7 البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
عُمَيْرٍ بِهِ.
وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ،
حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذُكِرَ
عِنْدَهُ عَمُّهُ، فَقَالَ: " لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ، يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ،
يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ ". لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ: "
تَغْلِي مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ ".
وَرَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "
أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ، مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ مِنْ
نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ ".
وَفِي " مَغَازِي " يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ: " يَغْلِي مِنْهُمَا
دِمَاغُهُ، حَتَّى يَسِيلَ عَلَى قَدَمَيْهِ ".. ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ ":
حَدَّثَنَا عُمَرُ، هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَالِدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي،
عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:
سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قِيلَ لَهُ -: هَلْ نَفَعْتَ أَبَا
طَالِبٍ ؟ قَالَ: " أَخْرَجْتُهُ مِنَ النَّارِ إِلَى ضَحْضَاحٍ مِنْهَا
". تَفَرَّدَ بِهِ الْبَزَّارُ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقْبَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَةَ الْعَبَّاسِ لِأَخِيهِ، أَنَّهُ قَالَ الْكَلِمَةَ،
وَقَالَ: " لَمْ أَسْمَعْ " ; لِأَنَّ الْعَبَّاسَ كَانَ إِذْ ذَاكَ
كَافِرًا، غَيْرَ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ.
قُلْتُ: وَعِنْدِي أَنَّ الْخَبَرَ بِذَلِكَ مَا صَحَّ، لِضَعْفِ سَنَدِهِ كَمَا
تَقَدَّمَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي طَالِبٍ، فَذَكَرَ لَهُ مَا
تَقَدَّمَ. وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ، لَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ
الْمَلَكِ بَعْدَ الْغَرْغَرَةِ، حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ نَاجِيَةَ بْنَ كَعْبٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا، يَقُولُ:
لَمَّا تُوُفِّيَ أَبِي، أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنْ عَمَّكَ قَدْ تُوُفِّيَ، فَقَالَ: " اذْهَبْ
فَوَارِهِ ". فَقُلْتُ: إِنَّهُ مَاتَ مُشْرِكًا. فَقَالَ: " اذْهَبْ
فَوَارِهِ، وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي ". فَفَعَلْتُ،
ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَأَمَرَنِي أَنْ أَغْتَسِلَ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو
دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ، عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
نَاجِيَةَ، عَنْ عَلِيٍّ: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنْ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ، فَمَنْ يُوَارِيهِ ؟
قَالَ: " اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ، وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى
تَأْتِيَنِي ". فَأَتَيْتُهُ، فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ دَعَا لِي
بِدَعَوَاتٍ، مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهِنَّ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْمَالِينِيُّ،
حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ بْنِ
حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رِزْمَةَ،
حَدَّثَنَا الْفَضْلُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَارَضَ جِنَازَةَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: " وَصَلَتْكَ رَحِمٌ،
وَجُزِيتَ خَيْرًا يَا عَمِّ ". قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ
الْهَوْزَنِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا.
وَزَادَ: وَلَمْ يَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ. قَالَ: وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ هَذَا هُوَ الْخُوَارِزْمِيُّ، تَكَلَّمُوا فِيهِ.
قُلْتُ: قَدْ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ; مِنْهُمْ الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى
السِّينَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ الْبِيكَنْدِيُّ، وَمَعَ هَذَا قَالَ ابْنُ
عَدِيٍّ: لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، وَأَحَادِيثُهُ عَنْ كُلِّ مَنْ رَوَى عَنْهُ
لَيْسَتْ بِمُسْتَقِيمَةٍ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا كَانَ يَتَعَاطَاهُ أَبُو طَالِبٍ مِنَ الْمُحَامَاةِ،
وَالْمُحَاجَّةِ، وَالْمُمَانَعَةِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالدَّفْعِ عَنْهُ، وَعَنْ أَصْحَابِهِ، وَمَا قَالَهُ فِيهِ مِنَ
الْمَمَادِحِ وَالثَّنَاءِ،
وَمَا أَظْهَرَ لَهُ
وَلِأَصْحَابِهِ مِنَ الْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالشَّفَقَةِ فِي أَشْعَارِهِ
التِي أَسْلَفْنَاهَا، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْعَيْبِ وَالتَّنَقُّصِ لِمَنْ
خَالَفَهُ وَكَذَّبَهُ، بِتِلْكَ الْعِبَارَةِ الْفَصِيحَةِ، الْبَلِيغَةِ،
الْهَاشِمِيَّةِ، الْمُطَّلِبِيَّةِ، التِي لَا تُدَانَى وَلَا تُسَامَى، وَلَا
يُمْكِنُ عَرَبِيًّا مُقَارَبَتُهَا، وَلَا مُعَارَضَتُهَا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ
يَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقٌ،
بَارٌّ، رَاشِدٌ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَمْ يُؤْمِنْ قَلْبُهُ. وَفَرْقٌ بَيْنَ
عِلْمِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ، كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ كِتَابِ
الْإِيمَانِ مِنْ - صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ - وَشَاهِدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ
وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [
الْبَقَرَةِ: 146 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ: وَجَحَدُوا بِهَا
وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [ النَّمْلِ: 14 ]. وَقَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ:
لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [ الْإِسْرَاءِ: 102 ]،
وَقَوْلُ بَعْضِ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ
وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [ الْأَنْعَامِ: 26 ] إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ،
حَيْثُ كَانَ يَنْهَى النَّاسَ عَنْ أَذِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَنْأَى هُوَ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْهُدَى
وَدِينِ الْحَقِّ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ
مُخَيْمِرَةَ، وَحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، وَعَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ،
وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْأَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: وَهُمْ يَنْهَونَ
النَّاسَ عَنْ مُحَمَّدٍ
أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ. وَبِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ،
وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ هَذَا
الْكَلَامَ سِيقَ لِتَمَامِ ذَمِّ الْمُشْرِكِينَ، حَيْثُ كَانُوا يَصُدُّونَ
النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَلَا يَنْتَفِعُونَ هُمْ أَيْضًا بِهِ،
وَلِهَذَا قَالَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ
أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ
لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ
وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [
الْأَنْعَامِ: 25، 26 ] وَهَذَا اللَّفْظُ وَهُوَ قَوْلُهُ: " وَهُمْ "،
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا جَمَاعَةٌ، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي
سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَقَوْلُهُ: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا
يَشْعُرُونَ يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ الذَّمِّ، وَأَبُو طَالِبٍ لَمْ يَكُنْ
بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، بَلْ كَانَ يَصُدُّ النَّاسَ عَنْ أَذِيَّةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ
عَلَيْهِ مِنْ فِعَالٍ وَمَقَالٍ، وَنَفْسٍ وَمَالٍ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَمْ
يُقَدِّرِ اللَّهُ لَهُ الْإِيمَانَ; لِمَا لَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنَ
الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ الْبَالِغَةِ الدَّامِغَةِ،
التِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا وَالتَّسْلِيمُ لَهَا، وَلَوْلَا مَا نَهَانَا
اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ لَاسْتَغْفَرْنَا لِأَبِي
طَالِبٍ وَتَرَحَّمْنَا عَلَيْهِ.
فَصْلٌ
فِي وَفَاةِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ وَذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِهَا،
وَمَنَاقِبِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، وَجَعَلَ جَنَّاتِ
الْفِرْدَوْسِ مُنْقَلَبَهَا وَمَثْوَاهَا، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا
مَحَالَةَ، بِخَبَرِ
الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، حَيْثُ بَشَّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ،
لَا صَخَبَ فِيهِ، وَلَا نَصَبَ.
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ،
حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ: وَقَدْ كَانَتْ خَدِيجَةُ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ
الصَّلَاةُ.
ثُمَّ رَوَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: تُوُفِّيَتْ
خَدِيجَةُ بِمَكَّةَ، قَبْلَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: مَاتَتْ خَدِيجَةُ وَأَبُو طَالِبٍ فِي عَامٍ
وَاحِدٍ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ خَدِيجَةَ تُوُفِّيَتْ بَعْدَ مَوْتِ
أَبِي طَالِبٍ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ
فِي كِتَابِ " الْمَعْرِفَةِ "، وَشَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْحَافِظُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ خَدِيجَةَ،
وَأَبَا طَالِبٍ، مَاتَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، عَامَ خَرَجُوا
مِنَ الشِّعْبِ، وَأَنَّ خَدِيجَةَ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَبِي طَالِبٍ بِخَمْسٍ
وَثَلَاثِينَ لَيْلَةً.
قُلْتُ: مُرَادُهُمْ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ لَيْلَةَ
الْإِسْرَاءِ، وَكَانَ
الْأَنْسَبُ بِنَا أَنْ
نَذْكُرَ وَفَاةَ أَبِي طَالِبٍ وَخَدِيجَةَ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ، كَمَا ذَكَرَهُ
الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَلَكِنْ أَخَّرْنَا ذَلِكَ عَنِ الْإِسْرَاءِ
لِمَقْصِدٍ سَتَطَّلِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْكَلَامَ بِهِ
يَنْتَظِمُ وَيَتَّسِقُ السِّيَاقُ، كَمَا تَقِفُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
فُضَيْلِ بْنِ غَزَوَانَ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا
إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ - أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ - فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ،
فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامُ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ
فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ. وَقَدْ رَوَاهُ
مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ، قَالَ:قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: بَشَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ ؟
قَالَ: نَعَمْ، بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ. وَرَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ أَيْضًا، وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي
خَالِدٍ بِهِ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَإِنَّمَا بَشَّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ
- يَعْنِي: قَصَبَ اللُّؤْلُؤِ - لِأَنَّهَا حَازَتْ قَصَبَ السَّبْقِ إِلَى
الْإِيمَانِ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ، لِأَنَّهَا لَمْ تَرْفَعْ صَوْتَهَا
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ تُتْعِبْهُ يَوْمًا
مِنَ الدَّهْرِ، فَلَمْ تَصْخَبْ
عَلَيْهِ يَوْمًا، وَلَا
آذَتْهُ أَبَدًا.
وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا
قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ - وَهَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي -
لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا، وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا
بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيُهْدِي فِي
خَلَائِلِهَا مِنْهَا مَا يَسَعُهُنَّ. لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَفِي لَفْظٍ لَهُ
عَنْ عَائِشَةَ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، مِنْ
كَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا،
قَالَتْ: وَتُزَوَّجَنِي بَعْدَهَا بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَأَمَرَهُ رَبُّهُ عَزَّ
وَجَلَّ - أَوْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي
الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ. وَفِي لَفْظٍ لَهُ، قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ
مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى
خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا
ذَبَحَ الشَّاةَ، ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ
خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا
امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةَ. فَيَقُولُ: " إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ،
وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ "
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ، أَخْبَرَنَا
عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ،
قَالَتْ: اسْتَأْذَنَتْ
هَالَةُ بِنْتِ
خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ، فَارْتَاعَ، فَقَالَ: "
اللَّهُمَّ هَالَةُ ". فَغِرْتُ، فَقُلْتُ: مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ
عَجَائِزِ قُرَيْشٍ، حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ، قَدْ
أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ سُوِيْدِ
بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ بِهِ.
وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي التَّقْرِيرِ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ خَيْرٌ مِنْ خَدِيجَةَ،
إِمَّا فَضْلًا وَإِمَّا عِشْرَةً; إِذْ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا، وَلَا رَدَّ
عَلَيْهَا ذَلِكَ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَلَكِنْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ أَبُو عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ - هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ -، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ
- هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ -، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:
ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَدِيجَةَ
فَأَطْنَبَ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهَا، فَأَدْرَكَنِي مَا يُدْرِكُ النِّسَاءَ مِنَ
الْغَيْرَةِ، فَقُلْتُ: لَقَدْ أَعْقَبَكَ اللَّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ
عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ. قَالَتْ: فَتَغَيَّرَ
وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَغَيُّرًا لَمْ أَرَهُ
تَغَيَّرَ عِنْدَ شَيْءٍ قَطُّ، إِلَّا عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ، أَوْ عِنْدَ
الْمَخِيلَةِ حَتَّى يَعْلَمَ، رَحْمَةٌ أَوْ عَذَابٌ
وَكَذَا رَوَاهُ عَنْ
بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ وَعُثْمَانَ بْنِ مُسْلِمٍ، كِلَاهُمَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهِ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ:
حَمْرَاءُ الشِّدْقَيْنِ: هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ. قَالَتْ:
فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ تَمَعُّرًا، مَا كُنْتُ أَرَاهُ إِلَّا عِنْدَ نُزُولِ
الْوَحْيِ، أَوْ عِنْدَ الْمَخِيلَةِ حَتَّى يَنْظُرَ; أَرَحْمَةً أَوْ عَذَابًا ؟
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ
عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا
ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا بِأَحْسَنِ الثَّنَاءِ، قَالَتْ: فَغِرْتُ
يَوْمًا. فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا، حَمْرَاءُ الشِّدْقِ، قَدْ
أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا. قَالَ: " مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ
خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَقَتْنِي إِذْ
كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ،
وَرَزَقَنِي اللَّهُ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ ".
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَمُجَالِدٌ
رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ مُتَابَعَةً، وَفِيهِ كَلَامٌ مَشْهُورٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَعَلَّ هَذَا - أَعْنِي قَوْلَهُ: " وَرَزَقَنِي اللَّهُ وَلَدَهَا إِذْ
حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ "
كَانَ قَبْلَ أَنْ
يُولَدَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
مَارِيَةَ، وَقَبْلَ مَقْدِمِهَا بِالْكُلِّيَّةِ. وَهَذَا مُتَعَيِّنٌ فَإِنَّ
جَمِيعَ أَوْلَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا
تَقَدَّمَ وَكَمَا سَيَأْتِي مِنْ خَدِيجَةَ، إِلَّا إِبْرَاهِيمَ، فَمِنْ
مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ الْمِصْرِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ
بِهَذَا الْحَدِيثِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى تَفْضِيلِ خَدِيجَةَ
عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَرْضَاهُمَا، وَتَكَلَّمَ آخَرُونَ
فِي إِسْنَادِهِ، وَتَأَوَّلَهُ آخَرُونَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ خَيْرًا
عِشْرَةً، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَوْ ظَاهِرٌ، وَسَبَبُهُ أَنَّ عَائِشَةَ سَمَتْ
بِشَبَابِهَا، وَحُسْنِهَا، وَجَمِيلِ عِشْرَتِهَا، وَلَيْسَ مُرَادُهَا
بِقَوْلِهَا: قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا. أَنَّهَا تُزَكِّي
نَفْسَهَا وَتُفَضِّلُهَا عَلَى خَدِيجَةَ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مَرْجِعُهُ إِلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ
بِمَنِ اتَّقَى [ النَّجْمِ: 32 ] وَقَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [ النِّسَاءِ: 49 ]
الْآيَةَ.
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ وَقَعَ النِّزَاعُ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا
وَحَدِيثًا، وَتَجَاذَبَهَا طَرَفَا نَقِيضٍ; أَهِلُ التَّشَيُّعِ وَغَيْرُهُمْ،
لَا يَعْدِلُونَ بِخَدِيجَةَ أَحَدًا مِنَ النِّسَاءِ، لِسَلَامِ الرَّبِّ
عَلَيْهَا، وَكَوْنِ وَلَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَمِيعِهِمْ - إِلَّا إِبْرَاهِيمَ - مِنْهَا، وَكَوْنِهِ لَمْ يَتَزَوَّجْ
عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَتْ; إِكْرَامًا لَهَا، وَتَقَدُّمِ إِسْلَامِهَا،
وَكَوْنِهَا مِنَ الصِّدِّيقَاتِ، وَلَهَا مَقَامُ صِدْقٍ فِي أَوَّلِ
الْبِعْثَةِ، وَبَذَلَتْ نَفْسَهَا وَمَالَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا أَهْلُ
السُّنَّةِ; فَمِنْهُمْ مَنْ يَغْلُو أَيْضًا، وَيُثْبِتُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا مِنَ الْفَضَائِلِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَلَكِنْ تَحْمِلُهُمْ قُوَّةُ
التَّسَنُّنِ عَلَى تَفْضِيلِ عَائِشَةَ; لِكَوْنِهَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ،
وَلِكَوْنِهَا أَعْلَمَ مِنْ خَدِيجَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمَمِ
مِثْلُ عَائِشَةَ فِي حِفْظِهَا وَعِلْمِهَا وَفَصَاحَتِهَا وَعَقْلِهَا، وَلَمْ
يَكُنِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ أَحَدًا مِنْ
نِسَائِهِ كَمَحَبَّتِهِ إِيَّاهَا، وَنَزَلَتْ بَرَاءَتُهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ
سَمَاوَاتٍ، وَرَوَتْ بَعْدَهُ عَنْهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عِلْمًا جَمًّا
كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، حَتَّى قَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ
الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ: " خُذُوا شَطْرَ دِينِكُمْ عَنِ الْحُمَيْرَاءِ
"
وَالْحُقُّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَهَا مِنَ الْفَضَائِلِ مَا لَوْ نَظَرَ
النَّاظِرُ فِيهِ لَبَهَرَهُ وَحَيَّرَهُ، وَالْأَحْسَنُ التَّوَقُّفُ فِي ذَلِكَ،
وَرَدُّ عِلْمِ ذَلِكَ، إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ ظَهَرَ لَهُ دَلِيلٌ
يَقْطَعُ بِهِ، أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَذَاكَ الَّذِي
يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ، وَمَنْ حَصَلَ لَهُ
تَوَقُّفٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَوْ فِي غَيْرِهَا، فَالطَّرِيقُ
الْأَقْوَمُ وَالْمَسْلَكُ الْأَسْلَمُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ،
وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ
طُرُقٍ، عَنْ هِشَامِ
بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ،
وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ". أَيْ: خَيْرُ
زَمَانِهِمَا.
وَرَوَى شُعْبَةُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ قُرَّةَ بْنِ
إِيَاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ
النِّسَاءِ إِلَّا ثَلَاثٌ; مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ
فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ
كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ ". رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ
فِي " تَفْسِيرِهِ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى شُعْبَةَ،
وَبَعْدَهُ. قَالُوا: وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثِ
نِسْوَةٍ، آسِيَةَ وَمَرْيَمَ وَخَدِيجَةَ، أَنَّ كُلًّا مِنْهُنَّ كَفَلَتْ
نَبِيًّا مُرْسَلًا، وَأَحْسَنَتِ الصُّحْبَةَ فِي كَفَالَتِهَا، وَصَدَّقَتْهُ;
فَآسِيَةُ رَبَّتْ مُوسَى، وَأَحْسَنَتْ إِلَيْهِ، وَصَدَّقَتْهُ حِينَ بُعِثَ،
وَمَرْيَمُ كَفَلَتْ وَلَدَهَا أَتَمَّ كَفَالَةٍ وَأَعْظَمَهَا، وَصَدَّقَتْهُ
حِينَ أُرْسِلَ، وَخَدِيجَةُ رَغِبَتْ فِي تَزْوِيجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، وَبَذَلَتْ فِي ذَلِكَ أَمْوَالَهَا كَمَا
تَقَدَّمَ، وَصَدَّقَتْهُ حِينَ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ.
وَقَوْلُهُ: " وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ
عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ ". هُوَ ثَابِتٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "
مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ أَيْضًا، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُرَّةَ
الطَّيِّبِ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمُلَ
مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ،
وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ
بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ
الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ ". وَالثَّرِيدُ: هُوَ الْخَبْزُ
وَاللَّحْمُ جَمِيعًا، وَهُوَ أَفْخَرُ طَعَامِ الْعَرَبِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ
الشُّعَرَاءِ:
إِذَا مَا الْخُبْزُ تَأْدِمُهُ بِلَحْمٍ فَذَاكَ أَمَانَةَ اللَّهِ الثَّرِيدُ
وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ: " وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ " أَنْ
يَكُونَ عَامًّا، فَيَعُمُّ النِّسَاءَ الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرَهُنَّ،
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِيمَا عَدَاهُنَّ، وَيَبْقَى الْكَلَامُ
فِيهَا وَفِيهِنَّ مَوْقُوفًا يَحْتَمِلُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُنَّ، فَيَحْتَاجُ
مُرَجِّحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى غَيْرِهَا إِلَى دَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
فِي تَزْوِيجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ خَدِيجَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا، بِعَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ، وَسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَائِشَةَ - تَزَوَّجَهَا أَوَّلًا لِمَا سَيَأْتِي; قَالَ
الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ تَزْوِيجِ عَائِشَةَ: حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ،
حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: أُرِيتُكِ فِي
الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ; أَرَى أَنَّكِ فِي
سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ،
وَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَاكْشِفْ عَنْهَا. فَإِذَا هِيَ أَنْتِ،
فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يُمْضِهِ ".
قَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ نِكَاحِ الْأَبْكَارِ: وَقَالَ ابْنُ أَبِي
مُلَيْكَةَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَائِشَةَ: لَمْ يَنْكِحِ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكْرًا غَيْرَكِ. حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ هِشَامِ
بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ نَزَلْتَ وَادِيًا وَفِيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ
مِنْهَا، وَوَجَدْتَ شَجَرَةً لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا، فِي أَيُّهَا كُنْتَ
تُرْتِعُ بِعِيرَكَ ؟ قَالَ: " فِي التِي لَمْ يُرْتَعْ مِنْهَا " تَعْنِي:
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا
غَيْرَهَا. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ،
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ لِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُرِيتُكِ فِي
الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ، إِذَا رَجُلٌ يَحْمِلُكِ فِي سَرَقَةِ حَرِيرٍ،
فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ. فَأَكْشِفُهَا فَإِذَا هِيَ أَنْتِ، فَأَقُولُ:
إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يُمْضِهِ ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ
طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِهِ.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ قَبْلَ
التَّزْوِيجِ، ثَنَا مُسَدَّدٌ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ يَجِيءُ بِكِ
الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَقَالَ لِي:
هَذِهِ امْرَأَتُكَ.
فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوْبَ، فَإِذَا أَنْتِ هِيَ، فَقُلْتُ: إِنْ يَكُ
هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يُمْضِهِ ". - وَفِي رِوَايَةٍ -: "
أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ ". وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: أَنَّ
جِبْرِيلَ جَاءَهُ بِصُورَتِهَا فِي خِرْقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ، فَقَالَ:
هَذِهِ زَوْجَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ تَزْوِيجِ الصِّغَارِ مِنَ الْكِبَارِ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِرَاكٍ،
عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ
عَائِشَةَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا أَنَا
أَخُوكَ. فَقَالَ: " أَنْتَ أَخِي فِي دِينِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ، وَهِيَ لِي
حَلَالٌ ". هَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرُ سِيَاقِهِ كَأَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَهُوَ
عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَالْمُحَقِّقِينَ مُتَّصِلٌ; لِأَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ
عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهَذَا مِنْ أَفْرَادِ
الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ بَعْدَ
مَوْتِ خَدِيجَةَ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَعَائِشَةُ يَوْمَئِذٍ ابْنَةُ سِتِّ
سِنِينَ، وَبَنَى بِهَا وَهِيَ ابْنَةُ تِسْعٍ، وَمَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَائِشَةُ ابْنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَهَذَا غَرِيبٌ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي
أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: تُوُفِّيَتْ
خَدِيجَةُ قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِثَلَاثِ سِنِينَ،
فَلَبِثَ سَنَتَيْنِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، وَنَكَحَ عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ
سِتِّ سِنِينَ، ثُمَّ بَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ. وَهَذَا الَّذِي
قَالَهُ عُرْوَةُ مُرْسَلٌ فِي ظَاهِرِ السِّيَاقِ كَمَا قَدَّمْنَا وَلَكِنَّهُ
فِي حُكْمِ الْمُتَّصِلِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَقَوْلُهُ: تَزَوَّجَهَا وَهِيَ
ابْنَةُ سِتِّ سِنِينَ، وَبَنَى بِهَا وَهِيَ ابْنَةُ تِسْعٍ. مَا لَا خِلَافَ
فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا. وَكَانَ
بِنَاؤُهُ بِهَا، عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ
الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَأَمَّا كَوْنُ تَزْوِيجِهَا كَانَ بَعْدَ مَوْتِ خَدِيجَةَ بِنَحْوِ ثَلَاثِ
سِنِينَ، فَفِيهِ نَظَرٌ; فَإِنَّ يَعْقُوبَ بْنَ سُفْيَانَ الْحَافِظَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَفَّى خَدِيجَةَ، قَبْلَ مُخْرَجِهِ مِنْ مَكَّةَ،
وَأَنَا ابْنَةُ سَبْعِ - أَوْ سِتِّ - سِنِينَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ،
جَاءَنِي نِسْوَةٌ وَأَنَا الْعَبُ فِي أُرْجُوحَةٍ، وَأَنَا مُجَمَّمَةٌ،
فَهَيَّأْنَنِي وَصَنَعْنَنِي، ثُمَّ أَتَيْنَ بِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنَةُ تِسْعِ سِنِينَ. فَقَوْلُهُ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ " " مُتَوَفَّى خَدِيجَةَ " يَقْتَضِي أَنَّهُ عَلَى
أَثَرِ ذَلِكَ قَرِيبًا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَقَطَ مِنَ
النُّسْخَةِ: بَعْدَ مُتَوَفَّى خَدِيجَةَ. فَلَا يَنْفِي مَا ذَكَرَهُ يُونُسُ
بْنُ بُكَيْرٍ وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عَائِشَةَ، قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا
بِنْتُ
سِتِّ سِنِينَ،
فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْنَا فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ،
فَوُعِكْتُ فَتَمَزَّقَ شَعْرِي فَوَفَى لِي جُمَيْمَةٌ، فَأَتَتْنِي أُمِّي أُمُّ
رُومَانَ - وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ وَمَعِي صَوَاحِبُ لِي - فَصَرَخَتْ بِي،
فَأَتَيْتُهَا مَا أَدْرِي مَا تُرِيدُ بِي، فَأَخَذَتْ بِيَدِي، حَتَّى
أَوْقَفَتْنِي عَلَى بَابِ الدَّارِ، وَإِنِّي لَأَنْهَجُ حَتَّى سَكَنَ بَعْضُ
نَفَسِي، ثُمَّ أَخَذَتْ شَيْئًا مِنْ مَاءٍ، فَمَسَحَتْ بِهِ وَجْهِي وَرَأْسِي،
ثُمَّ أَدْخَلَتْنِي الدَّارَ، فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي الْبَيْتِ،
فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ،
فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِنَّ، فَأَصْلَحْنَ مِنْ شَأْنِي، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُحًى، فَأَسْلَمْنَنِي
إِلَيْهِ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ،، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو،
ثَنَا أَبُو سَلَمَةَ وَيَحْيَى، قَالَا:لَمَّا هَلَكَتْ خَدِيجَةُ جَاءَتْ
خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، فَقَالَتْ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَزَوَّجُ ؟ قَالَ: " مَنْ ؟ " قَالَتْ: إِنْ
شِئْتَ بِكْرًا، وَإِنْ شِئْتَ ثَيِّبًا. قَالَ: " فَمَنِ الْبِكْرُ ؟ "
قَالَتْ: ابْنَةُ أَحَبِّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْكَ، عَائِشَةُ ابْنَةُ أَبِي
بَكْرٍ. قَالَ:
" وَمَنِ الثَّيِّبُ ؟ " قَالَتْ: سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، قَدْ آمَنَتْ بِكَ وَاتَّبَعَتْكَ عَلَى مَا تَقُولُ. قَالَ: " فَاذْهَبِي فَاذْكُرِيهِمَا عَلَيَّ ". فَدَخَلَتْ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَتْ: يَا أُمَّ رُومَانَ، مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْكِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ! قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَتْ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْطُبُ عَلَيْهِ عَائِشَةَ. قَالَتِ: انْتَظِرِي أَبَا بَكْرٍ حَتَّى يَأْتِيَ. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ! قَالَ: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَتْ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْطُبُ عَلَيْهِ عَائِشَةَ. قَالَ: وَهَلْ تَصْلُحُ لَهُ؟! إِنَّمَا هِيَ ابْنَةُ أَخِيهِ. فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: " ارْجِعِي إِلَيْهِ، فَقُولِي لَهُ: أَنَا أَخُوكَ، وَأَنْتَ أَخِي فِي الْإِسْلَامِ، وَابْنَتُكَ تَصْلُحُ لِي ". فَرَجَعَتْ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: انْتَظِرِي. وَخَرَجَ. قَالَتْ أُمُّ رُومَانَ: إِنَّ مُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ قَدْ كَانَ ذَكَرَهَا عَلَى ابْنِهِ، وَوَاللَّهِ مَا وَعَدَ وَعْدًا قَطُّ فَأَخْلَفَهُ - لِأَبِي بَكْرٍ - فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى مُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ، وَعِنْدَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ الْفَتَى. فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ، لَعَلَّكَ مُصْبٍ صَاحِبَنَا، مُدْخِلُهُ فِي دِينِكَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ إِنْ تَزَوَّجَ إِلَيْكَ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ: أَقَوْلَ هَذِهِ تَقُولُ ؟ قَالَ: إِنَّهَا تَقُولُ ذَلِكَ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، وَقَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ فِي نَفْسِهِ مِنْ عِدَتِهِ التِي وَعَدَهُ، فَرَجَعَ فَقَالَ لِخَوْلَةَ: ادْعِي لِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَدَعَتْهُ، فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ، وَعَائِشَةُ يَوْمَئِذٍ بَنَتُ
سِتِّ سِنِينَ، ثُمَّ خَرَجَتْ فَدَخَلَتْ عَلَى سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، فَقَالَتْ: مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْكِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ. قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَتْ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْطُبُكِ إِلَيْهِ. قَالَتْ: وَدِدْتُ، ادْخُلِي إِلَى أَبِي فَاذْكُرِي ذَلِكَ لَهُ. وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ أَدْرَكَهُ السِّنُّ، قَدْ تَخَلَّفَ عَنِ الْحَجِّ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ، فَحَيَّتْهُ بِتَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ ؟ قَالَتْ: خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ. قَالَ: فَمَا شَأْنُكِ ؟ قَالَتْ: أَرْسَلَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْطُبُ عَلَيْهِ سَوْدَةَ. فَقَالَ: كُفُؤٌ كَرِيمٌ، مَاذَا تَقُولُ صَاحِبَتُكِ ؟ قَالَتْ: تُحِبُّ ذَاكَ. قَالَ: ادْعِيهَا لِي. فَدَعَتْهَا، قَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ، إِنَّ هَذِهِ تَزْعُمُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ أَرْسَلَ يَخْطُبُكِ، وَهُوَ كُفُؤٌ كَرِيمٌ، أَتُحِبِّينَ أَنْ أُزَوِّجَكِ بِهِ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ ادْعِيهِ لِي. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ، فَجَاءَ أَخُوهَا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ مِنَ الْحَجِّ، فَجَعَلَ يَحْثِي فِي رَأْسِهِ التُّرَابَ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ: لَعَمْرُكَ إِنِّي لَسَفِيهٌ يَوْمَ أَحْثِي فِي رَأْسِي التُّرَابَ; أَنْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْنَا فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ فِي السُّنْحِ. قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بَيْتَنَا، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَنِسَاءٌ، فَجَاءَتْنِي أُمِّي، وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ بَيْنَ عَذْقَيْنِ تَرَجَّحُ بِي، فَأَنْزَلَتْنِي مِنَ الْأُرْجُوحَةِ، وَلِي جُمَيْمَةٌ فَفَرَقْتَهَا، وَمَسَحَتْ وَجْهِي بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ تَقُودُنِي، حَتَّى
وَقَفَتْ بِي عِنْدَ
الْبَابِ، وَإِنِّي لَأَنْهَجُ حَتَّى سَكَنَ مِنْ نَفَسِي، ثُمَّ دَخَلَتْ بِي،
فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ
فِي بَيْتِنَا، وَعِنْدَهُ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَجْلَسَتْنِي
فِي حُجْرَةٍ، ثُمَّ قَالَتْ: هَؤُلَاءِ أَهْلُكَ فَبَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِمْ،
وَبَارَكَ لَهُمْ فِيكَ. فَوَثَبَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَخَرَجُوا، وَبَنَى
بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِنَا، مَا
نُحِرَتْ عَلَيَّ جَزُورٌ، وَلَا ذُبِحَتْ عَلَيَّ شَاةٌ، حَتَّى أَرْسَلَ
إِلَيْنَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بِجَفْنَةٍ، كَانَ يُرْسِلُ بِهَا إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَارَ إِلَى نِسَائِهِ، وَأَنَا
يَوْمَئِذٍ ابْنَةُ تِسْعِ سِنِينَ.
وَهَذَا السِّيَاقُ كَأَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ; لِمَا رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَوْدِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ يَحْيَى
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ:لَمَّا مَاتَتْ
خَدِيجَةُ، جَاءَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَزَوَّجُ ؟ قَالَ:
" وَمَنْ ؟ " قَالَتْ: إِنْ شِئْتَ بِكْرًا، وَإِنْ شِئْتَ ثَيِّبًا.
قَالَ: " مَنِ الْبِكْرُ ؟ وَمَنِ الثَّيِّبُ ؟ " قَالَتْ: أَمَّا
الْبِكْرُ فَابْنَةُ أَحَبِّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْكَ; عَائِشَةُ، وَأَمَّا الثَّيِّبُ
فَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، قَدْ آمَنَتْ بِكَ وَاتَّبَعَتْكَ. قَالَ: "
فَاذْكُرِيهِمَا عَلَيَّ ". وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ نَحْوَ مَا
تَقَدَّمَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عَقْدَهُ عَلَى عَائِشَةَ كَانَ مُتَقَدِّمًا
عَلَى تَزْوِيجِهِ بِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، وَلَكِنَّ دُخُولَهُ عَلَى
سَوْدَةَ كَانَ بِمَكَّةَ، وَأَمَّا دُخُولُهُ عَلَى عَائِشَةَ، فَتَأَخَّرَ إِلَى
الْمَدِينَةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ،
كَمَا تَقَدَّمَ وَكَمَا
سَيَأْتِي.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ
هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا كَبِرَتْ سَوْدَةُ
وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِي، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِي بِيَوْمِهَا مَعَ نِسَائِهِ. قَالَتْ: وَكَانَتْ أَوَّلَ
امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا بَعْدِي
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْحَمِيدِ، حَدَّثَنِي شَهْرٌ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ امْرَأَةً مِنْ
قَوْمِهِ، يُقَالُ لَهَا: سَوْدَةُ، وَكَانَتْ مُصْبِيَةً كَانَ لَهَا خَمْسَةُ
صِبْيَةٍ - أَوْ سِتَّةٌ - مِنْ بَعْلٍ لَهَا مَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا يَمْنَعُكِ مِنِّي ؟ "
قَالَتْ: وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا يَمْنَعُنِي مِنْكَ أَنْ لَا تَكُونَ
أَحَبَّ الْبَرِّيَّةِ إِلَيَّ، وَلَكِنِّي أُكْرِمُكَ أَنْ يَضْغُوَ هَؤُلَاءِ
الصِّبْيَةُ عِنْدَ رَأْسِكَ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً. قَالَ: " فَهَلْ مَنَعَكِ
مِنِّي غَيْرُ ذَلِكَ ؟ " قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ. قَالَ لَهَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَرْحَمُكِ اللَّهُ إِنَّ
خَيْرَ نِسَاءٍ رَكِبْنَ أَعْجَازَ الْإِبِلِ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ; أَحْنَاهُ
عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى بَعْلٍ بِذَاتِ يَدِهِ ".
قُلْتُ: وَكَانَ زَوْجَهَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ السَّكْرَانُ بْنُ
عَمْرٍو، أَخُو سُهَيْلِ
بْنِ عَمْرٍو وَكَانَ
مِمَّنْ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ رَجَعَ
إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فَهَذِهِ السِّيَاقَاتُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى عَائِشَةَ
كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعَقْدِ بِسَوْدَةَ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، وَرَوَاهُ يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَاخْتَارَ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى سَوْدَةَ قَبْلَ عَائِشَةَ،
وَحَكَاهُ عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ. قَالَ: وَرَوَاهُ عُقَيْلٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ.
فَصْلٌ
قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ، عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ كَانَ نَاصِرًا لَهُ، وَقَائِمًا فِي
صَفِّهِ، وَمُدَافِعًا عَنْهُ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ; مِنْ نَفْسٍ،
وَمَالٍ، وَفِعَالٍ، فَلَمَّا مَاتَ، اجْتَرَأَ سُفَهَاءُ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَالُوا مِنْهُ مَا لَمْ يَكُونُوا
يَصِلُونَ إِلَيْهِ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ.
كَمَا قَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ بُهْلُولٍ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ،
عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَعْفَرٍ، قَالَ: لَمَّا
مَاتَ أَبُو طَالِبٍ، عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ، فَأَلْقَى عَلَيْهِ تُرَابًا، فَرَجَعَ إِلَى
بَيْتِهِ، فَأَتَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ تَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ التُّرَابَ
وَتَبْكِي، فَجَعَلَ يَقُولُ: " أَيْ بُنَيَّةُ، لَا تَبْكِينَ فَإِنَّ
اللَّهَ مَانِعٌ أَبَاكِ ". وَيَقُولُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ: " مَا نَالَتْ
قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ ". وَقَدْ رَوَاهُ
زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا، عَنِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ، عَنِ الْأَصَمِّ،
عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ
بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ: " مَا زَالَتْ قُرَيْشٌ كَاعِّينَ عَنِّي حَتَّى مَاتَ
أَبُو طَالِبٍ ". ثُمَّ رَوَاهُ عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ عَبَّاسٍ
الدُّورِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ الْمُجَدَّرُ، عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَا زَالَتْ قُرَيْشٌ كَاعَّةً حَتَّى
تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ ".
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ بِسَنَدِهِ، عَنْ
ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، أَنَّهُمَا قَالَا: لَمَّا
تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ وَخَدِيجَةُ - وَكَانَ بَيْنَهُمَا شَهْرٌ وَخَمْسَةُ
أَيَّامٍ - اجْتَمَعَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُصِيبَتَانِ، فَلَزِمَ بَيْتَهُ،
وَأَقَلَّ الْخُرُوجَ،
وَنَالَتْ مِنْهُ قُرَيْشٌ مَا لَمْ تَكُنْ تَنَالُ وَلَا تَطْمَعُ فِيهِ،
فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا لَهَبٍ، فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، امْضِ لِمَا أَرَدْتَ،
وَمَا كُنْتَ صَانِعًا إِذْ كَانَ أَبُو طَالِبٍ حَيًّا فَاصْنَعْهُ، لَا
وَاللَّاتِ، لَا يُوصَلُ إِلَيْكَ حَتَّى أَمُوتَ. وَسَبَّ ابْنُ الْغَيْطَلَةِ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ أَبُو
لَهَبٍ فَنَالَ مِنْهُ، فَوَلَّى يَصِيحُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، صَبَأَ أَبُو
عُتْبَةَ. فَأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى وَقَفُوا عَلَى أَبِي لَهَبٍ، فَقَالَ:
مَا فَارَقْتُ دِينَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَكِنِّي أَمْنَعُ ابْنَ أَخِي أَنْ
يُضَامَ حَتَّى يَمْضِيَ لِمَا يُرِيدُ. فَقَالُوا: قَدْ أَحْسَنْتَ،
وَأَجْمَلْتَ، وَوَصَلْتَ الرَّحِمَ. فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ أَيَّامًا يَأْتِي وَيَذْهَبُ، لَا يَعْرِضُ لَهُ
أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهَابُوا أَبَا لَهَبٍ إِلَى أَنْ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ
أَبِي مُعَيْطٍ وَأَبُو جَهْلٍ إِلَى أَبِي لَهَبٍ، فَقَالَا لَهُ: أَخْبَرَكَ
ابْنُ أَخِيكَ أَيْنَ مَدْخَلُ أَبِيكَ ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو لَهَبٍ: يَا
مُحَمَّدُ، أَيْنَ مَدْخَلُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؟ قَالَ: " مَعَ قَوْمِهِ
". فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا، فَقَالَ: قَدْ سَأَلْتُهُ، فَقَالَ: مَعَ قَوْمِهِ.
فَقَالَا: يَزْعُمُ أَنَّهُ فِي النَّارِ. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَيَدْخُلُ
عَبْدُ الْمُطَّلِبِ النَّارَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " وَمَنْ مَاتَ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ
دَخَلَ النَّارَ ". فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَاللَّهِ
لَا بَرِحْتُ لَكَ إِلَّا عَدُوًّا أَبَدًا، وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ عَبْدَ
الْمُطَّلِبِ فِي النَّارِ. وَاشْتَدَّ عِنْدَ ذَلِكَ أَبُو لَهَبٍ وَسَائِرُ
قُرَيْشٍ عَلَيْهِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ النَّفَرَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ; أَبُو لَهَبٍ، وَالْحَكَمُ بْنُ
أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعَدِيُّ بْنُ
الْحَمْرَاءِ، وَابْنُ الْأَصْدَاءِ الْهُذَلِيُّ، وَكَانُوا جِيرَانَهُ، لَمْ
يُسْلِمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَكَانَ
أَحَدُهُمْ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - يَطْرَحُ عَلَيْهِ رَحِمَ الشَّاةِ وَهُوَ
يُصَلِّي، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَطْرَحُهَا فِي بُرْمَتِهِ إِذَا نُصِبَتْ لَهُ،
حَتَّى اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِجْرًا يَسْتَتِرُ بِهِ مِنْهُمْ إِذَا صَلَّى، فَكَانَ إِذَا طَرَحُوا
شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، يَحْمِلُهُ عَلَى عَوْدٍ ثُمَّ يَقِفُ بِهِ عَلَى بَابِهِ،
ثُمَّ يَقُولُ: " يَا بَنِي عَبْدِ مُنَافٍ، أَيُّ جِوَارٍ هَذَا ؟ ".
ثُمَّ يُلْقِيهِ فِي الطَّرِيقِ.
قُلْتُ: وَعِنْدِي أَنَّ غَالِبَ مَا رُوِيَ مِمَّا تَقَدَّمَ - مِنْ طَرْحِهِمْ
سَلَى الْجَزُورِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي كَمَا رَوَاهُ ابْنُ
مَسْعُودٍ، وَفِيهِ أَنَّ فَاطِمَةَ جَاءَتْ فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ
عَلَيْهِمْ فَشَتَمَتْهُمْ، ثُمَّ لَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى سَبْعَةٍ مِنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ،
وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ خَنْقِهِمْ
لَهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، خَنْقًا شَدِيدًا حَتَّى حَالَ دُونَهُ أَبُو بَكْرٍ
الصِّدِّيقُ، قَائِلًا: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللَّهُ.
وَكَذَلِكَ عَزْمُ أَبِي جَهْلٍ، لَعَنَهُ اللَّهُ، عَلَى أَنْ يَطَأَ عَلَى
عُنُقِهِ وَهُوَ يُصَلِّي، فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَمَا أَشْبَهَ
ذَلِكَ - كَانَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَذِكْرُهَا
هَاهُنَا أَنْسَبُ وَأَشْبَهُ.
فَصْلٌ فِي ذَهَابِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ الطَّائِفِ يَدْعُوهُمْ إِلَى
دِينِ اللَّهِ، وَإِلَى نُصْرَةِ دِينِهِ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَمْ
يَقْبَلُوهُ مِنْهُ، فَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَذَى مَا لَمْ تَكُنْ
تَنَالُهُ مِنْهُ فِي حَيَاةِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ، يَلْتَمِسُ مِنْ ثَقِيفٍ
النُّصْرَةَ وَالْمَنَعَةَ بِهِمْ مِنْ قَوْمِهِ، وَرَجَاءَ أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ
مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ وَحْدَهُ،
فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ
الْقُرَظِيِّ، قَالَ: لَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ، عَمَدَ إِلَى نَفَرٍ مِنْ ثَقِيفٍ، هُمْ سَادَةُ
ثَقِيفٍ وَأَشْرَافُهُمْ، وَهُمْ إِخْوَةٌ ثَلَاثَةٌ: عَبْدُ يَالِيلَ،
وَمَسْعُودٌ، وَحَبِيبٌ، بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْدَةَ
بْنِ غِيَرَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ، وَعِنْدَ أَحَدِهِمُ امْرَأَةٌ مِنْ
قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي جُمَحَ، فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ،
وَكَلَّمَهُمْ بِمَا جَاءَهُمْ لَهُ مِنْ نُصْرَتِهِ عَلَى
الْإِسْلَامِ، وَالْقِيَامِ مَعَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: هُوَ يَمْرُطُ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللَّهُ أَرْسَلَكَ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَا وَجَدَ اللَّهُ أَحَدًا أَرْسَلَهُ غَيْرَكَ ؟ وَقَالَ الثَّالِثُ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا; لَئِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ، لَأَنْتَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ الْكَلَامَ، وَلَئِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ، مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُكَلِّمَكَ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَقَدْ يَئِسَ مِنْ خَيْرِ ثَقِيفٍ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ - فِيمَا ذُكِرَ لِي -: " إِنْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ، فَاكْتُمُوا عَلَيَّ ". وَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْلُغَ قَوْمَهُ عَنْهُ فَيُذْئِرَهُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ، يَسُبُّونَهُ وَيَصِيحُونَ بِهِ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَأَلْجَئُوهُ إِلَى حَائِطٍ لِعَتَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهُمَا فِيهِ، وَرَجَعَ عَنْهُ مِنْ سُفَهَاءِ ثَقِيفٍ مَنْ كَانَ يَتْبَعُهُ، فَعَمَدَ إِلَى ظِلِّ حَبَلَةٍ مِنْ عِنَبٍ فَجَلَسَ فِيهِ، وَابْنَا رَبِيعَةَ يَنْظُرَانِ إِلَيْهِ، وَيَرَيَانِ مَا يَلْقَى مِنْ سُفَهَاءِ أَهْلِ الطَّائِفِ - وَقَدْ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا ذُكِرَ لِي، الْمَرْأَةَ التِي مِنْ بَنِي جُمَحَ، فَقَالَ لَهَا: " مَاذَا لَقِينَا مِنْ أَحْمَائِكِ! ". فَلَمَّا اطْمَأَنَّ، قَالَ - فِيمَا ذُكِرَ لِي -:اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إِلَى بِعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ
تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى
تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ ". هَكَذَا أَوْرَدَ ابْنُ
إِسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ " السِّيرَةِ " هَذَا الدُّعَاءَ مِنْ غَيْرِ
إِسْنَادٍ، بَلْ ذَكَرَهُ مُعَلَّقًا بِصِيغَةِ الْبَلَاغِ، فَقَالَ: فِيمَا
ذُكِرَ لِي.
وَقَدْ رَوَيَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، فِي تَرْجَمَةِ الْقَاسِمِ بْنِ
اللَّيْثِ الرَّسْعَنِيِّ، شَيْخِ النَّسَائِيِّ والطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِ
وَاحِدٍ، بِسَنَدِهِ مِنْ حَدِيثِهِ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي صَفْوَانَ
الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا أَبِي،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ، خَرَجَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ مَاشِيًا عَلَى
قَدَمَيْهِ. قَالَ: فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ،
فَانْصَرَفَ إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ
إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى
النَّاسِ، أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ أَرْحَمُ بِي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟
إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إِنْ
لَمْ تَكُنْ غَضْبَانَ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ
أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ،
وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي
غَضَبَكَ، أَوْ تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فِلْمًا رَآهُ ابْنَا رَبِيعَةَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَمَا
لَقِيَ، تَحَرَّكَتْ لَهُ
رَحِمُهُمَا، فَدَعَوَا
غُلَامًا نَصْرَانِيًّا يُقَالُ لَهُ: عَدَّاسٌ. فَقَالَا لَهُ: خُذْ قِطْفًا مِنْ
هَذَا الْعِنَبِ، فَضَعْهُ فِي هَذَا الطَّبَقِ، ثُمَّ اذْهَبْ بِهِ إِلَى ذَلِكَ
الرَّجُلِ، فَقُلْ لَهُ يَأْكُلُ مِنْهُ، فَفَعَلَ عَدَّاسٌ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ
حَتَّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كُلْ. فَلَمَّا وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فِيهِ، قَالَ: " بِسْمِ اللَّهِ "،
ثُمَّ أَكَلَ، فَنَظَرَ عَدَّاسٌ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ
هَذَا الْكَلَامَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ هَذِهِ الْبِلَادِ! فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمِنْ أَهْلِ أَيِّ بِلَادٍ
أَنْتَ يَا عَدَّاسُ ؟ وَمَا دِينُكَ ؟ ". قَالَ: نَصْرَانِيٌّ، وَأَنَا
رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " مِنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ؟
". فَقَالَ لَهُ عَدَّاسٌ: وَمَا يُدْرِيكَ مَا يُونُسُ بْنُ مَتَّى ؟ !
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذَلِكَ أَخِي،
كَانَ نَبِيًّا وَأَنَا نَبِيٌّ ". فَأَكَبَّ عَدَّاسٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ رَأْسَهُ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ.
قَالَ: يَقُولُ ابْنَاءُ رَبِيعَةَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَمَّا غُلَامُكَ
فَقَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْكَ. فَلَمَّا جَاءَهُمَا عَدَّاسٌ، قَالَا لَهُ: وَيْلَكَ
يَا عَدَّاسُ، مَا لَكَ تُقَبِّلُ رَأْسَ هَذَا الرَّجُلِ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ
؟ قَالَ: يَا سَيِّدِي، مَا فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ خَيْرٌ مِنْ هَذَا، لَقَدْ
أَخْبَرَنِي بِأَمْرٍ مَا يَعْلَمُهُ إِلَّا نَبِيٌّ. قَالَا لَهُ: وَيْحَكَ يَا
عَدَّاسُ، لَا يَصْرِفَنَّكَ عَنْ دِينِكَ; فَإِنَّ دِينَكَ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ نَحْوًا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، إِلَّا
أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الدُّعَاءَ، وَزَادَ: وَقَعَدَ لَهُ أَهْلُ الطَّائِفِ
صَفَّيْنِ عَلَى طَرِيقِهِ، فَلَمَّا مَرَّ جَعَلُوا لَا يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ،
وَلَا يَضَعُهُمَا، إِلَّا رَضَخُوهُمَا بِالْحِجَارَةِ حَتَّى أَدْمَوْهُ،
فَخَلَصَ مِنْهُمْ وَهُمَا يَسِيلَانِ الدِّمَاءَ، فَعَمَدَ إِلَى ظِلِّ حَبَلَةٍ،
وَهُوَ مَكْرُوبٌ، وَفِي ذَلِكَ الْحَائِطِ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا
رَبِيعَةَ فَكَرِهَ
مَكَانَهُمَا; لِعَدَاوَتِهِمَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ
عَدَّاسٍ النَّصْرَانِيِّ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّائِفِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ
أَبِي جَبَلٍ الْعَدْوَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ أَبْصَرَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشْرِقِ ثَقِيفٍ، وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى
قَوْسٍ - أَوْ عَصًى - حِينَ أَتَاهُمْ يَبْتَغِي عِنْدَهُمُ النَّصْرَ،
فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ [ الطَّارِقِ: 1 ] حَتَّى
خَتَمَهَا. قَالَ: فَوَعَيْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا مُشْرِكٌ، ثُمَّ
قَرَأْتُهَا فِي الْإِسْلَامِ. قَالَ فَدَعَتْنِي ثَقِيفٌ، فَقَالُوا: مَاذَا
سَمِعْتَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ ؟ فَقَرَأْتُهَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ مَنْ مَعَهُمْ
مِنْ قُرَيْشٍ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِصَاحِبِنَا، لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ مَا يَقُولُ
حَقًّا لَاتَّبَعْنَاهُ.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا
قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى
عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ ؟ قَالَ: " لَقَدْ لَقِيتُ
مِنْ قَوْمِكَ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ
الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ
كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ
عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ،
فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ
فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ
قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ
إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ
لِتَأْمُرَهُ بِمَا
شِئْتَ فِيهِمْ. ثُمَّ نَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ
قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا
مَلَكُ الْجِبَالِ قَدْ بَعَثَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ; لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ،
فَمَا شِئْتَ ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَلْ أَرْجُو أَنْ
يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لَا
يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ".
فَصْلٌ
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ سَمَاعَ الْجِنِّ لِقِرَاءَةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ مَرْجِعَهُ مِنَ الطَّائِفِ
حِينَ بَاتَ بِنَخْلَةَ، وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الصُّبْحَ، فَاسْتَمَعَ الْجِنُّ
الَّذِينَ صُرِفُوا إِلَيْهِ قِرَاءَتَهُ هُنَالِكَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
وَكَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ قَوْلَهُ: وَإِذْ
صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [
الْأَحْقَافِ: 29 ]
قُلْتُ: وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي " التَّفْسِيرِ
"، وَتَقَدَّمَ قِطْعَةٌ مِنْ ذَلِكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ دَخَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ مَرْجِعَهُ مِنَ
الطَّائِفِ فِي جِوَارِ الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ، وَازْدَادَ قَوْمُهُ عَلَيْهِ
حَنَقًا، وَغَيْظًا، وَجُرْأَةً، وَتَكْذِيبًا، وَعِنَادًا. وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
وَقَدْ ذَكَرَ
الْأُمَوِيُّ فِي " مَغَازِيهِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُرَيْقِطٍ إِلَى الْأَخْنَسِ بْنِ
شَرِيقٍ، فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُجِيرَهُ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: إِنَّ حَلِيفَ
قُرَيْشٍ لَا يُجِيرُ عَلَى صَمِيمِهَا. ثُمَّ بَعَثَهُ إِلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو
; لِيُجِيرَهُ، فَقَالَ: إِنَّ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ لَا تُجِيرُ عَلَى
بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. فَبَعَثَهُ إِلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ ;
لِيُجِيرَهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، قُلْ لَهُ فَلْيَأْتِ. فَذَهَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَاتَ عِنْدَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ،
فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَ مَعَهُ هُوَ وَبَنُوهُ سِتَّةٌ - أَوْ سَبْعَةٌ -
مُتَقَلِّدِي السُّيُوفَ جَمِيعًا، فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَقَالَ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طُفْ. وَاحْتَبَوْا بِحَمَائِلِ
سُيُوفِهِمْ فِي الْمَطَافِ، فَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مُطْعِمٍ، فَقَالَ:
أَمُجِيرٌ أَمْ تَابِعٌ ؟ قَالَ: لَا، بَلْ مُجِيرٌ. قَالَ: إِذًا لَا تُخْفَرُ.
فَجَلَسَ مَعَهُ حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
طَوَافَهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ انْصَرَفُوا مَعَهُ، وَذَهَبَ أَبُو سُفْيَانَ
إِلَى مَجْلِسِهِ. قَالَ: فَمَكَثَ أَيَّامًا ثُمَّ أُذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ،
فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْمَدِينَةِ تُوُفِّيَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ بَعْدَهُ بِيَسِيرٍ، فَقَالَ
حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: وَاللَّهِ لَأَرْثِيَنَّهُ، فَقَالَ فِيمَا قَالَ:
فَلَوْ كَانَ مَجْدٌ يُخْلِدُ الْيَوْمَ وَاحِدًا مِنَ النَّاسِ نَجَّى مَجْدُهُ
الْيَوْمَ مُطْعِمَا أَجَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا
عِبَادَكَ مَا لَبَّى مُحِلٌّ وَأَحْرَمَا فَلَوْ سُئِلَتْ عَنْهُ مَعَدٌّ
بِأَسْرِهَا
وَقَحْطَانُ أَوْ بَاقِي بَقِيَّةِ جُرْهُمَا لَقَالُوا هُوَ الْمُوفِي بِخُفْرَةِ
جَارِهِ
وَذِمَّتِهِ يَوْمًا إِذَا مَا تَذَمَّمَا
وَمَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ
الْمُنِيرَةُ فَوْقَهُمْ
عَلَى مِثْلِهِ فِيهُمُ أَعَزَّ وَأَكْرَمَا أَبِيًّا إِذَا يَأْبَى وَأَلْيَنَ
شِيمَةً
وَأَنْوَمَ عَنْ جَارٍ إِذَا اللَّيْلُ أَظْلَمَا
قُلْتُ: وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
أُسَارَى بَدْرٍ: " لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ
سَأَلَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَوَهَبْتُهُمْ لَهُ ".
فَصْلٌ: فِي عَرْضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ
الْكَرِيمَةَ عَلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ، أَنْ يُؤْوُوهُ
وَيَنْصُرُوهُ، وَيَمْنَعُوهُ مِمَّنْ كَذَّبَهُ وَخَالَفَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ
أَحَدٌ مِنْهُمْ، لِمَا ذَخَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَنْصَارِ مِنَ
الْكَرَامَةِ الْعَظِيمَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَكَّةَ، وَقَوْمُهُ أَشَدُّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ
وَفِرَاقِ دِينِهِ، إِلَّا قَلِيلًا مُسْتَضْعَفِينَ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ، فَكَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ فِي
الْمَوَاسِمِ - إِذَا كَانَتْ - عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ يَدْعُوهُمْ إِلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَيَسْأَلُهُمْ
أَنْ يُصَدِّقُوهُ وَيَمْنَعُوهُ، حَتَّى يُبَيِّنَ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَهُ
بِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ
زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ،
عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ
عِبَادٍ الدُّؤَلِيِّ، أَوْ مَنْ حَدَّثَهُ أَبُو الزِّنَادِ عَنْهُ. وَحَدَّثَنِي
حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ عِبَادٍ يُحَدِّثُهُ أَبِي، قَالَ:إِنِّي لَغُلَامٌ
شَابٌّ مَعَ أَبِي بِمِنًى، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقِفُ عَلَى مَنَازِلِ الْقَبَائِلِ مِنَ الْعَرَبِ، فَيَقُولُ: " يَا بَنِي
فُلَانٍ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، آمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ
وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَخْلَعُوا مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ
مِنْ هَذِهِ الْأَنْدَادِ، وَأَنْ تُؤْمِنُوا بِي، وَتُصَدِّقُونِي،
وَتَمْنَعُونِي، حَتَّى أُبَيِّنَ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَنِي بِهِ ". قَالَ:
وَخَلْفَهُ رَجُلٌ أَحْوَلُ، وَضِيءٌ، لَهُ غَدِيرَتَانِ، عَلَيْهِ حُلَّةٌ
عَدَنِيَّةٌ، فَإِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ قَوْلِهِ وَمَا دَعَا إِلَيْهِ، قَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: يَا بَنِي فُلَانٍ،
إِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَدْعُوكُمْ إِلَى أَنْ تَسْلُخُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى
مِنْ أَعْنَاقِكُمْ، وَحُلَفَاءَكُمْ مِنَ الْجِنِّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ
أُقَيْشٍ، إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، فَلَا
تُطِيعُوهُ وَلَا تَسْمَعُوا مِنْهُ. قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَتِ، مَنْ
هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي يَتْبَعُهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ ؟ قَالَ:
هَذَا عَمَّهُ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَبُو لَهَبٍ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي
الْعَبَّاسِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ،
أَخْبَرَنِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: رَبِيعَةُ بْنُ عِبَادٍ مِنْ بَنِي الدُّئِلِ،
وَكَانَ جَاهِلِيًّا فَأَسْلَمَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي سُوقِ ذِي الْمَجَازِ، وَهُوَ
يَقُولُ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
تُفْلِحُوا ". وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ
وَضِيءُ الْوَجْهِ، أَحْوَلُ، ذُو
غَدِيرَتَيْنِ، يَقُولُ:
إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ. يَتْبَعُهُ حَيْثُ ذَهَبَ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ،
فَذَكَرُوا لِي نَسَبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَقَالُوا: هَذَا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُنْكَدِرِ، عَنْ رَبِيعَةَ الدُّؤَلِيِّ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ، يَتْبَعُ النَّاسَ فِي
مَنَازِلِهِمْ وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ أَحْوَلُ، تَقِدُ وَجْنَتَاهُ، وَهُوَ يَقُولُ:
أَيُّهَا النَّاسُ، لَايَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ وَدِينِ آبَائِكُمْ.
قُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا: أَبُو لَهَبٍ. وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي
" الدَّلَائِلِ " مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَسَعِيدِ بْنِ
سَلَمَةَ بْنِ الْحُسَامِ، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ بِهِ
نَحْوَهُ.
ثُمَّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ
سُلَيْمٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ كِنَانَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَهُوَ يَقُولُ: " يَا
أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا ".
وَإِذَا رَجُلٌ خَلْفَهُ يَسْفِي عَلَيْهِ التُّرَابَ، فَإِذَا هُوَ أَبُو جَهْلٍ،
وَإِذَا هُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ
دِينِكُمْ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ تَتْرُكُوا عِبَادَةَ اللَّاتِ وَالْعُزَّى.
كَذَا قَالَ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَبُو جَهْلٍ، وَقَدْ يَكُونُ وَهْمًا،
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَارَةً يَكُونُ ذَا، وَتَارَةً يَكُونُ ذَا،
وَأَنَّهُمَا كَانَا يَتَنَاوَبَانِ عَلَى إِيذَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَحَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، أَنَّهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى
كِنْدَةَ فِي
مَنَازِلِهِمْ، وَفِيهِمْ سَيِّدٌ لَهُمْ، يُقَالُ لَهُ: مُلَيْحٌ. فَدَعَاهُمْ
إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّهُ أَتَى كَلْبًا فِي مَنَازِلِهِمْ، إِلَى
بَطْنٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَبْدِ اللَّهِ. فَدَعَاهُمْ إِلَى
اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ لَهُمْ: "
يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ اسْمَ أَبِيكُمْ ".
فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ.
وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بَنِي حَنِيفَةَ
فِي مَنَازِلِهِمْ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ،
فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ أَقْبَحَ رَدًّا عَلَيْهِ مِنْهُمْ.
وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، أَنَّهُ أَتَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ،
فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ
مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ: بَيْحَرَةُ بْنُ فِرَاسٍ: وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي أَخَذْتُ
هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ لَأَكَلْتُ بِهِ الْعَرَبَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ:
أَرَأَيْتَ إِنْ نَحْنُ تَابَعْنَاكَ عَلَى أَمْرِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ
عَلَى مَنْ يُخَالِفُكَ، أَيَكُونُ لَنَا الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ ؟ قَالَ: "
الْأَمْرُ لِلَّهِ، يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ ". قَالَ: فَقَالَ لَهُ:
أَفَنُهْدِفُ نُحُورَنَا لِلْعَرَبِ دُونَكَ، فَإِذَا أَظْهَرَكَ اللَّهُ كَانَ
الْأَمْرُ لِغَيْرِنَا! لَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِكَ. فَأَبَوْا عَلَيْهِ،
فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ، رَجَعَتْ بَنُو عَامِرٍ إِلَى شَيْخٍ لَهُمْ، قَدْ
كَانَ أَدْرَكَهُ السِّنُّ، حَتَّى لَا يَقْدِرَ أَنْ يُوَافِيَ مَعَهُمُ
الْمَوْسِمَ، فَكَانُوا إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِ، حَدَّثُوهُ بِمَا
يَكُونُ فِي ذَلِكَ
الْمَوْسِمِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعَامَ سَأَلَهُمْ عَمَّا كَانَ
فِي مَوْسِمِهِمْ، فَقَالُوا: جَاءَنَا فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ، أَحَدُ بَنِي
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، يَدْعُونَا إِلَى أَنْ نَمْنَعَهُ،
وَنَقُومَ مَعَهُ، وَنَخْرُجَ بِهِ إِلَى بِلَادِنَا. قَالَ: فَوَضَعَ الشَّيْخُ
يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي عَامِرٍ، هَلْ لَهَا مِنْ تَلَافٍ
؟ هَلْ لِذُنَابَاهَا مِنْ مَطْلَبٍ ؟ وَالَّذِي نَفْسُ فُلَانٍ بِيَدِهِ مَا
تَقَوَّلَهَا إِسْمَاعِيلِيٌّ قَطُّ، وَإِنَّهَا لَحَقٌّ، فَأَيْنَ رَأْيُكُمْ
كَانَ عَنْكُمْ!
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ السِّنِينَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى
قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ، وَيُكَلِّمُ كُلَّ شَرِيفِ قَوْمٍ، لَا
يَسْأَلُهُمْ مَعَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُؤْوُوهُ وَيَمْنَعُوهُ، وَيَقُولُ: "
لَا أُكْرِهُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَلَى شَيْءٍ، مَنْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِالَّذِي
أَدْعُوهُ إِلَيْهِ فَذَلِكَ، وَمَنْ كَرِهَ لَمْ أُكْرِهْهُ، إِنَّمَا أُرِيدُ
أَنْ تَحْرُزُونِي مِمَّا يُرَادُ بِي مِنَ الْقَتْلِ، حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ
رَبِّي، وَحَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ لِي وَلِمَنْ صَحِبَنِي بِمَا شَاءَ ".
فَلَمْ يَقْبَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ
الْقَبَائِلِ إِلَّا قَالَ: قَوْمُ الرَّجُلِ أَعْلَمُ بِهِ، أَتَرَوْنَ أَنَّ
رَجُلًا يُصْلِحُنَا وَقَدْ أَفْسَدَ قَوْمَهُ وَلَفَظُوهُ ؟ وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا
ذَخَرَهُ اللَّهُ لِلْأَنْصَارِ وَأَكْرَمَهُمْ بِهِ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْأَجْلَحِ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ
الْعَبَّاسِ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " لَا أَرَى لِي عِنْدَكَ وَلَا
عِنْدَ أَخِيكَ مَنَعَةً، فَهَلْ أَنْتَ مُخْرِجِي إِلَى السُّوقِ غَدًا، حَتَّى تُعَرِّفَنِي مَنَازِلَ قَبَائِلِ النَّاسِ ؟ " - وَكَانَتْ مَجْمَعَ الْعَرَبِ - قَالَ: فَقُلْتُ: هَذِهِ كِنْدَةُ وَلَفُّهَا، وَهِيَ أَفْضَلُ مَنْ يَحُجُّ الْبَيْتَ مِنَ الْيَمَنِ، وَهَذِهِ مَنَازِلُ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَهَذِهِ مَنَازِلُ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ. قَالَ: فَبَدَأَ بِكِنْدَةَ فَأَتَاهُمْ، فَقَالَ: " مِمَّنِ الْقَوْمُ ؟ " قَالُوا: مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ. قَالَ: " مِنْ أَيِّ الْيَمَنِ ؟ " قَالُوا: مِنْ كِنْدَةَ. قَالَ: " مِنْ أَيِّ كِنْدَةَ ؟ " قَالُوا: مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ. قَالَ: " فَهَلْ لَكُمْ إِلَى خَيْرٍ ؟ " قَالُوا: وَمَا هُوَ ؟ قَالَ: " تَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَتُقِيمُونَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَجْلَحِ: وَحَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَشْيَاخِ قَوْمِهِ أَنَّ كِنْدَةَ قَالَتْ لَهُ: إِنْ ظَفِرْتَ تَجْعَلُ لَنَا الْمُلْكَ مِنْ بَعْدِكَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْمُلْكَ لِلَّهِ يَجْعَلُهُ حَيْثُ يَشَاءُ ". فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيمَا جِئْتَنَا بِهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فَقَالُوا: أَجِئْتَنَا لِتَصُدَّنَا عَنْ آلِهَتِنَا، وَنُنَابِذَ الْعَرَبَ، الْحَقْ بِقَوْمِكَ، فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِكَ. فَانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِهِمْ فَأَتَى بَكْرَ بْنَ وَائِلٍ، فَقَالَ: " مِمَّنِ الْقَوْمُ ؟ " قَالُوا: مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ. فَقَالَ: " مِنْ أَيِّ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ؟ " قَالُوا: مِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. قَالَ: كَيْفَ الْعَدَدُ ؟ قَالُوا: كَثِيرٌ مِثْلُ الثَّرَى. قَالَ: " فَكَيْفَ الْمَنَعَةُ ؟ " قَالُوا: لَا مَنَعَةَ، جَاوَرْنَا فَارِسَ، فَنَحْنُ لَا نَمْتَنِعُ مِنْهُمْ وَلَا نُجِيرُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: " فَتَجْعَلُونَ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ إِنْ هُوَ أَبْقَاكُمْ حَتَّى تَنْزِلُوا مَنَازِلَهُمْ، وَتَسْتَنْكِحُوا نِسَاءَهُمْ، وَتَسْتَعْبِدُوا أَبْنَاءَهُمْ، أَنْ تُسَبِّحُوا اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدُوهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرُوهُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ ؟ " قَالُوا: وَمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: " أَنَا رَسُولُ اللَّهِ ". ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَمَّا وَلَّى عَنْهُمْ - قَالَ الْكَلْبِيُّ -: وَكَانَ عَمُّهُ
أَبُو لَهَبٍ يَتْبَعُهُ،
فَيَقُولُ لِلنَّاسِ: لَا تَقْبَلُوا قَوْلَهُ. ثُمَّ مَرَّ أَبُو لَهَبٍ
فَقَالُوا: هَلْ تَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، هَذَا فِي الذُّرْوَةِ
مِنَّا، فَعَنْ أَيِّ شَأْنِهِ تَسْأَلُونَ ؟ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا دَعَاهُمْ
إِلَيْهِ، وَقَالُوا: زَعَمَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: أَلَا لَا
تَرْفَعُوا بِقَوْلِهِ رَأْسًا ; فَإِنَّهُ مَجْنُونٌ يَهْذِي أُمُّ رَأْسِهِ.
قَالُوا: قَدْ رَأَيْنَا ذَلِكَ حِينَ ذَكَرَ مِنْ أَمْرِ فَارِسَ مَا ذَكَرَ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْعَامِرِيُّ، عَنْ
أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالُوا: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِسُوقِ عُكَاظٍ، فَقَالَ: " مِمَّنِ الْقَوْمُ
؟ " قُلْنَا: مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ. قَالَ: " مِنْ أَيِّ
بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ ؟ " قَالُوا: بَنُو كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ.
قَالَ: " كَيْفَ الْمَنَعَةُ ؟ " قُلْنَا: لَا يُرَامُ مَا قِبَلَنَا،
وَلَا يُصْطَلَى بِنَارِنَا. قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ: " إِنِّي رَسُولُ
اللَّهِ، وَأَتَيْتُكُمْ لِتَمْنَعُونِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي، وَلَا
أُكْرِهُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَلَى شَيْءٍ ". قَالُوا: وَمِنْ أَيِّ قُرَيْشٍ
أَنْتَ ؟ قَالَ: " مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ". قَالُوا: فَأَيْنَ
أَنْتَ مِنْ عَبْدِ مَنَافٍ ؟ قَالَ:: " هُمْ أَوَّلُ مَنْ كَذَّبَنِي
وَطَرَدَنِي ". قَالُوا: وَلَكِنَّا لَا نَطْرُدُكَ وَلَا نُؤْمِنُ بِكَ،
وَسَنَمْنَعُكَ حَتَّى تُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّكَ. قَالَ: فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ
وَالْقَوْمُ يَتَسَوَّقُونَ، إِذْ أَتَاهُمْ بَيْحَرَةُ بْنُ فِرَاسٍ
الْقُشَيْرِيُّ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ أَرَاهُ عِنْدَكُمْ أُنْكِرُهُ ؟
قَالُوا: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ. قَالَ فَمَا لَكَمَ وَلَهُ
؟ قَالُوا: زَعَمَ لَنَا أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَطَلَبَ إِلَيْنَا أَنْ
نَمْنَعَهُ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ. قَالَ: مَاذَا رَدَدْتُمْ عَلَيْهِ ؟ قَالُوا: بِالرَّحْبِ وَالسَّعَةِ، نُخْرِجُكَ إِلَى بِلَادِنَا، وَنَمْنَعُكَ مَا نَمْنَعُ بِهِ أَنْفُسَنَا. قَالَ بَيْحَرَةُ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ السُّوقِ يَرْجِعُ بِشَيْءٍ أَشَرَّ مِنْ شَيْءٍ تَرْجِعُونَ بِهِ، بَدَأْتُمْ لِتُنَابِذُوا النَّاسَ وَتَرْمِيَكُمُ الْعَرَبُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، قَوْمُهُ أَعْلَمُ بِهِ، لَوْ آنَسُوا مِنْهُ خَيْرًا لَكَانُوا أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، أَتَعْمِدُونَ إِلَى رَهِيقِ قَوْمٍ، قَدْ طَرَدَهُ قَوْمُهُ وَكَذَّبُوهُ فَتُؤْوُونَهُ وَتَنْصُرُونَهُ؟! فَبِئْسَ الرَّأْيُ رَأَيْتُمْ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: قُمْ فَالْحَقْ بِقَوْمِكَ، فَوَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّكَ عِنْدَ قَوْمِي لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ. قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَاقَتِهِ فَرَكِبَهَا، فَغَمَزَ الْخَبِيثُ بَيْحَرَةُ شَاكِلَتَهَا، فَقَمَصَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْقَتْهُ، وَعِنْدَ بَنِي عَامِرٍ يَوْمَئِذٍ ضُبَاعَةُ ابْنَةُ عَامِرِ بْنِ قُرْطٍ، كَانَتْ مِنَ النِّسْوَةِ اللَّاتِي أَسْلَمْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، جَاءَتْ زَائِرَةً إِلَى بَنِي عَمِّهَا، فَقَالَتْ: يَا آلَ عَامِرٍ، وَلَا عَامِرَ لِي، أَيُصْنَعُ هَذَا بِرَسُولِ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ لَا يَمْنَعُهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ ؟ فَقَامَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنْ بَنِي عَمِّهَا إِلَى بَيْحَرَةَ، وَاثْنَيْنِ أَعَانَاهُ فَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ رَجُلًا فَجَلَدَ بِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ عَلَوْا وُجُوهَهُمْ لَطْمًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَالْعَنْ هَؤُلَاءِ ". قَالَ: فَأَسْلَمَ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ نَصَرُوهُ، وَقُتِلُوا شُهَدَاءَ وَهُمْ; غُطَيْفٌ وَغَطَفَانُ ابْنَا سَهْلٍ وَعُرْوَةُ - أَوْ عَزْرَةُ - بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهَلَكَ الْآخَرُونَ لَعْنًا وَهُمْ; بَيْحَرَةُ بْنُ فِرَاسٍ، وَحَزْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سَلَمَةَ بْنِ قُشَيْرٍ،
وَمُعَاوِيَةُ بْنُ عُبَادَةَ أَحَدُ بَنِي عَقِيلٍ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ لَعْنًا
كَبِيرًا. وَهَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ كَتَبْنَاهُ لِغَرَابَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ الْحَافِظُسَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ فِي " مَغَازِيهِ " عَنْ أَبِيهِ بِهِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قِصَّةِ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَقَبِيحِ
رَدِّهِمْ عَلَيْهِ، وَأَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ وَأَطْوَلُ مَا رَوَاهُ أَبُو
نُعَيْمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ - وَالسِّيَاقُ لِأَبِي نُعَيْمٍ -
رَحِمَهُمُ اللَّهُ مِنْ حَدِيثِ أَبَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، عَنْ
أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَعْرِضَ
نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، خَرَجَ وَأَنَا مَعَهُ وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى
مِنًى، حَتَّى دَفَعْنَا إِلَى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْعَرَبِ، فَتَقَدَّمَ
أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُقَدَّمًا
فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَكَانَ رَجُلًا نَسَّابَةً، فَقَالَ: مِمَّنِ الْقَوْمُ ؟
قَالُوا: مِنْ رَبِيعَةَ. قَالَ: وَأَيُّ رَبِيعَةَ أَنْتُمْ ؟ أَمِنْ هَامِهَا
أَمْ مِنْ لَهَازِمِهَا. قَالُوا: بَلْ مِنْ هَامَتِهَا الْعُظْمَى. قَالَ أَبُو
بَكْرٍ: فَمَنْ أَيِّ هَامَتِهَا الْعُظْمَى ؟ قَالُوا: ذُهْلٌ الْأَكْبَرُ. قَالَ
لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ: مِنْكُمْ عَوْفٌ الَّذِي كَانَ
يُقَالُ: لَا حُرَّ
بَوَادِي عَوْفٍ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَمِنْكُمْ بِسْطَامُ بْنُ قَيْسِ بْنِ
مَسْعُودٍ أَبُو اللِّوَاءِ وَمُنْتَهَى الْأَحْيَاءِ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ:
فَمِنْكُمْ الْحَوْفَزَانُ بْنُ شَرِيكٍ قَاتِلُ الْمُلُوكِ وَسَالِبُهَا
أَنْفُسَهَا ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَمِنْكُمْ جَسَّاسُ بْنُ مُرَّةَ بْنِ ذُهْلٍ
حَامِي الذِّمَارِ وَمَانِعُ الْجَارِ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَمِنْكُمُ
الْمُزْدَلِفُ صَاحِبُ الْعِمَامَةِ الْفَرْدَةِ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ:
فَأَنْتُمْ أَخْوَالُ الْمُلُوكِ مِنْ كِنْدَةَ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأَنْتُمْ
أَصْهَارُ الْمُلُوكِ مِنْ لَخْمٍ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَلَسْتُمْ بِذُهْلٍ الْأَكْبَرِ، بَلْ أَنْتُمْ ذُهْلٌ
الْأَصْغَرُ. قَالَ: فَوَثَبَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ غُلَامٌ يُدْعَى دَغْفَلَ بْنَ
حَنْظَلَةَ الذُّهْلِيَّ، حِينَ بَقَلَ وَجْهُهُ، فَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَةِ
أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ يَقُولُ:
إِنَّ عَلَى سَائِلِنَا أَنْ نَسْأَلَهْ وَالْعِبْءَ لَا تَعْرِفُهُ أَوْ
تَحْمِلُهُ
يَا هَذَا، إِنَّكَ سَأَلْتَنَا فَأَخْبَرْنَاكَ وَلَمْ نَكْتُمْكَ شَيْئًا،
وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نَسْأَلَكَ مِمَّنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ.
فَقَالَ الْغُلَامُ: بَخٍ بَخٍ أَهْلُ السُّؤْدُدِ وَالرِّئَاسَةِ، وَأَزِمَّةُ
الْعَرَبِ وَهُدَاتُهَا، مِمَّنْ أَنْتَ مِنْ قُرَيْشٍ ؟ فَقَالَ لَهُ: رَجُلٌ
مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ
مُرَّةَ. فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: أَمْكَنْتَ وَاللَّهِ الرَّامِيَ مِنْ سَوَاءِ
الثُّغْرَةِ ؟ أَفَمِنْكُمْ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ الَّذِي قَتَلَ بِمَكَّةَ
الْمُتَغَلِّبِينَ عَلَيْهَا، وَأَجْلَى بَقِيَّتَهُمْ، وَجَمَعَ قَوْمَهُ مِنْ
كُلِّ أَوْبٍ حَتَّى أَوَطَنَهُمْ مَكَّةَ، ثُمَّ اسْتَوْلَى عَلَى الدَّارِ،
وَنَزَّلَ قُرَيْشًا مَنَازِلَهَا، فَسَمَّتْهُ الْعَرَبُ بِذَلِكَ مُجَمِّعًا،
وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ
أَلَيْسَ أَبُوكُمْ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ
مِنْ فِهْرِ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا. قَالَ: فَمِنْكُمْ عَبْدُ مَنَافٍ الَّذِي انْتَهَتْ
إِلَيْهِ الْوَصَايَا وَأَبُو الْغَطَارِيفِ السَّادَةِ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
لَا. قَالَ: فَمِنْكُمْ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ هَاشِمٌ الَّذِي هَشَمَ
الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ وَلِأَهْلِ مَكَّةَ، فَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ:
عَمْرُو الْعُلَا هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ
عِجَافُ
سَنُّوا إِلَيْهِ الرِّحْلَتَيْنِ كِلَيْهِمَا عِنَدَ الشِّتَاءِ وَرِحْلَةَ
الْأَصْيَافِ
كَانَتْ قُرَيْشٌ بَيْضَةً فَتَفَلَّقَتْ فَالْمُحُّ خَالِصُهُ لِعَبْدِ مَنَافِ
الرَّائِشِينَ وَلَيْسَ يُعْرَفُ رَائِشٌ وَالْقَائِلِينَ هَلُمَّ لِلْأَضْيَافِ
وَالضَّارِبِينَ
الْكَبْشَ يَبْرُقُ بَيْضُهُ وَالْمَانِعِينَ الْبَيْضَ بِالْأَسْيَافِ
لِلَّهِ دَرُّكَ لَوْ نَزَلْتَ بِدَارِهِمْ مَنَعُوكَ مِنْ أَزْلٍ وَمِنْ
إِقْرَافِ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا. قَالَ: فَمِنْكُمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ شَيْبَةُ
الْحَمْدِ، وَصَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ، وَمُطْعِمُ طَيْرِ السَّمَاءِ وَالْوُحُوشِ
وَالسِّبَاعِ فِي الْفَلَا، الَّذِي كَأَنَّ وَجْهَهُ قَمَرٌ يَتَلَأْلَأُ فِي
اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ الْإِفَاضَةِ
أَنْتَ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ الْحِجَابَةِ أَنْتَ ؟ قَالَ: لَا.
قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ النَّدْوَةِ أَنْتَ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ
السِّقَايَةِ أَنْتَ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ الرِّفَادَةِ أَنْتَ ؟
قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَمَنِ الْمُفِيضِينَ بِالنَّاسِ أَنْتَ ؟ قَالَ لَا. ثُمَّ
جَذَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زِمَامَ نَاقَتِهِ مِنْ يَدِهِ،
فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ:
صَادَفَ دَرْءَ السَّيْلِ دَرْءٌ يَدْفَعُهُ يَهِيضُهُ حِينًا وَحِينًا يَصْدَعُهْ
ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ يَا أَخَا قُرَيْشٍ، لَوْ ثَبَتَّ لَخَبَّرْتُكَ أَنَّكَ مِنْ زَمَعَاتِ قُرَيْشٍ وَلَسْتَ مِنَ الذَّوَائِبِ. قَالَ: فَأَقْبَلَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَسَّمُ. قَالَ عَلِيٌّ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا بَكْرٍ لَقَدْ وَقَعْتَ مِنَ الْأَعْرَابِيِّ عَلَى بَاقِعَةٍ. فَقَالَ: أَجَلْ يَا أَبَا الْحَسَنِ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَامَّةٍ إِلَّا وَفَوْقَهَا طَامَّةٌ، وَالْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْقَوْلِ. قَالَ: ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى مَجْلِسٍ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَإِذَا مَشَايِخُ لَهُمْ أَقْدَارٌ وَهَيْئَاتٌ، فَتُقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَسَلَّمَ - قَالَ عَلِيٌّ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُقَدَّمًا فِي كُلِّ خَيْرٍ - فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ: مِمَّنِ الْقَوْمُ ؟ قَالُوا: نَحْنُ بَنِي شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَالْتَفَتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، لَيْسَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ مِنْ عِزٍّ فِي قَوْمِهِمْ - وَفِي رِوَايَةٍ: لَيْسَ وَرَاءَ هَؤُلَاءِ غُرَرٌ مِنْ قَوْمِهِمْ - وَهَؤُلَاءِ غُرَرُ النَّاسِ. وَكَانَ فِي الْقَوْمِ; مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو، وَهَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ، وَالْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ، وَكَانَ أَقْرَبَ الْقَوْمِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ بَيَانًا وَلِسَانًا، وَكَانَتْ لَهُ غَدِيرَتَانِ تَسْقُطَانِ عَلَى صَدْرِهِ، فَكَانَ أَدْنَى الْقَوْمِ مَجْلِسًا مِنْ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: كَيْفَ الْعَدَدُ فِيكُمْ ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّا لَنَزِيدُ عَلَى أَلْفٍ، وَلَنْ تُغْلَبَ أَلْفٌ مِنْ قِلَّةٍ. فَقَالَ لَهُ: فَكَيْفَ الْمَنَعَةُ فِيكُمْ ؟ فَقَالَ: عَلَيْنَا الْجَهْدُ وَلِكُلِّ قَوْمٍ جِدٌّ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَيْفَ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّكُمْ ؟ فَقَالَ مَفْرُوقٌ: إِنَّا أَشَدُّ مَا نَكُونُ
غَضَبًا حِينَ نَلْقَى، وَإِنَّا أَشُدُّ مَا نَكُونُ لِقَاءً حِينَ نَغْضَبُ، وَإِنَّا لَنُؤْثِرُ الْجِيَادَ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَالسِّلَاحَ عَلَى اللِّقَاحِ، وَالنَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يُدِيلُنَا مَرَّةً وَيُدِيلُ عَلَيْنَا مَرَّةً. لَعَلَّكَ أَخُو قُرَيْشٍ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنْ كَانَ بَلَغَكُمْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَا هُوَ هَذَا. فَقَالَ مَفْرُوقٌ: قَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ يَذْكُرُ ذَلِكَ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِلَامَ تَدْعُو يَا أَخَا قُرَيْشٍ فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ، وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ يُظِلُّهُ بِثَوْبِهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَدْعُوكُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنْ تُؤْوُنِي، وَتَمْنَعُونِي، وَتَنْصُرُونِي حَتَّى أُؤَدِّيَ عَنِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَنِي بِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَكَذَّبَتْ رَسُولَهُ، وَاسْتَغْنَتْ بِالْبَاطِلِ عَنِ الْحَقِّ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ". قَالَ لَهُ: وَإِلَامَ تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ ؟ فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِلَى قَوْلِهِ: فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ الْأَنْعَامِ: 151 ] فَقَالَ لَهُ مَفْرُوقٌ: وَإِلَامَ تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ ؟ فَوَاللَّهِ مَا هَذَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ كَلَامِهِمْ لَعَرَفْنَاهُ. فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [ النَّحْلِ: 90 ] فَقَالَ لَهُ مَفْرُوقٌ: دَعَوْتَ وَاللَّهِ يَا قُرَشِيُّ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، وَلَقَدْ
أُفِكَ قَوْمٌ كَذَّبُوكَ، وَظَاهَرُوا عَلَيْكَ - وَكَأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَشْرَكَهُ فِي الْكَلَامِ هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ - فَقَالَ: وَهَذَا هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ شَيْخُنَا وَصَاحِبُ دِينِنَا. فَقَالَ لَهُ هَانِئٌ: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ، وَصَدَّقْتُ قَوْلَكَ، وَإِنِّي أَرَى أَنَّ تَرْكَنَا دِينَنَا وَاتِّبَاعَنَا إِيَّاكَ عَلَى دِينِكَ - لِمَجْلِسٍ جَلَسْتَهُ إِلَيْنَا لَيْسَ لَهُ أَوَّلُ وَلَا آخِرٌ، لَمْ نَتَفَكَّرْ فِي أَمْرِكَ وَنَنْظُرْ فِي عَاقِبَةِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ - زَلَّةٌ فِي الرَّأْيِ وَطَيْشَةٌ فِي الْعَقْلِ وَقِلَّةُ نَظَرٍ فِي الْعَاقِبَةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الزَّلَّةُ مَعَ الْعَجَلَةِ، وَإِنَّ مِنْ وَرَائِنَا قَوْمًا نَكْرَهُ أَنْ نَعْقِدَ عَلَيْهِمْ عَقْدًا، وَلَكِنْ تَرْجِعُ وَنَرْجِعُ وَتَنْظُرُ وَنَنْظُرُ - وَكَأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَشْرَكَهُ فِي الْكَلَامِ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ - فَقَالَ: وَهَذَا الْمُثَنَّى شَيْخُنَا وَصَاحِبُ حَرْبِنَا. فَقَالَ الْمُثَنَّى: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ، وَاسْتَحْسَنْتُ قَوْلَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ، وَأَعْجَبَنِي مَا تَكَلَّمْتَ بِهِ، وَالْجَوَابُ هُوَ جَوَابُ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ، وَتَرْكُنَا دِينَنَا وَاتِّبَاعُنَا إِيَّاكَ لِمَجْلِسٍ جَلَسْتَهُ إِلَيْنَا، وَإِنَّا إِنَّمَا نَزَلْنَا بَيْنَ صِيرَيْنِ; أَحَدُهُمَا الْيَمَامَةُ، وَالْآخَرُ السَّمَامَةُ.، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَا هَذَانَ الصِّيرَانِ ؟ " فَقَالَ لَهُ: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَطُفُوفُ الْبَرِّ وَأَرْضُ الْعَرَبِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَرْضُ فَارِسَ وَأَنْهَارُ كِسْرَى، وَإِنَّمَا نَزَلْنَا عَلَى عَهْدٍ أَخَذَهُ عَلَيْنَا كِسْرَى أَنْ لَا نُحْدِثَ حَدَثًا وَلَا نُؤْوِيَ مُحْدِثًا، وَلَعَلَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِمَّا تَكْرَهُهُ
الْمُلُوكُ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِمَّا يَلِي بِلَادَ الْعَرَبِ فَذَنْبُ صَاحِبِهِ مَغْفُورٌ، وَعُذْرُهُ مَقْبُولٌ، وَأَمَّا مَا كَانَ يَلِي بِلَادَ فَارِسَ فَذَنَبُ صَاحِبِهِ غَيْرُ مَغْفُورٍ، وَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ نَنْصُرَكَ وَنَمْنَعَكَ مِمَّا يَلِي الْعَرَبَ فَعَلْنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَسَأْتُمُ الرَّدَّ إِذْ أَفْصَحْتُمْ بِالصِّدْقِ، إِنَّهُ لَا يَقُومُ بِدِينِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَرَأَيْتُمْ إِنْ لَمْ تَلْبَثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَمْنَحَكُمُ اللَّهُ بِلَادَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَيُفْرِشَكُمْ بَنَاتِهِمْ، أَتُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَتُقَدِّسُونَهُ ؟ " فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ: اللَّهُمَّ وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ. فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [ الْأَحْزَابِ: 46، 45 ] ثُمَّ نَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَابِضًا عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ عَلِيٌّ: ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " يَا عَلِيُّ، أَيَّةُ أَخْلَاقٍ لِلْعَرَبِ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مَا أَشْرَفَهَا! بِهَا يَتَحَاجَزُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ". قَالَ: ثُمَّ دَفَعْنَا إِلَى مَجْلِسِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَمَا نَهَضْنَا حَتَّى بَايَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عَلِيٌّ: وَكَانُوا صُدُقًا صُبُرًا فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا رَأَى مِنْ مَعْرِفَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنْسَابِهِمْ. قَالَ: فَلَمْ يَلْبَثْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: ادْعُوا لِإِخْوَانِكُمْ مِنْ رَبِيعَةَ; فَقَدْ أَحَاطَتْهُمُ الْيَوْمَ أَبْنَاءُ فَارِسَ. ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ فَلَمْ يَلْبَثْ رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: " احْمَدُوا اللَّهَ كَثِيرًا; فَقَدْ ظَفِرَتِ الْيَوْمَ أَبْنَاءُ رَبِيعَةَ بِأَهْلِ فَارِسَ قَتَلُوا مُلُوكَهُمْ، وَاسْتَبَاحُوا عَسْكَرَهُمْ،
وَبِي نُصِرُوا ".
قَالَ: وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ بِقُرَاقِرَ إِلَى جَنْبِ ذِي قَارٍ، وَفِيهَا
يَقُولُ الْأَعْشَى:
فِدًى لِبَنِي ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ نَاقَتِي وَرَاكِبُهَا عِنْدَ اللِّقَاءِ
وَقَلَّتِ
هُمُو ضَرَبُوا بِالْحِنْوِ حِنْوِ قُرَاقِرٍ مُقَدِّمَةَ الْهَامَرْزِ حَتَّى
تَوَلَّتِ
فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِنْ فَوَارِسٍ كَذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ بِهَا حِينَ
وَلَّتِ
فَثَارُوا وَثُرْنَا وَالْمَوَدَّةُ بَيْنَنَا وَكَانَتْ عَلَيْنَا غَمْرَةٌ
فَتَجَلَّتِ
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، كَتَبْنَاهُ لِمَا فِيهِ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ،
وَمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، وَمَكَارِمِ الشِّيَمِ، وَفَصَاحَةِ الْعَرَبِ، وَقَدْ
وَرَدَ هَذَا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، وَفِيهِ: أَنَّهُمْ لَمَّا تَحَارَبُوا هُمْ
وَفَارِسُ وَالْتَقَوْا مَعَهُمْ بِقُرَاقِرَ - مَكَانٍ قَرِيبٍ مِنَ الْفُرَاتِ -
جَعَلُوا شِعَارَهُمُ اسْمَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَنُصِرُوا عَلَى فَارِسَ بِذَلِكَ، وَقَدْ دَخَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي
الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَابِصَةَ الْعَبْسِيُّ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَازِلِنَا بِمِنًى، وَنَحْنُ نَازِلُونَ بِإِزَاءِ
الْجَمْرَةِ الْأُولَى التِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ
مُرْدِفًا خَلْفَهُ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَدَعَانَا، فَوَاللَّهِ مَا
اسْتَجَبْنَا لَهُ وَلَا خِيرَ لَنَا. قَالَ: وَقَدْ كُنَّا سَمِعْنَا بِهِ
وَبِدُعَائِهِ فِي
الْمَوَاسِمِ، فَوَقَفَ عَلَيْنَا يَدْعُونَا، فَلَمْ نَسْتَجِبْ لَهُ، وَكَانَ مَعَنَا مَيْسَرَةُ بْنُ مَسْرُوقٍ الْعَبْسِيُّ، فَقَالَ لَنَا: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَوْ قَدْ صَدَّقْنَا هَذَا الرَّجُلَ وَحَمَلْنَاهُ حَتَّى نَحُلَّ بِهِ وَسْطَ بِلَادِنَا لَكَانَ الرَّأْيَ، فَأَحْلِفُ بِاللَّهِ لَيَظْهَرَنَّ أَمْرُهُ حَتَّى يَبْلُغَ كُلَّ مَبْلَغٍ. فَقَالَ الْقَوْمُ: دَعْنَا مِنْكَ لَا تُعَرِّضْنَا لِمَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ. وَطَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَيْسَرَةَ فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ مَيْسَرَةُ: مَا أَحْسَنَ كَلَامَكَ وَأَنْوَرَهُ، وَلَكِنَّ قَوْمِي يُخَالِفُونَنِي، وَإِنَّمَا الرَّجُلُ بِقَوْمِهِ، فَإِذَا لَمْ يَعْضُدُوهُ فَالْعِدَى أَبْعَدُ. فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَجَ الْقَوْمُ صَادِرِينَ إِلَى أَهْلِيهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ مَيْسَرَةُ: مِيلُوا بِنَا إِلَى فَدَكَ; فَإِنَّ بِهَا يَهُودَ نُسَائِلُهُمْ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ. فَمَالُوا إِلَى يَهُودَ فَأَخْرَجُوا سِفْرًا لَهُمْ، فَوَضَعُوهُ ثُمَّ دَرَسُوا ذِكْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الْعَرَبِيِّ، يَرْكَبُ الْحِمَارَ وَيَجْتَزِئُ بِالْكَسْرَةِ، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ، وَلَا بِالْجَعْدِ وَلَا بِالسَّبْطِ، فِي عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ، مُشْرِقُ اللَّوْنِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَادْخُلُوا فِي دِينِهِ فَإِنًّا نَحْسُدُهُ وَلَا نَتَّبِعُهُ. وَلَنَا مِنْهُ فِي مُوَاطِنَ بَلَاءٌ عَظِيمٌ، وَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا اتَّبَعَهُ، وَإِلَّا قَاتَلَهُ فَكُونُوا مِمَّنْ يَتَّبِعُهُ. فَقَالَ مَيْسَرَةُ: يَا قَوْمِ، أَلَا إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ بَيِّنٌ. فَقَالَ الْقَوْمُ: نَرْجِعُ إِلَى الْمَوْسِمِ فَنَلْقَاهُ. فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ وَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ رِجَالُهُمْ، فَلَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ
مِنْهُمْ، فَلَمَّا
قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ
مُهَاجِرًا وَحَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، لَقِيَهُ مَيْسَرَةُ فَعَرَفَهُ، فَقَالَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا زِلْتُ حَرِيصًا عَلَى اتِّبَاعِكَ مِنْ
يَوْمِ أَنَخْتَ بِنَا حَتَّى كَانَ مَا كَانَ، وَأَبَى اللَّهُ إِلَّا مَا تَرَى
مِنْ تَأَخُّرِ إِسْلَامِي، وَقَدْ مَاتَ عَامَّةُ النَّفَرِ الَّذِينَ كَانُوا
مَعِي، فَأَيْنَ مَدْخَلُهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّ مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ دِينِ
الْإِسْلَامِ فَهُوَ فِي النَّارِ ". فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَنْقَذَنِي، فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَكَانَ لَهُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ
مَكَانٌ.
وَقَدِ اسْتَقْصَى الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ قِصَصَ
الْقَبَائِلِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَذَكَرَ عَرْضَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
نَفْسَهُ، عَلَى بَنِي عَامِرٍ، وَغَسَّانَ، وَبَنِي فَزَارَةَ، وَبَنِي مُرَّةَ،
وَبَنِي حَنِيفَةَ، وَبَنِي سُلَيْمٍ، وَبَنِي عَبْسٍ، وَبَنِي نَضْرِ بْنِ
هَوَازِنَ، وَبَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ، وَكِنْدَةَ، وَكَلْبٍ، وَبَنِي
الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، وَبَنِي عُذْرَةَ، وَقَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ،
وَغَيْرِهِمْ وَسِيَاقَ أَخْبَارِهَا مُطَوَّلَةً. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ
طَرَفًا صَالِحًا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، أَنَا
إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ - يَعْنِي ابْنَ الْمُغِيرَةِ - عَنْ سَالِمِ بْنِ
أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ
بِالْمَوْقِفِ، فَيَقُولُ: " هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ
فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ؟
" فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ
هَمْدَانَ، فَقَالَ: " مِمَّنْ أَنْتَ ؟ " قَالَ الرَّجُلُ: مِنْ هَمْدَانَ. قَالَ: " فَهَلْ عِنْدَ قَوْمِكَ مِنْ مَنَعَةٍ ؟ " قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ خَشِيَ أَنْ يَحْقِرَهُ قَوْمُهُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: آتِيهِمْ فَأُخْبِرُهُمْ ثُمَّ آتِيكَ مِنْ عَامِ قَابِلٍ. قَالَ: " نَعَمْ ". فَانْطَلَقَ، وَجَاءَ وَفْدُ الْأَنْصَارِ فِي رَجَبٍ. وَقَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
فَصْلٌ فِي قُدُومِ
وَفْدِ الْأَنْصَارِ عَامًا بَعْدَ عَامٍ حَتَّى بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةً بَعْدَ بَيْعَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ
تَحَوَّلَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْمَدِينَةِ، فَنَزَلَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ
وَتَفْصِيلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ.
حَدِيثُ سُوِيدِ بْنِ صَامِتٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ سُوِيدُ بْنُ الصَّامِتِ
بْنِ خَالِدِ بْنِ عَطِيَّةَ بْنِ حَوْطِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ
بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، وَأُمُّهُ لَيْلَى بِنْتُ عَمْرٍو النَّجَّارِيَّةُ،
أُخْتُ سَلْمَى بِنْتِ عَمْرٍو أُمِّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ.
فَسُوَيْدٌ هَذَا ابْنُ خَالَةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَدِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ، كُلَّمَا اجْتَمَعَ
النَّاسُ بِالْمَوْسِمِ، أَتَاهُمْ يَدْعُو الْقَبَائِلَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى
الْإِسْلَامِ، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْهُدَى
وَالرَّحْمَةِ، وَلَا يَسْمَعُ بِقَادِمٍ يَقْدَمُ مَكَّةَ مِنَ الْعَرَبِ لَهُ
اسْمٌ وَشَرَفٌ إِلَّا تَصَدَّى لَهُ، وَدَعَاهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى،
وَعَرَضَ عَلَيْهِ مَا
عِنْدَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ
أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالُوا: قَدِمَ سُوَيْدُ بْنُ الصَّامِتِ، أَخُو بَنِي
عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، وَكَانَ سُوَيْدٌ إِنَّمَا
يُسَمِّيهِ قَوْمُهُ - فِيهِمُ - الْكَامِلَ; لِجَلَدِهِ، وَشِعْرِهِ، وَشَرَفِهِ،
وَنَسَبِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ:
أَلَا رُبَّ مَنْ تَدْعُو صَدِيقًا وَلَوْ تَرَى مَقَالَتَهُ بِالْغَيْبِ سَاءَكَ
مَا يَفْرِي مَقَالَتُهُ كَالشَّهْدِ مَا كَانَ شَاهِدًا
وَبِالْغَيْبِ مَأْثُورٌ عَلَى ثُغْرَةِ النَّحْرِ يَسُرُّكَ بَادِيهِ وَتَحْتَ
أَدِيمِهِ
نَمِيمَةُ غِشٍّ تَبْتَرِي عَقَبَ الظَّهْرِ تُبَيِّنُ لَكَ الْعَيْنَانِ مَا هُوَ
كَاتِمٌ
مِنَ الْغِلِّ وَالْبَغْضَاءِ بِالنَّظَرِ الشَّزْرِ فَرِشْنِي بِخَيْرٍ طَالَمَا
قَدْ بَرَيْتَنِي
وَخَيْرُ الْمَوَالِي مَنْ يَرِيشُ وَلَا يَبْرِي
قَالَ: فَتَصَدَّى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ
سَمِعَ بِهِ. فَدَعَاهُ إِلَى اللَّهِ وَالْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ سُوَيْدٌ:
فَلَعَلَّ الَّذِي مَعَكَ مِثْلُ الَّذِي مَعِي. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" وَمَا الَّذِي مَعَكَ ؟ " قَالَ مَجَلَّةُ لُقْمَانَ - يَعْنِي حِكْمَةَ لُقْمَانَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اعْرِضْهَا عَلَيَّ ". فَعَرَضَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: " إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ حَسَنٌ، وَالَّذِي مَعِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا، قُرْآنٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيَّ هُوَ هُدًى وَنُورٌ ". فَتَلَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَدَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ حَسَنٌ. ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى قَوْمِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَتَلَتْهُ الْخَزْرَجُ، فَإِنْ كَانَ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ لَيَقُولُونَ: إِنَّا لَنَرَاهُ قُتِلَ وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَكَانَ قَتْلُهُ قَبْلَ بُعَاثَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِأَخْصَرَ مِنْ هَذَا.
إِسْلَامُ إِيَاسِ بْنِ
مُعَاذٍ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: لَمَّا
قَدِمَ أَبُو الْحَيْسَرِ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ مَكَّةَ، وَمَعَهُ فِتْيَةٌ مِنْ
بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فِيهِمْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ، يَلْتَمِسُونَ الْحَلِفَ
مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنَ الْخَزْرَجِ، سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُمْ، فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ:
" هَلْ لَكَمَ فِي خَيْرٍ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ ؟ ". قَالَ: فَقَالُوا:
وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ: " أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْعِبَادِ، أَدْعُوهُمْ
إِلَى أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأُنْزِلَ
عَلَيَّ الْكِتَابُ ". ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمُ الْإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ
الْقُرْآنَ. قَالَ: فَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ، وَكَانَ غُلَامًا حَدَثًا: يَا
قَوْمِ، هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ. فَأَخَذَ أَبُو الْحَيْسَرِ
أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ حَفْنَةً مِنْ تُرَابِ الْبَطْحَاءِ، فَضَرَبَ بِهَا وَجْهَ
إِيَاسِ بْنِ مُعَاذٍ، وَقَالَ: دَعْنَا مِنْكَ، فَلَعَمْرِي لَقَدْ جِئْنَا
لِغَيْرِ هَذَا. قَالَ: فَصَمَتَ إِيَاسٌ، وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ، وَانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ
وَقْعَةُ بُعَاثَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. قَالَ: ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ
إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ أَنْ هَلَكَ. قَالَ مَحْمُودُ
بْنُ لَبِيدٍ:
فَأَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَنِي مِنْ قَوُمِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا
يَسْمَعُونَهُ يُهَلِّلُ اللَّهَ، وَيُكَبِّرُهُ، وَيُحَمِّدُهُ، وَيُسَبِّحُهُ
حَتَّى مَاتَ، فَمَا كَانُوا يَشُكُّونَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ مُسْلِمًا، لَقَدْ
كَانَ اسْتَشْعَرَ الْإِسْلَامَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ حِينَ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَمِعَ.
قُلْتُ: كَانَ يَوْمُ بُعَاثَ، وَبُعَاثُ مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ، كَانَتْ فِيهِ
وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ مِنْ أَشْرَافِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ
وَكُبَرَائِهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ شُيُوخِهِمْ إِلَّا الْقَلِيلُ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ عُبَيْدِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ،
قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ بُعَاثَ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ، قَدِمَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَدِ
افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ وَقُتِلَتْ سَرَاتُهُمْ.
وَقَالَ أَبُو زَرْعَةَ الرَّازِيُّ فِي كِتَابِهِ " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ
": بَابُ إِسْلَامِ رَافِعِ بْنِ مَالِكٍ، وَمُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ، ثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ
بْنِ هَانِئٍ الشَّجَرِيُّ، ثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ،أَنَّهُ خَرَجَ هُوَ وَابْنُ خَالَتِهِ مُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ، حَتَّى قَدِمَا مَكَّةَ، فَلَمَّا هَبَطَا مِنَ الثَّنِيَّةِ، رَأَيَا رَجُلًا تَحْتَ شَجَرَةٍ. قَالَ: وَهَذَا قَبْلَ خُرُوجِ السِّتَّةِ مِنَ الْأَنْصَارِ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ كَلَّمْنَاهُ، قُلْنَا: نَأْتِي هَذَا الرَّجُلَ نَسْتَوْدِعُهُ رَاحِلَتَيْنَا حَتَّى نَطُوفَ بِالْبَيْتِ. فَجِئْنَا فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ تَسْلِيمَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَرَدَّ عَلَيْنَا تَسْلِيمَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ سَمِعْتُ بِالنَّبِيِّ. قَالَ: فَأَنْكَرْنَا. فَقُلْنَا: مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: " انْزِلُوا ". فَنَزَلُوا فَقُلْنَا: أَيْنَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي يَدَّعِي مَا يَدَّعِي، وَيَقُولُ مَا يَقُولُ ؟ قَالَ: " أَنَا هُوَ ". قُلْنَا: فَاعْرِضْ عَلَيْنَا الْإِسْلَامَ. فَعَرَضَ، وَقَالَ: " مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ ؟ " قُلْنَا: خَلَقَهُنَّ اللَّهُ. قَالَ: " مَنْ خَلَقَكُمْ ؟ " قُلْنَا: اللَّهُ. قَالَ: " فَمِنْ عَمَلِ هَذِهِ الْأَصْنَامَ التِي تَعْبُدُونَ ؟ " قُلْنَا: نَحْنُ. قَالَ: " الْخَالِقُ أَحَقُّ بِالْعِبَادَةِ أَوِ الْمَخْلُوقُ ؟ " قُلْنَا: الْخَالِقُ. قَالَ: " فَأَنْتُمْ أَحَقُّ أَنَّ تَعْبُدَكُمْ، وَأَنْتُمْ عَمِلْتُمُوهَا، وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ
تَعْبُدُوهُ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْتُمُوهُ، وَأَنَا أَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَتَرْكِ الْعُدْوَانِ، وَإِنْ غَضِبَ النَّاسُ ". فَقَالَا: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ بَاطِلًا، لَكَانَ مِنْ مَعَالِي الْأُمُورِ، وَمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، فَأَمْسِكْ رَاحِلَتَيْنَا حَتَّى نَأْتِيَ الْبَيْتَ. فَجَلَسَ عِنْدَهُ مُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ. قَالَ رَافِعٌ: وَجِئْتَ الْبَيْتَ فَطُفْتُ، وَأَخْرَجْتُ سَبْعَةَ قِدَاحٍ، وَجَعَلْتُ لَهُ مِنْهَا قَدَحًا، فَاسْتَقْبَلْتُ الْبَيْتَ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ حَقًّا فَأَخْرِجْ قِدْحَهُ. سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَضَرَبْتُ بِهَا سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَصِحْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيَّ، وَقَالُوا: مَجْنُونٌ، رَجُلٌ صَبَأَ. فَقُلْتُ: بَلْ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ. ثُمَّ جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا رَآنِي مُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ، قَالَ: لَقَدْ جِئْتَ بِوَجْهٍ مَا ذَهَبْتَ بِهِ، رَافِعُ. فَجِئْتُ وَآمَنْتُ، وَعَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ " يُوسُفَ " وَ " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ "، ثُمَّ خَرَجْنَا رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كُنَّا بِالْعَقِيقِ، قَالَ مُعَاذٌ: إِنِّي لَمْ أَطْرُقْ لَيْلًا قَطُّ، فَبِتْ بِنَا حَتَّى نُصْبِحَ. فَقُلْتُ: أَبِيتُ وَمَعِي مَا مَعِي مِنَ الْخَيْرِ؟! مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ. وَكَانَ رَافِعٌ إِذَا خَرَجَ سَفَرًا ثُمَّ قَدِمَ عَرَّضَ قَوْمَهُ إِسْنَادٌ وَسِيَاقٌ حَسَنٌ.
بَابُ بَدْءِ إِسْلَامِ
الْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِظْهَارَ دِينِهِ، وَاعِزَازَ
نَبِيِّهِ، وَإِنْجَازَ مَوْعِدِهِ لَهُ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوْسِمِ الَّذِي لَقِيَهُ فِيهِ النَّفَرُ مِنَ
الْأَنْصَارِ، فَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ
فِي كُلِّ مَوْسِمٍ، فَبَيْنَا هُوَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ لَقِيَ رَهْطًا مِنَ
الْخَزْرَجِ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ خَيْرًا. فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ
بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالُوا: لَمَّا لَقِيَهُمْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: " مَنْ
أَنْتُمْ ؟ " قَالُوا: نَفَرٌ مِنَ الْخَزْرَجِ. قَالَ: " أَمِنْ
مَوَالِي يَهُودَ ؟ " قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: " أَفَلَا تَجْلِسُونَ
أُكَلِّمُكُمْ ". قَالُوا: بَلَى. فَجَلَسُوا مَعَهُ فَدَعَاهُمْ إِلَى
اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ. قَالَ:
وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ بِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ يَهُودَ كَانُوا
مَعَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ، وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ، وَكَانُوا هُمْ
أَهْلَ شِرْكٍ أَصْحَابَ أَوْثَانٍ، وَكَانُوا قَدْ عَزُّوهُمْ بِبِلَادِهِمْ،
فَكَانُوا إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ قَالُوا لَهُمْ: إِنَّ نَبِيًّا
مَبْعُوثٌ الْآنَ قَدْ أَظَلَّ زَمَانَهُ نَتَّبِعُهُ، نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ
عَادٍ وَإِرَمَ، فَلَمَّا كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أُولَئِكَ النَّفَرَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ: يَا قَوْمِ، تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي
تَوَعَّدَكُمْ بِهِ يَهُودُ، فَلَا يَسْبِقُنَّكُمْ إِلَيْهِ. فَأَجَابُوهُ فِيمَا
دَعَاهُمْ إِلَيْهِ بِأَنْ صَدَّقُوهُ. وَقَبِلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ
مِنَ الْإِسْلَامِ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّا قَدْ تَرَكْنَا قَوْمَنَا وَلَا
قَوْمَ، بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالشَّرِّ مَا
بَيْنَهُمْ، وَعَسَى أَنْ
يَجْمَعَهُمُ اللَّهُ بِكَ، فَسَنَقْدَمُ عَلَيْهِمْ فَنَدْعُوهُمْ إِلَى
أَمْرِكَ، وَنَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَجَبْنَاكَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا
الدِّينِ، فَإِنْ يَجْمَعْهُمُ اللَّهُ عَلَيْكَ فَلَا رَجُلَ أَعَزُّ مِنْكَ.
ثُمَّ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ قَدْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهُمْ فِيمَا ذُكِرَ لِي سِتَّةُ نَفَرٍ، كُلُّهُمْ مِنَ
الْخَزْرَجِ، وَهُمْ: أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسِ بْنِ
عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، - قَالَ
أَبُو نُعَيْمٍ - وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ
مِنَ الْخَزْرَجِ وَمِنَ الْأَوْسِ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ.
وَقِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ رَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، وَمُعَاذُ ابْنُ
عَفْرَاءَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ
سَوَادِ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَهُوَ ابْنُ
عَفْرَاءَ النَّجَّارِيَّانِ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ زُرَيْقٍ الزُّرَقِيُّ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ بْنِ
عَمْرِو بْنِ سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ
السَّلَمِيُّ، ثُمَّ مِنْ بَنِي سَوَادٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي بْنِ
زَيْدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمٍ السَّلَمِيُّ أَيْضًا، ثُمَّ
مِنْ بَنِي حَرَامٍ،
وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِئَابِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ سِنَانِ بْنِ
عُبَيْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ السَّلَمِيُّ
أَيْضًا، ثُمَّ مِنْ بَنِي عُبَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَهَكَذَا رُوِيَ
عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا لَيْلَتَئِذٍ
سِتَّةَ نَفَرٍ مِنَ الْخَزْرَجِ.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِيمَا رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَعُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ، أَنَّ أَوَّلَ اجْتِمَاعِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِمْ كَانُوا
ثَمَانِيَةً، وَهُمْ: مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ، وَأَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ،
وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، وَذَكْوَانُ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ قَيْسٍ، وَعُبَادَةُ
بْنُ الصَّامِتِ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَأَبُو
الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ. فَأَسْلَمُوا
وَوَاعَدُوهُ إِلَى قَابِلٍ، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَدَعَوْهُمْ إِلَى
الْإِسْلَامِ، وَأَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُعَاذَ ابْنَ عَفْرَاءَ وَرَافِعَ بْنَ مَالِكٍ أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا
رَجُلًا يُفَقِّهُنَا. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ، فَنَزَلَ
عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ. وَذَكَرَ تَمَامَ الْقِصَّةِ كَمَا سَيُورِدُهَا
ابْنُ إِسْحَاقَ أَتَمَّ مِنْ سِيَاقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ إِلَى قَوْمِهِمْ،
ذَكَرُوا لَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعَوْهُمْ
إِلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى فَشَا فِيهِمْ. فَلَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُوْرِ
الْأَنْصَارِ إِلَّا
وَفِيهَا ذِكْرُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَامُ
الْمُقْبِلُ، وَافَى الْمَوْسِمَ مِنَ الْأَنْصَارِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَهُمْ
أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ، وَعَوْفُ بْنُ
الْحَارِثِ الْمُتَقَدِّمُ، وَأَخُوهُ مُعَاذٌ، وَهْمَا ابْنَا عَفْرَاءَ،
وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ الْمُتَقَدِّمُ أَيْضًا، وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ
بْنِ خَلْدَةَ بْنِ مُخَلَّدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ الزُّرَقِيُّ، - قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ: وَهُوَ أَنْصَارِيٌّ مُهَاجِرِيٌّ - وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ
بْنِ قَيْسِ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ فِهْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَوْفِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَحَلِيفُهُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
يَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَزْمَةَ بْنِ أَصْرَمَ الْبَلَوِيُّ، وَالْعَبَّاسُ
بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
غَنْمِ بْنِ سَالِمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ
الْعَجْلَانِيُّ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ،
وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ الْمُتَقَدِّمُ، فَهَؤُلَاءِ عَشَرَةٌ
مِنَ الْخَزْرَجِ، وَمِنَ الْأَوْسِ اثْنَانِ وَهُمَا; عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ،
وَأَبُو الْهَيْثَمِ مَالِكُ بْنُ التَّيِّهَانِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
التَّيِّهَانُ يُخَفَّفُ وَيُثَقَّلُ كَمَيْتٍ وَمَيِّتٍ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ اسْمُهُ مَالِكُ بْنُ
مَالِكِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَمِ بْنِ عَامِرِ بْنِ
زَعْوَرِ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ
بْنِ الْأَوْسِ. قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّهُ إِرَاشِيٌّ. وَقِيلَ: بَلَوِيٌّ.
وَلِهَذَا لَمْ يَنْسِبْهُ
ابْنُ إِسْحَاقَ، وَلَا
ابْنُ هِشَامٍ، قَالَ: وَالْهَيْثَمُ فَرْخُ الْعُقَابِ، وَضَرْبٌ مِنَ النَّبَاتِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا شَهِدُوا الْمَوْسِمَ
عَامَئِذٍ، وَعَزَمُوا عَلَى الِاجْتِمَاعِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقُوهُ بِالْعَقَبَةِ، فَبَايَعُوهُ عِنْدَهَا بَيْعَةَ
النِّسَاءِ، وَهِيَ الْعَقَبَةُ الْأُولَى. وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِهِ فِي
سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ
آمِنًا [ إِبْرَاهِيمَ: 35 ] إِلَى آخِرِهَا.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مَرْثَدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُسَيْلَةَ
الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ كُنْتُ مِمَّنْ حَضَرَ
الْعَقَبَةَ الْأُولَى، وَكُنَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَبَايَعْنَا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ وَذَلِكَ
قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الْحَرْبُ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا،
وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا نَأْتِيَ
بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي
مَعْرُوفٍ، " فَإِنْ وَفَّيْتُمْ فَلَكُمُ الْجَنَّةُ وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ
ذَلِكَ شَيْئًا فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَ وَإِنْ شَاءَ
غَفَرَ ". وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ
طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ بِهِ نَحْوَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ عَائِذِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبِي إِدْرِيسَ
الْخَوْلَانِيِّ، أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ حَدَّثَهُ، قَالَ:بَايَعْنَا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ
الْأَوْلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ،
وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ
أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ، " فَإِنْ
وَفَيْتُمْ فَلَكُمُ الْجَنَّةُ وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا
فَأُخِذْتُمْ بِحَدِّهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَإِنْ سَتَرْتُمْ
عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ
عَذَّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ ". وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي "
الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ
نَحْوَهُ. وَقَوْلُهُ: عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ. يَعْنِي عَلَى وَفْقِ مَا
نَزَلَتْ عَلَيْهِ بَيْعَةُ النِّسَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ،
وَكَانَ هَذَا مِمَّا نَزَلَ عَلَى وَفْقِ مَا بَايَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ
لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَلَيْسَ هَذَا بِعَجِيبٍ; فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ
بِمُوَافَقَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي غَيْرِ مَا مَوْطِنٍ، كَمَا بَيَّنَاهُ
فِي " سِيرَتِهِ " وَفِي " التَّفْسِيرِ " وَإِنَّ كَانَتْ
هَذِهِ الْبَيْعَةُ وَقَعَتْ عَنْ وَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ فَهُوَ أَظْهَرُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا انْصَرَفَ عَنْهُ الْقَوْمُ، بَعَثَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ
هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، وَأَمَرَهُ أَنْ
يُقْرِئَهُمُ الْقُرْآنَ، وَيُعَلِّمَهُمُ الْإِسْلَامَ، وَيُفَقِّهَهُمْ فِي
الدِّينِ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ،
عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ،
قَالَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا بَعَثَ مُصْعَبًا حِينَ كَتَبُوا
إِلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَهُ إِلَيْهِمْ. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ
عُقْبَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ هِيَ
الْأُولَى. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَسِيَاقُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَتَمُّ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَقُولُ: لَا
أَدْرِي مَا الْعَقَبَةُ الْأُولَى. ثُمَّ يَقُولُ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَلَى
لَعَمْرِي قَدْ كَانَتْ عَقَبَةٌ وَعَقَبَةٌ. قَالُوا كُلُّهُمْ: فَنَزَلَ
مُصْعَبٌ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَكَانَ يُسَمَّى بِالْمَدِينَةِ الْمُقْرِئَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّهُ
كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ; وَذَلِكَ أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَرِهَ بَعْضُهُمْ
أَنْ يَؤُمَّهُ بَعْضٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ
بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ،
قَالَ: كُنْتُ قَائِدَ أَبِي حِينَ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ بِهِ
إِلَى الْجُمُعَةِ، فَسَمِعَ الْأَذَانَ بِهَا، صَلَّى عَلَى أَبِي أُمَامَةَ
أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ. قَالَ: فَمَكَثَ حِينًا عَلَى ذَلِكَ لَا يَسْمَعُ
الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ. قَالَ:
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا بِي لَعَجْزٌ أَلَّا أَسْأَلَهُ.
فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ، مَا لَكَ إِذَا سَمِعْتَ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ،
صَلَّيْتَ عَلَى أَبِي
أُمَامَةَ ؟ فَقَالَ:
أَيْ بُنَيَّ كَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَ بِنَا بِالْمَدِينَةِ، فِي هَزْمِ
النَّبِيتِ، مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ، فِي نَقِيعٍ يُقَالُ لَهُ: نَقِيعُ الْخَضَمَاتِ.
قَالَ: قُلْتُ: وَكَمْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ رَجُلًا. وَقَدْ
رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ
بْنِ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى
مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ يَأْمُرُهُ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَفِي إِسْنَادِهِ
غَرَابَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ مُعَيْقِيبٍ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ،
أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ خَرَجَ بِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، يُرِيدُ بِهِ
دَارَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَدَارَ بَنِي ظَفَرٍ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ
مُعَاذٍ ابْنَ خَالَةِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَدَخَلَ بِهِ حَائِطًا مِنْ
حَوَائِطِ بَنِي ظَفَرٍ، عَلَى بِئْرٍ يُقَالُ لَهُ:
بِئْرُ مَرَقٍ. فَجَلَسَا
فِي الْحَائِطِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمَا رِجَالٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ، وَسَعْدُ بْنُ
مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، يَوْمَئِذٍ سَيِّدًا قَوْمِهِمَا مِنْ بَنِي
عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَكِلَاهُمَا مُشْرِكٌ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، فَلَمَّا
سَمِعَا بِهِ، قَالَ سَعْدٌ لِأُسَيْدٍ: لَا أَبَا لَكَ، انْطَلِقْ إِلَى هَذَيْنِ
الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدْ أَتَيَا دَارَيْنَا لِيُسَفِّهَا ضُعَفَاءَنَا
فَازْجُرْهُمَا، وَانْهَهُمَا عَنْ أَنْ يَأْتِيَا دَارَيْنَا، فَإِنَّهُ لَوْلَا
أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ مِنِّي حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، كَفَيْتُكَ ذَلِكَ، هُوَ
ابْنُ خَالَتِي وَلَا أَجِدُ عَلَيْهِ مُقَدَّمًا. قَالَ: فَأَخَذَ أُسَيْدُ بْنُ
حُضَيْرٍ حَرْبَتَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَآهُ أَسْعَدُ بْنُ
زُرَارَةَ، قَالَ لِمُصْعَبٍ: هَذَا سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَقَدْ جَاءَكَ فَاصْدُقِ
اللَّهَ فِيهِ. قَالَ مُصْعَبٌ: إِنْ يَجْلِسْ أُكَلِّمْهُ. قَالَ: فَوَقَفَ
عَلَيْهِمَا مُتَشَتِّمًا. فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمَا إِلَيْنَا تُسَفِّهَانِ
ضُعَفَاءَنَا ؟ اعْتَزِلَانَا إِنْ كَانَتْ لَكُمَا بِأَنْفُسِكُمَا حَاجَةٌ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: فَقَالَ لَهُ عَلَامَ أَتَيْتَنَا فِي دُوْرِنَا
بِهَذَا الْوَحِيدِ الْغَرِيبِ الطَّرِيدِ يُسَفِّهُ ضُعَفَاءَنَا بِالْبَاطِلِ
وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ؟ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: أَوَ
تَجْلِسُ فَتَسْمَعُ، فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ كُفَّ
عَنْكَ مَا تَكْرَهُ. قَالَ: أَنْصَفْتَ. قَالَ: ثُمَّ رَكَّزَ حَرْبَتَهُ،
وَجَلَسَ إِلَيْهِمَا، فَكَلَّمَهُ مُصْعَبٌ بِالْإِسْلَامِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ
الْقُرْآنَ. فَقَالَا فِيمَا يُذْكَرُ عَنْهُمَا: وَاللَّهِ لَعَرَفْنَا فِي
وَجْهِهِ الْإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ، فِي إِشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ،
ثُمَّ قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا وَأَجْمَلَهُ! كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا
أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا فِي هَذَا الدِّينِ ؟ قَالَا لَهُ: تَغْتَسِلُ
فَتَطَّهَّرُ، وَتُطَهِّرُ ثَوْبَيْكَ، ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، ثُمَّ تُصَلِّي، فَقَامَ فَاغْتَسَلَ، وَطَهَّرَ ثَوْبَيْهِ، وَتَشَهَّدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: إِنَّ وَرَائِي رَجُلًا إِنِ اتَّبَعَكُمَا لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَسَأُرْسِلُهُ إِلَيْكُمَا الْآنَ; سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، ثُمَّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ وَانْصَرَفَ إِلَى سَعْدٍ وَقَوْمِهِ، وَهُمْ جُلُوسٌ فِي نَادِيهِمْ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُقْبِلًا، قَالَ: قَالَ أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ. فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى النَّادِي، قَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا فَعَلْتَ ؟ قَالَ: كَلَّمْتُ الرَّجُلَيْنِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ بِهِمَا بَأْسًا، وَقَدْ نَهَيْتُهُمَا فَقَالَا: نَفْعَلُ مَا أَحْبَبْتَ. وَقَدْ حُدِّثْتُ أَنَّ بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ لِيَقْتُلُوهُ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ ابْنُ خَالَتِكَ لِيُخْفِرُوكَ. قَالَ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُغْضَبًا مُبَادِرًا; تَخَوُّفًا لِلَّذِي ذُكِرَ لَهُ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ، وَأَخَذَ الْحَرْبَةَ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكَ أَغْنَيْتَ شَيْئًا. ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَآهُمَا سَعْدٌ مُطْمَئِنَّيْنِ عَرَفَ أَنَّ أُسَيْدًا إِنَّمَا أَرَادَ مِنْهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُمَا، فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتِّمًا، ثُمَّ قَالَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ، وَاللَّهِ لَوْلَا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ مِنَ الْقَرَابَةِ مَا رُمْتَ هَذَا مِنِّي، أَتَغْشَانَا فِي دَارَيْنَا بِمَا نَكْرَهُ ؟ قَالَ: وَقَدْ قَالَ أَسْعَدُ لِمُصْعَبٍ: جَاءَكَ وَاللَّهِ سَيِّدٌ مِنْ وَرَائِهِ قَوْمُهُ، إِنْ يَتَّبِعْكَ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْكَ مِنْهُمُ اثْنَانِ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: أَوَ تَقْعُدُ فَتَسْمَعَ، فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا وَرَغِبْتَ فِيهِ قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ عَزَلْنَا عَنْكَ مَا تَكْرَهُ. قَالَ سَعْدٌ: أَنْصَفْتَ. ثُمَّ رَكَّزَ الْحَرْبَةَ وَجَلَسَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ - وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ - أَنَّهُ
قَرَأَ عَلَيْهِ أَوَّلَ الزُّخْرُفِ، قَالَ: فَعَرَفْنَا وَاللَّهِ فِي وَجْهِهِ الْإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ لِإِشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَنْتُمْ أَسْلَمْتُمْ وَدَخَلْتُمْ فِي هَذَا الدِّينِ ؟ قَالَا: تَغْتَسِلُ فَتَطَّهَّرُ، وَتُطَهِّرُ ثَوْبَيْكَ، ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، ثُمَّ تُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: فَقَامَ فَاغْتَسَلَ، وَطَهَّرَ ثَوْبَيْهِ، وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ، فَأَقْبَلَ عَامِدًا إِلَى نَادِي قَوْمِهِ وَمَعَهُ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ، فَلَمَّا رَآهُ قَوْمُهُ مُقْبِلًا، قَالُوا: نَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَجَعَ إِلَيْكُمْ سَعْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ. فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ، قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، كَيْفَ تَعْلَمُونَ أَمْرِي فِيكُمْ ؟ قَالُوا: سَيِّدُنَا، وَأَفْضَلُنَا رَأْيًا، وَأَيْمَنُنَا نَقِيبَةً. قَالَ: فَإِنَّ كَلَامَ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَى فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمًا أَوْ مُسْلِمَةً، وَرَجَعَ أَسْعَدُ وَمُصْعَبٌ إِلَى مَنْزِلِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ يَدْعُوَانِ النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى لَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دَوْرِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مُسْلِمُونَ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ دَارِ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَخَطْمَةَ، وَوَائِلٍ، وَوَاقِفٍ، وَتِلْكَ أَوْسٌ، وَهُمْ مِنَ الْأَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانَ فِيهِمْ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ، وَاسْمُهُ صَيْفِيٌّ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ اسْمُهُ الْحَارِثُ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ. وَاسْمُ أَبِيهِ الْأَسْلَتِ: عَامِرُ بْنُ جُشَمَ بْنِ وَائِلِ بْنِ زَيْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَامِرِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، وَكَذَا نَسَبَهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ أَيْضًا. وَكَانَ شَاعِرًا لَهُمْ قَائِدًا، يَسْتَمِعُونَ
مِنْهُ وَيُطِيعُونَهُ،
فَوَقَفَ بِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْخَنْدَقِ.
قُلْتُ: وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ هَذَا، ذَكَرَ لَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ
أَشْعَارًا رَبَّانِيَّةً حَسَنَةً تَقْرُبُ مِنْ أَشْعَارِ أُمَيَّةَ بْنِ
الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا تَقَدَّمَ: وَلَمَّا انْتَشَرَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرَبِ وَبَلَغَ الْبُلْدَانَ، ذُكِرَ
بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنْ حَيٌّ مِنَ الْعَرَبِ أَعْلَمَ بِأَمْرِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ ذُكِرَ وَقَبْلَ أَنْ يُذْكَرَ
- مِنْ هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَذَلِكَ لِمَا كَانُوا
يَسْمَعُونَ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ، فَلَمَّا وَقَعَ أَمْرُهُ بِالْمَدِينَةِ
وَتَحَدَّثُوا بِمَا بَيْنَ قُرَيْشٍ فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ، قَالَ أَبُو
قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ أَخُو بَنِي وَاقِفٍ - قَالَ السُّهَيْلِيُّ: هُوَ أَبُو
قَيْسٍ صِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ، وَاسْمُ أَبِي أَنَسٍ: قَيْسُ بْنُ صِرْمَةُ
بْنُ مَالِكِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ
النَّجَّارِ. قَالَ: وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ وَفِي عُمَرَ أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [ الْبَقَرَةِ: 187 ] الْآيَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ يُحِبُّ قُرَيْشًا، وَكَانَ لَهُمْ صِهْرًا
كَانَتْ تَحْتَهُ
أَرْنَبُ بِنْتُ أَسَدِ
بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، وَكَانَ يُقِيمُ عِنْدَهُمُ السِّنِينَ
بِامْرَأَتِهِ - قَالَ قَصِيدَةً يُعَظِّمُ فِيهَا الْحُرْمَةَ، وَيَنْهَى
قُرَيْشًا فِيهَا عَنِ الْحَرْبِ، وَيَذْكُرُ فَضْلَهُمْ وَأَحْلَامَهُمْ
وَيُذَكِّرُهُمْ بَلَاءَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ، وَدَفْعَهُ عَنْهُمُ الْفِيلَ
وَكَيْدَهُ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْكَفِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَيَا رَاكِبًا إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ مُغَلْغَلَةً عَنِّي لُؤَيَّ بْنَ
غَالِبِ رَسُولَ امْرئٍ رَاعَهُ ذَاتُ بَيْنِكُمْ
عَلَى النَّأْيِ مَحْزُونٍ بِذَلِكَ نَاصِبِ وَقَدْ كَانَ عِنْدِي لِلْهُمُومِ
مُعَرَّسٌ
وَلَمْ أَقْضِ مِنْهَا حَاجَتِي وَمَآرِبِي نُبَيِّتُكُمْ شَرْجَيْنِ كُلُّ
قَبِيلَةٍ
لَهَا أَزْمَلٌ مِنْ بَيْنِ مُذْكٍ وَحَاطِبِ أُعِيذُكُمْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ
صُنْعِكُمْ
وَشَرِّ تَبَاغِيكُمْ وَدَسِّ الْعَقَارِبِ وَإِظْهَارِ أَخْلَاقٍ وَنَجْوَى
سَقِيمَةٍ
كَوَخْزِ الْأَشَافِي وَقْعُهَا حَقُّ صَائِبِ فَذَكِّرْهُمْ بِاللَّهِ أَوَّلَ
وَهْلَةٍ
وَإِحْلَالِ إِحْرَامِ الظِّبِاءِ الشَّوَازِبِ
وَقُلْ لَهُمُ وَاللَّهُ
يَحْكُمُ حُكْمَهُ
ذَرُوا الْحَرْبَ تَذْهَبْ عَنْكُمُ فِي الْمَرَاحِبِ مَتَى تَبْعَثُوهَا
تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً
هِيَ الْغَوْلُ لِلْأَقْصَيْنَ أَوْ لِلْأَقَارِبِ تُقَطِّعُ أَرْحَامًا
وَتُهْلِكُ أُمَّةً
وَتَبْرِي السَّدِيفَ مِنْ سَنَامٍ وَغَارِبِ وَتَسْتَبْدِلُوا بِالْأَتْحَمِيَّةِ
بَعْدَهَا
شَلِيلًا وَأَصْدَاءً ثِيَابَ الْمُحَارِبِ وَبِالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ غُبْرًا
سَوَابِغًا
كَأَنَّ قَتِيرَيْهَا عُيُونُ الْجَنَادِبِ فَإِيَّاكُمْ وَالْحَرْبَ لَا
تَعْلَقَنَّكُمْ
وَحَوْضًا وَخِيمَ الْمَاءِ مُرَّ الْمَشَارِبِ تَزَيَّنُ لِلْأَقْوَامِ ثُمَّ
يَرَوْنَهَا
بِعَاقِبَةٍ إِذْ بُيِّنَتْ أُمَّ صَاحِبِ تُحَرِّقَ لَا تُشْوِي ضَعِيفًا
وَتَنْتَحِي
ذَوِي الْعِزِّ مِنْكُمْ بِالْحُتُوفِ الصَّوَائِبِ أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ
فِي حَرْبِ دَاحِسٍ
فَتَعْتَبِرُوا أَوْ كَانَ فِي حَرْبِ حَاطِبِ
وَكَمْ قَدْ أَصَابَتْ
مِنْ شَرِيفٍ مُسَوَّدٍ
طَوِيلِ الْعِمَادِ ضَيْفُهُ غَيْرُ خَائِبِ عَظِيمِ رَمَادِ النَّارِ يُحْمَدُ
أَمْرُهُ
وَذِي شِيمَةٍ مَحْضٍ كَرِيمِ الْمَضَارِبِ وَمَاءٍ هُرِيقَ فِي الضَّلَالِ
كَأَنَّمَا
أَذَاعَتْ بِهِ رِيحُ الصَّبَا وَالْجَنَائِبِ يُخَبِّرُكُمْ عَنْهَا امْرِؤٌ
حَقُّ عَالِمٍ
بِأَيَّامِهَا وَالْعِلْمُ عِلْمُ التَّجَارُبِ فَبِيعُوا الْحِرَابَ
مِلْمُحَارِبِ وَاذْكُرُوا
حِسَابَكُمُ وَاللَّهُ خَيْرُ مُحَاسِبِ وَلِيُّ امْرِئٍ فَاخْتَارَ دِينًا فَلَا
يَكُنْ
عَلَيْكُمْ رَقِيبٌ غَيْرُ رَبِّ الثَّوَاقِبِ أَقِيمُوا لَنَا دِينًا حَنِيفًا
فَأَنْتُمُ
لَنَا غَايَةٌ قَدْ يُهْتَدَى بِالذَّوَائِبِ وَأَنْتُمْ لِهَذَا النَّاسِ نُورٌ
وَعِصْمَةٌ
تُؤَمُّونَ وَالْأَحْلَامُ غَيْرُ عَوَازِبِ وَأَنْتُمْ إِذَا مَا حُصِّلَ
النَّاسُ جَوْهَرٌ
لَكُمْ سُرَّةُ الْبَطْحَاءِ شُمُّ الْأَرَانِبِ تَصُونُونَ أَجْسَادًا كِرَامًا
عَتِيقَةً
مُهَذَّبَةَ الْأَنْسَابِ غَيْرَ أَشَائِبِ تَرَى طَالِبَ الْحَاجَاتِ نَحْوَ
بُيُوتِكُمْ
عَصَائِبَ هَلْكَى تَهْتَدِي بِعَصَائِبِ
لَقَدْ عَلِمَ
الْأَقْوَامُ أَنَّ سَرَاتَكُمْ
عَلَى كُلِّ حَالٍ خَيْرُ أَهْلِ الْجَبَاجِبِ وَأَفْضَلُهُ رَأْيًا وَأَعْلَاهُ
سُنَّةً
وَأَقْوَلُهُ لِلْحَقِّ وَسْطَ الْمَوَاكِبِ فَقُومُوا فَصَلُّوا رَبَّكُمْ
وَتَمَسَّحُوا
بِأَرْكَانِ هَذَا الْبَيْتِ بَيْنَ الْأَخَاشِبِ فَعِنْدَكُمْ مِنْهُ بَلَاءٌ
وَمَصْدَقٌ
غَدَاةَ أَبِي يَكْسُومَ هَادِي الْكَتَائِبِ كَتِيبَتُهُ بِالسَّهْلِ تُمْسِي وَرِجْلُهُ
عَلَى الْقَاذِفَاتِ فِي رُءُوسِ الْمَنَاقِبِ فَلَمَّا أَتَاكُمْ نَصْرُ ذِي
الْعَرْشِ رَدَّهُمْ
جُنُودُ الْمَلِيكِ بَيْنَ سَافٍ وَحَاصِبِ فَوَلَّوْا سِرَاعًا هَارِبِينَ وَلَمْ
يَؤُبْ
إِلَى أَهْلِهِ مِلْحُبْشِ غَيْرُ عَصَائِبِ فَإِنْ تَهْلِكُوا نَهْلِكْ
وَتَهْلِكْ مَوَاسِمٌ
يُعَاشُ بِهَا قَوْلُ امْرِئٍ غَيْرِ كَاذِبٍ
وَحَرْبُ دَاحِسٍ الَّذِي ذَكَرَهَا أَبُو قَيْسٍ فِي شِعْرِهِ، كَانَتْ فِي
زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ مَشْهُورَةً، وَكَانَ سَبَبَهَا فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو
عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى وَغَيْرُهُ، أَنَّ
فَرَسًا يُقَالُ لَهَا:
دَاحِسٌ. كَانَتْ لِقَيْسِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ رَوَاحَةَ
الْغَطَفَانِيِّ، أَجْرَاهُ مَعَ فَرَسٍ لِحُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ جُؤَيَّةَ الْغَطَفَانِيِّ أَيْضًا. يُقَالُ لَهَا: الْغَبْرَاءُ. فَجَاءَتْ
دَاحِسُ سَابِقًا، فَأَمَرَ حُذَيْفَةُ مَنْ ضَرَبَ وَجْهَهُ، فَوَثَبَ مَالِكُ
بْنُ زُهَيْرٍ فَلَطَمَ وَجْهَ الْغَبْرَاءِ، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ فَلَطَمَ
مَالِكًا، ثُمَّ إِنَّ أَبَا جُنَيْدِبٍ الْعَبْسِيَّ لَقِيَ عَوْفَ بْنَ
حُذَيْفَةَ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ لَقِيَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ مَالِكًا
فَقَتَلَهُ، فَنَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ بَنِي عَبْسٍ وَفَزَارَةَ، فَقُتِلَ
حُذَيْفَةُ بْنُ بَدْرٍ، وَأَخُوهُ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ، وَجَمَاعَاتٌ آخَرُونَ،
وَقَالُوا فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا كَثِيرَةً يَطُولُ بَسْطُهَا وَذِكْرُهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَيُقَالُ: أَرْسَلَ قَيْسٌ دَاحِسَ وَالْغَبْرَاءَ،
وَأَرْسَلَ حُذَيْفَةُ الْخَطَّارَ وَالْحَنْفَاءَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. قَالَ:
وَأَمَّا حَرْبُ حَاطِبٍ; فَيَعْنِي حَاطِبَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ هَيْشَةَ
بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، كَانَ قَتَلَ يَهُودِيًّا
جَارًا لِلْخَزْرَجِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ
مَالِكِ بْنِ أَحْمَرَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ
بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ - وَهُوَ الَّذِي
يُقَالُ لَهُ: ابْنُ
فُسْحُمَ - فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ فَقَتَلُوهُ،
فَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا
شَدِيدًا وَكَانَ الظَّفَرُ لِلْخَزْرَجِ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ الْأَسْوَدُ بْنُ
الصَّامِتِ الْأَوْسِيُّ، قَتَلَهُ الْمُجَذَّرُ بْنُ ذَيَّادٍ حَلِيفُ بَنِي
عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ ثُمَّ كَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا
أَيْضًا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَبَا قَيْسِ بْنَ الْأَسْلَتِ، مَعَ عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ،
لَمْ يَنْتَفِعْ بِذَلِكَ حِينَ قَدِمَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ الْمَدِينَةَ
وَدَعَا أَهْلَهَا إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ مِنْ أَهْلِهَا بَشَرٌ كَثِيرٌ،
وَلَمْ يَبْقَ دَارٌ - أَيْ مَحَلَّةٌ - مِنْ دُورِ الْمَدِينَةِ إِلَّا وَفِيهَا
مُسْلِمُونَ وَمُسْلِمَاتٌ، غَيْرَ دَارِ بَنِي وَاقِفٍ قَبِيلَةِ أَبِي قَيْسٍ،
ثَبَّطَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الْقَائِلُ أَيْضًا:
أَرَبَّ النَّاسِ أَشْيَاءٌ أَلَمَّتْ يُلَفُّ الصَّعْبُ مِنْهَا بِالذَّلُولِ
أَرَبَّ النَّاسِ أَمَّا إِنْ ضَلَلْنَا فَيَسِّرْنَا لِمَعْرُوفِ السَّبِيلِ
فَلَوْلَا رَبُّنَا كُنَّا يَهُودًا وَمَا دِينُ الْيَهُودِ بِذِي شُكُولِ
وَلَوُلَا رَبُّنَا كُنَّا نَصَارَى مَعَ الرُّهْبَانِ فِي جَبَلِ الْجَلِيلِ
وَلَكِنَّا خُلِقْنَا إِذْ خُلِقْنَا حَنِيفًا دِينُنَا عَنْ كُلِّ جِيلِ
نَسُوقُ الْهَدْيَ
تَرْسُفُ مُذْعِنَاتٍ مُكَشَّفَةَ الْمَنَاكِبِ فِي الْجُلُولِ
وَحَاصِلُ مَا يَقُولُ، أَنَّهُ حَائِرٌ فِيمَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي
قَدْ سَمِعَهُ مِنْ بِعْثَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَتَوَقَّفَ الْوَاقِفِيُّ فِي ذَلِكَ، مَعَ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَكَانَ
الَّذِي ثَبَّطَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ أَوَّلًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنِ
سَلُولَ، بَعْدَمَا أَخْبَرَهُ أَبُو قَيْسٍ أَنَّهُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ
يَهُودُ، فَمَنَعَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يُسْلِمْ إِلَى يَوْمِ الْفَتْحِ هُوَ وَأَخُوهُ
وَحْوَحٌ. وَأَنْكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنْ يَكُونَ أَبُو قَيْسٍ
أَسْلَمَ. وَكَذَا الْوَاقِدِيُّ، قَالَ: كَانَ عَزَمَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوَّلَ
مَا دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَامَهُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، فَحَلَفَ لَا يُسْلِمُ إِلَى حَوْلٍ، فَمَاتَ فِي ذِي
الْقِعْدَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ، فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي
كِتَابِهِ " أُسْدِ الْغَابَةِ " أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ
دَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَامِ
فَسُمِعَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا حَمَّادُ
بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ:
" يَا خَالِ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ". فَقَالَ: أَخَالٌ أَمْ عَمٌّ
؟ قَالَ: " بَلْ
خَالٌ ". قَالَ:
فَخَيْرٌ لِي أَنْ أَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَعَمْ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ
رَحِمَهُ اللَّهُ، وَذَكَرَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ
أَرَادَ ابْنَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ كُبَيْشَةَ بِنْتَ مَعْنِ بْنِ
عَاصِمٍ، فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ
النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [ النِّسَاءِ: 22 ] الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَسَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ فِي "
مَغَازِيهِ ": كَانَ أَبُو قَيْسٍ هَذَا قَدْ تَرَهَّبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ،
وَلَبِسَ الْمُسُوحَ، وَفَارَقَ الْأَوْثَانَ، وَاغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ،
وَتَطَهَّرَ مِنَ الْحَائِضِ مِنَ النِّسَاءِ وَهَمَّ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، ثُمَّ
أَمْسَكَ عَنْهَا، وَدَخَلَ بَيْتًا لَهُ فَاتَّخَذَهُ مَسْجِدًا، لَا يَدْخُلُ
عَلَيْهِ فِيهِ حَائِضٌ وَلَا جُنُبٌ، وَقَالَ: أَعْبُدُ إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ،
حِينَ فَارَقَ الْأَوْثَانَ وَكَرِهَهَا، حَتَّى قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَهُوَ
شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَكَانَ قَوَّالًا بِالْحَقِّ، مُعَظِّمًا لِلَّهِ فِي
جَاهِلِيَّتِهِ، يَقُولُ فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا حِسَانًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ:
يَقُولُ أَبُو قَيْسٍ وَأَصْبَحَ غَادِيًا أَلَا مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ وَصَاتِيَ
فَافْعَلُوا
فَأُوصِيكُمْ بِاللَّهِ
وَالْبِرِّ وَالتُّقَى وَأَعْرَاضِكُمْ وَالْبِرُّ بِاللَّهِ أَوَّلُ
وَإِنْ قَوْمُكُمْ سَادُوا فَلَا تَحْسُدُنَّهُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ أَهْلَ
الرِّئَاسَةِ فَاعْدِلُوا
وَإِنْ نَزَلَتْ إِحْدَى الدَّوَاهِي بِقَوْمِكُمْ فَأَنْفُسَكُمْ دُونَ
الْعَشِيرَةِ فَاجْعَلُوا
وَإِنْ نَابَ غُرْمٌ فَادِحٌ فَارْفُقُوهُمُ وَمَا حَمَّلُوكُمْ فِي الْمُلِمَّاتِ
فَاحْمِلُوا
وَإِنْ أَنْتُمْ أَمْعَرْتُمُ فَتَعَفَّفُوا وَإِنْ كَانَ فَضْلُ الْخَيْرِ
فِيكُمْ فَأَفْضِلُوا
وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ أَيْضًا:
سَبِّحُوا اللَّهَ شَرْقَ كُلِّ صَبَاحٍ طَلَعَتْ شَمْسُهُ وَكُلَّ هِلَالِ
عَالِمَ السِّرِّ وَالْبَيَانِ جَمِيعًا لَيْسَ مَا قَالَ رَبُّنَا بِضَلَالِ
وَلَهُ الطَّيْرُ تَسْتَرِيدُ وَتَأْوِي فِي وُكُورٍ مِنْ آمِنَاتِ الْجِبَالِ
وَلَهُ الْوَحْشُ بِالْفَلَاةِ تَرَاهَا فِي حِقَافٍ وَفِي ظِلَالِ الرِّمَالِ
وَلَهُ هَوَّدَتْ يَهُودُ وَدَانَتْ كُلَّ دِينٍ مَخَافَةً مِنْ عُضَالِ
وَلَهُ شَمَّسَ النَّصَارَى وَقَامُوا كُلَّ عِيدٍ لِرَبِّهِمْ وَاحْتِفَالِ
وَلَهُ الرَّاهِبُ
الْحَبِيسُ تَرَاهُ رَهْنَ بُؤْسٍ وَكَانَ نَاعِمَ بَالِ
يَا بَنِيَّ الْأَرْحَامَ لَا تَقْطَعُوهَا وَصِلُوهَا قَصِيرَةً مِنْ طِوَالِ
وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي ضِعَافِ الْيَتَامَى وَبِمَا يُسْتَحَلُّ غَيْرُ
الْحَلَالِ
وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلْيَتِيمِ وَلِيًّا عَالِمًا يَهْتَدِي بِغَيْرِ سُؤَالِ
ثُمَّ مَالَ الْيَتِيمِ لَا تَأْكُلُوهُ إِنَّ مَالَ الْيَتِيمِ يَرْعَاهُ وَالِي
يَا بَنِيَّ التُّخُومَ لَا تَجْزِلُوهَا إِنَّ جَزْلَ التُّخُومِ ذُو عُقَّالِ
يَا بَنِيَّ الْأَيَّامَ لَا تَأْمَنُوهَا وَاحْذَرُوا مَكْرَهَا وَمَرَّ
اللَّيَالِي
وَاعْلَمُوا أَنَّ مَرَّهَا لِنَفَادِ الْ خَلْقِ مَا كَانَ مِنْ جَدِيدٍ وَبَالِي
وَاجْمَعُوا أَمْرَكُمْ عَلَى الْبِرِّ وَالْتَّقْ وَى وَتَرْكِ الْخَنَا وَأَخْذِ
الْحَلَالِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ أَيْضًا، يَذْكُرُ مَا
أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ نُزُولِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُمْ:
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ
بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً يُذَكِّرُ لَوْ يَلْقَى صَدِيقًا مُوَاتِيَا
وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا بِتَمَامِهَا فِيمَا بَعْدُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ
الثِّقَةُ.
قِصَّةُ بَيْعَةِ
الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ،
وَخَرَجَ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ حُجَّاجِ
قَوْمِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، حَتَّى قَدِمُوا مَكَّةَ فَوَاعَدُوا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَقَبَةَ مِنْ أَوَاسِطِ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ، حِينَ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ كَرَامَتِهِ وَالنَّصْرِ
لِنَبِيِّهِ، وَإِعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَحَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ
كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ، وَكَانَ مِنْ
أَعْلَمِ الْأَنْصَارِ، حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَاهُ كَعْبًا حَدَّثَهُ، وَكَانَ
مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِهَا، قَالَ:خَرَجْنَا فِي حُجَّاجِ قَوْمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ،
وَقَدْ صَلَّيْنَا وَفَقِهْنَا، وَمَعَنَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ سَيِّدُنَا
وَكَبِيرُنَا، فَلَمَّا وَجَّهْنَا لِسَفَرِنَا، وَخَرَجْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ،
قَالَ الْبَرَاءُ: يَا هَؤُلَاءِ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا، وَاللَّهِ مَا
أَدْرِي أَتُوَافِقُونَنِي عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ قَالَ: قُلْنَا: وَمَا ذَاكَ ؟
قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ أَنْ لَا أَدَعَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ مِنِّي بِظَهْرٍ -
يَعْنِي الْكَعْبَةَ - وَأَنْ أُصَلِّيَ إِلَيْهَا. قَالَ: فَقُلْنَا: وَاللَّهِ
مَا بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي
إِلَّا إِلَى الشَّامِ، وَمَا نُرِيدُ أَنْ نُخَالِفَهُ. فَقَالَ إِنِّي لَمُصَلٍّ
إِلَيْهَا. قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: لَكِنَّا لَا نَفْعَلُ. قَالَ: فَكُنَّا إِذَا
حَضَرَتِ الصَّلَاةُ صَلَّيْنَا إِلَى الشَّامِ، وَصَلَّى هُوَ إِلَى الْكَعْبَةِ،
حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ. قَالَ: وَقَدْ كُنَّا عِبْنَا عَلَيْهِ مَا صَنَعَ،
وَأَبَى إِلَّا الْإِقَامَةَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ، قَالَ
لِي: يَا ابْنَ أَخِي، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَسْأَلَهُ عَمَّا صَنَعْتُ فِي سَفَرِي هَذَا،
فَإِنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ لِمَا
رَأَيْتُ مِنْ خِلَافِكُمْ إِيَّايَ فِيهِ. قَالَ: فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنَّا لَا نَعْرِفُهُ وَلَمْ نَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَقِينَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: هَلْ تَعْرِفَانِهِ ؟ فَقُلْنَا: لَا. فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفَانِ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّهُ ؟ قَالَ: قُلْنَا: نَعَمْ. وَقَدْ كُنَّا نَعْرِفُ الْعَبَّاسَ، كَانَ لَا يَزَالُ يَقْدَمُ عَلَيْنَا تَاجِرًا. قَالَ: فَإِذَا دَخَلْتُمَا الْمَسْجِدَ فَهُوَ الرَّجُلُ الْجَالِسُ مَعَ الْعَبَّاسِ. قَالَ: فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ، وَإِذَا الْعَبَّاسُ جَالِسٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ مَعَهُ، فَسَلَّمْنَا ثُمَّ جَلَسْنَا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ: " هَلْ تَعْرِفُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ يَا أَبَا الْفَضْلِ ؟ " قَالَ: نَعَمْ، هَذَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَهَذَا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا أَنْسَى قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الشَّاعِرُ ؟ " قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي خَرَجْتُ فِي سَفَرِي هَذَا قَدْ هَدَانِي اللَّهُ تَعَالَى لِلْإِسْلَامِ، فَرَأَيْتُ أَنْ لَا أَجْعَلَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ مِنِّي بِظَهْرٍ، فَصَلَّيْتُ إِلَيْهَا، وَقَدْ خَالَفَنِي أَصْحَابِي فِي ذَلِكَ حَتَّى وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَمَاذَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " قَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهَا ". قَالَ: فَرَجَعَ الْبَرَاءُ إِلَى قِبْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى مَعَنَا إِلَى الشَّامِ. قَالَ: وَأَهْلُهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى مَاتَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا، نَحْنُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُمْ. قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْحَجِّ وَوَاعَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَقَبَةَ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الْحَجِّ، وَكَانَتِ اللَّيْلَةُ التِي وَاعَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا، وَمَعَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَبُو جَابِرٍ، سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا، أَخَذْنَاهُ وَكُنَّا نَكْتُمُ مَنْ مَعَنَا مِنْ قَوْمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمْرَنَا، فَكَلَّمْنَاهُ
وَقُلْنَا لَهُ: يَا
أَبَا جَابِرٍ، إِنَّكَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا،
وَإِنَّا نَرْغَبُ بِكَ عَمًّا أَنْتَ فِيهِ، أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِلنَّارِ
غَدًا. ثُمَّ دَعَوْنَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبَرْنَاهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّانَا الْعَقَبَةَ، قَالَ:
فَأَسْلَمَ وَشَهِدَ مَعَنَا الْعَقَبَةَ، وَكَانَ نَقِيبًا.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَنَّ
ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ، قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ: أَنَا وَأَبِي
وَخَالِي مِنْ أَصْحَابِ الْعَقَبَةِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ: قَالَ
ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَحَدُهُمْا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ.
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: كَانَ
عَمْرٌو يَقُولُ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: شَهِدَ بِي
خَالَايَ الْعَقَبَةَ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ
قَالَ:مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عَشْرَ
سِنِينَ يَتَّبِعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ بِعُكَاظٍ، وَمَجَنَّةَ، وَفِي الْمَوَاسِمِ بِمِنًى، يَقُولُ: " مَنْ يُؤْوِينِي ؟ مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ ؟ " حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ أَوْ مِنْ مُضَرَ - كَذَا قَالَ فِيهِ - فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ، فَيَقُولُونَ: احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ لَا يَفْتِنُكَ. وَيَمْشِي بَيْنَ رِحَالِهِمْ وَهُمْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، حَتَّى بَعَثَنَا اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ يَثْرِبَ، فَآوَيْنَاهُ وَصَدَّقْنَاهُ، فَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنَّا فَيُؤْمِنُ بِهِ، وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُوْرِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رَهْطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ، ثُمَّ ائْتَمَرُوا جَمِيعًا، فَقُلْنَا: حَتَّى مَتَى نَتْرُكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْرَدُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ ؟ فَرَحَلَ إِلَيْهِ مِنَّا سَبْعُونَ رَجُلًا حَتَّى قَدِمُوا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ، فَوَاعَدْنَاهُ شِعْبَ الْعَقَبَةِ، فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهَا مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ حَتَّى تَوَافَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَامَ نُبَايِعُكَ ؟ قَالَ: " تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَنْ
تَقُولُوا فِي اللَّهِ
لَا تَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي
فَتَمْنَعُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ
وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمُ الْجَنَّةُ ". فَقُمْنَا إِلَيْهِ،
وَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَهُوَ مِنْ أَصْغَرِهِمْ - وَفِي
رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ: وَهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ إِلَّا أَنَا - فَقَالَ:
رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، فَإِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ
الْإِبِلِ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ إِخْرَاجَهُ
الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنْ
تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ
فَخُذُوهُ، وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً، فَبَيِّنُوا ذَلِكَ، فَهُوَ أَعْذُرُ لَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ، قَالُوا: أَمِطْ عَنَّا يَا أَسْعَدُ، فَوَاللَّهِ لَا نَدَعُ هَذِهِ
الْبَيْعَةَ أَبَدًا، وَلَا نُسْلَبُهَا أَبَدًا. قَالَ فَقُمْنَا إِلَيْهِ
فَبَايَعْنَاهُ، وَأَخَذَ عَلَيْنَا وَشَرَطَ، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ
الْجَنَّةَ
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَالْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ
دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارِ، زَادَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ
الْحَاكِمِ بِسَنَدِهِ إِلَى يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ، كِلَاهُمَا عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ بِهِ نَحْوَهُ. وَهَذَا
إِسْنَادٌ جَيِّدٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ. وَقَالَ
الْبَزَّارُ: وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، وَلَا نَعْلَمُهُ
يُرْوَى عَنْ جَابِرٍ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ كَانَ الْعَبَّاسُ آخِذًا بِيَدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ يُوَاثِقُنَا،
فَلَمَّا فَرَغْنَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أَخَذْتُ وَأَعْطَيْتُ ".
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ جَابِرٍ، يَعْنِي الْجُعْفِيَّ،
وَدَاوُدَ، هُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، يَعْنِي
ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِلنُّقَبَاءِ مِنَ الْأَنْصَارِ: " تُؤْوُونِي وَتَمْنَعُونِي ؟
" قَالُوا: نَعَمْ. قَالُوا: فَمَا لَنَا ؟ قَالَ: " الْجَنَّةُ "
ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ جَابِرٍ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ مَعْبَدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ
كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ،
، قَالَ: فَنِمْنَا
تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَعَ قَوْمِنَا فِي رِحَالِنَا، حَتَّى إِذَا مَضَى ثُلْثُ
اللَّيْلِ، خَرَجْنَا مِنْ رِحَالِنَا لِمِيعَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَتَسَلَّلُ تَسَلُّلَ الْقَطَا، مُسْتَخْفِينَ حَتَّى
اجْتَمَعْنَا فِي الشِّعْبِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ
رَجُلًا، وَمَعَنَا امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِنَا; نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ أُمُّ
عُمَارَةَ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، وَأَسْمَاءُ ابْنَةُ
عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَابِي إِحْدَى نِسَاءِ بَنِيَ سَلِمَةَ، وَهِيَ أُمُّ
مَنِيعٍ. وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ إِسْحَاقَ، فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ
عَنْهُ، بِأَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ.
قُلْتُ: وَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعِينَ،
فَالْعَرَبُ كَثِيرًا مَا تَحْذِفُ الْكَسْرَ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ،
وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، كَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا وَامْرَأَةً وَاحِدَةً. قَالَ:
مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ مِنْ ذَوِي أَسْنَانِهِمْ، وَثَلَاثُونَ مِنْ شَبَابِهِمْ.
قَالَ: وَأَصْغَرُهُمْ أَبُو مَسْعُودٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَوْلُ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُمْ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ، أَثْبَتُ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَاجْتَمَعْنَا فِي الشِّعْبِ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى جَاءَنَا وَمَعَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، إِلَّا أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ، وَيَتَوَثَّقَ لَهُ، فَلَمَّا جَلَسَ كَانَ أَوَّلَ مُتَكَلِّمٍ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ - قَالَ: وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِنَّمَا يُسَمُّونَ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ الْخَزْرَجَ، خَزْرَجَهَا وَأَوْسَهَا - إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأَيِنَا فِيهِ، فَهُوَ فِي عِزَّةٍ مَنْ قَوْمِهُ، وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ، وَإِنَّهُ قَدْ أَبَى إِلَّا الِانْحِيَازَ إِلَيْكُمْ، وَاللُّحُوقَ بِكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافَوْنَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ، وَمَانِعُوهُ مِمَّنْ خَالَفَهُ، فَأَنْتُمْ وَمَا تَحَمَّلْتُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ مُسْلِمُوهُ وَخَاذِلُوهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ بِهِ إِلَيْكُمْ فَمِنَ الْآنَ فَدَعُوهُ، فَإِنَّهُ فِي عِزٍّ وَمَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَبَلَدِهِ. قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: قَدْ سَمِعْنَا مَا قَلَتَ، فَتَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ وَلِرَبِّكَ مَا أَحْبَبْتَ. قَالَ: فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَا الْقُرْآنَ، وَدَعَا إِلَى اللَّهِ، وَرَغَّبَ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَالَ: " أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ ". قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لِنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَحْنُ وَاللَّهِ أَبْنَاءُ الْحُرُوبِ، وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ. قَالَ: فَاعْتَرَضَ الْقَوْلَ - وَالْبَرَاءُ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ
التَّيِّهَانِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
الرِّجَالِ حِبَالًا، وَإِنَّا قَاطِعُوهَا - يَعْنِي الْيَهُودَ - فَهَلْ
عَسَيْتَ إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ، أَنْ تَرْجِعَ إِلَى
قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا ؟ قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: " بَلِ الدَّمُ الدَّمُ، وَالْهَدْمُ
الْهَدْمُ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ،
وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ ". قَالَ كَعْبٌ: وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَخْرِجُوا إِلَى مِنْكُمُ اثْنَيْ
عَشَرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ بِمَا فِيهِمْ " فَأَخْرَجُوا
مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، تِسْعَةً مِنَ الْخَزْرَجِ، وَثَلَاثَةً مِنَ
الْأَوْسِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهُمْ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ -
الْمُتَقَدِّمُ - وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي زُهَيْرِ بْنِ
مَالِكِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ
الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ
بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ
مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
الْخَزْرَجِ وَرَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ - الْمُتَقَدِّمُ -
وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورِ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ
عُبَيْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَمْرِو بْنِ حَرَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ
كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ - الْمُتَقَدِّمُ - وَسَعْدُ
بْنُ عُبَادَةَ بْنِ دُلَيْمِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ
بْنِ طَرِيفِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ
وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ خُنَيْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لَوْذَانَ بْنِ
عَبْدِ وُدِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ بْنِ
كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ. فَهَؤُلَاءِ تِسْعَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ. وَمِنَ
الْأَوْسِ ثَلَاثَةٌ وَهُمْ: أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرِ بْنِ سِمَاكِ بْنِ عَتِيكِ
بْنِ رَافِعِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ بْنِ
جُشَمَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ
الْأَوْسِ وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ
بْنِ النَّحَّاطِ بْنِ كَعْبِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ السَّلْمِ بْنِ
امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ وَرِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ
الْمُنْذِرِ بْنِ زُبَيْرِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ
بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَعُدُّونَ فِيهِمْ أَبَا الْهَيْثَمِ
بْنَ التَّيِّهَانِ، بَدَلَ رِفَاعَةَ هَذَا. وَهُوَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ
يُونُسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَاخْتَارَهُ السُّهَيْلِيُّ، وَابْنُ الْأَثِيرِ
فِي " الْغَابَةِ ". ثُمَّ اسْتَشْهَدَ ابْنُ هِشَامٍ عَلَى ذَلِكَ
بِمَا
رَوَاهُ عَنْ أَبِي
زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ شِعْرِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فِي
ذِكْرِ النُّقَبَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ
الثَّانِيَةِ، حِينَ قَالَ:
فَأَبْلِغْ أُبَيًّا أَنَّهُ فَالَ رَأْيُهُ وَحَانَ غَدَاةَ الشِّعْبِ
وَالْحَيْنُ وَاقِعُ أَبَى اللَّهُ مَا مَنَّتْكَ نَفْسُكَ إِنَّهُ
بِمِرْصَادِ أَمْرِ النَّاسِ رَاءٍ وَسَامِعُ وَأَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ أَنْ
قَدْ بَدَا لَنَا
بِأَحْمَدَ نُورٌ مِنْ هُدَى اللَّهِ سَاطِعُ فَلَا تُرْعِيَنْ فِي حَشْدِ أَمْرٍ
تُرِيدُهُ
وَأَلِّبْ وَجَمِّعْ كُلَّ مَا أَنْتَ جَامِعُ وَدُونَكَ فَاعْلَمْ أَنَّ نَقْضَ
عُهُودِنَا
أَبَاهُ عَلَيْكَ الرَّهْطُ حِينَ تَتَابَعُوا أَبَاهُ الْبَرَاءُ وابْنُ عَمْرٍو
كِلَاهُمَا
وَأَسْعَدُ يَأْبَاهُ عَلَيْكَ وَرَافِعُ وَسَعْدٌ أَبَاهُ السَّاعِدِيُّ
وَمُنْذِرٌ
لِأَنْفِكَ إِنْ حَاوَلْتَ ذَلِكَ جَادِعُ وَمَا ابْنُ رِبِيعٍ إِنْ تَنَاوَلْتَ
عَهْدَهُ
بِمُسْلِمِهِ لَا يَطْمَعَنْ ثَمَّ طَامِعُ وَأَيْضًا فَلَا يُعْطِيكَهُ ابْنُ
رَوَاحَةٍ
وَإِخْفَارُهُ مِنْ دُونِهِ السُّمُّ نَاقِعُ وَفَاءً بِهِ وَالْقَوْقَلِيُّ بْنُ
صَامِتٍ
بِمَنْدُوحَةٍ عَمَّا تُحَاوِلُ يَافِعُ أَبُو هَيْثَمٍ أَيْضًا وَفِيٌّ
بِمِثْلِهَا
وَفَاءً بِمَا أَعْطَى مِنَ الْعَهْدِ خَانِعُ
وَمَا ابْنُ حُضَيْرٍ
إِنْ أَرَدْتَ بِمَطْمَعٍ
فَهَلْ أَنْتَ عَنْ أُحْمُوقَةِ الْغَيِّ نَازِعُ وَسَعْدٌ أَخُو عَمْرِو بْنِ
عَوْفٍ فَإِنَّهُ
ضَرُوحٌ لِمَا حَاوَلْتَ مِلْأَمْرِ مَانِعُ أُولَاكَ نُجُومٌ لَا يُغِبُّكَ
مِنْهُمُ
عَلَيْكَ بِنَحْسٍ فِي دُجَى اللَّيْلِ طَالِعُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَذَكَرَ فِيهِمْ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التَّيِّهَانِ،
وَلَمْ يَذْكُرْ رِفَاعَةَ.
قُلْتُ: وَذَكَرَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَلَيْسَ مِنَ النُّقَبَاءِ
بِالْكُلِّيَّةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ
ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ الْأَنْصَارُ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ
سَبْعِينَ رَجُلًا، وَكَانَ نُقَبَاؤُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا تِسْعَةٌ مِنَ
الْخَزْرَجِ وَثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَوْسِ.
وَحَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُشِيرُ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَنْ يَجْعَلُهُ
نَقِيبًا لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَكَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ أَحَدَ
النُّقَبَاءِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِلنُّقَبَاءِ: " أَنْتُمْ عَلَى
قَوْمِكُمْ بِمَا فِيهِمْ كُفَلَاءُ كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى بْنِ
مَرْيَمَ، وَأَنَا كَفِيلٌ عَلَى قَوْمِي ". قَالُوا: نَعَمْ. وَحَدَّثَنِي
عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا اجْتَمَعُوا
لِبَيْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الْعَبَّاسُ
بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ الْأَنْصَارِيُّ، أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ:
يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، هَلْ تَدْرُونَ عَلَامَ تُبَايِعُونَ هَذَا الرَّجُلَ ؟
قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّكُمْ تُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِ الْأَحْمَرِ
وَالْأَسْوَدِ مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ إِذَا نَهَكَتْ
أَمْوَالَكُمْ مُصِيبَةٌ، وَأَشْرَافَكُمْ قَتْلٌ، أَسْلَمْتُمُوهُ، فَمِنَ
الْآنَ، فَهُوَ وَاللَّهِ - إِنْ فَعَلْتُمْ - خِزْيُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ،
وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ
عَلَى نَهْكَةٍ الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الْأَشْرَافِ، فَخُذُوهُ فَهُوَ وَاللَّهِ
خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالُوا: فَإِنَّا نَأْخُذُهُ عَلَى مُصِيبَةِ
الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الْأَشْرَافِ، فَمَا لَنَا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
إِنْ نَحْنُ وَفَيْنَا ؟ قَالَ: " الْجَنَّةُ ". قَالُوا: ابْسُطْ
يَدَكَ. فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعُوهُ قَالَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ:
وَإِنَّمَا قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ ذَلِكَ; لِيَشُدَّ الْعَقْدَ فِي
أَعْنَاقِهِمْ، وَزَعَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ
ذَلِكَ لِيُؤَخِّرَ الْبَيْعَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ; رَجَاءَ أَنْ يَحْضُرَهَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ; لِيَكُونَ
أَقْوَى لِأَمْرِ الْقَوْمِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَنُو النَّجَّارِ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ
أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ كَانَ
أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ
عَلَى يَدِهِ، وَبَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَقُولُونَ: بَلْ أَبُو الْهَيْثَمِ
بْنُ التَّيِّهَانِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ كَعْبٍ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ
اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ
عَلَى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَرَاءُ بْنُ
مَعْرُورٍ، ثُمَّ بَايَعَ الْقَوْمُ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " أُسْدِ الْغَابَةِ ": وَبَنُو سَلِمَةَ
يَزْعُمُونَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ لَيْلَتَئِذٍ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ " الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي حَدِيثِهِ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ
تَبُوكَ قَالَ وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا
أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي
النَّاسِ مِنْهَا
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ،
أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ السَّمَّاكِ، حَدَّثَنَا حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ،
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ
عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَعَ الْعَبَّاسِ عَمِّهِ إِلَى السَّبْعِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ عِنْدَ
الْعَقَبَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَقَالَ: " لِيَتَكَلَّمْ مُتَكَلِّمُكُمْ
وَلَا يُطِلِ الْخُطْبَةَ; فَإِنَّ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَيْنًا،
وَإِنْ يَعْلَمُوا بِكُمْ يَفْضَحُوكُمْ ". فَقَالَ قَائِلُهُمْ، وَهُوَ
أَبُو أُمَامَةَ: سَلْ يَا مُحَمَّدُ لِرَبِّكَ مَا شِئْتَ، ثُمَّ سَلْ لِنَفْسِكَ
بَعْدَ ذَلِكَ مَا شِئْتَ، ثُمَّ أَخْبِرْنَا مَا لَنَا مِنَ الثَّوَابِ عَلَى
اللَّهِ وَعَلَيْكُمْ إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ. قَالَ:
" أَسْأَلُكُمْ
لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَسْأَلُكُمْ
لِنَفْسِي وَأَصْحَابِي أَنْ تُؤْوُونَا وَتَنْصُرُونَا وَتَمْنَعُونَا مِمَّا
تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ ". قَالُوا: فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا
ذَلِكَ ؟ قَالَ: " لَكُمُ الْجَنَّةُ ". قَالُوا: فَلَكَ ذَلِكَ. ثُمَّ
رَوَاهُ حَنْبَلٌ، عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ
مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، فَذَكَرُهُ
قَالَ: وَكَانَ أَبُو مَسْعُودٍ أَصْغَرَهُمْ.
وَقَالَ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ، قَالَ: فَمَا سَمِعَ الشِّيبُ وَالشُّبَّانُ خُطْبَةً مِثْلَهَا.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْفَضْلِ
الْفَحَّامُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، أَخْبَرَنَا
عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
رَفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:قَدِمَتْ رَوَايَا خَمْرٍ فَأَتَاهَا عُبَادَةُ
بْنُ الصَّامِتِ، فَخَرَقَهَا، وَقَالَ: إِنَّا بَايَعَنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ
وَالْكَسَلِ، وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ فِي اللَّهِ
لَا تَأْخُذُنَا فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ عَلَيْنَا يَثْرِبَ، بِمَا
نَمْنَعُ بِهِ أَنْفُسَنَا وَأَزْوَاجَنَا وَأَبْنَاءَنَا، وَلَنَا الْجَنَّةُ،
فَهَذِهِ بَيْعَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التِي
بَايَعْنَاهُ عَلَيْهَا وَهَذَا إِسْنَادٌ
جِيدٌ قَوِيٌّ، وَلَمْ
يُخْرِجُوهُ. وَقَدْ رَوَى يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عُبَادَةُ
بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ
عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الْحَرْبِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي
عُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَمُنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا،
وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا
كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ: عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَخِيهِ
عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:فَلَمَّا بَايَعْنَا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَخَ الشَّيْطَانُ مِنْ رَأْسِ
الْعَقَبَةِ بِأَنْفَذِ صَوْتٍ سَمِعْتُهُ قَطُّ: يَا أَهْلَ الْجُبَاجِبِ -
وَالْجُبَاجِبُ: الْمَنَازِلُ - هَلْ لَكَمَ فِي مُذَمَّمٍ وَالصُّبَاةِ مَعَهُ
قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ، هَذَا ابْنُ أَزْيَبَ
". قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ ابْنُ أُزَيْبٍ - " أَتَسْمَعُ أَيْ
عَدُوَّ اللَّهِ ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَأَتَفْرَّغَنَّ لَكَ ". ثُمَّ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ارْفَضُّوا إِلَى
رِحَالِكُمْ ". قَالَ: فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ
عَلَى أَهْلِ مِنًى غَدًا بِأَسْيَافِنَا.
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ،
وَلَكِنِ ارْجِعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ ". قَالَ: فَرَجَعْنَا إِلَى
مَضَاجِعِنَا فَنِمْنَا فِيهَا حَتَّى أَصْبَحْنَا، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا غَدَتْ
عَلَيْنَا جِلَّةُ قُرَيْشٍ حَتَّى جَاءُونَا فِي مَنَازِلِنَا، فَقَالُوا: يَا
مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ إِلَى
صَاحِبِنَا هَذَا، تَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، وَتُبَايِعُونَهُ
عَلَى حَرْبِنَا، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مِنْ حَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ أَبْغَضُ
إِلَيْنَا مِنْ أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِنْكُمْ. قَالَ:
فَانْبَعَثَ مَنْ هُنَاكَ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِنَا يَحْلِفُونَ: مَا كَانَ مِنْ
هَذَا شَيْءٌ وَمَا عَلِمْنَاهُ. قَالَ: وَصَدَقُوا، لَمْ يَعْلَمُوا. قَالَ:
وَبَعْضُنَا يَنْظُرُ إِلَى بَعْضٍ. قَالَ: ثُمَّ قَامَ الْقَوْمُ وَفِيهِمُ
الْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، وَعَلَيْهِ نَعْلَانِ
لَهُ جَدِيدَانِ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ كَلِمَةً، كَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أَشْرَكَ
الْقَوْمَ بِهَا فِيمَا قَالُوا: يَا أَبَا جَابِرٍ، أَمَا تَسْتَطِيعُ أَنْ
تَتَّخِذَ وَأَنْتَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا، مِثْلَ نَعْلِي هَذَا الْفَتَى مِنْ
قُرَيْشٍ ؟ قَالَ: فَسَمِعَهَا الْحَارِثُ فَخَلَعَهُمَا مِنْ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ
رَمَى بِهِمَا إِلَيَّ، قَالَ: وَاللَّهِ لَتَنْتَعِلَنَّهُمَا. قَالَ: يَقُولُ
أَبُو جَابِرٍ: مَهْ، أَحْفَظْتَ وَاللَّهِ الْفَتَى، فَارْدُدْ إِلَيْهِ
نَعْلَيْهِ. قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَرُدُّهُمَا، فَأَلٌ وَاللَّهِ
صَالِحٌ، لَئِنْ صَدَقَ الْفَأْلُ لَأَسْلُبَنَّهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُمْ
أَتَوْا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ فَقَالُوا مِثْلَ مَا ذَكَرَ
كَعْبٌ مِنَ الْقَوْلِ. فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ
جَسِيمٌ، مَا كَانَ قَوْمِي لِيَتَفَرَّقُوا عَلَى مِثْلِ هَذَا، وَمَا عَلِمْتُهُ كَانَ. قَالَ: فَانْصَرَفُوا عَنْهُ. قَالَ: وَنَفَرَ النَّاسُ مِنْ مِنًى فَتَنَطَّسَ الْقَوْمُ الْخَبَرَ، فَوَجَدُوهُ قَدْ كَانَ، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِ الْقَوْمِ، فَأَدْرَكُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ بِأَذَاخِرَ وَالْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو أَخَا بَنِي سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَكِلَاهُمَا كَانَ نَقِيبًا، فَأَمَّا الْمُنْذِرُ فَأَعْجَزَ الْقَوْمَ، وَأَمَّا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَأَخَذُوهُ فَرَبَطُوا يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ بِنَسْعِ رَحْلِهِ، ثُمَّ أَقْبَلُوا بِهِ حَتَّى أَدْخَلُوهُ مَكَّةَ يَضْرِبُونَهُ وَيَجْذِبُونَهُ بِجُمَّتِهِ، وَكَانَ ذَا شِعْرٍ كَثِيرٍ، قَالَ سَعْدٌ: فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي أَيْدِيهِمْ، إِذْ طَلَعَ عَلَيَّ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ رَجُلٌ وَضِيءٌ أَبْيَضُ شَعْشَاعٌ حُلْوٌ مِنَ الرِّجَالِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنْ يَكُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْقَوْمِ خَيْرٌ فَعِنْدَ هَذَا. فَلَمَّا دَنَا مِنِّي رَفْعَ يَدِهِ فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَا وَاللَّهِ، مَا عِنْدَهُمْ بَعْدَ هَذَا مِنْ خَيْرٍ. قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي أَيْدِيهِمْ يَسْحَبُونَنِي، إِذْ أَوَى لِي رَجُلٌ مِمَّنْ مَعَهُمْ، فَقَالَ: وَيْحَكَ أَمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ قُرَيْشٍ جَوَارٌ وَلَا عَهْدٌ ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى وَاللَّهِ، لَقَدْ كُنْتُ أُجِيرُ لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ تُجَّارَهُ، وَأَمْنَعُهُمْ مِمَّنْ أَرَادَ ظُلْمَهُمْ بِبِلَادِي، وَلِلْحَارِثِ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ. فَقَالَ: وَيْحَكَ! فَاهْتِفْ بِاسْمِ الرَّجُلَيْنِ، وَاذْكُرْ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمَا. قَالَ: فَفَعَلْتُ وَخَرَجَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَيْهِمَا، فَوَجَدَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ لَهُمَا: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْخَزْرَجِ الْآنَ يُضْرَبُ بِالْأَبْطَحِ لَيَهْتِفُ بِكُمَا.
قَالَا: وَمَنْ هُوَ ؟
قَالَ: سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ قَالَا: صَدَقَ وَاللَّهِ إِنْ كَانَ لَيُجِيرُ
لَنَا تُجَّارَنَا وَيَمْنَعَهُمْ أَنْ يُظْلَمُوا بِبَلَدِهِ. قَالَ: فَجَاءَ
فَخَلَّصَا سَعْدًا مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَانْطَلَقَ وَكَانَ الَّذِي لَكَمَ سَعْدًا
سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ الَّذِي أَوَى لَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ
هِشَامٍ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ أَبِي عَبْسِ بْنِ
جَبْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعَتْ قُرَيْشٌ قَائِلًا يَقُولُ فِي اللَّيْلِ
عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ:
فَإِنْ يُسْلِمِ السَّعْدَانِ يُصْبِحْ مُحَمَّدٌ بِمَكَّةَ لَا يَخْشَى خِلَافَ
الْمُخَالِفِ
فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَنِ السَّعْدَانِ ؟ أَسْعَدُ بْنُ
بَكْرٍ، أَمْ سَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ ؟ فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ
سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ:
أَيَا سَعْدُ سَعْدَ الْأَوْسِ كُنْ أَنْتَ نَاصِرًا وَيَا سَعْدُ سَعْدَ
الْخَزْرَجَيْنِ الْغَطَارِفِ
أَجِيبَا إِلَى دَاعِي الْهُدَى وَتَمَنَّيَا عَلَى اللَّهِ فِي الْفِرْدَوْسِ
مُنْيَةَ عَارِفِ
فَإِنَّ ثَوَابَ اللَّهِ لِلْطَالِبِ الْهُدَى جِنَانٌ مِنَ الْفِرْدَوْسِ ذَاتُ
رَفَارِفِ
فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هُوَ وَاللَّهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ،
وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ.
فَصْلٌ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا رَجَعَ الْأَنْصَارُ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ
إِلَى الْمَدِينَةِ، أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ بِهَا، وَفِي قَوْمِهِمْ بَقَايَا
مِنْ شُيُوخٍ لَهُمْ، عَلَى دِينِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ
الْجَمُوحِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ
سَلَمَةَ، وَكَانَ ابْنُهُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرٍو مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ،
وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ مِنْ سَادَاتِ بَنِي سَلِمَةَ وَأَشْرَافِهِمْ،
وَكَانَ قَدِ اتَّخَذَ صَنَمًا مِنْ خَشَبٍ فِي دَارِهِ، يُقَالُ لَهُ: مَنَاةُ
كَمَا كَانَتِ الْأَشْرَافُ يَصْنَعُونَ، يَتَّخِذُهُ إِلَهًا يُعَظِّمُهُ
وَيُطَهِّرُهُ، فَلَمَّا أَسْلَمَ فِتْيَانُ بَنِي سَلِمَةَ; ابْنُهُ مُعَاذٌ،
وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ كَانُوا يُدْلِجُونَ بِاللَّيْلِ عَلَى صَنَمِ عَمْرٍو
ذَلِكَ، فَيَحْمِلُونَهُ فَيَطْرَحُونَهُ فِي بَعْضِ حَفْرِ بَنِي سَلِمَةَ،
وَفِيهَا عِذَرُ النَّاسِ مُنَكَّسًا عَلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا أَصْبَحَ عَمْرٌو
قَالَ: وَيْلَكُمُ مَنْ عَدَا عَلَى إِلَهِنَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ ؟ ثُمَّ يَغْدُو
يَلْتَمِسُهُ حَتَّى إِذَا وَجَدَهُ غَسَلَهُ وَطَهَّرَهُ وَطَيَّبَهُ، ثُمَّ
قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكَ، لَأُخْزِيَنَّهُ.
فَإِذَا أَمْسَى وَنَامَ عَمْرٌو عَدَوْا عَلَيْهِ، فَفَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ،
فَيَغْدُوَا فَيَجِدُهُ فِي مِثْلِ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْأَذَى، فَيَغْسِلُهُ
وَيُطَهِّرُهُ وَيُطَيِّبُهُ، ثُمَّ يَعْدُونَ عَلَيْهِ إِذَا أَمْسَى،
فَيَفْعَلُونَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ اسْتَخْرَجَهُ
مِنْ حَيْثُ الْقَوْهُ يَوْمًا فَغَسْلَهُ وَطَهَّرَهُ وَطَيَّبَهُ، ثُمَّ جَاءَ
بِسَيْفِهِ فَعَلَّقَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا
أَعْلَمُ مَنْ يَصْنَعُ بِكَ مَا أَرَى، فَإِنْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ فَامْتَنِعْ،
فَهَذَا السَّيْفُ مَعَكَ. فَلَمَّا أَمْسَى وَنَامَ عَمْرٌو عَدَوْا عَلَيْهِ،
فَأَخَذُوا السَّيْفَ مِنْ عُنُقِهِ، ثُمَّ أَخَذُوا كَلْبًا مَيِّتًا فَقَرَنُوهُ
بِهِ
بِحَبْلٍ، ثُمَّ
ألْقَوْهُ فِي بِئْرٍ مِنْ آبَارِ بَنِي سَلِمَةَ فِيهَا عِذَرٌ مِنْ عِذَرِ
النَّاسِ، وَغَدَا عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ فَلَمْ يَجِدْهُ فِي مَكَانِهِ الَّذِي
كَانَ بِهِ، فَخَرَجَ يَتَّبِعُهُ حَتَّى إِذَا وَجَدَهُ فِي تِلْكَ الْبِئْرِ
مُنَكَّسًا مَقْرُونًا بِكَلْبٍ مَيِّتٍ، فَلَمَّا رَآهُ أَبْصَرَ شَأْنَهُ،
وَكَلَّمَهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَسْلَمَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَحَسُنَ
إِسْلَامُهُ، فَقَالَ حِينَ أَسْلَمَ، وَعَرَفَ مِنَ اللَّهِ مَا عَرَفَ، وَهُوَ
يَذْكُرُ صَنَمَهُ ذَلِكَ، وَمَا أَبْصَرَ مِنْ أَمْرِهِ، وَيَشْكُرُ اللَّهَ
الَّذِي أَنْقَذَهُ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الْعَمَى وَالضَّلَالَةِ:
وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ إِلَهًا لَمْ تَكُنْ أَنْتَ وَكَلْبٌ وَسْطَ بِئْرٍ فِي قَرَنْ
أُفٍّ لِمَلْقَاكَ إِلَهًا مُسْتَدَنْ
الْآنَ فَتَّشْنَاكَ عَنْ سُوءِ الْغَبَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ ذِي
الْمِنَنْ
الْوَاهِبِ الرَّزَّاقِ دَيَّانِ الدِّيَنْ هُوَ الَّذِي أَنْقَذَنِي مِنْ قَبْلِ
أَنْ
أَكُونَ فِي ظُلْمَةِ قَبْرٍ مُرْتَهَنْ
فَصْلٌ يَتَضَمَّنُ
أَسْمَاءَ مَنْ شَهِدَ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ
وَجُمْلَتُهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا
وَامْرَأَتَانِ، فَمِنَ الْأَوْسِ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا; أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ
أَحَدُ النُّقَبَاءِ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، بَدْرِيٌّ أَيْضًا،
وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، بَدْرِيٌّ أَيْضًا، وَظُهَيْرُ بْنُ
رَافِعٍ، وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ، بَدْرِيٌّ، وَنُهَيْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ
بْنِ نَابِي بْنِ مَجْدَعَةَ بْنِ حَارِثَةَ، وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ أَحَدُ
النُّقَبَاءِ، بَدْرِيٌّ، وَقُتِلَ بِهَا شَهِيدًا، وَرِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ
الْمُنْذِرِ بْنِ زَنْبَرٍ، نَقِيبٌ بَدْرِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرِ
بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ الْبُرَكِ، بَدْرِيٌّ، وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ
شَهِيدًا أَمِيرًا عَلَى الرُّمَاةِ، وَمَعْنُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْجَدِّ بْنِ
عَجْلَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ ضُبَيْعَةَ الْبَلَوِيُّ، حَلِيفٌ لِلْأَوْسِ
شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَقُتِلَ بِالْيَمَامَةِ شَهِيدًا، وَعُوَيْمُ
بْنُ سَاعِدَةَ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَمِنَ الْخَزْرَجِ اثْنَانِ
وَسِتُّونَ رَجُلًا; أَبُو أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا
بَعْدَهَا، وَمَاتَ بِأَرْضِ الرُّومِ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ شَهِيدًا، وَمُعَاذُ
بْنُ الْحَارِثِ، وَأَخَوَاهُ عَوْفٌ وَمُعَوِّذٌ، وَهُمْ بَنُو عَفْرَاءَ،
بَدْرِيُّونَ، وَعُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَقُتِلَ
بِالْيَمَامَةِ، وَأَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ أَبُو أُمَامَةَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ،
مَاتَ قَبْلَ بَدْرٍ، وَسَهْلُ بْنُ
عَتِيكٍ بَدْرِيٌّ، وَأَوْسُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ، بَدْرِيٌّ، وَأَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ، بَدْرِيٌّ، وَقَيْسُ بْنُ أَبِي صَعْصَعَةَ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنٍ، كَانَ أَمِيرًا عَلَى السَّاقَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَعَمْرُو بْنُ غَزِيَّةَ، وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ أَحَدُ النُّقَبَاءِ، شَهِدَ بَدْرًا وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ، شَهِدَ بَدْرًا وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَقُتِلَ يَوْمَ مُؤْتَةَ أَمِيرًا، وَبَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ، بَدْرِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ، الَّذِي أُرِيَ النِّدَاءَ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ، وَخَلَّادُ بْنُ سُوَيْدٍ، بِدْرِيٌّ أُحُدِيٌّ خَنْدَقِيٌّ، وَقُتِلَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ شَهِيدًا، طُرِحَتْ عَلَيْهِ رَحًى فَشَدَخَتْهُ، فَيُقَالُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ لَهُ لَأَجْرَ شَهِيدَيْنِ ". وَأَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو الْبَدْرِيٌّ، - قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهُوَ أَحْدَثُ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ سِنًّا وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا - وَزِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ، بَدْرِيٌّ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَدْفَةَ، بَدْرِيٌّ، وَخَالِدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مَالِكٍ، بَدْرِيٌّ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ أَحَدُ النُّقَبَاءِ، وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ خَلْدَةَ بْنِ مُخَلَّدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رُزَيْقٍ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: مُهَاجِرِيٌّ أَنْصَارِيٌّ لِأَنَّهُ أَقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ حَتَّى هَاجَرَ مِنْهَا وَهُوَ بَدْرِيٌّ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَعَبَّادُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَامِرِ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رُزَيْقٍ، بَدْرِيٌّ، وَأَخُوهُ الْحَارِثُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَامِرٍ، بَدْرِيٌّ أَيْضًا، وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ،
أَحَدُ النُّقَبَاءِ، وَأَوَّلُ مَنْ بَايَعَ فِيمَا تَزْعُمُ بَنُو سَلِمَةَ، وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَأَوْصَى لَهُ بِثُلْثِ مَالِهِ، فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَرَثَتِهِ، وَابْنُهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ، وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ، وَمَاتَ بِخَيْبَرَ شَهِيدًا مِنْ أَكْلِهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسِنَانُ بْنُ صَيْفِيِّ بْنِ صَخْرٍ، بَدْرِيٌّ، وَالطُّفَيْلُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ خَنْسَاءَ، بَدْرِيٌّ، قُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَمَعْقِلُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ سَرْحٍ، بَدْرِيٌّ، وَأَخُوهُ يَزِيدُ بْنُ الْمُنْذِرِ، بَدْرِيٌّ، وَمَسْعُودُ بْنُ زَيْدِ بْنِ سُبَيْعٍ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، بَدْرِيٌّ، وَيَزِيدُ بْنُ خِذَامِ بْنِ سُبَيْعٍ، وَجُبَارُ بْنُ صَخْرِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانَ بْنِ عُبَيْدٍ، بَدْرِيٌّ، وَالطُّفَيْلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ خَنْسَاءَ، بَدْرِيٌّ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَسُلَيْمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَدِيدَةَ، بَدْرِيٌّ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، بَدْرِيٌّ، وَأَخُوهُ أَبُو الْمُنْذِرِ يَزِيدُ، بَدْرِيٌّ أَيْضًا، وَأَبُو الْيَسَرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو، بَدْرِيٌّ، وَصَيْفِيُّ بْنُ سَوَادِ بْنِ عَبَّادٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَابِي، بَدْرِيٌّ وَاسْتُشْهِدَ بِالْخَنْدَقِ، وَأَخُوهُ عَمْرُو بْنُ غَنَمَةَ بْنِ عَدِيٍّ، وَعَبْسُ بْنُ عَامِرِ بْنِ عَدِيٍّ، بَدْرِيٌّ، وَخَالِدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَابِي، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ قُضَاعَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَحَدُ النُّقَبَاءِ، بَدْرِيٌّ، وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَابْنُهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، بَدْرِيٌّ، وَثَابِتُ بْنُ الْجِذْعِ، بَدْرِيٌّ وَقُتِلَ شَهِيدًا بِالطَّائِفِ، وَعُمَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، بَدْرِيٌّ، وَخَدِيجُ بْنُ سَلَامَةَ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَلِيٍّ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَمَاتَ بِطَاعُونِ عِمْوَاسَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَحَدُ النُّقَبَاءِ،
شَهِدَ بَدْرًا وَمَا
بَعْدَهَا، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ، وَقَدْ أَقَامَ بِمَكَّةَ
حَتَّى هَاجَرَ مِنْهَا، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ مُهَاجِرِيٌّ أَنْصَارِيٌّ أَيْضًا،
وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَزِيدُ بْنُ
ثَعْلَبَةَ بْنِ خَزْمَةَ بْنِ أَصْرَمَ، حَلِيفٌ لَهُمْ مَنْ بَلِيٍّ، وَعَمْرُو
بْنُ الْحَارِثِ بْنِ لَبْدَةَ، وَرِفَاعَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدٍ، بَدْرِيٌّ،
وَعُقْبَةُ بْنُ وَهْبِ بْنِ كَلْدَةَ، حَلِيفٌ لَهُمْ بَدْرِيٌّ، وَكَانَ مِمَّنْ
خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى هَاجَرَ مِنْهَا، فَهُوَ مِمَّنْ
يُقَالُ لَهُ: مُهَاجِرِيٌّ أَنْصَارِيٌّ أَيْضًا. وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ
دُلَيْمٍ أَحَدُ النُّقَبَاءِ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، نَقِيبٌ بَدْرِيٌّ
أُحُدِيٌّ وَقُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ أَمِيرًا، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ
لَهُ: أَعْنَقَ لِيَمُوتَ.
وَأَمَّا الْمَرْأَتَانِ; فَأُمُّ عُمَارَةَ نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنِ بْنِ
النَّجَّارِ الْمَازِنِيَّةُ النَّجَّارِيَّةُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ
كَانَتْ شَهِدَتِ الْحَرْبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَشَهِدَتْ مَعَهَا أُخْتُهَا، وَزَوْجُهَا زَيْدُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ
كَعْبٍ، وَابْنَاهَا حَبِيبٌ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُهَا حَبِيبٌ هَذَا هُوَ
الَّذِي قَتَلَهُ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، حِينَ جَعَلَ يَقُولُ لَهُ:
أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ
أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ فَيَقُولُ: لَا أَسْمَعُ. فَجَعَلَ
يُقَطِّعُهُ عُضْوًا عَضْوًا حَتَّى مَاتَ فِي يَدَيْهِ، لَا يَزِيدُهُ عَلَى
ذَلِكَ، فَكَانَتْ أُمُّ عُمَارَةَ مِمَّنْ خَرَجَ إِلَى الْيَمَامَةِ مَعَ
الْمُسْمِلِينَ حِينَ قُتِلَ مُسَيْلِمَةُ، وَرَجَعَتْ وَبِهَا اثْنَا عَشَرَ
جُرْحًا، مِنْ بَيْنِ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا،
وَالْأُخْرَى
أُمُّ مَنِيعٍ أَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَابِي بْنِ عَمْرِو بْنِ سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
بَابُ بَدْءِ الْهِجْرَةِ
مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ
قَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ
لِلْمُسْلِمِينَ: " قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، أُرِيتُ سَبْخَةً ذَاتَ
نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ ". فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ
حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَجَعَ
إِلَى الْمَدِينَةِ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا
نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهْلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ
الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ ". وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ أَسْنَدَهُ الْبُخَارِيُّ
فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بِطُولِهِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي
كُرَيْبٍ. زَادَ مُسْلِمٌ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي
أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ جَدِّهِ
أَبِي بُرْدَةَ،
عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْحَافِظُ إِمْلَاءً، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْقَاسِمُ بْنُ
الْقَاسِمِ السَّيَّارِيُّ بِمَرْوَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِلَالٍ،
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عُبَيْدٍ
الْكِنْدِيُّ عَنْ غَيْلَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيِّ، عَنْ أَبِي
زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ جَرِيرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ: أَيَّ
هَؤُلَاءِ الْبِلَادِ الثَّلَاثِ نَزَلْتَ فَهِيَ دَارُ هِجْرَتِكَ; الْمَدِينَةَ;
أَوِ الْبَحْرَيْنِ; أَوْ قِنَّسْرِينَ ". قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: ثُمَّ
عَزَمَ لَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا.
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ " جَامِعِهِ "
مُنْفَرِدًا بِهِ، عَنْ أَبِي عَمَّارٍ الْحُسَيْنِ بْنِ حُرَيْثٍ، عَنِ الْفَضْلِ
بْنِ مُوسَى عَنْ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ غَيْلَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْعَامِرِيِّ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عُمَرَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ جَرِيرٍ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ
اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ: أَيَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ نَزَلْتَ فَهِيَ
دَارُ هِجْرَتِكَ;
الْمَدِينَةَ، أَوِ الْبَحْرَيْنِ، أَوْ قِنَّسْرِينَ ". ثُمَّ قَالَ:
غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْفَضْلِ، تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو عَمَّارٍ.
قُلْتُ: وَغَيْلَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيُّ هَذَا، ذَكَرَهُ ابْنُ
حِبَّانَ فِي " الثِّقَاتِ " إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: رَوَى عَنْ أَبِي
زُرْعَةَ حَدِيثًا مُنْكَرًا فِي الْهِجْرَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَرْبِ
بِقَوْلِهِ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ
عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ
إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [ الْحَجِّ: 40، 39 ] الْآيَةَ. فَلَمَّا
أَذِنَ اللَّهُ فِي الْحَرْبِ، وَبَايَعَهُ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ
عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالنُّصْرَةِ لَهُ، وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ وَأَوَى إِلَيْهِمْ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَصْحَابَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنْ مَعَهُ بِمَكَّةَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا،
وَاللُّحُوقِ بِإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ
قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إِخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ بِهَا ". فَخَرَجُوا
أَرْسَالًا، وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِمَكَّةَ يَنْتَظِرُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّهُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ
وَالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ
مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، أَبُو سَلَمَةَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
مَخْزُومٍ
وَكَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَيْهَا
قَبْلَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ بِسَنَةٍ، حِينَ آذَتْهُ قُرَيْشٌ مَرْجِعَهُ مِنَ
الْحَبَشَةِ، فَعَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهَا، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ
بِالْمَدِينَةِ لَهُمْ إِخْوَانًا فَعَزَمَ إِلَيْهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: لَمَّا
أَجْمَعَ أَبُو سَلَمَةَ الْخُرُوجَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَحَّلَ لِي بَعِيرَهُ،
ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ، وَجَعَلَ مَعِي ابْنِي سَلَمَةَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ
فِي حِجْرِي، ثُمَّ خَرَجَ يَقُودُ بِي بِعِيرَهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ رِجَالُ
بَنِي الْمُغِيرَةِ قَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: هَذِهِ نَفْسُكَ غَلَبْتَنَا
عَلَيْهَا، أَرَأَيْتَ صَاحِبَتَنَا هَذِهِ عَلَامَ نَتْرُكُكَ تَسِيرُ بِهَا فِي
الْبِلَادِ ؟ قَالَتْ: فَنَزَعُوا خِطَامَ الْبَعِيرِ مِنْ يَدِهِ، وَأَخَذُونِي
مِنْهُ. قَالَتْ: وَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ رَهْطُ أَبِي
سَلَمَةَ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَتْرُكُ ابْنَنَا عِنْدَهَا إِذْ
نَزَعْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِنَا، قَالَتْ: فَتَجَاذَبُوا ابْنِي سَلَمَةَ
بَيْنَهُمْ حَتَّى خَلَعُوا يَدَهُ، وَانْطَلَقَ بِهِ بَنُو عَبْدُ الْأَسَدِ،
وَحَبَسَنِي بَنُو الْمُغِيرَةِ عِنْدَهُمْ، وَانْطَلَقَ زَوْجِي أَبُو سَلَمَةَ
إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَتْ: فَفُرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِي وَبَيْنَ
زَوْجِي. قَالَتْ: فَكُنْتُ أَخْرُجُ كُلَّ غَدَاةٍ فَأَجْلِسُ فِي الْأَبْطَحِ،
فَمَا أَزَالُ أَبْكِي حَتَّى أُمْسِيَ - سَنَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا - حَتَّى
مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمِّي أَحَدُ بَنِي الْمُغِيرَةِ، فَرَأَى مَا بِي
فَرَحِمَنِي، فَقَالَ لِبَنِي الْمُغِيرَةِ: أَلَا تُخْرِجُونَ هَذِهِ
الْمِسْكِينَةَ ؟ فَرَّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا
وَبَيْنَ وَلَدِهَا ؟
قَالَتْ: فَقَالُوا لِي: الْحَقِي بِزَوْجِكِ إِنْ شِئْتِ. قَالَتْ: فَرَدَّ بَنُو
عَبْدِ الْأَسَدِ إِلَيَّ عِنْدَ ذَلِكَ ابْنِي، قَالَتْ: فَارْتَحَلْتُ بَعِيرِي،
ثُمَّ أَخَذْتُ ابْنِي فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِي، ثُمَّ خَرَجْتُ أُرِيدُ زَوْجِي
بِالْمَدِينَةِ، قَالَتْ: وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، حَتَّى إِذَا
كُنْتُ بِالتَّنْعِيمِ لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَخَا
بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ يَا ابْنَةَ أَبِي أُمَيَّةَ ؟
قُلْتُ: أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: أَوْ مَا مَعَكِ أَحَدٌ ؟ قُلْتُ:
مَا مَعِي أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ وَابْنِي هَذَا. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا لَكِ
مِنْ مَتْرَكٍ. فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْبَعِيرِ فَانْطَلَقَ مَعِي يَهْوِي بِي،
فَوَاللَّهِ مَا صَحِبْتُ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ قَطُّ أَرَى أَنَّهُ كَانَ
أَكْرَمَ مِنْهُ; كَانَ إِذَا بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَنَاخَ بِي، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ
عَنِّي، حَتَّى إِذَا نَزَلْتُ اسْتَأْخَرَ بِبَعِيرِي فَحَطَّ عَنْهُ، ثُمَّ
قَيَّدَهُ فِي الشَّجَرِ، ثُمَّ تَنَحَّى إِلَى شَجَرَةٍ فَاضْطَجَعَ تَحْتَهَا،
فَإِذَا دَنَا الرَّوَاحُ قَامَ إِلَى بَعِيرِي فَقَدَّمَهُ فَرَحَّلَهُ، ثُمَّ
اسْتَأْخَرَ عَنِّي، وَقَالَ: ارْكَبِي. فَإِذَا رَكِبْتُ فَاسْتَوَيْتُ عَلَى بَعِيرِي،
أَتَى فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ فَقَادَنِي حَتَّى يَنْزِلَ بِي، فَلَمْ يَزَلْ
يَصْنَعُ ذَلِكَ بِي حَتَّى أَقْدَمَنِي الْمَدِينَةَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى
قَرْيَةِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءٍ، قَالَ: زَوْجُكِ فِي هَذِهِ
الْقَرْيَةِ - وَكَانَ أَبُو سَلَمَةَ بِهَا نَازِلًا - فَادْخُلِيهَا عَلَى
بَرَكَةِ اللَّهِ. ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ فَكَانَتْ تَقُولُ: مَا
أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ فِي الْإِسْلَامِ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ آلَ أَبِي
سَلَمَةَ، وَمَا رَأَيْتُ صَاحِبًا قَطُّ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ
طَلْحَةَ.
أَسْلَمَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ هَذَا
بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهَاجَرَ هُوَ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعًا،
وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ أَبُوهُ وَإِخْوَتُهُ; الْحَارِثُ، وَكِلَابٌ،
وَمُسَافِعٌ، وَعَمُّهُ
عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَإِلَى ابْنِ عَمِّهِ شَيْبَةَ، وَالِدِ
بَنِي شَيْبَةَ، مَفَاتِيحَ الْكَعْبَةِ، أَقَرَّهَا عَلَيْهِمْ فِي الْإِسْلَامِ
كَمَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَنَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [ النِّسَاءِ:
58 ] الْآيَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَهَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
بَعْدَ أَبِي سَلَمَةَ، عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ، مَعَهُ
امْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ الْعَدَوِيَّةُ، ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ جَحْشِ بْنِ رِيِابِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ صَبْرَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَثِيرِ
بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، حَلِيفُ بَنِي أُمَيَّةَ
بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، احْتَمَلَ بِأَهْلِهِ وَبِأَخِيهِ عَبْدٍ أَبِي أَحْمَدَ -
اسْمُهُ عَبْدٌ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَقِيلَ: ثُمَامَةُ. قَالَ
السُّهَيْلِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ - وَكَانَ أَبُو أَحْمَدَ رَجُلًا ضَرِيرَ
الْبَصَرِ، وَكَانَ يَطُوفُ مَكَّةَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا بِغَيْرِ قَائِدٍ،
وَكَانَ شَاعِرًا وَكَانَتْ عِنْدَهُ الْفَارِعَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ
حَرْبٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمَيْمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ،
فَغُلِقَتْ دَارُ بَنِي جَحْشٍ هِجْرَةً، فَمَرَّ بِهَا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ،
وَالْعَبَّاسُ بْنُ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَهُمْ مُصْعِدُونَ إِلَى
أَعْلَى مَكَّةَ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا عُتْبَةُ تَخْفِقُ أَبْوَابُهَا يَبَابًا
لَيْسَ بِهَا سَاكِنٌ، فَلَمَّا رَآهَا كَذَلِكَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ وَقَالَ:
وَكُلُّ دَارٍ وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهَا يَوْمًا سَتُدْرِكُهَا النَّكْبَاءُ
وَالْحُوبُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَا الْبَيْتُ لِأَبِي دَاوُدَ الْإِيَادِيِّ فِي
قَصِيدَةٍ لَهُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَاسْمُ أَبِي دَاوُدَ حَنْظَلَةُ بْنُ
شَرْقِيٍّ. وَقِيلَ: جَارِيَةُ. ثُمَّ قَالَ عُتْبَةُ: أَصْبَحَتْ دَارُ بَنِي
جَحْشٍ خَلَاءً مِنْ أَهْلِهَا. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَمَا تَبْكِي عَلَيْهِ
مِنْ قُلِّ بْنِ قُلٍّ. ثُمَّ قَالَ - يَعْنِي لِلْعَبَّاسِ -: هَذَا مِنْ عَمَلِ
ابْنِ أَخِيكَ هَذَا، فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَ أَمْرَنَا، وَقَطَّعَ
بَيْنَنَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَنَزَلَ أَبُو سَلَمَةَ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ،
وَبَنُو جَحْشٍ بِقُبَاءَ عَلَى مُبَشِّرِ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، ثُمَّ قَدِمَ
الْمُهَاجِرُونَ أَرْسَالًا. قَالَ: وَكَانَ بَنُو غَنْمِ بْنِ دُودَانَ أَهْلَ
إِسْلَامٍ قَدْ أَوْعَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ هِجْرَةً رِجَالُهُمْ
وَنِسَاؤُهُمْ; عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، وَأَخُوهُ أَبُو أَحْمَدَ،
وَعُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَشُجَاعٌ وَعُقْبَةُ ابْنَا
وَهْبٍ، وَأَرْبَدُ بْنُ
حُمَيِّرَةَ، وَمُنْقِذُ بْنُ نُبَاتَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ رُقَيْشٍ، وَمُحْرِزُ
بْنُ نَضْلَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ رُقَيْشٍ، وَقَيْسُ بْنُ جَابِرٍ، وَعَمْرُو بْنُ
مِحْصَنٍ، وَمَالِكُ بْنُ عَمْرٍو، وَصَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَثَقْفُ بْنُ
عَمْرٍو، وَرَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ عُبَيْدَةَ، وَتَمَّامُ
بْنُ عُبَيْدَةَ، وَسَخْبَرَةُ بْنُ عُبَيْدَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ جَحْشٍ، وَمِنْ نِسَائِهِمْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ
جَحْشٍ، وَأُمُّ حَبِيبٍ بِنْتُ جَحْشٍ، وَجُذَامَةُ بَنَتُ جَنْدَلٍ، وَأُمُّ
قَيْسٍ بِنْتُ مِحْصَنٍ، وَأُمُّ حَبِيبٍ بِنْتُ ثُمَامَةَ، وَآمِنَةُ بِنْتُ
رُقَيْشٍ، وَسَخْبَرَةُ بِنْتُ تَمِيمٍ. قَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ فِي
هِجْرَتِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَلَمَّا رَأَتْنِي أُمُّ أَحْمَدَ غَادِيًا بِذِمَّةِ مَنْ أَخْشَى بِغَيْبٍ
وَأَرْهَبُ
تَقُولُ فَإِمَّا كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَيَمِّمْ بِنَا الْبُلْدَانَ
وَلْتَنْأَ يَثْرِبُ
فَقُلْتُ لَهَا مَا
يَثْرِبٌ بِمَظِنَّةٍ وَمَا يَشَأِ الرَّحْمَنُ فَالْعَبْدُ يَرْكَبُ
إِلَى اللَّهِ وَجْهِي وَالرَّسُولِ وَمَنْ يُقِمْ إِلَى اللَّهِ يَوْمًا وَجْهَهُ
لَا يُخَيَّبُ
فَكَمْ قَدْ تَرَكْنَا مِنْ حَمِيمٍ مُنَاصِحٍ وَنَاصِحَةٍ تَبْكِي بِدَمْعٍ
وَتَنْدِبُ
تَرَى أَنَّ وِتْرًا نَأْيُنَا عَنْ بِلَادِنَا وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ الرَّغَائِبَ
نَطْلُبُ
دَعَوْتُ بَنِي غَنْمٍ لِحَقْنِ دِمَائِهِمُ وَلِلْحَقِّ لَمَّا لَاحَ لِلنَّاسِ
مَلْحَبُ
أَجَابُوا بِحَمْدِ اللَّهِ لَمَّا دَعَاهُمُ إِلَى الْحَقِّ دَاعٍ وَالنَّجَاحِ
فَأَوْعَبُوا
وَكُنَّا وَأَصْحَابٌ لَنَا فَارَقُوا الْهُدَى أَعَانُوا عَلَيْنَا بِالسِّلَاحِ
وَأَجْلَبُوا
كَفَوْجَيْنِ أَمَّا مِنْهُمَا فَمُوَفَّقٌ عَلَى الْحَقِّ مَهْدِيٌّ وَفَوْجٌ
مُعَذَّبُ
طَغَوْا وَتَمَنَّوْا كِذْبَةً وَأَزَلَّهُمْ عَنِ الْحَقِّ إِبْلِيسٌ فَخَابُوا
وَخَيَّبُوا
وَرِعْنَا إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ فَطَابَ وُلَاةُ الْحَقِّ مَنَّا
وَطَيَّبُوا
نَمُتُّ بِأَرْحَامٍ إِلَيْهِمْ قَرِيبَةٍ وَلَا قُرْبَ بِالْأَرْحَامِ إِذْ لَا
تُقَرَّبُ
فَأَيُّ ابْنِ أُخْتٍ بَعْدَنَا يَأْمَنَنَّكُمْ وَأَيَّةُ صِهْرٍ بَعْدَ صِهْرِيَ
تُرْقَبُ
سَتَعْلَمُ يَوْمًا
أَيُّنَا إِذْ تَزَيَّلُوا وَزُيِّلَ أَمْرُ النَّاسِ لِلْحَقِّ أَصْوَبُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَيَّاشُ بْنُ
أَبِي رَبِيعَةَ حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ، فَحَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: اتَّعَدْتُ لَمَّا أَرَدْنَا
الْهِجْرَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَنَا وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَهِشَامُ
بْنُ الْعَاصِ التَّنَاضِبَ، مِنْ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ فَوْقَ سَرِفَ،
وَقُلْنَا: أَيُّنَا لَمْ يُصْبِحْ عِنْدَهَا; فَقَدْ حُبِسَ فَلْيَمْضِ
صَاحِبَاهُ. قَالَ: فَأَصْبَحْتُ أَنَا وَعَيَّاشٌ عِنْدَ التَّنَاضِبِ، وَحُبِسَ
هِشَامٌ وَفُتِنَ فَافْتَتَنَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ نَزَلْنَا فِي
بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ، وَخَرَجَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ،
وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، إِلَى عَيَّاشٍ - وَكَانَ ابْنَ عَمِّهِمَا
وَأَخَاهُمَا لِأُمِّهِمَا - حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَكَلَّمَاهُ، وَقَالَا لَهُ: إِنَّ
أُمَّكَ قَدْ نَذَرَتْ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهَا مُشْطٌ حَتَّى تَرَاكَ، وَلَا
تَسْتَظِلَّ مِنْ شَمْسٍ حَتَّى تَرَاكَ فَرَقَّ لَهَا، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ
وَاللَّهِ إِنْ يُرِيدُكَ الْقَوْمُ إِلَّا لِيَفْتِنُوكَ عَنْ دِينِكَ
فَاحْذَرْهُمْ، فَوَاللَّهِ لَوْ قَدْ آذَى أُمَّكَ الْقَمْلُ لَامْتَشَطَتْ،
وَلَوْ قَدِ اشْتَدَّ عَلَيْهَا حُرُّ مَكَّةَ لَاسْتَظَلَّتْ. قَالَ: فَقَالَ:
أَبَرُّ قَسَمَ أُمِّي وَلِي هُنَالِكَ مَالٌ فَآخُذُهُ. قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ
إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا، فَلَكَ نِصْفُ
مَالِي، وَلَا تَذْهَبْ مَعَهُمَا. قَالَ: فَأَبَى عَلَيَّ إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ
مَعَهُمَا، فَلَمَّا أَبَى
إِلَّا ذَلِكَ قُلْتُ: أَمَا إِذْ قَدْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ، فَخُذْ نَاقَتِي هَذِهِ; فَإِنَّهَا نَاقَةٌ نَجِيبَةٌ ذَلُولٌ، فَالْزَمْ ظَهْرَهَا، فَإِنْ رَابَكَ مِنْ أَمْرِ الْقَوْمِ رَيْبٌ فَانْجُ عَلَيْهَا. فَخَرَجَ عَلَيْهَا مَعَهُمَا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: يَا أَخِي، وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَغْلَظْتُ بَعِيرِي هَذَا، أَفَلَا تَعْقِبُنِي عَلَى نَاقَتِكَ هَذِهِ. قَالَ: بَلَى. فَأَنَاخَ وَأَنَاخَا لِيَتَحَوَّلَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَوْا بِالْأَرْضِ عَدَوَا عَلَيْهِ، فَأَوْثَقَاهُ رِبَاطًا، ثُمَّ دَخَلَا بِهِ مَكَّةَ وَفَتَنَاهُ فَافْتَتَنَ. قَالَ عُمَرُ: فَكُنَّا نَقُولُ: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِمَّنِ افْتَتَنَ تَوْبَةً. وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ حَتَّى قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [ الزَّمْرِ: 53 - 55 ]. قَالَ عُمَرُ: فَكَتَبْتُهَا بِيَدِي، وَبَعَثْتُ بِهَا إِلَى هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ، قَالَ هِشَامٌ: فَلَمَّا أَتَتْنِي جَعَلْتُ أَقْرَؤُهَا بِذِي طُوًى أُصَعِّدُ بِهَا فِيهِ وَأُصَوِّبُ، وَلَا أَفْهَمُهَا حَتَّى قُلْتُ: اللَّهُمَّ فَهِّمْنِيهَا. فَأَلْقَى اللَّهُ فِي قَلْبِي أَنَّهَا إِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِينَا وَفِيمَا كُنَّا نَقُولُ فِي أَنْفُسِنَا وَيُقَالُ فِينَا. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى بَعِيرِي، فَجَلَسْتُ عَلَيْهِ، فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ أَنَّ الَّذِي قَدِمَ بِهِشَامِ بْنِ الْعَاصِ، وَعَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ
الْوَلِيدُ بْنُ
الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، سَرَقَهُمَا مِنْ مَكَّةَ، وَقِدَمَ بِهِمَا
يَحْمِلُهُمَا عَلَى بَعِيرِهِ، وَهُوَ مَاشٍ مَعَهُمَا، فَعَثَرَ فَدَمِيَتْ
أُصْبُعُهُ، فَقَالَ:
هَلْ أَنْتِ إِلَّا أُصْبُعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،
أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، سَمِعَ الْبَرَاءَ، قَالَ:أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ
عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، ثُمَّ قَدِمَ
عَلَيْنَا عَمَّارٌ وَبِلَالٌ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ
قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَكَانَا
يُقْرِئَانِ النَّاسَ، فَقَدِمَ بِلَالٌ وَسَعْدٌ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، ثُمَّ
قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ
بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَعَلَ الْإِمَاءُ
يَقُلْنَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا قَدِمَ
حَتَّى قَرَأْتُ سَبْحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فِي سُورٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ
الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ بِنَحْوِهِ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ سَعْدَ بْنَ
أَبِي وَقَّاصٍ هَاجَرَ قَبْلَ قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَقَدْ زَعَمَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
أَنَّهُ إِنَّمَا هَاجَرَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْمَدِينَةَ
هُوَ وَمَنْ لَحِقَ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَقَوْمِهِ وَأَخُوهُ زَيْدُ بْنُ
الْخَطَّابِ، وَعَمْرٌو وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا سُرَاقَةَ بْنِ الْمُعْتَمِرِ،
وَخُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ زَوْجُ ابْنَتِهِ حَفْصَةَ، وَابْنُ
عَمِّهِ سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ التَّمِيمِيُّ حَلِيفٌ لَهُمْ، وَخَوْلِيُّ بْنُ أَبِي خَوْلِيٍّ،
وَمَالِكُ بْنُ أَبِي خَوْلِيٍّ حَلِيفَانِ لَهُمْ مِنْ بَنِي عِجْلٍ، وَبَنُو
الْبُكَيْرِ إِيَاسٌ، وَخَالِدٌ، وَعَاقِلٌ، وَعَامِرٌ، وَحُلَفَاؤُهُمْ مِنْ
بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ، فَنَزَلُوا عَلَى رَفَاعَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ
بْنِ زَنْبَرٍ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ تَتَابَعَ الْمُهَاجِرُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ،
فَنَزَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ عَلَى خُبَيْبِ
بْنِ إِسَافٍ، أَخِي بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بِالسَّنْحِ. وَيُقَالُ: بَلْ
نَزَلَ طَلْحَةُ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
وَذُكِرَ لِي عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ
صُهَيْبًا حِينَ أَرَادَ الْهِجْرَةَ، قَالَ لَهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: أَتَيْتَنَا
صُعْلُوكًا حَقِيرًا، فَكَثُرَ مَالُكَ عِنْدَنَا وَبَلَغْتَ الَّذِي بَلَغْتَ،
ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ بِمَالِكِ وَنَفْسِكَ ؟ وَاللَّهِ لَا يَكُونُ
ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُمْ صُهَيْبٌ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلْتُ لَكُمْ مَالِي
أَتُخَلُّونَ سَبِيلِي ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَكُمْ
مَالِي. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: " رَبِحَ صُهَيْبٌ، رَبِحَ صُهَيْبٌ "
وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: حَدَّثَنَا الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
إِمْلَاءً، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ مِيكَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدَانُ الْأَهْوَازِيُّ، حَدَّثَنَا
زَيْدُ بْنُ الْحَرِيشِ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ،
حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ صُهَيْبٍ، حَدَّثَنِي
أَبِي وَعُمُومَتِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ
سَبْخَةً بَيْنَ ظَهَرَانِي حَرَّتَيْنِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ هَجَرَ أَوْ
تَكُونُ يَثْرِبَ ". قَالَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَخَرَجَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَكُنْتُ
قَدْ هَمَمْتُ مَعَهُ بِالْخُرُوجِ فَصَدَّنِي فِتْيَانٌ مِنْ قُرَيْشٍ،
فَجَعَلْتُ لَيْلَتِي تِلْكَ أَقُومُ لَا أَقْعُدُ، فَقَالُوا: قَدْ شَغَلَهُ اللَّهُ
عَنْكُمْ بِبَطْنِهِ. وَلَمْ أَكُنْ شَاكِيًا. فَنَامُوا فَخَرَجْتُ وَلَحِقَنِي
مِنْهُمْ نَاسٌ بَعْدَمَا
سِرْتُ بَرِيدًا
لِيَرُدُّونِي، فَقُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَكَمَ أَنْ أُعْطِيَكُمْ أَوَاقِيَ مِنْ
ذَهَبٍ وَتُخَلُّوا سَبِيلِي وَتُوفُوا لِي. فَفَعَلُوا فَتَبِعْتُهُمْ إِلَى
مَكَّةَ فَقُلْتُ: احْفُرُوا تَحْتَ أُسْكُفَّةِ الْبَابِ، فَإِنَّ تَحْتَهَا
أَوَاقِيَ، وَاذْهَبُوا إِلَى فُلَانَةَ فَخُذُوا الْحُلَّتَيْنِ. وَخَرَجْتُ
حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقُبَاءَ قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْهَا، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: " يَا
أَبَا يَحْيَى، رَبِحَ الْبَيْعُ ". ثَلَاثًا. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، مَا سَبَقَنِي إِلَيْكَ أَحَدٌ، وَمَا أَخْبَرَكَ إِلَّا جِبْرِيلُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَنَزَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَزَيْدُ
بْنُ حَارِثَةَ، وَأَبُو مَرْثَدٍ كَنَّازُ بْنُ الْحُصَيْنِ، وَابْنُهُ مَرْثَدٌ
الْغَنَوِيَّانِ حَلِيفَا حَمْزَةَ، وَأَنَسَةُ وَأَبُو كَبْشَةَ مَوْلَيَا
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ
الْهِدْمِ أَخِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ، وَقِيلَ: عَلَى سَعْدِ بْنِ
خَيْثَمَةَ. وَقِيلَ: بَلْ نَزَلَ حَمْزَةُ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَنَزَلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ وَأَخَوَاهُ
الطُّفَيْلُ،
وَحُصَيْنٌ وَمِسْطَحُ
بْنُ أُثَاثَةَ وَسُويْبِطُ بْنُ سَعْدِ بْنِ حُرَيْمِلَةَ أَخُو بَنِي عَبْدِ
الدَّارِ، وَطُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ بْنِ قُصَيٍّ، وَخَبَّابٌ
مَوْلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزَوَانَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ أَخِي
بَلْعَجْلَانَ بِقُبَاءَ، وَنَزَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي رِجَالٍ
مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَنَزَلَ الزُّبَيْرُ بْنُ
الْعَوَّامِ، وَأَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ عَلَى مُنْذِرِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ بِالْعُصْبَةِ دَارِ بَنِي
جَحْجَبَى، وَنَزَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ عَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَنَزَلَ
أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ، وَسَالِمٌ مَوْلَاهُ عَلَى - شَكَّ ابْنُ
إِسْحَاقَ وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إِسَافٍ أَخِي بَنِي
حَارِثَةَ - وَنَزَلَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ عَلَى عَبَّادِ بْنِ بِشْرِ بْنِ
وَقْشٍ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَنَزَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَى
أَوْسِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ أَخِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ فِي دَارِ
بَنِي النَّجَّارِ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَنَزَلَ الْعُزَّابُ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عَزَبًا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ زُرَارَةَ
بْنِ مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: قَدِمْنَا مِنْ مَكَّةَ فَنَزَلْنَا الْعُصْبَةَ ; عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، فَكَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ لِأَنَّهُ كَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا.
فَصْلٌ فِي سَبَبِ
هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ
الْكَرِيمَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي
مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا [ الْإِسْرَاءِ:
80 ] أَرْشَدَهُ اللَّهُ وَأَلْهَمَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ، أَنْ
يَجْعَلَ لَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَرَجًا قَرِيبًا وَمَخْرَجًا عَاجِلًا، فَأَذِنَ
لَهُ تَعَالَى فِي الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ حَيْثُ
الْأَنْصَارُ وَالْأَحْبَابُ، فَصَارَتْ لَهُ دَارًا وَقَرَارًا وَأَهْلُهَا لَهُ
أَنْصَارًا.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ،
عَنْ قَابُوسِ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَأُمِرَ
بِالْهِجْرَةِ وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ: " وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ
وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا
"
وَقَالَ قَتَادَةُ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ الْمَدِينَةَ وَأَخْرِجْنِي
مُخْرَجَ صِدْقٍ الْهِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا
نَصِيرًا
كِتَابَ اللَّهِ
وَفَرَائِضَهُ وَحُدُودَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ بِمَكَّةَ بَعْدَ أَصْحَابِهِ
مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ، وَلَمْ
يَتَخَلَّفْ مَعَهُ بِمَكَّةَ إِلَّا مَنْ حُبِسَ أَوْ فُتِنَ، إِلَّا عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ كَثِيرًا مَا يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِجْرَةِ، فَيَقُولُ لَهُ: " لَا
تَعْجَلْ; لَعَلَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لَكَ صَاحِبًا ". فَيَطْمَعُ أَبُو
بَكْرٍ أَنْ يَكُونَهُ، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَارَ لَهُ شِيعَةٌ وَأَصْحَابٌ مِنْ غَيْرِهِمْ
بِغَيْرِ بَلَدِهِمْ، وَرَأَوْا خُرُوجَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
إِلَيْهِمْ، عَرَفُوا أَنَّهُمْ قَدْ نَزَلُوا دَارًا وَأَصَابُوا مِنْهُمْ
مَنَعَةً، فَحَذِرُوا خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَيْهِمْ، وَعَرَفُوا أَنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ لِحَرْبِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا لَهُ
فِي دَارِ النَّدْوَةِ - وَهِيَ دَارُ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ التِي كَانَتْ
قُرَيْشٌ لَا تَقْضِي أَمْرًا إِلَّا فِيهَا - يَتَشَاوَرُونَ فِيمَا يَصْنَعُونَ
فِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَافُوهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُ مِمَّنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ، وَاتَّعَدُوا أَنْ يَدْخُلُوا
فِي دَارِ النَّدْوَةِ; لِيَتَشَاوَرُوا فِيهَا فِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَدَوْا فِي الْيَوْمِ الَّذِي اتَّعَدُوا
لَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يُسَمَّى يَوْمَ الزَّحْمَةِ، فَاعْتَرَضَهُمْ إِبْلِيسُ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فِي هَيْئَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ عَلَيْهِ بَتٌّ لَهُ، فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الدَّارِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ وَاقِفًا عَلَى بَابِهَا، قَالُوا: مَنِ الشَّيْخُ ؟ قَالَ: شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ سَمِعَ بِالَّذِي اتَّعَدْتُمْ لَهُ، فَحَضَرَ مَعَكُمْ; لِيَسْمَعَ مَا تَقُولُونَ، وَعَسَى أَنْ لَا يُعْدِمَكُمْ مِنْهُ رَأْيًا وَنُصْحًا. قَالُوا: أَجَلْ فَادْخُلْ. فَدَخَلَ مَعَهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا أَشْرَافُ قُرَيْشٍ; عُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو سُفْيَانَ، وَطُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيٍّ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَنُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا يُعَدُّ مِنْ قُرَيْشٍ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، وَإِنَّنَا وَاللَّهِ مَا نَأْمَنُهُ عَلَى الْوُثُوبِ عَلَيْنَا بِمَنْ قَدِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِنَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا. قَالَ: فَتَشَاوَرُوا، ثُمَّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ - قِيلَ: إِنَّهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ - احْبِسُوهُ فِي الْحَدِيدِ، وَأَغْلِقُوا عَلَيْهِ بَابًا، ثُمَّ تَرَبَّصُوا بِهِ مَا أَصَابَ أَشْبَاهَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ; زُهَيْرًا وَالنَّابِغَةَ وَمَنْ مَضَى مِنْهُمْ، مِنْ هَذَا الْمَوْتِ; حَتَّى يُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمْ. فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لَا وَاللَّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، وَاللَّهِ لَئِنْ حَبَسْتُمُوهُ كَمَا تَقُولُونَ،
لَيَخْرُجَنَّ أَمْرُهُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ الَّذِي أَغْلَقْتُمْ دُونَهُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَأَوْشَكُوا أَنْ يَثِبُوا عَلَيْكُمْ فَيَنْتَزِعُوهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ، ثُمَّ يُكَاثِرُوكُمْ بِهِ حَتَّى يَغْلِبُوكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ، مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، فَتَشَاوَرُوا، ثُمَّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: نُخْرِجُهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا فَنَنْفِيهِ مِنْ بِلَادِنَا، فَإِذَا خَرَجَ عَنَّا، فَوَاللَّهِ مَا نُبَالِي أَيْنَ ذَهَبَ، وَلَا حَيْثُ وَقَعَ إِذَا غَابَ عَنَّا وَفَرَغْنَا مِنْهُ، فَأَصْلَحْنَا أَمْرَنَا وَأُلْفَتَنَا كَمَا كَانَتْ. قَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لَا وَاللَّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ; أَلَمْ تَرَوْا حُسْنَ حَدِيثِهِ، وَحَلَاوَةَ مَنْطِقِهِ، وَغَلَبَتَهُ عَلَى قُلُوبِ الرِّجَالِ بِمَا يَأْتِي بِهِ ؟ وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ، مَا أَمِنْتُ أَنْ يَحِلَّ عَلَى حَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ، فَيَغْلِبَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَحَدِيثِهِ حَتَّى يُتَابِعُوهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسِيرُ بِهِمْ إِلَيْكُمْ حَتَّى يَطَأَكُمْ بِهِمْ، فَيَأْخُذَ أَمْرَكُمْ مِنْ أَيْدِيكُمْ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِكُمْ مَا أَرَادَ، أَدِيرُوا فِيهِ رَأْيًا غَيْرَ هَذَا. فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: وَاللَّهِ إِنَّ لِي فِيهِ لَرَأَيًا مَا أَرَاكُمْ وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ. قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا أَبَا الْحَكَمِ ؟ قَالَ: أَرَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَتًى شَابًّا جَلِيدًا نَسِيبًا وَسِيطًا فِينَا، ثُمَّ نُعْطِي كُلَّ فَتًى مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا، ثُمَّ يَعْمِدُوا إِلَيْهِ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَيَقْتُلُوهُ فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ، فَإِنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ جَمِيعِهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِ مُنَافٍ عَلَى حَرْبِ قَوْمِهِمْ جَمِيعًا فَرَضُوا مِنَّا بِالْعَقْلِ فَعَقَلْنَاهُ لَهُمْ. قَالَ: يَقُولُ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: الْقَوْلُ مَا قَالَ الرَّجُلُ، هَذَا الرَّأْيُ وَلَا رَأْيَ غَيْرُهُ. فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ عَلَى ذَلِكَ، وَهُمْ مُجْمِعُونَ لَهُ، فَأَتَى جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: لَا
تَبِتْ هَذِهِ
اللَّيْلَةَ عَلَى فِرَاشِكَ الَّذِي كُنْتَ تَبِيتُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَلَمَّا
كَانَتْ عَتَمَةٌ مِنَ اللَّيْلِ اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِهِ، يَرْصُدُونَهُ مَتَى
يَنَامُ فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَانَهُمْ، قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: " نَمْ
عَلَى فِرَاشِي، وَتَسَجَّ بِبُرْدِي هَذَا الْحَضْرَمِيِّ الْأَخْضَرِ فَنَمْ
فِيهِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إِلَيْكَ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ ".
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُ فِي بُرْدِهِ
ذَلِكَ إِذَا نَامَ
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ التِي ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ، قَدْ رَوَاهَا
الْوَاقِدِيُّ بِأَسَانِيدِهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلِيٍّ،
وَسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، وَغَيْرِهِمْ، دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ
فِي بَعْضٍ، فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، قَالَ: لَمَّا اجْتَمَعُوا لَهُ وَفِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ
قَالَ، وَهُمْ عَلَى بَابِهِ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّكُمْ إِنْ
تَابَعْتُمُوهُ عَلَى أَمْرِهِ، كُنْتُمْ مُلُوكَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، ثُمَّ
بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فَجُعِلَتْ لَكُمْ جِنَانٌ كَجِنَانِ
الْأُرْدُنِ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، كَانَ فِيكُمْ ذَبْحٌ، ثُمَّ بُعِثْتُمْ
بَعْدَ مَوْتِكُمْ، ثُمَّ جُعِلَتْ لَكُمْ نَارٌ، تُحْرَقُونَ فِيهَا! قَالَ: فَخَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ
تُرَابٍ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: " نَعَمْ أَنَا أَقُولُ
ذَلِكَ، أَنْتَ
أَحَدُهُمْ ". وَأَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ عَنْهُ فَلَا
يَرَوْنَهُ، فَجَعَلَ يَنْثُرُ ذَلِكَ التُّرَابَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ وَهُوَ
يَتْلُو هَذِهِ الْآيَاتِ يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ إِلَى
قَوْلِهِ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ
فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ. وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَقَدْ وَضَعَ
عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ،
فَأَتَاهُمْ آتٍ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ، فَقَالَ: مَا تَنْتَظِرُونَ
هَاهُنَا ؟ قَالُوا: مُحَمَّدًا. فَقَالَ: خَيَّبَكُمُ اللَّهُ، قَدْ وَاللَّهِ
خَرَجَ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ مَا تَرَكَ مِنْكُمْ رَجُلًا إِلَّا وَقَدْ
وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، وَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، أَفَمَا تَرَوْنَ مَا
بِكُمْ ؟ قَالَ: فَوَضَعَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ فَإِذَا
عَلَيْهِ تُرَابٌ، ثُمَّ جَعَلُوا يَتَطَلَّعُونَ، فَيَرَوْنَ عَلِيًّا عَلَى
الْفِرَاشِ مُتَسَجِّيًا بِبُرْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَمُحَمَّدٌ نَائِمًا عَلَيْهِ
بُرْدُهُ. فَلَمْ يَبْرَحُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحُوا، فَقَامَ عَلِيٌّ عَنِ
الْفِرَاشِ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ صَدَقَنَا الَّذِي كَانَ
حَدَّثَنَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ
وَمَا كَانُوا أَجْمَعُوا لَهُ، قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [ الْأَنْفَالِ: 30 ]
وَقَوْلُهُ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ
تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [ الطُّورِ: 31، 30 ] قَالَ
ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَذِنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عِنْدَ ذَلِكَ بِالْهِجْرَةِ.
بَابُ هِجْرَةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ مِنْ مَكَّةَ
إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَذَلِكَ أَوَّلُ التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ
الصَّحَابَةُ فِي الدَّوْلَةِ الْعُمَرِيَّةِ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي "
سِيرَةِ عُمَرَ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ، ثَنَا رَوْحٌ، ثَنَا
هِشَامٌ، ثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ
عَشْرَةَ يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ،
وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. وَقَدْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنْ
بِعْثَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ كَمَّا رَوَاهُ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: وُلِدَ نَبِيُّكُمْ
يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ، وَنُبِّئَ
يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَدَخْلَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَتُوُفِّيَ
يَوْمَ الِاثْنَيْنِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ:وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ حِينَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِجْرَةِ، فَقَالَ لَهُ: "
لَا تَعْجَلْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَكَ صَاحِبًا ". قَدْ طَمِعَ
بِأَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا
يَعْنِي نَفْسَهُ، فَابْتَاعَ رَاحِلَتَيْنِ، فَحَبَسَهُمَا فِي دَارِهِ
يَعْلِفُهُمَا إِعْدَادًا لِذَلِكَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: اشْتَرَاهُمَا
بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا قَالَتْ:كَانَ لَا
يُخْطِئُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ
أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيِ النَّهَارِ، إِمَّا بُكْرَةً، وَإِمَّا عَشِيَّةً
حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِجْرَةِ، وَالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ مِنْ بَيْنِ
ظَهْرَيْ قَوْمِهِ، أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْهَاجِرَةِ فِي سَاعَةٍ كَانَ لَا يَأْتِي فِيهَا، قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهُ
أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: مَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ. قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ
تَأَخَّرَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدٌ إِلَّا أَنَا
وَأُخْتِي أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَخْرِجْ عَنِّي مَنْ عِنْدَكَ ". قَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ وَمَا ذَاكَ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي
؟ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ وَالْهِجْرَةِ
". قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؟ قَالَ: " الصُّحْبَةَ ". قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ
قَطُّ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ حَتَّى
رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ يَبْكِي. ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ،
إِنَّ هَاتَيْنِ رَاحِلَتَانِ كُنْتُ أَعْدَدْتُهُمَا لِهَذَا. فَاسْتَأْجَرَا
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَرْقَطَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَيُقَالُ: عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أُرَيْقِطٍ. رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ بْنِ بَكْرٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ
مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ مُشْرِكًا - يَدُلُّهُمَا عَلَى
الطَّرِيقِ، وَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، فَكَانَتَا عِنْدَهُ
يَرْعَاهُمَا لِمِيعَادِهِمَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يَعْلَمْ فِيمَا بَلَغَنِي بِخُرُوجِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ حِينَ خَرَجَ إِلَّا عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَآلُ أَبِي بَكْرٍ، أَمَّا
عَلِيًّ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ
يَتَخَلَّفَ حَتَّى يُؤَدِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْوَدَائِعَ التِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنَّاسِ، وَكَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِمَكَّةَ أَحَدٌ عِنْدَهُ
شَيْءٌ يَخْشَى عَلَيْهِ إِلَّا وَضَعَهُ عِنْدَهُ، لِمَا يَعْلَمُ مِنْ صِدْقِهِ
وَأَمَانَتِهِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُرُوجَ أَتَى أَبَا بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ
فَخَرَجَا مِنْ خَوْخَةٍ لِأَبِي بَكْرٍ فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ يُرِيدُ
الْمَدِينَةَ،
قَالَ: " الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَنِي وَلَمْ أَكُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ أَعْنِي عَلَى هَوْلِ
الدُّنْيَا، وَبَوَائِقِ الدَّهْرِ، وَمَصَائِبِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ،
اللَّهُمَّ اصْحَبْنِي فِي سَفَرِي، وَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي، وَبَارِكْ لِي
فِيمَا رَزَقْتَنِي، وَلَكَ فَذَلِّلْنِي، وَعَلَى صَالِحِ خُلُقِي فَقَوِّمِنِي،
وَإِلَيْكَ رَبِّ فَحَبِّبْنِي، وَإِلَى النَّاسِ فَلَا تَكِلْنِي، رَبُّ
الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ الَّذِي
أَشْرَقَتْ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَكُشِفَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ،
وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، أَنْ تُحِلَّ عَلَيَّ
غَضَبَكَ، وَتُنْزِلَ بِي سَخَطَكَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ،
وَفَجْأَةِ نِقْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ، لَكَ
الْعُتْبَى عِنْدِي خَيْرَ مَا اسْتَطَعْتُ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ
".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:ثُمَّ عَمَدَا إِلَى غَارٍ بِثَوْرٍ - جَبَلٍ بِأَسْفَلَ
مَكَّةَ - فَدَخَلَاهُ، وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ
أَنْ يَتَسَمَّعَ لَهُمَا مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِمَا نَهَارَهُ، ثُمَّ يَأْتِيهِمَا
إِذَا أَمْسَى بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْخَبَرِ، وَأَمَرَ
عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلَاهُ أَنْ يَرْعَى غَنَمَهُ نَهَارَهُ، ثُمَّ
يُرِيحَهَا عَلَيْهِمَا إِذَا أَمْسَى فِي الْغَارِ. فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي بَكْرٍ يَكُونُ فِي قُرَيْشٍ نَهَارَهُ مَعَهُمْ، يَسْمَعُ مَا
يَأْتَمِرُونَ بِهِ وَمَا يَقُولُونَ فِي شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ يَأْتِيهِمَا إِذَا أَمْسَى
فَيُخْبِرُهُمَا الْخَبَرَ، وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ يَرْعَى فِي
رُعْيَانِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَإِذَا أَمْسَى أَرَاحَ عَلَيْهِمَا غَنَمَ أَبِي
بَكْرٍ فَاحْتَلَبَا وَذَبَحَا، فَإِذَا غَدَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ
مِنْ عِنْدِهِمَا إِلَى مَكَّةَ اتَّبَعَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ أَثَرَهُ
بِالْغَنَمِ يُعْفِّي عَلَيْهِ. وَسَيَأْتِي فِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ
مَا يَشْهَدُ لِهَذَا.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَقَ الصِّدِّيقَ فِي الذَّهَابِ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ،
وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَسِيرِهِ لِيَلْحَقَهُ، فَلَحِقَهُ فِي
أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَخِلَافُ الْمَشْهُورِ مِنْ
أَنَّهُمَا خَرَجَا مَعًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا تَأْتِيهِمَا مِنَ الطَّعَامِ إِذَا أَمْسَتْ بِمَا يُصْلِحُهُمَا.
قَالَتْ أَسْمَاءُ: وَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو جَهْلِ
بْنُ هِشَامٍ، فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ أَبِي بَكْرٍ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ،
فَقَالُوا: أَيْنَ أَبُوكِ يَا ابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: لَا
أَدْرِي وَاللَّهِ أَيْنَ أَبِي ؟ قَالَتْ: فَرَفَعَ أَبُو جَهْلٍ يَدَهُ -
وَكَانَ فَاحِشًا خَبِيثًا - فَلَطَمَ خَدِّي لَطْمَةً طَرَحَ مِنْهَا قُرْطِي،
ثُمَّ انْصَرَفُوا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ جَدَّتِهِ أَسْمَاءَ، قَالَتْ:
لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ أَبُو
بَكْرٍ مَعَهُ، احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كُلَّهُ، مَعَهُ خَمْسَةَ آلَافِ
دِرْهَمٍ أَوْ سِتَّةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ. قَالَتْ:
فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدِّي أَبُو قُحَافَةَ - وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ - فَقَالَ:
وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ. قَالَتْ:
قُلْتُ: كَلَّا يَا أَبَتِ إِنَّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا. قَالَتْ:
وَأَخَذْتُ أَحْجَارًا، فَوَضَعْتُهَا فِي كُوَّةٍ فِي الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ
أَبِي يَضَعُ مَالَهُ فِيهَا، ثُمَّ وَضَعْتُ عَلَيْهَا ثَوْبًا، ثُمَّ أَخَذْتُ بِيَدِهِ،
فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ
ضَعْ يَدَكَ عَلَى هَذَا الْمَالِ. قَالَتْ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ:
لَا بَأْسَ إِذْ كَانَ قَدْ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا فَقَدَ أَحْسَنَ، وَفِي هَذَا
بَلَاغٌ لَكُمْ. وَلَا وَاللَّهِ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا، وَلَكِنْ أَرَدْتُ
أَنْ أُسَكِّنَ الشَّيْخَ بِذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ الْحَسَنَ
بْنَ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيَّ قَالَ: انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى الْغَارِ لَيْلًا، فَدَخَلَ
أَبُو بَكْرٍ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَسَ
الْغَارَ; لِيَنْظُرَ أَفِيهِ سَبُعٌ أَوْ حَيَّةٌ، يَقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ. وَهَذَا فِيهِ انْقِطَاعٌ مِنْ
طَرَفَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو
الضَّبِّيُّ، ثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي
مُلَيْكَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ
هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَكُونُ أَمَامَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً، وَخَلْفَهُ مَرَّةً،
فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:
إِذَا كُنْتُ خَلْفَكَ خَشِيتُ أَنْ تُؤْتَى مِنْ أَمَامِكَ، وَإِذَا كُنْتُ أَمَامِكَ
خَشِيتُ أَنْ تُؤْتَى مِنْ خَلْفِكَ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى الْغَارِ مِنْ
ثَوْرٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَمَا أَنْتَ حَتَّى أُدْخِلَ يَدِي فَأُحِسَّهُ
وَأَقُصَّهُ، فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ دَابَّةٌ أَصَابَتْنِي قَبْلَكَ. قَالَ
نَافِعٌ: فَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ فِي الْغَارِ جُحْرٌ فَأَلْقَمَ أَبُو بَكْرٍ
رِجْلَهُ ذَلِكَ الْجُحْرَ، تَخَوُّفًا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ دَابَّةٌ أَوْ شَيْءٌ
يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا مُرْسَلٌ
وَقَدْ ذَكَرْنَا لَهُ شَوَاهِدَ أُخَرَ فِي سِيرَةِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ:
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ
بْنُ إِسْحَاقَ، أَنَا مُوسَى بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبَّادٍ، ثَنَا عَفَّانُ بْنُ
مُسْلِمٍ، ثَنَا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ،
قَالَ:ذَكَرَ رِجَالٌ عَلَى عَهْدِ عُمْرَ، فَكَأَنَّهُمْ فَضَّلُوا عُمَرَ عَلَى
أَبِي بَكْرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَلَيْلَةٌ مِنْ أَبِي
بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ، وَلَيَوْمٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ آلِ
عُمَرَ، لَقَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَيْلَةَ انْطَلَقَ إِلَى الْغَارِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ فَجَعَلَ يَمْشِي
سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَاعَةً خَلْفَهُ، حَتَّى فَطِنَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا لَكَ
تَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيَّ، وَسَاعَةً خَلْفِي ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، أَذْكُرُ الطَّلَبَ فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمَّ أَذْكُرُ الرَّصَدَ
فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ. فَقَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ، لَوْ كَانَ شَيْءٌ
لَأَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ بِكَ دُونِي ؟ " قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ
بِالْحَقِّ. فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى الْغَارِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَكَانَكَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى أَسْتَبْرِئَ لَكَ الْغَارَ. فَدَخَلَ فَاسْتَبْرَأَهُ
حَتَّى إِذَا كَانَ فِي أَعْلَاهُ، ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَبْرِئِ الْجِحَرَةَ،
فَقَالَ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى أَسْتَبْرِئَ. فَدَخَلَ
فَاسْتَبْرَأَ، ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَنَزَلَ. ثُمَّ
قَالَعُمَرُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتِلْكَ اللَّيْلَةُ خَيْرٌ مِنْ آلِ
عُمَرَ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُمَرَ، وَفِيهِ أَنَّ
أَبَا بَكْرٍ جَعَلَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَةً، وَخَلْفَهُ أُخْرَى، وَعَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ
شِمَالِهِ.
وَفِيهِ أَنَّهُ لَمَّا
حَفِيَتْ رِجْلَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَهُ
الصِّدِّيقُ عَلَى كَاهِلِهِ، وَأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْغَارَ سَدَّدَ تِلْكَ
الْجِحَرَةَ كُلَّهَا، وَبَقِيَ مِنْهَا جُحْرٌ وَاحِدٌ، فَأَلْقَمَهُ كَعْبَهُ،
فَجَعَلَتِ الْأَفَاعِي تَنْهَشُهُ وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ
مَعَنَا ". وَفِي هَذَا السِّيَاقِ غَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ.
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ،
وَأَبُو سَعِيدٍ ابْنُ أَبِي عَمْرٍو، قَالَا: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ
الْأَصَمُّ، ثَنَا عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ، ثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ شَاذَانُ،
ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
كَانَ أَبُو بَكْرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْغَارِ فَأَصَابَ يَدَهُ حَجَرٌ، فَقَالَ:
إِنْ أَنْتِ إِلَّا أُصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ، أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ الْجَزَرِيُّ، أَنَّ مِقْسَمًا مَوْلَى ابْنِ
عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ
يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ [ الْأَنْفَالِ: 30 ] قَالَ:
تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ
فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ، يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ اقْتُلُوهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ
أَخْرِجُوهُ. فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى ذَلِكَ، فَبَاتَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ
عَلِيًّا، يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا
أَصْبَحُوا ثَارُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا
رَأَوْا عَلِيًّا رَدَّ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَكْرَهُمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا ؟ فَقَالَ: لَا
أَدْرِي. فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ، اخْتَلَطَ
عَلَيْهِمْ، فَصَعِدُوا الْجَبَلَ، فَمَرُّوا بِالْغَارِ، فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ
نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ، فَقَالُوا: لَوْ دَخَلَ هَاهُنَا أَحَدٌ لَمْ يَكُنْ
نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ. فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ. وَهَذَا
إِسْنَادٌ حَسَنٌ، وَهُوَ مِنْ أَجْوَدِ مَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ نَسْجِ
الْعَنْكَبُوتِ عَلَى فَمِ الْغَارِ، وَذَلِكَ مِنْ حِمَايَةِ اللَّهِ رَسُولَهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْقَاضِي
فِي " مُسْنَدِ أَبِي بَكْرٍ ": حَدَّثَنَا بَشَّارٌ الْخَفَّافُ، ثَنَا
جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، حَدَّثَنَا
الْمُعَلَّى بْنُ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: انْطَلَقَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى الْغَارِ،
وَجَاءَتْ قُرَيْشٌ يَطْلُبُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَكَانُوا إِذَا رَأَوْا عَلَى بَابِ الْغَارِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ، قَالُوا:
لَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَائِمًا يُصَلِّي وَأَبُو بَكْرٍ يَرْتَقِبُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ يَطْلُبُونَكَ، أَمَا
وَاللَّهِ مَا عَلَى نَفْسِي أَبْكِي، وَلَكِنْ مَخَافَةَ أَنْ أَرَى فِيكَ مَا أَكْرَهُ.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا أَبَا
بَكْرٍ، لَا تَخَفْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ". وَهَذَا مُرْسَلٌ عَنِ
الْحَسَنِ، وَهُوَ
حَسَنٌ بِحَالِهِ مِنَ
الشَّاهِدِ. وَفِيهِ زِيَادَةُ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ، وَقَدْ كَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذَا حَزَبَهُ
أَمْرٌ صَلَّى. وَرَوَى هَذَا الرَّجُلُ - أَعْنِي أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ
عَلِيٍّ الْقَاضِيَ - عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ، عَنْ خَلَفِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ
مُوسَى بْنِ مُطَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ أَبَا بَكْرٍ
قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، إِذَا حَدَثَ فِي النَّاسِ حَدَثٌ، فَأْتِ الْغَارَ
الَّذِي اخْتَبَأَتُ فِيهِ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَكُنْ فِيهِ; فَإِنَّهُ سَيَأْتِيكَ رِزْقُكَ فِيهِ بُكْرَةً
وَعَشِيًّا. وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمْ هَذَا فِي شِعْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ:
نَسْجُ دَاوُدَ مَا حَمَى صَاحِبَ الْغَا رِ وَكَانَ الْفَخَارُ لِلْعَنْكَبُوتِ
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ حَمَامَتَيْنِ عَشَّشَتَا عَلَى بَابِهِ أَيْضًا، وَقَدْ
نَظَمَ ذَلِكَ الصَّرْصَرِيُّ فِي شِعْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ:
فَغَمَّى عَلَيْهِ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهِ وَظَلَّ عَلَى الْبَابِ الْحَمَامُ
يَبِيضُ
وَالْحَدِيثُ بِذَلِكَ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، ثَنَا عَوْنُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو عَمْرٍو الْقَيْسِيُّ - وَيُلَقَّبُ عُوَيْنًا - حَدَّثَنِي أَبُو مُصْعَبٍ الْمَكِّيُّ، قَالَ:أَدْرَكْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْغَارِ أَمَرَ اللَّهُ شَجَرَةً فَخَرَجَتْ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْتُرُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ الْعَنْكَبُوتَ فَنَسَجَتْ مَا بَيْنَهُمَا فَسَتَرَتْ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ اللَّهُ حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ، فَأَقْبَلَتَا تَدُفَّانِ حَتَّى وَقَعَتَا بَيْنَ الْعَنْكَبُوتِ وَبَيْنَ الشَّجَرَةِ، وَأَقْبَلَتْ فِتْيَانُ قُرَيْشٍ مِنْ كُلِّ بَطْنٍ مِنْهُمْ رَجُلٌ، مَعَهُمْ عِصِيُّهُمْ وَقِسِيُّهُمْ وَهِرَاوَاتُهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْرَ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ، قَالَ الدَّلِيلُ - وَهُوَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيُّ - هَذَا الْحَجَرُ، ثُمَّ لَا أَدْرِي أَيْنَ وَضَعَ رِجْلَهُ. فَقَالَ الْفِتْيَانُ: أَنْتَ لَمْ تُخْطِئْ مُنْذُ اللَّيْلَةِ. حَتَّى إِذَا أَصْبَحْنَا قَالَ: انْظُرُوا فِي الْغَارِ. فَاسْتَقْدَمَ الْقَوْمَ حَتَّى إِذَا كَانُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْرَ خَمْسِينَ ذِرَاعًا، فَإِذَا الْحَمَامَتَانِ، فَرَجَعَ فَقَالُوا: مَا رَدَّكَ أَنْ تَنْظُرَ فِي الْغَارِ ؟ قَالَ: رَأَيْتُ حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ بِفَمِ الْغَارِ، فَعَرَفَتْ أَنْ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ. فَسَمِعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ دَرَأَ عَنْهُمَا بِهِمَا، فَسَمَّتَ عَلَيْهِمَا - أَيْ بَرَّكَ عَلَيْهِمَا - وَأَحْدَرَهُمَا اللَّهُ إِلَى الْحَرَمِ فَأَفْرَخَا كَمَا
تَرَى. وَهَذَا حَدِيثٌ
غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ،
مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَمْرٍو -
وَهُوَ الْمُلَقَّبُ بِعُوَيْنٍ - بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ، وَفِيهِ أَنَّ جَمِيعَ
حَمَامِ مَكَّةَ مِنْ نَسْلِ تَيْنِكَ الْحَمَامَتَيْنِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ
أَنَّ الْقَائِفَ الَّذِي اقْتَفَى لَهُمُ الْأَثَرَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ
الْمُدْلَجِيُّ
وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ
أَبِيهِ أَنَّ الَّذِي اقْتَفَى لَهُمُ الْأَثَرَ كُرْزُ بْنُ عَلْقَمَةَ.
قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا اقْتَفَيَا الْأَثَرَ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ
اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي
الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ
اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ
كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ التَّوْبَةِ: 40 ] يَقُولُ تَعَالَى مُؤَنِّبًا
لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجِهَادِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَّا تَنْصُرُوهُ أَنْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ، وَمُؤَيِّدُهُ،
وَمُظْفِرُهُ، كَمَا نَصَرَهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
مَكَّةَ هَارِبًا لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ صَاحِبِهِ، وَصَدِيقِهِ أَبِي بَكْرٍ،
لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ; وَلِهَذَا قَالَ: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي
الْغَارِ أَيْ: وَقَدْ لَجَأَ
إِلَى الْغَارِ،
فَأَقَامَا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِيَسْكُنَ الطَّلَبُ عَنْهُمَا; وَذَلِكَ
لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ حِينَ فَقَدُوهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ، ذَهَبُوا فِي
طَلَبِهِمَا كُلَّ مَذْهَبٍ مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ، وَجَعَلُوا لِمَنْ
رَدَّهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَاقْتَصُّوا آثَارَهُمَا
حَتَّى اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ الَّذِي يَقْتَصُّ الْأَثَرَ لِقُرَيْشٍ
سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَصَعِدُوا الْجَبَلَ
الَّذِي هُمَا فِيهِ، وَجَعَلُوا يَمُرُّونَ عَلَى بَابِ الْغَارِ، فَتُحَاذِي
أَرْجُلُهُمْ لِبَابِ الْغَارِ وَلَا يَرَوْنَهُمَا; حِفْظًا مِنَ اللَّهِ
لَهُمَا، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا هَمَّامٌ،
أَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَهُ، قَالَ:
قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الْغَارِ:
لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ.
فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي " صَحِيحَيْهِمَا " مِنْ
حَدِيثِ هَمَّامٍ بِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ
لَمَّا قَالَ ذَلِكَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
لَوْ جَاءُونَا مِنْ هَاهُنَا لَذَهَبْنَا مِنْ هُنَا ". فَنَظَرَ
الصِّدِّيقُ إِلَى الْغَارِ قَدِ انْفَرَجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَإِذَا
الْبَحْرُ قَدِ اتَّصَلَ بِهِ، وَسَفِينَةٌ مَشْدُودَةٌ إِلَى جَانِبِهِ. وَهَذَا
لَيْسَ بِمُنْكَرٍ مِنْ حَيْثُ الْقُدْرَةُ الْعَظِيمَةُ، وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ
ذَلِكَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ وَلَا ضَعِيفٍ، وَلَسْنَا نُثْبِتُ شَيْئًا مِنْ
تِلْقَاءِ أَنْفُسِنَا، وَلَكِنْ مَا صَحَّ أَوْ حَسُنَ سَنَدُهُ قُلْنَا بِهِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ
سَهْلٍ، ثَنَا خَلَفُ بْنُ تَمِيمٍ، ثَنَا مُوسَى بْنُ مُطَيْرٍ الْقُرَشِيُّ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ:
لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ
إِنْ حَدَثَ فِي النَّاسِ حَدَثٌ فَأْتِ الْغَارَ الَّذِي رَأَيْتَنِي اخْتَبَأْتُ
فِيهِ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُنْ فِيهِ
فَإِنَّهُ سَيَأْتِيكَ فِيهِ رِزْقُكَ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً. ثُمَّ قَالَ
الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ يَرْوِيهِ غَيْرُ خَلَفِ بْنِ تَمِيمٍ.
قُلْتُ: وَمُوسَى بْنُ مُطَيْرٍ هَذَا ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ، كَذَّبَهُ يَحْيَى بْنُ
مَعِينٍ فَلَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ يُونُسُ
بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، أَنَّ الصِّدِّيقَ قَالَ فِي
دُخُولِهِمَا الْغَارَ، وَسَيْرِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ مِنْ قِصَّةِ
سُرَاقَةَ، كَمَا سَيَأْتِي، شِعْرًا فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
قَالَ النَّبِيُّ وَلَمْ أَجْزَعْ يُوَقِّرُنِي وَنَحْنُ فِي سُدَفٍ مِنْ ظُلْمَةِ
الْغَارِ
لَا تَخْشَ شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ ثَالِثُنَا وَقَدْ تَوَكَّلَ لِي مِنْهُ
بِإِظْهَارِ
وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ مِنْ طَرِيقِ زِيَادٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، فَذَكَرَهَا مُطَوَّلَةً جِدًّا، وَذَكَرَ مَعَهَا
قَصِيدَةً أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ، قَالَ: فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَعْدَ الْحَجِّ - يَعْنِي الَّذِي بَايَعَ فِيهِ الْأَنْصَارَ - بَقِيَّةَ ذِي
الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وَصَفَرًا، ثُمَّ إِنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ أَجْمَعُوا
أَمْرَهُمْ وَمَكْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَقْتُلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يَحْبِسُوهُ، أَوْ يُخْرِجُوهُ، فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ
عَلَى ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [
الْأَنْفَالِ: 30 ] الْآيَةَ. فَأَمَرَ عَلَيًّا فَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ،
وَذَهَبَ هُوَ وَأَبُو
بَكْرٍ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ذَهَبُوا فِي طَلَبِهِمَا فِي كُلِّ وَجْهٍ
يَطْلُبُونَهُمَا، وَهَكَذَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي " مَغَازِيهِ
"، وَأَنَّ خُرُوجَهُ هُوَ وَأَبِي بَكْرٍ إِلَى الْغَارِ كَانَ لَيْلًا،
وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ -
التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ أَيْضًا.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، ثَنَا اللَّيْثُ،
عَنْ عُقَيْلٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ،
عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَالَتْ:لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ،
وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيِ النَّهَارِ بِكُرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا
ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ
الْحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ
وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ. فَذَكَرَتْ مَا كَانَ مِنْ رَدِّهِ لِأَبِي بَكْرٍ
إِلَى مَكَّةَ وَجِوَارِهِ لَهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ،
إِلَى قَوْلِهِ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ عَلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى
بِجِوَارِ اللَّهِ. قَالَتْ: وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِلْمُسْلِمِينَ: " إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ
لَابَتَيْنِ ". وَهُمَا الْحَرَّتَانِ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ
الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ قِبَلَ
الْحَبَشَةِ إِلَى
الْمَدِينَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ
لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَلَى رِسْلِكَ;
فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو
ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". فَحَبَسَ أَبُو
بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
لِيَصْحَبَهُ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ - وَهُوَ
الْخَبَطُ - أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عَلَفَهُمَا
سِتَّةَ أَشْهُرٍ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ:فَبَيْنَمَا نَحْنُ
يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي حَرِّ الظَّهِيرَةِ. فَقَالَ قَائِلٌ
لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ
إِلَّا أَمْرٌ. قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ ". فَقَالَ أَبُو
بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:
" فَإِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
الصَّحَابَةَ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " نَعَمْ ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ، بِأَبِي أَنْتَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بِالثَّمَنِ ". قَالَتْ عَائِشَةُ:
فَجَهَّزْنَاهُمَا
أَحَثَّ الْجَهَازِ، فَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ. قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فَمَكَثَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيَدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، لَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ، حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ يَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعَشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ - وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا - حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ، وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا - وَالْخِرِّيتُ: الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ - قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ
رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ
غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثِ لَيَالٍ،
وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ، فَأَخَذَ بِهِمْ
طَرِيقَ السَّوَاحِلِ
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلَجِيُّ
- وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ - أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ،أَنَّهُ سَمِعَ
سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ يَقُولُ: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ
يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي
بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ.
فَبَيْنَمَا أَنَا جَالَسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلَجٍ،
إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقَالَ:
يَا سُرَاقَةُ، إِنِّي رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ، أُرَاهَا
مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ
لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا
انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا. ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ
فَدَخَلْتُ، فَأَمَرَتْ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ
أَكَمَةٍ فَتَحْبِسُهَا عَلَيَّ، وَأَخَذَتُ رُمْحِي، فَخَرَجْتُ مِنْ ظَهْرِ
الْبَيْتِ، فَخَطَطْتُ بِزُجِّهِ الْأَرْضَ وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ، حَتَّى أَتَيْتُ
فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا، فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي، حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ،
فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ عَنْهَا، فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدَيَّ إِلَى
كِنَانَتِي، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلَامَ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا
أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهَ فَرَكِبْتُ فَرَسِي - وَعَصَيْتُ
الْأَزْلَامَ - تُقَرِّبُ
بِي، حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ، سَاخَتْ
يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ
عَنْهَا، ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا،
فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا غُبَارٌ سَاطِعٌ فِي
السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَّانِ، فَاسْتَقْسَمَتُ الْأَزْلَامَ فَخَرَجَ الَّذِي
أَكْرَهُ، فَنَادَيْتُهُمْ بِالْأَمَانِ، فَوَقَفُوا فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى
جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ
عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنْ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ.
وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ
الزَّادَ وَالْمَتَاعَ، فَلَمْ يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلَانِي إِلَّا أَنْ قَالَ:
" أَخْفِ عَنَّا ". فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ،
فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مَنْ أَدَمٍ، ثُمَّ مَضَى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ سُرَاقَةَ،
فَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ اسْتَقْسَمَ
بِالْأَزْلَامِ أَوَّلَ مَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ، فَخَرَجَ السَّهْمُ الَّذِي
يَكْرَهُ; لَا يَضُرُّهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ عَثَرَ بِهِ فَرَسُهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ،
وَكُلُّ ذَلِكَ يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ وَيَخْرُجُ الَّذِي يَكْرَهُ; لَا
يَضُرُّهُ، حَتَّى نَادَاهُمْ بِالْأَمَانِ وَسَأَلَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا
يَكُونُ أَمَارَةَ مَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
فَكَتَبَ لِي كِتَابًا فِي عَظْمٍ أَوْ رُقْعَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ. وَذَكَرَ أَنَّهُ
جَاءَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
بِالْجِعْرَانَةِ مَرْجِعَهُ مِنَ الطَّائِفِ، فَقَالَ لَهُ: " يَوْمُ
وَفَاءٍ وَبِرٍّ، ادْنُهْ " فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَأَسْلَمْتُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ
جُعْشُمٍ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ جَيِّدٌ.
وَلَمَّا رَجَعَ سُرَاقَةُ جَعَلَ لَا يَلْقَى أَحَدًا مِنَ الطَّلَبِ إِلَّا
رَدَّهُ، وَقَالَ: كُفِيتُمْ هَذَا الْوَجْهَ. فَلَمَّا ظَهَرَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَصَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ،
جَعَلَ سُرَاقَةُ يَقُصُّ عَلَى النَّاسِ مَا رَأَى، وَمَا شَاهَدَ مِنْ أَمْرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا كَانَ مِنْ قَضِيَّةِ
جَوَادِهِ، وَاشْتُهِرَ هَذَا عَنْهُ فَخَافَ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ مَعَرَّتَهُ،
وَخَشُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْلَامِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَكَانَ
سُرَاقَةُ أَمِيرَ بَنِي مُدْلَجٍ وَرَئِيسَهُمْ، فَكَتَبَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ
اللَّهُ إِلَيْهِمْ:
بَنِي مُدْلِجٍ إِنِّي أَخَافُ سَفِيهَكُمْ سُرَاقَةَ مُسْتَغْوٍ لِنَصْرِ
مُحَمَّدِ
عَلَيْكُمْ بِهِ أَلَّا يُفَرِّقَ جَمْعَكُمْ فَيُصْبِحَ شَتَّى بَعْدَ عِزٍّ
وَسُؤْدُدِ
قَالَ: فَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ يُجِيبُ أَبَا جَهْلٍ فِي قَوْلِهِ هَذَا:
أَبَا حَكَمٍ وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ شَاهِدًا لِأَمْرِ جَوَادِي إِذْ تَسُوخُ
قَوَائِمُهْ
عَجِبْتَ وَلَمْ تَشْكُكْ
بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ وَبُرْهَانٌ فَمَنْ ذَا يُقَاوِمُهْ
عَلَيْكَ بِكَفِّ الْقَوْمِ عَنْهُ فَإِنَّنِي إِخَالُ لَنَا يَوْمًا سَتَبْدُو
مَعَالِمُهْ
بِأَمْرٍ تَوَدُّ النَّصْرَ فِيهِ فَإِنَّهُمْ وَإِنَّ جَمِيعَ النَّاسِ طُرًّا
مُسَالِمُهْ
وَذَكَرَ هَذَا الشِّعْرَ الْأُمَوِيُّ فِي " مَغَازِيهِ " بِسَنَدِهِ
عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ بِسَنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ،
وَزَادَ فِي شِعْرِ أَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، أَبْيَاتًا تَتَضَمَّنُ
كُفْرًا بَلِيغًا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ، فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ
بْنُ الزُّبَيْرِ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ
الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تُجَّارًا قَافِلِينَ مِنَ
الشَّامِ، فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ، وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ
بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ،
فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ، فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى
يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ، فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا
انْتِظَارَهُمْ، فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْفَى رَجُلٌ مِنَ
الْيَهُودِ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَبَصُرَ
بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مُبَيِّضِينَ
يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ، فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أَنْ
قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ:
يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، هَذَا جَدُّكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ. فَثَارَ
الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ،
حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ
وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامِتًا، فَطَفِقَ
مَنْ جَاءَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ، حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى
ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً،
وَأَسَّسَ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، وَسَارَ
يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ، حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ
رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ
غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ:
" هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ ". ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ;
لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالَا: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْبَلَهُ
مِنْهُمَا هِبَةً، حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا،
فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ
اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ، وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ:
" هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالَ خَيْبَرْ هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ
"
وَيَقُولُ
" اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَةِ فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ
وَالْمُهَاجِرَهْ "
فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي. قَالَ ابْنُ
شِهَابٍ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ تَامٍّ غَيْرِ هَذِهِ
الْأَبْيَاتِ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ دُونَ
مُسْلِمٍ، وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، وَلَيْسَ فِيهِ قِصَّةُ أُمِّ
مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ، وَلْنَذْكُرْ هُنَا مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ مُرَتَّبًا
أَوَّلًا فَأَوَّلًا:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو سَعِيدٍ
الْعَنْقَزِيُّ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ
عَازِبٍ، قَالَ:اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ مِنْ عَازِبٍ سَرْجًا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ
دِرْهَمًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعَازِبٍ: مُرِ الْبَرَاءَ فَلْيَحْمِلْهُ إِلَى
مَنْزِلِي. فَقَالَ: لَا حَتَّى تُحَدِّثَنَا كَيْفَ صَنَعْتَ حِينَ خَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتَ مَعَهُ. فَقَالَ أَبُو
بَكْرٍ: خَرَجْنَا فَأَدْلَجْنَا فَأَحْثَثْنَا يَوْمَنَا وَلَيْلَتَنَا حَتَّى
أَظْهَرْنَا، وَقَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، فَضَرَبْتُ بَصَرِي هَلْ أَرَى ظِلًّا
نَأْوِي إِلَيْهِ، فَإِذَا أَنَا بِصَخْرَةٍ، فَأَهْوَيْتُ إِلَيْهَا، فَإِذَا
بَقِيَّةُ ظِلِّهَا، فَسَوَّيْتُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَفَرَشْتُ لَهُ فَرْوَةً، وَقُلْتُ: اضْطَجِعْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَاضْطَجَعَ، ثُمَّ خَرَجْتُ أَنْظُرُ هَلْ أَرَى أَحَدًا
مِنَ الطَّلَبِ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ ؟ فَقَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ. فَسَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ، فَقُلْتُ: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لِي ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْهَا، ثُمَّ أَمَرْتُهُ فَنَفَضَ ضَرْعَهَا مِنَ الْغُبَارِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ فَنَفَضَ كَفَّيْهِ مِنَ الْغُبَارِ، وَمَعِي إِدَاوَةٌ عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ، فَحَلَبَ لِي كُثْبَةً مِنَ اللَّبَنِ فَصَبَبْتُ - يَعْنِي الْمَاءَ - عَلَى الْقَدَحِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَافَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ، ثُمَّ قُلْتُ: هَلْ آنَ الرَّحِيلُ ؟ فَارْتَحَلْنَا وَالْقَوْمُ يَطْلُبُونَنَا، فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا. قَالَ: " لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ". حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَّا فَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ قَدْرُ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ - أَوْ قَالَ رُمْحَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا. وَبَكَيْتُ، قَالَ: " لِمَ تَبْكِي ؟ ". قَالَ: قُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا عَلَى نَفْسِي أَبْكِي، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَيْكَ. فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ ". فَسَاخَتْ قَوَائِمُ فَرَسِهِ إِلَى بَطْنِهَا فِي أَرْضٍ صَلْدٍ، وَوَثَبَ عَنْهَا، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا عَمَلُكَ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُنْجِيَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأُعَمِّيَنَّ عَلَى مَنْ وَرَائِي مِنَ الطَّلَبِ، وَهَذِهِ كِنَانَتِي فَخُذْ مِنْهَا سَهْمًا، فَإِنَّكَ سَتَمُرُّ بِإِبِلِي وَغَنَمِي بِمَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا فَخُذْ مِنْهَا حَاجَتَكَ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا حَاجَةَ لِي
فِيهَا ". قَالَ:
وَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُطْلِقَ
وَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَتَلَقَّاهُ النَّاسُ،
فَخَرَجُوا فِي الطُّرُقِ وَعَلَى الْأَجَاجِيرِ، وَاشْتَدَّ الْخَدَمَ
وَالصِّبْيَانَ فِي الطَّرِيقِ يَقُولُونَ: اللَّهُ أَكْبَرُ جَاءَ رَسُولَ
اللَّهِ، جَاءَ مُحَمَّدٌ. قَالَ: وَتَنَازَعَ الْقَوْمُ أَيُّهُمْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ.
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
أَنْزِلُ اللَّيْلَةَ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ أَخْوَالِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ;
لِأُكْرِمَهُمْ بِذَلِكَ ". فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا حَيْثُ أُمِرَ. قَالَ
الْبَرَاءُ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مُصْعَبُ بْنُ
عُمَيْرٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا ابْنُ أُمِّ
مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، أَحَدُ بَنِي فِهْرٍ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ رَاكِبًا، فَقُلْنَا: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ؟
قَالَ: هُوَ عَلَى أَثَرِي. ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ. قَالَ الْبَرَاءُ: وَلَمْ يَقْدَمْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَرَأَتُ سُوَرًا مِنَ
الْمُفَصَّلِ أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ
إِسْرَائِيلَ بِدُونِ قَوْلِ الْبَرَاءِ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا...
إِلَخْ. فَقَدِ انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ، فَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ
بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ ثَلَاثًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ
فِيهِ حِينَ فَقَدُوهُ مِائَةَ نَاقَةٍ لِمَنْ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا
مَضَتِ الثَّلَاثُ،
وَسَكَنَ عَنْهُمَا
النَّاسُ، أَتَاهُمَا صَاحِبُهُمَا الَّذِي اسْتَأْجَرَاهُ بِبَعِيرَيْهِمَا
وَبَعِيرٍ لَهُ، وَأَتَتْهُمَا أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ بِسُفْرَتِهِمَا،
وَنَسِيَتْ أَنْ تَجْعَلَ لَهَا عِصَامًا، فَلَمَّا ارْتَحَلَا ذَهَبَتْ
لِتُعَلِّقَ السُّفْرَةَ فَإِذَا لَيْسَ لَهَا عِصَامٌ، فَحَلَّتْ نِطَاقَهَا
فَجَعَلَتْهُ عِصَامًا ثُمَّ عَلَّقَتْهَا بِهِ، فَكَانَ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ
النِّطَاقَيْنِ لِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قَرَّبَ أَبُو بَكْرٍ الرَّاحِلَتَيْنِ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ لَهُ أَفْضَلَهُمَا،
ثُمَّ قَالَ: ارْكَبْ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي لَا أَرْكَبُ بَعِيرًا لَيْسَ لِي
". قَالَ: فَهِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. قَالَ:
" لَا، وَلَكِنْ مَا الثَّمَنُ الَّذِي ابْتَعْتَهَا بِهِ ؟ قَالَ: كَذَا
وَكَذَا. قَالَ: " أَخَذْتُهَا بِذَلِكَ ". قَالَ: هِيَ لَكَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ بِأَسَانِيدِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ
الْقَصْوَاءَ، قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ اشْتَرَاهُمَا بِثَمَانِمِائَةِ
دِرْهَمٍ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: وَهِيَ الْجَدْعَاءُ. وَهَكَذَا حَكَى
السُّهَيْلِيُّ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهَا الْجَدْعَاءُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
فَرَكِبَا وَانْطَلَقَا وَأَرْدَفَ أَبُو بَكْرٍ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ
مَوْلَاهُ خَلْفَهُ، لِيَخْدِمَهُمَا فِي الطَّرِيقِ، فَحُدِّثْتُ عَنْ أَسْمَاءَ
أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ
فَذَكَرَ ضَرْبَهُ لَهَا عَلَى خَدِّهَا لَطْمَةً، طَرَحَ مِنْهَا قُرْطَهَا مِنْ
أُذُنِهَا كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَتْ: فَمَكَثْنَا ثَلَاثَ لَيَالٍ مَا نَدْرِي
أَيْنَ وَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،، حَتَّى
أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ يَتَغَنَّى بِأَبْيَاتٍ مِنْ
شِعْرٍ غِنَاءَ الْعَرَبِ، وَإِنَّ النَّاسَ لَيَتْبَعُونَهُ، يَسْمَعُونَ
صَوْتَهُ وَمَا يَرَوْنَهُ، حَتَّى خَرَجَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ:
جَزَى اللَّهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ رَفِيقَيْنِ حَلَّا خَيْمَتَيْ
أُمِّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزَلَا بِالْبِرِّ ثُمَّ تَرَوَّحَا فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ
مُحَمَّدِ
لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهِمْ وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ
بِمَرْصَدِ
قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ عَرَفْنَا حَيْثُ وَجَّهَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ وَجْهَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانُوا أَرْبَعَةً، رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي
بَكْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْقَدَ. كَذَا يَقُولُ ابْنُ إِسْحَاقَ
وَالْمَشْهُورُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أُرَيْقِطٍ الدُّؤَلِيُّ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ مُشْرِكًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا خَرَجَ بِهِمَا دَلِيلُهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَرْقَدَ، سَلَكَ بِهِمَا أَسْفَلَ مَكَّةَ ثُمَّ مَضَى بِهِمَا عَلَى السَّاحِلِ
حَتَّى عَارَضَ الطَّرِيقَ أَسْفَلَ مِنْ عُسْفَانَ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا عَلَى
أَسْفَلِ أَمَجَ، ثُمَّ اسْتَجَازَ بِهِمَا حَتَّى عَارَضَ الطَّرِيقَ بَعْدَ أَنْ
أَجَازَ قُدَيْدًا، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ فَسَلَكَ بِهِمَا
الْخَرَّارَ، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا ثَنِيَّةَ الْمَرَةِ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا
لَقْفًا، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا مُدْلَجَةَ لَقْفٍ ثُمَّ اسْتَبْطَنَ بِهِمَا
مُدْلَجَةَ مِجَاجٍ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا مَرْجِحَ مِجَاجٍ، ثُمَّ تَبَطَّنَ
بِهِمَا مَرْجِحَ مِنْ ذِي الْغَضَوَيْنِ، ثُمَّ بَطْنَ ذِي كَشْرٍ، ثُمَّ أَخَذَ
بِهِمَا عَلَى الْجُدَاجِدِ، ثُمَّ عَلَى الْأَجْرَدِ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا ذَا
سَلَمٍ مِنْ بَطْنِ أَعْدَاءِ مَدْلَجَةِ تِعْهِنَ، ثُمَّ عَلَى الْعَبَابِيدِ،
ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا الْقَاحَةَ، ثُمَّ هَبَطَ بِهِمَا الْعَرْجَ، وَقَدْ
أَبْطَأَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ ظَهْرِهِمْ، فَحَمَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ، يُقَالُ لَهُ: أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ عَلَى
جَمَلٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الرِّدَاءِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبَعَثَ مَعَهُ
غُلَامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ: مَسْعُودُ بْنُ هُنَيْدَةَ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِمَا
دَلِيلُهُمَا مِنَ الْعَرْجِ،
فَسَلَكَ بِهِمَا
ثَنِيَّةَ الْعَائِرِ عَنْ يَمِينِ رَكُوبَةَ - وَيُقَالُ: ثَنِيَّةُ الْغَائِرِ
فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - حَتَّى هَبَطَ بِهِمَا بَطْنَ رِيمٍ، ثُمَّ قَدِمَ
بِهِمَا قُبَاءَ عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً
خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، حِينَ اشْتَدَّ الضَّحَاءُ،
وَكَادَتِ الشَّمْسُ تَعْتَدِلُ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ، مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ نَحْوًا مِنْ ذِكْرِ
هَذِهِ الْمَنَازِلِ وَخَالَفَهُ فِي بَعْضِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو حَامِدِ بْنُ جَبَلَةَ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، هُوَ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ
بْنِ مُوسَى الْعِجْلِيُّ، حَدَّثَنِي أَخِي مُوسَى بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنِي
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَيَّارٍ، حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ
الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ مَرُّوا بِإِبِلٍ لَنَا بِالْجُحْفَةِ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِمَنْ هَذِهِ
الْإِبِلُ ؟ ". فَقَالُوا: لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ. فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي
بَكْرٍ، فَقَالَ: " سَلِمْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". فَقَالَ: " مَا
اسْمُكَ ؟ " قَالَ: مَسْعُودٌ.
فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي
بَكْرٍ، فَقَالَ: " سَعِدْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". قَالَ: فَأَتَاهُ
أَبِي فَحَمَلَهُ عَلَى جَمَلٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الرِّدَاءِ
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَدَخْلَ
الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنْ بَيْنَ خُرُوجِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، مِنْ مَكَّةَ وَدُخُولِهِ الْمَدِينَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا;
لِأَنَّهُ أَقَامَ بِغَارِ ثَوْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ سَلَكَ طَرِيقَ
السَّاحِلِ، وَهِيَ أَبْعَدُ مِنَ الطَّرِيقِ الْجَادَّةِ وَاجْتَازَ فِي
مُرُورِهِ عَلَى أُمِّ مَعْبَدٍ بِنْتِ كَعْبٍ مِنْ بَنِي كَعْبِ بْنِ خُزَاعَةَ،
قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ. وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: اسْمُهَا
عَاتِكَةُ بِنْتُ خَالِدِ بْنِ مُنْقِذِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ. وَقَالَ
الْأُمَوِيُّ: هِيَ عَاتِكَةُ بِنْتُ تَبِيعٍ حَلِيفِ بَنِي مُنْقِذِ بْنِ رَبِيعَةَ
بْنِ أَصْرَمَ بْنِ ضَبِيسِ بْنِ حَرَامِ بْنِ حُبْشِيَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ
عَمْرٍو، وَلِهَذِهِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْوَلَدِ، مَعْبَدٌ، وَنَضْرَةٌ،
وَحُنَيْدَةُ، بَنُو أَبِي مَعْبَدٍ، وَاسْمُهُ أَكْثَمُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى
بْنِ مُنْقِذِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ ضَبِيسٍ، وَقِصَّتُهَا
مَشْهُورَةٌ مَرْوِيَّةٌ مِنْ طَرْقٍ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَهَذِهِ قِصَّةُ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ: قَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ، فَنَزَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْمَةِ أُمِّ مَعْبَدٍ، وَاسْمُهَا عَاتِكَةُ
بِنْتُ خَالِدِ بْنِ مُنْقِذِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ، فَأَرَادُوا
الْقِرَى، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا طَعَامٌ وَلَا لَنَا مِنْحَةٌ،
وَلَا لَنَا شَاةٌ إِلَّا حَائِلٌ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ غَنَمِهَا، فَمَسَحَ ضَرْعَهَا بِيَدِهِ، وَدَعَا
اللَّهَ وَحَلَبَ فِي الْعُسِّ حَتَّى أَرْغَى، وَقَالَ: " اشْرَبِي يَا
أُمَّ مَعْبَدٍ ". فَقَالَتْ: اشْرَبْ فَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ. فَرَدَّهُ
عَلَيْهَا فَشَرِبَتْ، ثُمَّ دَعَا بِحَائِلٍ أُخْرَى، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ
بِهَا، فَشَرِبَهُ ثُمَّ دَعَا بِحَائِلٍ أُخْرَى، فَفَعَلَ بِهَا مِثْلَ ذَلِكَ
فَسَقَى دَلِيلَهُ، ثُمَّ دَعَا بِحَائِلٍ أُخْرَى فَفَعَلَ بِهَا مِثْلَ ذَلِكَ
فَسَقَى عَامِرًا، ثُمَّ تَرَّوَحَ وَطَلَبَتْ قُرَيْشٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغُوا أُمَّ مَعْبَدٍ، فَسَأَلُوا عَنْهُ،
فَقَالُوا: أَرَأَيْتِ مُحَمَّدًا ؟ مِنْ حِلْيَتِهِ كَذَا وَكَذَا فَوَصَفُوهُ
لَهَا، فَقَالَتْ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولُونَ قَدْ ضَافِنِي حَالِبُ الْحَائِلِ،
قَالَتْ قُرَيْشٌ: فَذَاكَ الَّذِي نُرِيدُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا
أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرَيْنِ فَدَخَلَا الْغَارَ،
إِذَا فِي الْغَارِ جُحْرٌ فَأَلْقَمَهُ أَبُو بَكْرٍ عَقِبَهُ حَتَّى أَصْبَحَ;
مَخَافَةَ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْهُ شَيْءٌ، فَأَقَامَا فِي الْغَارِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، ثُمَّ
خَرَجَا حَتَّى نَزَلَا
بِخَيْمَاتِ أُمِّ مَعْبَدٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أُمُّ مَعْبَدٍ: إِنِّي أَرَى
وُجُوهًا حِسَانًا، وَإِنَّ الْحَيَّ أَقْوَى عَلَى كَرَامَتِكُمْ مِنِّي.
فَلَمَّا أَمْسَوْا عِنْدَهَا بَعَثَتْ مَعَ ابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ بِشَفْرَةٍ
وَشَاةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
ارْدُدِ الشَّفْرَةَ وَهَاتِ لِي فَرَقًا ". - يَعْنِي الْقَدَحَ - فَأَرْسَلَتْ
إِلَيْهِ أَنْ لَا لَبَنَ فِيهَا وَلَا وَلَدَ. قَالَ: " هَاتِ لِي فَرَقًا،
فَجَاءَتْ بِفَرَقٍ فَضَرَبَ ظَهْرَهَا فَاجْتَرَّتْ وَدَرَّتْ، فَحَلَبَ فَمَلَأَ
الْقَدَحَ، فَشَرِبَ وَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ حَلَبَ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى
أُمِّ مَعْبَدٍ، ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى إِلَّا بِهَذَا
الْإِسْنَادِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُقْبَةَ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا حَدَّثَ
عَنْهُ إِلَّا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا فِي النَّسَبِ.
وَرَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ
أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
لَيْلَى، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ، سَمِعْتُ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، قَالَ:
خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ
فَانْتَهَيْنَا إِلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتٍ مُنْتَحِيًا، فَقَصَدَ إِلَيْهِ،
فَلَمَّا نَزَلْنَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ
اللَّهِ، إِنَّمَا أَنَا امْرَأَةٌ وَلَيْسَ مَعِي أَحَدٌ فَعَلَيْكُمَا بِعَظِيمِ
الْحَيِّ إِنْ أَرَدْتُمُ الْقِرَى. قَالَ: فَلَمْ يُجِبْهَا، وَذَلِكَ عِنْدَ
الْمَسَاءِ، فَجَاءَ ابْنٌ لَهَا بِأَعْنُزٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ
انْطَلِقْ بِهَذِهِ الْعَنْزِ وَالشَّفْرَةِ إِلَى هَذَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، فَقُلْ
لَهُمَا: تَقُولُ لَكُمَا أُمِّي:
اذْبَحَا هَذِهِ وَكُلَا وَأَطْعِمَانَا. فَلَمَّا جَاءَ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انْطَلِقْ بِالشَّفْرَةِ وَجِئْنِي بِالْقَدَحِ ". قَالَ: إِنَّهَا قَدْ عَزَبَتْ وَلَيْسَ بِهَا لَبَنٌ. قَالَ: " انْطَلَقْ ". فَجَاءَ بِقَدَحٍ فَمَسَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرْعَهَا ثُمَّ حَلَبَ حَتَّى مَلَأَ الْقَدَحَ، ثُمَّ قَالَ: " انْطَلَقَ بِهِ إِلَى أُمِّكَ ". فَشَرِبَتْ حَتَّى رَوِيَتْ، ثُمَّ جَاءَ بِه¡