== قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ طَلَعَ نَجْمٌ ذُو جُمَّةٍ، ثُمَّ صَارَتِ الْجُمَّةُ ذُؤَابَةً. قَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَارَ مَاءُ النِّيلِ وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ وَلَا بَلَغَنَا فِي الْأَخْبَارِ السَّالِفَةِ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِمِصْرَ بِسَبَبِ ذَلِكَ جِدًّا. قَالَ: وَفِيهَا خُلِعَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ بِالْوِزَارَةِ. وَقَالَ: فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا قَدِمَ الْمُوَفَّقُ أَبُو أَحْمَدَ مِنَ الْغَزْوِ فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ إِلَى النَّهْرَوَانِ فَدَخَلَ بَغْدَادَ وَهُوَ مَرِيضٌ بِالنِّقْرِسِ، فَاسْتَمَرَّ فِي دَارِهِ فِي أَوَائِلِ صَفَرٍ، وَمَاتَ بَعْدَ أَيَّامٍ كَمَا سَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَحَرَّكَتِ الْقَرَامِطَةُ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ، وَهُمْ فِرْقَةٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ الْمَلَاحِدَةِ أَتْبَاعِ الْفَلَاسِفَةِ مِنَ الْفُرْسِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ نُبُوَّةَ زَرَادِشْتَ وَمَزْدَكَ، وَكَانَا يُبِيحَانِ الْمُحَرَّمَاتِ، ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ إِلَى بَاطِلٍ، وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُونَ مِنْ جِهَةِ الرَّافِضَةِ، لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ النَّاسِ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ عُقُولًا، وَيُقَالُ لَهُمُ: الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ ; لِانْتِسَابِهِمْ إِلَى إِسْمَاعِيلَ الْأَعْرَجِ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ. وَيُقَالُ لَهُمُ: الْقَرَامِطَةُ، قِيلَ: نِسْبَةً إِلَى قِرْمِطِ بْنِ الْأَشْعَثِ الْبَقَّارِ. وَقِيلَ: إِنَّ رَئِيسَهُمْ كَانَ فِي أَوَّلِ دَعْوَتِهِ يَأْمُرُ مَنِ اتَّبَعَهُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِيَشْغَلَهُمْ بِذَلِكَ عَمَّا يُرِيدُ تَدْبِيرَهُ مِنَ الْمَكِيدَةِ. ثُمَّ اتَّخَذَ نُقَبَاءَ اثْنَيْ عَشَرَ، وَأَسَّسَ لِأَتْبَاعِهِ دَعْوَةً وَمَسْلَكًا، وَدَعَا إِلَى إِمَامٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ.
وَيُقَالُ لَهُمُ: الْبَاطِنِيَّةُ ; لِأَنَّهُمْ
يُظْهِرُونَ الرَّفْضَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ الْمَحْضَ. وَالْخُرَّمِيَّةُ
وَالْبَابَكِيَّةُ، نِسْبَةً إِلَى بَابَكَ الْخُرَّمِيِّ الَّذِي ظَهَرَ فِي
أَيَّامِ الْمُعْتَصِمِ فَلَمْ يَزَلْ يَبْعَثُ خَلْفَهُ الْجُيُوشَ حَتَّى جِيءَ
بِهِ أَسِيرًا فَقَتَلَهُ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ. وَيُقَالُ لَهُمُ:
الْمُحَمِّرَةُ ; نِسْبَةً إِلَى صَبْغِ الْحُمْرَةِ شِعَارًا، مُضَاهَاةً
لِسَوَادِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَيُقَالُ لَهُمُ: التَّعْلِيمِيَّةُ ; نِسْبَةً إِلَى
التَّعَلُّمِ مِنَ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ، وَتَرْكِ الرَّأْيِ وَمُقْتَضَى
الْعَقْلِ. وَيُقَالُ لَهُمُ: السَّبْعِيَّةُ ; نِسْبَةً إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ
الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ الْمُتَحَيِّزَةَ السَّيَّارَةَ مُدَبِّرَةٌ لِهَذَا
الْعَالَمِ فِيمَا يَزْعُمُونَ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَهِيَ الْقَمَرُ فِي
الْأُولَى، وَعُطَارِدُ فِي الثَّانِيَةِ، وَالزُّهْرَةُ فِي الثَّالِثَةِ،
وَالشَّمْسُ فِي الرَّابِعَةِ، وَالْمِرِّيخُ فِي الْخَامِسَةِ، وَالْمُشْتَرِي
فِي السَّادِسَةِ، وَزُحَلُ فِي السَّابِعَةِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْبَابَكِيَّةِ جَمَاعَةٌ يُقَالُ:
إِنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ لَيْلَةً هُمْ وَنِسَاؤُهُمْ، ثُمَّ
يُطْفِئُونَ الْمِصْبَاحَ وَيَنْتَهِبُونَ النِّسَاءَ، فَمَنْ وَقَعَ فِي يَدِهِ
امْرَأَةٌ حَلَّتْ لَهُ. وَيَقُولُونَ: هَذَا اصْطِيَادٌ مُبَاحٌ. لَعَنَهُمُ
اللَّهُ. وَقَدْ بَسَطَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
مِنْ تَارِيخِهِ الْمُسَمَّى بِالْمُنْتَظَمِ تَفْصِيلَ قَوْلِهِمْ، لَعَنَهُمُ
اللَّهُ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ
الْمُتَكَلِّمُ الْمَشْهُورُ فِي كِتَابِهِ " هَتْكُ الْأَسْتَارِ وَكَشْفُ
الْأَسْرَارِ " فِي الرَّدِّ عَلَى الْبَاطِنِيَّةِ، وَرَدَّ عَلَى
كِتَابِهِمُ الَّذِي جَمَعَهُ بَعْضُ قُضَاتِهِمْ بِدِيَارِ مِصْرَ فِي أَيَّامِ
الْفَاطِمِيِّينَ الَّذِي سَمَّاهُ " الْبَلَاغَ الْأَعْظَمَ وَالنَّامُوسَ
الْأَكْبَرَ " جَعَلَهُ سِتَّ عَشْرَةَ دَرَجَةً، أَوَّلُ دَرَجَةٍ أَنْ
يَدْعُوَ مَنْ يَجْتَمِعُ بِهِ أَوَّلًا - إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ -
إِلَى الْقَوْلِ بِتَفْضِيلِ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ،
ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِذَا وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى
تَفْضِيلِ عَلِيٍّ عَلَى الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، ثُمَّ يَتَرَقَّى
بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى سَبِّهِمَا لِأَنَّهُمَا ظَلَمَا عَلِيًّا وَأَهْلَ
الْبَيْتِ، ثُمَّ يَتَرَقَّى بِهِ إِلَى تَجْهِيلِ الْأُمَّةِ وَتَخْطِئَتِهَا فِي
مُوَافَقَةِ أَكْثَرِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي الْقَدْحِ فِي دِينِ
الْإِسْلَامِ مِنْ حَيْثُ هُوَ. وَقَدْ ذَكَرَ لِمُخَاطَبَتِهِ لِمَنْ يُرِيدُ
أَنْ يُخَاطِبَهُ بِذَلِكَ شُبَهًا وَضَلَالَاتٍ، لَا تَرُوجُ إِلَّا عَلَى كُلِّ
غَبِيٍّ جَاهِلٍ شَقِيٍّ. كَمَا قَالَ تَعَالَى وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [ الذَّارِيَاتِ:
7 - 9 ] أَيْ يَضِلُّ بِهِ مَنْ هُوَ ضَالٌّ. وَقَالَ تَعَالَى فَإِنَّكُمْ وَمَا
تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ
الْجَحِيمَ [ الصَّافَّاتِ: 161 - 163 ] وَقَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ
إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ
فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ
[ الْأَنْعَامِ: 112 - 113 ] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ،
وَمَضْمُونُهَا أَنَّ الْجَهْلَ وَالضَّلَالَ لَا يَنْقَادُ لَهَا إِلَّا شِرَارُ
النَّاسِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
إِنْ هُوَ مُسْتِحْوِذًا عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَى أَضْعَفِ الْمَجَانِينِ
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ لَهُمْ مَقَامَاتٌ فِي الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالسَّخَافَةِ
وَالرُّعُونَةِ مَا لَا يَنْبَغِي لِضَعِيفِ عَقْلٍ أَوْ دِينٍ أَوْ تَصَوُّرٍ
سَمَاعُهُ، مِمَّا فَتَحَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ مِنَ الْأَبْوَابِ وَأَنْوَاعِ
الْجَهَالَاتِ، وَرُبَّمَا أَفَادَ بَعْضُهُمْ إِبْلِيسَ أَشْيَاءَ لَمْ تَكُنْ
عِنْدَهُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
وَكُنْتُ امْرَأً مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ بُرْهَةً مِنَ
الدَّهْرِ حَتَّى صَارَ إِبْلِيسُ مِنْ جُنْدِي
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ تَحَرَّكَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
ثُمَّ اسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمْ وَتَفَاقَمَ الْحَالُ بِهِمْ، عَلَى مَا
سَنَذْكُرُهُ، حَتَّى آلَ الْحَالُ إِلَى أَنْ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ
فَسَفَكُوا فِيهِ دِمَاءَ الْحَجِيجِ فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ
الْمُكَرَّمَةِ وَكَسَرُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَاقْتَلَعُوهُ مِنْ مَوْضِعِهِ،
وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى بِلَادِهِمْ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عِنْدَهُمْ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
فَمَكَثَ غَائِبًا عَنْ مَوْضِعِهِ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَاتَّفَقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ شَيْئَانِ ; أَحَدُهُمَا ظُهُورُ هَؤُلَاءِ،
وَالثَّانِي مَوْتُ حُسَامِ الْإِسْلَامِ وَنَاصِرِ الدِّينِ أَبِي أَحْمَدَ
الْمُوَفَّقِ، تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَأَسْكَنَهُ بُحْبُوحَةَ
جَنَّتِهِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ، لَكِنْ أَبْقَى اللَّهَ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ
وَلَدَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ ابْنَ الْمُوَفَّقَ الْمُلَقَّبَ
بِالْمُعْتَضِدِ. وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا فَاتِكًا كَرِيمًا جَوَادًا
مُمَدَّحًا.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ رَحِمَهُ اللَّهُ
هُوَ الْأَمِيرُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ الْمُوَفَّقُ بِاللَّهِ أَبُو
أَحْمَدَ مُحَمَّدٌ - طَلْحَةُ - بْنُ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ
مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ، كَانَ مُوَلِدُهُ فِي يَوْمِ
الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ
وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ أَخُوهُ الْمُعْتَمِدُ حِينَ صَارَتْ إِلَيْهِ
الْخِلَافَةُ قَدْ عَهِدَ إِلَيْهِ بِالْوِلَايَةِ بَعْدَ أَخِيهِ جَعْفَرٍ،
وَلَقَّبَهُ الْمُوَفَّقَ بِاللَّهِ، ثُمَّ لَمَّا قَتَلَ صَاحِبَ الزَّنْجِ
وَكَسَرَ جَيْشَهُ تَلَقَّبَ بِنَاصِرِ دِينِ اللَّهِ، وَصَارَ إِلَيْهِ الْعَقْدُ
وَالْحَلُّ وَالْوِلَايَةُ وَالْعَزْلُ، وَإِلَيْهِ يُجْبَى
الْخَرَاجُ. وَكَانَ يُخْطَبُ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ، فَيُقَالُ: اللَّهُمَّ
أَصْلِحِ الْأَمِيرَ النَّاصِرَ لِدِينِ اللَّهِ أَبَا أَحْمَدَ الْمُوَفَّقَ
بِاللَّهِ وَلِيَّ عَهْدِ الْمُسْلِمِينَ أَخَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ
اتَّفَقَ مَوْتُهُ قَبْلَ أَخِيهِ الْمُعْتَمِدِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، رَحِمَهُ
اللَّهُ. وَكَانَ غَزِيرَ الْعَقْلِ حَسَنَ التَّدْبِيرِ كَرِيمًا جَوَادًا
مُمَدَّحًا شُجَاعًا مِقْدَامًا رَئِيسًا، حَسَنَ الْمُحَادَثَةِ وَالْمُجَالَسَةِ
عَادِلًا حَسَنَ السِّيرَةِ، يَجْلِسُ لِلْمَظَالِمِ وَعِنْدَهُ الْقُضَاةُ
فَيُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنَ الظَّالِمِ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْأَدَبِ وَالنَّسَبِ
وَالْفِقْهِ وَسِيَاسَةِ الْمُلْكِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَهُ مَحَاسِنُ وَمَآثِرُ
كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ أَنَّهُ أَصَابَهُ مَرَضُ النِّقْرِسِ فِي السَّفَرِ،
ثُمَّ قَدِمَ إِلَى بَغْدَادَ وَهُوَ عَلِيلٌ فَاسْتَقَرَّ فِي دَارِهِ فِي أَوَائِلِ
صَفَرٍ، وَقَدْ تَزَايَدَ بِهِ الْمَرَضُ وَتَوَرَّمَتْ رِجْلُهُ حَتَّى عَظُمَتْ
جَدًّا، وَكَانَ يُوضَعُ عَلَيْهَا الْأَشْيَاءُ الْمُبَرِّدَةُ كَالثَّلْجِ
وَنَحْوِهِ، وَكَانَ يَحْمِلُ سَرِيرَهُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا بِالنَّوْبَةِ،
عِشْرُونَ عِشْرُونَ. فَقَالَ لَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ: مَا أَظُنُّكُمْ إِلَّا قَدْ
مَلِلْتُمْ مِنِّي فَيَا لَيْتَنِي كَوَاحِدٍ مِنْكُمْ آكُلُ كَمَا تَأْكُلُونَ،
وَأَشْرَبُ كَمَا تَشْرَبُونَ وَأَرْقُدُ كَمَا تَرْقُدُونَ، فِي عَافِيَةٍ.
وَقَالَ أَيْضًا: فِي دِيوَانِي مِائَةُ أَلْفِ مُرْتَزِقٍ لَيْسَ فِيهِمْ
أَسْوَأُ حَالًا مِنِّي. ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْقَصْرِ الْحُسَيْنِيِّ
لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:
وَلَهُ سَبْعٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً تَنْقُصُ شَهْرًا وَأَيَّامًا.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ، اجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ عَلَى
أَخْذِ الْبَيْعَةِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ أَبِي
الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ، فَبَايَعَ لَهُ الْمُعْتَمِدُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ بَعْدَ
ابْنِهِ
الْمُفَوَّضِ وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ بَعْدَ
الْمُفَوَّضِ. وَجَعَلَ إِلَيْهِ مَا كَانَ إِلَى أَبِيهِ مِنَ الْوِلَايَةِ
وَالْعَزْلِ وَالْقَطْعِ وَالْوَصْلِ وَالْعَقْدِ وَالْحَلِّ، وَلُقِّبَ
الْمُعْتَضِدَ بِاللَّهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا أَيْضًا:
إِدْرِيسُ بْنُ سُلَيْمٍ الْفَقْعَسِيُّ الْمَوْصِلِيُّ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ:
وَكَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ وَالصَّلَاحِ. وَإِسْحَاقُ بْنُ كِنْدَاجَ نَائِبُ
الْجَزِيرَةِ وَكَانَ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ الشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ، وَقَامَ
بِمَا كَانَ إِلَيْهِ وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ. وَيَازَامَانُ نَائِبُ طَرَسُوسَ
جَاءَهُ حَجَرُ مَنْجَنِيقٍ مِنْ بَلْدَةٍ كَانَ يُحَاصِرُهَا بِبِلَادِ الرُّومِ،
فَمَاتَ مِنْهُ، وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ
بِطَرَسُوسَ، فَوَلِيَ نِيَابَةَ الثَّغْرِ بَعْدَهُ أَحْمَدُ الْعُجَيْفِيُّ
بِأَمْرِ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْ قَرِيبٍ
بِابْنِ عَمِّهِ مُوسَى بْنِ طُولُونَ. وَعَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ
قَبَّحَهُ اللَّهُ. ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ "
أَنَّ هَذَا الشَّقِيَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ يُجَاهِدُونَ كَثِيرًا فِي بِلَادِ
الْعَدُوِّ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ وَالْمُسْلِمُونَ
مُحَاصِرُونَ لِبَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، إِذْ نَظَرَ إِلَى امْرَأَةٍ فِي
ذَلِكَ الْحِصْنِ فَهَوِيَهَا، فَرَاسَلَهَا: وَمَا السَّبِيلُ إِلَيْكِ. فَقَالَتْ: أَنْ تَتَنَصَّرَ وَتَصْعَدَ إِلَيَّ، فَأَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، فَمَا رَاعَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا وَهُوَ عِنْدَهَا، فَاغْتَمَّ الْمُسْلِمُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ غَمًّا شَدِيدًا، وَشَقَّ عَلَيْهِمْ مَشَقَّةً عَظِيمَةً، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ مَرُّوا عَلَيْهِ وَهُوَ مَعَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ الْحِصْنِ، فَقَالُوا لَهُ: يَا فُلَانُ مَا فَعَلَ قِرَاءَتُكَ ؟ مَا فَعَلَ عِلْمُكَ ؟ مَا فَعَلَ صِيَامُكَ وَصَلَاتُكَ ؟ فَقَالَ: اعْلَمُوا أَنِّي أُنْسِيتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ إِلَّا قَوْلَهُ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [ الْحِجْرِ: 2، 3 ].
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ
وَمِائَتَيْنِ
فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا خُلِعَ جَعْفَرٌ الْمُفَوَّضُ مِنَ الْعَهْدِ،
وَاسْتَقَلَّ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ الْمُعْتَمِدُ أَبُو الْعَبَّاسِ
ابْنُ الْمُوَفَّقِ، وَلُقِّبَ بِالْمُعْتَضِدِ، وَجُعِلَ إِلَيْهِ السَّلْطَنَةُ
كَمَا كَانَ أَبُوهُ، وَخَطْبَ بِذَلِكَ الْمُعْتَمِدُ عَلَى رُءُوسِ
الْأَشْهَادِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ يَحْيَى بْنُ
عَلِيٍّ يُهَنِّئُ الْمُعْتَضِدَ:
لِيَهْنِكَ عَقْدٌ أَنْتَ فِيهِ الْمُقَدَّمُ حَبَاكَ بِهِ رَبٌّ بِفَضْلِكَ
أَعْلَمُ فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَصْبَحَتْ وَالِيَ عَهْدِنَا
فَأَنْتَ غَدًا فِينَا الْإِمَامُ الْمُعَظَّمُ وَلَا زَالَ مَنْ وَالَاكَ فِينِا
مُبَلَّغًا
مُنَاهُ وَمَنْ عَادَاكَ يَشْجَى وَيَنْدَمُ وَكَانَ عَمُودُ الدِّينِ فِيهِ
تَأَوُّدٌ
فَعَادَ بِهَذَا الْعَهْدِ وَهْوَ مُقَوَّمُ وَأَصْبَحَ وَجْهُ الْمُلْكِ
جَذْلَانَ ضَاحِكًا
يُضِيءُ لَنَا مِنْهُ الَّذِي كَانَ يُظْلِمُ فَدُونَكَ فَاشْدُدْ عَقْدَ مَا قَدْ
حَوَيْتَهُ
فَإِنَّكَ دُونَ النَّاسِ فِيهِ الْمُحَكَّمُ
وَفِيهَا نُودِيَ بِبَغْدَادَ أَنْ لَا يُمَكَّنَ أَحَدٌ مِنَ الْقُصَّاصِ
وَالطُّرُقِيَّةِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنَ الْجُلُوسِ فِي
الْمَسَاجِدِ وَلَا فِي الطُّرُقَاتِ وَأَنْ لَا تُبَاعَ كُتُبُ الْكَلَامِ
وَالْفَلْسَفَةِ وَالْجَدَلِ بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ
بِهِمَّةِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُعْتَضِدِ سُلْطَانِ الْإِسْلَامِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ حُرُوبٌ بَيْنَ هَارُونَ الشَّارِي وَبَيْنَ
بَنِي شَيْبَانَ فِي أَرْضِ الْمَوْصِلِ وَقَدْ بَسَطَ ذَلِكَ ابْنُ الْأَثِيرِ
فِي كَامِلِهِ.
وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمُعْتَمِدِ عَلَى اللَّهِ لَيْلَةَ
الْإِثْنَيْنِ لِتِسْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْهُ وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ.
هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ ابْنُ الْمُتَوَكِّلِ
عَلَى اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بْنِ الرَّشِيدِ وَاسْمُهُ أَحْمَدُ بْنُ
جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ اسْتَمَرَّتْ أَيَّامُهُ فِي الْخِلَافَةِ
ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَيَّامٍ وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ
خَمْسِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ أَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ
الْمُوَفَّقِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَتَأَخَّرَ بَعْدَهُ أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ وَلَمْ
يَكُنْ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا كَانَ الْأَمْرُ كُلُّهُ فِيمَا
يَتَعَلَّقُ بِتَدْبِيرِ الْخِلَافَةِ إِلَى الْمُوَفَّقِ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَنَّ
الْمُعْتَمِدَ طَلَبَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ فَلَمْ
يَحْصُلْ لَهُ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ:
أَلَيْسَ مِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ مِثْلِي يَرَى مَا قَلَّ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ
وَتُؤْخَذُ بِاسْمِهِ الدُّنْيَا جَمِيعًا وَمَا مِنْ ذَاكَ شَيْءٌ فِي يَدَيْهِ
إِلَيْهِ تُحْمَلُ الْأَمْوَالُ طُرًّا وَيُمْنَعُ بَعْضَ
مَا يُجْبَى إِلَيْهِ
وَكَانَ أَوَّلَ خَلِيفَةٍ انْتَقَلَ مِنْ سَامَرَّا إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ مَا
بُنِيَتْ سَامَرَّا، ثُمَّ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ، بَلْ
جَعَلُوا دَارَ إِقَامَتِهِمْ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ سَبَبَ هَلَاكِهِ فِي مَا
ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ، أَنَّهُ شَرِبَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ شَرَابًا كَثِيرًا
وَتَعَشَّى عَشَاءً كَثِيرًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْقَصْرِ الْحَسَنِيِّ مِنْ
بَغْدَادَ وَحِينَ مَاتَ أَحْضَرَ الْمُعْتَضِدُ الْقُضَاةَ وَالْأَعْيَانَ
وَأَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، ثُمَّ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ
عَلَيْهِ ثُمَّ حُمِلَ فَدُفِنَ بِسَامَرَّا، وَفِي صَبِيحَةِ الْعَزَاءِ بُويِعَ
لِلْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ.
خِلَافَةُ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي أَحْمَدَ
الْمُوَفَّقِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ خُلَفَاءِ بَنِي
الْعَبَّاسِ وَرِجَالِهِمْ، وَكَانَتِ الْبَيْعَةُ لَهُ صَبِيحَةَ مَوْتِ
الْمُعْتَمِدِ، وَذَلِكَ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ -
أَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ - وَقَدْ كَانَ أَمْرُ
الْخِلَافَةِ دَاثِرًا فَأَحْيَاهُ اللَّهُ بِهِمَّتِهِ وَعَدْلِهِ وَشَهَامَتِهِ
وَصَرَامَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَاسْتَوْزَرَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ سُلَيْمَانَ
بْنِ وَهْبٍ وَوَلَّى مَوْلَاهُ بَدْرًا الشُّرْطَةَ فِي بَغْدَادَ وَجَاءَتْهُ
هَدَايَا عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ، وَسَأَلَ مِنْهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ إِمْرَةَ
خُرَاسَانَ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ وَاللِّوَاءِ،
فَنَصَبَهُ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ فِي دَارِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَرَحًا
وَسُرُورًا بِذَلِكَ، وَعَزَلَ رَافِعَ بْنَ هَرْثَمَةَ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ.
وَدَخَلَهَا عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ فَلَمْ يَزَلْ يَتَّبِعُ رَافِعًا مِنْ بَلَدٍ
إِلَى بَلَدٍ حَتَّى قَتَلَهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ كَمَا سَيَأْتِي
وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْمُعْتَضِدِ وَصَفَتْ إِمْرَةُ خُرَاسَانَ لِعَمْرِو
بْنِ اللَّيْثِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْجَصَّاصِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
بِهَدَايَا عَظِيمَةٍ مِنْ خُمَارَوَيْهِ صَاحِبِ مِصْرَ إِلَى الْمُعْتَضِدِ
بِاللَّهِ، فَتَزَوَّجَ الْمُعْتَضِدُ بِابْنَةِ خُمَارَوَيْهِ فَجَهَّزَهَا
أَبُوهَا بِجِهَازٍ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ كَانَ مِنَ
الْهَوَاوِينِ الذَّهَبِ مِائَةُ هَاوُنَ، فَحُمِلَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى بَغْدَادَ صُحْبَةَ الْعَرُوسِ وَكَانَ وَقْتًا
مَشْهُودًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَمَلَّكَ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بْنِ الشَّيْخِ قَلْعَةَ
مَارْدِينَ وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ لِإِسْحَاقَ بْنِ كِنْدَاجَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبَّاسِيُّ وَهِيَ آخِرُ
حَجَّةٍ حَجَّهَا بِالنَّاسِ، وَكَانَ يَحُجُّ بِالنَّاسِ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعْتَمِدُ، كَمَا تَقَدَّمَ تَرْجَمَتُهُ
قَرِيبًا.
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ خَيْثَمَةَ
صَاحِبُ التَّارِيخِ وَغَيْرِهِ، سَمِعَ أَبَا نُعَيْمٍ وَعَفَّانَ وَأَخَذَ
عِلْمَ الْحَدِيثِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَعِلْمَ
النَّسَبِ عَنْ مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ وَأَيَّامَ النَّاسِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ
عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيِّ، وَأَخَذَ الْأَدَبِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
سَلَّامٍ الْجُمَحِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا ضَابِطًا مَشْهُورًا، وَفِي
تَارِيخِهِ هَذَا فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ وَفَرَائِدُ غَزِيرَةٌ.
رَوَى عَنْهُ الْبَغَوِيُّ وَابْنُ صَاعِدٍ وَابْنُ أَبِي
دَاوُدَ وَابْنُ الْمُنَادِي، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَخَاقَانُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّوفِيُّ كَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ
وَكَرَامَاتٌ.
وَنَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَامَانَ، السَّامَانِيُّ أَحَدُ مُلُوكِهِمُ
الْأَكَابِرِ، وَقَدْ كَانُوا مِنْ سُلَالَةِ الْأَكَاسِرَةِ كَانَ جَدُّهُمْ
سَامَانُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَأَصْلُهُ مِنْ
ذُرِّيَّةِ بَهْرَامَ بْنِ أَزْدَشِيرَ بْنِ سَابُورَ ثُمَّ كَانَ ابْنُهُ أَسَدٌ
مِنْ عُقَلَاءَ الرِّجَالِ وَخَلَّفَ نُوحًا وَأَحْمَدَ وَيَحْيَى وَإِلْيَاسَ
وَقَدْ وَلِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مَمْلَكَةَ نَاحِيَةٍ مِنَ
النَّوَاحِي وَهُمُ السَّامَانِيَّةُ.
الْبَلَاذُرِيُّ الْمُؤَرِّخُ.
أَحَدُ الْمَشَاهِيرِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ جَابِرِ بْنِ دَاوُدَ أَبُو
الْحَسَنِ، وَيُقَالُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَيُقَالُ أَبُو بَكْرٍ - الْبَغْدَادِيُّ
الْبَلَاذُرِيُّ صَاحِبُ التَّارِيخِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ. سَمِعَ هِشَامَ بْنَ
الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ وَأَبَا الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيَّ وَجَمَاعَةً
وَعَنْهُ يَحْيَى بْنُ النَّدِيمِ وَأَحْمَدُ بْنُ عَمَّارٍ وَأَبُو يُوسُفَ
يَعْقُوبُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ قَرْقَارَةَ الْأَزْدِيُّ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: كَانَ أَدِيبًا رَاوِيَةً، لَهُ كُتُبٌ
جِيَادٌ، وَمَدَحَ الْمَأْمُونَ بِمَدَائِحَ، وَجَالَسَ الْمُتَوَكِّلَ،
وَتُوُفِّيَ أَيَّامَ الْمُعْتَمِدِ وَوُسْوِسَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الْبَلَاذُرِيِّ قَالَ: قَالَ
لِي مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ: قُلْ مِنَ الشِّعْرِ مَا يَبْقَى لَكَ ذِكْرُهُ،
وَيَزُولُ عَنْكَ إِثْمُهُ. فَقُلْتُ:
اسْتَعْدِّي يَا نَفْسُ لِلْمَوْتِ وَاسْعَيْ لِنَجَاةٍ فَالْحَازِمُ
الْمُسْتَعِدُّ قَدْ تَبَيَّنْتِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْحَيِّ
خُلُودٌ وَلَا مِنَ الْمَوْتِ بُدُّ إِنَّمَا أَنْتِ مُسْتَعِيرَةٌ مَا سَوْ
فَ تَرُدِّينَ وَالْعَوَارِي تُرَدُّ أَنْتِ تَسْهَيْنَ وَالْحَوَادِثُ لَا تَسْ
هُو وَتَلْهِينَ وَالْمَنَايَا تَجِدُّ أَيُّ مُلْكٍ فِي الْأَرْضِ أَوْ أَيُّ
حَظٍّ
لِامْرِئٍ حَظُّهُ مِنَ الْأَرْضِ لَحْدُ لَا تُرَجِّي الْبَقَاءَ فِي مَعْدِنِ
الْمَوُ
تِ وَدَارٍ حُتُوفُهَا لَكِ وِرْدُ كَيْفَ يَهْوَى امْرُؤٌ لَذَاذَةَ أَيَّا
مٍ عَلَيْهِ الْأَنْفَاسُ فِيْهَا تُعَدُّ
التِّرْمِذِيُّ.
وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ بْنِ مُوسَى بْنِ الضَّحَّاكِ.
وَقِيلَ: مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ يَزِيدَ بْنِ سَوْرَةَ بْنِ السَّكَنِ.
وَيُقَالُ: مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ بْنِ شَدَّادٍ أَبُو عِيسَى
السُّلَمِيُّ التِّرْمِذِيُّ الضَّرِيرُ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ وُلِدَ أَكْمَهَ.
وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ فِي زَمَانِهِ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ
الْمَشْهُورَةُ، مِنْهَا " الْجَامِعُ " وَ " الشَّمَائِلُ "
وَ " أَسْمَاءُ الصَّحَابَةِ " وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكِتَابُ "
الْجَامِعِ " أَحَدُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا
الْعُلَمَاءُ فِي سَائِرِ الْآفَاقِ، وَجَهَالَةُ ابْنِ حَزْمٍ لِأَبِي عِيسَى
حَيْثُ قَالَ فِي " مُحَلَّاهُ ": وَمَنْ
مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ ؟ - لَا تَضُرُّهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ،
وَلَا تَضَعُ مِنْ قَدْرِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، بَلْ تَحُطُّ مِنْ
مَنْزِلَةِ ابْنِ حَزْمٍ عِنْدَ الْحُفَّاظِ.
وَكَيْفَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى
دَلِيلِ
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَشَايِخَهُ فِي كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ ". وَرَوَى
عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الْبُخَارِيُّ فِي غَيْرِ " الصَّحِيحِ "، وَالْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ
الشَّاشِيُّ صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ "، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَحْبُوبٍ
الْمَحْبُوبِيُّ رَاوِي " الْجَامِعِ " عَنْهُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
الْمُنْذِرِ شَكَّرُ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْخَلِيلِيُّ الْقَزْوِينِيُّ فِي كِتَابِهِ " عُلُومِ الْحَدِيثِ
": مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ بْنِ شَدَّادٍ الْحَافِظُ مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ لَهُ كِتَابٌ فِي السُّنَنِ وَكَلَامٌ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ.
رَوَى عَنْهُ ابْنُ مَحْبُوبٍ وَالْأَجِلَّاءُ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِالْأَمَانَةِ
وَالْعِلْمِ، مَاتَ بَعْدَ الثَّمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ. كَذَا قَالَ فِي تَارِيخِ
وَفَاتِهِ. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ سُلَيْمَانَ الْغُنْجَارُ فِي " تَارِيخِ بُخَارَى ": مُحَمَّدُ
بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ بْنِ مُوسَى بْنِ الضَّحَّاكِ السُّلَمِيُّ
التِّرْمِذِيُّ الْحَافِظُ دَخَلَ بُخَارَى وَحَدَّثَ بِهَا وَهُوَ صَاحِبُ "
الْجَامِعِ " وَ " التَّارِيخِ " تُوُفِّيَ بِالتِّرْمِذِ لَيْلَةَ
الْإِثْنَيْنِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ
وَمِائَتَيْنِ. وَذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو حَاتِمِ
بْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، فَقَالَ: كَانَ مِمَّنْ جَمَعَ وَصَنَّفَ وَحَفِظَ وَذَاكَرَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كَتَبَ عَنِّي الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ:لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُجْنِبُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرِي وَغَيْرُكَ وَرَوَى ابْنُ نُقْطَةَ فِي تَقْيِيدِهِ عَنِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ قَالَ: صَنَّفْتُ هَذَا الْمُسْنَدَ الصَّحِيحَ فَعَرَضْتُهُ عَلَى عُلَمَاءِ الْحِجَازِ فَرَضُوا بِهِ وَعَرَضْتُهُ عَلَى عُلَمَاءِ الْعِرَاقِ فَرَضُوا بِهِ وَعَرَضْتُهُ عَلَى عُلَمَاءِ خُرَاسَانَ فَرَضُوا بِهِ وَمَنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ هَذَا الْكِتَابُ فَكَأَنَّمَا فِي بَيْتِهِ نَبِيٌّ يَتَكَلَّمُ. قَالُوا: وَجُمْلَةُ " الْجَامِعِ " مِائَةٌ وَإِحْدَى وَخَمْسُونَ كِتَابًا وَكِتَابُ " الْعِلَلِ " صَنَّفَهُ بِسَمَرْقَنْدَ وَكَانَ فَرَاغُهُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى مِنْ سَنَةِ سَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ نُقْطَةَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيَّ سَمِعْتُ أَبَا إِسْمَاعِيلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: كِتَابُ التِّرْمِذِيِّ عِنْدِي أَفْيَدُ مِنْ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، قُلْتُ: وَلِمَ ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى الْفَائِدَةِ مِنْهُمَا إِلَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ التَّامَّةِ، وَهَذَا كِتَابٌ قَدْ شَرَحَ أَحَادِيثَهُ وَبَيَّنَهَا، فَيَصِلُ إِلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمَا، قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْعَمَى بَعْدَ أَنْ رَحَلَ وَسَمِعَ وَكَتَبَ وَذَاكَرَ وَنَاظَرَ وَصَنَّفَ، ثُمَّ اتَّفَقَ مَوْتُهُ فِي بَلَدِهِ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ
وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا قَتَلَ الْمُعْتَضِدُ رَجُلًا مِنْ أُمَرَاءِ الزَّنْجِ
كَانَ قَدْ لَجَأَ إِلَيْهِ بِالْأَمَانِ وَيُعْرَفُ بِشَيْلَمَةَ ذُكِرَ لَهُ
أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو إِلَى رَجُلٍ لَا يُعْرَفُ مَنْ هُوَ وَقَدْ أَفْسَدَ
جَمَاعَةً فَاسْتَدْعَى بِهِ فَقَرَّرَهُ فَلَمْ يُقِرَّ، وَقَالَ: لَوْ كَانَ
تَحْتَ قَدَمَيَّ مَا أَقْرَرْتُ بِهِ. فَأَمَرَ بِهِ فَشُدَّ عَلَى عَمُودِ
خَيْمَةٍ ثُمَّ لَوَّحَهُ عَلَى النَّارِ حَتَّى تَسَاقَطَ جِلْدُهُ عَنْ
عِظَامِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ وَصَلْبِهِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنَ
الْمُحَرَّمِ. وَفِي أَوَّلِ صَفَرٍ رَكِبَ الْمُعْتَضِدُ بِاللَّهِ أَبُو
الْعَبَّاسِ بْنُ الْمُوَفَّقِ مِنْ بَغْدَادَ قَاصِدًا بَنِي شَيْبَانَ مِنْ
أَرْضِ الْمَوْصِلِ فَأَوْقَعَ بِهِمْ بَأْسًا شَدِيدًا عِنْدَ جَبَلٍ يُقَالُ
لَهُ تَوْبَاذُ. وَكَانَ مَعَ الْمُعْتَضِدِ حَادٍ جَيِّدُ الْحُدَاءِ فَقَالَ فِي
تِلْكَ اللَّيَالِي يَحْدُو لِلْمُعْتَضِدِ:
فَأَجْهَشْتُ لَلتَّوْبَاذِ حِينَ رَأَيْتُهُ وَهَلَّلْتُ لِلّرَّحْمَنِ حِينَ
رَآنِي وَقُلْتُ لَهُ أَيْنَ الَّذِينَ عَهِدْتَهُمْ
بِظِلِّكَ فِي أَمْنٍ وَلِينِ زَمَانِي فَقَالَ مَضَوْا وَاسْتَخْلَفُونِي
مَكَانَهُمْ
وَمَنْ ذَا الَّذِي يَبْقَى عَلَى الْحَدَثَانِ
قَالَ: فَتَغَرْغَرَتْ عَيْنَا الْمُعْتَضِدِ، وَقَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَبْقَى
عَلَى الْحَدَثَانِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِتَسْهِيلِ
عَقَبَةِ حُلْوَانَ فَغَرِمَ عَلَيْهَا عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَكَانَ
النَّاسُ يَلْقَوْنَ مِنْهَا شِدَّةً عَظِيمَةً، وَفِيهَا وَسَّعَ الْمُعْتَضِدُ
جَامِعَ الْمَنْصُورِ بِإِضَافَةِ دَارِ الْمَنْصُورِ إِلَيْهِ، وَغَرِمَ عَلَيْهِ
عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَتِ الدَّارُ قِبْلِيَّةً فَبَنَاهَا مَسْجِدًا عَلَى
حِدَةٍ وَفَتَحَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ عَشَرَ بَابًا وَحَوَّلَ الْمِنْبَرَ
وَالْمِحْرَابِ إِلَى الْمَسْجِدِ لِيَكُونَ فِي قِبْلَةِ الْجَامِعِ عَلَى
عَادَتِهِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَزَادَ بَدْرٌ مَوْلَى الْمُعْتَضِدِ
الْمُسْقِطَاتِ مِنْ قَصْرِ الْمَنْصُورِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْبَدْرِيَّةِ، فِي
هَذَا الْوَقْتِ.
ذِكْرُ بِنَاءِ دَارِ الْخِلَافَةِ بِبَغْدَادَ
أَوَّلُ مَنْ بَنَاهَا الْمُعْتَضِدُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ
سَكَنَهَا مِنَ الْخُلَفَاءِ إِلَى آخَرِ دَوْلَتِهِمْ وَكَانَتْ أَوَّلًا دَارًا
لِلْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ تُعْرَفُ بِالْقَصْرِ الْحَسَنِيِّ ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَ
ذَلِكَ لِابْنَتِهِ بُورَانَ الَّتِي تَزَوَّجَ بِهَا الْمَأْمُونُ فَعَمَّرَتْ
فِيهَا حَتَّى اسْتَنْزَلَهَا الْمُعْتَضِدُ عَنْهَا فَأَجَابَتْهُ إِلَى ذَلِكَ
ثُمَّ أَصْلَحَتْ مَا وَهَى مِنْهَا وَرَمَّمَتْ مَا كَانَ قَدْ شَعِثَ فِيهَا
وَفَرَشَتْ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهَا مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْمَفَارِشِ،
وَأَسْكَنَتْ فِيهِ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْجَوَارِي وَالْخَدَمِ وَأَعَدَّتْ
بِهَا الْمَآكِلَ الشَّهِيَّةَ وَمَا يَحْسُنُ ادِّخَارُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ
ثُمَّ أَرْسَلَتْ بِمَفَاتِيحِهَا إِلَى الْمُعْتَضِدِ، فَلَمَّا دَخَلَهَا
أَذْهَلَهُ مَا رَأَى فِيهَا مِنَ الْخَيْرَاتِ ثُمَّ وَسَّعَهَا وَزَادَ فِيهَا
وَجَعَلَ لَهَا سُورًا حَوْلَهَا وَكَانَتْ قَدْرَ مَدِينَةِ
شِيرَازَ وَبَنَى الْمَيْدَانَ ثُمَّ بَنَى قَصْرًا
مُشْرِفًا عَلَى دِجْلَةَ، ثُمَّ بَنَى الْمُكْتَفِي التَّاجَ، ثُمَّ كَانَتْ
أَيَّامُ الْمُقْتَدِرِ فَزَادَ فِيهَا زِيَادَاتٍ عَظِيمَةً جِدًّا،
وَتَأَخَّرَتْ آثَارُهَا إِلَى أَيَّامِ التَّتَارِ الَّذِينَ خَرَّبُوا بَغْدَادَ
وَسَبَوْا مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْحَرَائِرِ الْآمِنَاتِ، كَمَا سَيَأْتِي
بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ. قَالَ
الْخَطِيبُ: وَالَّذِي يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ بُوَرَانُ سَلَّمَتْ دَارَ
الْخِلَافَةِ إِلَى الْمُعْتَمِدِ، فَإِنَّهَا لَمْ تَعِشْ إِلَى أَيَّامِ
الْمُعْتَضِدِ.
وَفِيهَا زُلْزِلَتْ أَرْدَبِيلُ سِتَّ مَرَّاتٍ فَتَهَدَّمَتْ دُورُهَا وَلَمْ
يَبْقَ مِنْهَا مِائَةُ دَارٍ وَمَاتَ تَحْتَ الرَّدْمِ مِائَةُ أَلْفٍ
وَخَمْسُونَ أَلْفًا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا غَارَتِ الْمِيَاهُ بِبِلَادِ الرَّيِّ وَطَبَرِسْتَانَ حَتَّى بِيعَ
الْمَاءُ كُلُّ ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ هُنَالِكَ
جَدَّا.
وَفِيهَا غَزَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ بِلَادَ التُّرْكِ
فَفَتَحَ مَدِينَةَ مَلِكِهِمْ وَأَسَرَ امْرَأَتَهُ الْخَاتُونَ وَأَبَاهُ
وَنَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ أَسِيرٍ وَغَنِمَ مِنَ الدَّوَابِّ
وَالْأَمْتِعَةِ وَالْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا، أَصَابَ الْفَارِسُ أَلْفَ
دِرْهَمٍ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
هَارُونَ بْنِ إِسْحَاقَ الْعَبَّاسِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارِ بْنِ أَيُّوبَ.
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْمَشْهُورُ بِالْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ.
وَأَحْمَدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ مُوسَى بْنِ عِيسَى أَبُو
جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيُّ.
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْحَنَفِيَّةِ، تَفَقَّهَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سَمَاعَةَ
وَهُوَ أُسْتَاذُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ وَكَانَ ضَرِيرًا، سَمِعَ
الْحَدِيثَ مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ وَغَيْرِهِ وَقَدِمَ مِصْرَ فَحَدَّثَ
بِهَا مِنْ حَفِظِهِ وَتُوُفِّيَ بِهَا فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي " تَارِيخِ مِصْرَ ".
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ الْأَزْهَرِ.
أَبُو الْعَبَّاسِ الْبِرْتِيُّ الْقَاضِي بِوَاسِطَ صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ
" رَوَى عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَأَبِي سَلَمَةَ التَّبُوذَكِيِّ
وَأَبِي نُعَيْمٍ وَأَبِي الْوَلِيدِ وَخَلْقٍ وَكَانَ ثِقَةً ثَبَتًا تَفَقَّهَ
بِأَبِي سُلَيْمَانَ الْجَوْزَجَانِيِّ صَاحِبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَقَدْ
حَكَمَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَغْدَادَ فِي أَيَّامِ الْمُعْتَزِّ
فَلَمَّا كَانَ أَيَّامُ الْمُوَفَّقِ طَلَبَ مِنْهُ وَمِنْ إِسْمَاعِيلَ
الْقَاضِي أَنْ يُعْطِيَاهُ مَا بِأَيْدِيِهِمَا مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى
الْمَوْقُوفَةِ فَبَادَرَ إِلَى ذَلِكَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي وَاسْتَنْظَرَهُ
إِلَى ذَلِكَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْبِرْتِيُّ هَذَا ثُمَّ بَادَرَ إِلَى كُلِّ
مَنْ أَنِسَ مِنْهُ رُشْدًا مِنَ الْيَتَامَى فَدَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ فَلَمَّا
طُولِبَ بِهِ قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ دَفَعْتُهُ إِلَى أَهْلِهِ. فَعُزِلَ
عَنِ الْقَضَاءِ وَلَزِمَ بَيْتَهُ وَتَعَبَّدَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي ذِي
الْحِجَّةِ مِنْهَا وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ وَقَدْ دَخَلَ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ إِلَيْهِ وَصَافَحَهُ
وَقَبَّلَ بَيْنِ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: مَرْحَبًا بِمَنْ عَمِلَ بِسُنَّتِي
وَأَثَرِي.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَعْفَرُ بْنُ الْمُعْتَمِدِ وَكَانَ يُسَامِرُ أَبَاهُ وَرَاشِدٌ مَوْلَى الْمُوَفَّقِ بِمَدِينَةِ الدِّينَوَرِ فَحُمِلَ إِلَى بَغْدَادَ وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ مُصَنِّفُ الرَّدِّ عَلَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ فِيمَا ابْتَدَعَهُ مِنَ التَّأْوِيلِ لِمَذْهَبِ الْجَهْمِيَّةِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ". وَمَسْرُورٌ الْخَادِمُ وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يُوسُفَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْحَسَنَةِ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ وَشَيْخُنَا الذَّهَبِيُّ. وَهِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ الْمُحَدِّثُ الْمَشْهُورُ وَقَدْ وَقَعَ لَنَا مِنْ حَدِيثِهِ طَرَفٌ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ
وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ بِلَادَ الرُّومِ فَغَنِمُوا وَسَلِمُوا وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ. وَفِيهَا تَكَامَلَ غَوْرُ الْمِيَاهِ بِبِلَادِ الرَّيِّ
وَطَبَرِسْتَانَ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ جِدًّا وَجَهَدَ النَّاسُ وَقَحَطُوا
حَتَّى أَكَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَكَانَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ ابْنَهُ وَابْنَتَهُ
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا حَاصَرَ الْمُعْتَضِدُ قَلْعَةَ مَارْدِينَ وَكَانَتْ بِيَدِ حَمْدَانَ
بْنِ حَمْدُونَ فَفَتَحَهَا
قَسْرًا وَأَخَذَ مَا كَانَ فِيهَا ثُمَّ أَمَرَ
بِتَخْرِيبِهَا فَهُدِّمَتْ، وَفِيهَا وَصَلَتْ قَطْرُ النَّدَى بِنْتُ
خُمَارَوَيْهِ نَائِبِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى بَغْدَادَ فِي تَجَمُّلٍ
عَظِيمٍ وَمَعَهَا مِنَ الْجِهَازِ شَيْءٌ عَظِيمٌ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ كَانَ فِي
الْجِهَازِ مِائَةُ هَاوُنٍ مِنْ ذَهَبٍ غَيْرَ الْفِضَّةِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ
مِنَ الْقُمَاشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى ثُمَّ بَعْدَ كُلِّ حِسَابٍ
مَعَهَا مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ لِتَشْتَرِيَ بِهَا مِنَ الْعِرَاقِ مَا قَدْ
تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِمَّا لَا يَتَهَيَّأُ مِثْلُهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَفِيهَا خَرَجَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى بِلَادِ الْجَبَلِ وَوَلَّى وَلَدَهُ
عَلِيًّا الْمُكْتَفِيَ نِيَابَةَ الرِّىِّ وَقَزْوِينَ وَزَنْجَانَ وَقُمَّ
وَهَمَذَانَ وَالدِّينَوَرِ وَجَعَلَ عَلَى كِتَابَتِهِ أَحْمَدَ بْنَ الْأَصْبَغِ
وَوَلَّى عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفٍ نِيَابَةَ أَصْبَهَانَ
وَنَهَاوَنْدَ وَالْكَرْخِ ثُمَّ عَادَ رَاجِعًا إِلَى بَغْدَادَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ بْنِ إِسْحَاقَ، وَأَصَابَ
الْحُجَّاجَ فِي الْأَجْفُرِ مَطَرٌ عَظِيمٌ فَغَرِقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، كَانَ
الرَّجُلُ يَغْرَقُ فِي الرَّمْلِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى خَلَاصِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ الْحَافِظُ صَاحِبُ كِتَابِ
الْمُصَنَّفَاتِ، مِنْهَا فِي صِفِّينَ مُجَلَّدٌ كَبِيرٌ.
وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّائِيُّ بِالْكُوفَةِ فِي جُمَادَى مِنْهَا
وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ.
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْجَبَلِيِّ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ يُفْتِي النَّاسَ بِالْحَدِيثِ
وَكَانَ يُوصَفُ بِالْفَهْمِ وَالْحِفْظِ.
ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا الْقُرَشِيُّ.
مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ
سُفْيَانَ بْنِ قَيْسٍ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا الْحَافِظُ
الْمُصَنِّفُ الْمَشْهُورُ، لَهُ التَّصَانِيفُ النَّافِعَةُ الشَّائِعَةُ
الذَّائِعَةُ فِي الرَّقَائِقِ وَغَيْرِهَا، تَزِيدُ عَلَى مِائَةِ مُصَنَّفٍ.
سَمِعَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيَّ وَخَالِدَ بْنَ خِرَاشٍ
وَعَلِيَّ بْنَ الْجَعْدِ وَخَلْقًا، وَكَانَ مُؤَدِّبًا لِلْمُعْتَضِدِ وَابْنِهِ
عَلِيِّ ابْنِ الْمُعْتَضِدِ الْمُلَقَّبِ بِالْمُكْتَفِي، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهِ
فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا حَافِظًا ذَا
مُرُوءَةٍ، لَكِنْ قَالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَزَرَةُ: إِلَّا أَنَّهُ كَانَ
يَرْوِي عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْبَلْخِيُّ، وَكَانَ
هَذَا الرَّجُلُ كَذَّابًا يَضَعُ لِلْكَلَامِ إِسْنَادًا،
وَيَرْوِي أَحَادِيثَ مُنْكَرَةً، وَمِنْ شِعْرِ ابْنِ
أَبِي الدُّنْيَا أَنَّهُ جَلَسَ أَصْحَابٌ لَهُ يَنْتَظِرُونَهُ لِيَخْرُجَ
إِلَيْهِمْ فَجَاءَ الْمَطَرُ فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ
رُقْعَةً فِيهَا:
أَنَا مُشْتَاقٌ إِلَى رُؤْيَتِكُمْ يَا أَخِلَّائِي وَسَمْعِي وَالْبَصَرْ كَيْفَ
أَنْسَاكُمْ وَقَلْبِي عِنْدَكُمْ
حَالَ فِيمَا بَيْنَنَا هَذَا الْمَطَرْ
تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
سَبْعِينَ سَنَةً وَصَلَّى عَلَيْهِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي وَدُفِنَ
بِالشُّونِيزِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ الْحَافِظُ
الْكَبِيرُ الشَّهِيرُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ابْنُ الْمَوَّازِ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ، لَهُ
اخْتِيَارَاتٌ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، فَمِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي خَامِسِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ دَخَلَ
الْمُعْتَضِدُ بِزَوْجَتِهِ ابْنَةِ خُمَارَوَيْهِ وَكَانَ قُدُومُهَا بَغْدَادَ
صُحْبَةَ عَمِّهَا وَصُحْبَةَ ابْنِ الْجَصَّاصِ وَكَانَ الْخَلِيفَةُ غَائِبًا
وَكَانَ دُخُولُهَا إِلَيْهِ يَوْمًا مَشْهُودًا امْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ
الْمُرُورِ فِي الطُّرُقَاتِ.
وَفِيهَا نَهَى الْمُعْتَضِدُ النَّاسَ أَنْ يَعْمَلُوا فِي يَوْمِ النَّيرُوزِ
مَا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ إِيقَادِ النِّيرَانِ وَصَبِّ الْمَاءِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُشَابِهَةِ لِأَفْعَالِ الْمَجُوسِ وَمَنَعَ مِنْ
حَمْلِ هَدَايَا الْفَلَّاحِينَ إِلَى الْمُقْطَعِينِ فِي هَذَا الْيَوْمِ
وَأَمَرَ بِتَأْخِيرِ ذَلِكَ إِلَى الْحَادِي عَشَرَ مِنْ حَزِيرَانَ، وَسُمِّيَ
النَّيرُوزَ الْمُعْتَضِدِيَّ وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْآفَاقِ وَسَائِرِ
الْعُمَّالِ.
فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ
الْمَاذَرَائِيُّ مِنْ دِمَشْقَ عَلَى الْبَرِيدِ فَأَخْبَرَ الْمُعْتَضِدَ
بِاللَّهِ بِأَنَّ خُمَارَوَيْهِ ذَبَحَهُ بَعْضُ خُدَّامِهِ عَلَى فِرَاشِهِ
وَوَلَّوْا بَعْدَهُ وَلَدَهُ جِيشًا ثُمَّ قَتَلُوهُ وَنَهَبُوا دَارَهُ ثُمَّ
وَلَّوْا هَارُونَ بْنَ خُمَارَوَيْهِ وَقَدِ الْتَزَمَ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ
أَلْفِ دِينَارٍ وَخَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ تُحْمَلُ إِلَى بَابِ
الْخَلِيفَةِ فَأَقَرَّهُ الْمُعْتَضِدُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ
الْمُكْتَفِي عَزَلَهُ وَوَلَّى مَكَانَهُ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ
الْوَاثِقِيَّ فَاصْطَفَى أَمْوَالَ آلِ طُولُونَ وَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ الْعَهْدِ
بِهِمْ.
وَفِيهَا أُطْلِقَ لُؤْلُؤَةُ غُلَامُ أَحْمَدَ بْنِ
طُولُونَ مِنَ السِّجْنِ فَعَادَ إِلَى مِصْرَ فِي أَذَلِّ حَالٍ. وَحَجَّ
بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيُّ اللُّغَوِيُّ صَاحِبُ
كِتَابِ " النَّبَاتِ ".
إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَبُو
إِسْحَاقَ الْأَزْدِيُّ الْقَاضِي أَصْلُهُ مِنَ الْبَصْرَةِ وَنَشَأَ بِبَغْدَادَ
وَسَمِعَ مُسْلِمَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
الْأَنْصَارِيَّ وَالْقَعْنَبِيَّ وَعَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ وَكَانَ حَافِظًا
فَقِيهًا مَالِكِيًّا جَمَعَ وَصَنَّفَ وَشَرَحَ فِي الْمَذْهَبِ عِدَّةَ
مُصَنَّفَاتٍ فِي التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ
وَلِيَ الْقَضَاءَ فِي أَيَّامِ الْمُتَوَكِّلِ بَعْدَ سَوَّارِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بِبَغْدَادَ، ثُمَّ عُزِلَ ثُمَّ وَلِيَ وَصَارَ مُقَدَّمَ الْقُضَاةِ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فُجَاءَةً لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ
ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ رَحِمَهُ
اللَّهُ.
الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ صَاحِبُ الْمُسْنَدِ
الْمَشْهُورِ.
خُمَارَوَيْهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ صَاحِبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
بُويِعَ
لَهُ بِمُلْكِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَ أَبِيهِ
سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ فَقَصَدَهُ الْمُعْتَضِدُ بْنُ
الْمُوَفَّقِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فِي أَرْضِ
الرَّمْلَةِ وَقِيلَ فِي أَرْضِ الصَّعِيدِ، فَانْهَزَمَ خُمَارَوَيْهِ هَارِبًا
عَلَى حِمَارٍ، وَكَرَّ جَيْشُهُ عَلَى الْمُعْتَضِدِ، فَهَرَبَ كَمَا قَدَّمْنَا،
ثُمَّ تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ وَتَصَافَيَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي ذِي
الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَدَا الْخَدَمُ مِنَ الْخِصْيَانِ عَلَى
خُمَارَوَيْهِ فَذَبَحُوهُ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ
اتَّهَمَهُمْ بِجَوَارِيهِ، فَمَاتَ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَقَامَ
بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ هَارُونُ بْنُ خُمَارَوَيْهِ وَهُوَ آخِرُ
الطُّولُونِيَّةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِيمَنْ تُوَفِّيَ هَذِهِ السَّنَةَ عُثْمَانَ بْنَ
سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ أَبَا سَعِيدٍ الدَّارِمِيَّ الْفَقِيهَ الشَّافِعِيَّ،
أَخَذَ الْفِقْهَ عَنِ الْبُوَيْطِيِّ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ.
الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ مُوسَى بْنِ زُهَيْرِ بْنِ
يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ بْنِ بَاذَانَ مَلِكِ الْيَمَنِ. وَقَدْ أَسْلَمَ بَاذَانُ
فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَبُو مُحَمَّدٍ الشَّعْرَانِيُّ الْأَدِيبُ الْفَقِيهُ الْعَابِدُ الْحَافِظُ
الرَّحَّالُ تَلْمَذَ لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ رَوَى عَنْهُ الْفَوَائِدَ فِي
الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَخَذَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَقَرَأَ عَلَى خَلَفِ بْنِ هِشَامٍ
الْبَزَّارِ وَتَعَلَّمَ اللُّغَةَ مِنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ وَكَانَ ثِقَةً كَبِيرَ
الْقَدْرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ خَلِّادٍ أَبُو الْعَيْنَاءِ الْبَصْرِيُّ الضَّرِيرُ الشَّاعِرُ الْأَدِيبُ الْبَلِيغُ اللُّغَوِيُّ تِلْمِيذُ الْأَصْمَعِيِّ وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَإِنَّمَا لُقِّبَ بِأَبِي الْعَيْنَاءِ لِأَنَّهُ قَالَ لِأَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ: كَيْفَ تُصَغِّرُ عَيْنًا ؟ فَقَالَ: عُيَيْنًا يَا أَبَا الْعَيْنَاءِ. فَبَقِيَ لَهُ. وَلَهُ مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ بِالْأَدَبِ وَالْحِكَايَاتِ وَالْمُلَحِ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ لَهُ مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ
وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا خَرَجَ الْمُعْتَضِدُ مِنْ بَغْدَادَ قَاصِدًا بِلَادَ
الْمَوْصِلِ لِقِتَالِ هَارُونَ الشَّارِي الْخَارِجِيِّ فَظَفِرَ بِهِ، وَهُزِمَ
أَصْحَابُهُ وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى بَغْدَادَ فَلَمَّا رَجَعَ الْخَلِيفَةُ
إِلَى بَغْدَادَ أَمَرَ بِصَلْبِ هَارُونَ وَكَانَ صُفْرِيًّا، فَلَمَّا صُلِبَ
قَالَ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. وَكَانَ
الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدُونَ قَدْ قَاتَلَ الْخَوَارِجَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ
قِتَالًا شَدِيدًا مَعَ الْخَلِيفَةِ، فَأَطْلَقَ الْخَلِيفَةُ أَبَاهُ حَمْدَانَ
بْنَ حَمْدُونَ مِنَ الْقُيُودِ بَعْدَمَا كَانَ قَدْ سَجَنَهُ حِينَ أَخَذَ
قَلْعَةَ مَارْدِينَ مِنْ يَدِهِ وَهَدَمَهَا عَلَيْهِ فَأَطْلَقَهُ وَخَلَعَ
عَلَيْهِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ.
وَفِيهَا كَتَبَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى الْآفَاقِ بِرَدِّ مَا فَضُلَ عَنْ سِهَامِ
ذَوِي الْفَرْضِ إِذَا لَمْ تَكُنْ عَصَبَةٌ إِلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَذَلِكَ
عَنْ فُتْيَا أَبِي حَازِمٍ الْقَاضِي، وَقَدْ قَالَ فِي فُتْيَاهُ: إِنَّ هَذَا
اتِّفَاقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ
بَرَدِّ مَا فَضُلَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَوَافَقَ عَلِيُّ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ لِأَبِي حَازِمٍ، أَفْتَى الْقَاضِي
يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بِقَوْلِ زَيْدٍ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ
الْمُعْتَضِدُ، وَأَمْضَى فُتْيَا أَبِي حَازِمٍ وَمَعَ هَذَا وَلَّى الْقَاضِيَ
يُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ قَضَاءَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ وَخَلَعَ عَلَيْهِ
خِلَعَا سَنِيَّةً أَيْضًا، وَقَلَّدَ أَبَا حَازِمٍ قَضَاءَ أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ
وَكَذَلِكَ لِابْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلَعًا سَنِيَّةً
أَيْضًا.
وَفِيهَا وَقَعَ الْفِدَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
وَالرُّومِ فَاسْتُنْقِذَ مِنْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَلْفَانِ
وَخَمْسُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا حَاصَرَتِ الصَّقَالِبَةُ الرُّومَ فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ
فَاسْتَعَانَ مَلِكُ الرُّومِ بِمَنْ عِنْدَهُ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ
وَأَعْطَاهُمْ سِلَاحًا كَثِيرًا فَخَرَجُوا مَعَهُمْ فَهَزَمُوا الصَّقَالِبَةَ
ثُمَّ خَافَ مَلِكُ الرُّومِ مِنْ غَائِلَةِ الْمُسْلِمِينَ فَفَرَّقَهُمْ فِي
الْبِلَادِ.
وَفِيهَا خَرَجَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ مِنْ نَيْسَابُورَ لِبَعْضِ أَشْغَالِهِ
فَخَلَفَهُ فِيهَا رَافِعُ بْنُ هَرْثَمَةَ وَدَعَا عَلَى مَنَابِرِهَا
لِمُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْمُطَّلِبِيِّ وَلِوَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ فَرَجَعَ
إِلَيْهِ عَمْرٌو وَحَاصَرَهُ فِيهَا وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَخْرَجَهُ
مِنْهَا وَقَتَلَهُ عَلَى بَابِهَا.
وَفِيهَا بَعَثَ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَضِدُ وَزِيرَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ
سُلَيْمَانَ لِقِتَالِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفٍ فَلَمَّا
وَصَلَ إِلَيْهِ طَلَبَ مِنْهُ عُمَرُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُ وَأَخَذَهُ مَعَهُ
إِلَى الْخَلِيفَةِ فَتَلَقَّاهُ الْأُمَرَاءُ عَنْ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ وَخَلَعَ
عَلَيْهِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِهْرَانَ أَبُو إِسْحَاقَ
الثَّقَفِيُّ السَّرَّاجُ النَّيْسَابُورِيُّ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَدْخُلُ
إِلَى مَنْزِلِهِ - وَكَانَ بِقَطِيعَةِ الرَّبِيعِ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ
بَغْدَادَ - وَيَنْبَسِطُ فِيهِ وَيُفْطِرُ عِنْدَهُ وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ
الْعُلَمَاءِ الْعُبَّادِ تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا.
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَازِمٍ أَبُو الْقَاسِمِ
الْخُتَّلِيُّ وَلَيْسَ هُوَ
بِالَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي السِّنِينَ
الْمُتَقَدِّمَةِ سَمِعَ دَاوُدَ بْنَ عَمْرٍو وَعَلِيَّ بْنَ الْجَعْدِ وَخَلْقًا
كَثِيرًا وَقَدْ لَيَّنَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ سَنَةً.
سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ التُّسْتَرِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ أَحَدُ
أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ لَقِيَ ذَا النُّونِ الْمِصْرِيَّ، وَمِنْ كَلَامِ سَهْلٍ
الْحَسَنِ قَوْلُهُ: أَمْسِ قَدْ مَاتَ وَالْيَوْمُ فِي النَّزْعِ وَغَدٌ لَمْ
يُولَدْ وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
مَا مَضَى فَاتَ وَالْمُؤَمَّلُ غَيْبٌ وَلَكَ السَّاعَةُ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَكَانَ سُلُوكُهُ عَلَى يَدِ خَالِهِ
مُحَمَّدِ بْنِ سَوَّارٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ،
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ خِرَاشٍ أَبُو مُحَمَّدٍ
الْحَافِظُ الْمَرْوَزِيُّ أَحَدُ الْجَوَّالِينَ الرَّحَّالِينَ حُفَّاظِ
الْحَدِيثِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَقَدْ يَتَسَتَّرُ
بِشَيْءٍ مِنَ التَّشَيُّعِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
رَوَى الْخَطِيبُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: شَرِبْتُ بَوْلِي
فِي هَذَا الشَّأْنِ خَمْسَ مَرَّاتٍ. يَعْنِي أَنَّهُ اضْطُرَّ إِلَى ذَلِكَ فِي
الْأَسْفَارِ فِي طَلَبِهِ الْحَدِيثَ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ عَبْدِ الْمَلِكِ، الْأُمَوِيُّ
الْبَصْرِيُّ قَاضِي سَامَرَّا وَقَدْ وَلِيَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ قَضَاءَ
الْقُضَاةِ وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ سَمِعَ أَبَا الْوَلِيدِ وَأَبَا عُمَرَ
الْحَوْضِيَّ وَعَنْهُ النَّجَّادُ وَابْنُ صَاعِدٍ وَابْنُ قَانِعٍ، وَحَمَلَ
النَّاسُ عَنْهُ عِلْمًا كَثِيرًا.
ابْنُ الرُّومِيِّ الشَّاعِرُ
صَاحِبُ الدِّيوَانِ فِي الشِّعْرِ عَلِيُّ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ جُرَيْجٍ أَبُو
الْحَسَنِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الرُّومِيِّ وَهُوَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَعْفَرٍ وَكَانَ شَاعِرًا مَشْهُورًا مُطْبِقًا، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِذَا مَا مَدَحْتَ الْبَاخِلِينَ فَإِنَّمَا تُذَكِّرُهُمْ مَا فِي سِوَاهُمْ
مِنَ الْفَضْلِ
وَتُهْدِي لَهُمْ غَمًّا طَوِيلًا وَحَسْرَةً فَإِنْ
مَنَعُوا مِنْكَ النَّوَالَ فَبِالْعَدْلِ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِذَا مَا كَسَاكَ الدَّهْرُ سِرْبَالَ صِحَّةٍ وَلَمْ تَخْلُ مِنْ قُوتٍ يَلَذُّ
وَيَعْذُبُ
فَلَا تَغْبِطَنَّ الْمُتْرَفِينَ فَإِنَّهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَكْسُوهُمُ
الدَّهْرُ يَسْلُبُ
وَقَالَ أَيْضًا:
عَدُوُّكَ مِنْ صَدِيقِكَ مُسْتَفَادٌ فَلَا تَسْتَكْثِرَنَّ مِنَ الصِّحَابِ
فَإِنَّ الدَّاءَ أَكْثَرُ مَا تَرَاهُ يَكُونُ مِنَ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ
إِذَا انْقَلَبَ الصَّدِيقُ غَدًا عَدُوًّا مُبِينًا وَالْأُمُورُ إِلَى
انْقِلَابِ
وَلَوْ كَانَ الْكَثِيرُ يَطِيبُ كَانَتْ مُصَاحَبَةُ الْكَثِيرِ مِنَ الصَّوَابِ
وَلَكِنْ قَلَّ مَا اسْتَكْثَرْتَ إِلَّا وَقَعْتَ عَلَى ذِئَابٍ فِي ثِيَابِ
فَدَعْ عَنْكَ الْكَثِيرَ فَكَمْ كَثِيرٍ يُعَافُ وَكَمْ قَلِيلٍ مُسْتَطَابِ
وَمَا اللُّجَجِ الْمِلَاحُ بِمُرْوِيَاتٍ وَيَكْفِي الرِّيُّ فِي النُّطَفِ
الْعِذَابِ
وَقَالَ أَيْضًا:
وَمَا الْحَسَبُ الْمَوْرُوثُ لَا دَرَّ دَرُّهُ بِمُحْتَسَبٍ إِلَّا بِآخَرَ
مُكَتَسَبْ
فَلَا تَتَّكِلْ إِلَّا عَلَى مَا فَعَلْتَهُ وَلَا تَحْسَبَنَّ الْمَجْدَ يُورَثُ
بِالنَّسَبْ
فَلَيْسَ يَسُودُ الْمَرْءُ إِلَّا بِنَفْسِهِ وَإِنَّ
عَدَّ آبَاءً كِرَامًا ذَوِي حَسَبْ
إِذَا الْعُودُ لَمْ يُثْمِرْ وَإِنْ كَانَ شُعْبَةً مِنَ الْمُثْمِرَاتِ
اعْتَدَّهُ النَّاسُ فِي الْحَطَبْ
وَلِلْمَجْدِ قَوْمٌ سَاوَرُوهُ بِأَنْفُسٍ كِرَامٍ وَلَمْ يَعْبَوْا بِأُمٍّ
وَلَا بِأَبْ
وَمِنْ لَطِيفِ شِعْرِهِ:
قَلْبِي مِنَ الطَّرْفِ السَّقِيمِ سَقِيمُ لَوْ أَنَّ مَنْ أَشْكُو إِلَيْهِ
رَحِيمُ
فِي وَجْهِهَا أَبَدًا نَهَارٌ وَاضِحٌ مِنْ فَرْعِهَا لَيْلٌ عَلَيْهِ بَهِيمُ
إِنْ أَقْبَلَتْ فَالْبَدْرُ لَاحَ وَإِنْ مَشَتْ فَالْغُصْنُ رَاحَ وَإِنْ رَنَتْ
فَالرِّيمُ
نَعِمَتْ بِهَا عَيْنِي فَطَالَ عَذَابُهَا وَلَكَمْ عَذَابٌ قَدْ جَنَاهُ نَعِيمُ
نَظَرَتْ فَأَقَصَدَتِ الْفُؤَادَ بِسَهْمِهَا ثُمَّ انْثَنَتْ نَحْوِي فَكِدْتُ
أَهِيمُ
وَيْلَاهُ إِنْ نَظَرَتْ وَإِنْ هِيَ أَعْرَضَتْ وَقْعُ السِّهَامِ وَنَزْعُهُنَّ
أَلِيمُ
يَا مُسْتَحِلَّ دَمِي مُحَرِّمَ رَحْمَتِي مَا أَنْصَفَ التَّحْلِيْلُ وَالتَّحْرِيمُ
وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً غَيْرَ مَا أَوْرَدْنَاهُ، مِنْ
ذَلِكَ قَوْلُهُ، وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ:
آرَاؤُكُمْ وَوَجُوهُكُمْ وَسُيُوفُكُمْ فِي الْحَادِثَاتِ
إِذَا دَجَوْنَ نُجُومُ
مِنْهَا مَعَالِمُ لِلْهُدَى وَمَصَابِحٌ تَجْلُو الدُّجَى وَالْأُخْرَيَاتُ
رُجُومُ
وَذَكَرَ أَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَنَّهُ
مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا، وَقِيلَ فِي سَنَةِ
سِتٍّ وَسَبْعِينَ، وَذَكَرَ أَنَّ سَبَبَ وَفَاتِهِ أَنَّ وَزِيرَ الْمُعْتَضِدِ
الْقَاسِمَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ كَانَ يَخَافُ مَنْ هَجْوِهِ وَلِسَانِهِ
فَدَسَّ إِلَيْهِ مَنْ أَطْعَمَهُ وَهُوَ بِحَضْرَتِهِ خُشْكَنَانَجَةً
مَسْمُومَةً فَلَمَّا أَحَسَّ بِالسُّمِّ قَامَ، فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: إِلَى
أَيْنَ ؟ قَالَ: إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَعَثْتَنِي إِلَيْهِ، قَالَ: سَلِّمْ
عَلَى وَالِدِي، فَقَالَ: لَسْتُ أَجْتَازُ عَلَى النَّارِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَارِثِ أَبُو بَكْرٍ الْبَاغَنْدِيُّ
الْوَاسِطِيُّ كَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ كَانَ
يَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ وَمَعَ هَذَا تَكَلَّمُوا فِيهِ وَضَعَّفُوهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبِ بْنِ حَرْبٍ أَبُو جَعْفَرٍ الضَّبِّيُّ الْمَعْرُوفُ
بِتَمْتَامٍ سَمِعَ
عَفَّانَ وَقَبِيصَةَ وَالْقَعْنَبِيَّ وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَرُبَّمَا أَخْطَأَ. تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ عَنْ
تِسْعِينَ سَنَةً.
الْبُحْتُرِيُّ الشَّاعِرُ
صَاحِبُ الدِّيوَانِ الْمَشْهُورِ، اسْمُهُ الْوَلِيدُ بْنُ عَبَادَةَ، وَيُقَالُ:
الْوَلِيدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ يَحْيَى أَبُو عُبَادَةَ الطَّائِيُّ
الْبُحْتُرِيُّ الشَّاعِرُ أَصْلُهُ مِنَ مَنْبِجَ وَقَدِمَ بَغْدَادَ وَمَدَحَ
الْمُتَوَكِّلَ وَالرُّؤَسَاءَ وَكَانَ شِعْرُهُ فِي الْمَدْحِ خَيْرًا مِنْهُ فِي
الْمَرَاثِي فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: الْمَدِيحُ لِلرَّجَاءِ
وَالْمَرَاثِي لِلْوَفَاءِ وَبَيْنَهُمَا بُعْدٌ. وَقَدْ رَوَى شِعْرَهُ
الْمُبَرِّدُ وَابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ وَابْنُ الْمَرْزُبَانِ، وَقِيلَ لَهُ:
إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّكَ أَشْعَرُ مِنْ أَبِي تَمَّامٍ، فَقَالَ: لَوْلَا
أَبُو تَمَّامٍ مَا أَكَلْتُ الْخُبْزَ، كَانَ أَبُو تَمَّامٍ أُسْتَاذَنَا وَقَدْ
كَانَ الْبُحْتُرِيُّ شَاعِرًا مُطْبِقًا فَصِيحًا بَلِيغًا رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ
فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا عَنْ
ثَمَانِينَ سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ
وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا دَخَلَ رَأَسُ رَافِعِ بْنِ هَرْثَمَةَ إِلَى بَغْدَادَ
فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِنَصْبِهِ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ إِلَى الظُّهْرِ
ثُمَّ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِلَى اللَّيْلِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا خَلَعَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ
يَعْقُوبَ بِالْقَضَاءِ بِمَدِينَةِ الْمَنْصُورِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ أَبِي
الشَّوَارِبِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ وَأَيَّامٍ وَهِيَ شَاغِرَةٌ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ ظَهَرَتْ بِمِصْرَ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ وَحُمْرَةٌ فِي الْأُفُقِ
حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ صَاحِبِهِ فَيَرَاهُ أَحْمَرَ
اللَّوْنِ جَدًّا وَكَذَلِكَ الْجُدْرَانُ فَمَكَثُوا كَذَلِكَ مِنَ الْعَصْرِ
إِلَى اللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى الصَّحْرَاءِ يَدْعُونَ اللَّهَ
وَيَتَضَرَّعُونَ حَتَّى كَشَفَ عَنْهُمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَمَ الْمُعْتَضِدُ عَلَى لَعْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ عَلَى الْمَنَابِرِ فَحَذَّرَهُ وَزِيرُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَامَّةَ تُنْكِرُ قُلُوبُهُمْ
وَهُمْ يَتَرَحَّمُونَ عَلَيْهِ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَجَوَامِعِهِمْ فَلَمْ
يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ وَأَمَرَ بِذَلِكَ وَأَمْضَاهُ وَكُتِبَتْ نُسَخٌ بِلَعْنِ
مُعَاوِيَةَ وَذَكَرَ فِيهَا ذَمَّهُ وَذَمَّ ابْنِهِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
وَجَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَأَوْرَدَ فِيهَا أَحَادِيثَ بَاطِلَةً فِي
ذَمِّ مُعَاوِيَةَ وَقُرِئَتْ فِي
الْجَانِبَيْنِ مِنْ بَغْدَادَ وَنُهِيَتِ الْعَامَّةُ عَنِ
التَّرَحُّمِ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَالتَّرَضِّي عَنْهُ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ
الْوَزِيرُ حَتَّى قَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ
هَذَا الصَّنِيعَ مِمَّا يُرَغِّبُ الْعَامَّةَ فِي الطَّالِبِيِّينَ وَقَبُولِ
الدَّعْوَةِ إِلَيْهِمْ. فَوَجَمَ لِذَلِكَ الْمُعْتَضِدُ وَتَرَكَ مَا كَانَ
عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِخَوْفِهِ عَلَى الْمُلْكِ وَقَدَّرَ اللَّهُ
تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْوَزِيرَ كَانَ نَاصِبِيًّا يُبْغِضُ عَلِيًّا فَكَانَ
هَذَا مِنْ هَفَوَاتِ الْمُعْتَضِدِ، سَامَحَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا نُودِيَ فِي الْبُلْدَانِ: لَا يَجْتَمِعِ الْعَامَّةُ عَلَى قَاصٍّ
وَلَا كَاهِنٍ وَلَا مُنَجِّمٍ وَلَا جَدَلِيٍّ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَأَنْ لَا
يَهْتَمُّوا لِأَمْرِ النَّوْرُوزِ ثُمَّ أَطْلَقَ لَهُمْ أَمْرَ النَّوْرُوزِ
فَكَانُوا يَصُبُّونَ الْمِيَاهَ عَلَى الْمَارَّةِ فَتَوَسَّعَتِ الْعَامَّةُ فِي
ذَلِكَ وَغَلَوْا فِيهِ حَتَّى جَعَلُوا يَصُبُّونَ الْمِيَاهَ عَلَى الْجُنْدِ
وَعَلَى أَصْحَابِ الشُّرَطِ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ هَفَوَاتِهِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَعَدَ الْمُنَجِّمُونَ
النَّاسَ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَقَالِيمِ سَتَغْرَقُ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ مِنْ
كَثْرَةِ الْأَمْطَارِ وَالسُّيُولِ وَزِيَادَةِ الْأَنْهَارِ فَأَكْذَبَهُمُ
اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا، فَلَمْ تَكُنْ سَنَةٌ أَقَلَّ مَطَرًا مِنْهُ
وَقَلَّتِ الْعُيُونُ جِدًّا وَقَحَطَتِ النَّاسُ فِي كُلِّ بُقْعَةٍ حَتَّى
اسْتَسْقَى النَّاسُ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ مِرَارًا كَثِيرَةً،
وَلِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.
قَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ يَتَبَدَّى بِاللَّيْلِ فِي دَارِ
الْخِلَافَةِ شَخْصٌ بِيَدِهِ سَيْفٌ
مَشْهُورٌ، فَإِذَا أَرَادُوا أَخْذَهُ انْهَزَمَ مِنْهُمْ فَدَخَلَ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ وَالزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ وَالْعَطَفَاتِ الَّتِي بِدَارِ الْخِلَافَةِ فَلَا يُطَّلَعُ لَهُ عَلَى خَبَرٍ، فَقَلِقَ مِنْ ذَلِكَ الْمُعْتَضِدُ قَلَقًا شَدِيدًا وَأَمَرَ بِتَجْدِيدِ سُورِ دَارِ الْخِلَافَةِ وَالِاحْتِفَاظِ بِهِ وَأَمَرَ الْحَرَسَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِشِدَّةِ الِاحْتِرَاسِ فَلَمْ يُفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ اسْتَدْعَى بِالْمُعَزِّمِينَ وَمَنْ يُعَانِي عَلِمَ السِّحْرِ وَأَمَرَ الْمَجَانِينَ فَعَزَّمُوا وَاجْتَهَدُوا فَلَمْ يُفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأَعْيَاهُمْ أَمْرُهُ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ اطُّلِعَ عَلَى جَلِيَّةِ خَبَرِهِ وَحَقِيقَةِ أَمْرِهِ، أَنَّهُ كَانَ خَادِمًا خَصِيًّا مِنَ الْخُدَّامِ كَانَ يَتَعَشَّقُ بَعْضَ الْجَوَارِي مِنْ خَوَاصِّ الْحَظَايَا اللَّاتِي لَا يَصِلُ مِثْلُهُ إِلَى النَّظَرِ إِلَيْهَا فَكَانَ قَدِ اتَّخَذَ لِحًى مُخْتَلِفَةَ الْأَلْوَانِ فَيَلْبَسُ الْوَاحِدَةَ وَيَتَبَدَّى فِي اللَّيْلِ فِي شَكْلٍ مُزْعِجٍ فَيَنْزَعِجُ الْجَوَارِي وَالْخَدَمُ وَيَثُورُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَيَقْصِدُونَهُ فَيَدْخُلُ فِي بَعْضِ الْعَطَفَاتِ وَيَخْلَعُهَا وَيَجْعَلُهَا فِي كُمِّهِ، ثُمَّ يُظْهِرُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْخَدَمِ الْمُتَطَلِّبِينَ لِكَشْفِ هَذَا الْأَمْرِ وَيَسْأَلُ هَذَا وَهَذَا مَا الْخَبَرُ ؟ وَالسَّيْفُ فِي يَدِهِ فِي صِفَةِ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ رُهِبَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ وَإِذَا اجْتَمَعَ الْجَوَارِي يَتَمَكَّنُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى تِلْكَ الْمَعْشُوقَةِ وَمُلَاحَظَتِهَا وَالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا بِمَا يُرِيدُهُ مِنْهَا، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ إِلَى زَمَنِ الْمُقْتَدِرِ فَبُعِثَ فِي سَرِيَّةٍ إِلَى طَرَسُوسَ فَنَمَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْجَارِيَةُ وَانْكَشَفَ زَيْفُهُ وَمِحَالُهُ وَأَهْلَكَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اضْطَرَبَ الْجَيْشُ عَلَى هَارُونَ
بْنِ خُمَارَوَيْهِ بِمِصْرَ فَأَقَامُوا لَهُ بَعْضَ أُمَرَاءِ أَبِيهِ يُدَبِّرُ
الْأُمُورَ وَيُصْلِحُ الْأَحْوَالَ وَهُوَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبَّا فَبَعَثَ
إِلَى دِمَشْقَ وَكَانَتْ قَدْ مَنَعَتْ بَيْعَةَ جَيْشِ ابْنِ خُمَارَوَيْهِ فِي
مُدَّةِ وِلَايَتِهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ أَبِيهِ وَاضْطَرَبَتْ أَحْوَالُهَا
فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا كَثِيفًا مَعَ بَدْرٍ الْحَمَامِيِّ وَالْحُسَيْنِ
بْنِ أَحْمَدَ الْمَاذَرَائِيِّ فَأَصْلَحَا أَمْرَهَا وَاسْتَعْمَلَا عَلَى
نِيَابَتِهَا طُغْجَ بْنَ جُفٍّ وَرَجَعَا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَالْأُمُورُ مُخْتَلِفَةٌ جِدًّا، وَهَكَذَا يَكُونُ انْقِضَاءُ الدُّوَلِ فِي
أَوَاخِرِهَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا
لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [ الرَّعْدِ: 11 ]
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ الْمُبَارَكِ أَبُو عَمْرٍو الْمُسْتَمْلِي.
الزَّاهِدُ النَّيْسَابُورِيُّ يُلَقَّبُ بِحَمْكَوَيْهِ الْعَابِدِ سَمِعَ
قُتَيْبَةَ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرَهُمْ وَاسْتَمْلَى الزَّاهِدُ
النَّيْسَابُورِيُّ عَلَى الْمَشَايِخِ سِتًّا وَخَمْسِينَ سَنَةً وَكَانَ
فَقِيرًا رَثَّ الْهَيْئَةِ زَاهِدًا دَخَلَ يَوْمًا عَلَى أَبِي عُثْمَانَ
سَعِيدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ التَّذْكِيرَ فَبَكَى أَبُو
عُثْمَانَ، وَقَالَ لِلنَّاسِ: إِنَّمَا أَبْكَانِي رَثَاثَةُ ثِيَابِ رَجُلٍ
كَبِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَا أُجِلُّهُ
عَنْ أَنْ أُسَمِّيَهُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ فَجَعَلَ
النَّاسُ يُلْقُونَ الْخَوَاتِيمَ وَالثِّيَابَ وَالدَّرَاهِمَ حَتَّى اجْتَمَعَ
مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ بَيْنَ يَدَيِ الشَّيْخِ أَبِي عُثْمَانَ فَنَهَضَ
عِنْدَ ذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو الْمُسْتَمْلِي فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَنَا
الَّذِي قَصَدَنِي الشَّيْخُ بِكَلَامِهِ وَلَوْلَا أَنِّي كَرِهْتُ أَنْ يُتَّهَمَ
بِإِثْمٍ لَسَتَرْتُ مَا سَتَرَهُ. فَتَعَجَّبَ الشَّيْخُ مِنْ إِخْلَاصِهِ ثُمَّ
أَخَذَ أَبُو عَمْرٍو ذَلِكَ الْمُجْتَمِعَ مِنَ الْمَالِ بَيْنَ يَدَيِ الشَّيْخِ
فَمَا خَرَجَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ حَتَّى تَصَدَّقَ بِجَمِيعِهِ عَلَى
الْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ.
ابْنِ مَيْمُونِ بْنِ سَعْدٍ أَبُو يَعْقُوبَ الْحَرْبِيُّ سَمِعَ عَفَّانَ
وَأَبَا نُعَيْمٍ وَغَيْرَهُمَا وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ
بِثَلَاثِ سِنِينَ وَلَمَّا تُوُفِّيَ إِسْحَاقُ نُودِيَ لَهُ بِالْبَلَدِ
فَقَصَدَ النَّاسُ دَارَهُ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَاعْتَقَدَ بَعْضُ الْعَامَّةِ
أَنَّهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فَجَعَلُوا يَقْصِدُونَ دَارَهُ، فَيَقُولُ
لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: لَيْسَ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ قَصَدْتُمْ وَغْدًا
تَأْتُونَهُ أَيْضًا. فَمَا عُمِّرَ بَعْدَهُ إِلَّا دُونَ السَّنَةِ، رَحِمَهُمَا
اللَّهُ.
إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو يَعْقُوبَ السَّدُوسِيُّ عُمِّرَ تِسْعِينَ سَنَةً
وَكَانَ ثِقَةً صَالِحًا.
إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ الْفَقِيهُ أَبُو يَعْقُوبَ
الْإِسْفِرَايِينِيُّ
الشَّافِعِيُّ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
الْحَسَنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْهَاشِمِيُّ كَانَتْ إِلَيْهِ
الْحِسْبَةُ بِبَغْدَادَ وَإِمَامَةُ جَامِعِ الرُّصَافَةِ.
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْعَتَّابِيُّ مِنْ وَلَدِ عَتَّابِ بْنِ
أَسِيدٍ بِصْرِيٌ قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ عَنْ أَزْهَرَ السَّمَّانِ وَأَبِي
عَاصِمٍ النَّبِيلِ.
يَزِيدُ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ طَهْمَانَ أَبُو خَالِدٍ الدَّقَّاقُ وَيُعْرَفُ
بِالْبَادَا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ الْبَادِي
لِأَنَّهُ وُلِدَ تَوْأَمًا وَكَانَ هُوَ الْأَوَّلَ فِي الْمِيلَادِ. رَوَى عَنْ
يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ وَكَانَ ثِقَةً صَالِحًا عَالِمًا عَامِلًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ
وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا خَرَجَ صَالِحُ بْنُ مُدْرِكٍ الطَّائِيُّ عَلَى الْحَاجِّ بِالْأَجْفُرِ
فَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَخَدَمَهُمْ، يُقَالُ: إِنَّهُ أَخَذَ
مِنْهُمْ مَا قِيمَتُهُ أَلْفَا أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا يَوْمَ الْأَحَدِ لِعَشَرٍ بَقِينَ مِنْهُ
ارْتَفَعَتْ بِنَوَاحِي الْكُوفَةِ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ جِدًّا ثُمَّ سَقَطَتْ
أَمْطَارٌ بِرُعُودٍ وَبُرُوقٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا وَسَقَطَ فِي بَعْضِ الْقُرَى
مَعَ الْمَطَرِ حِجَارَةٌ بِيضٌ وَسُودٌ وَسَقَطَ بَرَدٌ كِبَارٌ وَزْنُ
الْبَرَدَةِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَاقْتَلَعَتِ الرِّيَاحُ شَيْئًا
كَثِيرًا مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَشْجَارِ مِمَّا حَوْلَدِجْلَةَ وَزَادَتْ
دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً حَتَّى خِيفَ عَلَى بَغْدَادَ مِنَ الْغَرَقِ.
وَفِيهَا غَزَا رَاغِبٌ الْخَادِمُ مَوْلَى الْمُوَفَّقِ بِلَادَ الرُّومِ
فَفَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً وَأَسَرَ ذَرَارِيَّ كَثِيرَةً جِدًّا وَقَتَلَ مِنْ
أَسَارَى الرِّجَالِ الَّذِينَ تَحَصَّلُوا مَعَهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ رَقَبَةٍ
ثُمَّ عَادَ سَالِمًا مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُدَ
الْهَاشِمِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بْنِ الشَّيْخِ صَاحِبُ آمِدَ فَقَامَ بِأَمْرِهَا مِنْ
بَعْدِهِ وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ فَقَصَدَهُ الْمُعْتَضِدُ وَمَعَهُ ابْنُهُ أَبُو
مُحَمَّدٍ عَلِيٌّ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ فَحَاصَرَهُ بِهَا فَخَرَجَ إِلَيْهِ
سَامِعًا مُطِيعًا فَتَسَلَّمَهَا مِنْهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَكْرَمَ أَهْلَهُ
وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا وَلَدَهُ الْمُكْتَفِي ثُمَّ سَارَ
إِلَى قِنِّسْرِينَ وَالْعَوَاصِمِ فَتَسَلَّمَهَا عَنْ كِتَابِ هَارُونَ بْنِ
خُمَارَوَيْهِ وَإِذْنِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ وَمُصَالَحَتِهِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَفِيهَا غَزَا ابْنُ الْإِخْشِيدِ بِأَهْلِ طَرَسُوسَ بِلَادَ الرُّومِ فَفَتَحَ
اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ حُصُونًا كَثِيرَةً وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ بَشِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَيْسَمٍ
أَبُو إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَانَ زَاهِدًا عَابِدًا تَخَرَّجَ بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
وَرَوَى عَنْهُ كَثِيرًا.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ إِمَامٌ مُصَنِّفٌ عَالِمٌ
بِكُلِّ شَيْءٍ بَارِعٌ فِي كُلِّ عِلْمٍ صَدُوقٌ كَانَ يُقَاسُ بِأَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ فِي زُهْدِهِ وَعِلْمِهِ وَوَرَعِهِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: أَجْمَعَ عُقَلَاءُ
كُلِّ أُمَّةٍ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجْرِ مَعَ الْقَدَرِ لَمْ يَتَهَنَّ بِعَيْشِهِ.
وَكَانَ يَقُولُ: الرَّجُلُ الَّذِي يُدْخِلُ غَمَّهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا
يُدْخِلُهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَقَدْ كَانَتْ بِي شَقِيقَةٌ مُنْذُ خَمْسٍ
وَأَرْبَعِينَ سَنَةً مَا أَخْبَرْتُ بِهَا أَحَدًا قَطُّ وَلِيَ عَشْرُ سِنِينَ
أُبْصِرُ بِفَرْدِ عَيْنٍ مَا أَخْبَرْتُ بِهَا أَحَدًا قَطُّ. وَذَكَرَ أَنَّهُ
مَكَثَ نَيِّفًا وَسَبْعِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ مَا يَسْأَلُ أَهْلَهُ غَدَاءً
وَلَا عَشَاءً بَلْ إِنْ جَاءُوهُ بِشَيْءٍ أَكْلَهُ وَإِلَّا طَوَى إِلَى
اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ وَذَكَرَ أَنَّهُ أَنْفَقَ فِي بَعْضِ الرَّمَضَانَاتِ
عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ دِرْهَمًا وَاحِدًا وَأَرْبَعَةَ دَوَانِيقَ
وَنِصْفًا، وَمَا كُنَّا نَعْرِفُ مِنْ هَذِهِ الْطَّبَائِخِ شَيْئًا إِنَّمَا
هُوَ بَاذِنْجَانٌ مَشْوِيٌّ أَوْ بَاقَةُ فِجْلٍ أَوْ نَحْوُ هَذَا.
وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعْتَضِدُ فِي بَعْضِ
الْأَحْيَانِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا وَرَدَّهَا
فَرَجَعَ الرَّسُولُ وَقَالَ: يَقُولُ لَكَ الْخَلِيفَةُ فِرِّقْهَا عَلَى مَنْ
تَعْرِفُ مِنْ فُقَرَاءَ جِيرَانِكَ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ لَمْ نَجْمَعْهُ وَلَا
نُسْأَلُ عَنْ جَمْعِهِ فَلَا نُسْأَلُ عَنْ تَفْرِيقِهِ، قُلْ لِأَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ إِمَّا يَتْرُكُنَا وَإِلَّا نَتَحَوَّلُ مِنْ بَلَدِهِ.
وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَعُودُهُ
فَقَامَتِ ابْنَتُهُ تَشْكُو إِلَيْهِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَهْدِ وَأَنَّهُ
لَا طَعَامَ لَهُمْ إِلَّا الْخَبْزَ الْيَابِسَ بِالْمِلْحِ وَرُبَّمَا عُدِمُوا
الْمِلْحَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، فَقَالَ لَهَا إِبْرَاهِيمُ: يَا بُنَيَّةُ
تَخَافِينَ الْفَقْرَ ؟ انْظُرِي
إِلَى تِلْكَ الزَّاوِيَةِ فَفِيهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ
جُزْءٍ قَدْ كَتَبْتُهَا فِي الْعِلْمِ، فَفِي كُلِّ يَوْمٍ بِيعِي مِنْهَا
جُزْءًا بِدِرْهَمٍ، فَمَنْ عِنْدَهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ
بِفَقِيرٍ.
ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَصَلَّى عَلَيْهِ
يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي عِنْدَ بَابِ الْأَنْبَارِ وَكَانَ الْجَمْعُ
كَثِيرًا جِدًّا.
الْمُبَرِّدُ النَّحْوِيُّ.
مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْأَكْبَرِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَزْدِيُّ
الثُّمَالِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْمِبْرِّدِ النَّحْوِيُّ الْبَصْرِيُّ إِمَامٌ فِي
اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ أَخَذَ ذَلِكَ عَنِ الْمَازِنِيِّ وَأَبِي حَاتِمٍ
السِّجِسْتَانِيِّ وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتَا فِيمَا يَنْقُلُهُ وَكَانَ مُنَاوِئًا
لِثَعْلَبٍ وَلَهُ كِتَابُ " الْكَامِلِ " فِي الْأَدَبِ وَإِنَّمَا
سُمِّيَ بِالْمِبْرِّدِ لِأَنَّهُ اخْتَبَأَ مِنَ الْوَالِي عِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ
تَحْتَ الْمُزَمَّلَةِ.
قَالَ الْمُبَرِّدُ: دَخَلْنَا يَوْمًا عَلَى الْمَجَانِينِ نَزُورُهُمْ أَنَا
وَأَصْحَابٌ مَعِي بِالرَّقَّةِ، فَإِذَا فِيهِمْ شَابٌّ قَرِيبُ الْعَهْدِ
بِالْمَكَانِ عَلَيْهِ ثِيَابٌ نَاعِمَةٌ، فَلَمَّا أَبْصَرَ بِنَا قَالَ:
حَيَّاكُمُ اللَّهُ مِمَّنْ أَنْتُمْ ؟ قُلْنَا: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَقَالَ:
بِأَبِي الْعِرَاقُ وَأَهْلُهَا أَنْشِدُونِي أَوْ أُنْشِدُكُمْ ؟ قَالَ
الْمُبَرِّدُ: فَقُلْتُ: بَلْ أَنْشِدْنَا أَنْتَ. فَقَالَ:
اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّنِي كَمِدٌ لَا أَسْتَطِيعُ أَبُثُّ مَا أَجِدُ
رُوحَانِ لِي رُوحٌ تَضَمَّنَهَا
بَلَدٌ وَأُخْرَى حَازَهَا بَلَدُ وَأَرَى الْمُقِيمَةَ لَيْسَ يَنْفَعُهَا
صَبْرٌ وَلَا يَقْوَى لَهَا جَلَدُ وَأَظُنُّ غَائِبَتِي كَشَاهِدَتِي
بِمَكَانِهَا تَجِدُ الَّذِي أَجِدُ
قَالَ الْمُبَرِّدُ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَظَرِيفٌ فَزِدْنَا مِنْهُ.
فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَمَّا أَنَاخُوا قُبَيْلَ الصُّبْحِ عِيرَهُمُ وَرَحَّلُوهَا فَثَارَتْ
بِالْهَوَى الْإِبِلُ
وَأَبْرَزَتْ مِنْ خِلَالِ السِّجْفِ نَاظِرَهَا تَرْنُو إِلَيَّ وَدَمْعُ
الْعَيْنِ يَنْهَمِلُ
وَوَدَّعَتْ بِبَنَانٍ عَقْدُهُ عَنَمٌ نَادَيْتُ لَا حَمَلَتْ رِجْلَاكَ يَا
جَمَلُ
وَيْلِي مِنَ الْبَيِنِ مَاذَا حَلَّ بِي وَبِهِمْ مِنْ نَازِلِ الْبَيْنِ حَانَ
الْبَيْنُ وَارْتَحَلُوا
يَا رَاحِلَ الْعِيسِ عَجِّلْ كَيْ أُوَدِّعَهُمْ يَا رَاحِلَ الْعِيسِ فِي
تَرْحَالِكَ الْأَجَلُ
إِنِّي عَلَى الْعَهْدِ لَمْ أَنْقُضْ مَوَدَّتَهُمْ فَلَيْتَ شِعْرِي لِطُولِ
الْعَهْدِ مَا فَعَلُوا
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْبُغَضَاءِ الَّذِينَ مَعِي: مَاتُوا، فَقَالَ الشَّابُّ:
إِذًا أَمُوتُ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ، فَتَمَطَّى وَاسْتَنَدَ إِلَى سَارِيَةٍ
عِنْدَهُ وَمَاتَ وَمَا بَرِحْنَا حَتَّى دَفَنَّاهُ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَمَاتَ
الْمُبَرِّدُ وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ
وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَقَعَ تَسَلُّمُ آمِدَ مِنِ ابْنِ الشَّيْخِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ
وَوَصَلَ كِتَابُ هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ مِنْ
مِصْرَ إِلَى الْمُعْتَضِدِ وَهُوَ مُخَيِّمٌ بِآمِدَ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ
قِنِّسْرِينَ وَالْعَوَاصِمَ عَلَى أَنْ يُقِرَّهُ عَلَى إِمْرَةِ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ ثُمَّ تَرَحَّلَ عَنْ آمِدَ قَاصِدًا
الْعِرَاقَ وَأَمَرَ بِهَدْمِ سُورِ آمِدَ فَهَدَمَ الْبَعْضَ وَلَمْ يَقْدِرْ
عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ يُهَنِّئُهُ بِفَتْحِ آمِدَ:
اسْلَمْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَدُمْ فِي غِبْطَةٍ وَلْيَهْنِكَ النَّصْرُ
فَلَرُبَّ حَادِثَةٍ نَهَضْتَ لَهَا
مُتَقَدِّمًا فَتَأَخَّرَ الدَّهْرُ لَيْثٌ فَرَائِسُهُ اللُّيُوثُ فَمَا
يَبْيَضُّ مِنْ دَمِهَا لَهُ ظُفْرُ
وَلَمَّا رَجَعَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بَغْدَادَ جَاءَتْهُ هَدِيَّةُ عَمْرِو بْنِ
اللَّيْثِ مِنْ نَيْسَابُورَ فَكَانَ وُصُولُهَا بَغْدَادَ يَوْمَ الْخَمِيسِ
لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَكَانَ مَبْلَغُهَا مَا قِيمَتُهُ
أَرْبَعَةُ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ خَارِجًا عَنْ دَوَابَّ وَسُرُوجٍ وَغَيْرِ
ذَلِكَ.
وَفِيهَا تَحَارَبَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ وَعَمْرُو بْنُ
اللَّيْثِ وَذَلِكَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ اللَّيْثِ لَمَّا قَتَلَ رَافِعَ بْنَ
هَرْثَمَةَ وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ سَأَلَ مِنْهُ أَنْ يُعْطِيَهُ
مَا وَرَاءَ النَّهْرِ مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ وِلَايَةِ خُرَاسَانَ
فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ
فَانْزَعَجَ لِذَلِكَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ
السَّامَانِيُّ نَائِبُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّكَ قَدْ
وُلِّيتَ دُنْيَا عَرِيضَةً فَاقْتَنِعْ بِهَا عَنْ مَا فِي يَدِي مِنْ هَذِهِ
الْبِلَادِ. فَلَمْ يَقْبَلْ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ
السَّامَانِيُّ فِي جُيُوشٍ عَظِيمَةٍ جِدًّا فَالْتَقَيَا عِنْدَ بَلْخَ فَهُزِمَ
أَصْحَابُ عَمْرٍو وَأُسِرَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ فَلَمَّا جِيءَ بِهِ إِلَى
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ قَامَ إِلَيْهِ وَقَبَّلَ بَيْنِ عَيْنَيْهِ وَغَسَلَ
وَجْهَهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَمَّنَهُ وَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ فِي أَمْرِهِ
وَيَذْكُرُ أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْبِلَادِ قَدْ مَلُّوهُ وَضَجِرُوا مِنْ
وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ فَجَاءَ كِتَابُ الْخَلِيفَةِ بِأَنْ يَتَسَلَّمَ
حَوَاصِلَهُ وَأَمْوَالَهُ فَسَلَبَهُ إِيَّاهَا فَآلَ بِهِ الْحَالُ بَعْدَ أَنْ
كَانَ مَطْبَخُهُ يُحْمَلُ عَلَى سِتِّمِائَةِ جَمَلٍ إِلَى الْقَيْدِ
وَالسِّجْنِ. وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ عَمْرًا كَانَ مَعَهُ خَمْسُونَ أَلْفَ
مُقَاتِلٍ لَمْ يُصَبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا أُسِرَ سِوَاهُ.
ظُهُورُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ رَأْسِ الْقَرَامِطَةِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ
وَلَعَنَهُمْ
وَهْمْ أَخْبَثُ مِنَ الزَّنْجِ وَأَشَدُّ فَسَادًا كَانَ ظُهُورُهُ فِي جُمَادَى
الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِنَوَاحِي الْبَصْرَةِ فَالْتَفَّ عَلَيْهِ
مِنَ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ بِشَرٌ كَثِيرٌ وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ جِدًّا
وَقَتَلَ مَنْ حَوْلَهُ مَنْ أَهْلِ الْقُرَى، ثُمَّ صَارَ إِلَى الْقَطِيفِ
قَرِيبًا مِنَ الْبَصْرَةِ وَرَامَ دُخُولَهَا فَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ
الْمُعْتَضِدُ إِلَى نَائِبِهَا يَأْمُرُهُ بِتَحْصِينِ سُورِهَا فَعَمَّرُوهُ
وَجَدَّدُوا مَعَالِمَهُ بِنَحْوٍ مَنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ دِينَارٍ، فَامْتَنَعَتِ
الْبَصْرَةُ مِنَ الْقَرَامِطَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَتَغَلَّبَ أَبُو سَعِيدٍ
الْجَنَّابِيُّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْقَرَامِطَةِ عَلَى هَجَرَ وَمَا حَوْلَهَا
مِنَ الْبِلَادِ وَأَكْثَرُوا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ.
وَكَانَ أَصْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ هَذَا أَنَّهُ
كَانَ سِمْسَارًا فِي الطَّعَامِ يَبِيعُهُ وَيَحْسِبُ لِلنَّاسِ الْأَثْمَانَ
فَقَدِمَ رَجُلٌ بِهِ يُقَالُ لَهُ يَحْيَى بْنُ الْمَهْدِيِّ فِي سَنَةِ إِحْدَى
وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ فَدَعَا أَهْلَ الْقَطِيفِ إِلَى بَيْعَةِ
الْمَهْدِيِّ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ
حَمْدَانَ الزِّيَادِيُّ وَسَاعَدَهُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْمَهْدِيِّ وَجَمَعَ
الشِّيعَةَ الَّذِينَ كَانُوا بِالْقَطِيفِ فَاسْتَجَابُوا لَهُ، فَكَانَ مِنْ
جُمْلَةِ مَنِ اسْتَجَابَ أَبُو سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ هَذَا - قَبَّحَهُ اللَّهُ
- ثُمَّ تَغَلَّبَ عَلَى أَمْرِهِمْ وَأَظْهَرَ فِيهِمُ الْقَرْمَطَةَ
فَاسْتَجَابُوا لَهُ وَالْتَفُّوا عَلَيْهِ فَتَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ وَصَارَ هُوَ
الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِيهِمْ. وَأَصْلُهُ مِنْ بَلْدَةٍ هُنَاكَ يُقَالُ لَهَا
جَنَّابَةُ وَسَيَأْتِي مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ أَصْحَابِهِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": وَمِنْ عَجَائِبِ مَا
وَقَعَ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - ثُمَّ رَوَى بِسَنَدِهِ - أَنَّ
امْرَأَةً تَقَدَّمَتْ إِلَى قَاضِي الرَّيِّ فَادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا
بِصَدَاقِهَا خَمْسَمِائَةَ دِينَارٍ فَأَنْكَرَهُ الزَّوْجُ فَجَاءَتْ
بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهَا بِهِ، فَقَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تُسْفِرَ لَنَا عَنْ
وَجْهِهَا حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهَا الزَّوْجَةُ أَمْ لَا، فَلَمَّا صَمَّمُوا
عَلَى ذَلِكَ، قَالَ الزَّوْجُ: لَا تَفْعَلُوا هِيَ صَادِقَةٌ فِيمَا تَدَّعِيهِ.
فَأَقَرَّ بِمَا ادَّعَتْ لِيَصُونَ زَوْجَتَهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهَا.
فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: وَإِذْ قَدْ أَرَادَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي حِلٍّ مِنْ
صَدَاقِي عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ الْمَشَاهِيرِ:
أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ فِيمَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا
الذَّهَبِيُّ.
وَقَدْ أَرَّخَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي سَنَةِ سَبْعٍ
وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبَانٍ.
أَبُو يَعْقُوبَ النَّخَعِيُّ الْأَحْمَرُ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الطَّائِفَةُ
الْإِسْحَاقِيَّةُ مِنَ الشِّيعَةِ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ النُّوبَخْتِيِّ
وَالْخَطِيبُ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ يَعْتَقِدُ
إِلَهِيَّةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَى الْحَسَنِ
ثُمَّ الْحُسَيْنِ وَأَنَّهُ كَانَ يَظْهَرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَقَدِ اتَّبَعَهُ
عَلَى هَذَا الْكُفْرِ خَلْقٌ مِنَ الْحَمِيرِ قَبَّحَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُمْ.
وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: الْأَحْمَرُ ; لِأَنَّهُ كَانَ أَبْرَصَ وَكَانَ يَطْلِي
بِرَصَهُ بِمَا يُغَيِّرُ لَوْنَهُ. وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ النُّوبَخْتِيُّ
أَقْوَالًا عَظِيمَةً فِي الْكُفْرِ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَقَدْ رَوَى شَيْئًا مِنَ
الْحِكَايَاتِ وَالْمُلَحِ عَنِ الْمَازِنِيِّ وَطَبَقَتِهِ، وَمِثْلُ هَذَا
أَقَلُّ وَأَذَلُّ مِنْ أَنْ يُرْوَى عَنْهُ.
بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ يَزِيدَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْدَلُسِيُّ
الْحَافِظُ أَحَدُ عُلَمَاءِ الْغَرْبِ لَهُ " التَّفْسِيرُ " وَ "
الْمُسْنَدُ " وَ " السُّنَنُ وَالْآثَارُ " الَّتِي فَضَّلَهَا
ابْنُ حَزْمٍ عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَمُسْنَدِ أَحْمَدَ وَمُصَنَّفِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَفِيمَا زَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ نَظَرٌ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ فَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا وَوَصَفَهُ
بِالْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ رَحِمَهُ
اللَّهُ
وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ بِهَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ
وَسَبْعِينَ سَنَةً
وَالْحُسَيْنُ بْنُ بَشَّارِ بْنِ مُوسَى.
أَبُو عَلِيٍّ الْخَيَّاطُ رَوَى عَنْ أَبِي بِلَالٍ الْأَشْعَرِيِّ وَعَنْهُ
أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ وَكَانَ ثِقَةً رَأَى فِي مَنَامِهِ - وَقَدْ كَانَتْ
بِهِ عِلَّةٌ - قَائِلًا يَقُولُ لَهُ كُلْ لَا وَاشْرَبْ لَا، فَفَسَّرَهُ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ [ النُّورِ:
35 ] فَأَكَلَ زَيْتُونًا وَشَرِبَ زَيْتًا فَبَرَأَ مِنْ عِلَّتِهِ تِلْكَ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو جَعْفَرٍ الْأَنْمَاطِيُّ الْمَعْرُوفُ
بِمُرَبَّعٍ تِلْمِيذُ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ كَانَ ثِقَةً حَافِظًا.
عَبْدُ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ الْمُصَنِّفُ.
وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ
".
مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ بْنِ مُوسَى بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ
عُبَيْدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ كُدَيْمٍ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرَشِيُّ
الْبَصْرِيُّ الْكُدَيْمِيُّ وَهُوَ ابْنُ امْرَأَةِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ وُلِدَ
سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ وَسَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دَاوُدَ
الْخُرَيْبِيَّ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ وَأَبَا دَاوُدَ
الطَّيَالِسِيَّ وَالْأَصْمَعِيَّ وَخَلْقًا، وَعَنْهُ ابْنُ السَّمَّاكِ
وَالنَّجَّادُ وَآخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ
الْقَطِيعِيُّ وَقَدْ كَانَ حَافِظًا مُكْثِرًا مُغْرِبًا، تَكَلَّمَ فِيهِ
النَّاسُ لِإِغْرَابِهِ فِي الرِّوَايَاتِ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي
كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ " بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ.
دُفِنَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ سَنَةٍ وَصَلَّى عَلَيْهِ
يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ.
يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ تَحِيَّةَ أَبُو يُوسُفَ الْوَاسِطِيُّ سَمِعَ مِنْ
يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَقَدِمَ بَغْدَادَ فَحَدَّثَ بِهَا بِأَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ
وَوَعَدَ النَّاسَ أَنْ يُحَدِّثَهُمْ مِنَ الْغَدِ فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ عَنْ
مِائَةٍ وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْوَلِيدُ أَبُو عُبَادَةَ الْبُحْتُرِيُّ فِيمَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا
الذَّهَبِيُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ
وَمِائَتَيْنِ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا تَفَاقَمَ أَمْرُ الْقَرَامِطَةِ صُحْبَةِ أَبِي
سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ فَقَتَلُوا وَسَبَوْا وَأَفْسَدُوا فِي بِلَادِ هَجَرَ
فَجَهَّزَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِمْ جَيْشًا كَثِيفًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ
الْعَبَّاسَ بْنَ عَمْرٍو الْغَنَوِيَّ وَأَمَّرَهُ عَلَى الْيَمَامَةِ
وَالْبَحْرَيْنِ لِيُحَارِبَ أَبَا سَعِيدٍ هَذَا فَالْتَقَوْا هُنَالِكَ،
وَالْعَبَّاسُ فِي عَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، فَأَسَرَهُمْ أَبُو سَعِيدٍ
كُلَّهُمْ، فَنَجَا مِنْ بَيْنِهِمْ كُلِّهِمُ الْأَمِيرُ وَحْدَهُ، وَقُتِلَ
الْبَاقُونَ عَنْ آخِرِهِمْ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي سَعِيدٍ قَبَّحَهُ
اللَّهُ. وَهَذَا عَجِيبٌ جِدًّا وَهُوَ عَكْسُ وَاقِعَةِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ،
فَإِنَّهُ أُسِرَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ وَكَانُوا خَمْسِينَ أَلْفًا،
وَيُقَالُ: إِنَّ الْعَبَّاسَ لَمَّا قَتَلَ أَبُو سَعِيدٍ أَصْحَابَهُ صَبْرًا
بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْعَبَّاسُ يَنْظُرُ، أَقَامَ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ أَيَّامًا ثُمَّ
أَطْلَقَهُ وَحَمَلَهُ عَلَى رَوَاحِلَ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى صَاحِبِكِ
فَأَخْبِرْهُ بِمَا رَأَيْتَ، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ فِي أَوَاخِرِ
شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمَّا وَقَعَ هَذَا انْزَعَجَ النَّاسُ
لِذَلِكَ انْزِعَاجًا عَظِيمًا جِدًّا، وَهَمَّ أَهْلُ الْبَصْرَةِ بِالْجَلَاءِ
مِنْهَا فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ نَائِبُهَا أَحْمَدُ الْوَاثِقِيُّ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا أَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى بِلَادِ طَرَسُوسَ وَكَانَ نَائِبُهَا ابْنُ
الْإِخْشِيدِ قَدْ تُوُفِّيَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي وَاسْتَخْلَفَ
عَلَى الثَّغْرِ أَبَا ثَابِتٍ فَطَمِعَتِ الرُّومُ فِي
تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَحَشَدُوا عَسَاكِرَهُمْ إِلَى هُنَالِكَ، فَالتَقَاهُمْ
أَبُو ثَابِتٍ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُقَاوَمَتِهِمْ فَقَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِهِ
جَمَاعَةً وَأَسَرُوهُ فِيمَنْ أَسَرُوا، فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الثَّغْرِ عَلَى
ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ فَوَلَّوْهُ أَمْرَهُمْ وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ.
وَفِيهَا قُتِلَ:
مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ الْعَلَوِيُّ.
أَمِيرُ طَبَرِسْتَانَ وَالدَّيْلَمِ وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ظَفِرَ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ بِعَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ نَائِبِ
خُرَاسَانَ ظَنَّ مُحَمَّدٌ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ لَا يُجَاوِزُ عَمَلَهُ وَأَنَّ
خُرَاسَانَ قَدْ خَلَتْ لَهُ فَارْتَحَلَ مِنْ بَلَدِهِ يُرِيدُهَا وَسَبَقَهُ
إِلَى خُرَاسَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنِ الْزَمْ
عَمَلَكَ وَلَا تُجَاوِزْهُ إِلَى غَيْرِهِ. فَلَمْ يَقْبَلْ فَبَعَثَ إِلَيْهِ
جَيْشًا مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الَّذِي كَانَ يَنُوبُ عَنْ رَافِعِ بْنِ
هَرْثَمَةَ فَلَمَّا الْتَقَيَا هَرَبَ مِنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ خَدِيعَةً
فَسَارَ الْجَيْشُ وَرَاءَهُ فِي الطَّلَبِ فَكَرَّ عَلَيْهِمْ رَاجِعًا
فَانْهَزَمُوا مِنْهُ فَاحْتَازَ مَا فِي مُعَسْكَرِهِمْ وَجُرِحَ مُحَمَّدُ بْنُ
زَيْدٍ جِرَاحَاتٍ شَدِيدَةً فَمَاتَ بِسَبَبِهَا بَعْدَ أَيَّامٍ وَأُسِرَ
وَلَدُهُ زَيْدٌ فَبُعِثَ بِهِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ فَأَكْرَمَهُ
وَأَنْزَلَهُ بُخَارَى.
وَقَدْ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ هَذَا فَاضِلًا دَيِّنًا حَسَنَ السِّيرَةِ
فِيمَا وَلِيَهُ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ وَكَانَ فِيهِ تَشَيُّعٌ، فَتَقَدَّمَ
إِلَيْهِ يَوْمًا خَصْمَانِ اسْمُ أَحَدِهِمَا مُعَاوِيَةُ وَاسْمُ
الْآخَرِ عَلِيٌّ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ: إِنَّ
الْحُكْمَ بَيْنَكُمَا ظَاهِرٌ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ لَا
تَغْتَرَّنَّ بِنَا فَإِنَّ أَبِي كَانَ مِنْ كِبَارِ الشِّيعَةِ وَإِنَّمَا
سَمَّانِي مُعَاوِيَةَ مُدَارَاةً لِمَنْ بِبَلَدِنَا مِنَ السُّنَّةِ، وَهَذَا
كَانَ أَبُوهُ مِنْ كِبَارِ النَّوَاصِبِ فَسَمَّاهُ عَلِيًّا تُقَاةً لَكُمْ.
فَتَبَسَّمَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ ": وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا
إِسْحَاقُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْعَدَوِيُّ، عَدِيُّ
رَبِيعَةَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى دِيَارِ رَبِيعَةَ مِنَ الْجَزِيرَةِ فَوُلِّيَ
مَكَانَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمُعْتَمِرِ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ صَاحِبُ أَبِي
عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ. وَفَهْدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فَهْدٍ
الْأَزْدِيُّ الْمَوْصِلِيُّ وَكَانَ مِنَ الْأَعْيَانِ وَذَكَرَ هُوَ وَأَبُو
الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ قَطْرَ النَّدَى بِنْتَ خُمَارَوَيْهِ بْنِ
أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ امْرَأَةَ الْمُعْتَضِدِ تُوُفِّيَتْ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ رَجَبٍ مِنْهَا
وَدُفِنَتْ دَاخِلَ قَصْرِ الرُّصَافَةِ.
وَيَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ أَبُو بَكْرٍ الْمُطَّوِّعِيُّ سَمِعَ
أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَعَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ وَعَنْهُ النَّجَّادُ
وَالْخُلْدِيُّ، كَانَ وِرْدُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ قِرَاءَةَ " قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ " إِحْدَى وَثَلَاثِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ أَوْ إِحْدَى
وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ.
قُلْتُ: وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا: أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ صَاحِبُ
السُّنَّةِ
وَالْمُصَنَّفَاتِ وَهُوَ:
أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ الضَّحَّاكِ.
ابْنِ مَخْلَدٍ النَّبِيلِ لَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي الْحَدِيثِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا
كِتَابُ " السُّنَّةِ " فِي أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ
السَّلَفِ وَكَانَ حَافِظًا كَبِيرًا جَلِيلًا، قَدْ وَلِيَ قَضَاءَ أَصْبَهَانَ
بَعْدَ صَالِحِ ابْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَكَانَ قَدْ طَافَ الْبِلَادَ فِي
طَلَبِ الْحَدِيثِ وَصَحِبَ أَبَا تُرَابٍ النَّخْشَبِيَّ وَغَيْرَهُ مِنْ
مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ لَهُ مَرَّةً كَرَامَةٌ هَائِلَةٌ كَانَ
هُوَ وَاثْنَانِ مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ فِي سَفَرٍ فَنَزَلُوا يَوْمًا عَلَى
رَمْلٍ أَبْيَضَ فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا يُقَلِّبُهُ بِيَدِهِ، وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا خَبِيصًا يَكُونُ بِلَوْنِ هَذَا. فَلَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعَ
مِنْ أَنْ أَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ وَبِيَدِهِ قَصْعَةٌ فِيهَا خَبِيصٌ بِلَوْنِ
ذَلِكَ الرَّمْلِ فِي بَيَاضِهِ فَأَكَلُوا مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ
يَقُولُ: لَا أُحِبُّ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسِي مُبْتَدِعٌ وَلَا طَعَّانٌ وَلَا
لَعَّانٌ وَلَا فَاحِشٌ وَلَا بَذِيءٌ وَلَا مُنْحَرِفٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ
وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِأَصْبَهَانَ
وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمَّا انْصَرَفَ
قَالَ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ فَقَالَ: يُؤْنِسُنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ
وَمِائَتَيْنِ
اتَّفَقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَصَائِبُ عَدِيدَةٌ مِنْهَا أَنَّ الرُّومَ
قَصَدُوا بِلَادَ الرَّقَّةِ فِي جَحَافِلَ مِنَ الْبَحْرِ وَالْبَرِّ فَقَتَلُوا
خَلْقًا وَأَسَرُوا نَحْوًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الذُّرِّيَّةِ.
وَمِنْهَا أَنَّ بِلَادَ أَذْرَبِيجَانَ أَصَابَ أَهْلَهَا وَبَاءٌ شَدِيدٌ حَتَّى
لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يَقْدِرُ عَلَى دَفْنِ الْمَوْتَى فَتُرِكُوا فِي الطُّرُقِ
لَا يُوَارَوْنَ عَنِ الْأَبْصَارِ. وَمِنْهَا أَنَّ بِلَادَ أَرْدَبِيلَ
أَصَابَتْهَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ مِنْ بَعْدِ الْعَصْرِ إِلَى ثُلْثِ اللَّيْلِ ثُمَّ
زُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ أَيَّامًا فَتَهَدَّمَتِ
الدُّورُ وَالْمَنَازِلُ وَخُسِفَ بِآخَرِينَ مِنْهُمْ وَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ
مَاتَ تَحْتَ الْهَدْمِ مِائَةَ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَفِيهَا اقْتَرَبَ الْقَرَامِطَةُ مِنَ
الْبَصْرَةِ فَخَافَ أَهْلُهَا خَوْفًا شَدِيدًا وَهَمُّوا بِالرَّحِيلِ مِنْهَا
فَمَنَعَهُمْ وَالِيهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بِشْرُ بْنُ مُوسَى بْنِ صَالِحٍ أَبُو عَلِيٍّ الْأَسَدِيُّ.
وُلِدَ سَنَةَ تِسْعِينَ وَمِائَةٍ
وَسَمِعَ مِنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ حَدِيثًا وَاحِدًا
وَسَمِعَ الْكَثِيرَ مِنْ هَوْذَةَ بْنِ خَلِيفَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ مُوسَى
الْأَشْيَبِ وَأَبِي نُعَيْمٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ وَالْأَصْمَعِيِّ
وَغَيْرِهِمْ. وَعَنْهُ: ابْنُ الْمُنَادِي وَابْنُ مَخْلَدٍ وَابْنُ صَاعِدٍ
وَالنَّجَّادُ وَأَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ وَالْخُلْدِيُّ وَالْخُطَبِيُّ وَأَبُو
بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الصَّوَّافِ وَغَيْرُهُمْ وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا
حَافِظًا وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ وَكَانَ أَحْمَدُ يُكْرِمُهُ.
وَمِنْ شِعْرِهِ:
ضَعُفْتُ وَمَنْ جَازَ الثَّمَانِينَ يَضْعُفُ وَيُنْكَرُ مِنْهُ كُلُّ مَا كَانَ
يُعْرَفُ وَيَمْشِي رُوَيْدًا كَالْأَسِيرِ مُقَيَّدًا
يُدَانِي خُطَاهُ فِي الْحَدِيدِ وَيَرْسُفُ
ثَابِتُ بْنُ قُرَّةَ بْنِ هَارُونَ - وَيُقَالُ: زَهْرُونُ - ابْنُ ثَابِتِ بْنِ
كَرَايَا بْنِ إِبْرَاهِيمَ الصَّابِئِيُّ الْفَيْلَسُوفُ الْحَرَّانَيُّ صَاحِبُ
التَّصَانِيفِ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ حَرَّرَ كِتَابَ إِقْلِيدِسَ الَّذِي
عَرَّبَهُ حُنَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ الْعَبَّادِيُّ، وَكَانَ أَصْلُهُ صَيْرَفِيًّا
بِحَرَّانَ فَتَرَكَ ذَلِكَ وَاشْتَغَلَ بِعِلْمِ الْأَوَائِلِ فَنَالَ مِنْهُ
رُتْبَةً سَامِيَةً عِنْدَ أَهْلِهِ ثُمَّ صَارَ
إِلَى بَغْدَادَ فَعَظُمَ شَأْنُهُ بِهَا وَكَانَ يَدْخُلُ
مَعَ الْمُنَجِّمِينَ عَلَى الْخَلِيفَةِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى دِينِ الصَّابِئَةِ
وَحَفِيدُهُ ثَابِتُ بْنُ سِنَانٍ لَهُ تَارِيخٌ أَجَادَ فِيهِ وَأَحْسَنَ وَكَانَ
بَلِيغًا مَاهِرًا حَاذِقًا بَالِغًا. وَعَمُّهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ
قُرَّةَ كَانَ طَبِيبًا عَارِفًا أَيْضًا. وَقَدْ سَرَدَهُمْ كُلَّهُمْ فِي هَذِهِ
التَّرْجَمَةِ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ.
الْحَسَنُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَهْمِ أَبُو الْحَسَنِ الشِّيعِيُّ مِنْ شِيعَةِ
الْمَنْصُورِ لَا مِنَ الرَّوَافِضِ حَدَّثَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ
وَحَكَى عَنْ بِشَرٍ الْحَافِي وَعَنْهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ وَزِيرُ الْمُعْتَضِدِ كَانَ
حَظِيًّا عِنْدَهُ وَقَدْ عَزَّ عَلَيْهِ وَفَاتُهُ وَتَأَلَّمَ لِفَقْدِهِ
وَأَهَمَّهُ مَنْ يَجْعَلُهُ مِنْ بَعْدِهِ فَعَقَدَ لِوَلَدِهِ الْقَاسِمِ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ الْوِزَارَةَ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ جَبْرًا لِمُصَابِهِ بِهِ.
وَأَبُو الْقَاسِمِ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ بَشَّارٍ الْمَعْرُوفُ
بِالْأَنْمَاطِيِّ أَحَدُ كِبَارِ الشَّافِعِيَّةِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي "
طَبَقَاتِهِمْ ".
وَهَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيسَى أَبُو
مُوسَى الْهَاشِمِيُّ إِمَامُ النَّاسِ فِي الْحَجِّ. سَمِعَ وَحَدَّثَ وَتُوُفِّيَ بِمِصْرَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ
وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا عَاثَتِ الْقَرَامِطَةُ بِسَوَادِ الْكُوفَةِ فَظِفَرَ بَعْضُ الْعُمَّالِ
بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَبَعَثَ بِرَئِيسِهِمْ إِلَى الْمُعْتَضِدِ وَكَانَ يُقَالُ
لَهُ: أَبُو الْفَوَارِسِ، فَنَالَ مِنَ الْعَبَّاسِ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ،
فَأَمَرَ بِهِ فَقُلِعَتْ أَضْرَاسُهُ وَخُلِعَتْ يَدَاهُ ثُمَّ قُطِعَتَا مَعَ
رِجْلَيْهِ ثُمَّ قُتِلَ وَصُلِبَ بِبَغْدَادَ، وَأُشْهِرَ أَمْرُهُ.
وَفِيهَا قَصَدَتِ الْقَرَامِطَةُ دِمَشْقَ فِي جَحْفَلٍ عَظِيمٍ فَقَاتَلَهُمْ
نَائِبُهَا طُغْجُ بْنُ جُفٍّ مِنْ جِهَةِ هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ
فَهَزَمُوهُ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَتَفَاقَمَ الْحَالُ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ
ذَلِكَ بِسِفَارَةِ يَحْيَى بْنِ زَكْرَوَيْهِ بْنِ مَهْرُوَيْهِ الَّذِي ادَّعَى
عِنْدَ الْقَرَامِطَةِ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ كَذَبَ فِي ذَلِكَ، وَزَعَمَ لَهُمْ أَنَّهُ
قَدِ اتَّبَعَهُ عَلَى أَمْرِهِ مِائَةُ أَلْفٍ، وَأَنَّ نَاقَتَهُ مَأْمُورَةٌ
حَيْثُ مَا تَوَجَّهَتْ بِهِ نُصِرَ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَرَاجَ ذَلِكَ
عِنْدَهُمْ وَلَقَّبُوهُ الشَّيْخَ وَاتَّبَعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي الْأَصْبَغِ
وَسُمُّوا بِالْفَاطِمِيِّينَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِمُ الْخَلِيفَةُ جَيْشًا
كَثِيفًا فَهَزَمُوهُ ثُمَّ اجْتَازُوا بِالرُّصَافَةِ فَأَحْرَقُوا جَامِعَهَا
وَلَمْ يَجْتَازُوا بِقَرْيَةٍ إِلَّا انْتَهَبُوهَا وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ
دَأْبَهُمْ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى دِمَشْقَ فَقَاتَلَهُمْ نَائِبُهَا فَهَزَمُوهُ
مَرَّاتٍ وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا وَانْتَهَبُوا مِنْ
أَمْوَالِهَا شَيْئًا كَثِيرًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي هَذِهِ الْحَالِ الشَّدِيدَةِ اتَّفَقَ مَوْتُ
الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ. أَحْسَنَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ الْمُعْتَضِدِ
أَحْمَدُ بْنُ الْأَمِيرِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ الْمُلَقَّبِ بِنَاصِرِ
دِينِ اللَّهِ - وَاسْمُ أَبِي أَحْمَدَ مُحَمَّدٌ، وَقِيلَ: طَلْحَةُ - ابْنُ
جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ بْنِ
هَارُونَ الرَّشِيدِ، أَبُو الْعَبَّاسِ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، الْخَلِيفَةُ
الْمُعْتَضِدُ بِاللَّهِ، وُلِدَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ، وَقِيلَ: ثَلَاثٍ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأُمُّهُ أَمُّ وَلَدٍ، وَكَانَ أَسْمَرَ نَحِيفَ
الْجِسْمِ مُعْتَدِلَ الْقَامَةِ قَدْ وَخَطَهُ الشَّيْبُ، وَفِي مُقَدَّمِ
لِحْيَتِهِ طُولٌ، وَفِي رَأْسِهِ شَامَةٌ بَيْضَاءُ.
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ
بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَاسْتَوْزَرَ
عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ، وَوَلَّى الْقَضَاءَ إِسْمَاعِيلَ
بْنَ إِسْحَاقَ وَيُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ وَابْنَ أَبِي الشَّوَارِبِ وَكَانَ
أَمْرُ الْخِلَافَةِ قَدْ ضَعُفَ فِي أَيَّامِ عَمِّهِ الْمُعْتَمِدِ عَلَى
اللَّهِ، فَلَمَّا وَلِيَ الْمُعْتَضِدُ أَقَامَ شِعَارَهَا وَرَفَعَ مَنَارَهَا
وَشَيَّدَ دَعَائِمَهَا وَحِيطَانَهَا، وَأَطَّدَ أَرْكَانَهَا.
وَكَانَ شُجَاعًا فَاضِلًا مِنْ رِجَالَاتِ قُرَيْشٍ حَزْمًا وَجُرْأَةً وَغَزْوًا
وَعِزًّا وَإِقْدَامًا وَحُرْمَةً، وَكَذَلِكَ كَانَ أَبُوهُ مِنْ قَبْلِهِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ الْمُعْتَضِدَ اجْتَازَ
فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ بِقَرْيَةٍ
فِيهَا مَقْثَأَةٌ فَوَقَفَ صَاحِبُهَا صَائِحًا مُسْتَصْرِخًا بِالْخَلِيفَةِ فَاسْتَدْعَى بِهِ فَسَأَلَهُ عَنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ الْجَيْشِ أَخَذُوا لِي شَيْئًا مِنَ الْقِثَّاءِ وَهُمْ مِنْ غِلْمَانِكَ فَقَالَ: أَتَعْرِفُهُمْ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَعَرَضَهُمْ عَلَيْهِ فَعَرَفَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةً فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِتَقْيِيدِهِمْ وَحَبْسِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ نَظَرَ النَّاسُ ثَلَاثَةَ أَنْفُسٍ مَصْلُوبِينَ عَلَى جَادَّةِ الطَّرِيقِ فَاسْتَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ وَاسْتَنْكَرُوا وَعَابُوا ذَلِكَ عَلَى الْخَلِيفَةِ وَقَالُوا قَتَلَ ثَلَاثَةً بِسَبَبِ قِثَّاءٍ أَخَذُوهُ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ قَلِيلٍ أَمَرَ الْخَوَاصُّ مُسَامِرَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلْيَتَلَطَّفْ فِي مُخَاطَبَتِهِ بِذَلِكَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ فَفَهِمَ الْخَلِيفَةُ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ كَلَامٍ يُرِيدُ أَنْ يُبْدِيَهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَعْرِفُ أَنَّ فِي نَفْسِكَ كَلَامًا فَمَا هُوَ ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَا آمِنٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ لَهُ: فَإِنَّ النَّاسَ يُنْكِرُونَ عَلَيْكَ تَسَرَّعَكَ فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا سَفَكْتُ دَمًا حَرَامًا مُنْذُ وُلِّيتُ الْخِلَافَةَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُلْتُ لَهُ: فَعَلَامَ قَتَلْتَ أَحْمَدَ بْنَ الطَّيِّبِ وَقَدْ كَانَ خَادِمَكَ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ جِنَايَةٌ ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنَّهُ دَعَانِي إِلَى الْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا هَذَا أَنَا ابْنُ عَمِّ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ وَأَنَا مُنْتَصِبٌ فِي مَنْصِبِهِ فَأَكْفُرُ حَتَّى أَكُونَ مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِهِ ؟ فَقَتَلْتُهُ عَلَى الْكُفْرِ وَالزَّنْدَقَةِ. فَقُلْتُ لَهُ: فَمَا بَالُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ قَتَلْتَهُمْ فِي الْقِثَّاءِ ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كَانَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَخَذُوا الْقِثَّاءَ وَإِنَّمَا كَانُوا لُصُوصًا قَدْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ، فَوَجَبَ قَتْلُهُمْ فَبَعَثْتُ فَجِئْتُ بِهِمْ مِنَ السِّجْنِ فَقَتَلْتُهُمْ وَأَرَيْتُ النَّاسَ أَنَّهُمُ الَّذِينَ أَخَذُوا الْقِثَّاءَ وَأَرْدَتُ بِذَلِكَ أَنْ أُرْهِبَ الْجَيْشَ لِئَلَّا يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَتَعَدَّوْا عَلَى
النَّاسِ وَيَكُفُّوا عَنِ الْأَذَى. ثُمَّ أَمَرَ
بِإِخْرَاجِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانَ حَبَسَهُمْ بِسَبَبِ الْقِثَّاءِ
فَأَطْلَقَهُمْ بَعْدَمَا اسْتَتَابَهُمْ وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ وَرَدَّهُمْ إِلَى
أَرْزَاقِهِمُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَخَرَجَ الْمُعْتَضِدُ يَوْمًا فَعَسْكَرَ بِبَابِ
الشَّمَّاسِيَّةِ وَنَهَى أَنْ يَأْخُذَ أَحَدٌ مِنْ بُسْتَانِ أَحَدٍ شَيْئًا
فَأُتِيَ بِأَسْوَدَ قَدْ أَخَذَ عِذْقًا مَنْ بُسْرٍ فَتَأَمَّلَهُ طَوِيلًا
ثُمَّ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: إِنَّ
الْعَامَّةَ يُنْكِرُونَ هَذَا وَيَقُولُونَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ وَلَمْ
يَكْفِهِ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ حَتَّى قَتَلَهُ وَإِنِّي لَمْ أَقْتُلْ هَذَا
عَلَى سَرِقَتِهِ وَإِنَّمَا هَذَا الْأَسْوَدُ لَهُ خَبَرٌ طَرِيفٌ، هَذَا رَجُلٌ
مِنَ الزَّنْجِ كَانَ قَدِ اسْتَأْمَنَ فِي حَيَاةِ أَبِي، وَإِنَّهُ تَقَاوَلَ
هُوَ وَرَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَضَرَبَ الْمُسْلِمَ فَقَطَعَ يَدَهُ فَمَاتَ
الْمُسْلِمُ فَأَهْدَرَ أَبِي دَمَ الرَّجُلِ الْمَقْتُولِ تَأْلِيفًا لِلزَّنْجِ
فَآلَيْتُ عَلَى نَفْسِي لَئِنْ أَنَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ لَأَقْتُلَنَّهُ، فَمَا
وَقَعَتْ عَيْنِي عَلَيْهِ إِلَّا هَذِهِ السَّاعَةَ، فَقَتَلْتُهُ بِذَلِكَ
الرَّجُلِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ الضَّبِّيُّ سَمِعْتُ أَبَا
الْوَلِيدِ حَسَّانَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْفَقِيهَ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا
الْعَبَّاسِ بْنَ سُرَيْجٍ يَقُولُ سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ
الْقَاضِيَ يَقُولُ دَخَلْتُ عَلَى الْمُعْتَضِدِ وَعَلَى رَأْسِهِ أَحْدَاثٌ
رُومٌ صِبَاحُ الْوُجُوهِ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِمْ، فَرَآنِي الْمُعْتَضِدُ وَأَنَا
أَتَأَمَّلُهُمْ، فَلَمَّا أَرَدْتُ الْقِيَامَ أَشَارَ إِلَيَّ فَمَكَثْتُ
سَاعَةً، فَلَمَّا خَلَا
قَالَ لِي: أَيُّهَا الْقَاضِي وَاللَّهِ مَا حَلَلْتُ
سَرَاوِيلِي عَلَى حَرَامٍ قَطُّ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنْ حَسَّانَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ
سُرَيْجٍ عَنِ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: دَخَلْتُ يَوْمًا
عَلَى الْمُعْتَضِدِ فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا قَدْ جُمِعَ
لَهُ فِيهِ الرُّخَصُ مِنْ زَلَلِ الْعُلَمَاءِ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا جَمَعَ هَذَا زِنْدِيقٌ. فَقَالَ: كَيْفَ ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ
مَنْ أَبَاحَ النَّبِيذَ لَمْ يُبِحِ الْمُتْعَةَ، وَمَنْ أَبَاحَ الْغِنَاءَ لَمْ
يُبِحِ النَّبِيذَ، وَمَنْ جَمَعَ زَلَلَ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ بِهَا ذَهَبَ
دِينُهُ. فَأَمَرَ بِتَحْرِيقِ ذَلِكَ الْكِتَابِ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ بِسَنَدِهِ عَنْ صَافِي الْحُرَمِيِّ الْخَادِمِ قَالَ:
انْتَهَى الْمُعْتَضِدُ وَأَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى مَنْزِلِ شَغْبَ وَابْنُهُ
الْمُقْتَدِرُ جَعْفَرٌ جَالِسٌ فِيهِ وَحَوْلَهُ نَحْوٌ مَنْ عَشْرٍ مِنَ
الْوَصَائِفِ وَالصِّبْيَانِ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي سِنِّهِ عِنْدَهُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ
طَبَقٌ مِنْ فِضَّةٍ فِيهِ عُنْقُودُ عِنَبٍ، وَكَانَ الْعِنَبُ إِذْ ذَاكَ
عَزِيزًا جِدًّا، وَهُوَ يَأْكُلُ عِنَبَةً وَاحِدَةً ثُمَّ يُفَرِّقُ عَلَى كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْ جُلَسَائِهِ عِنَبَةً عِنَبَةً، فَتَرَكَهُ الْمُعْتَضِدُ وَجَلَسَ
نَاحِيَةً فِي بَيْتٍ مَهْمُومًا، فَقُلْتُ لَهُ: مَا لَكَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ وَاللَّهِ لَوْلَا النَّارُ وَالْعَارُ
لَأَقْتُلَنَّ هَذَا الْغُلَامَ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِ صَلَاحًا لِلْأُمَّةِ.
فَقُلْتُ: أُعِيذُكَ بِاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الْعَنِ الشَّيْطَانَ.
فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا صَافِي إِنَّ هَذَا الْغُلَامَ فِي غَايَةِ السَّخَاءِ
لِمَا أَرَاهُ يَفْعَلُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَإِنَّ طِبَاعَ الصِّبْيَانِ تَأْبَى
الْكَرَمَ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْكَرَمِ وَإِنَّ النَّاسَ مِنْ بَعْدِي لَا يُوَلُّونَ
عَلَيْهِمْ إِلَّا مَنْ هُوَ مِنْ وَلَدِي فَسَيَلِي عَلَيْهِمُ الْمُكْتَفِي
ثُمَّ
لَا تَطُولُ أَيَّامُهُ لِعِلَّتِهِ الَّتِي بِهِ وَهِيَ
دَاءُ الْخَنَازِيرِ، ثُمَّ يَمُوتُ فَيُوَلَّى عَلَى النَّاسِ جَعْفَرٌ هَذَا،
فَيَصَرِفُ جَمِيعَ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى الْحَظَايَا لِشَغَفِهِ
بِهِنَّ وَقُرْبِ عَهْدِهِ مِنْ تَشَبُّهِهِ بِهِنَّ فَتَضِيعُ أُمُورُ
الْمُسْلِمِينَ وَتُعَطَّلُ الثُّغُورُ وَتَكْثُرُ الْفِتَنُ وَالْهَرْجُ
وَالْخَوَارِجُ وَالشُّرُورُ. قَالَ صَافِي: وَاللَّهِ لَقَدْ شَاهَدْتُ مَا قَالَهُ
سَوَاءً بِسَوَاءٍ.
وَرَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ بَعْضِ خَدَمِ الْمُعْتَضِدِ قَالَ: كَانَ
الْمُعْتَضِدُ يَوْمًا نَائِمًا وَقْتَ الْقَائِلَةِ وَنَحْنُ حَوْلَ سَرِيرِهِ
فَاسْتَيْقَظَ مَذْعُورًا، فَصَرَخَ بِنَا فَجِئْنَا إِلَيْهِ، فَقَالَ:
وَيَحْكُمُ اذْهَبُوا إِلَى دِجْلَةَ فَأَوَّلُ سَفِينَةٍ تَجِدُونَهَا فَارِغَةً
مُنْحَدِرَةً فَأْتُونِي بِمَلَّاحِهَا وَاحْتَفِظُوا بِالسَّفِينَةِ، فَذَهَبْنَا
سِرَاعًا فَوَجَدْنَا مَلَّاحًا فِي سُمَيْرِيَّةٍ فَارِغَةٍ مُنْحَدِرًا
فَأَتَيْنَا بِهِ الْخَلِيفَةَ، فَلَمَّا رَأَى الْمَلَّاحُ الْخَلِيفَةَ كَادَ
يَتْلَفُ، فَصَاحَ بِهِ الْخَلِيفَةُ صَيْحَةً عَظِيمَةً فَكَادَتْ رُوحُ
الْمَلَّاحِ تَخْرُجُ، فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَةُ: وَيْحَكَ يَا مَلْعُونُ
اصْدُقْنِي عَنْ قِصَّتِكَ مَعَ الْمَرْأَةِ الَّتِي قَتَلْتَهَا الْيَوْمَ
وَإِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَكَ. قَالَ: فَتَلَعْثَمَ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كُنْتُ الْيَوْمَ سَحَرًا فِي مَشْرَعَتِيِ
الْفُلَانِيَّةِ، فَنَزَلَتِ امْرَأَةٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ
فَاخِرَةٌ وَحُلِيٌّ كَثِيرٌ وَجَوْهَرٌ، فَطَمِعْتُ فِيهَا وَاحْتَلْتُ عَلَيْهَا
حَتَّى سَدَدْتُ فَاهَا وَغَرَّقْتُهَا وَأَخَذْتُ جَمِيعَ مَا كَانَ عَلَيْهَا
مِنَ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ، وَخَشِيتُ أَنْ أَرْجِعَ بِهِ إِلَى مَنْزِلِي
فَيَشْتَهِرُ خَبَرُهَا، فَأَرَدْتُ الذَّهَابَ إِلَى وَاسِطَ فَلَقِيَنِي
هَؤُلَاءِ الْخَدَمُ فَأَخَذُونِي، فَقَالَ لَهُ: وَأَيْنَ حُلِيُّهَا ؟ فَقَالَ: فِي
صَدْرِ السَّفِينَةِ تَحْتَ الْبَوَارِي. فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ عِنْدَ ذَلِكَ
بِإِحْضَارِ الْحُلِيِّ فَجِيءَ بِهِ فَإِذَا هُوَ حُلِيٌّ كَثِيرٌ يُسَاوِي
أَمْوَالًا كَثِيرَةً، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِتَغْرِيقِ الْمَلَّاحِ فِي
الْمَكَانِ الَّذِي غَرَّقَ فِيهِ الْمَرْأَةَ،
وَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى عَلَى أَهْلِ الْمَرْأَةِ
لِيَحْضُرُوا حَتَّى يَتَسَلَّمُوا مَالَ وَلَيَّتِهِمْ، فَنَادَى بِذَلِكَ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي أَسْوَاقِ بَغْدَادَ وَأَزِقَّتِهَا، فَحَضَرُوا بَعْدَ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ مَا كَانَ مَعَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ مِنَ
الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ، فَقَالَ لَهُ خَدَمُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَيْنَ عَلِمْتَ هَذَا ؟ قَالَ: رَأَيْتُ فِي نَوْمِي تِلْكَ السَّاعَةَ شَيْخًا
أَبْيَضَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَالثِّيَابِ وَهُوَ يُنَادِي يَا أَحْمَدُ يَا
أَحْمَدُ خُذْ أَوَّلَ مَلَّاحٍ يَنْحَدِرُ السَّاعَةَ فَاقْبِضْ عَلَيْهِ
وَقَرِّرْهُ عَنْ خَبَرِ الْمَرْأَةِ الَّتِي قَتَلَهَا الْيَوْمَ وَسَلَبَهَا،
فَأَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَكَانَ مَا شَاهَدْتُمْ.
وَعَنْ خَفِيفٍ السَّمَرْقَنْدِيِّ الْحَاجِبِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ مَوْلَايَ
الْمُعْتَضِدِ فِي بَعْضِ مُتَصَيَّدَاتِهِ وَكَانَ قَدِ انْقَطَعَ عَنِ
الْعَسْكَرِ وَلَيْسَ مَعَهُ غَيْرِي، إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا أَسَدٌ فَقَصَدَ
قَصْدَنَا، فَقَالَ لِيَ الْمُعْتَضِدُ: يَا خَفِيفُ أَفِيكَ خَيْرٌ ؟ قُلْتُ: لَا
وَاللَّهِ يَا مَوْلَايَ. قَالَ: وَلَا أَنْ تُمْسِكَ فَرَسِي وَأَنْزِلُ أَنَا ؟
فَقُلْتُ: بَلَى. قَالَ: فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ فَأَمْسَكْتُهَا، وَغَرَزَ
أَطْرَافَ ثِيَابِهِ فِي مِنْطَقَتِهِ وَاسْتَلَّ سَيْفَهُ وَرَمَى بِقِرَابِهِ
إِلَيَّ، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى الْأَسَدِ فَوَثَبَ الْأَسَدُ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ
الْمُعْتَضِدُ بِالسَّيْفِ فَأَطَارَ يَدَهُ، فَاشْتَغَلَ الْأَسَدُ بِيَدِهِ
فَضَرَبَهُ ثَانِيَةً عَلَى هَامَتِهِ فَفَلَقَهَا، فَخَرَّ الْأَسَدُ صَرِيعًا،
فَدَنَا مِنْهُ فَمَسَحَ سَيْفَهُ فِي صُوفِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيَّ فَأَغْمَدَ
سَيْفَهُ فِي قِرَابِهِ ثُمَّ رَكِبَ فَرَسَهُ ثُمَّ عُدْنَا إِلَى الْعَسْكَرِ،
قَالَ: وَصَحِبْتُهُ إِلَى أَنْ مَاتَ فَوَاللَّهِ مَا سَمِعْتُهُ ذَكَرَ ذَلِكَ
لِأَحَدٍ، فَمَا أَدْرِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَعْجَبُ، مِنْ شَجَاعَتِهِ أَمْ مِنْ
عَدَمِ احْتِفَالِهِ بِذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْهُ لِأَحَدٍ، أَمْ مِنْ عَدَمِ
عَتْبِهِ عَلَيَّ حَيْثُ ضَنِنْتُ بِنَفْسِي عَنْهُ ؟ وَاللَّهِ مَا عَاتَبَنِي
فِي ذَلِكَ قَطُّ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ
النُّورِيِّ أَنَّهُ اجْتَازَ بِزَوْرَقٍ فِيهِ خَمْرٌ مَعَ مَلَّاحٍ فَقَالَ: مَا
هَذِهِ ؟ وَلِمَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ خَمْرٌ لِلْمُعْتَضِدِ، فَصَعِدَ
أَبُو الْحُسَيْنِ إِلَيْهَا فَجَعَلَ يَضْرِبُ الدِّنَانَ بِعَمُودٍ فِي يَدِهِ
حَتَّى كَسَرَهَا كُلَّهَا إِلَّا دَنًّا وَاحِدًا تَرَكَهُ، وَاسْتَغَاثَ
الْمَلَّاحُ فَجَاءَتِ الشُّرْطَةُ فَأَخَذُوا أَبَا الْحُسَيْنِ فَأَوْقَفُوهُ
بَيْنَ يَدِيِ الْمُعْتَضِدِ فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ: مُحْتَسِبٌ.
فَقَالَ: وَمَنْ وَلَّاكَ الْحِسْبَةَ ؟ فَقَالَ: الَّذِي وَلَّاكَ الْخِلَافَةَ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ ثُمَّ رَفَعَهَا، فَقَالَ: مَا
الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ ؟ فَقَالَ: شَفَقَةً عَلَيْكَ لِدَفْعِ
الضَّرَرِ عَنْكَ. فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ ثُمَّ رَفَعَهُ، فَقَالَ: وَلِمَ تَرَكْتَ
مِنَ الدِّنَانِ وَاحِدًا ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَقْدَمْتُ عَلَيْهَا فَكَسَرْتُهَا
إِجْلَالًا لِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ أُبَالِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ
حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى هَذَا الدَّنِّ فَتَخَوَّفْتُ عَلَى نَفْسِي كِبْرًا
عَلَى أَنِّي قَدْ أَقْدَمْتُ عَلَى مِثْلِكَ، فَتَرَكْتُهُ. فَقَالَ لَهُ
الْمُعْتَضِدُ: اذْهَبْ فَقَدْ أَطْلَقْتُ يَدَكَ فَغَيِّرْ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ
تُغَيِّرَهُ مِنَ الْمُنْكَرِ. فَقَالَ لَهُ النُّورِيُّ: الْآنَ نَقَصَ عَزْمِي
عَنِ التَّغْيِيرِ، فَقَالَ: وَلِمَ ؟ فَقَالَ: لِأَنِّي كُنْتُ أُغَيِّرُ عَنِ
اللَّهِ وَأَنَا الْآنَ أُغَيِّرُ عَنْ شُرْطِيٍّ، فَقَالَ: سَلْ حَاجَتَكَ،
فَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ تُخْرِجَنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ سَالِمًا، فَأَمَرَ بِهِ
فَأُخْرِجَ فَصَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَأَقَامَ بِهَا مُخْتَفِيًا خَشْيَةَ أَنْ
يَشُقَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ فِي حَاجَةٍ عِنْدَ الْمُعْتَضِدِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ
الْمُعْتَضِدُ رَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ
الْهَاشِمِيُّ عَنْ شَيْخٍ مِنَ التُّجَّارِ قَالَ: كَانَ لِي عَلَى بَعْضِ الْأُمَرَاءِ
مَالٌ كَثِيرٌ فَمَاطَلَنِي وَمَنَعَنِي حَقِّي
وَجَعَلَ كُلَّمَا جِئْتُ أُطَالِبُهُ حَجَبَنِي عَنْهُ وَيَأْمُرُ غِلْمَانَهُ يُؤْذُونَنِي فَاشْتَكَيْتُ عَلَيْهِ إِلَى الْوَزِيرِ فَلَمْ يُفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا وَإِلَى أَوْلِيَاءِ الْأَمْرِ مِنَ الدَّوْلَةِ فَلَمْ يَقْطَعُوا مِنْهُ شَيْئًا وَمَا زَادَهُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْعًا وَجُحُودًا فَأَيِسْتُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ وَدَخَلَنِي هَمٌّ مِنْ جِهَتِهِ فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ وَأَنَا حَائِرٌ إِلَى مَنْ أَشْتَكِي إِذْ قَالَ لِي رَجُلٌ: أَلَا تَأْتِي فَلَانًا الْخَيَّاطَ إِمَامَ مَسْجِدٍ هُنَاكَ، فَقُلْتُ: وَمَا عَسَى أَنْ يَصْنَعَ خَيَّاطٌ مَعَ هَذَا الظَّالِمِ، وَأَعْيَانُ الدَّوْلَةِ لَمْ يَقْطَعُوا فِيهِ، فَقَالَ لِي: هُوَ أَقْطَعُ وَأَخْوَفُ عِنْدَهُ مِنْ جَمِيعِ مَنِ اشْتَكَيْتَ إِلَيْهِ فَاذْهَبْ إِلَيْهِ لَعَلَّكَ أَنْ تَجِدَ عِنْدَهُ فَرَجًا. قَالَ: فَقَصَدْتُهُ غَيْرَ مُحْتَفِلٍ فِي أَمْرِهِ فَذَكَرْتُ لَهُ حَاجَتِي وَمَا لِيَ وَمَا لَقِيتُ مِنْ هَذَا الظَّالِمِ فَقَامَ مَعِي فَحِينَ عَايَنَهُ الْأَمِيرُ قَامَ إِلَيْهِ وَأَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ وَبَادَرَ إِلَى قَضَاءِ حَقِّي الَّذِي عَلَيْهِ فَأَعْطَانِيهِ كَامِلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ إِلَى الْأَمِيرِ كَبِيرُ أَمْرٍ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: ادْفَعْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ حَقَّهُ وَإِلَّا أَذَّنْتُ. فَتَغَيَّرَ لَوْنُ الْأَمِيرِ وَدَفَعَ إِلِيَّ حَقِّي، قَالَ التَّاجِرُ: فَعَجِبْتُ مِنْ ذَلِكَ الْخَيَّاطِ مَعَ رَثَاثَةِ حَالِهِ وَضِعْفِ بِنْيَتِهِ كَيْفَ انْطَاعَ ذَلِكَ الْأَمِيرُ لَهُ ثُمَّ إِنِّي عَرَضْتُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنِّي شَيْئًا، وَقَالَ: لَوْ أَرَدْتُ هَذَا لَكَانَ لِي مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحْصَى. فَسَأَلْتُهُ عَنْ خَبَرِهِ وَذَكَرْتُ لَهُ تَعَجُّبِي مِنْهُ وَأَلْحَحْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَنَا هَاهُنَا رَجُلٌ تُرْكِيٌّ شَابٌّ حَسَنٌ أَمِيرٌ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ قَدْ خَرَجَتْ مِنَ الْحَمَّامِ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ مُرْتَفِعَةٌ ذَاتُ قِيمَةٍ، فَقَامَ إِلَيْهَا وَهُوَ سَكْرَانٌ فَتَعَلَّقَ بِهَا يُرِيدُهَا عَلَى نَفْسِهَا لِيُدْخِلَهَا مُنْزِلَهُ، وَهِيَ تَأْبَى عَلَيْهِ وَتَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهَا: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنَا امْرَأَةٌ ذَاتُ زَوْجٍ، وَهَذَا الرَّجُلُ يُرِيدُنِي عَلَى نَفْسِي لِيُدْخِلَنِي مَنْزِلَهُ وَقَدْ حَلَفَ زَوْجِي بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا أَبِيتَ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهِ وَمَتَى بَتُّ هَاهُنَا طُلِّقْتُ مِنْهُ وَلَحِقَنِي بِسَبَبِ ذَلِكَ عَارٌ لَا تَدْحَضُهُ الْأَيَّامُ وَلَا تَغْسِلُهُ الْمَدَامِعُ. قَالَ الْخَيَّاطُ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَأَنْكَرْتُ
عَلَيْهِ وَأَرَدْتُ خَلَاصَ الْمَرْأَةِ مِنْ يَدَيْهِ فَضَرَبَنِي بِدَبُّوسٍ فِي يَدِهِ فَشَجَّ رَأْسِي وَغَلَبَ الْمَرْأَةَ عَلَى نَفْسِهَا وَأَدْخَلَهَا مَنْزِلَهُ قَهْرًا فَرَجَعْتُ أَنَا فَغَسَلْتُ الدَّمَ عَنَى وَعَصَبْتُ رَأْسِي وَصَلَّيْتُ بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ، ثُمَّ قُلْتُ لِلْجَمَاعَةِ: إِنَّ هَذَا قَدْ فَعَلَ مَا قَدْ عَلِمْتُمْ فَقُومُوا مَعِي إِلَيْهِ لِنُنْكِرَ عَلَيْهِ وَنُخَلِّصَ الْمَرْأَةَ مِنْهُ فَقَامَ النَّاسُ مَعِي فَهَجَمْنَا عَلَيْهِ دَارَهُ، فَثَارَ إِلَيْنَا فِي جَمَاعَةٍ مِنْ غِلْمَانِهِ بِأَيْدِيهِمُ الْعِصِيُّ وَالدَّبَابِيسُ يَضْرِبُونَ النَّاسَ وَقَصَدَنِي هُوَ مِنْ بَيْنِهِمْ فَضَرَبَنِي ضَرْبًا شَدِيدًا مُبَرِّحًا حَتَّى أَدْمَانِي وَأَخْرَجَنَا مِنْ مَنْزِلِهِ وَنَحْنُ فِي غَايَةِ الْإِهَانَةِ، فَرَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي وَأَنَا لَا أَهْتَدِي إِلَى الطَّرِيقِ مِنْ شِدَّةِ الْوَجَعِ وَكَثْرَةِ الدِّمَاءِ فَنِمْتُ عَلَى فِرَاشِي فَلَمْ يَأْخُذْنِي نَوْمٌ وَتَحَيَّرْتُ مَاذَا أَصْنَعُ حَتَّى أُنْقِذَ الْمَرْأَةَ مِنْ يَدِهِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لِتَرْجِعَ فَتَبِيتَ فِي مَنْزِلِهَا حَتَّى لَا يَقَعَ عَلَى زَوْجِهَا الطَّلَاقُ فَأُلْهِمْتُ أَنْ أُؤَذِّنَ لِلصُّبْحِ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ لِكَيْ يَظُنَّ أَنَّ الصُّبْحَ قَدْ طَلَعَ فَيُخْرِجَهَا مِنْ مَنْزِلِهِ فَتَذْهَبَ إِلَى مَنْزِلِ زَوْجِهَا فَصَعِدْتُ الْمَنَارَةَ وَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى بَابِ دَارِهِ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ عَلَى عَادَتِي قَبْلَ الْأَذَانِ هَلْ أَرَى الْمَرْأَةَ قَدْ خَرَجَتْ ثُمَّ أَذَّنْتُ فَلَمْ تَخْرُجْ ثُمَّ صَمَّمْتُ إِنْ لَمْ تَخْرُجْ أَقَمْتُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الصَّبَاحَ، فَبَيْنَا أَنَا أَنْظُرُ هَلْ تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ أَمْ لَا ؟ إِذِ امْتَلَأَتِ الطَّرِيقُ فُرْسَانًا وَرَجَّالَةً وَهُمْ يَقُولُونَ: أَيْنَ الَّذِي أَذَّنَ هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ فَقُلْتُ: هَأَنَذَا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ يُعِينُونِي عَلَيْهِ، فَقَالَ: انْزِلْ. فَنَزَلَتُ، فَقَالُوا: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَخَذُونِي وَذَهَبُوا بِي لَا أَمْلِكُ مِنْ نَفْسِي شَيْئًا، وَمَا زَالُوا بِي حَتَّى أَدْخَلُونِي عَلَى الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ جَالِسًا فِي مَقَامِ الْخِلَافَةِ ارْتَعَدْتُ مِنَ الْخَوْفِ وَفَزِعْتُ فَزَعًا شَدِيدًا، فَقَالَ: ادْنُ. فَدَنَوْتُ، فَقَالَ لِي: لِيَسْكُنْ رَوْعُكَ وَلِيَهْدَأْ قَلْبُكَ. وَمَا زَالَ يُلَاطِفُنِي حَتَّى اطْمَأْنَنْتُ وَذَهَبَ خَوْفِي، فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي أَذَّنْتَ هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ
عَلَى أَنْ أَذَّنْتَ هَذِهِ السَّاعَةَ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ اللَّيْلِ أَكْثَرُ مِمَّا مَضَى مِنْهُ، فَتَغُرُّ بِذَلِكَ الصَّائِمَ وَالْمُسَافِرَ وَالْمُصَلِّيَ وَغَيْرَهُمْ. فَقُلْتُ: يُؤَمِّنُنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى أَقُصَّ عَلَيْهِ خَبَرِي ؟ فَقَالَ: أَنْتَ آمِنٌ. فَذَكَرْتُ لَهُ الْقِصَّةَ، قَالَ: فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ ذَلِكَ الْأَمِيرِ وَالْمَرْأَةِ مِنْ سَاعَتِهِ عَلَى أَيِّ حَالَةٍ كَانَا، فَأُحْضِرَا سَرِيعًا، فَبَعَثَ بِالْمَرْأَةِ إِلَى زَوْجِهَا مَعَ نِسْوَةٍ مِنْ جِهَتِهِ ثِقَاتٍ، وَمَعَهُنَّ ثِقَةٌ مِنْ جِهَتِهِ أَيْضًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْمُرَ زَوْجَهَا بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهَا وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا، فَإِنَّهَا مُكْرَهَةٌ وَمَعْذُورَةٌ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ذَلِكَ الشَّابِّ الْأَمِيرِ، فَقَالَ لَهُ: كَمْ لَكَ مِنَ الرِّزْقِ ؟ وَكَمْ عِنْدَكَ مِنَ الْمَالِ ؟ وَكَمْ عِنْدَكَ مِنَ الْجَوَارِي وَالزَّوْجَاتِ ؟ فَذَكَرَ لَهُ شَيْئًا كَثِيرًا. فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ أَمَا كَفَاكَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ حَتَّى انْتَهَكْتَ حُرْمَةَ اللَّهِ وَتَعَدَّيْتَ حُدُودَهُ وَتَجَرَّأْتَ عَلَى السُّلْطَانِ وَمَا كَفَاكَ ذَلِكَ حَتَّى عَمِدْتَ إِلَى رَجُلٍ أَمَرَكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَاكَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَضَرَبْتَهُ وَأَهَنْتَهُ وَأَدْمَيْتَهُ. فَلَمْ يَكُنْ لَهُ جَوَابٌ، فَأَمَرَ بِهِ فَجُعِلَ فِي رِجْلِهِ قَيْدٌ وَفِي عُنُقِهِ غُلٌّ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُدْخِلَ فِي جُوَالِقَ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ بِالدَّبَابِيسِ ضَرْبًا شَدِيدًا حَتَّى خَفَتَ صَوْتُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُلْقِي فِي دِجْلَةَ فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بَدْرًا صَاحِبَ الشُّرْطَةِ أَنْ يَحْتَاطَ عَلَى مَا فِي دَارِهِ مِنَ الْحَوَاصِلِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي كَانَ يَتَنَاوَلُهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِغَيْرِ حِلِّهَا، ثُمَّ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ الْخَيَّاطِ: كُلَّمَا رَأَيْتَ مُنْكَرًا صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا وَلَوْ عَلَى هَذَا - وَأَشَارَ إِلَى صَاحِبِ الشُّرْطَةِ - فَأَعْلِمْنِي بِهِ، فَإِنِ اتَّفَقَ اجْتِمَاعُكَ بِي وَإِلَّا فَعَلَامَةُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَنْ تُؤَذِّنَ فِي مِثْلِ وَقْتِ أَذَانِكَ هَذَا. قَالَ: فَبِهَذَا السَّبَبِ لَا آمُرُ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الدَّوْلَةِ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ أَوْ أَنْهَاهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَادَرَ إِلَى امْتِثَالِهِ وَقَبُولِهِ خَوْفًا مِنَ الْمُعْتَضِدِ وَمَا احْتَجْتُ أَنْ أُؤَذِّنَ فِي مِثْلِ تِلْكَ السَّاعَةِ إِلَى الْآنِ.
وَذَكَرَ الْوَزِيرُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ
بْنِ وَهْبٍ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَ الْمُعْتَضِدِ وَخَادِمٌ وَاقِفٌ عَلَى
رَأْسِهِ يَذُبُّ بِمِذَبَّةٍ فِي يَدِهِ إِذْ حَرَّكَهَا فَجَاءَتْ فِي
قَلَنْسُوَةِ الْخَلِيفَةِ فَسَقَطَتْ عَنْ رَأْسِهِ فَأَعْظَمْتُ أَنَا ذَلِكَ
جِدًّا وَخِفْتُ مِنْ هَوْلِ مَا وَقَعَ وَلَمْ يَكْتَرِثِ الْخَلِيفَةُ لِذَلِكَ،
بَلْ أَخَذَ قَلَنْسُوَتَهُ فَوَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ قَالَ لِبَعْضِ
الْخَدَمِ: مُرْ هَذَا الْبَائِسَ فَلْيَذْهَبْ لِرَاحَتِهِ فَإِنَّهُ قَدْ
نَعَسَ، وَزِيدُوا فِي عِدَّةِ مَنْ يَذُبُّ بِالنَّوْبَةِ. قَالَ الْوَزِيرُ:
فَأَخَذْتُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى الْخَلِيفَةِ وَالشُّكْرِ لَهُ عَلَى حِلْمِهِ،
فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْبَائِسَ لَمْ يَتَعَمَّدْ مَا وَقَعَ مِنْهُ وَإِنَّمَا
نَعَسَ وَلَيْسَ الْعِتَابُ وَالْمُعَاتَبَةُ إِلَّا عَلَى الْمُتَعَمِّدِ لَا
عَلَى الْمُخْطِئِ وَالسَّاهِي.
وَقَالَ خَفِيفٌ السَّمَرْقَنْدِيُّ الْحَاجِبُ: لَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ إِلَى
الْمُعْتَضِدِ بِمَوْتِ وَزِيرِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَتَحَقَّقَ
ذَلِكَ خَرَّ سَاجِدًا طَوِيلًا، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ
كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ يَخْدِمُكَ وَيَنْصَحُ لَكَ. فَقَالَ: إِنَّمَا سَجَدْتُ
شُكْرًا لِلَّهِ أَنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ وَلَمْ أُؤْذِهِ، ثُمَّ اسْتَشَارَ
الْحَاضِرِينَ فِيمَنْ يَسْتَوْزِرُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَذَكَرَ هُوَ رَجُلَيْنِ،
أَحَدُهُمَا جَرَادَةُ، وَكَانَ حَازِمَ الرَّأْيِ قَوِيًّا وَالْآخَرُ أَحْمَدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ فَعَدَلَ بِهِ بَدْرٌ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ
عَنْهُمَا، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَسَفَّهَ
رَأْيَهُ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَوَلَّاهُ وَبَعَثَ إِلَيْهِ يُعَزِّيهِ فِي
أَبِيهِ وَيُهَنِّيهِ بِالْوِزَارَةِ، فَمَا لَبِثَ الْقَاسِمُ بْنُ عُبَيْدِ
اللَّهِ حَتَّى وَلِيَ الْمُكْتَفِي الْخِلَافَةَ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ
الْمُعْتَضِدِ حَتَّى قَتَلَ بَدْرًا، وَكَانَ الْمُعْتَضِدُ يَنْظُرُ إِلَى مَا
بَيْنَهُمَا مِنَ الْعَدَاوَةِ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ رَقِيقٍ وَهَذِهِ فِرَاسَةٌ
عَظِيمَةٌ وَتَوَسُّمٌ قَوِيٌّ.
وَقَدْ رُفِعَ يَوْمًا إِلَى الْمُعْتَضِدِ أَنَّ قَوْمًا
يَجْتَمِعُونَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَاسْتَشَارَ وَزِيرَهُ فِي أَمْرِهِمْ،
فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُصْلَبَ بَعْضُهُمْ وَيُحْرَقَ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ:
وَيْحَكَ لَقَدْ بَرَّدْتَ لَهَبَ غَضَبِي عَلَيْهِمْ بِقَسْوَتِكَ هَذِهِ، أَمَا
عَلِمْتَ أَنَّ الرَّعِيَّةَ وَدِيعَةُ اللَّهِ عِنْدَ سُلْطَانِهَا وَأَنَّهُ
سَائِلُهُ عَنْهَا، وَلَمْ يُقَابِلْهُمْ بِمَا قَالَ الْوَزِيرُ فِيهِمْ.
وَلِهَذِهِ النِّيَّةِ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ كَانَ بَيْتُ الْمَالِ صِفْرًا
مِنَ الْمَالِ وَكَانَتِ الْأَحْوَالُ فَاسِدَةً وَالْأَعْرَابُ تَعِيثُ فِي
الْأَرْضِ فَسَادًا فِي كُلِّ جِهَةٍ فَلَمْ يَزَلْ بِرَأْيِهِ وَتَسْدِيدِهِ
حَتَّى كَثُرَتِ الْأَمْوَالُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَصَلَحَتِ الْأَحْوَالُ فِي
سَائِرِ الْأَقَالِيمِ وَالْآفَاقِ وَالْمَحَالِّ.
وَمِنْ شِعْرِهِ فِي جَارِيَةٍ لَهُ تُوُفِّيَتْ فَوَجَدَ عَلَيْهَا وَجْدًا
عَظِيمًا، فَقَالَ:
يَا حَبِيبًا لَمْ يَكُنْ يَعْ دِلُهُ عِنْدِي حَبِيبُ أَنْتَ عَنْ عَيْنِي
بَعِيدٌ
وَمِنَ الْقَلْبِ قَرِيبُ لَيْسَ لِي بَعْدَكَ فِي شَيْ
ءٍ مِنَ اللَّهْوِ نَصِيبُ لَكَ مِنْ قَلْبِي عَلَى قَلْبِي
وَإِنْ بِنْتَ رَقِيبُ وَحَيَاتِي مِنْكَ مُذْ غِبْ
تَ خَيَالٌ مَا يَغِيبُ لَوْ تَرَانِي كَيْفَ لِي بَعْ
دَكَ عَوْلٌ وَنَحِيبُ وَفُؤَادِي حَشْوُهُ مِنْ
حَرْقِ الْحُزْنِ لَهِيبُ
لَتَيَقَّنْتَ بِأَنِّي
بِكَ مَحْزُونٌ كَئِيبُ ما أَرَى نَفْسِي وَإِنْ طَيَّ
بْتُهَا عَنْكَ تَطِيبُ لَيْسَ دَمْعٌ لِيَ يَعْصِي
نِي وَصَبْرِي مَا يُجِيبُ
وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا:
لَمْ أَبْكِ لِلدَّارِ وَلَكِنْ لِمَنْ قَدْ كَانَ فِيهَا مَرَّةً سَاكِنَا
فَخَانَنِي الدَّهْرُ بِفُقْدَانِهِ وَكُنْتُ مِنْ قَبْلُ لَهُ آمِنَا
وَدَّعْتُ صَبْرِي عِنْدَ تَوْدِيعِهِ وَبَانَ قَلْبِي مَعَهُ ظَاعِنَا
وَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْمُعْتَزِّ يُعَزِّيهِ وَيُسَلِّيهِ عَنْ مُصِيبَتِهِ فِيهَا:
يَا إِمَامَ الْهُدَى بِنَا لَا بِكَ الْغَ مُّ وَأَفْنَيْتَنَا وَعِشْتَ سَلِيمًا
أَنْتَ عَلَّمْتَنَا عَلَى النِّعَمِ الشُّكْ رَ وَعِنْدَ الْمَصَائِبِ
التَّسْلِيمَا
فَاسْلُ عَنْ مَا مَضَى فَإِنَّ الَّتِي كَا نَتْ سُرُورًا صَارَتْ ثَوَابًا
عَظِيمَا
قَدْ رَضِينَا بَأَنْ نَمُوتَ وَتَحْيَى إِنَّ عِنْدِي فِي ذَاكَ حَظًّا جَسِيمَا
مَنْ يَمُتْ طَائِعًا لِمَوْلَاهُ فَقَدْ أُعْ طِيَ فَوْزًا وَمَاتَ مَوْتًا
كَرِيمَا
وَاجْتَمَعَ يَوْمًا عِنْدَ الْمُعْتَضِدِ نُدَمَاؤُهُ، فَلَمَّا انْقَضَى
السَّمَرُ وَصَارَ إِلَى حَظَايَاهُ وَنَامَ الْقَوْمُ السُّمَّارُ نَبَّهَهُمْ
مِنْ نَوْمِهُمْ خَادِمٌ مِنْ عِنْدِ الْخَلِيفَةِ، وَقَالَ: يَقُولُ لَكُمْ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ أَصَابَهُ أَرَقٌ مِنْ بَعْدِكُمْ، وَقَدْ عَمِلَ
بَيْتًا أَعْيَاهُ ثَانِيهِ، فَمَنْ
عَمِلَ ثَانِيَهُ فَلَهُ جَائِزَةٌ، وَهُوَ هَذَا
الْبَيْتُ:
وَلَمَّا انْتَبَهْنَا لِلْخَيَالِ الَّذِي سَرَى إِذَا الدَّارُ قَفْرَى
وَالْمَزَارُ بَعِيدُ
قَالَ: فَجَلَسَ الْقَوْمُ مِنْ فُرُشِهِمْ يُفَكِّرُونَ فِي ثَانِيهِ، فَبَدَرَ
وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَقَالَ:
فَقُلْتُ لِعَيْنِي عَاوِدِي النَّوْمَ وَاهْجَعِي لَعَلَّ خَيَالًا طَارِقًا
سَيَعُودُ
قَالَ: فَلَمَّا رَجَعَ بِهِ الْخَادِمُ إِلَى الْمُعْتَضِدِ، وَقَعَ مِنْهُ
مَوْقِعًا جَيِّدًا وَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ سَنِيَّةٍ.
وَاسْتَعْظَمَ الْمُعْتَضِدُ يَوْمًا مِنْ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ قَوْلَ الْحَكَمِ
بْنِ عَمْرٍو الْمَازِنِيِّ الْبَصْرِيِّ:
لَهْفِي عَلَى مَنْ أَطَارَ النَّوْمَ فَامْتَنَعَا وَزَادَ قَلْبِي عَلَى
أَوْجَاعِهِ وَجَعَا
كَأَنَّمَا الشَّمْسُ مِنْ أَعْطَافِهِ طَلَعَتْ حُسْنًا أَوِ الْبَدْرُ مِنْ
أَزْرَارِهِ طَلَعَا
مُسْتَقْبَلٌ بِالَّذِي يَهْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ مِنْهُ الْإِسَاءَةُ مَعْذُورٌ
بِمَا صَنَعَا
فِي وَجْهِهِ شَافِعٌ يَمْحُو إِسَاءَتَهُ مِنَ الْقُلُوبِ وَجِيهٌ حَيْثُمَا
شَفَعَا
وَلَمَّا كَانَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ
تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ - اشْتَدَّ وَجَعُ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَضِدِ
بِاللَّهِ، فَاجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْقُوَّادِ ; مِنْهُمْ يُونُسُ الْخَادِمُ
وَغَيْرُهُ إِلَى الْوَزِيرِ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ
اللَّهِ فَأَشَارُوا بِأَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ لِتَجْدِيدِ الْبَيْعَةِ
لِلْمُكْتَفِي بِاللَّهِ عَلِيِّ بْنِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ
وَتَأَكَّدَتِ الْبَيْعَةُ وَكَانَ فِي ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ.
وَحِينَ حَضَرَتِ الْمُعْتَضِدَ الْوَفَاةُ أَنْشَدَ لِنَفْسِهِ:
تَمَتَّعْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ لَا تَبْقَى وَخُذْ صَفْوَهَا مَا إِنْ
صَفَتْ وَدَعِ الرَّنْقَا
وَلَا تَأْمَنَنَّ الدَّهْرَ إِنِّي أَمِنْتُهُ فَلَمْ يُبْقِ لِي حَالًا وَلَمْ
يَرْعَ لِي حَقًّا
قَتَلْتُ صَنَادِيدَ الرِّجَالِ فَلَمْ أَدَعْ عَدُوًّا وَلَمْ أُمْهِلْ عَلَى
خُلُقٍ خَلْقَا
وَأَخْلَيْتُ دَارَ الْمُلْكِ مِنْ كُلِّ نَازِعٍ فَشَرَّدْتُهُمْ غَرْبًا
وَمَزَّقْتُهُمْ شَنْقَا
فَلَمَّا بَلَغْتُ النَّجْمَ عِزًّا وَرِفْعَةً وَصَارَتْ رِقَابُ الْخَلْقِ
أَجْمَعَ لِي رِقَّا
رَمَانِي الرَّدَى سَهْمًا فَأَخْمَدَ جَمْرَتِي فَهَاأَنَذَا فِي حُفْرَتِي
عَاجِلًا أُلْقَى
وَلَمْ يُغْنِ عَنِّي مَا جَمَعْتُ وَلَمْ أَجِدْ لِذِي مَلِكِ الْأَحْيَاءِ فِي
حِينِهَا رِفْقَا
وَأَفْسَدْتُ دُنْيَايَ وَدِينِي سَفَاهَةً فَمَنْ ذَا الَّذِي مِنِّي
بِمَصْرَعِهِ أَشْقَى
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي بَعْدَ مَوْتِيَ مَا أَلْقَى إِلَى نِعْمَةٍ لِلَّهِ أَمْ
نَارِهِ أُلْقَى
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْإِثْنَيْنِ لِثَمَانٍ بَقِينَ
مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَمْ يَبْلُغِ الْخَمْسِينَ.
فَكَانَتْ خِلَافَتُهُ تِسْعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ
يَوْمًا، وَخَلَّفَ مِنَ الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ، عَلِيًّا الْمُكْتَفِيَ،
وَجَعْفَرًا الْمُقْتَدِرَ، وَهَارُونَ، وَمِنَ الْبَنَاتِ إِحْدَى عَشْرَةَ
بِنْتًا، وَيُقَالُ سَبْعَ عَشْرَةَ بِنْتًا. وَتَرَكَ فِي بَيْتِ
الْمَالِ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ. وَكَانَ
يُمْسِكُ عَنْ صَرْفِ الْأَمْوَالِ فِي غَيْرِ وَجْهِهَا، فَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ
النَّاسِ يُبَخِّلُهُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ
الرَّاشِدِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْحَدِيثِ، الِاثْنَيْ عَشَرَ الْمَنْصُوصِ
عَلَيْهِمْ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَثَى أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ الْعَبَّاسِيُّ
ابْنَ عَمِّهِ، الْمُعْتَضِدَ بِمَرْثَاةٍ حَسَنَةٍ يَقُولُ فِيهَا:
يَا دَهْرُ وَيْحَكَ مَا أَبْقَيْتَ لِي أَحَدًا وَأْنَتَ وَالِدُ سُوءٍ تَأْكُلُ
الْوَلَدَا
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ بَلْ ذَا كُلُّهُ قَدَرٌ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَاحِدًا
صَمَدًا
يَا سَاكِنَ الْقَبْرِ فِي غَبْرَاءَ مِظْلِةٍ بِالظَّاهِرِيَّةِ مُقْصَى الدَّارِ
مُنْفَرِدَا
أَيْنَ الْجُيُوشُ الَّتِي قَدْ كُنْتَ تَسْحَبُهَا أَيْنَ الْكُنُوزُ الَّتِي
أَحْصَيْتَهَا عَدَدَا
أَيْنَ السَّرِيرُ الَّذِي قَدْ كُنْتَ تَمْلَؤُهُ مَهَابَةً مَنْ رَأَتْهُ
عَيْنُهُ ارْتَعَدَا
أَيْنَ الْأَعَادِي الْأُلَى ذَلَّلْتَ صَعْبَهُمُ أَيْنَ اللُّيُوثُ الَّتِي
صَيَّرْتَهَا نَقَدًا
أَيْنَ الْوُفُودُ عَلَى الْأَبْوَابِ عَاكِفَةً وِرْدَ الْقَطَا صَفْوَ مَاءٍ
جَالَ وَاطَّرَدَا
أَيْنَ الرِّجَالُ قِيَامًا فِي مَرَاتِبِهِمْ مَنْ رَاحَ مِنْهُمْ وَلَمْ
يُطْمَرْ فَقَدْ سَعِدَا
أَيْنَ الْجِيَادُ الَّتِي حَجَّلْتَهَا بِدَمٍ وَكُنَّ
يَحْمِلْنَ مِنْكَ الضَّيْغَمَ الْأَسَدَا
أَيْنَ الرِّمَاحُ الَّتِي غَذَّيْتَهَا مُهَجًا مُذْ مِتَّ مَا وَرَدَتْ قَلْبًا
وَلَا كَبِدًا
أَيْنَ السُّيُوفُ وَأَيْنَ النَّبْلُ مُرْسَلَةً يُصِبْنَ مَنْ شِئْتَ مِنْ
قِرْنٍ وَإِنْ بَعُدَا
أَيْنَ الْمَجَانِيقُ أَمْثَالُ الْفِيُولِ إِذَا رَمَيْنَ حَائِطَ حِصْنٍ قَائِمٍ
قَعَدَا
أَيْنَ الْقُصُورُ الَّتِي شَيَّدْتَهَا فَعَلَتْ وَلَاحَ فِيهَا سَنَا
الْإِبْرِيزِ فَاتَّقَدَا
أَيْنَ الْجِنَانُ الَّتِي تَجْرِي جَدَاوِلُهَا وَتَسْتَجِيبُ إِلَيْهَا
الطَّائِرَ الْغَرِدَا
أَيْنَ الْوَصَائِفُ كَالْغِزْلَانِ رَائِحَةً يَسْحَبْنَ مَنْ حُلَلٍ مَوْشِيَّةٍ
جُدُدًا
أَيْنَ الْمَلَاهِي وَأَيْنَ الرَّاحُ تَحْسَبُهَا يَاقُوتَةً كُسِيَتْ مِنْ
فِضَّةٍ زَرَدًا
أَيْنَ الْوُثُوبُ إِلَى الْأَعْدَاءِ مُبْتَغِيًا صَلَاحَ مُلْكِ بَنِي
الْعَبَّاسِ إِذْ فَسَدَا
مَا زِلْتَ تَقْسِرُ مْنِهُمْ كُلَّ قَسْوَرَةٍ وَتَحْطِمُ الْعَاتِيَ الْجَبَّارَ
مُعْتَمِدَا
ثُمَّ انْقَضَيْتَ فَلَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ حَتَّى كَأَنَّكَ يَوْمًا لَمْ تكُنْ
أَحَدَا
لَا شَيْءَ يَبْقَى سُوَى خَيْرٍ تُقَدِّمُهُ مَا دَامَ مُلْكٌ لِإِنْسَانٍ وَلَا
خَلَدَا
ذَكَرَهَا ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ ".
خِلَافَةُ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ أَبِي مُحَمَّدٍ
عَلِيِّ ابْنِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، بُويِعَ لَهُ
بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَلَيْسَ فِي
الْخُلَفَاءِ مَنِ اسْمُهُ عَلِيٌّ سِوَى هَذَا وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدٍ إِلَّا هَذَا، وَالْحَسَنُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْهَادِي وَالْمُسْتَضِيءُ بِأَمْرِ بِاللَّهِ.
وَحِينَ وَلِيَ الْمُكْتَفِي كَثُرَتِ الْفِتَنُ وَانْتَشَرَتْ فِي الْبِلَادِ
وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زَلْزَلَةً عَظِيمَةً جِدًّا وَفِي
رَمَضَانَ تَسَاقَطَ وَقْتَ السَّحَرِ مِنَ السَّمَاءِ نُجُومٌ كَثِيرَةٌ وَلَمْ
يَزَلِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلَمَّا أَفْضَتِ
الْخِلَافَةُ إِلَيْهِ كَانَ بِالرَّقَّةِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْوَزِيرُ
وَأَعْيَانُ الْأُمَرَاءِ فَرَكِبَ فَدَخَلَ بَغْدَادَ فِي يَوْمٍ مَشْهُودٍ
وَذَلِكَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ أَمَرَ بِقَتْلِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ الصَّفَّارِ
وَكَانَ مُعْتَقَلًا فِي سِجْنِ أَبِيهِ وَأَمَرَ بِتَخْرِيبَ الْمَطَامِيرَ
الَّتِي كَانَ اتَّخَذَهَا أَبُوهُ لِلسِّجْنِ وَأَمَرَ بِبِنَاءِ جَامِعٍ
مَكَانَهَا وَخَلَعَ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى الْوَزِيرِ الْقَاسِمِ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ سِتَّ خِلَعٍ وَقَلَّدَهُ سَيْفًا
وَكَانَ عُمُرُهُ يَوْمَ وَلِيَ الْخِلَافَةَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَبَعْضَ
شَهْرٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ انْتَشَرَتِ الْقَرَامِطَةُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُعْتَضِدِ
فِي الْآفَاقِ وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى الْحَجِيجِ وَتَسَمَّى بَعْضُهُمْ
بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَبَعَثَ الْمُكْتَفِي إِلَيْهِمْ جُيُوشًا كَثِيرَةً
وَأَنْفَقَ أَمْوَالًا غَزِيرَةً حَتَّى أَطْفَأَ اللَّهُ بَعْضَ شَرِّهِمْ،
قَبَّحَهُمُ اللَّهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ طَاعَةِ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ وَكَاتَبَهُ أَهْلُ الرَّىِّ بَعْدَ قَتْلِهِ
مُحَمَّدَ بْنَ زَيْدٍ الطَّالِبِيَّ فَصَارَ إِلَيْهِمْ فَسَلَّمُوا
إِلَيْهِ الْبَلَدَ فَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا فَقَصَدَهُ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بِالْجُيُوشِ فَقَهَرَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا
مَذْمُومًا مَدْحُورًا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": وَفِي يَوْمِ
التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا صَلَّى النَّاسُ الْعَصْرَ فِي زَمَنِ
الصَّيْفِ وَعَلَيْهِمْ ثِيَابُ الصَّيْفِ فَهَبَّتْ رِيحٌ بَارِدَةٌ جِدًّا
حَتَّى احْتَاجَ النَّاسُ مَعَ ذَلِكَ إِلَى الِاصْطِلَاءِ بِالنَّارِ وَلَبِسُوا
الْفِرَاءَ والْمَحْشُوَّاتِ وَجَمَدَ الْمَاءُ كَفَصْلِ الشِّتَاءِ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَكَذَا وَقَعَ بِمَدِينَةِ حِمْصَ قَالَ: وَهَبَّتْ
رِيحٌ عَاصِفٌ بِالْبَصْرَةِ فَاقْتَلَعَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ نَخِيلِهَا
وَخُسِفَ بِمَوْضِعٍ مِنْهَا فَمَاتَ تَحْتَهُ سِتَّةُ آلَافِ نَسَمَةٍ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَزُلْزِلَتْ بَغْدَادُ فِي رَجَبٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً ثُمَّ سَكَنَتْ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَحَدُ الصُّوفِيَّةِ الْكِبَارِ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ سَرِيٍّ
السَّقَطِيِّ.
وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُعْتَضِدُ بِاللَّهِ غَلَبَ عَلَيْهِ سُوءُ
الْمِزَاجِ وَالْجَفَافُ لِكَثْرَةِ الْجِمَاعِ وَكَانَ الْأَطِبَّاءُ يَصِفُونَ
لَهُ مَا يُرَطِّبُ بَدَنَهُ لَهُ فَيَسْتَعْمِلُ ضِدَّ ذَلِكَ حَتَّى سَقَطَتْ
قُوَّتُهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ وَفَاتِهِ فِي تَرْجَمَتِهِ آنِفًا.
بَدْرٌ غُلَامُ الْمُعْتَضِدِ وَرَأْسُ الْجَيْشِ
كَانَ الْقَاسِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْوَزِيرُ قَدْ عَزَمَ فِي حَيَاةِ
الْمُعْتَضِدِ عَلَى أَنْ يَصْرِفَ الْخِلَافَةَ عَنْ أَوْلَادِ الْمُعْتَضِدِ
وَفَاوَضَ بِذَلِكَ بَدْرًا هَذَا فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ وَأَبَى إِلَّا
الْبَيْعَةَ لِأَوْلَادِ مَوْلَاهُ، فَلَمَّا وَلِيَ الْمُكْتَفِي خَافَ
الْوَزِيرُ مِنْ غَائِلَةِ مَا كَانَ أَسَرَّ بِهِ إِلَى بَدْرٍ فَعَمِلَ عَلَيْهِ
عِنْدَ الْمُكْتَفِي، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى احْتَاطَ الْخَلِيفَةُ عَلَى
حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ وَهُوَ بِوَاسِطَ ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ بِالْأَمَانِ،
فَقَدِمَ، فَأَمَرَ الْوَزِيرُ مَنْ قَتَلَهُ، فَقُتِلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ثُمَّ قَطَعَ رَأْسَهُ
وَبَقِيَتْ جُثَّتُهُ أَخَذَهَا أَهْلُهُ ثُمَّ بَعَثُوهَا فِي تَابُوتٍ إِلَى
مَكَّةَ فَدُفِنَ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَوْصَى بِذَلِكَ وَكَانَ قَدْ أَعْتَقَ
كُلَّ مَمْلُوكٍ لَهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ، وَحِينَ أُرِيدُ قَتْلُهُ صَلَّى
رَكْعَتَيْنِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَتَلُوهُ.
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ فَهْمِ بْنِ مُحْرِزِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ الْبَغْدَادِيُّ، سَمِعَ خَلَفَ بْنَ
هِشَامٍ وَيَحْيَى بْنَ مَعِينٍ وَمُحَمَّدَ
بْنَ سَعْدٍ وَغَيْرَهُمْ وَعَنْهُ الْخُطَبِيُّ
والطُّومَارِيُّ وَكَانَ عَسِرًا فِي التَّحْدِيثِ إِلَّا لِمَنْ لَازَمَهُ
وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْأَخْبَارِ وَالنَّسَبِ وَالشِّعْرِ
وَأَسْمَاءِ الرِّجَالِ يَمِيلُ إِلَى مَذْهَبِ الْعِرَاقِيِّينَ فِي الْفِقْهِ،
تُوُفِّيَ عَنْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
وَقَدْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
عُمَارَةُ بْنُ وَثِيمَةَ بْنِ مُوسَى أَبُو رِفَاعَةَ الْفَارِسِيُّ صَاحِبُ
التَّارِيخِ عَلَى السِّنِينَ، وُلِدَ بِمِصْرَ وَحَدَّثَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ
كَاتِبِ اللَّيْثِ وَغَيْرِهِ.
عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ الصَّفَّارُ أَحَدُ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ قُتِلَ فِي
السِّجْنِ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمُكْتَفِي بَغْدَادَ.
سَنَةُ تِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ
الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا أَقْبَلَ يَحْيَى بْنُ زَكْرَوَيْهِ بْنِ مَهْرَوَيْهِ أَبُو قَاسِمٍ
الْقِرْمِطِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالشَّيْخِ فِي جَحَافِلَ عَظِيمَةٍ مِنَ
الْقَرَامِطَةِ، فَعَاثَ بِنَاحِيَةِ الرَّقَّةِ فَسَادًا فَجَهَّزَ إِلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ جَيْشًا كَثِيفًا فِي نَحْوِ عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ.
وَفِيهَا رَكِبَ الْخَلِيفَةُ الْمُكْتَفِي مِنْ بَغْدَادَ إِلَى سَامَرَّا
يُرِيدُ الْإِقَامَةَ بِهَا فَثَنَى رَأْيَهُ عَنْ ذَلِكَ الْوَزِيرُ الْقَاسِمُ
بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِيهَا قُتِلَ يَحْيَى بْنُ زَكْرَوَيْهِ بْنِ مَهْرَوَيْهِ عَلَى بَابِ
دِمَشْقَ قَتَلَهُ جَيْشُ الْمِصْرِيِّينَ زَرَقَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمَغَارِبَةِ
بِمِزْرَاقٍ مِنْ نَارٍ فَحَرَقَهُ، وَذَلِكَ بَعْدَمَا كَانَ قَتَلَ خَلْقًا
كَثِيرًا مِنْ جَيْشِهَا مِنْ أَصْحَابِ طُغْجِ بْنِ جُفٍّ نَائِبِهَا، ثُمَّ
مَنَّ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ بِقَتْلِهِ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ
فَرَحًا شَدِيدًا، فَقَامَ بِأَمْرِ الْقَرَامِطَةِ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ
الْحُسَيْنُ، وَتَسَمَّى بِأَحْمَدَ وَتَكَنَّى بِأَبِي الْعَبَّاسِ وَتَلَقَّبَ
بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَطَاعَتْهُ الْقَرَامِطَةُ، كَمَا كَانُوا يُطِيعُونَ
أَخَاهُ، فَحَاصَرَ دِمَشْقَ فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى مَالٍ ثُمَّ سَارَ إِلَى
حِمْصَ فَافْتَتَحَهَا وَخُطِبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِهَا ثُمَّ سَارَ إِلَى
حَمَاةَ وَمَعَرَّةِ النُّعْمَانِ فَقَهَرَ أَهْلَ تِلْكَ النَّوَاحِي
وَاسْتَبَاحَ أَمْوَالَهُمْ وَحَرِيمَهُمْ وَكَانَ يَقْتُلُ الدَّوَابَّ
وَالصِّبْيَانَ فِي الْمَكَاتِبِ وَيُبِيحُ لِمَنْ مَعَهُ وَطْءَ النِّسَاءِ، فَرُبَّمَا
وَطِئَ الْوَاحِدَةَ
الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ مِنَ الرِّجَالِ فَإِذَا
وَلَدَتْ وَلَدًا هَنَأَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْآخَرَ فَكَتَبَ أَهْلُ
الشَّامِ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَشْكُونَ إِلَيْهِ مَا يَلْقُونَ مِنْ هَذَا
اللَّعِينِ فَجَهَّزَ الْمُكْتَفِي جُيُوشًا كَثِيفَةً وَأَنْفَقَ أَمْوَالًا
جَزِيلَةً لِحَرْبِهِ، وَرَكِبَ فِي رَمَضَانَ فَنَزَلَ الرَّقَّةَ وَبَثَّ
الْجُيُوشَ فِي كُلِّ جَانِبٍ لِقِتَالِ الْقِرْمِطِيِّ وَكَانَ الْقِرْمِطِيُّ
يَكْتُبُ إِلَى أَصْحَابِهِ:
مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَهْدِيِّ الْمَنْصُورِ
بِاللَّهِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ الْحَاكِمِ
بِحُكْمِ اللَّهِ الدَّاعِي إِلَى كِتَابِ اللَّهِ الذَّابِّ عَنْ حَرِيمِ اللَّهِ
الْمُخْتَارِ مِنْ وَلَدِ رَسُولِ اللَّهِ. وَكَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ
سُلَالَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ فَاطِمَةَ وَهُوَ كَاذِبٌ أَفَّاكٌ
أَثِيمٌ قَبَّحَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَدَاوَةً
لِقُرَيْشٍ ثُمَّ لِبَنِيِّ هَاشِمٍ، ثُمَّ دَخَلَ سُلَمْيَةَ فَلَمْ يَدَعْ بِهَا
أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ حَتَّى قَتَلَهُ وَقَتَلَ أَوْلَادَهُ وَاسْتَبَاحَ
نِسَاءَهُ.
وَفِيهَا وَلِيَ ثَغْرَ طَرَسُوسَ أَبُو الْعَشَائِرِ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ
عِوَضًا عَنْ مُظَفَّرِ بْنِ حَاجٍّ ; لِشَكْوَى أَهْلِ الثَّغْرِ مِنْهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبَّاسِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّيْبَانِيُّ كَانَ إِمَامًا
ثِقَةً حَافِظًا ثَبْتًا مُكْثِرًا عَنْ أَبِيهِ
وَغَيْرِهِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنَادِي: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَرَوَى عَنْ أَبِيهِ مِنْهُ، سَمِعَ
مِنْهُ " الْمُسْنَدَ " ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَ " التَّفْسِيرَ
" مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، مِنْ ذَلِكَ سَمَاعٌ وَمِنْ
ذَلِكَ وِجَادَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ " النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ " وَ
" الْمُقَدَّمُ وَالْمُؤَخَّرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ " وَ "
التَّارِيخُ " وَ " حَدِيثُ شُعْبَةَ " وَ " جَوَابَاتُ
الْقُرْآنِ " وَ " الْمَنَاسِكُ الْكَبِيرُ " وَ " الصَّغِيرُ
" وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّصَانِيفِ وَحَدِيثُ الشُّيُوخِ.
قَالَ: وَمَا زِلْنَا نَرَى أَكَابِرَ شُيُوخِنَا يَشْهَدُونَ لَهُ بِمَعْرِفَةِ
الرِّجَالِ وَعِلَلِ الْحَدِيثِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى
طَلَبِ الْحَدِيثِ فِي الْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا وَيَذْكُرُونَ عَنْ أَسْلَافِهِمُ
الْإِقْرَارَ لَهُ بِذَلِكَ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ أَسْرَفَ فِي تَقْرِيظِهِ
لَهُ بِالْمَعْرِفَةِ وَزِيَادَةِ السَّمَاعِ لِلْحَدِيثِ عَنْ أَبِيهِ.
وَلَمَّا مَرِضَ قِيلَ لَهُ: أَيْنَ تُدْفَنُ ؟ فَقَالَ: صَحَّ عِنْدِي أَنَّ
بِالْقَطِيعَةِ نَبِيًّا مَدْفُونًا وَلَأَنْ أَكُونَ فِي جِوَارِ نَبِيٍّ أَحَبُّ
إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ فِي جِوَارِ أَبِي. فَمَاتَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً كَمَا مَاتَ لَهَا أَبُوهُ،
وَكَانَ الْجَمْعُ كَثِيرًا جِدًّا، وَصَلَّى عَلَيْهِ
زُهَيْرٌ ابْنُ أَخِيهِ وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ بَابِ التِّبْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الرِّبَاطِيُّ
الْمَرْوَزِيُّ صَحِبَ أَبَا تُرَابٍ النَّخْشَبِيَّ وَكَانَ الْجُنَيْدُ
يَمْدَحُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ. عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ
الْمَعْرُوفُ بِأَبِي الْآذَانِ كَانَ ثِقَةً ثَبْتًا. مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ
بْنِ الْفَرَجِ أَبُو مَيْسَرَةَ الْهَمْدَانِيُّ صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ
"، وَكَانَ أَحَدَ الثِّقَاتِ الْمَشْهُورِينَ وَالْمُصَنِّفِينَ
الْمُنْصِفِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ الزَّقَّاقُ.
أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ وَعُبَّادِهِمْ رَوَى عَنِ الْجُنَيْدِ أَنَّهُ
قَالَ: رَأَيْتُ إِبْلِيسَ فِي الْمَنَامِ وَكَأَنَّهُ عُرْيَانٌ، فَقُلْتُ: أَلَا
تَسْتَحِي مِنَ النَّاسِ ؟ فَقَالَ: هَؤلَاءِ أُنَاسٌ وَأَنَا أَتَلَعَّبُ بِهِمْ
كَمَا يَلْعَبُ الصِّبْيَانُ بِالْكُرَةِ إِنَّمَا النَّاسُ جَمَاعَةٌ غَيْرُ
هَؤُلَاءِ. فَقُلْتُ: مَنْ هُمْ ؟ فَقَالَ: قَوْمٌ فِي مَسْجِدِ
الشُّونِيزِيِّ فَقَدْ أَضْنَوْا قَلْبِي وَأَنْحَلُوا
جَسَدِي كُلَّمَا هَمَمْتُ بِهِمْ أَشَارُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
فَأَكَادُ أَحْتَرِقُ.
قَالَ: فَانْتَبَهْتُ وَلَبِسْتُ ثِيَابِي وَقَصَدْتُ مَسْجِدَ الشُّونِيزِيِّ،
فَإِذَا فِيهِ ثَلَاثَةٌ جُلُوسٌ وَرُءُوسُهُمْ فِي مُرَقَّعَاتِهِمْ، فَرَفَعَ
أَحَدُهُمْ رَأْسَهُ مِنْ جَيْبِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَنْتَ
كُلَّمَا قِيلَ لَكَ شَيْءٌ تُقْبِلُ ؟ فَإِذَا هُمْ أَبُو بَكْرٍ الزَّقَّاقُ،
وَأَبُو الْحُسَيْنِ النُّورِيُّ، وَأَبُو حَمْزَةَ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُلْوِيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ تِلْمِيذُ الْمُزَنِيِّ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ
وَمِائَتَيْنِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَرَتْ وَقْعَةٌ هَائِلَةٌ بَيْنَ الْقَرَامِطَةِ وَجُنْدِ
الْخَلِيفَةِ فَهُزِمَتِ الْقَرَامِطَةُ هَزِيمَةً عَظِيمَةً، وَأَسِرَ
رَئِيسُهُمُ الْحُسَيْنُ بْنُ زَكْرَوَيْهِ، الْمُلَقَّبُ بِأَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ: ذُو الشَّامَةِ، وَقَدْ تَسَمَّى كَمَا
ذَكَرْنَا بِأَحْمَدَ، وَتَكَنَّى بِأَبِي الْعَبَّاسِ، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ
خَلْقٌ مِنَ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ جَدَّا، فَلَمَّا
أُسِرَ حُمِلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ فِي جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ رُءُوسِ
أَصْحَابِهِ، أُدْخِلَ بَغْدَادَ عَلَى فِيلٍ مَشْهُورٍ لِلنَّاسِ، فَأَمَرَ
الْخَلِيفَةُ بِعَمَلِ دَكَّةٍ مُرْتَفِعَةٍ فَأُجْلِسَ عَلَيْهَا الْقِرْمِطِيُّ،
وَجِيءَ بِأَصْحَابِهِ فَجَعَلَ يَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ
يَنْظُرُ، وَقَدْ جَعَلَ فِي فَمِهِ خَشَبَةً مُعْتَرِضَةً مَشْدُودَةً إِلَى
قَفَاهُ ثُمَّ أُنْزِلَ فَضُرِبَ مِائَتَيْ سَوْطٍ ثُمَّ قُطِعَتْ يَدَاهُ
وَرَجْلَاهُ وَكُوِيَ ثُمَّ أُحْرِقَ وَحُمِلَ رَأْسُهُ عَلَى خَشَبَةٍ وَطِيفَ
بِهِ فِي أَرْجَاءِ بَغْدَادَ وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
وَفِيهَا قَصَدَتِ الْأَتْرَاكُ بِلَادَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي جَحَافِلَ
عَظِيمَةٍ فَبَيَّتَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا
وَجَمًّا غَفِيرًا مَا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا [ الْأَحْزَابِ: 25 ].
وَفِيهَا بَعَثَ مِلْكُ الرُّومِ عَشَرَةَ صُلْبَانٍ مَعَ كُلِّ صَلِيبٍ عَشَرَةُ
آلَافٍ فَأَغَارُوا
عَلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا،
وَسَبَوْا أُنَاسًا مِنَ الذُّرِّيَّةِ.
وَفِيهَا دَخَلَ نَائِبُ طَرَسُوسَ بِلَادَ الرُّومِ فَفَتَحَ مَدِينَةَ
أَنْطَاكِيَةَ وَهِيَ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ تُعَادِلُ
عِنْدَهُمُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَخَلَّصَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَمْسَةَ آلَافِ
أَسِيرٍ وَأَخَذَ مِنَ الرُّومِ سِتِّينَ مَرْكَبًا وَغَنِمَ شَيْئًا عَظِيمًا
جِدًّا، فَبَلَغَ نَصِيبُ كُلٍّ مِنَ الْغُزَاةِ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ زَيْدِ بْنِ سَيَّارٍ.
أَبُو الْعَبَّاسِ الشَّيْبَانِيُّ مَوْلَاهُمُ الْمُلَقَّبُ بِثَعْلَبٍ إِمَامُ
الْكُوفِيِّينَ فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ، مَوْلِدُهُ سَنَةَ مِائَتَيْنِ سَمِعَ
مُحَمَّدَ بْنَ زِيَادِ بْنِ الْأَعْرَابِيِّ وَالزُّبَيْرَ بْنَ بَكَّارٍ
وَالْقَوَارِيرِيَّ وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ ابْنُ الْأَنْبَارِي وَابْنُ عَرَفَةَ
وَأَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ، وَكَانَ ثِقَةً حُجَّةً دَيِّنًا صَالِحًا مَشْهُورًا
بِالصِّدْقِ وَالْحِفْظِ وَذُكِرَ أَنَّهُ سَمِعَ مِنَ الْقَوَارِيرِيِّ مِائَةَ
أَلْفِ حَدِيثٍ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ
مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ سَنَةً.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْجَامِعِ
وَفِي يَدِهِ كِتَابٌ يَنْظُرُ فِيهِ وَكَانَ قَدْ أَصَابَهُ صَمَمٌ شَدِيدٌ
فَصَدَمَتْهُ فَرَسٌ فَأَلْقَتْهُ فِي هُوَّةٍ
فَاضْطَرَبَ دِمَاغُهُ فَمَاتَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي
رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ: وَهُوَ مُصَنِّفُ كِتَابِ " الْفَصِيحِ "
وَهُوَ صَغِيرُ الْحَجْمِ كَثِيرُ الْفَائِدَةِ وَلَهُ كِتَابُ " الْمَصُونِ
" وَ " اخْتِلَافُ النَّحْوِيِّينَ " وَ " مَعَانِي
الْقُرْآنِ " وَكِتَابُ " الْقِرَاءَاتِ " وَ " مَعَانِي
الشِّعْرِ " وَ " مَا يَلْحَنُ فِيهِ الْعَامَّةُ " وَذَكَرَ
أَشْيَاءَ كَثِيرَةً أَيْضًا، وَمِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الشِّعْرِ:
إِذَا كُنْتَ قُوتَ النَّفْسِ ثُمَّ هَجَرْتَهَا فَكَمْ تَلْبَثُ النَّفْسُ
الَّتِي أَنْتَ قُوتُهَا سَتَبْقَى بَقَاءَ الضَّبِّ فِي الْمَاءِ أَوْ كَمَا
يَعِيشُ بِبَيْدَاءِ الْمَهَامِهِ حُوتُهَا أَغَرَّكَ مِنِّي أَنْ تَصَبَّرْتُ
جَاهِدًا
وفي النَّفْسِ مِنِّي مِنْكَ مَا سَيُمِيتُهَا فَلَوْ كَانَ مَا بِي بِالصُّخُورِ
لَهَدَّهَا
وَبِالرِّيحِ مَا هَبَّتْ وَطَالَ خُفُوتُهَا فَصَبْرًا لَعَلَّ اللَّهَ يَجْمَعُ
بَيْنَنَا
فَأَشْكُو هُمُومًا مِنْكَ فِيكَ لَقِيتُهَا
الْقَاسِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ الْوَزِيرُ،
تَوَلَّى بَعْدَ أَبِيهِ الْوِزَارَةَ فِي آخِرِ أَيَّامِ الْمُعْتَضِدِ ثُمَّ
وَزَرَ لِوَلَدِهِ الْمُكْتَفِي مِنْ بَعْدِهِ. فَلَمَّا كَانَ رَمَضَانُ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ مَرِضَ فَبَعَثَ إِلَى السُّجُونِ
فَأَطْلَقَ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمَظْلُومِينَ ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ مِنْهَا وَقَدْ قَارَبَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقَدْ كَانَ
حَظِيًّا عِنْدَ الْخَلِيفَةِ جِدًّا، وَخَلَّفَ مِنَ الْأَمْلَاكِ مَا يَعْدِلُ
سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ شَدَّادٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْبَصْرِيُّ الْقَاضِي بِوَاسِطَ الْمَعْرُوفُ بِالْجُذُوعِيِّ.
حَدَّثَ عَنْ مُسَدَّدٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَابْنِ نُمَيْرٍ
وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ الْقُضَاةِ الْأَجْوَادِ الْعُدُولِ
الْأُمَنَاءِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ
الصَّائِغُ، وَقُنْبُلٌ أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْقُرَّاءِ وَأَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ
وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ فِي نَحْوٍ مَنْ عَشَرَةِ آلَافِ
مُقَاتِلٍ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ الْمُكْتَفِي إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
لِقِتَالِ هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ فَبَرَزَ إِلَيْهِ هَارُونُ فَاقْتَتَلَا
فَقَهَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَجَمَعَ آلَ طُولُونَ وَكَانُوا سَبْعَةَ
عَشَرَ رَجُلًا فَقَتَلَهُمْ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَمْلَاكِهِمْ
وَانْقَضَتْ دَوْلَةُ الطُّولُونِيَّةِ عَنِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَكَتَبَ
بِالْفَتْحِ إِلَى الْمُكْتَفِي.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ أَمِيرُ
الْحَاجِّ فِي السِّنِينَ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ.
أَحَدُ الْمَشَايِخِ الْمُعَمَّرِينَ كَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ خَمْسُونَ أَلْفًا
مِمَّنْ مَعَهُ مِحْبَرَةٌ سِوَى النَّظَّارَةِ وَيَسْتَمْلِي عَلَيْهِ سَبْعَةُ
مُسْتَمْلِينَ كَلٌّ يُبَلِّغُ صَاحِبَهُ وَيَكْتُبُ بَعْضُ النَّاسِ وَهُمْ
قِيَامٌ وَكَانَ كُلَّمَا حَدَّثَ بِعَشَرَةِ آلَافِ حَدِيثٍ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ
وَلَمَّا فُرِغَ مِنْ قِرَاءَةِ السُّنَنِ عَلَيْهِ عَمِلَ مَأْدُبَةً غَرِمَ
عَلَيْهَا أَلْفَ دِينَارٍ، وَقَالَ: شَهِدْتُ الْيَوْمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُبِلَتْ شَهَادَتِي وَحْدِي أَفَلَا
أَعْمَلُ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَرَوَى ابْنُ
الْجَوْزِيِّ وَالْخَطِيبُ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ
الْكَجِّيِّ.
قَالَ: خَرَجْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ الْمَنْزِلِ بِلَيْلٍ فَمَرَرْتُ بِحَمَّامٍ
وَعَلَيَّ جَنَابَةٌ فَدَخَلْتُهُ، فَقُلْتُ لِلْحَمَّامِيِّ: أَدَخَلَ حَمَّامَكَ
أَحَدٌ بَعْدُ ؟ فَقَالَ: لَا، فَدَخَلْتُ، فَلَمَّا فَتَحْتُ بَابَ الْحَمَّامِ
الدَّاخِلَ إِذَا قَائِلٌ يَقُولُ: أَبَا مُسْلِمٍ أَسْلِمْ تَسْلَمْ، ثُمَّ
أَنْشَأَ يَقُولُ:
لَكَ الْحَمْدُ إِمَّا عَلَى نِعْمَةٍ وَإِمَّا عَلَى نِقْمَةٍ تَدْفَعُ تَشَاءُ
فَتَفْعَلُ مَا شِئْتَهُ
وَتَسْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَا تُسْمَعُ
قَالَ: فَبَادَرْتُ فَخَرَجْتُ، فَقُلْتُ لِلْحَمَّامِيِّ: أَنْتَ زَعَمْتَ
أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ حَمَّامَكَ أَحَدٌ، فَقَالَ: نَعَمْ وَمَا ذَاكَ ؟
فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ كَذَا.
قَالَ: أَوَسَمِعْتَهُ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: يَا سَيِّدِي هَذَا رَجُلٌ مِنَ
الْجَانِّ يَتَبَدَّى لَنَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، فَيُنْشِدُ الْأَشْعَارَ
وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ حَسَنٍ فِيهِ مَوَاعِظُ، فَقُلْتُ: هَلْ حَفِظْتَ مِنْ
شِعْرِهِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ أَنْشَدَنِي مِنْ شِعْرِهِ:
أَيُّهَا الْمُذْنِبُ الْمُفَرِّطُ مَهْلًا كَمْ تَمَادَى وَتَرْكَبُ الذَّنْبَ
جَهْلًا
كَمْ وَكَمْ تُسْخِطُ الْجَلِيلَ بِفِعْلٍ سَمِجٍ وَهْوَ يُحْسِنُ الصُّنْعَ
فِعْلًا
كَيْفَ تَهْدَا جُفُونُ مَنْ لَيْسَ يَدْرِي أَرَضِيَ عَنْهُ مَنْ عَلَى الْعَرْشِ
أَمْ لَا
عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبُو حَازِمٍ الْقَاضِي الْحَنَفِيُّ
كَانَ مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ وَأَعْيَانِ الْفُقَهَاءِ وَمِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ،
وَرِعًا نَزِهَا كَثِيرَ الصِّيَانَةِ وَالدِّيَانَةِ
وَالْأَمَانَةِ وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " آثَارًا حَسَنَةً وَأَفْعَالًا جَمِيلَةً رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ
وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا الْتَفَّ عَلَى أَخِي الْحُسَيْنِ الْقِرْمِطِيِّ الْمَعْرُوفِ بِذِي
الشَّامَةِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَ مَقْتَلِهِ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ -
خَلَائِقُ مِنَ الْقَرَامِطَةِ وَالْأَعْرَابِ وَاللُّصُوصِ بِطَرِيقِ الْفُرَاتِ
فَعَاثَ بِهِمْ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ثُمَّ قَصَدَ طَبَرِيَّةَ فَامْتَنَعُوا
مِنْ إِيوَائِهِ فَدَخَلَهَا قَهْرًا وَقَتَلَ بِهَا خَلْقًا مِنَ الرِّجَالِ
وَأَخَذَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى
الْبَادِيَةِ وَدَخَلَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ إِلَى هِيتَ فَقَتَلُوا
أَهْلَهَا إِلَّا الْقَلِيلَ وَأَخَذُوا مِنْهَا أَمْوَالًا جَزِيلَةً حَمَلُوهَا
عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ بَعِيرٍ فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الْخَلِيفَةُ الْمُكْتَفِي
جَيْشًا فَقَاتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا رَئِيسَهُمْ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَنَبَغَ
رَجُلٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ يُقَالُ لَهُ الدَّاعِيَةُ بِالْيَمَنِ فَحَاصَرَ
صَنْعَاءَ فَدَخَلَهَا قَهْرًا وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا ثُمَّ سَارَ إِلَى
بَقِيَّةِ مُدُنِ الْيَمَنِ فَأَكْثَرَ فِيهَا الْفَسَادَ وَقَتَلَ خَلْقًا مِنَ
الْعُبَّادِ ثُمَّ قَاتَلَهُ أَهْلُ صَنْعَاءَ فَظَفِرُوا بِهِ وَهَزَمُوهُ
فَانْحَازَ إِلَى بَعْضِ مُدُنِهَا وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهَا الْمُظَفَّرَ
بْنَ حَاجٍّ نَائِبًا وَخَلَعَ عَلَيْهِ، فَسَارَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَزَلْ بِهَا
حَتَّى مَاتَ.
وَفِي يَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى دَخَلَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ نَحْوٌ
مِنْ ثَمَانِمِائَةٍ إِلَى الْكُوفَةِ وَالنَّاسُ فِي عِيدِهِمْ، فَنَادَوْا: يَا
ثَارَاتِ الْحُسَيْنِ، يَعْنُونَ الْمَصْلُوبَ بِبَغْدَادَ، وَشِعَارُهُمْ: يَا
أَحْمَدُ يَا مُحَمَّدُ، يَعْنُونَ الَّذِينَ قُتِلُوا مَعَهُ، فَبَادَرَ النَّاسُ
الدُّخُولَ إِلَى الْكُوفَةِ فَوَلَجَ خَلْفَهُمُ الْقَرَامِطَةُ فَرَمَتْهُمُ
الْعَامَّةُ بِالْحِجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
فَقَتَلُوا مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ، وَرَجَعَ
الْبَاقُونَ خَاسِئِينَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا ظَهَرَ رَجُلٌ بِمِصْرَ يُقَالُ لَهُ الْخَلَنْجِيُّ فَخَلَعَ الطَّاعَةَ
وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْجُنْدِ فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ أَحْمَدَ
بْنَ كَيْغَلَغَ نَائِبَ دِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا فَرَكِبَ إِلَيْهِ فَاقْتَتَلَا
بِظَاهِرِ مِصْرَ فَهَزَمَهُ الْخَلَنْجِيُّ هَزِيمَةً مُنْكَرَةً فَبَعَثَ
الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ جَيْشًا آخَرَ فَهَزَمُوا الْخَلَنْجِيَّ وَهَرَبَ
فَاسْتَتَرَ بِمِصْرَ، فَأُحْضِرَ، وَسُلِّمَ إِلَى الْأَمِيرِ الْخَلِيفَةِ
وَانْطَفَأَ خَبَرُهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَمَّا اشْتَغَلَ الْجَيْشُ بِأَمْرِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعَثَ
زَكْرَوَيْهِ بْنُ مَهْرَوَيْهِ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِهِ الْحُسَيْنِ بِبَغْدَادَ
- جَيْشًا صُحْبَةَ رَجُلٍ كَانَ يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ، يُقَالُ لَهُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، فَقَصَدَ بُصْرَى وَأَذْرِعَاتَ وَالْبَثْنِيَّةَ،
فَحَارَبَهُ أَهْلُهَا، ثُمَّ أَمَّنَهُمْ، فَلَمَّا أَنْ تَمَكَّنَ مِنْهُمْ
قَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ، وَرَامَ الدُّخُولَ إِلَى دِمَشْقَ فَقَاتَلَهُ نَائِبُ
أَحْمَدَ بْنِ كَيْغَلَغَ بِدِمَشْقَ وَهُوَ صَالِحُ بْنُ الْفَضْلِ فَهَزَمَهُ
الْقِرْمِطِيُّ وَقُتِلَ صَالِحٌ فِيمَنْ قُتِلَ وَحَاصَرَ دِمَشْقَ فِلْمْ
يُمْكِنْهُ فَتْحُهَا فَانْصَرَفَ إِلَى طَبَرِيَّةَ فَقَتَلُوا أَكْثَرَ
أَهْلِهَا كَمَا ذَكَرْنَا وَنَهَبُوا مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا، ثُمَّ سَارُوا
إِلَى هِيتَ فَفَعَلُوا كَذَلِكَ، ثُمَّ جَهَّزَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِمْ جَيْشًا
فَأَخَذَ رَئِيسَهُمْ مِنْ بَيْنِهِمْ وَنَجَا بَقِيَّتُهُمْ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى
الْكُوفَةِ فِي يَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى كَمَا ذَكَرْنَا، فَلَمْ يَنْتَجِ لَهُمْ
أَمْرٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِإِشَارَةِ زَكْرَوَيْهِ
بْنِ مَهْرُوَيْهِ وَهُوَ مُخْتَفٍ فِي بَلَدِهِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِ مِنَ
الْقَرَامِطَةِ، إِذَا أُلِحَّ فِي طَلَبِهِ نَزَلَ بِئْرًا قَدِ اتَّخَذَهَا،
وَعَلَى بَابِهِ تَنُّورٌ فَتَقُومُ امْرَأَةٌ تَسْجُرُهُ وَتَخْبِزُ فِيهِ فَلَا
يَشْعُرُ أَحَدٌ بِأَمْرِهِ أَصْلًا، فَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ جَيْشًا
كَثِيفًا فَقَاتَلَهُمْ زَكْرَوَيْهِ بِنَفْسِهِ
وَمَنْ أَطَاعَهُ فَهَزَمَ جَيْشَ الْخَلِيفَةِ وَغَنِمَ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا فَتَقَوَّى بِهِ وَاشْتَدَّ أَمْرُهُ
فَنَدَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيفًا آخَرَ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ
وَأَمْرِهِمْ مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَفِيهَا افْتَتَحَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ نَائِبُ خُرَاسَانَ
وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ طَائِفَةً كَبِيرَةً مِنْ بِلَادِ الْأَتْرَاكِ.
وَفِيهَا أَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى بَعْضِ أَعْمَالِ حَلَبَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْعَبَّاسِ النَّاشِي الشَّاعِرُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُعْتَزِلِيُّ أَصْلُهُ مِنَ
الْأَنْبَارِ وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ مُدَّةً ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مِصْرَ فَمَاتَ
بِهَا وَكَانَ يُعَاكِسُ الشُّعَرَاءَ وَيَرُدُّ عَلَى الْمَنْطِقِيِّينَ
وَالْعَرُوضِيِّينَ وَكَانَ شَاعِرًا مُطْبِقًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فِيهِ هَوَسٌ
وَلَهُ قَصِيدَةٌ حَسَنَةٌ فِي نَسَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي " السِّيرَةِ ".
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ مُتَبَحِّرًا فِي عِدَّةِ عُلُومٍ مِنْ
جُمْلَتِهَا عِلْمُ الْمَنْطِقِ، وَكَانَ ذَكِيًّا فَطِنًا، وَلَهُ قَصِيدَةٌ فِي
فُنُونٍ مِنَ الْعُلُومِ عَلَى رَوِيٍّ وَاحِدٍ تَبْلُغُ أَرْبَعَةَ آلَافِ بَيْتٍ
وَلَهُ عِدَّةُ تَصَانِيفَ جَمِيلَةٌ وَأَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ. قَالَ: وَأَمَّا
النَّاشِي الْأَصْغَرُ فَسَيَأْتِي.
عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ أَبُو مُحَمَّدٍ
الْبَزَّارُ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي ثَوْرٍ، كَانَ عِنْدَهُ
فِقْهُ أَبِي ثَوْرٍ وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ النُّبَلَاءِ.
نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْكِنْدِيُّ
الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِنَصْرَكَ كَانَ أَحَدَ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ
الْمَشْهُورِينَ، وَكَانَ الْأَمِيرُ خَالِدُ بْنُ أَحْمَدَ الذُّهْلِيُّ نَائِبُ
بخُاَرَى قَدْ ضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَصَنَّفَ لَهُ " الْمُسْنَدَ "،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبُخَارَى فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ
وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اعْتَرَضَ زَكْرَوَيْهِ - لَعَنَهُ
اللَّهُ - وَأَصْحَابُهُ الْحُجَّاجَ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَهَمْ قَافِلُونَ
مِنْ مَكَّةَ فَقَتَلَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَسَبَى
نِسَاءَهُمْ فَكَانَ قِيمَةُ مَا أَخَذَهُ مِنْهُمْ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ،
وَعِدَّةُ مَنْ قُتِلَ عِشْرِينَ أَلْفَ إِنْسَانٍ وَكَانَتْ نِسَاءُ
الْقَرَامِطَةِ يَطُفْنَ بَيْنَ الْقَتْلَى مِنَ الْحُجَّاجِ بِالْمَاءِ صِفَةَ
أَنَّهُنَّ يَسْقِينَ الْجَرْحَى فَمَنْ كَلَّمَهُنَّ مِنَ الْجَرْحَى قَتَلْنَهُ
وَأَجْهَزْنَ عَلَيْهِ لَعَنَهُنَّ اللَّهُ وَقَبَّحَ أَزْوَاجَهُنَّ.
ذِكْرُ مَقْتَلِ زَكْرَوَيْهِ لَعَنَهُ اللَّهُ
لَمَّا بَلَغَ الْخَلِيفَةَ خَبَرُ الْحَجِيجِ وَمَا أَوْقَعَ بِهِمُ الْخَبِيثُ
زَكْرَوَيْهِ جَهَّزَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيفًا فَالْتَقَوْا مَعَهُ
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا جِدًّا قُتِلَ مِنَ الْقَرَامِطَةِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْهَا، وَضُرِبَ زَكْرَوَيْهِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - بِالسَّيْفِ فِي
رَأْسِهِ فَوَصَلَتِ الضَّرْبَةُ إِلَى دِمَاغِهِ وَأُخِذَ أَسِيرًا فَمَاتَ
بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ فَفَتَحُوا عَنْ بَطْنِهِ وَصَبَّرُوهُ وَحَمَلُوهُ فِي
جَمَاعَةٍ مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ إِلَى بَغْدَادَ وَاحْتَوَى الْعَسْكَرُ عَلَى
مَا كَانَ بِأَيْدِي الْقَرَامِطَةِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِقَتْلِ
أَصْحَابِ الْقِرْمِطِيِّ وَأَنْ يُطَافَ بِرَأْسِ الْقِرْمِطِيِّ فِي سَائِرِ
بِلَادِ خُرَاسَانَ لِئَلَّا يَمْتَنِعَ النَّاسُ عَنِ الْحَجِّ بِسَبَبِ مَا
وَقَعَ، وَأَطْلَقَ مَنْ كَانَ بِأَيْدِي الْقَرَامِطَةِ مِنَ النِّسَاءِ
وَالصِّبْيَانِ الَّذِينَ أَسَرُوهُمْ.
وَفِيهَا غَزَا أَحْمَدُ بْنُ كَيْغَلَغَ نَائِبُ دِمَشْقَ بِلَادَ الرُّومِ مِنْ
نَاحِيَةِ طَرَسُوسَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ وَأَسَرَ
مِنْ ذَرَارِيهِمْ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَأَسْلَمَ بَعْضُ
الْبَطَارِقَةِ مِنَ الرُّومِ، وَجَاءَ مَعَهُ بِنَحْوٍ مَنْ مِائَتَيْ أَسِيرٍ
كَانُوا فِي حِصْنِهِ، فَأَرْسَلَ مِلْكُ الرُّومِ جَيْشًا فِي طَلَبِهِ، فَرَكِبَ
هُوَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَبَسَ الرُّومَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ
مَقْتَلَةً عَظِيمَةً وَغَنِمَ مِنْهُمْ غَنِيمَةً كَثِيرَةً جِدًّا، وَلَمَّا
قَدِمَ عَلَى الْخَلِيفَةِ أَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مَا
تَمَنَّاهُ.
وَفِيهَا ظَهَرَ بِالشَّامِ رَجُلٌ فَادَّعَى أَنَّهُ السُّفْيَانِيُّ فَأُخِذَ
وَبُعِثَ بِهِ إِلَى بَغْدَادَ فَادَّعَى أَنَّهُ مُوَسْوَسٌ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مَرْوَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْمَعْرُوفُ بِعُبَيْدٍ الْعِجْلِ، كَانَ حَافِظًا
مُكْثِرًا مُتْقِنًا ثِقَةً مُقَدَّمًا فِي حِفْظِ
الْمُسْنَدَاتِ تُوُفِّيَ فِي صِفْرٍ مِنْهَا.
صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَبِيبٍ أَبُو عَلِيٍّ الْأَسَدِيُّ
أَسَدُ خُزَيْمَةَ الْمَعْرُوفُ بِجَزَرَةَ ; لِأَنَّهُ قَرَأَ عَلَى بَعْضِ
الْمَشَايِخِ أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ كَانَتْ لَهُ خَرَزَةٌ يَرْقِي بِهَا
الْمَرِيضَ، فَقَرَأَهَا هُوَ جَزَرَةً تَصْحِيفًا مِنْهُ فَلُقِّبَ بِذَلِكَ
لِذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ حَافِظًا مُكْثِرًا جَوَّالًا رَحَّالًا طَافَ الشَّامَ
وَمِصْرَ وَخُرَاسَانَ وَانْتَقَلَ مِنْ بَغْدَادَ فَسَكَنَ بُخَارَى، وَكَانَ
ثِقَةً صَدُوقًا أَمِينًا وَلَهُ رِوَايَةٌ كَثِيرَةٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ
وَسُؤَالَاتٌ كَثِيرَةٌ، كَانَ مَوْلِدُهُ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ عَشْرٍ
وَمِائَتَيْنِ.
وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْمَعْرُوفُ
بِالْبَيَاضِيِّ لِأَنَّهُ حَضَرَ مَجْلِسَ الْخَلِيفَةِ وَعَلَيْهِ ثِيَابُ
الْبَيَاضِ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: مَنْ ذَاكَ الْبَيَاضِيُّ ؟ فَعُرِفَ بِهِ
وَكَانَ ثِقَةً رَوَى عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنِ مِقْسَمٍ قَتَلَتْهُ
الْقَرَامِطَةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدٌ ابْنُ الْإِمَامِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ سَمِعَ أَبَاهُ وَأَحْمَدَ
بْنَ حَنْبَلٍ وَغَيْرَهُمَا وَكَانَ عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ جَمِيلَ
الطَّرِيقَةِ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ فَحَدَّثَ
بِهَا، وَقَتَلَتْهُ الْقَرَامِطَةُ هَذِهِ السَّنَةَ
فِيمَنْ قَتَلُوا مِنَ الْحَجِيجِ.
مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيُّ.
الْفَقِيهُ، وُلِدَ بِبَغْدَادَ وَنَشَأَ بِنَيْسَابُورَ وَاسْتَوْطَنَ
سَمَرْقَنْدَ وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَحْكَامِ،
وَقَدْ رَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ وَسَمِعَ مِنَ الْمَشَايِخِ الْكَثِيرَ النَّافِعَ
وَصَنَّفَ الْكُتُبَ الْمُفِيدَةَ الْحَافِلَةَ النَّافِعَةَ، وَكَانَ مِنْ
أَحْسَنِ النَّاسِ صَلَاةً وَأَكْثَرِهِمْ فِيهَا خُشُوعًا، وَقَدْ صَنَّفَ
كِتَابًا عَظِيمًا فِي الصَّلَاةِ.
رَوَى عَنْهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مِنْ مِصْرَ
قَاصِدًا مَكَّةَ فَرَكِبْتُ الْبَحْرَ وَمَعِي جَارِيَةٌ فَغَرِقَتِ السَّفِينَةُ
فَذَهَبَ لِي فِي الْمَاءِ أَلْفَا جُزْءٍ وَسَلِمْتُ أَنَا وَالْجَارِيَةُ
فَلَجَأْنَا إِلَى جَزِيرَةٍ فَطَلَبْنَا بِهَا مَاءً فَلَمْ نَجِدْ فَوَضَعْتُ
رَأْسِي عَلَى فَخِذِ الْجَارِيَةِ وَيَئِسْتُ مِنَ الْحَيَاةِ فَبَيْنَا أَنَا
كَذَلِكَ إِذَا رَجُلٌ قَدْ أَقْبَلَ وَفِي يَدِهِ كُوزٌ، فَقَالَ: هَاهَ،
فَأَخَذْتُهُ فَشَرِبْتُ مِنْهُ وَسَقَيْتُ الْجَارِيَةَ ثُمَّ ذَهَبَ فَلَمْ
أَدْرِ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلَ وَلَا إِلَى أَيْنَ ذَهَبَ. وَقَدْ كَانَ مِنْ
أَكْرَمِ النَّاسِ وَأَسْخَاهُمْ نَفْسًا، وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ
يَصِلُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ وَيَصِلُهُ أَخُوهُ إِسْحَاقُ بْنُ
أَحْمَدَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ أَيْضًا، وَيَصِلُهُ أَهْلُ سَمَرْقَنْدَ
بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَيُنْفِقُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَقِيلَ لَهُ: لَوِ ادَّخَرْتَ
شَيْئًا لِنَائِبَةٍ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَنَا كُنْتُ بِمِصْرَ أُنْفِقُ
فِي كُلِّ سَنَةٍ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، فَرَأَيْتُ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ لِي شَيْءٌ
مِنْ هَذَا لَا يَتَهَيَّأُ لِي فِي السَّنَةِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا. وَكَانَ
مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ إِذَا دَخَلَ عَلَى
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ يَنْهَضُ لَهُ
وَيُكْرِمُهُ فَعَاتَبَهُ يَوْمًا أَخُوهُ إِسْحَاقُ، فَقَالَ لَهُ: تَقُومُ
لِرَجُلٍ فِي مَجْلِسِ حُكْمِكَ وَأَنْتَ مَلِكُ خُرَاسَانَ.
قَالَ إِسْمَاعِيلُ: فَبِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَأَنَا مُشَتَّتُ الْقَلْبِ،
فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ
يَقُولُ: " يَا إِسْمَاعِيلُ ثَبِّتْ مُلْكَكَ وَمُلْكَ بَنِيكَ
بِتَعْظِيمِكَ مُحَمَّدَ بْنَ نَصْرٍ وَذَهَبَ مُلْكُ أَخِيكَ بِاسْتِخْفَافِهِ
بِمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ ".
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ
نَصْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَجَلَسُوا فِي
بَيْتٍ يَكْتُبُونَ الْحَدِيثَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ
شَيْءٌ يَقْتَاتُونَهُ فَاقْتَرَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ مَنْ يَسْعَى لَهُمْ فِي
شَيْءٍ يَأْكُلُونَهُ، لِيَدْفَعُوا عَنْهُمْ ضَرُورَتَهُمْ فَجَاءَتِ الْقُرْعَةُ
عَلَى أَحَدِهِمْ، فَنَهَضَ إِلَى الصَّلَاةِ فَجَعَلَ يُصَلِّي وَيَدْعُو اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ وَقْتَ الْقَيْلُولَةِ، فَرَأَى نَائِبُ مِصْرَ -
وَأَظُنُّهُ أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ - فِي مَنَامِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: " أَنْتَ
هَاهُنَا وَالْمُحَمَّدُونَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ يَقْتَاتُونَهُ "
فَانْتَبَهَ الْأَمِيرُ مِنْ مَنَامِهِ فَسَأَلَ: مَنْ
هَاهُنَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ ؟ فَذُكِرَ لَهُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِمْ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَدَخَلَ بِهَا
عَلَيْهِمْ وَأَزَالَ اللَّهُ ضَرُورَتَهُمْ وَيَسَّرَ لَهُمْ.
وَقَدْ بَلَغَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ سِنًّا عَالِيَةً وَكَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ
وَلَدًا فَأَتَاهُ يَوْمًا إِنْسَانٌ فَبَشَّرَهُ بِوَلَدٍ ذَكَرٍ قَدْ وُلِدَ
لَهُ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ [ إِبْرَاهِيمَ: 39 ]
فَاسْتَفَادَ الْحَاضِرُونَ مِنْ ذَلِكَ فَوَائِدَ، مِنْهَا أَنَّهُ قَدْ وُلِدَ
لَهُ عَلَى كِبَرِ السِّنِّ وَلَدٌ ذَكَرٌ بَعْدَمَا كَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ فِي
ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّهُ سَمَّاهُ يَوْمَ مَوْلِدِهِ كَمَا سَمَّى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَدَهُ إِبْرَاهِيمَ قَبْلَ
السَّابِعِ، وَمِنْهَا اقْتِدَاؤُهُ بِالْخَلِيلِ فِي تَسْمِيَتِهِ أَوَّلَ وَلَدٍ
لَهُ إِسْمَاعِيلَ.
مُوسَى بْنُ هَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عِمْرَانَ الْمَعْرُوفُ وَالِدُهُ
بِالْحَمَّالِ.
وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ وَسَمِعَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ
وَيَحْيَى بْنَ مَعِينٍ وَغَيْرَهُمَا وَكَانَ إِمَامَ أَهْلِ عَصْرِهِ فِي حِفْظِ
الْحَدِيثِ وَمَعْرِفَةِ الرِّجَالِ وَالْإِتْقَانِ، وَكَانَ ثِقَةً شَدِيدَ
الْوَرَعِ عَظِيمَ الْهَيْبَةِ.
قَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ الْمِصْرِيُّ: كَانَ أَحْسَنَ
النَّاسِ كَلَامًا عَلَى الْحَدِيثِ: عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ ثُمَّ مُوسَى
بْنُ هَارُونَ ثُمَّ الدَّارَقُطْنِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ
وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا كَانَتِ الْمُفَادَاةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ وَكَانَ مِنْ
جُمْلَةِ مَنِ اسْتُنْقِذَ مِنْ أَيْدِي الرُّومِ مِنْ نِسَاءٍ وَرِجَالٍ نَحْوٌ
مَنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ نَسَمَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي الْمُنْتَصَفِ مِنْ صِفْرٍ مِنْهَا كَانَتْ وَفَاةُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ أَمِيرِ خُرَاسَانَ وَقَدْ كَانَ عَاقِلًا عَادِلًا
حَسَنَ السِّيرَةِ فِي رَعِيَّتِهِ حَلِيمًا كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا، وَهُوَ
الَّذِي كَانَ يُحْسِنُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرً الْمَرْوَزِيِّ وَيُعَظِّمُهُ
وَيُكْرِمُهُ وَيَحْتَرِمُهُ وَيَقُومُ لَهُ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهِ، وَقَدْ وَلِيَ
بَعْدَهُ وَلَدُهُ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ
وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ بِالْوِلَايَةِ
وَالتَّشْرِيفِ. وَقَدْ تَذَاكَرَ النَّاسُ عِنْدَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ ذَاتَ
لَيْلَةٍ الْفَخْرَ بِالْأَنْسَابِ، فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ
عِصَامِيًّا لَا عِظَامِيًّا، أَيْ يَنْبَغِي أَنْ يَفْتَخِرَ بِنَفْسِهِ لَا
بِنَسَبِهِ وَبَلَدِهِ وَجَدِّهِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
وَبِجِدِّي سَمَوْتُ لَا بِجُدُودِي
وَقَالَ آخَرُ:
حَسْبِي فَخَارًا وَشِيمَتِي أَدَبِي وَلَسْتُ مِنْ هَاشِمٍ وَلَا الْعَرَبِ
إِنَّ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ هَأَنَذَا لَيْسَ الْفَتَى
مَنْ يَقُولُ كَانَ أَبِي
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا كَانَتْ:
وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَلِيِّ بْنُ
الْمُعْتَضِدِ. وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ، وَذِكْرُ وَفَاتِهِ:
أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيٌّ ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ
أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ ابْنِ الْأَمِيرِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ بْنِ
الْمُتَوَكِّلِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بْنِ الرَّشِيدِ هَارُونَ بْنِ الْمَهْدِيِّ
بْنِ الْمَنْصُورِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ
الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ مَنِ اسْمُهُ عَلِيٌّ سِوَاهُ بَعْدَ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْخُلَفَاءِ مَنْ
يُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدٍ سِوَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَمُوسَى الْهَادِي،
وَالْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَانَ مُوْلِدُهُ فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ
أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَبِيهِ
- فِي حَيَاتِهِ - فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ
رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَعُمُرُهُ نَحْوٌ
مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَكَانَ رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِ جَمِيلًا
رَقِيقَ اللَّوْنِ حَسَنَ الشِّعْرِ وَافِرَ اللِّحْيَةِ عَرِيضَهَا وَلَمَّا
مَاتَ أَبُوهُ الْمُعْتَضِدُ وَبَاشَرَ هُوَ مَنْصِبَ الْخِلَافَةِ دَخَلَ
عَلَيْهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَأَنْشَدَهُ:
أَجَلُّ الرَّزَايَا أَنْ يَمُوتَ إِمَامٌ وَأَسْنَى الْعَطَايَا أَنْ يَقُومَ
إِمَامُ
فَأَسْقَى الَّذِي مَاتَ الْغَمَامُ وَجَادَهُ وَدَامَتْ تَحِيَّاتٌ لَهُ
وَسَلَامُ
وَأَبْقَى الَّذِي قَامَ الْإِلَهُ وَزَادَهُ مَوَاهِبَ لَا يَفْنَى لَهُنَّ
دَوَامُ
وَتَمَّتْ لَهُ الْآمَالُ وَاتَّصَلَتْ بِهَا فَوَائِدُ مَوْصُولٌ بِهِنَّ تَمَامُ
هُوَ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ يَكْفِيهِ كُلَّمَا عَنَاهُ بِرُكْنٍ مِنْهُ لَيْسَ
يُرَامُ
فَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ سَنِيَّةٍ.
وَقَدْ كَانَ يَقُولُ الشِّعْرَ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
مَنْ لِي بَأَنْ يَعْلَمَ مَا أَلْقَى فَيَعْرِفَ الصَّبْوَةَ وَالْعِشْقَا
مَا زَالَ لِي عَبْدًا وَحُبِّي لَهُ صَيَّرَنِي عَبْدًا لَهُ رِقَّا
الْعِتْقُ مِنْ شَأْنِي وَلَكِنَّنِي مِنْ حُبِّهِ لَا أَمْلِكُ الْعِتْقَا
وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: عَلَيٌّ مُتَوَكِّلٌ عَلَى رَبِّهِ وَكَانَ لَهُ مِنَ
الْوَلَدِ مُحَمَّدٌ وَجَعْفَرٌ وَعَبْدُ الصَّمَدِ وَمُوسَى وَعَبْدُ اللَّهِ
وَهَارُونُ وَالْفَضْلُ وَعِيسَى وَالْعَبَّاسُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ.
وَفِي أَيَّامِهِ فُتِحَتْ أَنْطَاكِيَةُ وَاسْتُنْقِذَتْ مِنْ أَيْدِي الرُّومِ
وَكَانَ فِيهَا مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ بَشَرٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ،
وَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ غَنَائِمِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا كَمَا
تَقَدَّمَ، وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ سَأَلَ عَنْ أَخِيهِ أَبِي الْفَضْلِ
جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ فَصَحَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ بَالِغٌ فَأَحْضَرَهُ فِي
يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَحْضَرَ الْقُضَاةَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ
قَدْ جَعَلَ الْخِلَافَةَ إِلَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَقَّبَهُ بِالْمُقْتَدِرِ
بِاللَّهِ. وَتُوُفِّيَ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، رَحِمَهُ
اللَّهُ. وَقِيلَ: فِي آخِرِ يَوْمِ السَّبْتِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ.
وَقِيلَ: بَعْدَ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ
ذِي الْقَعْدَةِ وَدُفِنَ فِي دَارِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ
عَنْ ثِنْتَيْنِ، وَقِيلَ: عَنْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَكَانَتْ
خِلَافَتُهُ سِتَّ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَكَانَ
قَدْ أَوْصَى بِصَدَقَةٍ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ سِتِّمِائَةِ
أَلْفِ دِينَارٍ كَانَ قَدْ جَمَعَهَا وَهُوَ صَغِيرٌ،
وَكَانَ مَرَضُهُ بِدَاءِ الْخَنَازِيرِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
خِلَافَةُ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي الْفَضْلِ
جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ
جُدِّدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ وَقْتَ السَّحَرِ لِأَرْبَعَ
عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي
سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ - وَعُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَلَاثَ
عَشْرَةَ سَنَةً وَشَهْرٌ وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَلَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ
أَحَدٌ قَبْلَهُ أَصْغَرَ سِنًّا مِنْهُ، وَلَمَّا أُجْلِسَ فِي مَنْصِبِ
الْخِلَافَةِ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ سَلَّمَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ
بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِخَارَةِ ثُمَّ بَايَعَهُ النَّاسُ بَيْعَةَ الْعَامَّةِ
وَكُتِبَ اسْمُهُ عَلَى الرُّقُومِ وَغَيْرِهَا: الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ. وَكَانَ
فِي بَيْتِ مَالِ الْخَاصَّةِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَفِي
بَيْتِ مَالِ الْعَامَّةِ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَنَيِّفٌ، وَكَانَتِ
الْجَوَاهِرُ الثَّمِينَةُ فِي الْحَوَاصِلِ مِنْ لَدُنْ بَنَى أُمَيَّةَ
وَأَيَّامِ بَنِي الْعَبَّاسِ قَدْ تَنَاهَى جَمْعُهَا فَمَا زَالَ يُفَرِّقُهَا
فِي حَظَايَاهُ وَأَصْحَابِهِ حَتَّى أَنْفَدَهَا، وَقَدِ اسْتَوْزَرَ جَمَاعَةً
مِنَ الْكُتَّابِ يَكْثُرُ تَعْدَادُهُمْ، مِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَلَّاهُ ثُمَّ عَزَلَهُ بِغَيْرِهِ ثُمَّ أَعَادَهُ
ثُمَّ عَزَلَهُ بِغَيْرِهِ ثُمَّ أَعَادَهُ ثُمَّ عَزَلَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ وَقَدْ
تَقَصَّى ذِكْرَهُمْ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ، وَكَانَ لَهُ مِنَ
الْخَدَمِ وَالْحُجَّابِ وَالْحُشْمَةِ التَّامَّةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ
جَدًّا وَكَانَ كَرِيمًا جِدًّا، وَفِيهِ عِبَادَةٌ مَعَ
هَذَا كُلِّهِ، وَكَثْرَةُ صَلَاةٍ وَصِيَامِ تَطَوُّعٍ.
وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ أَوَّلَ وِلَايَتِهِ فَرَّقَ مِنَ الْأَغْنَامِ
وَالْأَبْقَارِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ رَأْسٍ وَمِنَ الْإِبِلِ أَلْفَيْ بَعِيرٍ،
وَرَدَّ الرُّسُومَ وَالْكُلَفَ وَالْأَرْزَاقَ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي
أَوَائِلِ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَأَطْلَقَ أَهْلَ الْحُبُوسِ الَّذِينَ يَجُوزُ
إِطْلَاقُهُمْ، وَوَكَلَ أَمْرَ ذَلِكَ إِلَى الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ
بْنِ يُوسُفَ، وَكَانَ قَدْ بُنِيَتْ أَبْنِيَةٌ فِي الرَّحْبَةِ دَخْلُهَا فِي
كُلِّ شَهْرٍ أَلْفُ دِينَارٍ فَأَمَرَ بِهَدْمِهَا لِيُوسِّعَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ الطُّرُقَاتِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَيَّامِهِ
وَتَرْجَمِتِهِ فِيمَا بَعْدُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُوحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو إِسْحَاقَ
الْمُزَكِّي الْحَافِظُ الزَّاهِدُ إِمَامُ أَهْلِ عَصْرِهِ بِنَيْسَابُورَ فِي
مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ وَالْعِلَلِ، وَقَدْ سَمِعَ خَلْقًا مِنَ
الْمَشَايِخِ الْكِبَارِ وَدَخَلَ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَذَاكَرَهُ وَكَانَ
مَجْلِسُهُ مَهِيبًا وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ وَكَانَ لَا
يَمْلِكُ إِلَّا دَارَهُ الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا وَحَانُوتًا يَسْتَغِلُّهُ
كُلَّ شَهْرٍ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا يُنْفِقُهَا عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَكَانَ
لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَكَانَ يُطْبَخُ لَهُ الْجَزَرُ بِالْخَلِّ
فَيَتَأَدَّمُ بِهِ طُولَ الشِّتَاءِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ
عَلِيٍّ الْحَافِظُ النَّيْسَابُورِيُّ: لَمْ تَرَ عَيْنَايَ مِثْلَهُ.
أَبُو الْحُسَيْنِ النُّورِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ
الصُّوفِيَّةِ.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَيُقَالُ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالْأَوَّلُ
أَصَحُّ، أَبُو الْحُسَيْنِ النُّورِيُّ، وَيُعْرَ فُ بِابْنِ الْبَغَوِيِّ
أَصْلُهُ مِنْ خُرَاسَانَ وَحَدَّثَ عَنْ سَرِيٍّ السَّقَطِيِّ ثُمَّ صَارَ هُوَ
مِنْ أَكَابِرِ أَئِمَّةِ الْقَوْمِ.
قَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْمَغَازِلِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ أَعْبَدَ مِنْ
أَبِي الْحُسَيْنِ النُّورِيِّ. قِيلَ لَهُ: وَلَا الْجُنَيْدُ ؟ قَالَ: وَلَا
الْجُنَيْدُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: صَامَ عِشْرِينَ سَنَةً لَا يَعْلَمُ بِهِ أَحَدٌ
لَا مِنْ أَهْلِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ. وَتُوُفِّيَ فِي مَسْجِدٍ وَهُوَ
مُقَنَّعٌ، فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَامَانَ السَّامَانِيُّ.
أَحَدُ مُلُوكِ خُرَاسَانَ لِلْخُلَفَاءِ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ عَمْرَو بْنَ
اللَّيْثِ الصَّفَّارَ الْخَارِجِيَّ وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْخَلِيفَةِ
الْمُعْتَضِدِ فَوَلَّاهُ خُرَاسَانَ ثُمَّ وَلَّاهُ الْمُكْتَفِي الرَّىَّ وَمَا
وَرَاءَ النَّهْرِ وَبِلَادَ التُّرْكِ فَأَوْقَعَ بِهِمْ بَأْسًا شَدِيدًا
وَبَنَى الرُّبُطَ فِي الطُّرُقَاتِ، يَسَعُ الرِّبَاطُ مِنْهَا أَلْفَ فَارِسٍ
وَأَوْقَفَ عَلَيْهِمْ أَوْقَافًا جَزِيلَةً وَقَدْ أَهْدَى إِلَيْهِ طَاهِرُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ هَدَايَا عَظِيمَةً، مِنْهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ
جَوْهَرَةً زِنَةُ كُلِّ جَوْهَرَةٍ مِنْهَا مَا بَيْنَ السَّبْعَةِ مَثَاقِيلَ
إِلَى الْعَشَرَةِ، وَبَعْضُهَا أَحْمَرُ وَبَعْضُهَا أَزْرَقُ قِيمَتُهَا مِائَةُ
أَلْفِ دِينَارٍ،
فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَضِدِ وَشَفَعَ
فِي طَاهِرٍ فَشَفَّعَهُ فِيهِ، وَلَمَّا مَاتَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ
وَبَلَغَ الْمُكْتَفِيَ مَوْتُهُ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ أَبِي نُوَاسٍ:
لَنْ يَخْلُفَ الدَّهْرُ مِثْلَهُمْ أَبَدًا هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ شَأْنُهُمْ
عَجَبُ
الْمَعْمَرِيُّ الْحَافِظُ.
صَاحِبُ " عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ " وَهُوَ الْحَسَنُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ شَبِيبٍ أَبُو عَلِيٍّ الْمَعْمَرِيُّ الْحَافِظُ رَحَلَ وَسَمِعَ
مِنَ الشُّيُوخِ وَأَدْرَكَ خَلْقًا، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ
وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَعَنْهُ ابْنُ صَاعِدٍ وَالنَّجَّادُ وَالْخُلْدِيُّ
وَكَانَ مِنْ بُحُورِ الْعِلْمِ وَحُفَّاظِ الْحَدِيثِ صَدُوقًا ثَبْتًا وَقَدْ
كَانَ يُشَبِّكُ أَسْنَانَهُ بِالذَّهَبِ مِنَ الْكِبَرِ لِأَنَّهُ جَاوَزَ
الثَّمَانِينَ وَكَانَ يُكَنَّى أَوَّلًا بِأَبِي الْقَاسِمِ ثُمَّ بِأَبِي
عَلِيٍّ وَقَدْ وَلِيَ الْقَضَاءَ لِلْبَرْتِيِّ عَلَى الْقَصْرِ وَأَعْمَالِهَا
وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الْمَعْمَرِيُّ بِأُمِّهِ أُمِّ الْحَسَنِ بِنْتِ أَبِي
سُفْيَانَ صَاحِبِ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لِإِحْدَى عَشْرَةَ
لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنَ الْمُحَرَّمِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي شُعَيْبٍ، وَاسْمُ أَبِي
شُعَيْبٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ أَبُو شُعَيْبٍ الْأُمَوِيُّ
الْحَرَّانِيُّ الْمُؤَدِّبُ الْمُحَدِّثُ ابْنُ الْمُحَدِّثِ وُلِدَ سَنَةَ
سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَمِعَ أَبَاهُ وَجَدَّهُ
وَعَفَّانَ بْنَ مُسْلِمٍ وَأَبَا خَيْثَمَةَ، كَانَ صَدُوقًا ثِقَةً مَأْمُونًا،
تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْمُكْتَفِي ابْنُ الْمُعْتَضِدِ، تَقَدَّمَ ذِكْرُ
تَرْجَمَتِهِ قَرِيبًا مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
أَبُو جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ أَبُو
جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَالزُّهْدِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هُوَ ثِقَةٌ، كَانَ مَأْمُونًا نَاسِكًا
وَقَالَ الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ: لَمْ يَكُنْ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ
بِالْعِرَاقِ أَرْأَسُ مِنْهُ وَلَا أَشَدُّ وَرَعًا، وَكَانَ مِنَ التَّقَلُّلِ
فِي الْمَطْعَمِ عَلَى حَالَةٍ عَظِيمَةٍ فَقْرًا وَوَرَعًا وَصَبْرًا وَكَانَ
يُنْفِقُ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَكَانَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا
شَيْئًا وَكَانَ قَدِ اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ. تُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ
وَمِائَتَيْنِ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ وَالْجُنْدِ
عَلَى خَلْعِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ وَتَوْلِيَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمُعْتَزِّ الْخِلَافَةَ عِوَضًا عَنْهُ، فَأَجَابَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا
يُسْفَكُ بِسَبَبِهِ دَمٌ، وَكَانَ الْمُقْتَدِرُ قَدْ خَرَجَ لِلَّعِبِ
بِالصَّوَالِجَةِ فَقَصَدَ إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ، يُرِيدُ أَنْ
يَفْتِكَ بِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمُقْتَدِرُ الضَّجَّةَ بَادَرَ إِلَى دَارِ
الْخِلَافَةِ فَأَغْلَقَهَا دُونَ الْجَيْشِ، وَاجْتَمَعَ الْقُوَّادُ
وَالْأَعْيَانُ وَالْقُضَاةُ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، فَبَايَعُوا عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ الْمُعْتَزِّ وَخُوطِبَ بِالْخِلَافَةِ وَلُقِّبَ بِالْمُرْتَضِي بِاللَّهِ،
وَقَالَ الصُّولِيُّ: إِنَّمَا لَقَّبُوهُ الْمُنْتَصِفَ بِاللَّهِ وَاسْتَوْزَرَ
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ دَاوُدَ وَبَعَثَ إِلَى الْمُقْتَدِرِ
يَأْمُرُهُ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ إِلَى دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ
لِيَنْتَقِلَ هُوَ إِلَيْهَا، فَأُجِيبَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَرَكِبَ
الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ مِنَ الْغَدِ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ
لِيَتَسَلَّمَهَا فَقَاتَلَهُ الْخَدَمُ وَمَنْ فِيهَا وَلَمْ يُسَلِّمُوهَا
إِلَيْهِ وَهَزَمُوهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَخْلِيصِ أَهْلِهِ وَبَعْضِ مَالِهِ
إِلَّا بِالْجَهْدِ الْجَهِيدِ، فَلَمَّا قَدَرَ عَلَيْهِمُ ارْتَحَلَ مِنْ
فَوْرِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ فَتَفَرَّقَ نِظَامُ ابْنِ الْمُعْتَزِّ وَجَمَاعَتِهِ
فَأَرَادَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى سَامَرَّا
لِيَنْزِلَهَا فَلَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ
فَدَخَلَ دَارَ ابْنِ الْجَصَّاصِ فَاسْتَجَارَ بِهِ، وَوَقَعَ النَّهْبُ فِي
الْبَلَدِ وَاخْتَبَطَ النَّاسُ وَبَعَثَ الْمُقْتَدِرُ إِلَى أَصْحَابِ ابْنِ
الْمُعْتَزِّ فَقَبَضَ عَلَيْهِمْ وَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ وَأَعَادَ ابْنَ
الْفُرَاتِ إِلَى الْوِزَارَةِ فَجَدَّدَ الْبَيْعَةَ لِلْمُقْتَدِرِ وَأَرْسَلَ
إِلَى دَارِ ابْنِ الْجَصَّاصِ فَكَبَسهَا وَأَحْضَرَ ابْنَ الْمُعْتَزِّ وَابْنَ
الْجَصَّاصِ فَصَادَرَ ابْنَ الْجَصَّاصِ بِمَالٍ جَزِيلٍ جِدًّا، يُقَالُ:
إِنَّهُ وَزَنَ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَطْلَقَهُ
وَاعْتَقَلَ ابْنَ الْمُعْتَزِّ فَلَمَّا دَخَلَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ لَيْلَتَانِ
ظَهَرَ لِلنَّاسِ مَوْتُهُ وَأُخْرِجَتْ جُثَّتُهُ فَسُلِّمَتْ إِلَى أَهْلِهِ
فَدُفِنَ، وَصَفَحَ الْمُقْتَدِرُ عَنْ بَقِيَّةِ مَنْ بَقِيَ فِي هَذِهِ
الْفِتْنَةِ حَتَّى لَا تَفْسَدَ نِيَّاتُ النَّاسِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَا يُعْرَفُ خَلِيفَةٌ خُلِعَ ثُمَّ أُعِيدَ سِوَى
الْأَمِينِ وَالْمُقْتَدِرِ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَقَطَ
بِبَغْدَادَ ثَلْجٌ عَظِيمٌ حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى الْأَسْطِحَةِ مِنْهُ نَحْوٌ
مِنْ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ وَهَذَا يُسْتَغْرَبُ فِي بَغْدَادَ جِدًّا وَلَمْ
تَخْرُجِ السَّنَةُ حَتَّى خَرَجَ النَّاسُ لِلِاسْتِسْقَاءِ مِنْ تَأَخُّرِ
الْمَطَرِ عَنْ أَيَّامِهِ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا خُلِعَ عَلَى مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ وَأُمِرَ بِالْمَسِيرِ
إِلَى طَرَسُوسَ لِغَزْوِ الرُّومِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ الْمُقْتَدِرُ بِأَنْ لَا يُسْتَخْدَمَ أَحَدٌ مِنَ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الدَّوَاوِينِ وَأُلْزِمُوا بُيُوتَهُمْ وَأُمِرُوا
بِلُبْسِ الْعَسَلِيِّ وَجَعْلِ الرِّقَاعِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ
لِيُعْرَفُوا بِهَا وَأَلْزِمُوا بِالذُّلِّ حَيْثُ
كَانُوا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
الْهَاشِمِيُّ وَرَجَعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ قِلَّةِ الْمَاءِ
بِالطَّرِيقِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي عَتَّابٍ أَبُو بَكْرٍ الْبَغْدَادِيُّ
الْحَافِظُ.
وَيُعَرَفُ بِأَخِي مَيْمُونٍ رَوَى عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيِّ
وَغَيْرِهِ وَرَوَى عَنْهُ الطَّبَرَانِيُّ وَكَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ أَنْ
يُحَدِّثَ وَإِنَّمَا يُسْمَعُ مِنْهُ فِي الْمُذَاكَرَاتِ، تُوُفِّيَ فِي
شَوَّالٍ مِنْهَا.
أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَانِئٍ أَبُو بَكْرٍ الطَّائِيُّ الْأَثْرَمُ،
تِلْمِيذُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، سَمِعَ عَفَّانَ وَأَبَا الْوَلِيدِ
وَالْقَعْنَبِيَّ وَأَبَا نُعَيْمٍ وَخَلْقًا كَثِيرًا وَكَانَ حَاذِقًا صَادِقًا
قَوِيَّ الذَّاكِرَةِ، كَانَ ابْنُ مَعِينٍ يَقُولُ عَنْهُ: كَانَ أَحَدُ
أَبَوَيْهِ جِنِّيًّا. لِسُرْعَةِ فَهْمِهِ وَحِفْظِهِ وَحِذْقِهِ، وَلَهُ كُتُبٌ
مُصَنَّفَةٌ فِي الْعِلَلِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَكَانَ مِنْ بُحُورِ
الْعِلْمِ.
خَلَفُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عِيسَى.
أَبُو مُحَمَّدٍ الْعُكْبَرِيُّ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ ظَرِيفًا، لَهُ
ثَلَاثُونَ خَاتَمًا وَثَلَاثُونَ عُكَّازًا يَلْبَسُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ
الشَّهْرِ خَاتَمًا وَيَأْخُذُ فِي يَدِهِ عُكَّازًا ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ ذَلِكَ
فِي الشَّهْرِ الثَّانِي وَكَانَ لَهُ سَوْطٌ مُعَلَّقٌ فِي مَنْزِلِهِ فَإِذَا
سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، يَقُولُ: لِيَرْهَبَ الْعِيَالُ مِنْهُ
ابْنُ الْمُعْتَزِّ الشَّاعِرُ الَّذِي بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ بِاللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى
اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بِاللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الرَّشِيدِ
هَارُونَ، يُكَنَّى ابْنَ الْمُعْتَزِّ أَبَا الْعَبَّاسِ، الشَّاعِرُ
الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ الْفَصِيحُ الْبَلِيغُ الْمُطْبِقُ، وَقُرَيْشٌ
قَادَةُ النَّاسِ فِي الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ، وَقَدْ سَمِعَ الْمُبَرِّدَ
وَثَعْلَبًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الْحَكَمِ وَالْآدَابِ شَيْءٌ كَثِيرٌ،
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: أَنْفَاسُ الْحَيِّ خُطَاهُ. أَهْلُ الدُّنْيَا رَكْبٌ
يُسَارُ بِهِمْ وَهُمْ نِيَامٌ. رُبَّمَا أَوْرَدَ الطَّمَعُ وَلَمْ يُصْدِرْ.
رُبَّمَا شَرِقَ شَارِبُ الْمَاءِ قَبْلَ رِيِّهِ. مَنْ تَجَاوَزَ الْكَفَافَ لَمْ
يُغْنِهِ الْإِكْثَارُ، كُلَّمَا عَظُمَ قَدْرُ الْمُنَافَسِ فِيهِ عَظُمَتِ
الْفَجِيعَةُ بِهِ. مَنِ ارْتَحَلَهُ الْحِرْصُ أَضْنَاهُ الطَّلَبُ. الْحِرْصُ يُنْقِصُ
مِنْ قَدْرِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَزِيدُ فِي حَظِّهِ. أَشْقَى النَّاسِ
أَقْرَبُهُمْ مِنَ
السُّلْطَانِ كَمَا أَنَّ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ إِلَى
النَّارِ أَسْرَعُهَا احْتِرَاقًا. مَنْ شَارَكَ السُّلْطَانَ فِي عِزِّ
الدُّنْيَا شَارَكَهُ فِي ذُلِّ الْآخِرَةِ. يَكْفِيكَ مِنَ الْحَاسِدِ أَنَّهُ
يَغْتَمُّ وَقْتَ سُرُورِكَ. الْفُرْصَةُ سَرِيعَةُ الْفَوْتِ بَعِيدَةُ
الْعَوْدِ. الْأَسْرَارُ إِذَا كَثُرَ خُزَّانُهَا ازْدَادَتْ ضَيَاعًا. الْعَزْلُ
يَضْحَكُ مِنْ تِيهِ الْوِلَايَةِ. الْجَزَعُ أَتَعَبُ مِنَ الصَّبْرِ. لَا تَشِنْ
وَجْهَ الْعَفْوِ بِالتَّقْرِيعِ. تَرِكَةُ الْمَيِّتِ عِزٌّ لِلْوَرَثَةِ. إِلَى
غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ وَحِكَمِهِ.
وَمِنْ شِعْرِهِ فِي الْحِكَمِ مِمَّا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَعْنَى الْأَخِيرَ
قَوْلُهُ
سَابِقْ إِلَى مَالِكَ وُرَّاثَّهُ مَا الْمَرْءُ فِي الدُّنْيَا بِلَبَّاثِ كَمْ
صَامِتٍ يَخْنُقُ أَكْيَاسَهُ
قَدْ صَاحَ فِي مِيزَانِ مِيرَاثِ
وَلَهُ أَيْضًا:
يا ذَا الْغِنَى وَالسَّطْوَةِ الْقَاهِرَهْ وَالدَّوْلَةِ النَّاهِيَةِ
الْآمِرَهْ
وَيَا شَيَاطِينَ بَنِي آدَمَ وَيَا عَبِيدَ الشَّهْوَةِ الْفَاجِرَهْ
انْتَظِرُوا الدُّنْيَا فَقَدِ أَقْرَبَتْ وَعَنْ قَلِيلٍ تَلِدُ الْآخِرَهْ
وَلَهُ أَيْضًا:
ابْكِ يا نَفْسُ وَهَاتِي تَوْبَةً قَبْلَ الْمَمَاتِ
قَبْلَ أَنْ يَفْجَعَنَا الدَّهْ رُ بِبَيْنٍ وَشَتَاتِ
لَا تَخُونِينِي إِذَا مِ تُّ وَقَامَتْ بِي نُعَاتِي
إِنَّمَا الْوَافِي بِعَهْدِي مَنْ وَفَى بَعْدَ وَفَاتِي
قَالَ الصُّولِيُّ: نَظَرَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ الْخَلِيفَةِ
إِلَى جَارِيَةٍ فَأَعْجَبَتْهُ فَمَرِضَ مِنْ حُبِّهَا فَدَخَلَ أَبُوهُ عَلَيْهِ
عَائِدًا، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أَيُّهَا الْعَاذِلُونَ لَا تَعْذِلُونِي وَانْظُرُوا حُسْنَ وَجْهِهَا
تَعْذُرُونِي
وَانْظُرُوا هَلْ تَرَوُنَ أَحْسَنَ مِنْهَا إِنْ رَأَيْتُمْ شَبِيهَهَا
فَاعْذِلُونِي
قَالَ: فَفَحَصَ أَبُوهُ عَنِ الْقَضِيَّةِ وَاسْتَعْلَمَ خَبَرَ الْجَارِيَةِ
ثُمَّ بَعَثَ إِلَى سَيِّدِهَا فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ بِسَبْعَةِ آلَافِ دِينَارٍ
وَبَعَثَهَا إِلَيْهِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَ
الْقُوَّادُ وَالْأَعْيَانُ وَالْقُضَاةُ عَلَى خَلْعِ الْمُقْتَدِرِ وَتَوْلِيَةِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ هَذَا، وَلُقِّبَ بِالْمُرْتَضِي
وَالْمُنْتَصِفِ بِاللَّهِ فَمَا مَكَثَ فِي الْخِلَافَةِ إِلَّا يَوْمًا أَوْ
بَعْضَ يَوْمٍ ثُمَّ غَالَبَ الْمُقْتَدِرُ وَقَتَلَ عَامَّةَ مَنْ خَرَجَ
عَلَيْهِ وَاعْتَقَلَهُ فِي دَارِ السُّلْطَانِ، وَوَكَلَ بِهِ يُونُسَ
الْخَادِمَ، فَقُتِلَ فِي أَوَائِلِ رَبِيعٍ الْآخَرِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا
مِنْهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَنْشَدَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ حَيَاتِهِ:
يَا نَفْسُ صَبْرًا لَعَلَّ الْخَيْرَ عُقْبَاكِ خَانَتْكَ
مِنْ بَعْدِ طُولِ الْأَمْنِ دُنْيَاكِ
مَرَّتْ بِنَا سَحَرًا طَيْرٌ فَقُلْتُ لَهَا طُوبَاكِ يَا لَيْتَنِي إِيَّاكِ
طُوبَاكِ
إِنْ كَانَ قَصْدُكِ شَرْقًا فَالسَّلَامُ عَلَى شَاطِي الصَّرَاةِ ابْلِغِي إِنْ
كَانَ مَسْرَاكِ
مِنْ مُوثَقٍ بِالْمَنَايَا لَا فِكَاكَ لَهُ يَبْكِي الدِّمَاءَ عَلَى إِلْفٍ
لَهُ بَاكِي
فَرُبَّ آمِنَةٍ جَاءَتْ مَنِيَّتُهَا وَرُبَّ مُفْلِتَةٍ مِنْ بَيْنِ أَشْرَاكِ
أَظُنُّهُ آخِرَ الْأَيَّامِ مِنْ عُمُرِي وَأَوْشَكَ الْيَوْمَ أَنْ يَبْكِي لِيَ
الْبَاكِي
وَلَمَّا قُدِّمَ لِيُقْتَلَ أَنْشَأَ يَقُولُ:
فَقُلْ لْلشَّامِتِينَ بِنَا رُوَيْدًا أَمَامَكُمُ الْمَصَائِبُ وَالْخُطُوبُ
هُوَ الدَّهْرُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ إِلَيْكُمُ مِنْهُ ذُنُوبُ
ثُمَّ كَانَ ظُهُورُ قَتْلِهِ لِلَيْلَتَيْنِ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ مُصَنَّفَاتٍ كَثِيرَةً،
مِنْهَا: " طَبَقَاتُ الشُّعَرَاءِ " وَكِتَابُ " أَشْعَارِ
الْمُلُوكِ " وَكِتَابُ " الْآدَابِ " وَكِتَابُ " الْبَدِيعِ
" وَكِتَابٌ فِي الْغِنَاءِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ
الْأُمَرَاءِ خَلَعُوا الْمُقْتَدِرَ وَبَايَعُوهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً ثُمَّ
تَمَزَّقَ شَمْلُهُ وَاخْتَفَى فِي بَيْتِ ابْنِ الْجَصَّاصِ الْجَوْهَرِىِّ ثُمَّ
ظُهِرَ عَلَيْهِ فَقُتِلَ وَصُودِرَ ابْنُ الْجَصَّاصِ بِأَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ
وَبَقِيَ مَعَهُ سَبْعُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
قِيلَ: وَكَانَ أَسْمَرَ اللَّوْنِ مَسْنُونَ الْوَجْهِ يَخْضِبُ بِالسَّوَادِ
عَاشَ خَمْسِينَ
سَنَةً وَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ كَلَامِهِ وَأَشْعَارِهِ
رَحِمَهُ اللِّهُ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَبِيبٍ.
أَبُو حُصَيْنٍ الْوَادِعِيُّ الْقَاضِي صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ " مِنْ
أَهْلِ الْكُوفَةِ قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ
الْيَرْبُوعِيِّ وَيَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَجَنْدَلِ بْنِ وَالِقٍ،
وَعَنْهُ ابْنُ صَاعِدٍ وَالنَّجَّادُ وَالْمَحَامِلِيُّ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ ثِقَةً تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكَاتِبُ عَمُّ
الْوَزِيرِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى كَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالْأَخْبَارِ
وَأَيَّامِ الْخُلَفَاءِ، لَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي ذَلِكَ رَوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ
شَبَّةَ وَغَيْرِهِ. كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا عَنْ
ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ
وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا غَزَا الْقَاسِمُ بْنُ سِيمَا الصَّائِفَةَ وَفَادَى مُؤْنِسٌ الْخَادِمٌ
الْأُسَارَى الَّذِينَ بِأَيْدِي الرُّومِ.
وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ ثَابِتِ بْنِ سِنَانٍ أَنَّهُ رَأَى فِي أَيَّامِ
الْمُقْتَدِرِ بِبَغْدَادَ امْرَأَةً بِلَا ذِرَاعَيْنِ وَلَا عَضُدَيْنِ
وَإِنَّمَا كَفَّاهَا مُلْصَقَانِ بِكَتِفَيْهَا لَكِنْ لَا تَعْمَلُ بِهِمَا
شَيْئًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَعْمَلُ بِرِجْلَيْهَا مَا تَعْمَلُهُ النِّسَاءُ
بِأَيْدِيهنَّ مِنَ الْغَزَلِ وَمَشْطِ الرَّأْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَتَأَخَّرَتِ الْأَمْطَارُ عَنْ بَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَارْتَفَعَتِ
الْأَسْعَارُ بِهَا وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ
تَعَالَى جَاءَهَا سَيْلٌ عَظِيمٌ بِحَيْثُ إِنَّ أَرْكَانَ الْبَيْتِ غَرِقَتْ
مِنَ السُّيُولِ، وَإِنَّ زَمْزَمَ فَاضَتْ وَلَمْ يُرَ ذَلِكَ قَبْلَ هَذِهِ
السَّنَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفَّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ.
أَبُو بَكْرٍ الْفَقِيهُ ابْنُ الْفَقِيهِ الظَّاهِرِيُّ ابْنُ
الظَّاهِرِيِّ كَانَ عَالِمًا بَارِعًا أَدِيبًا شَاعِرًا فَقِيهًا
مَاهِرًا، وَهُوَ مُصَنِّفُ كِتَابِ " الزُّهَرَةِ " اشْتَغَلَ عَلَى
أَبِيهِ وَتَبِعَهُ فِي مَذْهَبِهِ وَمَا كَانَ يَسْلُكُهُ يَخْتَارُهُ مِنَ
الطَّرِيقِ وَيَرْتَضِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ يُحِبُّهُ وَيُقَرِّبُهُ وَيُدْنِيهِ.
قَالَ رُوَيْمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: كُنَّا يَوْمًا عِنْدَ دَاوُدَ إِذْ دَخَلَ
ابْنُهُ مُحَمَّدٌ بَاكِيًا، فَقَالَ: مَا لَكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّ الصِّبْيَانَ
يُلَقِّبُونَنِي عُصْفُورَ الشَّوْكِ، فَضَحِكَ أَبُوهُ فَاشْتَدَّ غَضَبُ
وَلَدِهِ، وَقَالَ: أَنْتَ أَضَرُّ عَلَيَّ مِنْهُمْ، فَضَمَّهُ أَبَوْهُ
إِلَيْهِ، وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَا الْأَلْقَابُ إِلَّا مِنَ
السَّمَاءِ مَا أَنْتَ يَا بُنَيَّ إِلَّا عُصْفُورُ الشَّوْكِ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ أُجْلِسَ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ هَذَا فِي مَكَانِهِ فِي
الْحَلْقَةِ فَاسْتَصْغَرَهُ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ، فَسَأَلَهُ سَائِلٌ يَوْمًا
عَنْ حَدِّ السُّكْرِ فَقَالَ: إِذَا عَزَبَتْ عَنْهُ الْهُمُومُ وَبَاحَ
بِسِرِّهِ الْمَكْتُومِ. فَاسْتُحْسِنَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَعَظُمَ فِي أَعْيُنِ
النَّاسِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": وَقَدِ ابْتُلِيَ
بِحُبِّ صَبِيٍّ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَامِعٍ وَيُقَالُ مُحَمَّدُ بْنُ
زُخْرُفٍ، فَاسْتَعْمَلَ الْعَفَافَ وَالدِّينَ فِي حُبِّهِ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ
دَأْبَهُ فِيهِ حَتَّى كَانَ سَبَبُ وَفَاتِهِ فِي ذَلِكَ.
قُلْتُ: فَدَخَلَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا
عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا عَنْهُ:
" مَنْ عَشِقَ فَكَتَمَ فَعَفَّ فَمَاتَ مَاتَ
شَهِيدًا " وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ إِنَّهُ كَانَ يُبِيحُ الْعِشْقَ بِشَرْطِ
الْعَفَافِ.
وَحَكَى هُوَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَتَعَشَّقُ مُنْذُ كَانَ فِي
الْكُتَّابِ وَأَنَّهُ صَنَّفَ كِتَابَ " الزُّهَرَةِ " فِي ذَلِكَ مِنْ
صِغَرِهِ، وَرُبَّمَا وَقَفَ أَبُوهُ دَاوُدُ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ، وَكَانَ
يَتَنَاظَرُ هُوَ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ كَثِيرًا بِحَضْرَةِ
الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ فَيَعْجَبُ النَّاسُ مِنْ
مُنَاظَرَتِهِمَا وَحُسْنِهَا. وَقَدْ قَالَ لَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ يَوْمًا فِي
مُنَاظَرَتِهِ: أَنْتَ بِكِتَابِ " الزُّهَرَةِ " أَشْهَرُ مِنْكَ
بِهَذَا. فَقَالَ لَهُ: تُعَيِّرُنِي بِكِتَابِ " الزُّهَرَةِ "
وَأَنْتَ لَا تُحْسِنُ تَسْتَتِمُّ قِرَاءَتَهُ وَهُوَ كِتَابٌ جَمَعْنَاهُ
هَزْلًا فَاجْمَعْ أَنْتَ مِثْلَهُ جِدًّا.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: كُنْتُ يَوْمًا أَنَا
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُدَ رَاكِبَيْنَ: فَإِذَا جَارِيَةٌ تُغَنِّي بِشَيْءٍ
مِنْ شِعْرِهِ:
أَشْكُو عَلِيلَ فُؤَادٍ أَنْتَ مُتْلِفَهُ شَكْوَى عَلِيلٍ إِلَى إِلْفٍ
يُعَلِّلُهُ سُقْمِي تَزِيدُ عَلَى الْأَيَّامِ كَثْرَتُهُ
وَأَنْتَ فِي عُظْمِ مَا أَلْقَى تُقَلِّلُهُ اللَّهُ حَرَّمَ قَتْلِي فِي
الْهَوَى أَسَفًا
وَأَنْتَ يَا قَاتِلِي ظُلْمًا تُحَلِّلُهُ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ: كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى
اسْتِرْجَاعِ هَذَا ؟ فَقُلْتُ:
هَيْهَاتَ سَارَتْ بِهِ الرُّكْبَانُ.
كَانَتْ وَفَاةُ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي رَمَضَانَ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَجَلَسَ ابْنُ سُرَيْجٍ لَعَزَاهُ وَقَالَ: مَا آسَى
إِلَّا عَلَى التُّرَابِ الَّذِي أَكَلَ لِسَانَ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ رَحِمَهُ
اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ
أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ
وَخَلْقٍ وَعَنْهُ ابْنُ صَاعِدٍ وَالْخُلْدِيُّ وَالْبَاغَنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ
وَلَهُ كِتَابٌ فِي التَّارِيخِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ وَقَدْ وَثَّقَهُ
صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَزَرَةُ وَغَيْرُهُ وَكَذَّبَهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَقَالَ: هُوَ كَذَّابٌ بَيِّنُ الْأَمْرِ. وَتَعَجَّبَ
مِمَّنْ يَرْوِي عَنْهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ مِنْ
بَيْتِ الْإِمَارَةِ وَالْحِشْمَةِ، بَاشَرَ نِيَابَةَ الْعِرَاقِ مُدَّةً ثُمَّ
خُرَاسَانَ ثُمَّ ظَفِرَ بِهِ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ
وَخَمْسِينَ فَأَسَرَهُ، وَبَقِيَ مَعَهُ يَطُوفُ بِهِ فِي الْآفَاقِ أَرْبَعَ
سِنِينَ ثُمَّ نَجَا فِي بَعْضِ الْوَقَعَاتِ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا
بِبَغْدَادَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو بَكْرٍ الْأَنْصَارِىُّ الْخَطْمِىُّ مَوْلِدُهُ سَنَةَ عَشْرٍ
وَمِائَتَيْنِ سَمِعَ أَبَاهُ وَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَعَلِيَّ بْنَ الْجَعْدِ
وَغَيْرَهُمْ وَحَدَّثَ عَنْهُ النَّاسُ وَهُوَ شَابٌّ، وَقَرَءُوا عَلَيْهِ
الْقُرْآنَ وَكَانَ يَنْتَحِلُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَوَلِيَ قَضَاءَ الرَّيِّ
وَالْأَهْوَازِ، وَكَانَ ثِقَةً فَاضِلًا نَبِيلًا عَفِيفًا فَصِيحًا كَثِيرَ الْحَدِيثِ،
تُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَالِدُ
الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ، مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، قَاتِلِ الْحَلَّاجِ وَكَانَ
يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ هَذَا مِنْ أَكَابِرِ الْقُضَاةِ وَأَعْيَانِ
الْعُلَمَاءِ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَمِائَتَيْنِ وَسَمِعَ سُلَيْمَانَ بْنَ
حَرْبٍ وَعَمْرَو بْنَ مَرْزُوقٍ وَهُدْبَةَ وَمُسَدَّدًا، وَغَيْرَهُمْ. وَكَانَ
ثِقَةً، وَقَدْ وَلِيَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ وَوَاسِطَ وَالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ
مِنْ بَغْدَادَ وَكَانَ ثِقَةً نَزِهًا عَفِيفًا شَدِيدَ الْحُرْمَةِ جَاءَهُ
يَوْمًا بَعْضُ خَدَمِ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَضِدِ فَرُفِعَ فِي الْمَجْلِسِ،
فَأَمَرَهُ حَاجِبُ الْقَاضِي أَنْ يُسَاوِيَ خَصْمَهُ، فَامْتَنَعَ إِدْلَالًا
بِجَاهِهِ عِنْدَهُ فَنَهَرَهُ الْقَاضِي وَقَالَ: ائْتُونِي بِدَلَّالِ النَّخْسِ
حَتَّى أَبِيعَ هَذَا الْعَبْدَ وَأَبْعَثَ بِثَمَنِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ،
وَجَاءَ حَاجِبُ الْقَاضِي، فَأَخْذَهُ بِيَدِهِ وَأَجْلَسَهُ مَعَ خَصْمِهِ،
فَلَمَّا انْقَضَتِ الْحُكُومَةُ
رَجَعَ الْخَادِمُ إِلَى الْمُعْتَضِدِ فَبَكَى بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ الْقَاضِي فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ بَاعَكَ لَأَجَزْتُ بَيْعَهُ وَلَمَا اسْتَرْجَعْتُكَ أَبَدًا، فَلَيْسَ خُصُوصِيَّتُكَ عِنْدِي تُزِيلُ مَرْتَبَةَ الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ عَمُودُ السُّلْطَانِ وَقِوَامُ الْأَدْيَانِ. كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ
وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا قَدِمَ الْقَاسِمُ بْنُ سِيمَا مِنْ بِلَادِ الرُّومِ فَدَخَلَ بَغْدَادَ
وَمَعَهُ الْأُسَارَى وَالْعُلُوجُ بِأَيْدِيهِمْ أَعْلَامٌ عَلَيْهَا صُلْبَانٌ
مِنْ ذَهَبٍ وَخَلْقٌ مِنَ الْأُسَارَى.
وَفِيهَا قَدِمَتْ هَدَايَا مِنْ نَائِبِ خُرَاسَانَ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِىِّ مِنْ ذَلِكَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ غُلَامًا
بِمَرَاكِبِهِمْ وَأَسْلِحَتِهِمْ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَخَمْسُونَ
بَازِيًّا وَخَمْسُونَ جَمَلًا تَحْمِلُ مِنْ مُرْتَفِعِ الثِّيَابَ وَخَمْسُونَ
رِطْلًا مِنْ مِسْكٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا فُلِجَ الْقَاضِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، فَقُلِّدَ مَكَانَهُ عَلَى الْجَانِبِ
الشَّرْقِيِّ وَالْكَرْخِ ابْنَهُ مُحَمَّدٌ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا أُخِذَ رَجُلَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا أَبُو كَثِيرَةَ
وَالْآخَرُ يُعْرَفُ بِالشِّمْرِيِّ فَذَكَرَا أَنَّهُمَا مِنْ أَصْحَابِ رَجُلٍ
يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ وَأَنَّهُ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ.
وَفِيهَا وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ الرُّومَ قَصَدَتِ اللَّاذِقِيَّةَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ الْهَاشِمِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق