2/18 |
مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ. وَمَا يُذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ
الْقُصَّاصِ فِي مُقَاتَلَتِهِ الْجِنَّ فِي بِئْرِ ذَاتِ الْعَلَمِ - وَهُوَ
بِئْرٌ قَرِيبٌ مِنَ الْجُحْفَةِ - فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَهُوَ مِنْ وَضْعِ
الْجَهَلَةِ مِنَ الْأَخْبَارِيِّينَ فَلَا يُغْتَرُّ بِهِ. |
كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَأَمَّا
مَا يَفْتَرِيهِ كَثِيرٌ مِنْ جَهَلَةِ الشِّيعَةِ وَالْقُصَّاصِ
الْأَغْبِيَاءِ، مِنْ أَنَّهُ أَوْصَى إِلَى عَلِيٍّ بِالْخِلَافَةِ، فَكَذِبٌ
وَبَهْتٌ وَافْتِرَاءٌ عَظِيمٌ يَلْزَمُ مِنْهُ خَطَأٌ كَبِيرٌ ; مِنْ جَوْرِ
الصَّحَابَةِ وَتَمَالُئِهِمْ بَعْدَهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى تَرْكِ
إِنْفَاذِ وَصِيَّتِهِ وَإِيصَالِهَا إِلَى مَنْ أَوْصَى إِلَيْهِ، وَصَرْفِهِمْ
إِيَّاهَا إِلَى غَيْرِهِ لَا لِمَعْنًى وَلَا لِسَبَبٍ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يَتَحَقَّقُ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ الْحَقُّ،
يَعْلَمُ بُطْلَانَ هَذَا الِافْتِرَاءِ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا خَيْرَ
الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُمْ خَيْرُ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ
الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْأُمَمِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ
وَالْخَلَفِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. |
كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ. |
عُمَرُ وَجَعَلَ الْأَمْرَ شُورَى فِي سِتَّةٍ أَحَدُهُمْ
عَلِيٌّ، ثُمَّ خُلِصَ مِنْهُمْ بِعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - كَمَا قَدَّمْنَا -
فَقُدِّمَ عُثْمَانُ عَلَى عَلِيٍّ، سَمِعَ وَأَطَاعَ. فَلَمَّا قُتِلَ
عُثْمَانُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
سَنَةَ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ، عَلَى الْمَشْهُورِ عَدَلَ النَّاسُ إِلَى
عَلِيٍّ فَبَايَعُوهُ قَبْلَ أَنْ يُدْفَنَ عُثْمَانُ، وَقِيلَ: بَعْدَ
دَفْنِهِ. كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدِ امْتَنَعَ عَلِيٌّ مِنْ مُبَايَعَتِهِمْ،
وَفَرَّ مِنْهُمْ إِلَى حَائِطِ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ، وَأَغْلَقَ
بَابَهُ وَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ الْإِمَارَةِ حَتَّى تَكَرَّرَ قَوْلُهُمْ،
فَجَاءَ النَّاسُ فَطَرَقُوا الْبَابَ وَوَلَجُوا عَلَيْهِ، وَجَاءُوا مَعَهُمْ
بِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يُمْكِنُ
بَقَاؤُهُ بِلَا أَمِيرٍ، وَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَجَابَ. |
يُؤَمِّرُهُمَا عَلَى الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، فَقَالَ
لَهُمَا: بَلْ تَكُونَانِ عِنْدِي أَسْتَأْنِسُ بِكُمَا. |
بِالْأَمْرِ وَالْمِصْرِيُّونَ يُلِحُّونَ عَلَى عَلِيٍّ وَهُوَ يَهْرُبُ مِنْهُمْ إِلَى الْحِيطَانِ، وَيَطْلُبُ الْكُوفِيُّونَ الزَّبِيرَ، فَلَا يَجِدُونَهُ، وَالْبَصْرِيُّونَ يَطْلُبُونَ طَلْحَةَ فَلَا يُجِيبُهُمْ، فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: لَا نُوَلِّي أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ. فَمَضَوْا إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالُوا: إِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى. فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، ثُمَّ جَاءُوا إِلَى ابْنِ عُمَرَ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ، فَحَارُوا فِي أَمْرِهِمْ، ثُمَّ قَالُوا: إِنْ نَحْنُ رَجَعْنَا إِلَى أَمْصَارِنَا بِقَتْلِ عُثْمَانَ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ، اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَمْرِهِمْ وَلَمْ نَسْلَمْ. فَرَجَعُوا إِلَى عَلِيٍّ فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ، وَأَخَذَ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ بِيَدِهِ فَبَايَعَهُ وَبَايَعَهُ النَّاسُ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ يَقُولُونَ: أَوَّلُ مَنْ بَايَعَهُ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ. وَذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مُرَاجَعَةِ النَّاسِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَكُلُّهُمْ يَقُولُ: لَا يَصْلُحُ لَهَا إِلَّا عَلِيٌّ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، بَايَعَهُ مَنْ لَمْ يُبَايِعْهُ بِالْأَمْسِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ طَلْحَةُ بِيَدِهِ الشَّلَّاءِ، فَقَالَ قَائِلٌ: إِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ثُمَّ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ قَالَ الزُّبَيْرُ: إِنَّمَا بَايَعْتُ عَلِيًّا وَاللُّجُّ عَلَى عُنُقِي. ثُمَّ رَاحَ إِلَى مَكَّةَ فَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا أَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ كِتَابًا |
هَادِيًا بَيَّنَ فِيهِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، فَخُذُوا
بِالْخَيْرِ وَدَعُوا الشَّرَّ، إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ حُرُمًا مُجْمَلَةً،
وَفَضَّلَ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْحُرُمِ كُلِّهَا، وَشَدَّ
بِالْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ
سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ إِلَّا بِالْحَقِّ، لَا يَحِلُّ
أَذَى مُسْلِمٍ إِلَّا بِمَا يَجِبُ، بَادِرُوا أَمْرَ الْعَامَّةِ، وَخَاصَّةُ
أَحَدِكُمُ الْمَوْتُ، فَإِنَّ النَّاسَ أَمَامَكُمْ وَإِنَّمَا خَلْفَكُمُ
السَّاعَةُ تَحْدُوكُمْ فَتَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا، فَإِنَّمَا يَنْتَظِرُ
النَّاسُ أُخْرَاهُمُ، اتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَهُ فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ،
إِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَالْبَهَائِمِ، أَطِيعُوا
اللَّهَ وَلَا تَعْصُوهُ، وَإِذَا رَأَيْتُمُ الْخَيْرَ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا
رَأَيْتُمُ الشَّرَّ فَدَعُوهُ: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ
مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ [ الْأَنْفَالِ: 26 ] فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ
خُطْبَتِهِ قَالَ الْمِصْرِيُّونَ: |
وَنَطْعُنُ الْمُلْكَ بِلِينٍ كَالشَّطَنْ |
النَّهَّاسِ، وَعَلَى مَاهَ مَالِكُ بْنُ حَبِيبٍ،
وَعَلَى هَمَذَانَ النُّسَيْرُ. هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ نُوَّابِ
عُثْمَانَ الَّذِينَ تُوَفِّيَ وَهُمْ نُوَّابُ الْأَمْصَارِ، وَكَانَ عَلَى
بَيْتِ الْمَالِ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَلَى قَضَاءِ الْمَدِينَةِ زَيْدُ
بْنُ ثَابِتٍ. |
شَرِيكُ بْنُ خُبَاشَةَ، وَأَبُو مُسْلِمٍ
الْخَوْلَانِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ
التَّابِعِينَ. |
بِمَكَّةَ، وَلَحِقَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ طَلْحَةُ
وَالزُّبَيْرُ بِمَكَّةَ، وَكَانُوا قَدِ اسْتَأْذَنُوا عَلِيًّا فِي
الِاعْتِمَارِ فَأَذِنَ لَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَشَارَ عَلَى
عَلِيٍّ بِاسْتِمْرَارِهِ بِنُوَّابِهِ فِي الْبِلَادِ إِلَى حِينِ يَتَمَكَّنُ
الْأَمْرُ، وَأَنْ يُقِرَّ مُعَاوِيَةَ خُصُوصًا عَلَى الشَّامِ وَقَالَ لَهُ:
إِنِّي أَخْشَى إِنْ عَزَلْتَهُ عَنْهَا أَنْ يُطَالِبَكَ بِدَمِ عُثْمَانَ،
وَلَا آمَنُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ أَنْ يَكِرَّا عَلَيْكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنِّي لَا أَرَى هَذَا، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ إِلَى
الشَّامِ فَقَدْ وَلَّيْتُكَهَا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَخْشَى مِنْ
مُعَاوِيَةَ أَنْ يَقْتُلَنِي بِعُثْمَانَ، أَوْ يَحْبِسَنِي لِقَرَابَتِي
مِنْكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَمَنِّهِ وَعِدْهُ. فَقَالَ
عَلِيٌّ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا مَا لَا يَكُونُ أَبَدًا. فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ كَمَا قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ
أَطَعْتَنِي لَأُورِدَنَّهُمْ بَعْدَ صَدْرِهِمْ. وَنَهَى ابْنُ عَبَّاسٍ
عَلِيًّا فِيمَا أَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ
يُحَسِّنُونَ لَهُ الدُّخُولَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَمُفَارَقَةَ الْمَدِينَةِ،
فَأَبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَطَاوَعَ أَمْرَ أُولَئِكَ الْأُمَرَاءِ مِنْ
أُولَئِكَ الْخَوَارِجِ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ. |
الْمُسْلِمِينَ فِي أَلْفِ مَرْكَبٍ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَغَرَّقَهُ اللَّهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ وَمَنْ مَعَهُ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا الْمَلِكُ فِي شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ صِقِلِّيَةَ عَمِلُوا لَهُ حَمَّامًا فَدَخَلَهُ فَقَتَلُوهُ فِيهِ وَقَالُوا: أَنْتَ قَتَلْتَ رِجَالَنَا. |
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ مِنَ
الْهِجْرَةِ |
طُومَارًا مَعَ رَجُلٍ، فَدَخَلَ بِهِ عَلَى عَلِيٍّ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: مَا وَرَاءَكَ ؟ قَالَ: جِئْتُكَ مِنْ عِنْدِ قَوْمٍ لَا يُرِيدُونَ إِلَّا الْقَوَدَ، كُلُّهُمْ مَوْتُورٌ، تَرَكْتُ سِتِّينَ أَلْفَ شَيْخٍ يَبْكُونَ تَحْتَ قَمِيصِ عُثْمَانَ، وَهُوَ عَلَى مِنْبَرِ دِمَشْقَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ. ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ مُعَاوِيَةَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ عَلِيٍّ، فَهَمَّ بِهِ أُولَئِكَ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ قَتَلُوا عُثْمَانَ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ، فَمَا أَفْلَتَ إِلَّا بَعْدَ جُهْدٍ. وَعَزَمَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ وَكَتَبَ إِلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ بِمِصْرَ يَسْتَنْفِرُ النَّاسَ لِقِتَالِهِمْ، وَإِلَى أَبِي مُوسَى بِالْكُوفَةِ، وَبَعَثَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ بِذَلِكَ، وَخَطَبَ النَّاسَ فَحَثَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَعَزَمَ عَلَى التَّجَهُّزِ، وَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا قُثَمَ بْنَ الْعَبَّاسِ، وَهُوَ عَازِمٌ أَنْ يُقَاتِلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ وَخَرَجَ عَنْ أَمْرِهِ وَلَمْ يُبَايِعْهُ مَعَ النَّاسِ. وَجَاءَ إِلَيْهِ ابْنُهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَقَالَ: يَا أَبَهْ دَعْ هَذَا فَإِنَّ فِيهِ سَفْكَ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَوُقُوعَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ. فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ، بَلْ صَمَّمَ عَلَى الْقِتَالِ، وَرَتَّبَ الْجَيْشَ فَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَجَعَلَ ابْنَ الْعَبَّاسِ عَلَى الْمَيْمَنَةِ، وَعُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ عَلَى الْمَيْسَرَةِ، وَقِيلَ: جَعَلَ عَلَى الْمَيْسَرَةِ عَمْرَو |
بْنَ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ. وَجَعَلَ عَلَى
مُقَدِّمَتِهِ أَبَا لَيْلَى بْنَ عُمَرَ بْنِ الْجَرَّاحِ، ابْنَ أَخِي أَبِي
عُبَيْدَةَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قُثَمَ بْنَ الْعَبَّاسِ، وَلَمْ
يَبْقَ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَدِينَةِ قَاصِدًا الشَّامَ،
حَتَّى جَاءَهُ مَنْ شَغَلَهُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَهُوَ مَا سَنَذْكُرُهُ. |
الصَّحَابَةِ، فَرَّ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ
وَغَيْرِهِمْ إِلَى مَكَّةَ، وَاسْتَأْذَنَهُ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فِي
الِاعْتِمَارِ، فَأَذِنَ لَهُمَا، فَخَرَجَا إِلَى مَكَّةَ وَتَبِعَهُمْ خَلْقٌ
كَثِيرٌ، وَجَمٌّ غَفِيرٌ. وَكَانَ عَلِيٌّ لَمَّا عَزَمَ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ
الشَّامِ قَدْ نَدَبَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ، فَأَبَوْا
عَلَيْهِ، وَطَلَبَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَحَرَّضَهُ
عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ، فَإِنْ خَرَجُوا خَرَجْتُ، وَعَلَيَّ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ،
وَلَكِنْ لَا أَخْرُجُ لِلْقِتَالِ فِي هَذَا الْعَامِ. ثُمَّ تَجَهَّزَ ابْنُ
عُمَرَ وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ. وَقَدِمَ إِلَى مَكَّةَ أَيْضًا فِي هَذَا
الْعَامِ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ مِنَ الْيَمَنِ - وَكَانَ عَامِلًا عَلَيْهَا
لِعُثْمَانَ - وَمَعَهُ سِتُّمِائَةِ بَعِيرٍ وَسِتُّمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ
وَقَدِمَ إِلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ مِنَ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ
نَائِبَهَا لِعُثْمَانَ. |
آخَرُونَ: نَذْهَبُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَنَطْلُبُ مِنْ
عَلِيٍّ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْنَا قَتَلَةَ عُثْمَانَ فَيُقْتَلُوا. وَقَالَ
آخَرُونَ: بَلْ نَذْهَبُ إِلَى الْبَصْرَةِ فَنَتَقَوَّى بِالْخَيْلِ
وَالرِّجَالِ، وَنَبْدَأُ بِمَنْ هُنَاكَ مِنْ قَتَلَتِهِ. فَاتَّفَقَ الرَّأْيُ
عَلَى ذَلِكَ، وَوَافَقَ بَقِيَّةُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ عَلَى
الْمَسِيرِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى الْمَسِيرِ
إِلَى الْبَصْرَةِ رَجَعْنَ عَنْ ذَلِكَ، وَقُلْنَ: لَا نَسِيرُ إِلَى غَيْرِ
الْمَدِينَةِ. وَجَهَّزَ النَّاسَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، فَأَنْفَقَ فِيهِمْ
سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ وَسِتَّمِائَةِ بَعِيرٍ، وَجَهَّزَهُمُ ابْنُ عَامِرٍ
أَيْضًا بِمَالٍ كَثِيرٍ: وَكَانَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ أُمُّ
الْمُؤْمِنِينَ قَدْ وَافَقَتْ عَائِشَةَ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْبَصْرَةِ،
فَمَنَعَهَا أَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَأَبَى هُوَ أَنْ يَسِيرَ
مَعَهُمْ إِلَى غَيْرِ الْمَدِينَةِ، وَسَارَ النَّاسُ صُحْبَةَ عَائِشَةَ فِي
أَلْفٍ. وَقِيلَ: تِسْعِمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ.
وَتَلَاحَقَ بِهِمْ آخَرُونَ، فَصَارُوا فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَأُمُّ
الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ تُحْمَلُ فِي هَوْدَجٍ عَلَى جَمَلٍ اسْمُهُ عَسْكَرٌ،
اشْتَرَاهُ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ رَجُلٍ مِنْ عُرَيْنَةَ بِمِائَتَيْ
دِينَارٍ. وَقِيلَ: بِثَمَانِينَ دِينَارًا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَسَارَ
مَعَهَا أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى ذَاتِ عِرْقٍ فَفَارَقْنَهَا هُنَالِكَ
وَبَكَيْنَ لِلْوَدَاعِ، وَتَبَاكَى النَّاسُ وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يُسَمَّى
يَوْمَ النَّحِيبِ. |
سَمِعَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ قَالَتْ: مَا اسْمُ هَذَا
الْمَاءِ ؟ قَالُوا: الْحَوْأَبُ. فَضَرَبَتْ بِإِحْدَى يَدَيْهَا عَلَى
الْأُخْرَى وَقَالَتْ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَا
أَظُنُّنِي إِلَّا رَاجِعَةً. قَالُوا: وَلِمَ ؟ قَالَتْ:سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ لِنِسَائِهِ: لَيْتَ
شِعْرِي أَيَّتُكُنَّ الَّتِي تَنْبَحُهَا كِلَابُ الْحَوْأَبِ. ثُمَّ ضَرَبَتْ
عَضُدَ بَعِيرِهَا فَأَنَاخَتْهُ، وَقَالَتْ: رُدُّونِي، أَنَا وَاللَّهِ
صَاحِبَةُ مَاءِ الْحَوْأَبِ. وَقَدْ أَوْرَدْنَا هَذَا الْحَدِيثَ بِطُرُقِهِ
وَأَلْفَاظِهِ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ كَمَا سَبَقَ. فَأَنَاخَ النَّاسُ
حَوْلَهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً وَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ:
إِنَّ الَّذِي أَخْبَرَكِ أَنَّ هَذَا مَاءُ الْحَوْأَبِ قَدْ كَذَبَ. ثُمَّ
قَالَ النَّاسُ: النَّجَاءَ النَّجَاءَ ! هَذَا جَيْشُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ قَدْ أَقْبَلَ. فَارْتَحَلُوا نَحْوَ الْبَصْرَةِ. |
وَلَا أَسْتَقْبِلُهُ إِنْ هُوَ لَمْ يُخَلِّ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ قَتَلَةِ عُثْمَانَ. فَذَهَبَا إِلَى الزُّبَيْرِ فَقَالَ مِثْلَ
ذَلِكَ. قَالَ: فَرَجَعَ عِمْرَانُ وَأَبُو الْأَسْوَدِ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ
حُنَيْفٍ، فَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: |
حَيْثُ جَاءُوا. فَقَامَ الْأَسْوَدُ بْنُ سَرِيعٍ
السَّعْدِيُّ فَقَالَ: إِنَّمَا جَاءُوا يَسْتَعِينُونَ بِنَا عَلَى قَتَلَةِ
عُثْمَانَ مِنَّا وَمِنْ غَيْرِنَا. فَحَصَبَهُ النَّاسُ، فَعَلِمَ عُثْمَانُ
بْنُ حُنَيْفٍ أَنَّ لِقَتَلَةِ عُثْمَانَ بِالْبَصْرَةِ أَنْصَارًا فَكَسَرَهُ
ذَلِكَ. |
يَقْتَحِمُ عَلَيْهِمْ فَاقْتَتَلُوا عَلَى فَمِ السِّكَّةِ، وَأَمَرَتْ عَائِشَةُ أَصْحَابَهَا فَتَيَامَنُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى مَقْبَرَةِ بَنِي مَازِنٍ، وَحَجَزَ اللَّيْلُ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي قَصَدُوا الْقِتَالَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، إِلَى أَنْ زَالَ النَّهَارُ، وَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ حُنَيْفٍ، وَكَثُرَتِ الْجِرَاحُ فِي الْفَرِيقَيْنِ، فَلَمَّا عَضَّتْهُمُ الْحَرْبُ تَدَاعَوْا إِلَى الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يَكْتُبُوا بَيْنَهُمْ كِتَابًا وَيَبْعَثُوا رَسُولًا إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَسْأَلُ أَهْلَهَا ; إِنْ كَانَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ أُكْرِهَا عَلَى الْبَيْعَةِ، خَرَجَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ عَنِ الْبَصْرَةِ وَأَخْلَاهَا لَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا أُكْرِهَا عَلَى الْبَيْعَةِ، خَرَجَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ عَنْهَا وَأَخْلَوْهَا لَهُ. وَبَعَثُوا بِذَلِكَ كَعْبَ بْنَ سُورٍ الْقَاضِي، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَامَ فِي النَّاسِ فَسَأَلَهُمْ: هَلْ بَايَعَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ طَائِعَيْنِ أَوْ مُكْرَهَيْنِ ؟ فَسَكَتَ النَّاسُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَقَالَ: بَلْ كَانَا مُكْرَهَيْنِ. فَثَارَ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ فَأَرَادُوا ضَرْبَهُ، فَجَاحَفَ دُونَهُ صُهَيْبٌ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وَجَمَاعَةٌ حَتَّى خَلَّصُوهُ وَقَالُوا لَهُ: مَا وَسِعَكَ مَا وَسِعَنَا مِنَ السُّكُوتِ ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ الْأَمْرَ يَنْتَهِي إِلَى هَذَا. وَكَتَبَ عَلِيٌّ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ يَقُولُ: إِنَّهُمَا لَمْ يُكْرَهَا عَلَى فُرْقَةٍ، وَلَقَدْ أُكْرِهَا عَلَى جَمَاعَةٍ وَفَضْلٍ، فَإِنْ كَانَا يُرِيدَانِ الْخَلْعَ فَلَا عُذْرَ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَا يُرِيدَانِ غَيْرَ ذَلِكَ نَظَرَا وَنَظَرْنَا. وَقَدِمَ كَعْبُ بْنُ سُورٍ عَلَى عُثْمَانَ بِكِتَابِ عَلِيٍّ، فَقَالَ عُثْمَانُ: هَذَا أَمْرٌ آخَرُ غَيْرُ مَا كُنَّا فِيهِ. وَبَعَثَ طَلْحَةُ |
وَالزُّبَيْرُ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ أَنْ
يَخْرُجَ إِلَيْهِمَا فَأَبَى. فَجَمَعَا الرِّجَالَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ
وَشَهِدَ بِهِمْ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَلَمْ يَخْرُجْعُثْمَانُ
بْنُ حُنَيْفٍ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ، وَوَقَعَ مِنْ رِعَاعِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ
كَلَامٌ وَضَرْبٌ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ نَحْوٌ مَنْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا، وَدَخَلَ
النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ قَصْرَهُ، فَأَخْرَجُوهُ إِلَى طَلْحَةَ
وَالزُّبَيْرِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي وَجْهِهِ شَعْرَةٌ إِلَّا نَتَفُوهَا،
فَاسْتَعْظَمَا ذَلِكَ وَبَعَثَا إِلَى عَائِشَةَ فَأَعْلَمَاهَا الْخَبَرَ،
فَأَمَرَتْ أَنْ تُخَلَّى سَبِيلُهُ، فَأَطْلَقُوهُ وَوَلَّوْا عَلَى بَيْتِ
الْمَالِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَقَسَّمَ طَلْحَةُ
وَالزُّبَيْرُ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ فِي النَّاسِ، وَفَضَّلُوا أَهْلَ
الطَّاعَةِ، وَأَكَبَّ عَلَيْهِمُ النَّاسُ يَأْخُذُونَ أَرْزَاقَهُمْ،
وَأَخَذُوا الْحَرَسَ، وَاسْتَبَدُّوا بِالْأَمْرِ فِي الْبَصْرَةِ، فَحَمِيَ
لِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ قَوْمِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَأَنْصَارِهِمْ، فَرَكِبُوا
فِي جَيْشٍ قَرِيبٍ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَمُقَدَّمُهُمْ حُكَيْمُ بْنُ
جَبَلَةَ، وَهُوَ أَحَدُ مَنْ بَاشَرَ قَتْلَ عُثْمَانَ، فَبَارَزُوا
وَقَاتَلُوا، فَضَرَبَ رَجُلٌ رِجْلَ حُكَيْمِ بْنِ جَبَلَةَ فَقَطَعَهَا،
فَزَحَفَ حَتَّى أَخَذَهَا وَضَرَبَ بِهَا ضَارِبَهُ فَقَتَلَهُ ثُمَّ أَتَّكَأَ
عَلَيْهِ وَجَعَلَ يَقُولُ: |
لَيْسَ عَلَيَّ أَنْ أَمُوتَ عَارُ وَالْعَارُ فِي
النَّاسِ هُوَ الْفِرَارُ |
ذِكْرُ مَسِيرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ بَدَلًا عَنْ مَسِيرِهِ
إِلَى الشَّامِ |
عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ فِي آخِرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. وَخَرَجَ عَلِيٌّ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي نَحْوٍ مِنْ تِسْعِمِائَةِ مُقَاتِلٍ، وَقَدْ لَقِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلِيًّا وَهُوَ بِالرَّبَذَةِ، فَأَخَذَ بِلِجَامِ فَرَسِهِ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَخْرُجْ مِنْهَا فَوَاللَّهِ لَئِنْ خَرَجْتَ مِنْهَا لَا يَعُودُ إِلَيْهَا سُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ أَبَدًا. فَسَبَّهُ بَعْضُ النَّاسِ فَقَالَ عَلِيٌّ: دَعُوهُ فَنِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى أَبِيهِ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ: لَقَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنِي، تُقْتَلُ غَدًا بِمَضْيَعَةٍ لَا نَاصِرَ لَكَ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إِنَّكَ لَا تَزَالُ تَحِنُّ عَلَىَّ حَنِينَ الْجَارِيَةِ، وَمَا الَّذِي نَهَيْتَنِي عَنْهُ فَعَصَيْتُكَ ؟ فَقَالَ: أَلَمْ آمُرْكَ قَبْلَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا لِئَلَّا يُقْتَلَ وَأَنْتَ بِهَا، فَيَقُولُ قَائِلٌ أَوْ يَتَحَدَّثُ مُتَحَدِّثٌ ؟ أَلَمْ آمُرْكَ أَنْ لَا تُبَايِعَ النَّاسَ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْكَ أَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ بَيْعَتَهُمْ ؟ وَأَمَرْتُكَ حِينَ خَرَجَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ وَهَذَانِ الرَّجُلَانِ أَنْ تَجْلِسَ فِي بَيْتِكَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَعَصَيْتَنِي فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ؟ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَمَّا قَوْلُكَ أَنِّي أَخْرُجُ قَبْلَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ، فَلَقَدْ أُحِيطَ بِنَا كَمَا أُحِيطَ بِهِ، وَأَمَّا مُبَايَعَتِي قَبْلَ مَجِيءِ بَيْعَةِ الْأَمْصَارِ، فَكَرِهْتُ أَنْ يَضِيعَ هَذَا الْأَمْرُ، وَأَمَّا أَنْ أَجْلِسَ وَقَدْ ذَهَبَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، فَتُرِيدُنِي أَنْ أَكُونَ كَالضَّبُعِ الَّتِي يُحَاطُ بِهَا وَيُقَالُ: لَيْسَتْ هَاهُنَا. حَتَّى يُحَلَّ عُرْقُوبُهَا فَتَخْرُجَ، |
فَإِذَا لَمْ أَنْظُرْ فِيمَا يَلْزَمُنِي مِنْ هَذَا الْأَمْرِ
وَيَعْنِينِي، فَمَنْ يَنْظُرُ فِيهِ ؟ فَكُفَّ عَنِّي يَا بُنَيَّ. |
وَأَعْرِضُوا عَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْكُمْ حَتَّى
تَعْرِضُوهُ عَلَى الْكِتَابِ، فَمَا عَرَّفَهُ الْقُرْآنُ فَالْزَمُوهُ، وَمَا
أَنْكَرَهُ فَرُدُّوهُ، وَارْضَوْا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا،
وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ حَكَمًا وَإِمَامًا. |
مَعِي كِفَايَةٌ. وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ
يُقَالُ لَهُ: عَامِرُ بْنُ مَطَرٍ الشَيْبَانِيُّ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: مَا
وَرَاءَكَ ؟ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَبِي مُوسَى فَقَالَ:
إِنْ أَرَدْتَ الصُّلْحَ فَأَبُو مُوسَى صَاحِبُهُ، وَإِنْ أَرَدْتَ الْقِتَالَ
فَلَيْسَ بِصَاحِبِهِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: وَاللَّهِ مَا أُرِيدُ إِلَّا الصُّلْحَ
مِمَّنْ تَمَرَّدَ عَلَيْنَا. |
عُثْمَانَ حَيْثُ كَانُوا وَمَنْ كَانُوا. فَانْطَلَقَا
إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ، وَهُوَ بِذِي قَارٍ، فَقَالَ
لِلْأَشْتَرِ: أَنْتَ صَاحِبُنَا فِي أَبِي مُوسَى وَالْمُعْتَرِضُ فِي كُلِّ
شَيْءٍ ! فَاذْهَبْ أَنْتَ وَابْنُ عَبَّاسٍ فَأَصْلِحْ مَا أَفْسَدْتَ.
فَخَرَجَا فَقَدِمَا الْكُوفَةَ، وَكَلَّمَا أَبَا مُوسَى، وَاسْتَعَانَا
عَلَيْهِ بِنَفَرٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ:
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، الَّذِينَ صَحِبُوهُ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مِمَّنْ لَمْ
يَصْحَبْهُ، وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْنَا حَقًّا، وَأَنَا مُؤَدٍّ إِلَيْكُمْ
نَصِيحَةً، كَانَ الرَّأْيُ أَنْ لَا تَسْتَخِفُّوا بِسُلْطَانِ اللَّهِ وَأَنْ
لَا تَجْتَرِئُوا عَلَى أَمْرِهِ، وَهَذِهِ فِتْنَةٌ النَّائِمُ فِيهَا خَيْرٌ
مِنَ الْيَقْظَانِ، وَالْيَقِظَانُ خَيْرٌ مِنَ الْقَاعِدِ، وَالْقَاعِدُ خَيْرٌ
مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الرَّاكِبِ، وَالرَّاكِبُ خَيْرٌ
مِنَ السَّاعِي، فَاغْمِدُوا السُّيُوفَ، وَأَنْصِلُوا الْأَسِنَّةَ،
وَاقْطَعُوا الْأَوْتَارَ، وَآوُوا الْمُضْطَهَدَ وَالْمَظْلُومَ حَتَّى
يَلْتَئِمَ هَذَا الْأَمْرُ، وَتَنْجَلِيَ هَذِهِ الْفِتْنَةُ. فَرَجَعَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَالْأَشْتَرُ إِلَى عَلِيٍّ، فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ، فَأَرْسَلَ
الْحَسَنَ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَقَالَ لِعَمَّارٍ: انْطَلِقْ فَأَصْلِحْ
مَا أَفْسَدْتَ. فَانْطَلَقَا حَتَّى دَخَلَا الْمَسْجِدَ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ
سَلَّمَ عَلَيْهِمَا مَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ، فَقَالَ لِعَمَّارٍ: عَلَامَ
قَتَلْتُمْ عُثْمَانَ ؟ فَقَالَ: عَلَى شَتْمِ أَعْرَاضِنَا وَضَرْبِ
أَبْشَارِنَا. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عَاقَبْتُمْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ
بِهِ وَلَوْ صَبَرْتُمْ لَكَانَ خَيْرًا لِلصَّابِرِينَ. |
ذَلِكَ. فَقَطَعَ عَلَيْهِمَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَقَالَ لِأَبِي مُوسَى: لِمَ تُثَبِّطُ النَّاسَ عَنَّا ؟ فَوَاللَّهِ مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْإِصْلَاحَ، وَلَا مِثْلَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يُخَافُ عَلَى شَيْءٍ. فَقَالَ: صَدَقْتَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، وَلَكِنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ الرَّاكِبِ، وَقَدْ جَعَلَنَا اللَّهُ إِخْوَانًا، وَحَرَّمَ عَلَيْنَا دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا. فَغَضِبَ عَمَّارٌ وَسَبَّهُ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحْدَهُ: " أَنْتَ فِيهَا قَاعِدًا خَيْرٌ مِنْكَ قَائِمًا ". فَغَضِبَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ لِأَبِي مُوسَى وَنَالَ مِنْ عَمَّارٍ، وَثَارَ آخَرُونَ، وَجَعَلَ أَبُو مُوسَى يُكَفْكِفُ النَّاسَ، وَكَثُرَ اللَّغَطُ، وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ، وَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَيُّهَا النَّاسُ، أَطِيعُونِي وَكُونُوا خَيْرَ قَوْمٍ مِنْ خَيْرِ أُمَمِ الْعَرَبِ، يَأْوِي إِلَيْهِمُ الْمَظْلُومُ، وَيَأْمَنُ فِيهِمُ الْخَائِفُ، وَإِنَّ الْفِتْنَةَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ بَيَّنَتْ. ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ بِكَفِّ أَيْدِيهِمْ وَلُزُومِ بُيُوتِهِمْ، فَقَامَ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ سِيرُوا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَيِّدِ الْمُسْلِمِينَ، سِيرُوا إِلَيْهِ أَجْمَعِينَ. فَقَامَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: إِنَّ الْحَقَّ مَا قَالَهُ الْأَمِيرُ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ يَرْدَعُ الظَّالِمَ، وَيُعْدِي الْمَظْلُومَ، وَيَنْتَظِمُ بِهِ شَمْلُ النَّاسِ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ مَلِيءٌ بِمَا وَلِيَ، وَقَدْ أُنْصِفَ فِي الدُّعَاءِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْإِصْلَاحَ فَانْفِرُوا إِلَيْهِ. وَقَامَ عَبْدُ خَيْرٍ فَقَالَ: النَّاسُ أَرْبَعُ فِرَقٍ ; عَلِيٌّ بِمَنْ مَعَهُ فِي ظَاهِرِ الْكُوفَةِ، وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ بِالْبَصْرَةِ، وَمُعَاوِيَةُ بِالشَّامِ، وَفِرْقَةٌ بِالْحِجَازِ لَا تُقَاتِلُ |
وَلَا عَنَاءَ بِهَا. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أُولَئِكَ
خَيْرُ الْفِرَقِ، وَهَذِهِ فِتْنَةٌ. |
جُمُوعَهُمْ، وَقَدْ دَعَوْتُكُمْ لِتَشْهَدُوا مَعَنَا
إِخْوَانَنَا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَإِنْ يَرْجِعُوا فَذَاكَ الَّذِي
نُرِيدُ، وَإِنْ أَبَوْا دَاوَيْنَاهُمْ بِالرِّفْقِ حَتَّى يَبْدَأُونَا
بِالظُّلْمِ، وَلَمْ نَدَعْ أَمْرًا فِيهِ صَلَاحٌ إِلَّا آثَرْنَاهُ عَلَى مَا
فِيهِ الْفَسَادُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ بِذِي
قَارٍ. |
وَجْهُ هَذَا الْإِصْلَاحِ ؟ فَوَاللَّهِ لَئِنْ
عَرَفْنَاهُ لِنَصْطَلِحَنَّ، وَلَئِنْ أَنْكَرْنَاهُ لَا نَصْطَلِحَنَّ.
قَالَا: قَتَلَةُ عُثْمَانَ، فَإِنَّ هَذَا إِنْ تُرِكَ كَانَ تَرْكًا
لِلْقُرْآنِ. فَقَالَ: قَتَلْتُمَا قَتَلَةَ عُثْمَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ،
وَأَنْتُمْ قَبْلَ قَتْلِهِمْ أَقْرَبُ مِنْكُمْ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ مِنْكُمُ
الْيَوْمَ، قَتَلْتُمْ سِتَّمِائَةِ رَجُلٍ، فَغَضِبَ لَهُمْ سِتَّةُ آلَافٍ
فَاعْتَزَلُوكُمْ، وَخَرَجُوا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، وَطَلَبْتُمْ حُرْقُوصَ
بْنَ زُهَيْرٍ، فَمَنَعَهُ سِتَّةُ آلَافٍ، فَإِنْ تَرَكْتُمُوهُمْ وَقَعْتُمْ
فِيمَا تَقُولُونَ، وَإِنْ قَاتَلْتُمُوهُمْ فَأُدِيلُوا عَلَيْكُمْ، فَالَّذِي
حَذِرْتُمْ وَفَرِقْتُمْ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ أَعْظَمُ مِمَّا أَرَاكُمْ
تَدْفَعُونَ وَتَجْمَعُونَ مِنْهُ. يَعْنِي أَنَّ الَّذِي تُرِيدُونَ مِنْ
قَتْلِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ مَصْلَحَةٌ، وَلَكِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
مَفْسَدَةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْهَا، وَكَمَا أَنَّكُمْ عَجَزْتُمْ عَنِ الْأَخْذِ
بِثَأْرِ عُثْمَانَ مِنْ حُرْقُوصِ بْنِ زُهَيْرٍ، لِقِيَامِ سِتَّةِ آلَافٍ فِي
مَنْعِهِ مِمَّنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ، فَعَلِيٌّ أَعْذَرُ فِي تَرْكِهِ الْآنَ
قَتْلَ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، وَإِنَّمَا أَخَّرَ قَتْلَ قَتَلَةِ عُثْمَانَ إِلَى
أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُمْ بَعْدَ هَذَا، فَإِنَّ الْكَلِمَةَ فِي جَمِيعِ
الْأَمْصَارِ مُخْتَلِفَةٌ عَلَيْهِ. |
الْأَمْرَ الَّذِي وَقَعَ دَوَاؤُهُ التَّسْكِينُ،
فَإِذَا سَكَنَ اخْتَلَجُوا، فَإِنْ أَنْتُمْ بَايَعْتُمُونَا فَعَلَامَةُ
خَيْرٍ، وَتَبَاشِيرُ رَحْمَةٍ، وَدَرَكٌ بِثَأْرٍ، وَإِنْ أَنْتُمْ أَبَيْتُمْ
إِلَّا مُكَابَرَةَ هَذَا الْأَمْرِ وَائْتِنَافَهُ، كَانَتْ عَلَامَةَ شَرٍّ، وَذَهَابَ
هَذَا الْمُلْكِ، فَآثِرُوا الْعَافِيَةَ تُرْزَقُوهَا، وَكُونُوا مَفَاتِيحَ
خَيْرٍ كَمَا كُنْتُمْ أَوَّلَ، وَلَا تُعَرِّضُونَا لِلْبَلَاءِ فَتَعَرَّضُوا
لَهُ، فَيَصْرَعَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ، وَايْمُ اللَّهِ، إِنِّي لَأَقُولُ
قَوْلِي هَذَا وَأَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، وَإِنِّي لَخَائِفٌ أَنْ لَا يُتِمَّ
حَتَّى يَأْخُذَ اللَّهُ حَاجَتَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي قَلَّ
مَتَاعُهَا، وَنَزَلَ بِهَا مَا نَزَلَ، فَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي قَدْ
حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَلَيْسَ كَقَتْلِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ، وَلَا النَّفَرِ
الرَّجُلَ، وَلَا الْقَبِيلَةِ الْقَبِيلَةَ. فَقَالُوا: قَدْ أَصَبْتَ
وَأَحْسَنْتَ فَارْجِعْ، فَإِنْ قَدِمَ عَلِيٌّ وَهُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِكَ
صَلُحَ الْأَمْرُ. قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَهُ، فَأَعْجَبَهُ
ذَلِكَ، وَأَشْرَفَ الْقَوْمُ عَلَى الصُّلْحِ، كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ كَرِهَهُ،
وَرَضِيَهُ مَنْ رَضِيَهُ. |
وَسَعَادَةَ أَهْلِهِ بِالْأُلْفَةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ جَمَعَهُمْ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى الْخَلِيفَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، ثُمَّ بَعْدَهُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، ثُمَّ عَلَى عُثْمَانَ، ثُمَّ حَدَثَ هَذَا الْحَدَثُ الَّذِي جَرَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَقْوَامٌ طَلَبُوا هَذِهِ الدُّنْيَا، وَحَسَدُوا مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا، وَعَلَى الْفَضِيلَةِ الَّتِي مَنَّ بِهَا، وَأَرَادُوا رَدَّ الْإِسْلَامِ وَالْأَشْيَاءِ عَلَى أَدْبَارِهَا، وَاللَّهُ بَالِغُ أَمْرِهِ. ثُمَّ قَالَ: أَلَا إِنِّي مُرْتَحِلٌ غَدًا فَارْتَحِلُوا، وَلَا يَرْتَحِلُ مَعِي أَحَدٌ أَعَانَ عَلَى عُثْمَانَ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ. فَلَمَّا قَالَ هَذَا اجْتَمَعَ مِنْ رُءُوسِهِمْ جَمَاعَةٌ ; كَالْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ، وَشُرَيْحِ بْنِ أَوْفَى، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ، الْمَعْرُوفِ بِابْنِ السَّوْدَاءِ، وَسَالِمِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَعِلْبَاءَ بْنِ الْهَيْثَمِ، وَغَيْرِهِمْ فِي أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ وَلَيْسَ فِيهِمْ صَحَابِيٌّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. فَقَالُوا: مَا هَذَا الرَّأْيُ ؟ وَعَلِيٌّ وَاللَّهِ أَبْصَرُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ مِمَّنْ يَطْلُبُ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْعَمَلِ بِذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ مَا سَمِعْتُمْ، غَدًا يَجْمَعُ عَلَيْكُمُ النَّاسَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ أَنْتُمْ، فَكَيْفَ بِكُمْ وَعَدَدُكُمْ قَلِيلٌ فِي كَثْرَتِهِمْ ؟ فَقَالَ الْأَشْتَرُ: قَدْ عَرَفْنَا رَأْيَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ فِينَا، وَأَمَّا رَأْيُ عَلِيٍّ فَلَمْ نَعْرِفُهُ إِلَى الْيَوْمِ، فَإِنْ كَانَ قَدِ اصْطَلَحَ مَعَهُمْ فَإِنَّمَا اصْطَلَحُوا عَلَى دِمَائِنَا، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا أَلْحَقْنَا عَلِيًّا بِعُثْمَانَ، فَرَضِيَ الْقَوْمُ مِنَّا |
بِالسُّكُوتِ. فَقَالَ ابْنُ السَّوْدَاءِ: بِئْسَ مَا رَأَيْتَ، لَوْ قَتَلْنَاهُ قُتِلْنَا، فَإِنَّا يَا مَعْشَرَ قَتَلَةِ عُثْمَانَ فِي أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَأَصْحَابُهُمَا فِي خَمْسَةِ آلَافٍ، وَلَا طَاقَةَ لَكُمْ بِهِمْ، وَهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُونَكُمْ. فَقَالَ عِلْبَاءُ بْنُ الْهَيْثَمِ: دَعُوهُمْ وَارْجِعُوا بِنَا حَتَّى نَتَعَلَّقَ بِبَعْضِ الْبِلَادِ فَنَمْتَنِعَ بِهَا. فَقَالَ ابْنُ السَّوْدَاءِ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، إِذًا وَاللَّهِ كَانَ يَتَخَطَّفُكُمُ النَّاسُ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ السَّوْدَاءِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ: يَا قَوْمِ إِنَّ عِزَّكُمْ فِي خُلْطَةِ النَّاسِ، فَإِذَا الْتَقَى النَّاسُ فَأَنْشِبُوا الْقِتَالَ، وَلَا تُفَرِّغُوهُمْ لِلنَّظَرِ، فَمَنْ أَنْتُمْ مَعَهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يَمْتَنِعَ، وَيَشْغَلُ اللَّهُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَمَنْ مَعَهُمَا عَمَّا تَكْرَهُونَ. فَأَبْصَرُوا الرَّأْيَ وَتَفَرَّقُوا عَلَيْهِ، وَأَصْبَحَ عَلِيٌّ مُرْتَحِلًا، وَمَرَّ بِعَبْدِ الْقَيْسِ، فَسَارُوا مَعَهُ حَتَّى نَزَلُوا بِالزَّاوِيَةِ، وَسَارَ مِنْهَا يُرِيدُ الْبَصْرَةَ، وَسَارَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَمَنْ مَعَهُمَا لِلِقَائِهِ، فَاجْتَمَعُوا عِنْدَ قَصْرِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، وَنَزَلَ النَّاسُ كُلٌّ فِي نَاحِيَةٍ، وَقَدْ سَبَقَ عَلِيٌّ جَيْشَهُ، وَهُمْ يَتَلَاحَقُونَ بِهِ، فَمَكَثُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَالرُّسُلُ بَيْنَهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ بِانْتِهَازِ |
الْفُرْصَةِ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، فَقَالَا: إِنَّ عَلِيًّا قَدْ أَشَارَ بِتَسْكِينِ هَذَا الْأَمْرِ، وَقَدْ بَعَثْنَا إِلَيْهِ بِالْمُصَالَحَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَامَ عَلِيٌّ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَقَامَ إِلَيْهِ الْأَعْوَرُ بْنُ بُنَانٍ الْمِنْقَرِيُّ، فَسَأَلَهُ عَنْ إِقْدَامِهِ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَقَالَ: الْإِصْلَاحُ وَإِطْفَاءُ النَّائِرَةِ ; لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى الْخَيْرِ، وَيَلْتَئِمَ شَمْلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يُجِيبُونَا ؟ قَالَ: تَرَكْنَاهُمْ مَا تَرَكُونَا. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُونَا ؟ قَالَ: دَفَعْنَاهُمْ عَنْ أَنْفُسِنَا. قَالَ: فَهَلْ لَهُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ مِثْلُ الَّذِي لَنَا ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو سَلَامَةَ الدَّالَانِيُّ، فَقَالَ: هَلْ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنْ حُجَّةٍ فِيمَا طَلَبُوا مِنْ هَذَا الدَّمِ، إِنْ كَانُوا أَرَادُوا اللَّهَ فِي ذَلِكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ لَكَ مِنْ حُجَّةٍ فِي تَأْخِيرِكَ ذَلِكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا حَالُنَا وَحَالُهُمْ إِنِ ابْتُلِينَا غَدًا ؟ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يُقْتَلَ مِنَّا وَمِنْهُمْ أَحَدٌ نَقَّى قَلْبَهُ لِلَّهِ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ أَمْسِكُوا عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَيْدِيَكُمْ وَأَلْسِنَتَكُمْ، وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَسْبِقُونَا فَإِنَّ الْمَخْصُومَ غَدًا مَنْ خُصِمَ الْيَوْمَ. وَجَاءَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ فِي جَمَاعَةٍ، فَانْضَافَ إِلَى عَلِيٍّ - وَكَانَ قَدْ مَنَعَ حُرْقُوصَ بْنَ زُهَيْرٍ مِنْ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ - وَكَانَ قَدْ بَايَعَ عَلِيًّا بِالْمَدِينَةِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَعُثْمَانُ مَحْصُورٌ، فَسَأَلَ عَائِشَةَ |
وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ: إِنْ قُتِلَ عُثْمَانُ مَنْ
أُبَايِعُ ؟ فَقَالُوا: بَايِعْ عَلِيًّا. فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ بَايَعَ
عَلِيًّا، قَالَ: ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى قَوْمِي، فَجَاءَنِي بَعْدَ ذَلِكَ مَا
هُوَ أَفْظَعُ، حَتَّى قَالَ النَّاسُ: هَذِهِ عَائِشَةُ جَاءَتْ لِتَأْخُذَ
بِدَمِ عُثْمَانَ. فَحِرْتُ فِي أَمْرِي لِمَنْ أَتَّبِعْ، فَنَفَعَنِي اللَّهُ
بِحَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّ الْفُرْسَ قَدْ مَلَّكُوا
عَلَيْهِمُ ابْنَةَ كِسْرَى فَقَالَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ
امْرَأَةً وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ". |
بْنَ طَلْحَةَ السَّجَّادَ، وَبَاتَ النَّاسُ بِخَيْرِ لَيْلَةٍ، وَبَاتَ قَتَلَةُ عُثْمَانَ بِشَرِّ لَيْلَةٍ، وَبَاتُوا يَتَشَاوَرُونَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يُثِيرُوا الْحَرْبَ مِنَ الْغَلَسِ، فَنَهَضُوا مِنْ قَبْلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهُمْ قَرِيبٌ مَنْ أَلْفَيْ رَجُلٍ فَانْصَرَفَ كُلُّ فَرِيقٍ إِلَى قَرَابَاتِهِمْ، فَهَجَمُوا عَلَيْهِمْ بِالسُّيُوفِ، فَثَارَ كُلُّ طَائِفَةٍ إِلَى قَوْمِهِمْ لِيَمْنَعُوهُمْ، وَقَامَ النَّاسُ مِنْ مَنَامِهِمْ إِلَى السِّلَاحِ، فَقَالُوا: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: طَرَقَنَا أَهْلُ الْكُوفَةِ لَيْلًا، وَبَيَّتُونَا وَغَدَرُوا بِنَا. وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا عَنْ مَلَأٍ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، فَبَلَغَ الْأَمْرُ عَلِيًّا فَقَالَ: مَا لِلنَّاسِ ؟ فَقَالُوا بَيَّتَنَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ. فَثَارَ كُلُّ فَرِيقٍ إِلَى سِلَاحِهِمْ، وَلَبِسُوا اللَّأْمَةَ، وَرَكِبُوا الْخُيُولَ، وَلَا يَشْعُرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمَا وَقَعَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا. فَنَشِبَتِ الْحَرْبُ وَتَوَاقَفَ الْفَرِيقَانِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ مَعَ عَلِيٍّ عِشْرُونَ أَلْفًا، وَالْتَفَّ عَلَى عَائِشَةَ وَمَنْ مَعَهَا نَحْوٌ مَنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَقَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، وَتَبَارَزَ الْفُرْسَانُ، وَجَالَتِ الشُّجْعَانُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَالسَّبَئِيَّةُ أَصْحَابُ ابْنُ السَّوْدَاءِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ لَا يَفْتَرُونَ عَنِ الْقَتْلِ، وَمُنَادِي عَلِيٍّ يُنَادِي: أَلَا كُفُّوا ! أَلَا كُفُّوا ! فَلَا يَسْمَعُ أَحَدٌ، وَجَاءَ كَعْبُ بْنُ سُورٍ قَاضِي الْبَصْرَةِ، فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكِي النَّاسَ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِكِ بَيْنَ النَّاسِ. فَجَلَسَتْ فِي هَوْدَجِهَا فَوْقَ بَعِيرِهَا، وَسَتَرُوا الْهَوْدَجَ بِالدُّرُوعِ، وَجَاءَتْ فَوَقَفَتْ بِحَيْثُ تَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ فِي مَعْرَكَتِهِمْ، فَتَصَاوَلُوا وَتَجَاوَلُوا، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ تَبَارَزَ الزُّبَيْرُ |
وَعَمَّارٌ، فَجَعَلَ عَمَّارٌ يَحُوزُهُ بِالرُّمْحِ،
وَالزُّبَيْرُ كَافٌ عَنْهُ، وَيَقُولُ لَهُ: أَتَقْتُلُنِي يَا أَبَا
الْيَقْظَانِ ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا تَرَكَهُ
الزُّبَيْرُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ وَإِلَّا فَالزُّبَيْرُ أَقْدَرُ عَلَيْهِ
مِنْهُ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا كَفَّ عَنْهُ، وَقَدْ كَانَ مِنْ سُنَّتِهِمْ فِي
هَذَا الْيَوْمِ أَنَّهُ لَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ،
وَقَدْ قُتِلَ مَعَ هَذَا بَشَرٌ كَثِيرٌ جِدًّا، حَتَّى جَعَلَ عَلِيٌّ يَقُولُ
لِابْنِهِ الْحَسَنِ: يَا بُنَيَّ لَيْتَ أَبَاكَ مَاتَ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ
بِعِشْرِينَ سَنَةً. فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَهْ قَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ
هَذَا. |
فَلَمَّا رَكِبَ الْجَيْشَانِ، وَتَرَاءَى الْجَمْعَانِ، طَلَبَ عَلِيٌّ الزُّبَيْرَ، وَطَلْحَةَ، لِيُكَلِّمَهُمَا، فَاجْتَمَعُوا حَتَّى الْتَفَّتْ أَعْنَاقُ خُيُولِهِمْ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ قَالَ لَهُمَا: إِنِّي أَرَاكُمَا قَدْ جَمَعْتُمَا خَيْلًا وَرِجَالًا وَعَدَدًا، فَهَلْ أَعْدَدْتُمَا عُذْرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ ؟ فَاتَّقِيَا اللَّهَ، وَلَا تَكُونَا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا، أَلَمْ أَكُنْ أَخَاكُمَا فِي دِينِكُمَا، تُحَرِّمَانِ دَمِي وَأُحَرِّمُ دَمَكُمَا، فَهَلْ مِنْ حَدَثٍ أَحَلَّ لَكُمَا دَمِي ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: أَلَّبْتَ عَلَىَّ عُثْمَانَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ [ النُّورِ: 25 ] ثُمَّ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ قَتَلَةَ عُثْمَانَ. ثُمَّ قَالَ: يَا طَلْحَةُ، أَجِئْتَ بِعِرْسِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَقَاتِلُ بِهَا، وَخَبَّأْتَ عِرْسَكَ فِي الْبَيْتِ ! أَمَا بَايَعْتَنِي ؟ قَالَ: بَايَعْتُكَ وَالسَّيْفُ عَلَى عُنُقِي. وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ: مَا أَخْرَجَكَ ؟ قَالَ: أَنْتَ، وَلَا أَرَاكَ بِهَذَا الْأَمْرِ أَوْلَى بِهِ مِنِّي. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَتَذْكُرُ يَوْمَمَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي بَنِي غَنْمٍ فَنَظَرَ إِلَيَّ وَضَحِكَ وَضَحِكْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتَ: لَا يَدَعُ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ زَهْوَهُ. فَقَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهُ لَيْسَ بِمَزْهُوٍّ لَتُقَاتِلَنَّهُ، وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ " فَقَالَ الزُّبَيْرُ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، وَلَوْ ذَكَرْتُ مَا سِرْتُ مَسِيرِي هَذَا، |
وَوَاللَّهِ لَا أُقَاتِلُكَ. |
الْمَازِنِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ وَالزُّبَيْرِ بِهِ. |
عَلِيٌّ وَهُوَ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَادَى: ادْعُوَا لِيَ الزُّبَيْرَ بْنَ
الْعَوَّامِ فَإِنِّي عَلِيٌّ. فَدُعِيَ لَهُ الزُّبَيْرُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى
اخْتَلَفَتْ أَعْنَاقُ دَوَابِّهِمَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا زُبَيْرُ،
نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ، أَتَذْكُرُ يَوْمَ مَرَّ بِكَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْنُ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ: يَا
زُبَيْرُ تُحِبُّ عَلِيًّا ؟ ". فَقُلْتَ: أَلَا أُحِبُّ ابْنَ خَالِي
وَابْنَ عَمِّي وَعَلَى دِينِي ! فَقَالَ: " يَا زُبَيْرُ، أَمَا وَاللَّهِ
لَتُقَاتِلَنَّهُ وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ ؟ " فَقَالَ الزُّبَيْرُ: بَلَى
وَاللَّهِ لَقَدْ نَسِيتُهُ مُنْذُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرْتُهُ الْآنَ وَاللَّهِ لَا
أُقَاتِلُكَ. فَرَجَعَ الزُّبَيْرُ عَلَى دَابَّتِهِ يَشُقُّ الصُّفُوفَ،
فَعَرَضَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: مَا لَكَ ؟
فَقَالَ: ذَكَّرَنِي عَلِيٌّ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ:لَتُقَاتِلَنَّهُ وَأَنْتَ
ظَالِمٌ لَهُ فَقَالَ: وَلِلْقِتَالِ جِئْتَ ؟ إِنَّمَا جِئْتَ لِتُصْلِحَ
بَيْنَ النَّاسِ وَيُصْلِحَ اللَّهُ بِكَ هَذَا الْأَمْرَ. قَالَ: قَدْ حَلَفْتُ
أَنْ لَا أُقَاتِلَهُ. قَالَ: أَعْتِقْ غُلَامَكَ جِرْجِسَ، وَقِفْ حَتَّى
تُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ. فَأَعْتَقَ غُلَامَهُ، وَوَقَفَ، فَلَمَّا اخْتَلَفَ
أَمْرُ النَّاسِ ذَهَبَ عَلَى فَرَسِهِ. |
بْنِ إِيَاسِ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ لِطَلْحَةَ يَوْمَ الْجَمَلِ: أَمَا
سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ:
اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ " ؟ قَالَ: بَلَى.
وَانْصَرَفَ. وَقَدِ اسْتَغْرَبَهُ الْبَزَّارُ، وَهُوَ جَدِيرٌ بِذَلِكَ. |
وَادِي السِّبَاعِ. فَاتَّبَعَهُ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ،
فَجَاءَهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَقَتَلَهُ غِيلَةً، كَمَا سَنَذْكُرُ تَفْصِيلَهُ.
وَأَمَّا طَلْحَةُ فَجَاءَهُ فِي الْمَعْرَكَةِ سَهْمٌ غَرْبٌ، يُقَالُ: رَمَاهُ
بِهِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَانْتَظَمَ رِجْلَهُ مَعَ
فَرَسِهِ فَجَمَحَتْ بِهِ الْفَرَسُ فَجَعَلَ يَقُولُ: إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ
إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ. فَاتَّبَعَهُ مَوْلًى لَهُ فَأَمْسَكَهَا فَقَالَ
لَهُ: وَيْحَكَ اعْدِلْ بِي إِلَى الْبُيُوتِ. وَامْتَلَأَ خُفُّهُ دَمًا
فَقَالَ لِغُلَامِهِ: انْزِعْهُ وَارْدُفْنِي. وَذَلِكَ أَنَّهُ نَزَفَهُ
الدَّمُ وَضَعُفَ، فَرَكِبَ الْغُلَامُ وَرَاءَهُ، وَجَاءَ بِهِ إِلَى بَيْتٍ
فِي الْبَصْرَةِ فَمَاتَ فِيهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. |
الْمُصْحَفَ رَشَقُوهُ بِنِبَالِهِمْ رَشْقَةَ رَجُلٍ
وَاحِدٍ فَقَتَلُوهُ، وَوَصَلَتِ النِّبَالُ إِلَى هَوْدَجِ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَجَعَلَتْ تُنَادَى:
اللَّهَ اللَّهَ ! يَا بَنِيَّ اذْكُرُوا يَوْمَ الْحِسَابِ. وَرَفَعَتْ
يَدَيْهَا تَدْعُو عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، فَضَجَّ
النَّاسُ مَعَهَا بِالدُّعَاءِ حَتَّى وَصَلَتِ الضَّجَّةُ إِلَى عَلِيٍّ
فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا: أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ تَدْعُو عَلَى قَتَلَةِ
عُثْمَانَ وَأَشْيَاعِهِمْ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ الْعَنْ قَتَلَةَ عُثْمَانَ.
وَجَعَلَ أُولَئِكَ النَّفَرُ لَا يُقْلِعُونَ عَنْ رَشْقِ هَوْدَجِهَا
بِالنِّبَالِ حَتَّى بَقِيَ مِثْلَ الْقُنْفُذِ، وَجَعَلَتْ تُحَرِّضُ النَّاسَ
عَلَى مَنْعِهِمْ وَكَفِّهِمْ، فَحَمَلَتْ مُضَرُ حَمْلَةَ الْحَفِيظَةِ،
فَطَرَدُوهُمْ حَتَّى وَصَلَتِ الْحَمْلَةُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لِابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ:
وَيْحَكَ تَقَدَّمْ بِالرَّايَةِ. فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَأَخَذَهَا عَلِيٌّ مِنْ يَدِهِ
فَتَقَدَّمَ بِهَا وَجَعَلَتِ الْحَرْبُ تَأْخُذُ وَتُعْطِي ; فَتَارَةً
لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَتَارَةً لِأَهْلِ الْكُوفَةِ، حَتَّى قُتِلَ خَلْقٌ
كَثِيرٌ، وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَلَمْ تُرَ وَقْعَةٌ أَكْثَرُ مِنْ قَطْعِ
الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ فِيهَا مِنْ هَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَجَعَلَتْ عَائِشَةُ
تُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ،
وَنَظَرَتْ عَنْ يَمِينِهَا فَقَالَتْ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ ؟ فَقَالُوا:
نَحْنُ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ. فَقَالَتْ: لَكُمْ يَقُولُ الْقَائِلُ: |
وَيُقَالُ: إِنَّهُ قُطِعَتْ يَدُ سَبْعِينَ رَجُلًا وَهِيَ آخِذَةٌ بِخِطَامِ الْجَمَلِ. فَلَمَّا أُثْخِنُوا تَقَدَّمَ بَنُو عَدِيِّ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَرَفَعُوا رَأْسَ الْجَمَلِ، وَجَعَلَ أُولَئِكَ يَقْصِدُونَ الْجَمَلَ، وَقَالُوا: لَا يَزَالُ الْحَرْبُ قَائِمًا مَا دَامَ هَذَا الْجَمَلُ وَاقِفًا. وَرَأَسُ الْجَمَلِ فِي يَدِ عَمِيرَةَ بْنِ يَثْرِبِيِّ، وَقُتِلَ أَخُوهُ عَمْرُو بْنُ يَثْرِبِيِّ، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْمَذْكُورِينَ، وَالْفُرْسَانِ الْمَشْهُورِينَ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ هِنْدُ بْنُ عَمْرٍو الْجَمَلِيُّ، فَقَتَلَهُ ابْنُ يَثْرِبِيٍّ، ثُمَّ صَمَدَ إِلَيْهِ عِلْبَاءُ بْنُ الْهَيْثَمِ، فَقَتْلَهُ ابْنُ يَثْرِبِيٍّ أَيْضًا، وَقَتَلَ سَيَحَانَ بْنَ صُوحَانَ، وَارْتُثَّ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ، فَدَعَاهُ عَمَّارٌ إِلَى الْبِرَازِ فَبَرَزَ لَهُ، فَتَجَاوَلَا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ - وَعَمَّارٌ يَوْمَئِذٍ ابْنُ تِسْعِينَ سَنَةً، عَلَيْهِ فَرْوَةٌ قَدْ رَبَطَ وَسَطَهُ بِحَبْلِ لِيفٍ - فَقَالَ النَّاسُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، الْآنَ يُلْحِقُ عَمَّارًا بِأَصْحَابِهِ. فَضَرَبَهُ ابْنُ يَثْرِبِيٍّ بِالسَّيْفِ فَاتَّقَاهُ عَمَّارٌ بِدَرَقَتِهِ، فَعَضَّتِ السَّيْفَ وَنَشِبَ فِيهَا، |
وَضَرَبَهُ عَمَّارٌ فَقَطَعَ رِجْلَيْهِ، وَأَخَذَهُ
أَسِيرًا إِلَى بَيْنِ يَدَيْ عَلِيٍّ فَقَالَ: اسْتَبْقِنِي يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: أَبَعْدَ ثَلَاثَةٍ تَقْتُلُهُمْ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ
فَقُتِلَ. وَاسْتَمَرَّ زِمَامُ الْجَمَلِ بِيَدِ رَجُلٍ بَعْدَهُ كَانَ قَدِ
اسْتَنَابَهُ فِيهِ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ رَبِيعَةُ
الْعَقِيلِيُّ، فَتَجَاوَلَا حَتَّى قَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ،
وَأَخَذَ الزِّمَامَ الْحَارِثُ الضَّبِّيُّ، فَمَا رُئِيَ أَشَدَّ مِنْهُ
وَجَعَلَ يَقُولُ: |
ثُمَّ أَخَذَ الْخِطَامَ سَبْعُونَ رَجُلًا مِنْ
قُرَيْشٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يُقْتَلُ بَعْدَ صَاحِبِهِ، فَكَانَ مِنْهُمْ
مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ الْمَعْرُوفُ بِالسَّجَّادِ، فَقَالَ لِعَائِشَةَ:
مُرِينِي بِأَمْرِكِ يَا أُمَّاهُ. فَقَالَتْ: آمُرُكَ أَنْ تَكُونَ كَخَيْرِ
ابْنَيْ آدَمَ. فَامْتَنَعَ أَنْ يَنْصَرِفَ وَثَبَتَ فِي مَكَانِهِ، وَجَعَلَ
يَقُولُ: حم لَا يُنْصَرُونَ. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ نَفَرٌ فَحَمَلُوا عَلَيْهِ
فَقَتَلُوهُ، وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ يَدَّعِي قَتْلَهُ،
وَقَدْ طَعَنَهُ بَعْضُهُمْ بِحَرْبَةٍ فَأَنْفَذَهُ وَقَالَ: |
وَالْمُرُوءَاتِ وَالشَّجَاعَةِ بِعَائِشَةَ، فَكَانَ لَا
يَأْخُذُ الرَّايَةَ وَالْخِطَامَ إِلَّا شُجَاعٌ مَعْرُوفٌ، فَيَقْتُلُ مَنْ
قَصَدَهُ، ثُمَّ يُقْتَلُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ فَقَأَ بَعْضُهُمْ عَيْنَعَدِيِّ
بْنِ حَاتِمٍ ذَلِكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْجَمَلِ وَهُوَ لَا يَتَكَلَّمُ، فَقِيلَ
لِعَائِشَةَ: إِنَّهُ ابْنُكِ ابْنُ أُخْتِكِ. فَقَالَتْ: وَاثُكْلَ أَسْمَاءَ !
وَجَاءَ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ فَاقْتَتَلَا،
فَضَرَبَهُ الْأَشْتَرُ عَلَى رَأْسِهِ فَجَرَحَهُ جُرْحًا شَدِيدًا وَضَرَبَهُ
عَبْدُ اللَّهِ ضَرْبَةً خَفِيفَةً، ثُمَّ اعْتَنَقَا وَسَقَطَا إِلَى الْأَرْضِ
يَعْتَرِكَانِ، فَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: |
وَمَنْ يُمْسِكُ بِالزِّمَامِ بُرْجَاسًا لِلرِّمَاحِ،
وَلِيَنْفَصِلَ هَذَا الْمَوْقِفُ الَّذِي قَدْ تَفَانَى فِيهِ النَّاسُ.
وَلَمَّا سَقَطَ الْجَمَلُ إِلَى الْأَرْضِ انْهَزَمَ مَنْ حَوْلَهُ، وَحُمِلَ
هَوْدَجُ عَائِشَةَ وَإِنَّهُ لَكَالْقُنْفُذِ مِنْ كَثْرَةِ النُّشَّابِ،
وَنَادَى مُنَادِي عَلِيٍّ فِي النَّاسِ: إِنَّهُ لَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ، وَلَا
يَذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا يَدْخُلُوا الدُّورَ. وَأَمَرَ عَلِيٌّ نَفَرًا
أَنْ يَحْمِلُوا الْهَوْدَجَ مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى، وَأَمَرَ مُحَمَّدَ بْنَ
أَبِي بَكْرٍ وَعَمَّارًا أَنْ يَضْرِبَا عَلَيْهَا قُبَّةً، وَجَاءَ إِلَيْهَا
أَخُوهَا مُحَمَّدٌ فَسَأَلَهَا: هَلْ وَصَلَ إِلَيْكِ شَيْءٌ مِنَ الْجِرَاحِ ؟
فَقَالَتْ: وَمَا أَنْتَ وَذَاكَ يَا ابْنَ الْخَثْعَمِيَّةِ. وَسَلَّمَ
عَلَيْهَا عَمَّارٌ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتِ يَا أُمَّ ؟ فَقَالَتْ: لَسْتُ لَكَ
بِأُمٍّ. قَالَ: بَلَى وَإِنْ كَرِهْتِ. وَجَاءَ إِلَيْهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ مُسَلِّمًا فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتِ يَا أُمَّهْ ؟ قَالَتْ: بِخَيْرٍ.
فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكِ. وَجَاءَ وُجُوهُ النَّاسِ إِلَيْهَا، مِنَ
الْأُمَرَاءِ وَالْأَعْيَانِ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهَا. |
خَرَابَاتِ الْأَزْدِ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ دَخَلَتْ
أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ الْبَصْرَةَ، وَمَعَهَا أَخُوهَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي
بَكْرٍ، فَنَزَلَتْ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ الْخُزَاعِيِّ -
وَهِيَ أَعْظَمُ دَارٍ بِالْبَصْرَةِ - عَلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ
طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ
الدَّارِ، وَهِيَ أُمُّ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ،
وَتَسَلَّلَ الْجَرْحَى مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى فَدَخَلُوا الْبَصْرَةَ، وَأَقَامَ
عَلِيٌّ بِظَاهِرِ الْبَصْرَةِ ثَلَاثًا، وَقَدْ طَافَ عَلِيٌّ بَيْنَ
الْقَتْلَى، فَجَعَلَ كُلَّمَا مَرَّ بِرَجُلٍ يَعْرِفُهُ يَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ
وَيَقُولُ: يَعِزُّ عَلَيَّ أَنْ أَرَى قُرَيْشًا صَرْعَى. وَقَدْ مَرَّ عَلِيٌّ
- فِيمَا ذُكِرَ - عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ مَقْتُولٌ،
فَقَالَ: لَهْفِي عَلَيْكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: |
خَمْسَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَخَمْسَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ،
رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ. وَقَدْ سَأَلَ بَعْضُ
أَصْحَابِ عَلِيٍّ عَلِيًّا أَنْ يُقَسِّمَ فِيهِمْ أَمْوَالُ أَصْحَابِ
طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ فَطَعَنَ فِيهِ السَّبَئِيَّةُ
وَقَالُوا: كَيْفَ يَحُلُّ لَنَا دِمَاؤُهُمْ وَلَا تَحُلُّ لَنَا أَمْوَالُهُمْ
؟ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ تَصِيرَ أُمُّ
الْمُؤْمِنِينَ فِي سَهْمِهِ ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، وَلِهَذَا لَمَّا دَخَلَ
الْبَصْرَةَ فَرَّقَ فِي أَصْحَابِهِ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ، فَنَالَ كُلُّ
رَجُلٍ مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةٍ، وَقَالَ: لَكُمْ مِثْلُهَا مِنَ الشَّامِ فِي
أَعْطِيَاتِكُمْ. فَتَكَلَّمَ فِيهِ السَّبَئِيَّةُ أَيْضًا، وَنَالُوا مِنْهُ
مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ. |
الْجَرْحَى وَالْمُسْتَأْمِنَةُ. وَجَاءَهُ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ الثَّقَفِيُّ، فَبَايَعَهُ فَقَالَ لَهُ
عَلِيٌّ: أَيْنَ الْمَرِيضُ - يَعْنِي أَبَاهُ ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ وَاللَّهِ
مَرِيضٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهُ عَلَى مَسَرَّتِكَ لَحَرِيصٌ.
فَقَالَ: امْشِ أَمَامِي، فَمَضَى إِلَيْهِ فَعَادَهُ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ
أَبُو بَكْرَةَ فَعَذَرَهُ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْبَصْرَةَ فَامْتَنَعَ وَقَالَ:
رَجُلٌ مِنْ أَهْلِكَ يَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّاسُ. وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِابْنِ
عَبَّاسٍ فَوَلَّاهُ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَجَعَلَ مَعَهُ زِيَادَ بْنَ أَبِيهِ
عَلَى الْخَرَاجِ وَبَيْتِ الْمَالِ، وَأَمَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَنْ يَسْمَعَ
مِنْ زِيَادٍ وَكَانَ زِيَادٌ مُعْتَزِلًا. |
وَلَمَّا أَرَادَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ
الْخُرُوجَ مِنَ الْبَصْرَةِ بَعَثَ إِلَيْهَا عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
بِكُلِّ مَا يَنْبَغِي مِنْ مَرْكَبٍ وَزَادٍ وَمَتَاعٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَأَذِنَ لِمَنْ نَجَا مِمَّنْ جَاءَ فِي جَيْشِهَا أَنْ يَرْجِعَ مَعَهَا،
إِلَّا أَنْ يُحِبَّ الْمَقَامَ، وَاخْتَارَ لَهَا أَرْبَعِينَ امْرَأَةً مِنْ
نِسَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ الْمَعْرُوفَاتِ. وَسَيَّرَ مَعَهَا أَخَاهَا
مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي ارْتَحَلَتْ
فِيهِ، جَاءَ عَلِيٌّ فَوَقَفَ عَلَى الْبَابِ وَحَضَرَ النَّاسُ مَعَهُ
وَخَرَجَتْ مِنَ الدَّارِ فِي الْهَوْدَجِ، فَوَدَّعَتِ النَّاسَ وَدَعَتْ
لَهُمْ وَقَالَتْ: يَا بَنِيَّ لَا يَعْتِبْ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، إِنَّهُ
وَاللَّهِ مَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَلِيٍّ فِي الْقِدَمِ إِلَّا مَا يَكُونُ
بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأَحْمَائِهَا، وَإِنَّهُ عَلَى مَعْتَبَتِي لَمِنَ
الْأَخْيَارِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: صَدَقَتْ وَاللَّهِ مَا كَانَ بَيْنِي
وَبَيْنَهَا إِلَّا ذَاكَ وَإِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ، صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَسَارَ عَلِيٌّ مَعَهَا
مُوَدِّعًا وَمُشَيِّعًا أَمْيَالًا وَسَرَّحَ بَنِيهِ مَعَهَا بَقِيَّةَ ذَلِكَ
الْيَوْمِ - وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ مُسْتَهَلَّ رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ
وَثَلَاثِينَ - وَقَصَدَتْ فِي مَسِيرِهَا ذَلِكَ إِلَى مَكَّةَ، فَأَقَامَتْ
بِهَا إِلَى أَنْ حَجَّتْ عَامَهَا ذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا |
قَالُوا: وَقَدْ عَلِمَ مَنْ بَيْنَ مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ بِالْوَقْعَةِ يَوْمَ الْوَقْعَةِ، وَذَلِكَ
مِمَّا كَانَتِ النُّسُورُ تَخْطَفُهُ مِنَ الْأَيْدِي وَالْأَقْدَامِ
فَيَسْقُطُ مِنْهَا هُنَالِكَ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ عَلِمُوا
بِذَلِكَ يَوْمَ الْجَمَلِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَذَلِكَ أَنَّ
نَسْرًا مَرَّ بِهِمْ وَمَعَهُ شَيْءٌ فَسَقَطَ مِنْهُ فَإِذَا هُوَ كَفٌّ فِيهِ
خَاتَمٌ نَقْشُهُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَتَّابٍ. |
يُحْصَوْنَ كَثْرَةً. |
وَيُعْرَفُ بِطَلْحَةَ الْخَيْرِ، وَطَلْحَةَ الْفَيَّاضِ
; لِكَثْرَةِ بِرِّهِ، وَكَثْرَةِ جُودِهِ. أَسْلَمَ قَدِيمًا عَلَى يَدَيْ
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَكَانَ نَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدِ بْنِ
الْعَدَوِيَّةِ يَشُدُّهُمَا فِي حَبْلٍ وَاحِدٍ، وَلَا تَسْتَطِيعُ بَنُو
تَيْمٍ أَنْ تَمْنَعَهُمَا مِنْهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ يُقَالُ لِطَلْحَةَ وَأَبِي
بَكْرٍ: الْقَرِينَانِ. وَقَدْ هَاجَرَ وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، وَشَهِدَ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا
إِلَّا بَدْرًا، فَإِنَّهُ كَانَ بِالشَّامِ فِي تِجَارَةٍ وَقِيلَ: فِي
رِسَالَةٍ ; لِهَذَا ضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ مِنْ بَدْرٍ. وَكَانَتْ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ
الْيَدُ الْبَيْضَاءُ وَشُلَّتْ يَدُهُ يَوْمَئِذٍ ; لِأَنَّهُ وَقَى بِهَا
رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَمَرَّتْ كَذَلِكَ
إِلَى أَنْ مَاتَ. وَكَانَ الصِّدِّيقُ إِذَا حَدَّثَ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ
يَقُولُ: ذَاكَ يَوْمٌ كَانَ كُلُّهُ لِطَلْحَةَ. وَقَدْ قَالَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَئِذٍ: أَوْجَبَ طَلْحَةُ
". وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، دِرْعَانِ، فَأَرَادَ أَنْ يَنْهَضَ وَهُمَا عَلَيْهِ لِيَصْعَدَ
صَخْرَةً هُنَالِكَ فَمَا اسْتَطَاعَ فَطَأْطَأَ لَهُ طَلْحَةُ، فَصَعِدَ عَلَى
ظَهْرِهِ حَتَّى اسْتَوَى عَلَيْهَا، وَقَالَ: أَوْجَبَ طَلْحَةُ ". |
صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَأَحْسَنَ صُحْبَتَهُ حَتَّى تُوُفِّيَ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ،
وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. فَلَمَّا كَانَتْ قَضِيَّةُ عُثْمَانَ
اعْتَزَلَ عَنْهُ، فَنَسَبَهُ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى تَحَامُلٍ عَلَيْهِ ;
فَلِهَذَا لَمَّا حَضَرَ يَوْمَ الْجَمَلِ وَاجْتَمَعَ بِهِ عَلِيٌّ فَوَعَظَهُ،
تَأَخَّرَ فَوَقَفَ فِي بَعْضِ الصُّفُوفِ، فَجَاءَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَوَقَعَ
فِي رُكْبَتِهِ. وَقِيلَ: فِي رَقَبَتِهِ. وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَانْتَظَمَ
السَّهْمُ مَعَ سَاقِهِ خَاصِرَةَ الْفَرَسِ، فَجَمَحَ بِهِ حَتَّى كَادَ
يُلْقِيهِ وَجَعَلَ يَقُولُ: إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ. فَأَدْرَكَهُ مَوْلًى
لَهُ فَرَكِبَ وَرَاءَهُ وَأَدْخَلَهُ الْبَصْرَةَ، فَمَاتَ بِدَارٍ فِيهَا.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَاتَ بِالْمَعْرَكَةِ، وَإِنَّ عَلِيًّا لَمَّا دَارَ
بَيْنَ الْقَتْلَى رَآهُ فَجَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ التُّرَابَ وَقَالَ:
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا مُحَمَّدٍ، يَعِزُّ عَلَيَّ أَنْ أَرَاكَ
مُجَدَّلًا تَحْتَ نُجُومِ السَّمَاءِ. ثُمَّ قَالَ: إِلَى اللَّهِ أَشْكُو
عُجَرِي وَبُجَرِي، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ مِتُّ قَبْلَ هَذَا
الْيَوْمِ بِعِشْرِينَ سَنَةً. وَيُقَالُ: إِنَّ الَّذِي رَمَاهُ بِهَذَا
السَّهْمِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَقَالَ لَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ: قَدْ
كَفَيْتُكَ رَجُلًا مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي
رَمَاهُ غَيْرُهُ. وَهَذَا عِنْدِي أَقْرَبُ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ
مَشْهُورًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ
مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. |
وَكَانَ آدَمَ وَقِيلَ: أَبْيَضَ. حَسَنَ الْوَجْهِ
كَثِيرَ الشَّعْرِ، إِلَى الْقِصَرِ أَقْرَبَ، وَكَانَتْ غَلَّتُهُ فِي كُلِّ
يَوْمٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ |
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالُوا لِأَعْرَابِيٍّ جَاءَ يَسْأَلُ عَمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ
فَقَالُوا: سَلْ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَسَأَلَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْرَضَ
عَنْهُ، ثُمَّ اطَّلَعْتُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ وَعَلَيَّ ثِيَابٌ خُضْرٌ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " أَيْنَ السَّائِلُ ؟ ". قَالَ: هَا أَنَا
ذَا. فَقَالَ: " هَذَا مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ ". |
وَالزُّبَيْرُ وَعُثْمَانُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ
مُتَقَابِلِينَ [ الْحِجْرِ: 47 ]. |
وَأُمُّهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ;
عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَسْلَمَ
الزُّبَيْرُ قَدِيمًا وَعُمُرُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: أَقَلُّ.
وَقِيلَ: أَكْثَرُ. وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ ثُمَّ إِلَى الْمَدِينَةِ
فَآخَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ
سَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍّ، وَقَدْ شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا،
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ
الْأَحْزَابِ: " مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ ؟ ". فَقَالَ:
أَنَا. ثُمَّ نَدَبَ النَّاسَ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ،
فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَرِايًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ " ثَبَتَ
ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ زِرٍّ، عَنْ عَلِيٍّ، وَثَبَتَ عَنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ
قَالَ:جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
أَبَوَيْهِ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ. |
أَسْمَاءَ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ مِنْهَا ; أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَخَرَجَ مَعَ النَّاسِ إِلَى الشَّامِ مُجَاهِدًا، فَشَهِدَ الْيَرْمُوكَ فَتَشَرَّفُوا بِحُضُورِهِ، وَكَانَتْ لَهُ بِهَا الْيَدُ الْبَيْضَاءُ، وَالْهِمَّةُ الْعَلْيَاءُ، اخْتَرَقَ جُيُوشُ الرُّومِ وَصُفُوفَهُمْ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ مَرَّتَيْنِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ. وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ دَافَعَ عَنْ عُثْمَانَ وَجَاحَفَ عَنْهُ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجَمَلِ ذَكَّرَهُ عَلِيٌّ بِمَا ذَكَّرَهُ بِهِ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَرَجَعَ عَنِ الْقِتَالِ، وَكَرَّ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَرَّ بِقَوْمِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ - وَكَانُوا قَدِ اعْتَزَلُوا الْفَرِيقَيْنِ - فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ ; يُقَالُ: هُوَ الْأَحْنَفُ: مَا بَالَ هَذَا جَمَعَ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى إِذَا الْتَقَوْا كَرَّ رَاجِعًا إِلَى أَهْلِهِ ؟ مَنْ رَجُلٌ يَكْشِفُ لَنَا خَبَرَهُ ؟ فَاتَّبَعَهُ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ وَفَضَالَةُ بْنُ حَابِسٍ، وَنُفَيْعٌ فِي طَائِفَةٍ مِنْ غُوَاةِ بَنِي تَمِيمٍ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمَّا أَدْرَكُوهُ تَعَاوَنُوا عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلُوهُ. وَيُقَالُ: بَلْ أَدْرَكَهُ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً. فَقَالَ: ادْنُ. فَقَالَ مَوْلَى الزُّبَيْرِ ; وَاسْمُهُ عَطِيَّةُ: أَرَى مَعَهُ سِلَاحًا. فَقَالَ: وَإِنْ كَانَ. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ فَجَعَلَ يُحَادِثُهُ وَحَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ الزُّبَيْرُ: الصَّلَاةُ. فَقَالَ: الصَّلَاةُ. فَتَقَدَّمَ الزُّبَيْرُ لِيُصَلِّيَ بِهِمَا، فَطَعَنَهُ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ فَقَتْلَهُ. وَيُقَالُ: بَلْ أَدْرَكَهُ عَمْرٌو بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ: وَادِي السِّبَاعِ. وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْقَائِلَةِ، فَهَجَمَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَشْهَرُ، وَيَشْهَدُ لَهُ شَعْرُ امْرَأَتِهِ عَاتِكَةُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَكَانَ آخَرَ |
مَنْ تَزَوَّجَهَا - وَكَانَتْ قَبْلَهُ تَحْتَ عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ فَقُتِلَ عَنْهَا أَيْضًا، وَكَانَتْ قَبْلَ عُمَرَ تَحْتَ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقُتِلَ عَنْهَا - فَلَمَّا
قُتِلَ الزُّبَيْرُ رَثَتْهُ بِقَصِيدَةٍ جَيِّدَةِ الشِّعْرِ مَحْكَمَةِ
الْمَعْنَى، فَقَالَتْ: |
بِالنَّارِ. وَدَخَلَ ابْنُ جُرْمُوزٍ وَمَعَهُ سَيْفُ
الزُّبَيْرِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ هَذَا السَّيْفَ طَالَمَا فَرَّجَ
الْكَرْبَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَيُقَالُ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ جُرْمُوزٍ لَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ قَتَلَ نَفْسَهُ.
وَقِيلَ: بَلْ عَاشَ إِلَى أَنْ تَأَمَّرَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى
الْعِرَاقِ، فَاخْتَفَى مِنْهُ، فَقِيلَ لِمُصَعَبٍ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ
جُرْمُوزٍ هَاهُنَا وَهُوَ مُخْتَفٍ، فَهَلْ لَكَ فِيهِ ؟ فَقَالَ: مُرُوهُ
فَلْيَظْهَرْ فَهُوَ آمِنٌ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ لِأُقِيدَ لِلزُّبَيْرِ مِنْهُ
فَهُوَ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ أَجْعَلَهُ عِدْلًا لِلزُّبَيْرِ. |
عَلَيْهِ مِنَ الْجِهَادِ، وَمِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ
مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْهُ، وَمِنَ التِّجَارَةِ الْمَبْرُورَةِ. وَقَدْ
قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ لَهُ أَلْفُ مَمْلُوكٍ يُؤَدُّونَ إِلَيْهِ الْخَرَاجَ،
فَرُبَّمَا تَصَدَّقَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ بِخَرَاجِهِمْ كُلِّهِمْ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ. |
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسَاعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَكَتَبَ بِذَلِكَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ
إِلَى عُثْمَانَ يَشْكُوهُمَا إِلَيْهِ، فَلَمْ يَعْبَأْ بِهِمَا عُثْمَانُ
شَيْئًا، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُذَيْفَةَ حَتَّى
اسْتَنْفَرَ أُولَئِكَ إِلَى عُثْمَانَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُمْ قَدْ
حَصَرُوا عُثْمَانَ، تَغَلَّبَ عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَخْرَجَ
مِنْهَا ابْنَ أَبِي سَرْحٍ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ فِيهَا، فَلَمَّا كَانَ ابْنُ
أَبِي سَرْحٍ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِقَتْلِ عُثْمَانَ،
فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَبَلَغَهُ أَنَّ
عَلِيًّا قَدْ بَعَثَ عَلَى إِمْرَةِ مِصْرَ قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ،
فَشَمِتَ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُذَيْفَةَ إِذْ لَمْ يُمَتَّعْ بِمُلْكِ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ سَنَةً. وَسَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ
أَبِي سَرْحٍ إِلَى الشَّامِ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ
أَمْرِهِ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ قَدِ
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، فَسَارَ مُعَاوِيَةُ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَيْهِ
لِيُخْرِجَاهُ مِنْهَا ; لِأَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْأَعْوَانِ عَلَى قَتْلِ
عُثْمَانَ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ رَبَّاهُ وَكَفَلَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ،
فَعَالَجَا دُخُولَ مِصْرَ فَلَمْ يَقْدِرَا، فَلَمْ يَزَالَا يَخْدَعَانِهِ
حَتَّى خَرَجَ إِلَى الْعَرِيشِ فِي أَلْفِ رَجُلٍ فَتَحَصَّنَ بِهَا، وَجَاءَهُ
عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَنَصَبَ عَلَيْهِ الْمَنْجَنِيقَ حَتَّى نَزَلَ فِي
ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقُتِلُوا. ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ |
فَرَقِيَ الْمِنْبَرَ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي هَذَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكُمْ كَثِيرًا الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ بِحُسْنِ صَنِيعِهِ وَتَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ اخْتَارَ الْإِسْلَامَ دِينًا لِنَفْسِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ، وَبَعَثَ بِهِ الرُّسُلَ إِلَى عِبَادِهِ، وَخَصَّ بِهِ مَنِ انْتَخَبَ مِنْ خَلْقِهِ، فَكَانَ مِمَّا أَكْرَمَ اللَّهُ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَخَصَّهُمْ بِهِ مِنَ الْفَضِيلَةِ أَنْ بَعَثَ مُحَمَّدًا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالْفَرَائِضَ وَالسَّنَةَ ; لِكَيْمَا يَهْتَدُوا، وَجَمَعَهُمْ لِكَيْلَا يَتَفَرَّقُوا، وَزَكَّاهُمْ لِكَيْ يَتَطَهَّرُوا، وَوَفَّقَهُمْ لِكَيْلَا يَجُورُوا، فَلَمَّا قَضَى مِنْ ذَلِكَ مَا عَلَيْهِ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَبَرَكَاتُهُ وَرَحْمَتُهُ، ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ اسْتَخْلَفُوا بَعْدَهُ أَمِيرَيْنِ صَالِحَيْنِ، عَمِلَا بِالْكِتَابِ، وَأَحْسَنَا السِّيرَةَ وَلَمْ يَعْدُوَا السُّنَّةَ، ثُمَّ تَوَفَّاهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، فَرَحِمَهُمَا اللَّهُ، ثُمَّ وَلَّى بَعْدَهُمَا وَالٍ أَحْدَثَ أَحْدَاثًا، فَوَجَدَتِ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ مَقَالًا فَقَالُوا، ثُمَّ نَقَمُوا عَلَيْهِ فَغَيَّرُوا، ثُمَّ جَاءُونِي فَبَايَعُونِي، فَأَسْتَهْدِي اللَّهَ بِهُدَاهُ، وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى التَّقْوَى، أَلَا وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْنَا الْعَمَلَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَالْقِيَامَ عَلَيْكُمْ بِحَقِّهِ، وَالنُّصْحَ لَكُمْ بِالْغَيْبِ - وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ - وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَوَازِرُوهُ وَكَانِفُوهُ وَأَعِينُوهُ عَلَى الْحَقِّ، وَقَدْ أَمَرْتُهُ |
بِالْإِحْسَانِ إِلَى مُحْسِنِكُمْ، وَالشِّدَّةِ عَلَى
مُرِيبِكُمْ، وَالرِّفْقِ بِعَوَامِّكُمْ وَخَوَاصِّكُمْ، وَهُوَ مِمَّنْ
أَرْضَى هَدْيَهُ وَأَرْجُو صَلَاحَهُ وَنَصِيحَتَهُ، أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا
وَلَكُمْ عَمَلَا زَاكِيًا، وَثَوَابًا جَزِيلًا، وَرَحْمَةً وَاسِعَةً،
وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. وَكَتَبَ عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ فِي صَفَرٍ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. |
حُكْمِهِ يَأْتِيِهِ حِمْلُهَا - وَبَعْضِ بِلَادِ
الْجَزِيرَةِ ; كَالرُّهَا وَحَرَّانَ وَقَرْقِيسِيَاءَ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ
أَتَاهُ الَّذِينَ هَرَبُوا يَوْمَ الْجَمَلِ مِنَ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَقَدْ
أَرَادَ الْأَشْتَرُ انْتِزَاعَ هَذِهِ الْبِلَادِ مِنْ نُوَّابِ مُعَاوِيَةَ،
فَبَعْثَ إِلَيْهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَفَرَّ
مِنْهُ الْأَشْتَرُ وَهَرَبَ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ مُعَاوِيَةَ عَلَى تِلْكَ
الْبِلَادِ، فَلَمَّا اسْتَوْسَقَتْ لَهُ الْبِلَادُ كَمَا ذَكَرْنَا، كَتَبَ
إِلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ يَدْعُوهُ إِلَى الْقِيَامِ بِطَلَبِ دَمِ عُثْمَانَ،
وَأَنْ يَكُونَ مُؤَازِرًا لَهُ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ مِنَ الْقِيَامِ فِي
ذَلِكَ، وَوَعَدَهُ أَنْ يَكُونَ نَائِبَهُ عَلَى الْعِرَاقَيْنِ إِذَا تَمَّ
لَهُ الْأَمْرُ مَا دَامَ سُلْطَانًا. |
ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ، يَئِسَ مِنْهُ وَرَجَعَ عَنْهُ. |
التَّحْكِيمِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ طَمِعَ أَهْلُ مِصْرَ فِي
مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَاجْتَرَءُوا عَلَيْهِ وَبَارَزُوهُ
بِالْعَدَاوَةِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ
الْعَاصِ قَدْ بَايَعَ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْقِيَامِ بِطَلَبِ دَمِ عُثْمَانَ
وَكَانَ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ حِينَ أَرَادُوا حَصْرَهُ ; لِئَلَّا
يَشْهَدَ مَهْلِكَهُ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُتَعَتِّبًا عَلَى عُثْمَانَ بِسَبَبِ
عَزْلِهِ لَهُ عَنْ دِيَارِ مِصْرَ وَهُوَ الَّذِي فَتَحَهَا، وَتَوْلِيَتِهِ بَدَلَهُ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي سَرْحٍ، فَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى تَغَضُّبٍ
وَغَيْظٍ، فَنَزَلَ قَرِيبًا مِنَ الْأُرْدُنِّ، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، صَارَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَبَايَعَهُ عَلَى مَا
ذَكَرْنَا مِنَ الْقِيَامِ بِدَمِ عُثْمَانَ. |
حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ لِشُعْبَةَ:
إِنَّ أَبَا شَيْبَةَ رَوَى عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
لَيْلَى قَالَ: شَهِدَ صِفِّينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ سَبْعُونَ رَجُلًا. فَقَالَ:
كَذَبَ أَبُو شَيْبَةَ، وَاللَّهِ لَقَدْ ذَاكَرْنَا الْحَكَمَ فِي ذَلِكَ،
فَمَا وَجَدْنَاهُ شَهِدَ صِفِّينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ غَيْرَ خُزَيْمَةَ بْنِ
ثَابِتٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ شَهِدَهَا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ سَهْلُ بْنُ
حُنَيْفٍ، وَكَذَا أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ. قَالَهُ شَيْخُنَا
الْعَلَّامَةُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي كِتَابِ " الرَّدِّ عَلَى
الرَّافِضَةِ ". وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ
الْأَشَجِّ أَنَّهُ قَالَ: أَمَا إِنَّ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ لَزِمُوا
بُيُوتَهُمْ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ فَلَمْ يَخْرُجُوا إِلَّا إِلَى قُبُورِهِمْ. |
عَلَى نِيَابَةِ أَذْرَبِيجَانَ مِنْ أَيَّامِ عُثْمَانَ - يَأْمُرُهُمَا أَنْ يَأْخُذَا الْبَيْعَةَ لَهُ عَلَى مَنْ هُنَالِكَ ثُمَّ يُقْبِلَا إِلَيْهِ، فَفَعَلَا ذَلِكَ. فَلَمَّا أَرَادَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنْ يَبْعَثَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَدْعُوهُ إِلَى بَيْعَتِهِ، قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَا أَذْهَبُ إِلَيْهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وُدًّا، فَآخُذُ لَكَ الْبَيْعَةَ مِنْهُ. فَقَالَ الْأَشْتَرُ: لَا تَبْعَثْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَوَاهُ مَعَهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: دَعْهُ. فَبَعَثَهُ وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى مُعَاوِيَةَ يُعْلِمُهُ بِاجْتِمَاعِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى بَيْعَتِهِ، وَيُخْبِرُهُ بِمَا كَانَ فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ، وَيَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَعْطَاهُ الْكِتَابَ. وَطَلَبَ مُعَاوِيَةُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَرُءُوسَ أَهْلِ الشَّامِ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُبَايِعُوا حَتَّى يَقْتُلَ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، أَوْ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِمْ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَاتَلُوهُ وَلَمْ يُبَايِعُوهُ حَتَّى يَقْتُلَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ. فَرَجَعَ جَرِيرٌ إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالُوا، فَقَالَ الْأَشْتَرُ: أَلَمْ أَنْهَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَبْعَثَ جَرِيرًا ؟ فَلَوْ كُنْتَ بَعَثْتَنِي لَمَا فَتَحَ مُعَاوِيَةُ بَابًا إِلَّا أَغْلَقْتُهُ. فَقَالَ لَهُ جَرِيرٌ لَوْ كُنْتَ ثَمَّ لَقَتَلُوكَ بِدَمِ عُثْمَانَ. فَقَالَ الْأَشْتَرُ: وَاللَّهِ لَوْ بَعَثَنِي لَمْ يُعْيِنِي جَوَابُ مُعَاوِيَةَ وَلَأُعْجِلَنَّهُ عَنِ الْفِكْرَةِ، وَلَوْ أَطَاعَنِي فِيكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، لَحَبَسَكَ وَأَمْثَالَكَ حَتَّى يَسْتَقِيمَ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَقَامَ جَرِيرٌ مُغْضَبًا فَأَقَامَ بِقَرْقِيسِياءَ، وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يُخْبِرُهُ بِمَا قَالَ وَمَا قِيلَ لَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ. |
وَخَرَجَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ مِنَ الْكُوفَةِ
عَازِمًا عَلَى الدُّخُولِ إِلَى الشَّامِ، فَعَسْكَرَ بِالنُّخَيْلَةِ،
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ أَبَا مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنَ عَمْرٍو
الْبَدْرِيَّ الْأَنْصَارِيَّ، وَكَانَ قَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ بِأَنْ
يُقِيمَ بِالْكُوفَةِ وَيَبْعَثَ الْجُنُودَ، وَأَشَارَ آخَرُونَ عَلَيْهِ
بِالْخُرُوجِ بِنَفْسِهِ. وَبَلَغَ مُعَاوِيَةَ أَنَّ عَلِيًّا قَدْ خَرَجَ
إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَاسْتَشَارَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ
إِلَيْهِ أَيْضًا أَنْتَ بِنَفْسِكَ. وَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي
النَّاسِ خَطِيبًا فَقَالَ: إِنَّ صَنَادِيدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ
قَدْ تَفَانَوْا يَوْمَ الْجَمَلِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ عَلِيٍّ إِلَّا
شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مِمَّنْ قَتَلَ الْخَلِيفَةَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
عُثْمَانَ، فَاللَّهَ اللَّهَ فِي حَقِّكُمْ أَنْ تُضَيِّعُوهُ، وَفِي دَمِ
عُثْمَانَ خَلِيفَةِ اللَّهِ فَلَا تُطِلُّوهُ. وَكَتَبَ إِلَى أَجْنَادِ
الشَّامِ فَحَضَرُوا، وَعُقِدَتِ الْأَلْوِيَةُ وَالرَّايَاتُ لِلْأُمَرَاءِ،
وَتَهَيَّأَ أَهْلُ الشَّامِ وَتَأَهَّبُوا، وَخَرَجُوا أَيْضًا إِلَى نَحْوِ
الْفُرَاتِ مِنْ نَاحِيَةِ صِفِّينَ - حَيْثُ يَكُونُ مَقْدَمُ عَلِيٍّ -
وَسَارَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِمَنْ مَعَهُ مِنَ النُّخَيْلَةِ
قَاصِدًا أَرْضَ الشَّامِ. |
عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي مُسْلِمٌ الْأَعْوَرُ، عَنْ حَبَّةَ الْعُرَنِيِّ قَالَ: لَمَّا أَتَى عَلِيٌّ الرَّقَّةَ، نَزَلَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الْبَلِيخُ. عَلَى جَانِبِ الْفُرَاتِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ رَاهِبٌ مِنْ صَوْمَعَتِهِ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ: إِنَّ عِنْدَنَا كِتَابًا تَوَارَثْنَاهُ عَنْ آبَائِنَا، كَتَبَهُ أَصْحَابُ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، أَعْرِضُهُ عَلَيْكَ ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: نَعَمْ. فَقَرَأَ الرَّاهِبُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الَّذِي قَضَى فِيمَا قَضَى، وَسَطَّرَ فِيمَا سَطَّرَ، وَكَتَبَ فِيمَا كَتَبَ أَنَّهُ بَاعِثٌ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ، وَيَدُلُّهُمْ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ، لَا فَظٌّ وَلَا غَلِيظٌ وَلَا صَخَّابٌ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ، أُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ، وَفِي كُلِّ صُعُودٍ وَهُبُوطٍ تَذِلُّ أَلْسِنَتُهُمْ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ، وَيَنْصُرُهُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ مَنْ نَاوَأَهُ، فَإِذَا تَوَفَّاهُ اللَّهُ اخْتَلَفَتْ أُمَّتُهُ ثُمَّ اجْتَمَعَتْ فَلَبِثَتْ بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ، ثُمَّ يَمُرُّ رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِهِ بِشَاطِئِ هَذَا الْفُرَاتِ، يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَقْضِي بِالْحَقِّ، وَلَا يُنَكِّسُ الْحُكْمُ، الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنَ الرَّمَادِ - أَوْ قَالَ: التُّرَابِ - فِي يَوْمٍ عَصَفَتْ فِيهِ الرِّيحُ، وَالْمَوْتُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ، يَخَافُ اللَّهَ فِي السِّرِّ، وَيَنْصَحُ فِي الْعَلَانِيَةِ، وَلَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ النَّبِيَّ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ فَآمَنَ بِهِ، كَانَ ثَوَابُهُ رِضْوَانِي وَالْجَنَّةَ، وَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الْعَبْدَ الصَّالِحَ فَلْيَنْصُرْهُ، فَإِنَّ الْقَتْلَ مَعَهُ شَهَادَةٌ. ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ: |
فَأَنَا أُصَاحِبُكَ فَلَا أُفَارِقُكَ حَتَّى يُصِيبَنِي
مَا أَصَابَكَ. فَبَكَى عَلِيٌّ ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ
يَجْعَلْنِي عِنْدَهُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
ذَكَرَنِي عِنْدَهُ فِي كُتُبِ الْأَبْرَارِ. فَمَضَى الرَّاهِبُ مَعَهُ
وَأَسْلَمَ، فَكَانَ مَعَ عَلِيٍّ حَتَّى أُصِيبَ يَوْمَ صِفِّينَ، فَلَمَّا
خَرَجَ النَّاسُ يَدْفِنُونَ قَتْلَاهُمْ قَالَ عَلِيٌّ: اطْلُبُوا الرَّاهِبَ.
فَلَمَّا وَجَدُوهُ صَلَّى عَلَيْهِ وَدَفَنَهُ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ. |
لَا يَتَقَدَّمَ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ بِقِتَالٍ حَتَّى
يَبْدَأُوهُ أَوَّلًا بِالْقِتَالِ، وَلَكِنْ لِيَدْعُهُمْ إِلَى الْبَيْعَةِ
مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَإِنِ امْتَنَعُوا فَلَا يُقَاتِلْهُمْ حَتَّى
يُقَاتِلُوهُ، وَلَا يَقْرَبْ مِنْهُمْ قُرْبَ مَنْ يُرِيدُ الْحَرْبَ، وَلَا
يُبْعُدْ مِنْهُمْ إِبْعَادَ مَنْ يَهَابُ الرِّجَالَ، وَلَكِنْ صَابِرْهُمْ
حَتَّى آتِيَكَ، فَأَنَا حَثِيثُ السَّيْرِ وَرَاءَكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَبَعَثَ مَعَهُ بِكِتَابِ الْإِمَارَةِ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ مَعَ الْحَارِثِ
بْنِ جُمْهَانَ الْجُعْفِيِّ. |
فَلَمَّا كَانَ صَبَاحُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَقْبَلَ
عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي جُيُوشِهِ وَجَاءَ مُعَاوِيَةُ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، فِي جُنُودِهِ فَتَوَاجَهَ الْفَرِيقَانِ، وَتَقَابَلَ
الْجَمْعَانِ - وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ - فَتَوَاقَفُوا طَوِيلًا، وَذَلِكَ
بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: صِفِّينَ. وَذَلِكَ فِي أَوَائِلِ ذِي الْحِجَّةِ،
ثُمَّ عَدَلَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَارْتَادَ لِجَيْشِهِ مَنْزِلًا،
وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ سَبَقَ بِجَيْشِهِ فَنَزَلُوا عَلَى مَشْرَعَةِ
الْمَاءَ فِي أَسْهَلِ مَوْضِعٍ وَأَفْيَحِهِ، فَلَمَّا جَاءَ عَلِيٌّ نَزَلَ
بَعِيدًا مِنَ الْمَاءِ، وَجَاءَ سَرَعَانُ أَهْلِ الْعِرَاقِ لِيَرِدُوا مِنَ
الْمَاءِ، فَمَنَعَهُمْ أَهْلُ الشَّامِ فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ مُقَاتَلَةٌ
بِسَبَبِ ذَلِكَ. |
خَلُّوا لَنَا مَاءَ الْفُرَاتِ الْجَارِي أَوِ اثْبُتُوا
لِجَحْفَلٍ جَرَّارِ لِكُلِّ قَرْمٍ مُسْتَمِيتٍ شَارِ |
الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ حِينَ حَصَرُوهُ فِي دَارِهِ
وَمَنَعُوهُ طَيِّبَ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا. وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ: امْنَعْهُمُ الْمَاءَ إِلَى
اللَّيْلِ فَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى بِلَادِهِمْ. فَسَكَتَ مُعَاوِيَةُ،
فَقَالَ لَهُ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ: مَاذَا جَوَابُكَ ؟ فَقَالَ:
سَيَأْتِيكُمْ رَأْيِي بَعْدَ هَذَا. فَلَمَّا رَجَعَ صَعْصَعَةُ فَأَخْبَرَ
الْخَبَرَ، رَكِبَتِ الْخَيْلُ وَالرِّجَالُ فَمَا زَالُوا حَتَّى أَزَاحُوهُمْ
عَنِ الْمَاءِ وَوَرَدُوهُ قَهْرًا، ثُمَّ اصْطَلَحُوا عَلَى وُرُودِهِ، وَلَا
يَمْنَعُ أَحَدٌ أَحَدًا مِنْهُ. |
أَفْعَلُ ذَلِكَ أَبَدًا. ثُمَّ أَرَادَ سَعِيدُ بْنُ
قَيْسٍ الْهَمْدَانِيُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ، فَبَدَرَهُ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ
فَتَكَلَّمَ قَبْلَهُ بِكَلَامٍ فِيهِ غِلْظَةٌ وَجَفَاءٌ فِي حَقِّ
مُعَاوِيَةَ، فَزَجَرَهُ مُعَاوِيَةُ وَزَبَرَهُ فِي افْتِيَاتِهِ عَلَى مَنْ
هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَأَشْرَفُ، وَفِي كَلَامِهِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ،
ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ، فَأُخْرِجُوا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَصَمَّمَ عَلَى
الْقِيَامِ بِطَلَبِ دَمِ عُثْمَانَ الَّذِي قُتِلَ مَظْلُومًا. |
وَرُبَّمَا اقْتَتَلَ النَّاسُ فِي الْيَوْمِ
مَرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِكَمَالِهِ. وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ عَنْ أَمْرِ
عَلِيٍّ لَهُ بِذَلِكَ. |
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ |
بْنُ الْعَاصِ إِلَى جَانِبِهِ - قَالَ عَدِيٌّ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ -: أَمَّا بَعْدُ، يَا مُعَاوِيَةُ فَإِنَّا جِئْنَاكَ نَدْعُوكَ إِلَى أَمْرٍ يَجْمَعُ اللَّهُ بِهِ كَلِمَتَنَا وَأُمَّتَنَا، وَتُحْقَنُ بِهِ دِمَاؤُنَا، وَيَأْمَنُ بِهِ السَّبِيلُ وَيُصْلَحُ بِهِ ذَاتُ الْبَيْنِ ; إِنَّ ابْنَ عَمِّكَ سَيِّدُ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُهَا سَابِقَةً، وَأَحْسَنُهَا فِي الْإِسْلَامِ أَثَرًا، وَقَدِ اسْتَجْمَعَ لَهُ النَّاسُ وَقَدْ أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ بِالَّذِي رَأَوْا فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ غَيْرُكُ وَغَيْرُ مَنْ مَعَكَ، فَانْتَهِ يَا مُعَاوِيَةُ لَا يُصِبْكَ اللَّهُ وَأَصْحَابَكَ مِثْلَ مَا أَصَابَ النَّاسَ يَوْمَ الْجَمَلِ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: كَأَنَّكَ إِنَّمَا جِئْتَ مُتَهَدِّدًا وَلَمْ تَأْتِ مُصْلِحًا، هَيْهَاتَ يَا عَدِيُّ، كَلَّا وَاللَّهِ إِنِّي لِابْنُ حَرْبٍ، لَا يُقَعْقَعُ لِي بِالشِّنَانِ، أَمَا وَاللَّهِ إِنَّكَ لِمِنَ الْمُجْلِبَيْنِ عَلَى ابْنِ عَفَّانَ، وَإِنَّكَ لَمِنْ قَتَلَتِهِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِهِ. وَتَكَلَّمَ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَزِيَادُ بْنُ خَصَفَةَ فَذَكَرَا مِنْ فَضْلِ عَلِيٍّ، وَقَالَا: اتَّقِ اللَّهَ يَا مُعَاوِيَةُ وَلَا تُخَالِفْهُ، |
فَإِنَّا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا قَطُّ أَعْمَلَ بِالتَّقْوَى، وَلَا أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا، وَلَا أَجْمَعَ لِخِصَالِ الْخَيْرِ كُلِّهَا مِنْهُ. فَتَكَلَّمَ مُعَاوِيَةُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَى الْجَمَاعَةِ وَالطَّاعَةِ، فَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَنِعِمَّا هِيَ، وَأَمَّا الطَّاعَةُ فَكَيْفَ أُطِيعُ رَجُلًا أَعَانَ عَلَى قَتْلِ عُثْمَانَ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ ؟ وَنَحْنُ لَا نَرُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَا نَتَّهِمُهُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ أَوَى قَتَلَتَهُ ; فَيَدْفَعَهُمْ إِلَيْنَا حَتَّى نَقْتُلَهُمْ، ثُمَّ نَحْنُ نُجِيبُكُمْ إِلَى الطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ. فَقَالَ لَهُ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا مُعَاوِيَةَ، لَوْ تَمَكَّنْتَ مَنْ عَمَّارٍ أَكُنْتَ قَاتِلَهُ بِعُثْمَانَ ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَاللَّهِ لَوْ تَمَكَّنْتُ مِنَ ابْنِ سُمَيَّةَ مَا قَتَلْتُهُ بِعُثْمَانَ، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَقْتُلُهُ بِغُلَامِ عُثْمَانَ. فَقَالَ لَهُ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ: وَإِلَهِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ لَا تَصِلُ إِلَى قَتْلِ عَمَّارٍ حَتَّى تَنْدُرَ الرُّءُوسُ عَنْ كَوَاهِلِهَا، وَيَضِيقُ فَضَاءُ الْأَرْضِ وَرَحْبُهَا عَلَيْكَ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: لَوْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ كَانَتْ عَلَيْكَ أَضْيَقَ. وَخَرَجَ الْقَوْمُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَذَهَبُوا إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ. |
وَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيَّ، وَشُرَحْبِيلَ بْنَ السِّمْطِ، وَمَعْنَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ الْأَخْنَسِ إِلَى عَلِيٍّ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَبَدَأَ حَبِيبٌ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ خَلِيفَةً مَهْدِيًّا، عَمِلَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَثَبَتَ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَاسْتَثْقَلْتُمْ حَيَاتَهُ، وَاسْتَبْطَأْتُمْ وَفَاتَهُ، فَعَدَوْتُمْ عَلَيْهِ فَقَتَلْتُمُوهُ، فَادْفَعْ إِلَيْنَا قَتَلَةَ عُثْمَانَ - إِنْ زَعَمْتَ أَنَّكَ لَمْ تَقْتُلْهُ - ثُمَّ اعْتَزِلْ أَمْرَ النَّاسِ، فَيَكُونَ أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ، فَيُوَلِّي النَّاسُ أَمْرَهُمْ مَنْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ رَأْيَهُمْ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَمَا أَنْتَ، لَا أُمَّ لَكَ وَهَذَا الْأَمْرَ وَهَذَا الْعَزْلَ، فَاسْكُتْ فَإِنَّكَ لَسْتَ هُنَاكَ وَلَا بِأَهْلٍ لِذَاكَ. فَقَالَ لَهُ حَبِيبٌ: أَمَا وَاللَّهِ لَتَرَيَنِّي حَيْثُ تَكْرَهُ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَمَا أَنْتَ وَلَوْ أَجَلَبْتَ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ لَا أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ إِنْ أَبْقَيْتَ، اذْهَبْ فَصَعِّدْ وَصَوِّبْ مَا بَدَا لَكَ. ثُمَّ ذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ كَلَامًا طَوِيلًا جَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَلِيٍّ، وَفِي صِحَّةٍ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَعَنْهُ نَظَرٌ، فَإِنَّ فِي مَطَاوِي ذَلِكَ الْكَلَامِ مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ مَا يَنْتَقِصُ فِيهِ مُعَاوِيَةَ وَأَبَاهُ، وَإِنَّهُمْ إِنَّمَا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ كَرْهًا وَلَمْ يَزَالَا فِي تَرَدُّدٍ فِيهِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ قَالَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ: لَا أَقُولُ إِنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا وَلَا ظَالِمًا. فَقَالُوا: نَحْنُ نَبْرَأُ مِمَّنْ لَمْ يَقُلْ: إِنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا. وَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ |
مُسْلِمُونَ وَإِذَا وَقَعَ [ النَّمْلِ: 80، 81 ]. ثُمَّ
قَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا يَكُنْ هَؤُلَاءِ أَوْلَى بِالْجِدِّ فِي
ضَلَالَتِهِمْ مِنْكُمْ بِالْجِدِّ فِي حَقِّكُمْ وَطَاعَةِ نَبِيِّكُمْ.
وَهَذَا عِنْدِي لَا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. |
وَوَقَعَتِ الْفُرْقَةُ لِأَجْلِهَا، وَقَتَلُوهُ فِي سُلْطَانِهِ وَلَيْسَ لِي عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ. فَرَجَعُوا إِلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا يَقُولُ، فَمَا لَهُ انْتَهَزَ الْأَمْرَ دُونَنَا مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَّا وَلَا مِمَّنْ هَاهُنَا ؟ فَرَجَعُوا إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ: إِنَّمَا النَّاسُ تَبَعُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَهُمْ شُهُودُ النَّاسِ عَلَى وِلَايَتِهِمْ وَأَمْرِ دِينِهِمْ، وَقَدْ رَضُوا وَبَايَعُونِي، وَلَسْتُ أَسْتَحِلُّ أَنْ أَدَعَ مِثْلَ مُعَاوِيَةَ يَحْكُمُ عَلَى الْأُمَّةِ وَيَشُقُّ عَصَاهَا. فَرَجَعُوا إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: مَا بَالُ مَنْ هَاهُنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَمْ يَدْخُلُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ ؟ فَرَجَعُوا إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ: إِنَّمَا هَذَا لِلْبَدْرِيِّينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بَدْرِيٌّ إِلَّا وَهُوَ مَعِي، وَقَدْ تَابَعَنِي وَبَايَعَنِي وَرَضِيَ بِي، فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ مِنْ دِينِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ. قَالَ: فَأَقَامُوا يَتَرَاسَلُونَ فِي ذَلِكَ مُدَّةَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَجُمَادَيَيْنِ، وَيَفْزَعُونَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ الْفَزْعَةَ بَعْدَ الْفَزْعَةِ، وَيَزْحَفُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَحْجِزُ بَيْنَهُمُ الْقُرَّاءُ، فَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ قِتَالٌ. قَالَ: فَفَزِعُوا فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ خَمْسَةً وَثَمَانِينَ فَزْعَةً. قَالَ: وَخَرَجَ أَبُو |
الدَّرْدَاءِ وَأَبُو أُمَامَةَ، فَدَخَلَا عَلَى
مُعَاوِيَةَ، فَقَالَا لَهُ: يَا مُعَاوِيَةُ، عَلَامَ تُقَاتِلُ هَذَا
الرَّجُلَ ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَقْدَمُ مِنْكَ وَمِنْ أَبِيكَ سَلْمًا،
وَأَقْرَبُ مِنْكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَأَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْكَ. فَقَالَ: أُقَاتِلُهُ عَلَى دَمِ عُثْمَانَ،
وَأَنَّهُ أَوَى قَتَلَتَهُ، فَاذْهَبَا إِلَيْهِ فَقُولَا لَهُ فَلْيُقِدْنَا
مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، ثُمَّ أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُبَايِعُهُ مَنْ أَهْلِ
الشَّامِ. فَذَهَبَا إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ
الَّذِينَ تَرَوْنَ. فَخَرَجَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فَقَالُوا: كُلُّنَا قَتَلَةُ
عُثْمَانَ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَرْمِنَا وَلْيَكِدْنَا. قَالَ: فَرَجَعَ أَبُو
الدَّرْدَاءِ وَأَبُو أُمَامَةَ فَلَمْ يَشْهَدَا لَهُمْ قِتَالًا، بَلْ لَزِمَا
بُيُوتَهُمَا. |
لِيُزِيلَكُمْ عَنْ مَكَانِكُمْ هَذَا وَيَنْزِلَ فِيهِ ;
لِأَنَّهُ خَشِيَ مِنْ مَكَانِهِ. فَقَالُوا: لَا بُدَّ أَنْ نَرْتَحِلَ عَنْ
هَذَا الْمَكَانِ. فَارْتَحَلُوا مِنْهُ - وَجَاءَ مُعَاوِيَةُ فَنَزَلَهُ
بِجَيْشِهِ - وَكَانَ عَلِيٌّ آخَرَ مَنِ ارْتَحَلَ، فَنَزَلَ بِهِمْ وَهُوَ
يَقُولُ: |
اسْتَدَمْتُكُمْ لِتُرَاجِعُوا الْحَقَّ، وَأَقَمْتُ
عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ فَلَمْ تُجِيبُوا، وَإِنِّي قَدْ أَعْذَرْتُ إِلَيْكُمْ
وَنَبَذْتُ إِلَيْكُمْ عَلَى سَوَاءٍ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ.
فَفَزِعَ أَهْلُ الشَّامِ إِلَى أُمَرَائِهِمْ فَأَعْلَمُوهُمْ بِمَا سَمِعُوا
الْمُنَادِي يُنَادِي بِهِ، فَنَهَضَ عِنْدَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ وَعَمْرٌو،
فَعَبَّيَا الْجَيْشَ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً، وَبَاتَ عَلِيٌّ يُعَبِّي
جَيْشَهُ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَجَعَلَ عَلَى خَيْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ الْأَشْتَرَ
النَّخَعِيَّ، وَعَلَى رَجَّالَتِهِمْ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَعَلَى خَيْلِ
أَهْلِ الْبَصْرَةِ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، وَعَلَى رَجَّالَتِهِمْ قَيْسَ بْنَ
سَعْدٍ وَهَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ، وَعَلَى قُرَّائِهِمْ مِسْعَرَ بْنَ فَدَكِيٍّ
التَّمِيمِيَّ، وَتَقَدَّمَ عَلِيٌّ إِلَى النَّاسِ أَنْ لَا يَبْدَأُوا أَحَدًا
بِقِتَالٍ حَتَّى يَبْدَأَهُمْ وَيَعْتَدِيَ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ لَا
يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ، وَلَا يُكْشَفُ سِتْرَ
امْرَأَةٍ وَلَا تُهَانُ وَإِنْ شَتَمَتْ أُمَرَاءَ النَّاسِ وَصُلَحَاءَهُمْ.
وَبَرَزَ مُعَاوِيَةُ صُبْحَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَقَدْ جَعَلَ عَلَى
الْمَيْمَنَةِ ابْنَ ذِي الْكَلَاعِ الْحِمْيَرِيَّ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ
حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيَّ، وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ أَبَا
الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، وَعَلَى خَيْلِ دِمَشْقَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ،
وَعَلَى رَجَّالَتِهِمُ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ. ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ |
بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَغَيْرِهِمَا، قَالُوا: لَمَّا بَلَغَ مُعَاوِيَةَ مَسِيرُ عَلِيٍّ إِلَيْهِ، سَارَ مُعَاوِيَةُ نَحْوَ عَلِيٍّ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ سُفْيَانَ بْنَ عَمْرٍو أَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، وَعَلَى السَّاقَةِ بُسْرَ بْنَ أَرْطَاةَ حَتَّى تَوَافَوْا جَمِيعًا بِقُنَاصِرِينَ إِلَى جَانِبِ صِفِّينَ. وَزَادَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ فَقَالَ: جَعَلَ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ أَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، وَعَلَى السَّاقَةِ بُسْرًا، وَعَلَى الْخَيْلِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، وَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَجَعَلَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ، وَعَلَى رَجَّالَتِهَا يَزِيدَ بْنَ زَحْرٍ الْعَنْسِيَّ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَلَى رَجَّالَتِهَا حَابِسَ بْنَ سَعْدٍ الطَّائِيَّ، وَعَلَى خَيْلِ دِمَشْقَ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، وَعَلَى رَجَّالَتِهِمْ يَزِيدَ بْنَ لَبِيدِ بْنِ كُرْزٍ الْبَجَلِيَّ، وَجَعَلَ عَلَى أَهْلِ حِمْصَ ذَا الْكَلَاعِ، وَعَلَى أَهْلِ فِلَسْطِينَ مَسْلَمَةَ بْنَ مُخَلَّدٍ، وَقَامَ مُعَاوِيَةُ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، وَاللَّهِ مَا أَصَبْتُ الشَّامَ إِلَّا بِالطَّاعَةِ، وَلَا أَضْبِطُ حَرْبَ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَّا بِالصَّبْرِ، وَلَا أُكَابِدُ أَهْلَ الْحِجَازِ إِلَّا بِاللُّطْفِ، وَقَدْ تَهَيَّأْتُمْ وَسِرْتُمْ |
لِتَمْنَعُوا الشَّامَ وَتَأْخُذُوا الْعِرَاقَ، وَسَارَ
الْقَوْمُ لِيَمْنَعُوا الْعِرَاقَ وَيَأْخُذُوا الشَّامَ وَلَعَمْرِي مَا
لِلشَّامِ رَجَاءٌ فِي الْعِرَاقِ وَلَا أَمْوَالِهَا، وَلَا لِلْعِرَاقِ
خِبْرَةُ أَهْلِ الشَّامِ وَلَا بَصَائِرُهَا، مَعَ أَنَّ لِلْقَوْمِ
أَعْدَادَهُمْ، وَلَيْسَ بَعْدَكُمْ غَيْرُكُمْ، فَإِنْ غَلَبْتُمُوهُمْ
فَلَيْسَ تَغْلِبُوهُمْ إِلَّا مِنْ أَنَاتِكُمْ وَصَبْرِكُمْ، وَإِنْ
غَلَبُوكُمْ غَلَبُوا مَنْ بَعْدَكُمْ، وَالْقَوْمُ لَاقُوكُمْ بِكَيْدِ أَهْلِ
الْعِرَاقِ، وَرِقَّةِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَبَصَائِرِ أَهْلِ الْحِجَازِ،
وَقَسْوَةِ أَهْلِ مِصْرَ، وَإِنَّمَا يُنْصَرُ غَدًا مَنْ يُنْصَرُ الْيَوْمَ،
فَاسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ.
فَلَمَّا بَلَغَ عَلِيًّا خُطْبَةُ مُعَاوِيَةَ، قَامَ فِي أَصْحَابِهِ أَيْضًا
خَطِيبًا وَحَضَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، وَمَدَحَهُمْ بِالصَّبْرِ وَشَجَّعَهُمْ
بِكَثْرَتِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ. |
أَهْلُ الْعِرَاقِ كَانُوا أَحَدَ عَشَرَ صَفًّا أَيْضًا، فَتَوَاقَفُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ صَفَرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَكَانَ أَمِيرَ الْحَرْبِ يَوْمَئِذٍ لِلْعِرَاقِيِّينَ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ، وَأَمِيرَ الْحَرْبِ يَوْمَئِذٍ لِلشَّامِيِّينَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَاقْتَتَلُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ تَرَاجَعُوا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِمْ، وَقَدِ انْتَصَفَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَتَكَافَئُوا فِي الْقِتَالِ، ثُمَّ أَصْبَحُوا مِنَ الْغَدِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَأَمِيرُ حَرْبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ، وَأَمِيرُ الشَّامِيِّينَ يَوْمَئِذٍ أَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا ; تَحْمِلُ الْخَيْلُ عَلَى الْخَيْلِ، وَالرِّجَالُ عَلَى الرِّجَالُ، ثُمَّ تَرَاجَعُوا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِمْ، وَقَدْ صَبَرَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِلْآخَرِ وَتَكَافَئُوا، ثُمَّ خَرَجَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ - وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ - عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ مِنْ نَاحِيَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي الشَّامِيِّينَ فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَحَمَلَ عَمَّارٌ عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَأَزَالَهُ عَنْ مَوْقِفِهِ، وَبَارَزَ زِيَادُ بْنُ النَّضْرِ الْحَارِثِيُّ - وَكَانَ عَلَى الْخَيَّالَةِ يَوْمَئِذٍ - رَجُلًا، فَلَمَّا تَوَاقَفَا تَعَارَفَا فَإِذَا هُمَا أَخَوَانِ مِنْ أُمٍّ، فَانْصَرَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى قَوْمِهِ، وَتَرَكَ صَاحِبَهُ، وَتَرَاجَعَ النَّاسُ مِنَ الْعَشِيِّ، وَقَدْ صَبَرَ كُلُّ فَرِيقٍ لِصَاحِبِهِ، وَخَرَجَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ - وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ - مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَهُوَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَعَهُ جَمْعٌ عَظِيمٌ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فِي جَحْفَلٍ كَثِيرٍ مِنْ جِهَةِ الشَّامِيِّينَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَبَرَزَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَطَلَبَ |
مِنَ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَبْرُزَ إِلَيْهِ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَادَا أَنْ يَقْتَرِبَا قَالَ عَلِيٌّ: مَنِ الْمُبَارِزُ ؟ قَالُوا: مُحَمَّدٌ ابْنُكُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. فَيُقَالُ: إِنَّ عَلِيًّا حَرَّكَ دَابَّتَهُ وَأَمَرَ ابْنَهُ أَنْ يَتَوَقَّفَ، وَتَقَدَّمَ عَلِيٌّ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ: تَقَدَّمْ إِلَيَّ. فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: لَا حَاجَةَ لِي فِي مُبَارَزَتِكَ. فَقَالَ: بَلَى. فَقَالَ: لَا. فَرَجَعَ عَنْهُ عَلِيٌّ وَتَحَاجَزَ النَّاسُ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ - وَهُوَ يَوْمُ الْأَحَدِ - فِي الْعِرَاقِيِّينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَفِي الشَّامِيِّينَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا وَجَعَلَ الْوَلِيدُ يَنَالُ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ - فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو مِخْنَفٍ - وَيَقُولُ: قَتَلْتُمْ خَلِيفَتَكُمْ وَلَمْ تَنَالُوا مَا طَلَبْتُمْ، وَوَاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ نَاصِرُنَا عَلَيْكُمْ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَابْرُزْ إِلَيَّ. فَأَبَى عَلَيْهِ. وَيُقَالُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَاتَلَ يَوْمَئِذٍ قِتَالًا شَدِيدًا بِنَفْسِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ فِي الْيَوْمِ السَّادِسِ - وَهُوَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ - مِنْ جِهَةِ عَلِيٍّ عَلَى الْعِرَاقِيِّينَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَمِنْ جِهَةِ أَهْلِ الشَّامِ ابْنُ ذِي الْكَلَاعِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا أَيْضًا، وَتَصَابَرُوا ثُمَّ تَرَاجَعُوا، ثُمَّ خَرَجَ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ - وَهُوَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ - مِنْ جِهَةِ عَلِيٍّ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ قِرْنُهُ مِنْ جِهَةِ مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا أَيْضًا، وَلَمْ يَغْلِبْ أَحَدٌ أَحَدًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ كُلِّهَا. |
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَعْيَنَ الْجُهَنِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: حَتَّى مَتَى لَا نُنَاهِضُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بِأَجْمَعِنَا ؟ ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ عَشِيَّةَ الْأَرْبِعَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يُبْرَمُ مَا نَقَضَ، وَمَا أَبْرَمَ لَمْ يَنْقُضْهُ النَّاقِضُونَ، لَوْ شَاءَ مَا اخْتَلَفَ اثْنَانِ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا تَنَازَعَتِ الْأُمَّةُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَلَا جَحَدَ الْمَفْضُولُ ذَا الْفَضْلِ فَضْلَهُ، وَقَدْ سَاقَتْنَا وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الْأَقْدَارُ، فَلَفَّتْ بَيْنَنَا فِي هَذَا الْمَكَانِ، فَنَحْنُ مِنْ رَبِّنَا بِمَرْأَى وَمَسْمَعٍ، فَلَوْ شَاءَ لَعَجَّلَ النِّقْمَةَ، وَكَانَ مِنْهُ التَّغْيِيرُ حَتَّى يُكَذِّبَ اللَّهُ الظَّالِمَ، وَيُعْلَمَ الْحَقُّ أَيْنَ مَصِيرُهُ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ الْأَعْمَالِ، وَجَعَلَ الْآخِرَةَ عِنْدَهُ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [ النَّجْمِ: 31 ]. أَلَا وَإِنَّكُمْ لَاقُوا الْقَوْمِ غَدًا فَأَطِيلُوا اللَّيْلَةَ الْقِيَامَ، وَأَكْثِرُوا تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ، وَأَسْأَلُوا اللَّهَ النَّصْرَ وَالصَّبْرَ، وَالْقَوْهُمْ بِالْجِدِّ وَالْحَزْمِ، وَكُونُوا صَادِقِينَ. قَالَ: فَوَثَبَ النَّاسُ إِلَى سُيُوفِهِمْ وَرِمَاحِهِمْ وَنِبَالِهِمْ يُصْلِحُونَهَا. قَالَ: وَمَرَّ بِالنَّاسِ وَهُمْ كَذَلِكَ كَعْبُ بْنُ جُعَيْلٍ التَّغْلَبِيُّ، فَرَأَى مَا يَصْنَعُونَ فَجَعَلَ يَقُولُ: |
أَصْبَحَتِ الْأَمَّةُ فِي أَمْرِ عَجَبْ وَالْمُلْكُ
مَجْمُوعٌ غَدًا لِمَنْ غَلَبْ |
الْفِتْنَةِ. ثُمَّ تَقَدَّمَ عَلِيٌّ وَهُوَ فِي الْقَلْبِ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلَى الْقُرَّاءِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَالنَّاسُ عَلَى رَايَاتِهِمْ، فَزَحَفَ بِهِمْ إِلَى الْقَوْمِ. وَأَقْبَلَ مُعَاوِيَةُ - وَقَدْ بَايَعَهُ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى الْمَوْتِ - فَتَوَاقَفَ النَّاسُ فِي مَوْطِنٍ مَهُولٍ وَأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَحَمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ أَمِيرُ مَيْمَنَةِ عَلِيٍّ عَلَى مَيْسَرَةِ أَهْلِ الشَّامِ وَعَلَيْهَا حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَاضْطَرَّهُ حَتَّى أَلْجَأَهُ إِلَى الْقَلْبِ، وَفِيهِ مُعَاوِيَةُ، وَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَحَرَّضَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَقَامَ كُلُّ أَمِيرٍ فِي أَصْحَابِهِ يُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَالْجِهَادِ، وَيَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ الْقِتَالِ، وَحَرَّضَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ النَّاسَ عَلَى الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ وَتَلَا عَلَيْهِمْ آيَاتِ الْقِتَالِ مِنْ أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ ; فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [ الصَّفِّ: 4 ]. ثُمَّ قَالَ: قَدِّمُوا الْمُدَارِعَ وَأَخِّرُوا الْحَاسِرَ وَعَضُّوا عَلَى الْأَضْرَاسِ، فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ، وَالْتَوُوا فِي أَطْرَافِ الرِّمَاحِ، فَإِنَّهُ أَصْوَنُ لِلْأَسِنَّةِ، وَغُضُّوا الْأَبْصَارَ فَإِنَّهُ أَرْبُطُ لِلْجَأْشِ وَأَسْكُنُ لِلْقَلْبِ، وَأَمِيتُوا الْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ، وَأَوْلَى بِالْوَقَارِ، رَايَاتِكُمْ لَا تُمِيلُوهَا وَلَا تُزِيلُوهَا وَلَا تَجْعَلُوهَا إِلَّا بِأَيْدِي شُجْعَانِكُمْ. |
وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاءُ التَّارِيخِ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ
عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَارَزَ فِي يَوْمِ صِفِّينَ وَقَاتَلَ
وَقَتَلَ خَلْقَا، حَتَّى ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَتَلَ خَمْسَمِائَةٍ،
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُرَيْبَ بْنَ الصَّبَّاحِ قَتَلَ أَرْبَعَةً مِنْ أَهْلِ
الْعِرَاقِ مُبَارَزَةً، ثُمَّ وَضَعَهُمْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ وَنَادَى: هَلْ
مِنْ مُبَارِزٍ ؟ فَبَرَزَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ فَتَجَاوَلَا سَاعَةً ثُمَّ
ضَرَبَهُ عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ ؟
فَبَرَزَ إِلَيْهِ الْحَارِثُ بْنُ وَدَاعَةَ الْحِمْيَرِيُّ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ
بَرَزَ إِلَيْهِ رُودُ بْنُ الْحَارِثِ الْكَلَاعِيُّ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ بَرَزَ
إِلَيْهِ الْمُطَاعُ بْنُ الْمُطَّلِبِ الْقَيْنِيُّ فَقَتَلَهُ. ثُمَّ تَلَا
عَلِيٌّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [ الْبَقَرَةِ: 194 ] ثُمَّ
نَادَى: وَيْحَكَ يَا مُعَاوِيَةُ ! ابْرُزْ إِلَيَّ وَلَا تُفْنِ الْعَرَبَ
بَيْنِي وَبَيْنَكَ. فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو يَا مُعَاوِيَةُ اغْتَنِمْهُ
فَإِنَّهُ قَدْ أَثْخَنَ بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ. فَقَالَ لَهُ
مُعَاوِيَةُ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُقْهَرْ قَطُّ،
وَإِنَّمَا أَرَدْتَ قَتْلِي لِتُصِيبَ الْخِلَافَةَ مِنْ بَعْدِي، اذْهَبْ
إِلَيْكَ ! فَلَيْسَ مِثْلِي يُخْدَعُ. |
الْأَرْضِ فَبَدَتْ سَوْءَتُهُ فَرَجَعَ عَلِيٌّ عَنْهُ،
فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: مَالَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَجَعَتْ عَنْهُ
؟ فَقَالَ: أَتُدْرُونَ مَنْ هُوَ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: هُوَ عَمْرُو بْنُ
الْعَاصِ، وَإِنَّهُ تَلَقَّانِي بِسَوْءَتِهِ فَذَكَّرَنِي بِالرَّحِمِ
فَرَجَعْتُ عَنْهُ. فَلَمَّا رَجَعَ عَمْرٌو إِلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ لَهُ:
احْمَدِ اللَّهَ، وَاحْمَدِ اسْتَكَ. |
أَخْبَرَهُ مَنْ حَضَرَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ
وَمُعَاوِيَةَ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَأَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ
يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ لَقِيطٍ قَالَ: شَهِدْنَا
صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، قَالَ: فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ عَلَيْنَا
دَمًا عَبِيطًا. قَالَ اللَّيْثُ فِي حَدِيثِهِ: حَتَّى أَنْ كَانُوا
لَيَأْخُذُونَهُ بِالصِّحَافِ وَالْآنِيَةِ. قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ فَتَمْتَلِئُ
وَنُهْرِيقُهَا. |
الْحُسَيْنُ وَمُحَمَّدٌ بِأَسْيَافِهِمَا فَقَتَلَاهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْحَسَنِ ابْنِهِ، وَهُوَ وَاقِفٌ مَعَهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَصْنَعَ كَمَا صَنَعَا ؟ فَقَالَ: كَفَيَانِي أَمْرَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَسْرَعَ إِلَى عَلِيٍّ أَهْلُ الشَّامِ فَجَعَلَ عَلِيٌّ لَا يَزِيدُهُ قُرْبُهُمْ مِنْهُ سُرْعَةً فِي مِشْيَتِهِ، بَلْ هُوَ سَائِرٌ عَلَى هِينَتِهِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ: يَا أَبَهْ، لَوْ سَعَيْتَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا ! فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّ لِأَبِيكَ يَوْمًا لَنْ يَعْدُوَهُ، وَلَا يُبْطِئُ بِهِ عَنْهُ السَّعْيُ، وَلَا يُعَجِّلُ بِهِ إِلَيْهِ الْمَشْيُ، إِنَّ أَبَاكَ وَاللَّهِ مَا يُبَالِي أَوَقَعَ عَلَى الْمَوْتِ أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ. ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا أَمَرَ الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ أَنْ يَلْحَقَ الْمُنْهَزِمِينَ فَيَرُدَّهُمْ، فَسَاقَ بِأَسْرَعِ سَوْقٍ حَتَّى اسْتَقْبَلَ الْمُنْهَزِمِينَ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، فَجَعَلَ يُؤَنِّبُهُمْ وَيُوَبِّخُهُمْ وَيُحَرِّضُ الْقَبَائِلَ وَالشُّجْعَانَ مِنْهُمْ عَلَى الْكَرَّةِ، فَتَابَعَهُ طَائِفَةٌ وَاسْتَمَرَّ آخَرُونَ فِي هَزِيمَتِهِمْ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبُهُ حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ جَمْعٌ عَظِيمٌ، فَرَجَعَ بِهِمْ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ فَجَعَلَ لَا يَلْقَى قَبِيلَةً مِنَ الشَّامِيِّينَ إِلَّا كَشَفَهَا، وَلَا طَائِفَةَ إِلَّا رَدَّهَا حَتَّى انْتَهَى إِلَى أَمِيرِ الْمَيْمَنَةِ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ، وَمَعَهُ نَحْوٌ مَنْ ثَلَاثِمِائَةٍ قَدْ ثَبَتُوا فِي مَكَانِهِمْ فَسَأَلُوهُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: حَيٌّ صَالِحٌ. |
فَالْتَفُّوا عَلَيْهِ، فَتَقَدَّمَ بِهِمْ حَتَّى
تَرَاجَعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى
الْغُرُوبِ، وَأَرَادَ ابْنُ بُدَيْلٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ،
فَأَمَرَهُ الْأَشْتَرُ أَنْ يَثْبُتَ مَكَانَهُ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَهُ، فَأَبَى
عَلَيْهِ ابْنُ بُدَيْلٍ، وَحَمَلَ نَحْوَ مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا انْتَهَى
إِلَيْهِ وَجَدَهُ وَاقِفًا أَمَامَ أَصْحَابِهِ وَفِي يَدِهِ سَيْفَانِ
وَحَوْلَهُ كَتَائِبُ أَمْثَالُ الْجِبَالِ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ ابْنُ بُدَيْلٍ
حَمَلَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فَقَتَلُوهُ وَأَلْقَوْهُ إِلَى الْأَرْضِ
قَتِيلًا، وَفَرَّ أَصْحَابُهُ مُنْهَزِمِينَ وَأَكْثَرُهُمْ مَجْرُوحٌ،
فَلَمَّا انْهَزَمُوا قَالَ مُعَاوِيَةُ لِأَصْحَابِهِ: انْظُرُوا إِلَى
أَمِيرِهِمْ ؟ فَجَاءُوا إِلَيْهِ فَلَمْ يَعْرِفُوهُ، فَتَقَدَّمَ مُعَاوِيَةُ
إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: |
ثُمَّ حَمَلَ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيَّ بِمَنْ رَجَعَ
مَعَهُ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ، فَصَدَقَ الْحَمْلَةَ حَتَّى خَالَطَ الصُّفُوفَ
الْخَمْسَةَ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا عَلَى الْمَوْتِ أَنْ لَا
يَفِرُّوا وَهُمْ حَوْلَ مُعَاوِيَةَ، فَخَرَقَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةً، وَبَقِيَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ صَفٌّ وَاحِدٌ، قَالَ الْأَشْتَرُ: فَرَأَيْتُ
هَوْلًا عَظِيمًا، وَكِدْتُ أَنْ أَفِرَّ فَمَا ثَبَّتَنِي إِلَّا قَوْلُ ابْنُ
الْإِطْنَابَةِ - وَهِيَ أُمُّهُ مِنْ بَلْقَيْنَ، وَكَانَ هُوَ مِنَ
الْأَنْصَارِ وَهُوَ جَاهِلِيٌّ: |
وَإِعْطَائِي عَلَى الْمَكْرُوهِ مَالِي وَضَرْبِي
هَامَةَ الْبَطَلِ الْمُشِيحِ |
- فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ -
مِنْهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنَ الشَّامِيِّينَ،
وَاخْتَلَفُوا فِي قَاتِلِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَنْ هُوَ ؟ وَقَدْ ذَكَرَ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ، أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ لَمَّا
خَرَجَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَرْبِ مِنْ جِهَةِ مُعَاوِيَةَ، أَحْضَرَ
امْرَأَتَيْهِ ; أَسْمَاءَ بِنْتَ عُطَارِدِ بْنِ حَاجِبٍ التَّمِيمِيِّ،
وَبَحْرِيَّةَ بِنْتَ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ الشَيْبَانَيِّ، فَوَقَفَتَا
وَرَاءَهُ فِي رَاحِلَتَيْنِ لِتَنْظُرَا إِلَى قِتَالِهِ وَشَجَاعَتِهِ
وَقُوَّتِهِ، فَوَاجَهَتْهُ مِنْ جَيْشِ الْعِرَاقِيِّينَ رَبِيعَةُ الْكُوفَةِ
وَعَلَيْهِمْ زِيَادُ بْنُ خَصَفَةَ التَّيْمِيُّ، فَشَدُّوا عَلَيْهِ شَدَّةً وَاحِدَةً،
فَقَتَلُوهُ بَعْدَ مَا انْهَزَمَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَنَزَلَتْ رَبِيعَةُ
فَضَرَبُوا لِأَمِيرِهِمْ خَيْمَةً، فَبَقِيَ مِنْهَا طُنُبٌ لَمْ يَجِدُوا لَهُ
وَتَدًا فَشَدُّوهُ بِرِجْلِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَجَاءَتِ
امْرَأَتَاهُ تُوَلْوِلَانِ حَتَّى وَقَفَتَا عَلَيْهِ وَبَكَتَا عِنْدَهُ،
وَشَفَعَتِ امْرَأَتُهُ بَحْرِيَّةُ إِلَى الْأَمِيرِ أَنْ يُطْلِقَهُ لَهَا
فَأَطْلَقَهُ لَهَا فَاحْتَمَلَتَاهُ فِي هَوْدَجِهِمَا. وَقُتِلَ مَعَهُ
أَيْضًا ذُو الْكَلَاعِ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَفِي مَقْتَلِ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَقُولُ كَعْبُ بْنُ جُعَيْلٍ
التَّغْلَبِيُّ: |
تَبَدَّلَ مِنْ أَسْمَاءَ أَسْيَافَ وَائِلٍ وَكَانَ
فَتًى لَوْ أَخْطَأَتْهُ الْمَتَالِفُ |
ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَعْيَنَ الْجُهَنِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ عَمَّارًا قَالَ يَوْمَئِذٍ: أَيْنَ مَنْ يَبْتَغِي رِضْوَانَ اللَّهِ وَلَا يَلْوِي إِلَى مَالٍ وَلَا وَلَدٍ ؟ قَالَ: فَأَتَتْهُ عِصَابَةٌ مِنَ النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، اقْصِدُوا بِنَا نَحْوَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ دَمَ عُثْمَانَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ قُتِلَ مَظْلُومًا، وَاللَّهِ مَا قَصْدُهُمُ الْأَخْذَ بِدَمِهِ وَلَا الْقِيَامَ بِثَأْرِهِ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ ذَاقُوا الدُّنْيَا فَاسْتَحْلَوْهَا وَاسْتَمْرَءُوهَا، وَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ إِذَا لَزِمَهُمْ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَتَمَرَّغُونَ فِيهِ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَوْمِ سَابِقَةٌ فِي الْإِسْلَامِ يَسْتَحِقُّونَ بِهَا طَاعَةَ النَّاسِ لَهُمْ وَالْوِلَايَةَ عَلَيْهِمْ، وَلَا تَمَكَّنَتْ مِنْ قُلُوبِهِمْ خَشْيَةُ اللَّهِ الَّتِي تَمْنَعُ مَنْ تَمَكَّنَتْ مِنْ قَلْبِهِ عَنْ نَيْلِ الشَّهَوَاتِ، وَتَعْقِلُهُ عَنْ إِرَادَةِ الدُّنْيَا وَطَلَبِ الْعُلُوِّ فِيهَا، وَتَحْمِلُهُ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْمَيْلِ إِلَى أَهْلِهِ، فَخَدَعُوا أَتْبَاعَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: إِمَامُنَا قُتِلَ مَظْلُومًا. لِيَكُونُوا بِذَلِكَ جَبَابِرَةً مُلُوكًا، وَتِلْكَ مَكِيدَةٌ بَلَغُوا بِهَا مَا تَرَوْنَ، وَلَوْلَا هِيَ مَا تَبِعَهُمْ مِنَ النَّاسِ رَجُلَانِ، وَلَكَانُوا أَذَلَّ وَأَخَسَّ وَأَقَلَّ، وَلَكِنَّ قَوْلَ الْبَاطِلِ لَهُ حَلَاوَةٌ فِي أَسْمَاعِ الْغَافِلِينَ، فَسِيرُوا إِلَى اللَّهِ سَيْرًا جَمِيلًا، وَاذْكُرُوهُ ذِكْرًا كَثِيرًا. ثُمَّ تَقَدَّمَ فَلَقِيَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ |
عُمَرَ فَلَامَهُمَا وَانْتَهَرَهُمَا وَوَعَظَهُمَا،
وَذَكَرُوا مِنْ كَلَامِهِ لَهُمَا مَا فِيهِ غِلْظَةٌ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. |
عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً. |
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَيْضًا مِنْ
حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ
قَالَ يَوْمَ صِفِّينَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا الرَّأْيَ عَلَى
الدِّينِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَقْدِرُ
لَرَدَدْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
أَمْرَهُ، وَوَاللَّهِ مَا حَمَلْنَا سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا مُنْذُ
أَسْلَمْنَا لِأَمْرٍ يَقْطَعُنَا إِلَّا أَسْهَلَنْ بِنَا إِلَى أَمْرٍ
نَعْرِفُهُ، غَيْرِ أَمْرِنَا هَذَا، فَإِنَّا لَا نَسُدُّ مِنْهُ خَصْمًا
إِلَّا انْفَتَحَ لَنَا غَيْرُهُ لَا نَدْرِي كَيْفَ نُبَالِي لَهُ. |
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ: ثَنَا يَحْيَى، ثَنَا نَصْرٌ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ شَمِرٍ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: ثُمَّ حَمَلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ عَلَيْهِمْ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ ابْنُ جَوْنٍ السَّكُونِيُّ، وَأَبُو الْغَادِيَةِ الْفَزَارِيُّ، فَأَمَّا أَبُو الْغَادِيَةِ فَطَعَنَهُ، وَأَمَّا ابْنُ جَوْنٍ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ. وَقَدْ كَانَ ذُو الْكَلَاعِ سَمِعَ قَوْلَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، وَآخَرُ شَرْبَةٍ تَشْرَبُهَا صَاعُ لَبَنٍ. فَكَانَ ذُو الْكَلَاعِ يَقُولُ لِعَمْرٍو: وَيْحَكَ مَا هَذَا يَا عَمْرُو ؟ فَيَقُولُ لَهُ عَمْرٌو: إِنَّهُ سَيَرْجِعُ إِلَيْنَا. قَالَ: فَلَمَّا أُصِيبَ عَمَّارٌ بَعْدَ ذِي الْكَلَاعِ، قَالَ عَمْرٌو لِمُعَاوِيَةَ: مَا أَدْرِي بِقَتْلِ أَيِّهِمَا أَنَا أَشَدُّ فَرَحًا ; بِقَتْلِ عَمَّارٍ أَوْ ذِي الْكَلَاعِ، وَاللَّهِ لَوْ بَقِيَ ذُو الْكَلَاعِ حَتَّى يُقْتَلَ عَمَّارٌ لَمَالَ بِعَامَّةِ أَهْلِ الشَّامِ إِلَى عَلِيٍّ، وَلَأَفْسَدَ عَلَيْنَا جُنْدَنَا. قَالَ: وَكَانَ لَا يَزَالُ يَجِيءُ رَجُلٌ فَيَقُولُ لِمُعَاوِيَةَ وَعَمْرٍو: أَنَا قَتَلْتُ عَمَّارًا. فَيَقُولُ لَهُ عَمْرٌو: فَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ ؟ فَيَخْلِطُونَ فِيمَا يُخْبِرُونَ، حَتَّى جَاءَ ابْنُ جَوْنٍ فَقَالَ: أَنَا سَمِعْتُهُ |
يَقُولُ: |
الْأَوْسَطِ، قَالَ: اخْتَصَمَ رَجُلَانِ فِي سَلَبِ
عَمَّارٍ وَفِي قَتْلِهِ، فَأَتَيَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
لِيَتَحَاكَمَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا: وَيْحَكُمَا، اخْرُجَا عَنِّي،
فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:وَلِعَتْ
قُرَيْشٌ بِعَمَّارٍ، مَا لَهُمْ وَلِعَمَّارٍ ؟ عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى
الْجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ، قَاتِلُهُ وَسَالِبُهُ فِي النَّارِ.
قَالَ: فَبَلَغَنِي أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ: إِنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ
أَخْرَجَهُ. يَخْدَعُ بِذَلِكَ أَهْلَ الشَّامِ. |
وَحَدَّثَنَا يَحْيَى، ثَنَا نَصْرٌ، حَدَّثَنِي حَفْصُ
بْنُ عِمْرَانَ الْبُرْجُمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعُ بْنُ عُمَرَ
الْجُمَحِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو
قَالَ لِأَبِيهِ: لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَمَرَنِي بِطَاعَتِكَ مَا سِرْتُ مَعَكَ هَذَا الْمَسِيرَ، أَمَا
سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ لِعَمَّارِ
بْنِ يَاسِرٍ: تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ؟ |
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَرَأَيْتُهُ جَاءَ إِلَى الْمِرْقَالِ، هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ،
وَهُوَ صَاحِبُ رَايَةِ عَلِيٍّ، فَقَالَ: يَا هَاشِمُ تَقَدَّمَ، الْجَنَّةُ
تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، وَالْمَوْتُ فِي أَطْرَافِ الْأَسَلِ، وَقَدْ
فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتَزَيَّنَتِ الْحَوَرُ الْعَيْنُ: |
أَلَمْ تَكُنْ مَعَنَا وَنَحْنُ نَبْنِي الْمَسْجِدَ
وَالنَّاسُ يَنْقُلُونَ حَجَرًا حَجَرًا، وَلَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ
يَنْقُلُ حَجَرَيْنِ حَجَرَيْنِ، وَلَبِنَتَيْنِ لِبِنْتَيْنِ، فَأَتَاهُ
رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ
التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: " وَيْحَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ،
النَّاسُ يَنْقُلُونَ حَجَرًا حَجَرًا، وَلَبِنَةً لَبِنَةً، وَأَنْتَ تَنْقُلُ
حَجَرَيْنِ حَجَرَيْنِ، وَلَبِنَتَيْنِ لِبِنْتَيْنِ ; رَغْبَةً مِنْكَ فِي
الْأَجْرِ ! وَأَنْتَ وَيْحَكَ مَعَ ذَلِكَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ
" ؟ قَالَ: فَدَفَعَ عَمْرٌو صَدْرَ فَرَسِهِ، ثُمَّ جَذَبَ مُعَاوِيَةَ
إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا مُعَاوِيَةُ، أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ
؟ قَالَ: وَمَا يَقُولُ ؟ فَأَخْبَرُهُ الْخَبَرَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّكَ
شَيْخٌ أَخْرَقُ، وَلَا تَزَالُ تُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ، وَأَنْتَ تَدْحَضُ فِي
بَوْلِكَ، أَوَنَحْنُ قَتَلْنَا عَمَّارًا ؟ إِنَّمَا قَتَلَ عَمَّارًا مَنْ
جَاءَ بِهِ. قَالَ: فَخَرَجَ النَّاسُ مِنْ عِنْدِ فَسَاطِيطِهِمْ
وَأَخْبِيَتِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّمَا قَتَلَ عَمَّارًا مَنْ جَاءَ
بِهِ. فَلَا أَدْرَى مَنْ كَانَ أَعْجَبُ هُوَ أَوْ هُمْ ؟ |
دِينَارٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِعَمَّارٍ:
تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ. |
مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُخْتَارِ
وَعَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ،
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي قِصَّةِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ،
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِعَمَّارٍ: يَا وَيْحَ عَمَّارٍ،
يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ قَالَ: يَقُولُ
عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ. وَفِي الْفِتَنِ مِنْ صَحِيحِهِ
أَيْضًا: يَا وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ
إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ. |
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ،
عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الصَّنْعَانِيِّ،
عَنْ أَبِي الْجَوَّابِ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ زُرَيْقٍ، عَنْ عَمَّارٍ
الدُّهْنِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ:إِذَا
اخْتَلَفِ النَّاسُ كَانَ ابْنُ سُمَيَّةَ مَعَ الْحَقِّ. |
عُبَيْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، ثَنَا الْأَسْفَاطِيُّ،
ثَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، ثَنَا يُوسُفُ الْمَاجِشُونُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي
عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، عَنْ مَوْلَاةٍ
لِعَمَّارٍ، قَالَتْ:اشْتَكَى عَمَّارٌ شَكْوَى أَرِقَ مِنْهَا فَغُشِيَ
عَلَيْهِ، فَأَفَاقَ وَنَحْنُ نَبْكِي حَوْلَهُ، فَقَالَ: مَا تَبْكُونَ،
أَتَخْشَوْنَ أَنْ أَمُوتَ عَلَى فِرَاشِي ؟ أَخْبَرَنِي حَبِيبِي، صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ تَقْتُلُنِي الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ،
وَأَنَّ آخِرَ زَادِي مِنَ الدُّنْيَا مَذْقَةٌ مِنْ لَبَنٍ. |
عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، بِتَسْمِيَةِ الْفَرِيقَيْنِ
مُسْلِمِينَ، كَمَا سَنُورِدُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. |
وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ اللَّيَالِي شَرًّا بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ، وَتُسَمَّى هَذِهِ اللَّيْلَةُ لَيْلَةَ الْهَرِيرِ. وَكَانَتْ
لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ تَقَصَّفَتْ فِيهَا الرِّمَاحُ وَنَفَدَتِ النِّبَالُ،
وَصَارَ النَّاسُ إِلَى السُّيُوفِ وَعَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَرِّضُ
الْقَبَائِلَ، وَيَتَقَدَّمُ إِلَيْهِمْ، يَأْمُرُ بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ
وَهُوَ أَمَامَ النَّاسِ فِي قَلْبِ الْجَيْشِ، وَعَلَى الْمَيْمَنَةِ
الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ، تَوَلَّاهَا بَعْدَ قَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
بُدَيْلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ،
وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ مِنْ كُلِّ
جَانِبٍ، وَذَلِكَ لَمَّا قُتِلَ عَمَّارٌ، عَرَفَ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَنَّ
أَهْلَ الشَّامِ بُغَاةٌ لَيْسَ مَعَهُمْ حَقٌّ. |
لَا يُمَكِّنُ أَحَدُهُمَا الْفِرَارَ مِنَ الْآخَرِ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ
دَأْبُهُمْ حَتَّى أَصْبَحَ النَّاسُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَهُمْ كَذَلِكَ،
وَصَلَّى النَّاسُ الصُّبْحَ إِيمَاءً وَهُمْ فِي الْقِتَالِ حَتَّى تَضَاحَى
النَّهَارُ وَأَقْبَلَ النَّصْرُ، وَتُوَجَّهَ النَّصْرُ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ
عَلَى أَهْلِ الشَّامِ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ صَارَتْ
إِلَيْهِ إِمْرَةُ الْمَيْمَنَةِ - وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْأَبْطَالِ
الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْحُرُوبَ وَلَا يَهَابُونَ الْقَتْلَ - فَحَمَلَ بِمَنْ
فِيهَا عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، وَتَبِعَهُ عَلِيٌّ فَانْفَضَّتْ غَالِبُ صُفُوفِ
أَهْلِ الشَّامِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْهَزِيمَةُ وَالْكَسْرَةُ
وَالْفِرَارُ. |
يَتَفَانَوْنَ، فَقَالَ لِمُعَاوِيَةَ: إِنِّي قَدْ
رَأَيْتُ أَمْرًا لَا يَزِيدُنَا إِلَّا اجْتِمَاعًا، وَلَا يَزِيدُ أَهْلَ
الْعِرَاقِ إِلَّا تَفَرُّقًا وَاخْتِلَافًا، أَرَى أَنْ نَرْفَعَ الْمَصَاحِفَ
وَنَدْعُوَهُمْ إِلَيْهَا، فَإِنْ أَجَابُوا كُلُّهُمْ إِلَى ذَلِكَ بَرَدَ
الْقِتَالُ هَذِهِ السَّاعَةَ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ - بِأَنْ
يَقُولَ بَعْضُهُمْ: نُجِيبُهُمْ. وَبَعْضُهُمْ: لَا نُجِيبُهُمْ. فَشِلُوا
وَذَهَبَتْ رِيحُهُمْ. |
عَلَى التَّلِّ، أَلَا نَمْشِيَ إِلَيْهِمْ بِسُيُوفِنَا
حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ ؟ فَتَكَلَّمَ سَهْلُ بْنُ
حُنَيْفٍ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهَمُوا أَنْفُسَكُمْ، فَلَقَدْ
رَأَيْتُنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ - يَوْمَ الصُّلْحِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ
رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ -
وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ،
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا
عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ ؟ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ كَمَا
تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ. |
وَدَهَاءً وَمَكِيدَةً وَمَكْرًا وَتَخْذِيلًا لَكُمْ،
وَكَسْرًا لِحِدَّتِكُمْ وَقِتَالِكُمْ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا هَزِيمَتُهُمْ
وَفِرَارُهُمْ وَنَصْرُكُمْ عَلَيْهِمْ. فَقَالُوا لَهُ: مَا يَسَعُنَا أَنْ
نُدْعَى إِلَى كِتَابِ اللَّهِ فَنَأْبَى أَنْ نَقْبَلَهُ وَنُجِيبَ إِلَيْهِ.
فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي إِنَّمَا أُقَاتِلُهُمْ لِيَدِينُوا بِحُكْمِ الْكِتَابِ
; فَإِنَّهُمْ قَدْ عَصَوُا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَتَرَكُوا
عَهْدَهُ، وَنَبَذُوا كِتَابَهُ. فَقَالَ لَهُ مِسْعَرُ بْنُ فَدَكِيٍّ
التَّمِيمِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ حِصْنٍ الطَّائِيُّ ثُمَّ السِّنْبِسِيُّ فِي
عِصَابَةٍ مَعَهُمَا مِنَ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ صَارُوا بَعْدَ ذَلِكَ
خَوَارِجَ: يَا عَلِيُّ أَجِبْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ إِذْ دُعِيتَ إِلَيْهِ
وَإِلَّا دَفَعْنَاكَ بَرُمَّتِكَ إِلَى الْقَوْمِ، أَوْ نَفْعَلُ بِكَ مَا
فَعَلْنَا بِابْنِ عَفَّانَ، إِنَّهُ لَمَّا تَرَكَ الْعَمَلَ بِكِتَابِ اللَّهِ
قَتَلْنَاهُ، وَاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّهَا أَوْ لَنَفْعَلَنَّهَا بِكَ. قَالَ:
فَاحْفَظُوا عَنِّي نَهْيِي إِيَّاكُمْ وَاحْفَظُوا مَقَالَتَكُمْ لِي، أَمَّا
أَنَا فَإِنْ تُطِيعُونِي فَقَاتِلُوا، وَإِنْ تَعْصُونِي فَاصْنَعُوا مَا بَدَا
لَكُمْ. قَالُوا: فَابْعَثْ إِلَى الْأَشْتَرِ فَلْيَأْتِكَ وَيَكُفَّ عَنِ
الْقِتَالِ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ لِيَكُفَّ عَنِ الْقِتَالِ. |
وَقَالَ فِي عَلِيٍّ بَعْضَ مَا أَكْرَهُ ذِكْرَهُ، ثُمَّ قَالَ عَمَّارٌ: مَنْ رَائِحٌ إِلَى اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يَبْتَغِيَ غَيْرَ اللَّهِ حَكَمًا ؟ فَحَمَلَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَكَانَ مِمَّنْ دَعَا إِلَى ذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ سَادَاتِ الشَّامِيِّينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ; قَامَ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْمُوَادَعَةِ وَالْكَفِّ وَتَرْكِ الْقِتَالَ وَالِائْتِمَارِ بِمَا فِي الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ عَنْ أَمْرِ مُعَاوِيَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ مِمَّنْ أَشَارَ عَلَى عَلِيٍّ بِالْقَبُولِ وَالدُّخُولِ فِي ذَلِكَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَرَوَى أَبُو مِخْنَفٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا بَعَثَ إِلَى الْأَشْتَرِ قَالَ: قُلْ لَهُ: إِنَّ هَذِهِ سَاعَةٌ لَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ تُزِيلَنِي عَنْ مَوْقِفِي فِيهَا، إِنِّي قَدْ رَجَوْتُ أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيَّ فَلَا تُعْجِلْنِي. فَرَجَعَ الرَّسُولُ - وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ هَانِئٍ - إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ الْأَشْتَرُ، وَصَمَّمَ الْأَشْتَرُ عَلَى الْقِتَالِ لِيَنْتَهِزَ الْفُرْصَةَ، فَارْتَفَعَ الْهَرْجُ وَعَلَتِ الْأَصْوَاتُ، فَقَالَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ لِعَلِيٍّ: وَاللَّهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا أَمَرْتَهُ أَنْ يُقَاتِلَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَرَأَيْتُمُونِي سَارَرْتُ الرَّسُولَ، أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْهِ جَهْرَةً وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ؟ فَقَالُوا: فَابْعَثْ إِلَيْهِ فَلْيَأْتِكَ وَإِلَّا وَاللَّهِ اعْتَزَلْنَاكَ. فَقَالَ عَلِيٌّ لِيَزِيدَ بْنِ هَانِئٍ: وَيْحَكَ ! قُلْ لَهُ: أَقْبِلْ إِلَيَّ فَإِنَّ الْفِتْنَةَ قَدْ وَقَعَتْ. فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ هَانِئٍ وَأَبْلَغَهُ مَا قَالَ عَلِيٌّ أَنَّهُ يُقْبِلُ إِلَيْهِ، جَعَلَ |
الْأَشْتَرُ يَتَمَلْمَلُ وَيَقُولُ: وَيْحَكَ ! أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّصْرِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَلِيلُ ؟ فَقُلْتُ: أَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ ; أَنْ تَرْجِعَ أَوْ يَقْتَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قُتِلَ عُثْمَانُ ؟ ثُمَّ مَاذَا تُغْنِي عَنْكَ نَصْرَتُكُ هَاهُنَا ؟ قَالَ: فَأَقْبَلَ الْأَشْتَرُ إِلَى عَلِيٍّ وَتَرَكَ الْقِتَالَ، فَقَالَ الْأَشْتَرُ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، يَا أَهْلَ الذُّلِّ وَالْوَهْنِ، أَحِينَ عَلَوْتُمُ الْقَوْمَ، وَظَهَرْتُمْ وَظَنُّوا أَنَّكُمْ لَهُمْ قَاهِرُونَ ; رَفَعُوا الْمَصَاحِفَ يَدْعُونَكُمْ إِلَى مَا فِيهَا، وَقَدْ وَاللَّهِ تَرَكُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِيهَا، وَسُنَّةَ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، فَلَا تُجِيبُوهُمْ، أَمْهِلُونِي فَإِنِّي قَدْ أَحْسَسْتُ بِالْفَتْحِ. قَالُوا: لَا. قَالَ: أَمْهِلُونِي عَدْوَ الْفَرَسِ فَإِنِّي قَدْ طَمِعْتُ فِي النَّصْرِ. قَالُوا: إِذًا نَدْخُلُ مَعَكَ فِي خَطِيئَتِكَ. ثُمَّ أَخَذَ الْأَشْتَرُ يُنَاظِرُ أُولَئِكَ الْقُرَّاءَ الدَّاعِينَ إِلَى إِجَابَةِ أَهْلِ الشَّامِ بِمَا حَاصِلُهُ: إِنْ كَانَ أَوَّلُ قِتَالِكُمْ لِهَؤُلَاءِ حَقًّا فَاسْتَمِرُّوا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَاشْهَدُوا لِقَتْلَاكُمْ بِالنَّارِ. فَقَالُوا: دَعْنَا مِنْكَ فَإِنَّا لَا نُطِيعُكَ وَلَا صَاحِبَكَ أَبَدًا، وَنَحْنُ قَاتَلْنَا هَؤُلَاءِ فِي اللَّهِ وَتَرَكْنَا قِتَالَهُمْ لِلَّهِ. فَقَالَ لَهُمُ الْأَشْتَرُ: خُدِعْتُمْ وَاللَّهِ فَانْخَدَعْتُمْ، وَدُعِيتُمْ إِلَى وَضْعِ الْحَرْبِ فَأَجَبْتُمْ يَا أَصْحَابَ السُّوءِ، كُنَّا نَظُنُّ صَلَاتَكُمْ زَهَادَةً فِي |
الدُّنْيَا وَشَوْقًا إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ، فَلَا أَرَى فِرَارَكُمْ إِلَّا إِلَى الدُّنْيَا مِنَ الْمَوْتِ، يَا أَشْبَاهَ النِّيبِ الْجَلَّالَةِ، مَا أَنْتُمْ بِرَبَّانِيِّينَ بَعْدَهَا، فَابْعُدُوا كَمَا بَعِدَ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ. فَسَبُّوهُ وَسَبَّهُمْ فَضَرَبُوا وَجْهَ دَابَّتِهِ بِسِيَاطِهِمْ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ أُمُورٌ طَوِيلَةٌ، وَرَغِبَ أَكْثَرُ النَّاسِ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ بِكَمَالِهِمْ إِلَى الْمُصَالَحَةِ وَالْمُسَالَمَةِ مُدَّةً لَعَلَّهُمْ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَمْرٍ يَكُونُ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِحَقْنِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ تَفَانَوْا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَلَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ الْمُتَأَخِّرَةِ الَّتِي كَانَ آخِرُهَا لَيْلَةَ الْجُمُعَةُ، وَهِيَ لَيْلَةُ الْهَرِيرِ. وَقَدْ صَبَرَ كُلٌّ مِنَ الْجَيْشَيْنِ لِلْآخَرِ صَبْرًا لَمْ يُرَ مِثْلَهُ لِمَا كَانَ فِيهِمْ مِنَ الشُّجْعَانِ وَالْأَبْطَالِ مَا لَيْسَ يُوجَدُ مِثْلُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلِهَذَا لَمْ يَفِرَّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ بَلْ صَبَرُوا حَتَّى قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ - فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ - سَبْعُونَ أَلْفًا ; خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ ; مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَسَيْفٌ وَغَيْرُهُ. وَزَادَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْبَرَاءِ: وَكَانَ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ |
بَدْرِيًّا. قَالَ: وَكَانَ بَيْنَهُمْ فِي هَذِهِ
الْمُدَّةِ تِسْعُونَ زَحْفًا. وَاخْتَلَفَا فِي مُدَّةِ الْمُقَامِ بِصِفِّينَ
; فَقَالَ سَيْفٌ: سَبْعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ. وَقَالَ أَبُو
الْحَسَنِ بْنُ الْبَرَاءِ: مِائَةٌ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ. قُلْتُ: وَمُقْتَضَى
كَلَامِ أَبِي مِخْنَفٍ أَنَّهُ كَانَ مِنْ مُسْتَهَلِّ ذِي الْحِجَّةِ فِي
يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ صَفَرٍ، وَذَلِكَ
ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ يَوْمًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ:
بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يُدْفَنُ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ خَمْسُونَ نَفْسًا.
هَذَا كُلُّهُ مُلَخَّصٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ، وَابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي
كِتَابِهِ " الْمُنْتَظَمِ ". |
هُرَيْرَةَ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ يُقْتَلُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ وَدَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ. وَرَوَاهُ مُجَالِدٌ، عَنْ أَبِي الْحَوَارِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ دَعَوَاهُمَا وَاحِدَةٌ ; فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ مَرَقَتْ مِنْهُمَا مَارِقَةٌ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ وَإِسْحَاقَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ نَاجِيَةَ الْكَاهِلِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّ رَحَى الْإِسْلَامِ سَتَزُولُ لِخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ يَهْلَكُوا فَسَبِيلُ مَنْ هَلَكَ، وَإِنْ يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ يَقُمْ لَهُمْ سَبْعِينَ عَامًا. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِمَّا مَضَى أَمْ مِمَّا بَقِيَ ؟ |
قَالَ: بَلْ مِمَّا بَقِيَ. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق