْنُ عَلَى فَرَسِهِ، وَأَخَذَ مُصْحَفًا فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ، وَرَجَائِي فِي كُلِّ شِدَّةٍ. إِلَى آخِرِهِ. وَأَرْكَبَ ابْنَهُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ - وَكَانَ ضَعِيفًا مَرِيضًا - فَرَسًا يُقَالُ لَهُ: لَاحِقٌ. وَنَادَى الْحُسَيْنُ: أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا مِنِّي نَصِيحَةً أَقُولُهَا لَكُمْ. فَأَنْصَتَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ والثَنَاءِ عَلَيْهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنْ قَبِلْتُمْ مِنِّي وَأَنْصَفْتُمُونِي، كُنْتُمْ بِذَلِكَ أَسْعَدَ، وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ عَلَيَّ سَبِيلٌ، وَإِنْ لَمْ تَقْبَلُوا مِنِّي فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ [ يُونُسَ: 71 ]، إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [ الْأَعْرَافِ: 196 ]. فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ أَخَوَاتُهُ وَبَنَاتُهُ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُنَّ بِالْبُكَاءِ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: لَا يَبْعَدُ ابْنُ عَبَّاسٍ. يَعْنِي حِينَ أَشَارَ عَلَيْهِ أَلَّا يَخْرُجَ بِالنِّسَاءِ مَعَهُ، وَيَدَعَهُنَّ بِمَكَّةَ إِلَى أَنْ يَنْتَظِمَ لَهُ الْأَمْرُ. ثُمَّ بَعَثَ أَخَاهُ الْعَبَّاسَ وَابْنَهُ عَلِيًّا فَسَكَّتَاهُنَّ، ثُمَّ شَرَعَ يَذْكُرُ لِلنَّاسِ فَضْلَهُ وَعَظَمَةَ نَسَبِهِ، وَعُلُوَّ قَدْرِهِ،

وَشَرَفَهُ، وَيَقُولُ: رَاجِعُوا أَنْفُسَكُمْ، هَلْ يَصْلُحُ لَكُمْ قِتَالُ مِثْلِي، وَأَنَا ابْنُ بِنْتِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ابْنُ بِنْتِ نَبِيٍّ غَيْرِي، وَعَلِيٌّ أَبِي، وَجَعْفَرُ ذُو الْجَنَاحَيْنِ عَمِّي، وَحَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ عَمُّ أَبِي، وَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَخِي: هَذَانَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". فَإِنْ صَدَّقْتُمُونِي بِمَا أَقُولُ فَهُوَ الْحَقُّ، وَاللَّهِ مَا تَعَمَّدْتُ كَذِبَةً مُنْذُ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى الْكَذِبِ، وَإِلَّا فَاسْأَلُوا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ; جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبَا سَعِيدٍ، وَسَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يُخْبِرُوكُمْ بِذَلِكَ، وَيْحَكُمْ ! أَمَا تَتَّقُونَ اللَّهَ ؟ ! أَمَا فِي هَذَا حَاجِزٌ لَكُمْ عَنْ سَفْكِ دَمِي ؟ ! فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ: هُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ، إِنْ كُنْتُ أَدْرِي مَا يَقُولُ. فَقَالَ لَهُ حَبِيبُ بْنُ مُظَهِّرٍ: وَاللَّهِ يَا شَمِرُ، إِنَّكَ لَتَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى سَبْعِينَ حَرْفًا، وَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا يَقُولُ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ طَبَعَ عَلَى قَلْبِكَ. ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، ذَرُونِي أَرْجِعْ إِلَى مَأْمَنِي مِنَ الْأَرْضِ. فَقَالُوا: وَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ بَنِي عَمِّكَ ؟ فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أُعْطِيَهُمْ بِيَدِي إِعْطَاءَ الذَّلِيلِ وَأُقِرَّ إِقْرَارَ الْعَبِيدِ، عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [ غَافِرٍ: 27 ]. ثُمَّ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، وَأَمَرَ عُقْبَةَ بْنَ سَمْعَانَ فَعَقَلَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرُونِي أَتَطْلُبُونِي بِقَتِيلٍ لَكُمْ قَتَلْتُهُ ؟ أَوْ مَالٍ لَكُمْ أَكَلْتُهُ ؟ أَوْ بِقِصَاصٍ مِنْ جِرَاحَةٍ ؟ قَالَ: فَأَخَذُوا لَا يُكَلِّمُونَهُ. قَالَ: فَنَادَى: يَا شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ، يَا حَجَّارُ بْنَ أَبْجَرَ،

يَا قَيْسُ بْنَ الْأَشْعَثِ، يَا زَيْدُ بْنَ الْحَارِثِ، أَلَمْ تَكْتُبُوا إِلَيَّ أَنَّهُ قَدْ أَيْنَعَتِ الثِّمَارُ وَاخْضَرَّ الْجَنَابُ، فَاقْدَمْ عَلَيْنَا، فَإِنَّكَ إِنَّمَا تَقْدَمُ عَلَى جُنْدٍ مُجَنَّدٍ. فَقَالُوا لَهُ: لَمْ نَفْعَلْ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُمْ. ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِذْ قَدْ كَرِهْتُمُونِي فَدَعُونِي أَنْصَرِفْ عَنْكُمْ. فَقَالَ لَهُ قَيْسُ بْنُ الْأَشْعَثِ: أَلَا تَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ بَنِي عَمِّكَ ؟ فَإِنَّهُمْ لَنْ يُؤْذُوكَ، وَلَا تَرَى مِنْهُمْ إِلَّا مَا تُحِبُّ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: أَنْتَ أَخُو أَخِيكَ، أَتُرِيدُ أَنْ تَطْلُبَكَ بَنُو هَاشِمٍ بِأَكْثَرَ مِنْ دَمِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ ؟ لَا وَاللَّهِ لَا أُعْطِيهِمْ بِيَدِي إِعْطَاءَ الذَّلِيلِ، وَلَا أُقِرُّ لَهُمْ إِقْرَارَ الْعَبِيدِ. قَالَ: وَأَقْبَلُوا يَزْحَفُونَ نَحْوَهُ، وَقَدْ تَحَيَّزَ إِلَى جَيْشِ الْحُسَيْنِ مِنْ أُولَئِكَ طَائِفَةٌ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ فَارِسًا فِيمَا قِيلَ، مِنْهُمُ الْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ أَمِيرُ مُقَدِّمَةُ الْكُوفِيِّينَ، فَاعْتَذَرَ إِلَى الْحُسَيْنِ مِمَّا كَانَ مِنْهُمْ. قَالَ: وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ لَسِرْتُ مَعَكَ إِلَى يَزِيدَ. فَقَبِلَ مِنْهُ الْحُسَيْنُ، ثُمَّ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ، فَخَاطَبَ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ، فَقَالَ: وَيْحَكُمْ ! أَلَا تَقْبَلُونَ مِنِ ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَعْرِضُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً مِنْهَا ؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ إِلَيَّ قَبِلْتُ، وَلَكِنْ أَبَى عَلَيَّ

ابْنُ زِيَادٍ. ثُمَّ خَاطَبَ أَهْلَ الْكُوفَةِ، فَسَبَّهُمْ وَأَنَّبَهُمْ وَقَالَ: وَيْحَكُمْ ! دَعَوْتُمُوهُ، حَتَّى إِذَا جَاءَ خَذَلْتُمُوهُ، وَمَا كَفَاكُمْ ذَلِكَ حَتَّى جِئْتُمْ لِتُقَاتِلُوهُ، وَقَدْ مَنَعْتُمُوهُ وَنِسَاءَهُ الْمَاءَ مِنَ الْفُرَاتِ ; الَّذِي يَشْرَبُ مِنْهُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ وَالْمَجُوسِيُّ، وَتَتَمَرَّغُ فِيهِ خَنَازِيرُ السَّوَادِ وَكِلَابُهُ، فَهُوَ كَالْأَسِيرِ فِي أَيْدِيكُمْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا.
قَالَ: فَتَقَدَّمَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، وَقَالَ لِمَوْلَاهُ: يَا ذُوَيْدُ، أَدْنِ رَايَتَكَ. فَأَدْنَاهَا، ثُمَّ شَمَّرَ عُمَرُ عَنْ سَاعِدِهِ، وَرَمَى بِسَهْمٍ، وَقَالَ: اشْهَدُوا أَنِّي أَوَّلُ مَنْ رَمَى الْقَوْمَ. قَالَ: فَتَرَامَى النَّاسُ بِالنِّبَالِ، وَخَرَجَ يَسَارٌ مَوْلَى زِيَادٍ وَسَالِمٌ مَوْلَى عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَا:

مَنْ يُبَارِزُ ؟ فَبَرَزَ لَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ الْكَلْبِيُّ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ الْحُسَيْنَ، فَقَتَلَ يَسَارًا أَوَّلًا، ثُمَّ قَتَلَ سَالِمًا بَعْدَهُ، وَقَدْ ضَرَبَهُ سَالِمٌ ضَرْبَةً أَطَارَ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُسْرَى، وَحَمَلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَوْزَةَ. حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الْحُسَيْنِ، فَقَالَ لَهُ: يَا حُسَيْنُ، أَبْشِرْ بِالنَّارِ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: كَلَّا، وَيْحَكَ ! إِنِّي أَقْدَمُ عَلَى رَبٍّ رَحِيمٍ، وَشَفِيعٍ مُطَاعٍ، بَلْ أَنْتَ أَوْلَى بِالنَّارِ. قَالُوا: فَانْصَرَفَ فَوَقَصَتْهُ فَرَسُهُ فَسَقَطَ، وَتَعَلَّقَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى بِالرِّكَابِ.
وَشَدَّ عَلَيْهِ مُسْلِمُ بْنُ عَوْسَجَةَ، فَضَرَبَهُ فَأَطَارَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَغَارَتْ بِهِ فَرَسُهُ، فَلَمْ يَبْقَ حَجَرٌ يَمُرُّ بِهِ إِلَّا ضَرَبَهُ فِي رَأْسِهِ حَتَّى مَاتَ.
وَرَوَى أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ أَبِي جَنَابٍ قَالَ: كَانَ مِنَّا رَجُلٌ يُدْعَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ مِنْ بَنِي عُلَيْمٍ، كَانَ قَدْ نَزَلَ الْكُوفَةَ، وَاتَّخَذَ دَارًا عِنْدَ بِئْرِ الْجَعْدِ مِنْ هَمْدَانَ، وَكَانَتْ مَعَهُ امْرَأَةٌ لَهُ مَنَ النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ، فَرَأَى النَّاسَ يَتَهَيَّئُونَ لِلْخُرُوجِ إِلَى قِتَالِ الْحُسَيْنِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ حَرِيصًا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ جِهَادِي مَعَ ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَؤُلَاءِ أَفْضَلَ مِنْ جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَيْسَرَ ثَوَابًا عِنْدَ اللَّهِ. فَدَخَلَ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَأَخْبَرَهَا بِمَا هُوَ عَازِمٌ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: أَصَبْتَ - أَصَابَ اللَّهُ بِكَ - أَرْشَدَ أُمُورِكَ، افْعَلْ

وَأَخْرِجْنِي مَعَكَ. قَالَ: فَخَرَجَ بِهَا لَيْلًا حَتَّى أَتَى الْحُسَيْنَ. ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ رَمْيِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ بِالسَّهْمِ، وَقِصَّةَ قَتْلِهِ يَسَارًا مَوْلَى زِيَادٍ، وَسَالِمًا مَوْلَى ابْنِ زِيَادٍ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَيْرٍ اسْتَأْذَنَ الْحُسَيْنَ فِي الْخُرُوجِ إِلَيْهِمَا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ، فَرَأَى رَجُلًا آدَمَ طَوِيلًا شَدِيدَ السَّاعِدَيْنِ، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: إِنِّي لَأَحْسَبُهُ لِلْأَقْرَانِ قَتَّالًا، اخْرُجْ إِنْ شِئْتَ. فَخَرَجَ فَقَالَا لَهُ: مَنْ أَنْتَ ؟ فَانْتَسَبَ لَهُمَا. فَقَالَا: لَا نَعْرِفُكَ. فَقَالَ لَهُمَا: يَا أَوْلَادَ الزَّانِيَةِ، أَوَ بِكُمْ رَغْبَةٌ عَنْ مُبَارَزَةِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ ؟ ! وَهَلْ يَخْرُجُ إِلَيْكُمَا أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ خَيْرٌ مِنْكُمَا ؟ ثُمَّ شَدَّ عَلَى يَسَارٍ، فَكَانَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ، فَإِنَّهُ لَمُشْتَغِلٌ بِهِ إِذْ حَمَلَ عَلَيْهِ سَالِمٌ مَوْلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَصَاحَ بِهِ: قَدْ رَهِقَكَ الْعَبْدُ. قَالَ: فَلَمْ يَنْتَبِهْ لَهُ حَتَّى غَشِيَهُ، فَضَرَبَهُ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى، فَأَطَارَ أَصَابِعَهُ، ثُمَّ مَالَ عَلَيْهِ الْكَلْبِيُّ، فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ وَأَقْبَلَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:
إِنْ تُنْكِرَانِي فَأَنَا ابْنُ كَلْبِ حَسْبِي بَيْتِي فِي عُلَيْمٍ حَسْبِي
إِنِّي امْرُؤٌ ذُو مِرَّةٍ وَعَصْبِ وَلَسْتُ بِالْخَوَّارِ عِنْدَ الْكَرْبِ

إِنِّي زَعِيمٌ لَكِ أُمَّ وَهْبِ بِالطَّعْنِ فِيهِمْ مُقْدِمًا وَالضَّرْبِ
ضَرْبِ غُلَامٍ مُؤْمِنٍ بِالرَّبِّ
فَأَخَذَتْ أُمُّ وَهْبٍ عَمُودًا، ثُمَّ أَقْبَلَتْ نَحْوَ زَوْجِهَا تَقُولُ لَهُ: فِدَاؤُكَ أَبِي وَأُمِّي، قَاتِلْ دُونَ الطَّيِّبِينَ ذُرِّيَّةِ مُحَمَّدٍ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَأَقْبَلَ إِلَيْهَا يَرُدُّهَا نَحْوَ النِّسَاءِ، فَأَقْبَلَتْ تُجَاذِبُهُ ثَوْبَهُ. قَالَتْ: دَعْنِي أَكُونُ مَعَكَ. فَنَادَاهَا الْحُسَيْنُ: انْصَرِفِي إِلَى النِّسَاءِ فَاجْلِسِي مَعَهُنَّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ قِتَالٌ. فَانْصَرَفَتْ إِلَيْهِنَّ.
قَالَ: وَكَثُرَتِ الْمُبَارَزَةُ يَوْمَئِذٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالنَّصْرُ فِي ذَلِكَ لِأَصْحَابِ الْحُسَيْنِ ; لِقُوَّةِ بَأْسِهِمْ، وَأَنَّهُمْ مُسْتَمِيتُونَ، لَا عَاصِمَ لَهُمْ إِلَّا سُيُوفُهُمْ، فَأَشَارَ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ عَلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ بِعَدَمِ الْمُبَارَزَةِ، وَحَمَلَ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ أَمِيرَ الْمَيْمَنَةِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: قَاتِلُوا مَنْ مَرَقَ مِنَ الدِّينِ، وَفَارَقَ الْإِمَامَ وَالْجَمَاعَةَ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: وَيْحَكَ يَا حَجَّاجُ ! أَعَلَيَّ تُحَرِّضُ النَّاسَ ؟ ! أَنَحْنُ مَرَقْنَا مِنَ الدِّينِ وَأَنْتُمْ ثَبَتُّمْ عَلَيْهِ ؟ ! سَتَعْلَمُونَ إِذَا فَارَقَتْ أَرْوَاحُكُمْ أَجْسَادَكُمْ مَنْ أَوْلَى بِصِلِيِّ النَّارِ. وَقَدْ قُتِلَ فِي هَذِهِ الْحَمْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ عَوْسَجَةَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ، فَمَشَى إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ، فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى آخِرِ رَمَقٍ، وَقَالَ لَهُ حَبِيبُ بْنُ مُظَهِّرٍ: أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ بِصَوْتٍ ضَعِيفٍ: بَشَّرَكَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ حَبِيبٌ: لَوْلَا أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي عَلَى إِثْرِكَ لَاحِقُكَ، لَكُنْتُ أَقْضِي مَا تُوصِينِي بِهِ. فَقَالَ لَهُ مُسْلِمُ بْنُ عَوْسَجَةَ: أُوصِيكَ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى الْحُسَيْنِ - أَنْ تَمُوتَ

دُونَهُ. قَالُوا: ثُمَّ حَمَلَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ بِالْمَيْسَرَةِ، وَقَصَدُوا نَحْوَ الْحُسَيْنِ، فَدَافَعَتْ عَنْهُ الْفُرْسَانُ مِنْ أَصْحَابِهِ دِفَاعًا عَظِيمًا، وَكَافَحُوا دُونَهُ مُكَافَحَةً بَلِيغَةً، فَأَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ مِنْ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ طَائِفَةً مِنَ الرُّمَاةِ الرَّجَّالَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ نَحْوًا مِنْ خَمْسِمِائَةٍ، فَجَعَلُوا يَرْمُونَ خُيُولَ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ، فَعَقَرُوهَا كُلَّهَا حَتَّى بَقِيَ جَمِيعُهُمْ رَجَّالَةً، وَلَمَّا عَقَرُوا جَوَادَ الْحُرِّ بْنِ يَزِيدَ نَزَلَ عَنْهُ وَفِي يَدِهِ السَّيْفُ كَأَنَّهُ لَيْثٌ وَهُوَ يَقُولُ
إِنْ تَعْقِرُوا بِي فَأَنَا ابْنُ الْحُرِّ أَشْجَعُ مِنْ ذِي لِبْدَةٍ هِزَبْرِ
وَيُقَالُ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ أَمَرَ بِتَقْوِيضِ تِلْكَ الْأَبْنِيَةِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنَ الْقِتَالِ مَنْ أَتَى مِنْ نَاحِيَتِهَا، فَجَعَلَ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ يَقْتُلُونَ مَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِتَحْرِيقِهَا، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: دَعُوهُمْ يَحْرِقُونَهَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَجُوزُوا مِنْهَا وَقَدِ أُحْرِقَتْ. وَجَاءَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ قَبَّحَهُ اللَّهُ، إِلَى فُسْطَاطِ الْحُسَيْنِ، فَطَعَنَهُ بِرُمْحِهِ - يَعْنِي الْفُسْطَاطَ - وَقَالَ: ائْتُونِي بِالنَّارِ لِأُحَرِّقَهُ عَلَى مَنْ فِيهِ. فَصَاحَتِ النِّسْوَةُ وَخَرَجْنَ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَحْرِقَ أَهْلِي ؟ ! أَحْرَقَكَ اللَّهُ بِالنَّارِ. وَجَاءَ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ إِلَى شَمِرٍ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا رَأَيْتُ أَقْبَحَ مِنْ قَوْلِكَ وَمَوْقِفِكَ هَذَا، أَتُرِيدُ أَنْ تُرْعِبَ النِّسَاءَ ؟ ! فَاسْتَحْيَا، وَهَمَّ بِالرُّجُوعِ.

وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ مُسْلِمٍ: قُلْتُ لِشَمِرٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! إِنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ لَكَ، أَتُرِيدُ أَنْ تَجْمَعَ عَلَى نَفْسِكَ خَصْلَتَيْنِ ; تُعَذِّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ، وَتَقْتُلُ الْوِلْدَانَ وَالنِّسَاءَ ! وَاللَّهِ إِنَّ فِي قَتْلِكَ الرِّجَالَ لَمَا تُرْضِي بِهِ أَمِيرَكَ. قَالَ: فَقَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ ؟ قُلْتُ: لَا أُخْبِرُكَ مَنْ أَنَا. وَخَشِيتُ أَنِّي إِنْ أَخْبَرْتُهُ فَعَرَفَنِي، أَنْ يَسُوءَنِي عِنْدَ السُّلْطَانِ. وَشَدَّ زُهَيْرُ بْنُ الْقَيْنِ فِي رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ عَلَى شَمِرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ، فَأَزَالُوهُ عَنْ مَوْقِفِهِ، وَقَتَلُوا أَبَا عَزَّةَ الضِّبَابِيَّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ شَمِرٍ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ إِذَا قُتِلَ بَانَ فِيهِمُ الْخَلَلُ، وَإِذَا قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ زِيَادٍ الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ لَمْ يَتَبَيَّنْ ذَلِكَ فِيهِمْ لِكَثْرَتِهِمْ، وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ وَقْتُ الظُّهْرِ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: مُرُوهُمْ فَلْيَكُفُّوا عَنِ الْقِتَالِ حَتَّى نُصَلِّيَ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ: إِنَّهَا لَا تُقْبَلُ مِنْكُمْ. فَقَالَ لَهُ حَبِيبُ بْنُ مُظَهِّرٍ: وَيْحَكَ ! أَتُقْبَلُ مِنْكُمُ الصَّلَاةُ وَلَا تُقْبَلُ مِنْ آلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ ! وَقَاتَلَ حَبِيبٌ قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ.

ثُمَّ صَلَّى الْحُسَيْنُ بِأَصْحَابِهِ الظُّهْرَ صَلَاةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ اقْتَتَلُوا بَعْدَهَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَوُصِلَ إِلَى الْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَدَافَعَ عَنْهُ صَنَادِيدُ أَصْحَابِهِ، فَقُتِلَ زُهَيْرُ بْنُ الْقَيْنِ بَيْنَ يَدَيِ الْحُسَيْنِ، وَقَاتَلَ دُونَهُ نَافِعُ بْنُ هِلَالٍ الْجَمَلِيُّ، فَقَتَلَ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ سِوَى مَنْ جَرَحَ، ثُمَّ

أُسِرَ وَكُسِرَتْ عَضُدَاهُ وَمَعَ هَذَا ضَرَبَ عُنُقَهُ بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ، ثُمَّ حَمَلَ شَمِرٌ عَلَى أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ وَهُوَ يَقُولُ
خَلُّوا عُدَاةَ اللَّهِ خَلُّوا عَنْ شَمِرْ يَضْرِبُهُمْ بِسَيْفِهِ وَلَا يَفِرْ
وَصَمَّمَ عَلَيْهِمُ الْأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَتَكَاثَرُوا عَلَيْهِمْ، وَتَفَانَى أَصْحَابُ

الْحُسَيْنِ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ أَحَدٌ إِلَّا سُوِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي الْمُطَاعِ الْخَثْعَمِيُّ.
وَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ قُتِلَ مِنْ بَنِي أَبِي طَالِبٍ يَوْمَئِذٍ عَلِيٌّ الْأَكْبَرُ ابْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأُمُّهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي مُرَّةَ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ، طَعَنَهُ مُرَّةُ بْنُ مُنْقِذِ بْنِ النُّعْمَانِ الْعَبْدِيُّ فَقَتَلَهُ، وَيُرْوَى أَنَّهُ جَعَلَ يُقَاتِلُ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ عَلِي نَحْنُ وَرَبِّ الْبَيْتِ أَوْلَى بِالنَّبِي
تَاللَّهِ لَا يَحْكُمُ فِينَا ابْنُ الدَّعِي كَيْفَ تَرَوْنَ الْيَوْمَ سَتْرِي عَنْ أَبِي
فَلَمَّا طَعَنَهُ مُرَّةُ احْتَوَشَتْهُ الرِّجَالُ، فَقَطَّعُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: قَتَلَ اللَّهُ قَوْمًا قَتَلُوكَ يَا بُنَيَّ، مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى انْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ ! فَعَلَى الدُّنْيَا بَعْدَكَ الْعَفَاءُ. قَالَ: وَخَرَجَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا الشَّمْسُ حُسْنًا، فَقَالَتْ: يَا أُخَيَّاهُ وَيَا ابْنَ أُخَيَّاهُ. فَإِذَا هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ عَلِيٍّ مِنْ فَاطِمَةَ، فَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ وَهُوَ صَرِيعٌ. قَالَ: فَجَاءَ الْحُسَيْنُ فَأَخَذَ بِيَدِهَا، فَأَدْخَلَهَا الْفُسْطَاطَ، وَأَمَرَ بِهِ الْحُسَيْنُ فَحُوِّلَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ عِنْدَ فُسْطَاطِهِ، ثُمَّ قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، ثُمَّ قُتِلَ عَوْنٌ وَمُحَمَّدٌ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، ثُمَّ قُتِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَجَعْفَرٌ ابْنَا عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ قُتِلَ الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: وَحَدَّثَنِي فُضَيْلُ بْنُ خَدِيجٍ الْكِنْدِيُّ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ

زِيَادٍ - وَكَانَ رَامِيًا، وَهُوَ أَبُو الشَّعْثَاءِ الْكِنْدِيُّ مِنْ بَنِي بَهْدَلَةَ - جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ بَيْنَ يَدَيِ الْحُسَيْنِ، فَرَمَى بِمِائَةِ سَهْمٍ مَا سَقَطَ مِنْهَا عَلَى الْأَرْضِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الرَّمْيِ قَالَ: قَدْ تَبَيَّنَ لِي أَنِّي قَتَلْتُ خَمْسَةَ نَفَرٍ، وَكَانَ فِي أَوَّلِ مَنْ قُتِلَ، وَكَانَ رَجَزُهُ يَوْمَئِذٍ:
أَنَا يَزِيدُ وَأَبِي مُهَاصِرْ أَشْجَعُ مِنْ لَيْثٍ بَغِيلٍ خَادِرْ
يَا رَبِّ إِنِّي لِلْحُسَيْنِ نَاصِرْ وَلِابْنِ سَعْدٍ تَارِكٌ وَهَاجِرْ
قَالُوا: وَمَكَثَ الْحُسَيْنُ نَهَارًا طَوِيلًا لَا يَأْتِي إِلَيْهِ رَجُلٌ إِلَّا رَجَعَ عَنْهُ ; لَا يُحِبُّ أَنْ يَلِيَ قَتْلَهُ، حَتَّى جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَدَّاءَ يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ النُّسَيْرِ. فَضَرَبَ الْحُسَيْنَ بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ فَجَرَحَهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ بُرْنُسٌ، فَامْتَلَأَ دَمًا، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: لَا أَكَلْتَ بِهَا وَلَا شَرِبْتَ، وَحَشَرَكَ اللَّهُ مَعَ الظَّالِمِينَ. ثُمَّ أَلْقَى الْحُسَيْنُ ذَلِكَ الْبُرْنُسَ، وَدَعَا بِعِمَامَةٍ فَاعْتَمَّ بِهَا. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ الْحُسَيْنَ أَعْيَا،

فَقَعَدَ عَلَى بَابِ فُسْطَاطِهِ، وَأُتِيَ بِصَبِيٍّ صَغِيرٍ مِنْ أَوْلَادِهِ، فَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ جَعَلَ يُقَبِّلُهُ وَيَشُمُّهُ وَيُوَدِّعُهُ وَيُوصِي أَهْلَهُ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ مُوقِدِ النَّارِ. بِسَهْمٍ فَذَبَحَ ذَلِكَ الْغُلَامَ، فَتَلَقَّى حُسَيْنٌ دَمَهُ فِي يَدِهِ، وَأَلْقَاهُ نَحْوَ السَّمَاءِ، وَقَالَ: رَبِّ إِنْ تَكُ قَدْ حَبَسْتَ عَنَّا النَّصْرَ مِنَ السَّمَاءِ فَاجْعَلْهُ لِمَا هُوَ خَيْرٌ، وَانْتَقِمْ لَنَا مِنَ الظَّالِمِينَ. وَرَمَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُقْبَةَ الْغَنَوِيُّ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْحُسَيْنِ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ أَيْضًا، ثُمَّ قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْعَبَّاسُ وَعُثْمَانُ وَجَعْفَرٌ وَمُحَمَّدٌ بَنُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِخْوَةُ الْحُسَيْنِ لِأَبِيهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَقَدِ اشْتَدَّ عَطَشُ الْحُسَيْنِ، فَحَاوَلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى مَاءِ الْفُرَاتِ فَمَانَعُوهُ دُونَهُ، فَخَلَصَ إِلَى شَرْبَةٍ مِنْهُ، فَلَمَّا أَهْوَى إِلَيْهَا رَمَاهُ حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ بِسَهْمٍ فِي حَنَكِهِ فَأَثْبَتَهُ، فَانْتَزَعَهُ الْحُسَيْنُ مِنْ حَنَكِهِ، فَفَارَ الدَّمُ فَتَلَقَّاهُ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ رَفَعَهُمَا إِلَى السَّمَاءِ وَهُمَا مَمْلُوءَتَانِ دَمًا، ثُمَّ رَمَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا وَاقْتُلْهُمْ بِدَدًا، وَلَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ

مِنْهُمْ أَحَدًا. وَدَعَا عَلَيْهِمْ دُعَاءً بَلِيغًا.
ثُمَّ جَاءَ شَمِرٌ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّجْعَانِ حَتَّى أَحَاطُوا بِالْحُسَيْنِ وَهُوَ عِنْدَ فُسْطَاطِهِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ أَحَدٌ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَجَاءَ غُلَامٌ يَشْتَدُّ مِنَ الْخِيَامِ كَأَنَّهُ الْبَدْرُ فِي أُذُنَيْهِ دُرَّتَانِ تَذَبْذَبَانِ، فَخَرَجَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ عَلِيٍّ لِتَرُدَّهُ فَامْتَنَعَ عَلَيْهَا، وَجَاءَ يُحَاجِفُ عَنْ عَمِّهِ، فَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِالسَّيْفِ، فَاتَّقَاهُ بِيَدِهِ، فَأَطَنَّهَا سِوَى جِلْدَةٍ، فَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: يَا بُنَيَّ، احْتَسِبْ أَجْرَكَ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّكَ تَلْحَقُ بِآبَائِكَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ حَمَلَ عَلَى الْحُسَيْنِ الرِّجَالُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَهُوَ يَجُولُ فِيهِمْ بِالسَّيْفِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَتَنَافَرُونَ عَنْهُ كَتَنَافُرِ الْمِعْزَى عَنِ السَّبُعِ، وَخَرَجَتْ أُخْتُهُ زَيْنَبُ بِنْتُ فَاطِمَةَ إِلَيْهِ، فَجَعَلَتْ تَقُولُ: لَيْتَ السَّمَاءَ تَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ. وَجَاءَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، فَقَالَتْ: يَا عُمَرُ، أَرَضِيتَ أَنْ يُقْتَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَأَنْتَ تَنْظُرُ ؟ فَتَحَادَرَتِ الدُّمُوعُ عَلَى لِحْيَتِهِ، وَصَرَفَ وَجْهَهُ عَنْهَا، ثُمَّ جَعَلَ لَا يُقْدِمُ أَحَدٌ عَلَى قَتْلِهِ، حَتَّى نَادَى شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ: وَيْحَكُمْ ! مَاذَا تَنْتَظِرُونَ بِالرَّجُلِ ؟ اقْتُلُوهُ ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ. فَحَمَلَتِ الرِّجَالُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَلَى الْحُسَيْنِ، وَضَرَبَهُ زُرْعَةُ

بْنُ شَرِيكٍ التَّمِيمِيُّ عَلَى كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَضَرَبَ عَلَى عَاتِقِهِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ وَهُوَ يَنُوءُ وَيَكْبُو، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ سِنَانُ بْنُ أَنَسِ بْنِ عَمْرٍو النَّخَعِيُّ، فَطَعَنَهُ بِالرُّمْحِ فَوَقَعَ، ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ وَحَزَّ رَأْسَهُ، ثُمَّ دَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى خَوَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي قَتَلَهُ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ. وَقِيلَ: رَجُلٌ مِنْ مَذْحِجٍ. وَقِيلَ: عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا كَانَ عُمَرُ أَمِيرَ السَّرِيَّةِ الَّتِي قَتَلَتِ الْحُسَيْنَ فَقَطْ.

وَأَخَذَ سِنَانٌ وَغَيْرُهُ سَلَبَهُ، وَتَقَاسَمَ النَّاسُ مَا كَانَ مِنْ أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَمَا فِي خِبَائِهِ، حَتَّى مَا عَلَى النِّسَاءِ مِنَ الثِّيَابِ الظَّاهِرَةِ.
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: وُجِدَ بِالْحُسَيْنِ حِينَ قُتِلَ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ طَعْنَةً، وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ ضَرْبَةً. وَهَمَّ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ بِقَتْلِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْأَصْغَرِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ، وَهُوَ صَغِيرٌ مَرِيضٌ، حَتَّى صَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ حُمَيْدُ بْنُ مُسْلِمٍ أَحَدُ أَصْحَابِهِ. وَجَاءَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، فَقَالَ: أَلَا لَا يَدْخُلَنَّ عَلَى هَذِهِ النِّسْوَةِ أَحَدٌ وَلَا يَقْتُلْ هَذَا الْغُلَامَ أَحَدٌ وَمَنْ أَخَذَ مِنْ مَتَاعِهِمْ شَيْئًا فَلْيَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ أَحَدٌ شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: جُزِيتَ خَيْرًا، فَقَدْ دَفَعَ اللَّهُ عَنِّي بِمَقَالَتِكَ شَرًّا. قَالُوا: ثُمَّ جَاءَ سِنَانُ بْنُ أَنَسٍ إِلَى بَابِ فُسْطَاطِ عُمَرِ بْنِ سَعْدٍ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ:
أَوْقِرْ رِكَابِي فِضَّةً وَذَهَبًا أَنَا قَتَلْتُ الْمَلِكَ الْمُحَجَّبَا
قَتَلْتُ خَيْرَ النَّاسِ أُمًّا وَأَبَا وَخَيْرَهُمْ إِذْ يُنْسَبُونَ نَسَبَا
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ: أَدْخِلُوهُ عَلَيَّ. فَلَمَّا دَخَلَ رَمَاهُ بِالسَّوْطِ، وَقَالَ: وَيْحَكَ أَنْتَ مَجْنُونٌ ! وَاللَّهِ لَوْ سَمِعَكَ ابْنُ زِيَادٍ تَقُولُ هَذَا لَضَرَبَ عُنُقَكَ. وَمَنَّ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى عُقْبَةَ بْنِ سَمْعَانَ حِينَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مَوْلًى، فَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ غَيْرُهُ، وَالْمُرَقَّعُ بْنُ ثُمَامَةَ أُسِرَ، فَمَنَّ عَلَيْهِ ابْنُ زِيَادٍ.
وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ اثَنَانِ وَسَبْعُونَ نَفْسًا، فَدَفَنَهُمْ أَهْلُ الْغَاضِرِيَّةِ مِنْ

بَنِي أَسَدٍ بَعْدَ مَا قُتِلُوا بِيَوْمٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَأَكْرَمَهُمْ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ قَالَ: قُتِلَ مَعَ الْحُسَيْنِ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، كُلُّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ فَاطِمَةَ.
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قُتِلَ مَعَ الْحُسَيْنِ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا، كُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ لَهُمْ شِبْهٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: قُتِلَ مَعَهُ مِنْ وَلَدِهِ وَإِخْوَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ ثَلَاثَةُ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، فَمِنْ أَوْلَادِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ; جَعْفَرٌ، وَالْحُسَيْنُ، وَالْعَبَّاسُ، وَمُحَمَّدٌ، وَعُثْمَانُ، وَأَبُو بَكْرٍ. وَمِنْ أَوْلَادِ الْحُسَيْنِ عَلِيٌّ الْأَكْبَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ. وَمِنْ أَوْلَادِ أَخِيهِ الْحَسَنِ ثَلَاثَةٌ ; عَبْدُ اللَّهِ، وَالْقَاسِمُ، وَأَبُو بَكْرٍ بَنُو الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَمِنْ أَوْلَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ اثَنَانِ ; عَوْنٌ وَمُحَمَّدٌ. وَمِنْ أَوْلَادِ عَقِيلٍ ; جَعْفَرٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَمُسْلِمٌ قُتِلَ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا قَدَّمْنَا. فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ لِصُلْبِهِ، واثَنَانِ آخَرَانِ ; هُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَعِيدِ

بْنِ عَقِيلٍ، فَكَمَلُوا سِتَّةً مِنْ وَلَدِ عَقِيلٍ، وَفِيهِمْ يَقُولُ الشَّاعِرُ:
وَانْدُبِي تِسْعَةً لِصُلْبِ عَلِيٍّ قَدْ أُصِيبُوا وَسِتَّةً لِعَقِيلِ
وَسَمِيُّ النَّبِيِّ غُودِرَ فِيهِمْ قَدْ عَلَوْهُ بِصَارِمٍ مَصْقُولِ
وَمِمَّنْ قُتِلَ مَعَ الْحُسَيْنِ بِكَرْبَلَاءَ أَخُوهُ لِأُمِّهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُقْطُرٍ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا قُتِلَ قَبْلَ ذَلِكَ حِينَ بَعَثَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَحُمِلَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ فَقَتَلَهُ. وَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ أَصْحَابِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ ثَمَانِيَةٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا سِوَى الْجَرْحَى، فَصَلَّى عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ وَدَفَنَهُمْ. وَيُقَالُ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ نَدَبَ عَشَرَةَ فُرْسَانٍ، فَدَاسُوا الْحُسَيْنَ بِأَفْرَاسِهِمْ حَتَّى أَلْصَقُوهُ بِالْأَرْضِ يَوْمَ الْمَعْرَكَةِ، وَسُرِّحَ بِرَأْسِهِ مِنْ يَوْمِهِ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ مَعَ خَوَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ الْأَصْبَحِيِّ، فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إِلَى الْقَصْرِ وَجَدَهُ مُغْلَقًا، فَرَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَوَضَعَهُ تَحْتَ إِجَّانَةٍ، وَقَالَ لِامْرَأَتِهِ نَوَارَ بِنْتِ مَالِكٍ: جِئْتُكِ بِعِزِّ الدَّهْرِ. فَقَالَتْ: وَمَا هُوَ ؟ فَقَالَ: هَذَا رَأْسُ الْحُسَيْنِ. فَقَالَتْ: جَاءَ النَّاسُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَجِئْتَ أَنْتَ بِرَأْسِ ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ ! وَاللَّهِ لَا يَجْمَعُنِي وَإِيَّاكَ فِرَاشٌ أَبَدًا. ثُمَّ نَهَضَتْ عَنْهُ مِنَ الْفِرَاشِ، وَاسْتَدْعَى بِامْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَنَامَتْ عِنْدَهُ. قَالَتِ الثَّانِيَةُ: فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ أَرَى النُّورَ سَاطِعًا مِنْ تِلْكَ الْإِجَّانَةِ إِلَى السَّمَاءِ،

وَطُيُورًا بَيْضَاءَ تُرَفْرِفُ حَوْلَهَا. فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا بِهِ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَأَحْضَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ مَعَهُ رُءُوسُ بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ. وَمَجْمُوعُهَا اثَنَانِ وَسَبْعُونَ رَأْسًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا قُتِلَ قَتِيلٌ إِلَّا احْتَزُّوا رَأَسَهُ، وَحَمَلُوهُ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا ابْنُ زِيَادٍ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى الشَّامِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، ثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُحَمَّدِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أُتِيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ، فَجُعِلَ فِي طَسْتٍ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي حُسْنِهِ شَيْئًا، فَقَالَ أَنَسٌ: إِنَّهُ كَانَ أَشْبَهَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مَخْضُوبًا بِالْوَسْمَةِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ إِشْكَابٍ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُفَرِّجُ بْنُ شُجَاعِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَوْصِلِيُّ، ثَنَا غَسَّانُ بْنُ الرَّبِيعِ، ثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدَةَ، عَنْ ثَابِتٍ وَحُمَيْدٍ،عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا أُتِيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ جَعَلَ يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ ثَنَايَاهُ،

يَقُولُ لَقَدْ كَانَ - أَحْسَبُهُ قَالَ - جَمِيلًا. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَسُوءَنَّكَ، إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْثَمُ حَيْثُ يَقَعُ قَضِيبُكَ. قَالَ: فَانْقَبَضَ. تَفَرَّدَ بِهِ الْبَزَّارُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ حُمَيْدٍ غَيْرُ يُوسُفَ بْنِ عَبْدَةَ، وَهُوَ رَجُلٌ مَنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مَشْهُورٌ، وَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: دَعَانِي عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ فَسَرَّحَنِي إِلَى أَهْلِهِ لِأُبَشِّرَهُمْ بِفَتْحِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَبِعَافِيَتِهِ، فَأَقْبَلْتُ حَتَّى أَتَيْتُ أَهْلَهُ، فَأَعْلَمْتَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى أَدْخَلَ، فَأَجِدُ ابْنَ زِيَادٍ قَدْ جَلَسَ لِلنَّاسِ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ الْوَفْدُ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَيْهِ، فَدَخَلْتُ فِيمَنْ دَخَلَ، فَإِذَا رَأَسُ الْحُسَيْنِ مَوْضُوعٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَإِذَا هُوَ يَنْكُتُ بِقَضِيبٍ بَيْنَ ثَنِيَّتَيْهِ سَاعَةً، فَقَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: اعْلُ بِهَذَا الْقَضِيبِ عَنْ هَاتَيْنِ الثَّنِيَّتَيْنِ، فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، لَقَدْ رَأَيْتُ شَفَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَاتَيْنِ الشَّفَتَيْنِ يُقَبِّلُهُمَا. ثُمَّ انْفَضَخَ الشَّيْخُ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: أَبْكَى اللَّهُ عَيْنَيْكَ، فَوَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّكَ شَيْخٌ

قَدْ خَرِفْتَ، وَذَهَبَ عَقْلُكَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ. قَالَ: فَنَهَضَ فَخَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ النَّاسُ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ كَلَامًا لَوْ سَمِعَهُ ابْنُ زِيَادٍ لَقَتَلَهُ. قَالَ: فَقُلْتُ: مَا قَالَ ؟ قَالُوا: مَرَّ بِنَا وَهُوَ يَقُولُ: مَلَكَ عَبْدٌ عَبْدًا، فَاتَّخَذَهُمْ تُلَدًا، أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ الْعَبِيدُ بَعْدَ الْيَوْمِ، قَتَلْتُمُ ابْنَ فَاطِمَةَ، وَأَمَّرْتُمُ ابْنَ مَرْجَانَةَ، فَهُوَ يُقَتِّلُ خِيَارُكُمْ، وَيَسْتَعْبِدُ شِرَارَكُمْ، فَرَضِيتُمْ بِالذُّلِّ، فَبُعْدًا لِمَنْ رَضِيَ بِالذُّلِّ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِنَحْوِهِ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، عَنْ زَيْدٍ.
وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ وَأَصْحَابِهِ، نُصِبَتْ فِي الْمَسْجِدِ فِي الرَّحْبَةِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: قَدْ جَاءَتْ، قَدْ جَاءَتْ. فَإِذَا حَيَّةٌ قَدْ جَاءَتْ تُخَلِّلُ الرُّءُوسَ حَتَّى دَخَلَتْ فِي مِنْخَرَيْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَمَكَثَتْ هُنَيْهَةً، ثُمَّ خَرَجَتْ، فَذَهَبَتْ حَتَّى تَغَيَّبَتْ، ثُمَّ قَالُوا: قَدْ جَاءَتْ، قَدْ جَاءَتْ. فَفَعَلَتْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَأَمَرَ ابْنُ زِيَادٍ أَنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ قَتْلِ الْحُسَيْنِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَسْلُبَهُمُ الْمُلْكَ، وَيُفَرِّقَ الْكَلِمَةَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَفِيفٍ الْأَزْدِيُّ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ زِيَادٍ ! تَقْتُلُونَ أَوْلَادَ النَّبِيِّينَ وَتَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامِ الصِّدِّيقِينَ. فَأَمَرَ بِهِ ابْنُ زِيَادٍ، فَقُتِلَ وَصُلِبَ. ثُمَّ أَمَرَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ، فَنُصِبَ بِالْكُوفَةِ وَطِيفَ بِهِ فِي أَزِقَّتِهَا، ثُمَّ سَيَّرَهُ مَعَ زَحْرِ بْنِ قَيْسٍ وَمَعَهُ رُءُوسُ أَصْحَابِهِ، إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، وَكَانَ مَعَ زَحْرٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُرْسَانِ ; مِنْهُمْ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَوْفٍ الْأَزْدِيُّ، وَطَارِقُ بْنُ أَبِي ظَبْيَانَ الْأَزْدِيُّ، فَخَرَجُوا حَتَّى قَدِمُوا بِالرُّءُوسِ كُلِّهَا عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.
قَالَ هِشَامٌ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ رَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْغَازِ بْنِ رَبِيعَةَ الْجُرَشِيِّ ; مِنْ حِمْيَرَ قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَعِنْدَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِدِمَشْقَ، إِذْ أَقْبَلَ زَحْرُ بْنُ قَيْسٍ، فَدَخَلَ عَلَى يَزِيدَ، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: وَيْلَكَ ! مَا وَرَاءَكَ ؟ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِفَتْحِ اللَّهِ عَلَيْكَ وَنَصْرِهِ، وَرَدَ عَلَيْنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَسِتُّونَ رَجُلًا مِنْ شِيعَتِهِ، فَسِرْنَا إِلَيْهِمْ، فَسَأَلْنَاهُمْ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا وَيَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ الْأَمِيرِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ أَوِ الْقِتَالَ، فَاخْتَارُوا الْقِتَالَ، فَغَدَوْنَا عَلَيْهِمْ مَعَ شُرُوقِ الشَّمْسِ، فَأَحَطْنَا بِهِمْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ حَتَّى أَخَذَتِ السُّيُوفُ مَأْخَذَهَا مِنْ هَامِ الْقَوْمِ، فَجَعَلُوا يَهْرَبُونَ إِلَى غَيْرِ مَهْرَبٍ وَلَا وَزَرٍ، وَيَلُوذُونَ مِنَّا بِالْآكَامِ وَالْحُفَرِ لِوَاذًا كَمَا لَاذَ الْحَمَامُ مِنْ صَقْرٍ،

فَوَاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا جَزْرُ جَزُورٍ أَوْ نَوْمَةُ قَائِلٍ، حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى آخِرِهِمْ، فَهَاتِيكَ أَجْسَادُهُمْ مُجَرَّدَةً، وَثِيَابُهُمْ مُرَمَّلَةً، وَخُدُودُهُمْ مُعَفَّرَةً، تَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ وَتَسْفِي عَلَيْهِمُ الرِّيحُ، زُوَّارُهُمُ الْعِقْبَانُ وَالرَّخَمُ. قَالَ: فَدَمَعْتَ عَيْنَا يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَرْضَى مِنْ طَاعَتِكُمْ بِدُونِ قَتْلِ الْحُسَيْنِ، لَعَنَ اللَّهُ ابْنَ مَرْجَانَةَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي صَاحِبُهُ لَعَفَوْتُ عَنْهُ، وَرَحِمَ اللَّهُ الْحُسَيْنَ. وَلَمْ يَصِلْ زَحْرَ بْنَ قَيْسٍ بِشَيْءٍ.
وَلَمَّا وُضِعَ الْحُسَيْنُ بَيْنَ يَدَيْ يَزِيدَ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي صَاحِبُكَ مَا قَتَلْتُكَ. ثُمَّ أَنْشَدَ قَوْلَ الْحُصَيْنِ بْنِ الْحُمَامِ الْمُرِّيِّ الشَّاعِرِ:
يُفَلِّقْنَ هَامًا مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ عَلَيْنَا وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ وَأَظْلَمَا
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ الْعَبْسِيُّ، عَنْ أَبِي عُمَارَةَ الْعَبْسِيِّ قَالَ: وَقَامَ يَحْيَى بْنُ الْحَكَمِ أَخُو مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فَقَالَ:
لَهَامٌ بِجَنْبِ الطَّفِّ أَدْنَى قَرَابَةً مِنِ ابْنِ زِيَادِ الْعَبْدِ ذِي الْحَسَبِ الْوَغْلِ
سُمَيَّةُ أَضْحَى نَسْلُهَا عَدَدَ الْحَصَى وَبِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ لَيْسَ لَهَا نَسْلُ

قَالَ: فَضَرَبَ يَزِيدُ فِي صَدْرِ يَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ، وَقَالَ: اسْكُتْ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، وَهُوَ شِيعِيٌّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْأَحْمَرِيُّ، ثَنَا لَيْثٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْ يَزِيدَ تَمَثَّلَ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدْرٍ شَهِدُوا جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِنْ وَقْعِ الْأَسَلْ
فَأَهَلُّوا وَاسْتَهَلُّوا فَرَحًا ثُمَّ قَالُوا لِي هَنِيًّا لَا تَسَلْ
حِينَ حَكَّتْ بِقُبَاءٍ بِرْكَهَا وَاسْتَحَرَّ الْقَتْلُ فِي عَبْدِ الْأَشَلْ
قَدْ قَتَلْنَا الضَّعْفَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَعَدَلْنَا مَيْلَ بَدْرٍ فَاعْتَدَلَ
قَالَ مُجَاهِدٌ: نَافَقَ فِيهَا، وَاللَّهِ ثُمَّ وَاللَّهِ مَا بَقِيَ فِي جَيْشِهِ أَحَدٌ إِلَّا تَرَكَهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ هَذَا فِي الرَّأْسِ هَلْ سَيَّرَهُ ابْنُ زِيَادٍ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى يَزِيدَ بِالشَّامِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الثُّمَالِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ بُخَيْتٍ قَالَ: لَمَّا وُضِعَ رَأْسُ الْحُسَيْنِ بَيْنَ يَدَيْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ جَعَلَ يَنْكُتُ بِقَضِيبٍ كَانَ فِي يَدِهِ فِي ثَغْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا وَإِيَّانَا كَمَا قَالَ الْحُصَيْنُ بْنُ الْحُمَامِ الْمُرِّيُّ:
يُفَلِّقْنَ هَامًا مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ عَلَيْنَا وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ وَأَظْلَمَا
فَقَالَ لَهُ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذَ قَضِيبُكَ هَذَا مَأْخَذًا، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْشُفُهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَمَا إِنَّ هَذَا سَيَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشَفِيعُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَجِيءُ وَشَفِيعُكَ ابْنُ زِيَادٍ. ثُمَّ قَامَ فَوَلَّى.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ أَسَدٍ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: لَمَّا وُضِعَ رَأْسُ الْحُسَيْنِ بَيْنَ يَدَيْ يَزِيدَ، وَعِنْدَهُ أَبُو بَرْزَةَ جَعَلَ يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ عَلَى لِثَتِهِ وَيَقُولُ: يُفَلِّقْنَ هَامًا. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَرْزَةَ: ارْفَعْ قَضِيبَكَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْثَمُهُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَحَدَّثَنِي مَسْلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ أَبِي حَفْصَةَ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ جَعَلَ يَزِيدُ يَطْعَنُ بِالْقَضِيبِ. قَالَ: سُفْيَانُ: وَأَخْبِرْتُ أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يُنْشِدُ عَلَى إِثْرِ هَذَا
سُمَيَّةُ أَمْسَى نَسْلُهَا عَدَدَ الْحَصَى وَبِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ لَيْسَ لَهَا نَسْلُ

وَأَمَّا بَقِيَّةُ أَهْلِهِ وَنِسَاؤُهُ وَحَرَمُهُ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ وَكَلَ بِهِمْ مَنْ يَحْرُسُهُمْ وَيَكْلَؤُهُمْ، فَأَرْكَبُوهُمْ عَلَى الرَّوَاحِلِ فِي الْهَوَادِجِ، فَلَمَّا مَرُّوا بِمَكَانِ الْمَعْرَكَةِ رَأَوُا الْحُسَيْنَ وَأَصْحَابَهُ مُجَدَّلِينَ، هُنَالِكَ بَكَتْهُ النِّسَاءُ، وَصَرَخْنَ وَنَدَبَتْ زَيْنَبُ أَخَاهَا الْحُسَيْنَ وَأَهْلَهَا، فَقَالَتْ وَهِيَ تَبْكِي: يَا مُحَمَّدَاهُ، يَا مُحَمَّدَاهُ، صَلَّى عَلَيْكَ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ، هَذَا حُسَيْنٌ بِالْعَرَاءِ، مُزَمَّلٌ بِالدِّمَاءِ، مُقَطَّعُ الْأَعْضَاءِ، يَا مُحَمَّدَاهُ، وَبَنَاتُكَ سَبَايَا، وَذُرِّيَّتُكَ مُقَتَّلَةٌ تَسْفِي عَلَيْهَا الصَّبَا. قَالَ: فَأَبْكَتْ وَاللَّهِ كُلَّ عَدُوٍّ وَصَدِيقٍ.
قَالَ: ثُمَّ سَارُوا بِهِمْ فِي الْهَوَادِجِ مِنْ كَرْبَلَاءَ حَتَّى دَخَلُوا الْكُوفَةَ، فَأَكْرَمَهُمُ ابْنُ زِيَادٍ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمُ النَّفَقَاتَ وَالْكَسَاوِيَ وَالصِّلَاتِ.
ثُمَّ سَيَّرَهُمْ فَرَدَّهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى الشَّامِ مَعَ شَمِرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ وَمُحَفِّزِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْعَائِذِيِّ مِنْ قُرَيْشٍ، وَمَعَهُمْ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ، وَكَانَ أَرَادَ ابْنُ زِيَادٍ قَتْلَهُ، فَصَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمَّا بَعَثَهُمْ سَيَّرَهُ مَعَ أَهْلِهِ، وَلَكِنَّهُ مَغْلُولٌ إِلَى عُنُقِهِ، وَبَقِيَّةُ الْأَهْلِ فِي حَالٍ سَيِّئَةٍ عَلَى مَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ.

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: يَا عَلِيُّ، أَبُوكَ الَّذِي قَطَعَ رَحِمِي، وَجَهِلَ حَقِّي، وَنَازَعَنِي سُلْطَانِي، فَصَنَعَ اللَّهُ بِهِ مَا قَدْ رَأَيْتَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [ الْحَدِيدِ: 22 ]. فَقَالَ يَزِيدُ لِابْنِهِ خَالِدٍ: ارْدُدْ عَلَيْهِ. قَالَ: فَمَا

دَرَى خَالِدٌ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: قُلْ: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [ الشُّورَى: 30 ]. فَسَكَتَ عَنْهُ سَاعَةً، ثُمَّ دَعَا بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَرَأَى هَيْئَةً قَبِيحَةً، فَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ ابْنَ مَرْجَانَةَ، لَوْ كَانَتْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ وَرَحِمٌ مَا فَعَلَ هَذَا بِكُمْ، وَلَا بَعَثَ بِكُمْ هَكَذَا.
وَرَوَى أَبُو مِخْنَفٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ عَلِيٍّ قَالَتْ: لَمَّا أُجْلِسْنَا بَيْنَ يَدَيْ يَزِيدَ، رَقَّ لَنَا وَأَمَرَ لَنَا بِشَيْءٍ وَأَلْطَفنَا، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَحْمَرَ قَامَ إِلَى يَزِيدَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَبْ لِي هَذِهِ. يَعْنِينِي، وَكُنْتُ جَارِيَةً وَضِيئَةً، فَارْتَعَدْتُ فَزِعَةً مِنْ قَوْلِهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ، فَأَخَذْتُ بِثِيَابِ أُخْتِي زَيْنَبَ، وَكَانَتْ أَكْبَرَ مِنِّي وَأَعْقَلَ، وَكَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَقَالَتْ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ وَلَؤُمْتَ، مَا ذَلِكَ لَكَ وَلَا لَهُ. فَغَضِبَ يَزِيدُ، فَقَالَ لَهَا: كَذَبْتِ، وَاللَّهِ إِنَّ ذَلِكَ لِي، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ لَفَعَلْتُ. قَالَتْ: كَلَّا وَاللَّهِ، مَا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لَكَ، إِلَّا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مِلَّتِنَا وَتَدِينَ بِغَيْرِ دِينِنَا. قَالَتْ: فَغَضِبَ يَزِيدُ وَاسْتَطَارَ، ثُمَّ قَالَ: إِيَّايَ تَسْتَقْبِلِينَ بِهَذَا ؟ إِنَّمَا خَرَجَ مِنَ الدِّينِ أَبُوكِ وَأَخُوكِ. فَقَالَتْ زَيْنَبُ: بِدِينِ اللَّهِ وَدِينِ أَبِي وَدِينِ أَخِي وَجَدِّي، اهْتَدَيْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ وَجَدُّكَ. قَالَ: كَذَبْتِ يَا عَدُوَّةَ اللَّهِ. قَالَتْ: أَنْتَ أَمِيرٌ مُسَلَّطٌ، تَشْتُمُ ظَالِمًا وَتَقْهَرُ بِسُلْطَانِكَ. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّهُ اسْتَحْيَا فَسَكَتَ، ثُمَّ قَامَ الشَّامِيُّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَبْ لِي هَذِهِ. فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: اعْزُبْ وَهَبَ اللَّهُ لَكَ حَتْفًا قَاضِيًا.

ثُمَّ أَمَرَ يَزِيدُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ رَجُلًا أَمِينًا، مَعَهُ رِجَالٌ وَخَيْلٌ، وَيَكُونُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ مَعَهُمْ، ثُمَّ أَنْزَلَ النِّسَاءَ عِنْدَ حَرَمِهِ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، فَاسْتَقْبَلَهُنَّ نِسَاءُ آلِ مُعَاوِيَةَ يَبْكِينَ وَيَنُحْنَ عَلَى الْحُسَيْنِ، ثُمَّ أَقَمْنَ الْمَنَاحَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ يَزِيدُ لَا يَتَغَدَّى وَلَا يَتَعَشَّى إِلَّا وَمَعَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وعَمْرُو بْنُ الْحَسَنِ، فَقَالَ يَزِيدُ يَوْمًا لِعَمْرٍو، وَهُوَ صَغِيرٌ جِدًّا: أَتُقَاتِلُ هَذَا ؟ يَعْنِي ابْنَهُ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ، فَقَالَ: أَعْطِنِي سِكِّينًا وَأَعْطِهِ سِكِّينًا حَتَّى نَتَقَاتَلَ. فَأَخْذُهُ يَزِيدُ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُهَا مَنْ أَخْزَمَ، هَلْ تَلِدُ الْحَيَّةُ إِلَّا حَيَّةً ؟ !
وَلَمَّا وَدَّعَهُمْ يَزِيدُ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: قَبَّحَ اللَّهُ ابْنَ مَرْجَانَةَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي صَاحِبُهُ، مَا سَأَلَنِي خَصْلَةً إِلَّا أَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا، وَلَدَفَعْتُ الْحَتْفَ عَنْهُ بِكُلِّ مَا اسْتَطَعْتُ، وَلَوْ بِهَلَاكِ بَعْضِ وَلَدِي، وَلَكِنَّ اللَّهَ قَضَى مَا رَأَيْتَ. ثُمَّ جَهَّزَهُ وَأَعْطَاهُ مَالًا جَزِيلًا، وَقَالَ لَهُ: كَاتِبْنِي بِكُلِّ حَاجَةٍ تَكُونُ لَكَ، وَكَسَاهُمْ وَأَوْصَى بِهِمْ ذَلِكَ الرَّسُولَ. فَكَانَ ذَلِكَ الرَّسُولُ الَّذِي أَرْسَلَهُ مَعَهُنَّ يَسِيرُ بِمَعْزِلٍ عَنْهُنَّ مِنَ الطَّرِيقِ، ويبَعُدُ عَنْهُنَّ بِحَيْثُ يُدْرِكُهُنَّ طَرَفُهُ، وَهُوَ فِي خِدْمَتِهِنَّ حَتَّى وَصَلْنَ

الْمَدِينَةَ فَجَمَعْنَ شَيْئًا مِنْ حُلِيِّهِنَّ، فَدَفَعْنَهُ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِلَّهِ وَلِقَرَابَتِكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ الرَّافِضَةِ: إِنَّهُمْ حُمِلُوا عَلَى جَنَائِبِ الْإِبِلَ سَبَايَا عَرَايَا. حَتَّى كَذَبَ مَنْ زَعَمَ مِنْهُمْ أَنَّ الْإِبِلَ الْبَخَاتِيَّ إِنَّمَا نَبَتَتْ لَهَا الْأَسْنِمَةُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ

لِتَسْتُرَ عَوْرَاتِهِنَّ.
وَكَتَبَ ابْنُ زِيَادٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ أَمِيرِ الْحَرَمَيْنِ يُبَشِّرُهُ بِمَقْتَلِ الْحُسَيْنِ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى بِذَلِكَ فِي الْمَدِينَةِ. فَلَمَّا سَمِعَ نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُنَّ بِالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ، فَجَعَلَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ يَقُولُ: هَذَا بِبُكَاءِ نِسَاءِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي " تَارِيخِهِ ": فَحَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الضَّرِيرُ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَنَابٍ الْمِصِّيصِيُّ، ثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ، ثَنَا عَمَّارٌ الدُّهْنِيُّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ: حَدِّثْنِي عَنْ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ كَأَنِّي حَضَرْتُهُ. فَقَالَ: أَقْبَلَ الْحُسَيْنُ بِكِتَابِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ الَّذِي كَانَ قَدْ كَتَبَهُ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ فِيهِ بالْقُدُومِ عَلَيْهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَادِسِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، لَقِيَهُ الْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ التَّمِيمِيُّ فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ ؟ فَقَالَ: أُرِيدُ هَذَا الْمِصْرَ. فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ، فَإِنِّي لَمْ أَدَعْ لَكَ خَلْفِي خَيْرًا أَرْجُوهُ. فَهَمَّ الْحُسَيْنُ أَنْ يَرْجِعَ، وَكَانَ مَعَهُ إِخْوَةُ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَأْخُذَ بِثَأْرِنَا مِمَّنْ قَتَلَ أَخَانَا أَوْ

نُقْتَلَ. فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِي الْحَيَاةِ بَعْدَكُمْ. فَسَارَ فَلَقِيَهُ أَوَائِلُ خَيْلِ ابْنِ زِيَادٍ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَادَ إِلَى كَرْبَلَاءَ، فَأَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلَى قَصْبَاءٍ وَخَلًا ; لِئَلَّا يُقَاتِلَ إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَنَزَلَ وَضَرَبَ أَبْنِيَتَهُ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ فَارِسًا وَمِائَةَ رَاجِلٍ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَدْ وَلَّاهُ ابْنُ زِيَادٍ الرَّيَّ، وَعَهِدَ إِلَيْهِ عَهْدَهُ، فَقَالَ: اكْفِنِي هَذَا الرَّجُلَ. فَقَالَ: أَعْفِنِي. فَأَبَى أَنْ يُعْفِيَهُ. فَقَالَ: أَنْظِرْنِي اللَّيْلَةَ. فَأَخَّرَهُ فَنَظَرَ فِي أَمْرِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَيْهِ رَاضِيًا بِمَا أَمَرَهُ بِهِ، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: اخْتَرْ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ ; إِمَّا أَنْ تَدَعُوَنِي فَأَنْصَرِفَ مِنْ حَيْثُ جِئْتُ، وَإِمَّا أَنْ تَدَعُوَنِي فَأَذْهَبَ إِلَى يَزِيدَ، وَإِمَّا أَنْ تَدَعُوَنِي فَأَلْحَقَ بِالثُّغُورِ. فَقَبِلَ ذَلِكَ عُمَرُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ لَا وَلَا كَرَامَةَ حَتَّى يَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِي. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: لَا وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا. فَقَاتَلَهُ، فَقُتِلَ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ كُلُّهُمْ، وَفِيهِمْ بِضْعَةَ عَشَرَ شَابًّا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَجَاءَهُ سَهْمٌ، فَأَصَابَ ابْنًا لَهُ مَعَهُ فِي حِجْرِهِ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ دَعَوْنَا لِيَنْصُرُونَا، فَقَتَلُونَا. ثُمَّ أَمَرَ بِحِبَرَةٍ فَشَقَّهَا، ثُمَّ لَبِسَهَا وَخَرَجَ بِسَيْفِهِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ مَذْحِجٍ، وَحَزَّ رَأْسَهُ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ
أَوْقِرْ رِكَابِي فِضَّةً وَذَهَبًا فَقَدْ قَتَلْتُ الْمَلِكَ الْمُحَجَّبَا
قَتَلْتُ خَيْرَ النَّاسِ أُمًّا وَأَبَا وَخَيْرَهُمْ إِذْ يُنْسَبُونَ نَسَبًا
قَالَ: فَأَوْفَدَهُ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعِنْدَهُ أَبُو بَرْزَةَ

الْأَسْلَمِيُّ فَجَعَلَ يَزِيدُ يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ عَلَى فِيهِ، وَيَقُولُ:
يُفَلِّقْنَ هَامًا مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ عَلَيْنَا وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ وَأَظْلَمَا
فَقَالَ لَهُ أَبُو بَرْزَةَ ارْفَعْ قَضِيبَكَ، فَوَاللَّهِ لَرُبَّمَا رَأَيْتُ فَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فِيهِ يَلْثَمُهُ. قَالَ: وَسَرَّحَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ بِحَرَمِهِ وَعِيَالِهِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ آلِ بَيْتِ الْحُسَيْنِ إِلَّا غُلَامٌ كَانَ مَرِيضًا مَعَ النِّسَاءِ، فَأَمَرَ بِهِ ابْنُ زِيَادٍ لِيُقْتَلَ، فَطَرَحَتْ زَيْنَبُ نَفْسَهَا عَلَيْهِ وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا يُقْتَلُ حَتَّى تَقْتُلُونِي. فَرَقَّ لَهَا فَتَرَكَهُ وَكَفَّ عَنْهُ. قَالَ: وَجَهَّزَهُمْ وَحَمَلَهُمْ إِلَى يَزِيدَ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ جَمَعَ مَنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، ثُمَّ أَدْخَلُوهُمْ فَهَنَّئُوهُ بِالْفَتْحِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَحْمَرُ أَزْرَقُ، وَنَظَرَ إِلَى وَصِيفَةٍ مِنْ بَنَاتِهِمْ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَبْ لِي هَذِهِ. فَقَالَتْ زَيْنَبُ: لَا وَاللَّهِ وَلَا كَرَامَةَ لَكَ وَلَا لَهُ، إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنْ دِينِ اللَّهِ. قَالَ: فَأَعَادَهَا الْأَزْرَقُ، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: كُفَّ عَنْ هَذَا. ثُمَّ أَدْخَلَهُمْ عَلَى عِيَالِهِ، فَجَهَّزَهُمْ وَحُمِلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا دَخَلُوهَا خَرَجَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، نَاشِرَةً شَعْرَهَا وَاضِعَةً كُمَّهَا عَلَى رَأْسِهَا، تَتَلَقَّاهُمْ وَهِيَ تَبْكِي وَتَقُولُ:
مَاذَا تَقُولُونَ إِنْ قَالَ النَّبِيُّ لَكُمْ مَاذَا فَعَلْتُمْ وَأَنْتُمْ آخِرُ الْأُمَمِ
بِعِتْرَتِي وَبِأَهْلِي بَعْدَ مُفْتَقَدِي مِنْهُمْ أُسَارَى وَقَتْلَى ضُرِّجُوا بِدَمِ
مَا كَانَ هَذَا جَزَائِي إِذْ نَصَحْتُ لَكُمْ أَنْ تَخْلُفُونِي بِسُوءٍ فِي ذَوِي رَحِمِي
وَقَدْ رَوَى أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ

عُبَيْدٍ أَبِي الْكَنُودِ، أَنَّ بِنْتَ عَقِيلٍ هِيَ الَّتِي قَالَتْ هَذَا الشِّعْرَ. وَهَكَذَا حَكَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّ زَيْنَبَ الصُّغْرَى بِنْتَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ هِيَ الَّتِي قَالَتْ ذَلِكَ حِينَ دَخَلَ آلُ الْحُسَيْنِ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ.
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ فَاطِمَةَ، وَهِيَ زَوْجُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أُمُّ بَنِيهِ، رَفَعَتْ سِجْفَ خِبَائِهَا يَوْمَ كَرْبَلَاءَ يَوْمَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ، وَقَالَتْ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي الْمِقْدَامِ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَصْبَحْنَا صَبِيحَةَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ بِالْمَدِينَةِ، فَإِذَا مَوْلَاةٌ لَنَا تُحَدِّثُنَا قَالَتْ: سَمِعْتُ الْبَارِحَةَ مُنَادِيًا يُنَادِي وَهُوَ يَقُولُ:
أَيُّهَا الْقَاتِلُونَ جَهْلًا حُسَيْنًا أَبْشِرُوا بِالْعَذَابِ وَالتَّنْكِيلِ
كُلُّ أَهْلِ السَّمَاءِ يَدْعُو عَلَيْكُمْ مِنْ نَبِيٍّ وَمَلْأَكٍ وَقَبِيلِ
قَدْ لُعِنْتُمْ عَلَى لِسَانِ ابْنِ دَاوُ دَ وَمُوسَى وَحَامِلِ الْإِنْجِيلِ
قَالَ هِشَامٌ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ حَيْزُومٍ الْكَلْبِيُّ، عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ: سَمِعْتُ هَذَا الصَّوْتَ.

وَمِمَّا أَنْشَدَهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ وَغَيْرُهُ لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينِ فِي مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ:
جَاءُوا بِرَأْسِكَ يَابْنَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ مُتَزَمِّلًا بِدِمَائِهِ تَزْمِيلَا
وَكَأَنَّمَا بِكَ يَابْنَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ قَتَلُوا جَهَارًا عَامِدِينَ رَسُولَا
قَتَلُوكَ عَطْشَانًا وَلَمْ يَتَرَقَّبُوا فِي قَتْلِكَ التَّنْزِيلَ وَالتَّأْوِيلَا
وَيُكَبِّرُونَ بِأَنْ قُتِلْتَ وَإِنَّمَا قَتَلُوا بِكَ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَا


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهل التأويل يتعرون أمام قانوني الحق والميزان

    بسم الله الرحمن الرحيم خلاصة قانون الحق = أن الله خلق السماوات والارض وما فيهم وما بينهم وما لأجلهم بقدر قام في وقت محدد وزمن مع...