2/23 .البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء
اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ قُتِلَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ،
إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ الْقُرَشِيِّ
الْأُمَوِيِّ، أَبُو سَعِيدٍ وَأَبُو الْأَصْبَغِ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ ابْنُ
عَسَاكِرَ: وَدَارُهُ بِدِمَشْقَ فِي مَحَلَّةِ الْقِبَابِ عِنْدَ بَابِ
الْجَامِعِ الْقِبْلِيِّ، وَلِيَ الْمَوْسِمَ أَيَّامَ أَخِيهِ الْوَلِيدِ وَغَزَا
الرُّومَ غَزَوَاتٍ، وَحَاصَرَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَوَلَّاهُ أَخُوهُ يَزِيدُ
إِمْرَةَ الْعِرَاقَيْنِ ثُمَّ عَزَلَهُ، وَوَلِيَ إِرْمِينِيَّةَ.
وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَنْهُ عَبْدُ الْمَلِكِ
بْنُ أَبِي عُثْمَانَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ قَزْعَةَ، وَعُيَيْنَةَ وَالِدُ
سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَابْنُ أَبِي عِمْرَانَ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ خَدِيجٍ،
وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى الْغَسَّانِيُّ.
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: كَانَ مِنْ رِجَالِ بَنِي أُمَيَّةَ وَكَانَ
يُلَقَّبُ بِالْجَرَادَةِ الصَّفْرَاءِ، وَلَهُ آثَارٌ كَثِيرَةٌ وَحُرُوبٌ
وَنِكَايَةٌ فِي الرُّومِ.
قُلْتُ: وَقَدْ فَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً مِنْ بِلَادِ الرُّومِ.
وَلَمَّا وَلِيَ إِرْمِينِيَّةَ غَزَا
التُّرْكَ فَبَلَغَ بَابَ الْأَبْوَابِ فَهَدَمَ الْمَدِينَةَ الَّتِي عِنْدَهُ،
ثُمَّ أَعَادَ بِنَاءَهَا بَعْدَ تِسْعِ سِنِينَ.
وَفِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ غَزَا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ فَحَاصَرَهَا،
وَافْتَتَحَ مَدِينَةَ الصَّقَالِبَةِ وَكَسَرَ مَلِكَهُمُ الْبُرْجَانَ ثُمَّ
عَادَ إِلَى مُحَاصَرَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ.
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: فَأَخَذَهُ، وَهُوَ يُغَازِيهِمْ، صُدَاعٌ عَظِيمٌ فِي
رَأْسِهِ، فَبَعَثَ مَلِكُ الرُّومِ إِلَيْهِ بِقَلَنْسُوَةٍ، وَقَالَ: ضَعْهَا
عَلَى رَأْسِكَ يَذْهَبْ صُدَاعُكَ. فَخَشِيَ أَنْ تَكُونَ مَكِيدَةً، فَوَضَعَهَا
عَلَى رَأْسِ بَهِيمَةٍ، فَلَمْ يَرَ إِلَّا خَيْرًا، ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى
رَأْسِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ فَلَمْ يَرَ إِلَّا خَيْرًا، فَوَضَعَهَا عَلَى
رَأْسِهِ فَذَهَبَ صُدَاعُهُ، فَفَتَقَهَا فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ سَبْعُونَ
سَطْرًا هَذِهِ الْآيَةُ مُكَرَّرَةً: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ
بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [ فَاطِرٍ: 41 ]. رَوَاهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ.
وَقَدْ لَقِيَ مَسْلَمَةُ فِي حِصَارِهِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ شِدَّةً عَظِيمَةً،
وَجَاعَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَهَا جَوْعًا شَدِيدًا، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الْبَرِيدَ يَأْمُرُهُمْ بِالرُّجُوعِ
إِلَى الشَّامِ، فَحَلَفَ مَسْلَمَةُ أَنْ لَا يُقْلِعَ عَنْهُمْ حَتَّى يَبْنُوا
لَهُ جَامِعًا كَبِيرًا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَبَنَوْا لَهُ جَامِعًا
وَمَنَارَةً، فَهُوَ بِهَا إِلَى الْآنِ يُصَلِّي فِيهِ الْمُسْلِمُونَ
الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ.
قُلْتُ: وَهِيَ آخِرُ مَا يَفْتَحُهُ
الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، كَمَا
سَنُورِدُهُ فِي الْمَلَاحِمِ وَالْفِتَنِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا إِنْ شَاءَ
اللَّهُ، وَنَذْكُرُ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ هُنَاكَ.
وَبِالْجُمْلَةِ كَانَتْ لِمَسْلَمَةَ مَوَاقِفُ مَشْهُورَةٌ وَمَسَاعٍ مَشْكُورَةٌ،
وَغَزَوَاتٌ مُتَتَالِيَةٌ وَمَنْثُورَةٌ، وَقَدِ افْتَتَحَ حُصُونًا وَقِلَاعًا،
وَأَحْيَا بِعَزْمِهِ وَحَزْمِهِ قُصُورًا وَبِقَاعًا، وَكَانَ فِي زَمَانِهِ
نَظِيرَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فِي أَيَّامِهِ، فِي كَثْرَةِ مَغَازِيهِ،
وَكَثْرَةِ فُتُوحِهِ، وَقُوَّةِ عَزْمِهِ، وَشِدَّةِ بَأْسِهِ، وَجَوْدَةِ
تَصَرُّفِهِ فِي نَقْضِهِ وَإِبْرَامِهِ، هَذَا مَعَ الْكَرَمِ وَالْفَصَاحَةِ،
وَالرِّيَاسَةِ وَالسَّمَاحَةِ، وَالْأَصَالَةِ وَالرَّجَاحَةِ، وَالدِّينِ
وَالْعِفَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَمِنْ كَلَامِهِ الْحَسَنِ قَوْلُهُ: مُرُوءَتَانِ ظَاهِرَتَانِ ; الرِّيَاشُ
وَالْفَصَاحَةُ. وَقَالَ يَوْمًا لِنُصَيْبٍ الشَّاعِرِ: سَلْنِي. قَالَ: لَا.
قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالَ: لِأَنَّ كَفَّكَ بِالْجَزِيلِ أَكْثَرُ مِنْ مَسْأَلَتِي
بِاللِّسَانِ. فَأَعْطَاهُ أَلْفَ دِينَارٍ. وَقَالَ أَيْضًا: الْأَنْبِيَاءُ لَا
يَتَثَاءَبُونَ كَمَا يَتَثَاءَبُ النَّاسُ، مَا تَثَاءَبَ نَبِيٌّ قَطُّ. وَقَدْ
أَوْصَى بِثُلْثِ مَالِهِ لِأَهْلِ الْأَدَبِ، وَقَالَ: إِنَّهَا صِنَاعَةٌ
مَجْفُوٌّ أَهْلُهَا.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَغَيْرُهُ: تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ
لِسَبْعٍ مَضَيْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ،
سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ
وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: الْحَانُوتُ.
وَقَدْ رَثَاهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ ابْنُ أَخِيهِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ:
أَقُولُ وَمَا الْبُعْدُ إِلَّا الرَّدَى أَمْسَلَمُ لَا تَبْعُدَنْ مَسْلَمَهْ
فَقَدْ كُنْتَ نُورًا لَنَا فِي الْبِلَادِ
مُضِيئًا فَقَدْ أَصْبَحَتْ مُظْلِمَهْ وَنَكْتُمُ مَوْتَكَ نَخْشَى الْيَقِينَ
فَأَبْدَى الْيَقِينُ عَنِ الْجُمْجُمَهْ
نُمَيْرُ بْنُ أَوْسٍ الْأَشْعَرِيُّ قَاضِي دِمَشْقَ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى
عَنْ حُذَيْفَةَ مُرْسَلًا وَأَبِي مُوسَى مُرْسَلًا وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَنْ
مُعَاوِيَةَ مُرْسَلًا، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَحَدَّثَ عَنْهُ
جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ، مِنْهُمُ الْأَوْزَاعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، وَيَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ الذِّمَارِيُّ.
وَلَّاهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ بَعْدَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الْخَشْخَاشِ الْعُذْرِيِّ ثُمَّ اسْتَعْفَى هِشَامًا
فَأَعْفَاهُ وَوَلَّى مَكَانَهُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
مَالِكٍ. وَكَانَ نُمَيْرٌ هَذَا لَا يَحْكُمُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ،
وَكَانَ يَقُولُ: الْآدَابُ مِنَ الْآبَاءِ، وَالصَّلَاحُ مِنَ اللَّهِ.
قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: تُوَفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ. وَهُوَ غَرِيبٌ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
فَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ زَيْدُ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ الْبَيْعَةَ مِمَّنْ
بَايَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، أَمَرَهُمْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ
بِالْخُرُوجِ وَالتَّأَهُّبِ لَهُ، فَشَرَعُوا فِي أَخْذِ الْأُهْبَةِ لِذَلِكَ،
فَانْطَلَقَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: سُلَيْمَانُ بْنُ سُرَاقَةَ إِلَى يُوسُفَ بْنِ
عُمَرَ نَائِبِ الْعِرَاقِ فَأَخْبَرَهُ - وَهُوَ بِالْحِيرَةِ يَوْمَئِذٍ -
خَبَرَ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَعِنْدَ مَنْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ،
فَبَعَثَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ يَطْلُبُهُ وَيُلِحُّ فِي طَلَبِهِ، فَلَمَّا
عَلِمَتِ الشِّيعَةُ ذَلِكَ اجْتَمَعُوا عِنْدَ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَالُوا
لَهُ: مَا قَوْلُكَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فِي أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ ؟ فَقَالَ:
غَفَرَ اللَّهُ لَهُمَا، مَا سَمِعْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَتَبَرَّأُ
مِنْهُمَا، وَأَنَا لَا أَقُولُ فِيهِمَا إِلَّا خَيْرًا. قَالُوا: فَلِمَ
تَطْلُبُ إِذًا بِدَمِ أَهْلِ الْبَيْتِ ؟ فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا أَحَقَّ
النَّاسِ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ اسْتَأْثَرُوا عَلَيْنَا بِهِ
وَدَفَعُونَا عَنْهُ، وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ عِنْدَنَا بِهِمْ كُفْرًا، قَدْ
وَلُوا فَعَدَلُوا، وَعَمِلُوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَالُوا: فَلِمَ
تُقَاتِلُ هَؤُلَاءِ إِذًا ؟ قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا كَأُولَئِكَ، إِنَّ
هَؤُلَاءِ ظَلَمُوا النَّاسَ، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنِّي أَدْعُو إِلَى
كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَإِحْيَاءِ السُّنَنِ وَإِمَاتَةِ الْبِدَعِ، فَإِنْ تَسْمَعُوا يَكُنْ خَيْرًا
لَكُمْ وَلِي، وَإِنْ تَأْبَوْا فَلَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. فَرَفَضُوا
وَانْصَرَفُوا عَنْهُ، وَنَقَضُوا بَيْعَتَهُ وَتَرَكُوهُ، فَلِهَذَا سُمُّوا
الرَّافِضَةَ مِنْ يَوْمِئِذٍ، وَمَنْ
تَابَعَهُ مِنَ النَّاسِ عَلَى قَوْلِهِ سُمُّوا الزَّيْدِيَّةِ وَغَالِبُ أَهْلِ
الْكُوفَةِ مِنْهُمْ رَافِضَةٌ وَغَالِبُ أَهْلِ مَكَّةَ إِلَى الْيَوْمِ عَلَى
مَذْهَبِ الزَّيْدِيَّةِ وَفِيهِ حَقٌّ ; وَهُوَ تَعْدِيلُ الشَّيْخَيْنِ،
وَبَاطِلٌ ; وَهُوَ اعْتِقَادُ تَقْدِيمِ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا، وَلَيْسَ عَلِيٌّ
مُقَدَّمًا عَلَيْهِمَا، بَلْ وَلَا عُثْمَانُ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ أَهْلِ
السُّنَّةِ وَالْآثَارِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
ثُمَّ إِنَّ زَيْدًا عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنْ
أَصْحَابِهِ، فَوَاعَدَهُمْ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءَ مُسْتَهَلَّ صَفَرٍ مِنْ
هَذِهِ السُّنَّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ فَكَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ
عَلَى الْكُوفَةِ وَهُوَ الْحَكَمُ بْنُ الصَّلْتِ يَأْمُرُهُ بِجَمْعِ النَّاسِ
كُلِّهِمْ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَجَمَعَ النَّاسَ لِذَلِكَ فِي يَوْمِ
الثُّلَاثَاءِ سَلْخَ الْمُحَرَّمِ، قَبْلَ خُرُوجِ زَيْدٍ بِيَوْمٍ، وَخَرَجَ
زَيْدٌ بِمَنْ مَعَهُ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ فِي بَرْدٍ شَدِيدٍ، وَرَفَعَ
أَصْحَابَهُ النِّيرَانَ، وَجَعَلُوا يُنَادُونَ: يَا مَنْصُورُ يَا مَنْصُورُ.
فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ إِذَا قَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ مِائَتَانِ وَثَمَانِيَةَ
عَشْرَ رَجُلًا، فَجَعَلَ زَيْدٌ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! أَيْنَ النَّاسُ ؟
فَقِيلَ: هُمْ فِي الْمَسْجِدِ مَحْصُورُونَ. وَكَتَبَ الْحَكَمُ بْنُ الصَّلْتِ
إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ يُعْلِمُهُ
بِخُرُوجِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ فَبَعَثَ إِلَيْهِ سِرِّيَّةً إِلَى الْكُوفَةِ، وَرَكِبَتِ الْجُيُوشُ مَعَ نَائِبِ الْكُوفَةِ، وَجَاءَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ أَيْضًا فِي طَائِفَةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَالْتَقَى زَيْدٌ بِمَنْ مَعَهُ جُرْثُومَةً مِنْهُمْ فِيهِمْ خَمْسُمِائَةِ فَارِسٍ فَهَزَمَهُمْ ثُمَّ أَتَى الْكُنَاسَةَ، فَحَمَلَ عَلَى جَمْعٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَهَزَمَهُمْ، ثُمَّ اجْتَازَ بِيُوسُفَ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ وَاقِفٌ فَوْقَ تَلٍّ وَزَيْدٌ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ، وَلَوْ قَصَدَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ لَقَتَلَهُ، وَلَكِنْ أَخْذَ ذَاتَ الْيَمِينِ، وَكُلَّمَا الْتَقَى بِطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ هَزَمَهُمْ، وَجَعَلَ أَصْحَابَهُ يُنَادُونَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ اخْرُجُوا إِلَى الدِّينِ وَالْعِزِّ وَالدُّنْيَا، فَإِنَّكُمْ لَسْتُمْ فِي دِينٍ وَلَا عِزٍّ وَلَا دُنْيَا. ثُمَّ لَمَّا أَمْسَوُا انْضَافَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَدْ قُتِلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي اقْتَتَلَ هُوَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَانْصَرَفُوا عَنْهُ بِشَرِّ حَالٍ، وَأَمْسَوْا فَعَبَّأَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ جَيْشَهُ جِدًّا، ثُمَّ أَصْبَحُوا فَالْتَقَوْا مَعَ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ فِي أَصْحَابِهِ، فَكَشَفَهُمْ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ إِلَى السَّبْخَةِ ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ ثُمَّ تَبِعَهُمْ فِي خَيْلِهِ وَرَجِلِهِ حَتَّى أَخَذُوا عَلَى الْمُسَنَّاةِ، ثُمَّ اقْتَتَلُوا هُنَاكَ قِتَالًا شَدِيدًا جِدًّا، حَتَّى كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ رُمِيَ زَيْدٌ بِسَهْمٍ، فَأَصَابَ جَانِبَ جَبْهَتَهُ الْيُسْرَى، فَوَصَلَ إِلَى دِمَاغِهِ، فَرَجَعَ وَرَجَعَ أَصْحَابُهُ، وَلَا يَظُنُّ أَهْلُ الشَّامِ أَنَّهُمْ رَجَعُوا إِلَّا لِلْمَسَاءِ وَاللَّيْلِ، وَأُدْخِلَ زَيْدٌ فِي دَارٍ فِي سِكَّةِ الْبَرِيدِ وَجِيءَ بِطَبِيبٍ فَانْتَزَعَ ذَلِكَ السَّهْمَ مِنْ جَبْهَتِهِ، فَمَا عَدَا أَنِ انْتَزَعَهُ حَتَّى مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ أَيْنَ
يَدْفِنُوهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلْبِسُوهُ دِرْعَهُ وَأَلْقُوهُ فِي الْمَاءِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: احْتَزُّوا رَأْسَهُ وَاتْرُكُوا جُثَّتَهُ فِي الْقَتْلَى.
فَقَالَ ابْنُهُ: لَا وَاللَّهِ لَا تَأْكُلُ أَبِي الْكِلَابُ. وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: ادْفِنُوهُ فِي الْعَبَّاسِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ادْفِنُوهُ فِي
الْحُفْرَةِ الَّتِي يُؤْخَذُ مِنْهَا الطِّينُ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَأَجْرَوْا
عَلَى قَبْرِهِ الْمَاءَ ; لِئَلَّا يُعْرَفَ، وَانْفَتَلَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ
يَبْقَ لَهُمْ رَأْسٌ يُقَاتِلُونَ بِهِ، فَمَا أَصْبَحَ الْفَجْرُ وَلَهُمْ
قَائِمَةٌ يَنْهَضُونَ بِهَا، وَتَتَبَّعَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ الْجَرْحَى هَلْ
يَجِدُ زَيْدًا بَيْنَهُمْ، وَجَاءَ مَوْلًى لِزَيْدٍ سِنْدِيٌّ، قَدْ شَهِدَ
دَفْنَهُ، فَدَلَّ عَلَى قَبْرِهِ، فَأُخِذَ مِنْ قَبْرِهِ، فَأَمَرَ يُوسُفُ بْنُ
عُمَرَ بِصُلْبِهِ عَلَى خَشَبَةٍ بِالْكُنَاسَةِ وَمَعَهُ نَصْرُ بْنُ
خُزَيْمَةَ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ
الْأَنْصَارِيُّ، وَزِيَادٌ النَّهْدِيُّ وَيُقَالُ: إِنَّ زَيْدًا مَكَثَ
مَصْلُوبًا أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأُحْرِقَ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ أَنَّ يُوسُفَ بْنَ
عُمَرَ لَمْ يَعْلَمْ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ حَتَّى كَتَبَ
لَهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّكَ لَغَافِلٌ، وَإِنَّ
زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ غَارِزٌ ذَنَبَهُ بِالْكُوفَةِ يُبَايَعُ لَهُ، فَأَلِحَّ فِي
طَلَبِهِ وَأُعْطِهِ الْأَمَانَ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ فَقَاتِلْهُ. فَتَطَلَّبَهُ
يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا ظَهَرَ
عَلَى قَبْرِهِ حَزَّ رَأْسَهُ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ فَنَصَبَهُ عَلَى بَابِ دِمَشْقَ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسَارُوا بِهِ
إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى نَصَبُوهُ عَلَى أَحَدِ أَبْوَابِهَا، وَأَمَّا
جُثَّتُهُ فَلَمْ تَزَلْ مَصْلُوبَةً تُحْرَسُ لَيْلًا وَنَهَارًا حَتَّى
انْقَضَتْ دَوْلَةُ هِشَامٍ وَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ الْوَلِيدُ بْنُ
يَزِيدَ فَأَمَرَ بِهِ، فَأُنْزِلَ
وَحُرِّقَ فِي أَيَّامِهِ، قَبَّحَ اللَّهُ الْوَلِيدَ هَذَا. وَأَمَّا ابْنُهُ
يَحْيَى بْنُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ فَاسْتَجَارَ بِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ بِشْرِ
بْنِ مَرْوَانَ فَبَعَثَ إِلَيْهِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ يَتَهَدَّدُهُ حَتَّى
يَحْضُرَهُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ بِشْرٍ: مَا كُنْتُ لِأُؤْوِيَ
مِثْلَ هَذَا الرَّجُلِ وَهُوَ عَدُوُّنَا وَابْنُ عَدُوِّنَا. فَصَدَّقَهُ
يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ فِي ذَلِكَ. وَلَمَّا هَدَأَ الطَّلَبُ عَنْهُ سَيَّرَهُ
إِلَى خُرَاسَانَ، فَخَرَجَ يَحْيَى بْنُ زَيْدٍ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ
الزَّيْدِيَّةِ إِلَى خُرَاسَانَ فَأَقَامُوا بِهَا هَذِهِ الْمُدَّةَ.
قَالَ أَبُو مَخْنَفٍ: وَلَمَّا قَتَلَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ
خَطَبَ أَهْلَ الْكُوفَةِ، فَتَهَدَّدَهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ وَشَتَمَهُمْ
وَأَنَّبَهُمْ ; قَالَ فِيمَا قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَأْذَنْتُ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ فِي قَتْلِ خَلْقٍ مِنْكُمْ، وَلَوْ أَذِنَ لِي لَقَتَلْتُ
مُقَاتَلَتَكُمْ، وَسَبَيْتُ ذَرَارِيَّكُمْ، وَمَا صَعِدْتُ هَذَا الْمِنْبَرَ
إِلَّا لِأُسْمِعَكُمْ مَا تَكْرَهُونَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ الْبَطَّالُ
فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَرْضِ الرُّومِ. وَلَمْ يَزِدِ ابْنُ
جَرِيرٍ عَلَى هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الرَّجُلَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ
فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ، فَقَالَ:
عَبْدُ اللَّهِ أَبُو يَحْيَى الْمَعْرُوفُ بِالْبَطَّالِ.
كَانَ يَنْزِلُ أَنْطَاكِيَةَ، حَكَى عَنْهُ أَبُو مَرْوَانَ الْأَنْطَاكِيُّ.
ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ أَنَّ
عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ حِينَ عَقَدَ لِابْنِهِ مَسْلَمَةَ عَلَى غَزْوِ
بِلَادِ الرُّومِ وَلَّى عَلَى رُؤَسَاءِ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ
الْبَطَّالَ وَقَالَ لِابْنِهِ مَسْلَمَةَ: صَيِّرْهُ عَلَى طَلَائِعِكَ،
وَأْمُرْهُ فَلْيُعَسَّ بِاللَّيْلِ الْعَسْكَرَ، فَإِنَّهُ أَمِينٌ ثِقَةٌ
مِقْدَامٌ شُجَاعٌ. وَخَرَجَ مَعَهُمْ عَبْدُ الْمَلِكِ يُشَيِّعُهُمْ إِلَى بَابِ
دِمَشْقَ.
قَالَ: فَقَدَّمَ مَسْلَمَةُ الْبَطَّالَ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ يَكُونُونَ بَيْنَ
يَدَيْهِ تُرْسًا مِنَ الرُّومِ أَنْ يَصِلُوا إِلَى جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ الدِّمَشْقِيُّ: ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ
حَدَّثَنِي أَبُو مَرْوَانَ - شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ أَنْطَاكِيَةَ - قَالَ: كُنْتُ
أَغَازِي الْبَطَّالَ وَقَدْ أَوْطَأَ الرُّومَ ذُلًّا، قَالَ الْبَطَّالُ:
فَسَأَلَنِي بَعْضُ وُلَاةِ بَنِي أُمَيَّةَ عَنْ أَعْجَبِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِي
فِيهِمْ، فَقُلْتُ لَهُ: خَرَجْتُ فِي سِرِّيَّةٍ لَيْلًا، فَدَفَعْنَا إِلَى
قَرْيَةٍ، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي: أَرْخُوا لُجُمَ خُيُولِكُمْ وَلَا تُحَرِّكُوا
أَحَدًا بِقَتْلٍ وَلَا بِسَبْيٍ حَتَّى تَشْحَنُوا الْقَرْيَةَ فَإِنَّهُمْ فِي
نَوْمَةٍ. فَفَعَلُوا وَافْتَرَقُوا فِي أَزِقَّتِهَا، فَدَفَعْتُ فِي أُنَاسٍ
مِنْ أَصْحَابِي إِلَى بَيْتٍ يَزْهَرُ سِرَاجُهُ، وَإِذَا امْرَأَةٌ تُسَكِّتُ
ابْنَهَا مِنْ بُكَائِهِ وَهِيَ تَقُولُ: لَتَسْكُتْنَّ أَوْ لَأَدْفَعَنَّكَ
إِلَى الْبَطَّالِ يَذْهَبُ بِكَ. وَانْتَشَلَتْهُ مِنْ سَرِيرِهِ وَقَالَتْ:
أَمْسِكْ يَا بِطَّالُ. قَالَ: فَأَخَذْتُهُ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ عَنِ الْوَلِيدِ، عَنْ أَبِي مَرْوَانَ
الْأَنْطَاكِيِّ عَنِ الْبَطَّالِ قَالَ: انْفَرَدْتُ مَرَّةً عَلَى فَرَسِي،
لَيْسَ مَعِي أَحَدٌ مِنَ الْجُنْدِ، وَقَدْ سَمَّطْتُ خَلْفِي
مِخْلَاةً فِيهَا شَعِيرٌ، وَمَعِي مَنْدِيلٌ فِيهِ خُبْزٌ وَشِوَاءٌ، فَبَيْنَا أَنَا أَسِيرُ لَعَلِّي أَلْقَى أَحَدًا مُنْفَرِدًا أَوْ أَطَّلِعُ عَلَى خَبَرٍ، إِذَا أَنَا بِبُسْتَانٍ فِيهِ بُقُولٌ حَسَنَةٌ، فَنَزَلْتُ وَأَكَلْتُ مِنْ ذَلِكَ الْخَبْزِ وَالشِّوَاءِ مَعَ الْبَقْلِ، فَأَخَذَنِي إِسْهَالٌ عَظِيمٌ قُمْتُ مِنْهُ مِرَارًا، فَخِفْتُ أَنْ أَضْعُفَ مِنْ كَثْرَةِ الْإِسْهَالِ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَالْإِسْهَالُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى حَالِهِ، وَجَعَلْتُ أَخْشَى إِنْ أَنَا نَزَلْتُ عَنْ فَرَسِي أَنْ أَضْعُفَ عَنِ الرُّكُوبِ، وَأَفْرَطَ بِي الْإِسْهَالُ فِي السَّرْجِ، حَتَّى خَشِيَتُ أَنْ أَسْقُطَ مِنَ الضَّعْفِ، فَأَخَذْتُ بِعِنَانِ الْفَرَسِ، وَنِمْتُ عَلَى وَجْهِي لَا أَدْرِي أَيْنَ يَسِيرُ الْفَرَسُ بِي، فَلَمْ أَشْعُرْ إِلَّا بِقَرْعِ نِعَالِهِ عَلَى بَلَاطٍ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَإِذَا دَيْرٌ، وَإِذَا قَدْ خَرَجَ مِنْهُ نِسْوَةٌ صُحْبَةَ امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ جَمِيلَةٍ جِدًّا، فَجَعَلَتْ تَقُولُ لَهُنَّ بِلِسَانِهَا: أَنْزِلْنَهُ. فَأَنْزَلْنَنِي، فَغَسَلْنَ عَنِّي ثِيَابِي وَسَرْجِي وَفَرَسِي، وَوَضَعْنَنِي عَلَى سَرِيرٍ، وَعَمِلْنَ لِي طَعَامًا وَشَرَابًا فَمَكَثْتُ يَوْمًا وَلَيْلَةً مَسْبُوتًا، ثُمَّ أَقَمْتُ بَقِيَّةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ حَتَّى تُرَادَّ إِلَيَّ حَالِي، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ قِيلَ: جَاءَ الْبِطْرِيقُ. فَأَمَرْتُ بِفَرَسِي فَحُوِّلَ، وَغُلِّقَ عَلَيَّ الْبَابُ الَّذِي أَنَا فِيهِ، وَإِذَا هُوَ بِطْرِيقٌ كَبِيرٌ فِيهِمْ قَدْ جَاءَ لِخِطْبَتِهَا، فَأَخْبَرَهُ بَعْضُ مَنْ كَانَ هُنَاكَ بِأَنَّ هَذَا الْبَيْتَ فِيهِ رَجُلٌ وَلَهُ فَرَسٌ، فَهَمَّ بِالْهُجُومِ عَلَيَّ، فَمَنَعَتْهُ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَتْ تَقُولُ لَهُ: إِنْ فَتَحَ عَلَيْهِ الْبَابَ لَمْ أَقْضِ حَاجَتَهُ. فَثَنَاهُ ذَلِكَ عَنِ الْهُجُومِ عَلَيَّ، وَأَقَامَ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ فِي ضِيَافَتِهِمْ، ثُمَّ رَكِبَ فَرَسَهُ، وَرَكِبَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ وَانْطَلَقَ. قَالَ الْبَطَّالُ: فَنَهَضْتُ فِي أَثَرِهِمْ، فَهَمَّتْ أَنْ تَمْنَعَنِي خَوْفًا عَلَيَّ مِنْهُمْ فَلَمْ أَقْبَلْ، وَسُقْتُ حَتَّى لَحِقْتُهُمْ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ، فَانْفَرَجَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَأَرَادَ الْفِرَارَ، فَأَلْحَقُهُ فَأَضْرِبُ عُنُقَهُ وَاسْتَلَبْتُهُ وَأَخَذْتُ رَأْسَهُ مُسَمَّطًا عَلَى فَرَسِي، وَرَجَعْتُ إِلَى الدَّيْرِ، فَخَرَجْنَ إِلَيَّ
وَوَقَفْنَ بَيْنَ يَدَيَّ، فَقُلْتُ:
ارْكَبْنَ. فَرَكِبْنَ مَا هُنَالِكَ مِنَ الدَّوَابِّ، وَسُقْتُ بِهِنَّ حَتَّى
أَتَيْتُ أَمِيرَ الْجَيْشِ، فَدَفَعْتُهُنَّ إِلَيْهِ، فَنَفَّلَنِي مَا شِئْتُ
مِنْهُنَّ، فَأَخَذْتُ تِلْكَ الْمَرْأَةَ الْحَسْنَاءَ بِعَيْنِهَا، فَهِيَ أَمُّ
أَوْلَادِي. وَكَانَ أَبُوهَا بِطْرِيقًا كَبِيرًا فِيهِمْ، وَكَانَ الْبَطَّالُ
بَعْدَ ذَلِكَ يُكَاتِبُ أَبَاهَا وَيُهَادِيهِ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ عَنِ الْوَلِيدِ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
رَاشِدٍ مَوْلَى خُزَاعَةَ يُخْبِرُ عَمَّنْ سَمِعَهُ مِنَ الْبَطَّالِ أَنَّ
هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ لَمَّا وَلَّاهُ الْمِصِّيصَةَ بَعَثَ الْبَطَّالُ
سَرِيَّةً إِلَى أَرْضِ الرُّومِ فَغَابَ عَنْهُ خَبَرُهَا فَلَمْ يَدْرِ مَا
صَنَعُوا، فَرَكِبَ بِنَفْسِهِ وَحْدَهُ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، وَسَارَ حَتَّى وَصَلَ
إِلَى عَمُّورِيَّةَ، فَطَرَقَ بَابَهَا لَيْلًا، فَقَالَ لَهُ الْبَوَّابُ: مَنْ
هَذَا ؟ قَالَ الْبَطَّالُ: فَقُلْتُ: أَنَا سَيَّافُ الْمَلِكِ وَرَسُولُهُ إِلَى
الْبِطْرِيقِ فَخُذْ لِي طَرِيقًا إِلَيْهِ. فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ إِذَا
هُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ، فَجَلَسْتُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ إِلَى جَانِبِهِ،
ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: إِنِّي قَدْ جِئْتُكَ فِي رِسَالَةٍ، فَمُرْ هَؤُلَاءِ
فَلْيَنْصَرِفُوا. فَأَمَرَ مَنْ عِنْدَهُ فَذَهَبُوا. قَالَ: ثُمَّ قَامَ
فَغَلَقَ بَابَ الْكَنِيسَةِ عَلَيَّ وَعَلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ،
فَاخْتَرَطْتُ سَيْفِي، وَضَرَبْتُ بِهِ رَأَسَهُ صَفْحًا، وَقُلْتُ لَهُ: أَنَا
الْبَطَّالُ فَاصْدُقْنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ وَإِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَكَ.
قَالَ: وَمَا هُوَ ؟ قُلْتُ: السَّرِيَّةُ الَّتِي بَعَثْتُهَا مَا خَبَرُهَا ؟
فَقَالَ: هُمْ فِي بِلَادِي يَنْتَهِبُونَ مَا تَهَيَّأَ لَهُمْ، وَهَذَا كِتَابٌ
قَدْ جَاءَنِي يُخْبِرُ أَنَّهُمْ فِي وَادِي كَذَا وَكَذَا، وَاللَّهِ لَقَدْ
صَدَقْتُكَ. فَقُلْتُ: هَاتِ الْأَمَانَ. فَأَعْطَانِي الْأَمَانَ، فَقُلْتُ:
ائْتِنِي بِطَعَامٍ. فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَجَاءُوا بِطَعَامٍ، فَوُضِعَ لِي،
فَأَكَلْتُ ثُمَّ قُمْتُ لِأَنْصَرِفَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: اخْرُجُوا بَيْنَ
يَدَيْ رَسُولِ الْمَلِكِ. فَانْطَلَقُوا يَتَعَادُّونَ بَيْنَ يَدَيَّ،
وَانْطَلَقْتُ إِلَى ذَلِكَ الْوَادِي
الَّذِي ذُكِرَ، فَإِذَا أَصْحَابِي
هُنَالِكَ، فَأَخَذَتْهُمْ وَرَجَعْتُ إِلَى الْمِصِّيصَةِ. فَهَذَا أَغْرَبُ مَا
جَرَى.
قَالَ الْوَلِيدُ: وَأَخْبَرَنِي بَعْضُ شُيُوخِنَا أَنَّهُ رَأَى الْبَطَّالَ
وَهُوَ قَافِلٌ مَنْ حَجَّتِهِ، وَكَانَ قَدْ شُغِلَ بِالْجِهَادِ عَنِ الْحَجِّ،
وَكَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ دَائِمًا الْحَجَّ ثُمَّ الشَّهَادَةَ، فَلَمْ
يَتَمَكَّنْ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إِلَّا فِي السَّنَةِ الَّتِي اسْتُشْهِدَ
فِيهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ سَبَبُ شَهَادَتِهِ أَنَّ لِيُونَ
مَلِكَ الرُّومِ خَرَجَ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فِي مِائَةِ أَلْفِ فَارِسٍ،
فَبَعَثَ الْبِطْرِيقُ - الَّذِي الْبَطَّالُ مُتَزَوِّجٌ بِابْنَتِهِ الَّتِي ذَكَرْنَا
أَمْرَهَا - إِلَى الْبَطَّالِ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ فَأَخْبَرَ الْبَطَّالُ
أَمِيرَ عَسَاكِرِ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ، وَكَانَ الْأَمِيرُ مَالِكَ بْنَ
شَبِيبٍ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي أَنْ نَتَحَصَّنَ فِي
مَدِينَةِ حَرَّانَ، فَنَكُونُ بِهَا حَتَّى يَقْدَمَ عَلَيْنَا سُلَيْمَانُ بْنُ
هِشَامٍ فِي الْجُيُوشِ. فَأَبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَدَهَمَهُمُ الْجَيْشُ،
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَالْبَطَّالُ يَجُولُ بَيْنَ يَدَيِ
الْأَبْطَالِ، وَلَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ أَنْ يُنَوِّهَ بِاسْمِهِ ; خَوْفًا
عَلَيْهِ مِنَ الرُّومِ فَاتَّفَقَ أَنْ نَادَاهُ بَعْضُهُمْ، وَذَكَرَ اسْمَهُ
غَلَطًا مِنْهُ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ فُرْسَانُ الرُّومِ حَمَلُوا عَلَيْهِ
حَمْلَةً وَاحِدَةً، فَاقْتَلَعُوهُ مَنْ سَرْجِهِ بِرِمَاحِهِمْ، فَأَلْقَوْهُ
إِلَى الْأَرْضِ، وَسَاقُوا وَرَاءَ النَّاسِ يَقْتُلُونَ فِيهِمْ وَيَأْسِرُونَ،
وَقُتِلَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ مَالِكُ بْنُ شَبِيبٍ وَانْكَسَرَ الْمُسْلِمُونَ،
وَانْطَلَقُوا إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ الْخَرَابِ فَتَحَصَّنُوا بِهَا،
وَأَصْبَحَ لِيُونُ فَوَقَفَ عَلَى مَكَانِ الْمَعْرَكَةِ، فَإِذَا الْبَطَّالُ
بِآخِرِ رَمَقٍ، فَقَالَ لَهُ لِيُونُ مَا هَذَا يَا أَبَا يَحْيَى ؟ فَقَالَ:
هَكَذَا تُقْتَلُ الْأَبْطَالُ. فَاسْتَدْعَى لِيُونُ بِالْأَطِبَّاءِ
لِيُدَاوُوهُ فَإِذَا جِرَاحُهُ قَدْ نَفَذَتْ إِلَى مَقَاتِلِهِ، فَقَالَ لَهُ
لِيُونُ: هَلْ مِنْ حَاجَةٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَمَا هِيَ ؟ قَالَ: تَأْمُرُ
مَنْ مَعَكَ مِنْ
أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَلُوا
غَسْلِيَ وَالصَّلَاةَ عَلَيَّ وَدَفْنِي. فَفَعَلَ، وَأَطْلَقَ لِأَجْلِ ذَلِكَ
أُولَئِكَ الْأُسَارَى، وَانْطَلَقَ لِيُونُ إِلَى أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ
الَّذِينَ تَحَصَّنُوا فَحَاصَرَهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَتْهُمُ
الْبُرُدُ بِقُدُومِ سُلَيْمَانَ بْنِ هِشَامٍ فِي الْجُيُوشِ الْإِسْلَامِيَّةِ،
فَفَرَّ لِيُونُ فِي جَيْشِهِ رَاجِعًا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، قَبَّحَهُ
اللَّهُ.
قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: كَانَتْ وَفَاةُ الْبَطَّالِ وَمَقْتَلُهُ
بِأَرْضِ الرُّومِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَقَالَ ابْنُ
جَرِيرٍ: فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
وَقَالَ أَبُو حَسَّانَ الزِّيَادِيُّ: قُتِلَ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
وَمِائَةٍ. قُلْتُ: وَقَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ قُتِلَ هُوَ وَالْأَمِيرُ
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ بُخْتٍ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، كَمَا
ذَكَرْنَا ذَلِكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَكِنَّ ابْنَ جَرِيرٍ لَمْ يُؤَرِّخْ
وَفَاتَهُ إِلَّا فِي هَذِهِ السَّنَةِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: فَهَذَا مُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي
تَرْجَمَةِ الْبَطَّالِ مَعَ تَقَصِّيهِ لِلْأَخْبَارِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهَا،
وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ الْعَامَّةُ عَنِ الْبَطَّالِ مِنَ السِّيرَةِ
الْمَنْسُوبَةِ إِلَى دَلْهَمَةَ، وَالْبَطَّالِ، وَالْأَمِيرِ عَبْدِ
الْوَهَّابِ، وَالْقَاضِي عُقَبَةَ فَكَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ، وَوَضْعٌ بَارِدٌ،
وَجَهْلٌ كَبِيرٌ، وَتَخْبِيطٌ فَاحِشٌ، لَا يَرُوجُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى غَبِيٍّ
أَوْ جَاهِلٍ رَدِيٍّ، كَمَا يَرُوجُ عَلَيْهِمْ سِيرَةُ عَنْتَرَةَ الْعَبْسِيِّ
الْمَكْذُوبَةُ، وَكَذَلِكَ سِيرَةُ الْبَكْرِيِّ، وَالدَّنَفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَالْكَذِبُ الْمُفْتَعَلُ فِي سِيرَةِ الْبَكْرِيِّ أَشَدُّ إِثْمًا وَأَعْظَمُ
جُرْمًا مِنْ غَيْرِهَا ; لِأَنَّ
وَاضِعَهَا يَدْخُلُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ
النَّارِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِيَاسٌ الذَّكِيُّ
وَهُوَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ بْنُ إِيَاسِ بْنِ هِلَالِ بْنِ
رِئَابِ بْنِ عَبْدِ بْنِ دُرَيْدِ بْنِ أَوْسِ بْنِ سُوَاءَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ
سَارِيَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَوْسِ بْنِ
عُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُدِّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إِلْيَاسِ بْنِ مُضَرَ
بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ هَكَذَا نَسَبَهُ خَلِيفَةُ بْنُ
خَيَّاطٍ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ، وَهُوَ أَبُو وَاثِلَةَ
الْمُزَنِيُّ قَاضِي الْبَصْرَةِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ، وَلِجَدِّهِ صُحْبَةٌ، وَكَانَ
يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِذَكَائِهِ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جِدِّهِ مَرْفُوعًا فِي
الْحَيَاءِ، عَنْ أَنَسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ،
وَنَافِعٍ، وَأَبِي مِجْلَزٍ. وَعَنْهُ الْحَمَّادَانِ، وَشُعْبَةُ،
وَالْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: إِنَّهُ لَفَهِمٌ، إِنَّهُ لَفَهِمٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ،
وَالْعِجْلِيُّ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَالنَّسَائِيُّ: ثِقَةٌ. زَادَ ابْنُ سَعْدٍ:
وَكَانَ عَاقِلًا مِنَ الرِّجَالِ فَطِنًا. وَزَادَ الْعِجْلِيُّ: وَكَانَ
فَقِيهًا عَفِيفًا.
وَقَدْ قَدِمَ دِمَشْقَ فِي أَيَّامِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَوَفَدَ
عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَرَّةً أُخْرَى حِينَ عَزَلَهُ عَدِيُّ
بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ قَضَاءِ الْبَصْرَةِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: تَحَاكَمَ إِيَاسٌ وَهُوَ صَبِيٌّ شَابٌّ،
وَشَيْخٌ إِلَى قَاضِي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِدِمَشْقَ فَقَالَ لَهُ
الْقَاضِي: إِنَّهُ شَيْخٌ وَأَنْتَ شَابٌّ، فَلَا تُسَاوِهِ فِي الْكَلَامِ.
فَقَالَ إِيَاسٌ: إِنْ كَانَ كَبِيرًا فَالْحَقُّ أَكْبَرُ مِنْهُ. فَقَالَ لَهُ
الْقَاضِي: اسْكُتْ. فَقَالَ: وَمَنْ يَتَكَلَّمُ بِحُجَّتِي إِذَا سَكَتُّ ؟
فَقَالَ الْقَاضِي: مَا أَحْسَبُكَ تَنْطِقُ بِحَقٍّ فِي مَجْلِسِي هَذَا حَتَّى
تَقُومَ. فَقَالَ إِيَاسٌ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ - زَادَ
غَيْرُهُ: فَقَالَ الْقَاضِي: مَا أَظُنُّكَ إِلَّا ظَالِمًا لَهُ. فَقَالَ: مَا
عَلَى ظَنِّ الْقَاضِي خَرَجْتُ مِنْ مَنْزِلِي - فَقَامَ الْقَاضِي، فَدَخَلَ
عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ فَقَالَ: اقْضِ حَاجَتَهُ
وَأَخْرِجْهُ السَّاعَةَ مِنْ دِمَشْقَ، لَا يُفْسِدُ عَلَيَّ النَّاسَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا عَزَلَهُ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ قَضَاءِ
الْبَصْرَةِ فَرَّ مِنْهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَوَجَدَهُ قَدْ
مَاتَ، فَكَانَ يَجْلِسُ فِي حَلْقَةٍ فِي جَامِعِ دِمَشْقَ، فَتَكَلَّمَ رَجُلٌ
مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فَرَدَّ عَلَيْهِ إِيَاسٌ فَأَغْلَظَ لَهُ الْأُمَوِيُّ،
فَقَامَ إِيَاسٌ فَقِيلَ لِلْأُمَوِيِّ: هَذَا إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ
الْمُزَنِيُّ. فَلَمَّا عَادَ مِنَ الْغَدِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْأُمَوِيُّ
وَقَالَ:
لَمْ أَعْرِفْكَ، وَقَدْ جَلَسَتْ إِلَيْنَا
بِثِيَابِ السُّوقَةِ وَكَلَّمْتَنَا بِكَلَامِ الْأَشْرَافِ، فَلَمْ نَحْتَمِلْ
ذَلِكَ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا
ضَمْرَةُ عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: يُولَدُ فِي كُلِّ مِائَةِ
سَنَةٍ رَجُلٌ تَامُّ الْعَقْلِ. فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ إِيَاسَ بْنَ
مُعَاوِيَةَ مِنْهُمْ.
وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: دَخَلَ عَلَى إِيَاسٍ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ، فَلَمَّا رَآهُنَّ
قَالَ: أَمَّا إِحْدَاهُنَّ فَمُرْضِعٌ، وَالْأُخْرَى بِكْرٌ، وَالْأُخْرَى
ثَيِّبٌ. فَقِيلَ لَهُ: بِمَ عَلِمَتْ هَذَا ؟ فَقَالَ: أَمَّا الْمُرْضِعُ
فَلَمَّا قَعَدَتْ أَمْسَكَتْ ثَدْيَهَا بِيَدِهَا، وَأَمَّا الْبِكْرُ فَلَمَّا
دَخَلَتْ لَمْ تَلْتَفِتْ إِلَى أَحَدٍ، وَأَمَّا الثَّيِّبُ فَلَمَّا دَخَلَتْ
نَظَرَتْ وَرَمَتْ بِعَيْنَيْهَا.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ:، ثَنَا الْأَحْنَفُ بْنُ حَكِيمٍ بِأَصْبَهَانَ
ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، سَمِعْتُ إِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ:
أَعْرِفُ اللَّيْلَةَ الَّتِي وُلِدْتُ فِيهَا، وَضَعَتْ أُمِّي عَلَى رَأْسِي
جَفْنَةً.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: قَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ لِأُمِّهِ: مَا شَيْءٌ
سَمِعْتُهُ وَأَنْتِ حَامِلٌ بِي وَلَهُ جَلَبَةٌ شَدِيدَةٌ ؟ قَالَتْ: تِلْكَ يَا
بُنَيَّ طِسْتٌ سَقَطَتْ مِنْ فَوْقِ الدَّارِ إِلَى أَسْفَلَ، فَفَزِعْتُ
فَوَلَدَتُكَ تِلْكَ السَّاعَةَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَرَائِطِيُّ،
عَنْ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ النُّمَيْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ إِيَاسَ بْنَ
مُعَاوِيَةَ قَالَ: مَا يَسُرُّنِي أَنْ أَكْذِبَ كِذْبَةً لَا يَطَّلِعُ
عَلَيْهَا إِلَّا أَبِي مُعَاوِيَةَ لَا أُحَاسَبُ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَأَنَّ لِي الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ،
ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ عَنْ إِيَاسِ بْنِ
مُعَاوِيَةَ قَالَ: مَا خَاصَمْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ بِعَقْلِي
كُلِّهِ إِلَّا الْقَدَرِيَّةَ ; قَلْتُ لَهُمْ: أَخْبِرُونِي عَنِ الظُّلْمِ مَا
هُوَ ؟ قَالُوا: أَخْذُ الْإِنْسَانِ مَا لَيْسَ لَهُ. قُلْتُ: فَإِنَّ اللَّهَ
لَهُ كُلُّ شَيْءٍ.
قَالَ بَعْضُهُمْ، عَنْ إِيَاسٍ قَالَ: كُنْتُ فِي الْكُتَّابِ وَأَنَا صَبِيٌّ،
فَجَعَلَ أَوْلَادُ النَّصَارَى يَضْحَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَقُولُونَ:
إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا فَضْلَةَ لِطَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
فَقُلْتُ لِلْفَقِيهِ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ مِنَ
الطَّعَامِ مَا يَنْصَرِفُ فِي غِذَاءِ الْبَدَنِ ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: فَمَا
تُنْكِرُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ طَعَامَ أَهْلِ الْجَنَّةِ كُلَّهُ غِذَاءً
لِأَبْدَانِهِمْ ؟ فَقَالَ لَهُ مُعَلِّمُهُ: مَا أَنْتَ إِلَّا شَيْطَانٌ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ إِيَاسٌ وَهُوَ صَغِيرٌ بِعَقْلِهِ قَدْ وَرَدَ بِهِ
الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فِي صِفَةِ أَهْلِ
الْجَنَّةِ أَنَّ طَعَامَهُمْ يَنْصَرِفُ جُشَاءً وَعَرَقًا كَالْمِسْكِ، فَإِذَا
الْبَطْنُ ضَامِرٌ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ:
قَدِمَ إِيَاسٌ وَاسِطًا فَجَاءَهُ ابْنُ شُبْرُمَةَ بِمَسَائِلَ قَدْ أَعَدَّهَا،
فَقَالَ لَهُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَسْأَلَكَ ؟ قَالَ: سَلْ، وَقَدِ ارْتَبْتُ
حِينَ اسْتَأْذَنْتَ. فَسَأَلَهُ عَنْ سَبْعِينَ مَسْأَلَةً يُجِيبُهُ فِيهَا،
وَلَمْ يَخْتَلِفَا إِلَّا فِي أَرْبَعِ مَسَائِلَ، رَدَّهُ إِيَاسٌ إِلَى قَوْلِهِ،
ثُمَّ قَالَ لَهُ إِيَاسٌ: أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:
أَتَحْفَظُ قَوْلَهُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [ الْمَائِدَةِ: 3 ]
؟ قَالَ: نَعَمْ، وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا. قَالَ: فَهَلْ أَبْقَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ لِآلِ شُبْرُمَةَ رَأْيًا ؟
وَقَالَ عَبَّاسٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ،
ثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: يَا
أَبَا وَاثِلَةَ حَتَّى مَتَى يَبْقَى النَّاسُ ؟ وَحَتَّى مَتَى يَتَوَالَدُ
النَّاسُ وَيَمُوتُونَ ؟ فَقَالَ لِجُلَسَائِهِ: أَجِيبُوهُ. فَلَمْ يَكُنْ
عِنْدَهُمْ جَوَابٌ، فَقَالَإِيَاسٌ: حَتَّى تَتَكَامَلَ الْعِدَّتَانِ ; عِدَّةُ
أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَعِدَّةُ أَهْلِ النَّارِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اكْتَرَى إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنَ الشَّامِ قَاصِدًا
الْحَجَّ، فَرَكِبَ مَعَهُ فِي الْمَحْمَلِ غَيْلَانُ الْقَدَرِيُّ وَلَا يَعْرِفُ
أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَمَكَثَا ثَلَاثًا لَا يُكَلِّمُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ،
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ثَلَاثٍ تَحَادَثَا فَتَعَارَفَا، وَتَعَجَّبَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ اجْتِمَاعِهِ بِصَاحِبِهِ، لِمُبَايَنَةِ مَا بَيْنَهُمَا
فِي الِاعْتِقَادِ فِي الْقَدَرِ، فَقَالَ لَهُ إِيَاسٌ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ
الْجَنَّةِ يَقُولُونَ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [
الْأَعْرَافِ: 43 ] وَيَقُولُ أَهْلُ النَّارِ:
رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا
شِقْوَتُنَا [ الْمُؤْمِنُونَ: 106 ] وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: سُبْحَانَكَ لَا
عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [ الْبَقَرَةِ: 32 ] ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ مِنْ
أَشْعَارِ الْعَرَبِ وَأَمْثَالِ الْعَجَمِ مَا فِيهِ إِثْبَاتُ الْقَدَرِ، ثُمَّ
اجْتَمَعَ مَرَّةً أُخْرَى إِيَاسٌ، وَغَيْلَانُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، فَنَاظَرَ بَيْنَهُمَا، فَقَهَرَهُ إِيَاسٌ وَمَا زَالَ يَحْصُرُهُ
فِي الْكَلَامِ حَتَّى اعْتَرَفَ غَيْلَانُ بِالْعَجْزِ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ،
فَدَعَا عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِنْ كَانَ كَاذِبًا،
فَاسْتَجَابَ اللَّهُ مِنْهُ، فَأُمْكِنَ مِنْ غَيْلَانَ فَقُتِلَ وَصُلِبَ بَعْدَ
ذَلِكَ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَمِنْ كَلَامِ الْحَسَنِ: لَأَنْ يَكُونَ فِي فِعَالِ الرَّجُلِ فَضْلٌ عَنْ
قَوْلِهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ فَضْلٌ عَنْ فِعَالِهِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ: ذَكَرْتُ رَجُلًا بِسُوءٍ عِنْدَ إِيَاسِ بْنِ
مُعَاوِيَةَ فَنَظَرَ فِي وَجْهِي وَقَالَ: أَغَزَوْتَ الرُّومَ ؟ قُلْتُ: لَا.
قَالَ: فَالسِّنْدَ وَالْهِنْدَ وَالتُّرْكَ ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: أَفَسَلِمَ
مِنْكَ الرُّومُ وَالسِّنْدُ وَالْهِنْدُ وَالتُّرْكُ وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْكَ
أَخُوكَ الْمُسْلِمُ؟ ! قَالَ: فَلَمْ أَعُدْ بَعْدَهَا.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ: رَأَيْتُ إِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ فِي
بَيْتِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ وَإِذَا هُوَ أَحْمَرُ طَوِيلُ الذِّرَاعِ غَلِيظُ
الثِّيَابِ، يُلَوِّثُ عِمَامَتَهُ، وَهُوَ قَدْ غَلَبَ عَلَى الْكَلَامِ، فَلَا
يَتَكَلَّمُ مَعَهُ أَحَدٌ.
وَقَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ فِيكَ عَيْبٌ سِوَى كَثْرَةِ كَلَامِكَ.
فَقَالَ: بِحَقٍّ
أَتَكَلَّمُ أَمْ بِبَاطِلٍ ؟
فَقِيلَ: بَلْ بِحَقٍّ. فَقَالَ: كُلَّمَا كَثُرَ الْحَقُّ فَهُوَ خَيْرٌ.
وَلَامَهُ بَعْضُهُمْ فِي لِبَاسِهِ الثِّيَابَ الْغَلِيظَةَ، فَقَالَ: إِنَّمَا
أَلْبَسُ ثَوْبًا يَخْدِمُنِي وَلَا أَلْبَسُ ثَوْبًا أَخْدِمُهُ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: إِنَّ أَشْرَفَ خِصَالِ
الرَّجُلِ صَدَقُ اللِّسَانِ، وَمِنْ عَدِمَ فَضِيلَةَ الصِّدْقِ فَقَدْ فُجِعَ
بِأَكْرَمِ أَخْلَاقِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَأَلَ رَجُلٌ إِيَاسًا عَنِ النَّبِيذِ، فَقَالَ: هُوَ
حَرَامٌ. فَقَالَ الرَّجُلُ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْمَاءِ. فَقَالَ: حَلَالٌ.
قَالَ: فَالْكَشُوثُ ؟ قَالَ: حَلَالٌ. قَالَ: فَالتَّمْرُ ؟ قَالَ: حَلَالٌ.
قَالَ: فَمَا بَالُهُ إِذَا اجْتَمَعَ يَحْرُمُ ؟ فَقَالَ إِيَاسٌ: أَرَأَيْتَ
لَوْ رَمَيْتُكَ بِهَذِهِ الْحَفْنَةِ مِنَ التُّرَابِ، أَتُوجِعُكَ ؟ قَالَ: لَا.
قَالَ: فَهَذِهِ الْحَفْنَةُ مِنَ التِّبْنِ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَذِهِ
الْغَرْفَةُ مِنَ الْمَاءِ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ خَلَطْتُ هَذَا
بِهَذَا، وَهَذَا بِهَذَا حَتَّى صَارَ طِينًا، ثُمَّ اسْتَحْجَرَ، ثُمَّ
رَمَيْتُكَ، أَيُوجِعُكَ ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ، وَيَقْتُلُنِي. قَالَ:
فَكَذَلِكَ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ إِذَا اجْتَمَعَتْ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: بَعَثَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَدِيَّ بْنَ
أَرْطَاةَ إِلَى الْبَصْرَةِ نَائِبًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ إِيَاسٍ،
وَالْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ الْجَوْشَنِيِّ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَفْقَهَ
فَلْيُوَلِّهِ الْقَضَاءَ. فَقَالَ إِيَاسٌ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لَا يَتَوَلَّى:
أَيُّهَا الرَّجُلُ، سَلْ فَقِيهَيِ الْبَصْرَةِ ; الْحَسَنَ، وَابْنَ سِيرِينَ.
وَكَانَ إِيَاسٌ لَا يَأْتِيهِمَا، فَعَرَفَ الْقَاسِمُ أَنَّهُ إِنْ سَأَلَهُمَا
أَشَارَا
بِهِ، فَقَالَ الْقَاسِمُ لِعَدِيٍّ:
وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّ إِيَاسًا أَفْضَلُ مِنِّي
وَأَفْقَهُ مِنِّي وَأَعْلَمُ بِالْقَضَاءِ، فَإِنْ كُنْتُ صَادِقًا فَوَلِّهِ،
وَإِنْ كُنْتُ كَاذِبًا فَمَا يَنْبَغِي أَنْ أَلِيَ الْقَضَاءَ. فَقَالَ إِيَاسٌ:
هَذَا رَجُلٌ أُوقِفَ عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ، فَافْتَدَى مِنْهَا بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ
يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا. فَقَالَ عَدِيٌّ: أَمَا إِذْ فَطِنَتْ إِلَى هَذَا
فَقَدْ وَلَّيْتُكَ الْقَضَاءَ. فَمَكَثَ سَنَةً يَفْصِلُ بَيْنَ النَّاسِ
وَيُصْلِحُ بَيْنَهُمْ، وَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ حَكَمَ بِهِ، ثُمَّ
هَرَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى دِمَشْقَ، فَاسْتَعْفَى مِنَ
الْقَضَاءِ، فَوَلَّى عَدِيٌّ بُعْدَهُ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ.
قَالُوا: لَمَّا تَوَلَّى إِيَاسٌ الْقَضَاءَ بِالْبَصْرَةِ فَرِحَ بِهِ
الْعُلَمَاءُ، حَتَّى قَالَ أَيُّوبُ: لَقَدْ رَمَوْهَا بِحَجَرِهَا. وَجَاءَهُ
الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ فَسَلَّمَا عَلَيْهِ، فَبَكَى إِيَاسٌ وَذَكَرَ
حَدِيثَ: الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ ; قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي
الْجَنَّةِ فَقَالَ الْحَسَنُ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَدَاوُدَ
وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِلَى قَوْلِهِ: وَكُلًّا آتَيْنَا
حُكْمًا وَعِلْمًا [ الْأَنْبِيَاءِ: 78، 79 ]. قَالُوا: ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ
فِي الْمَسْجِدِ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ لِلْخُصُومَاتِ، فَمَا قَامَ
حَتَّى فَصَلَ سَبْعِينَ قَضِيَّةً، حَتَّى كَانَ يُشَبَّهُ بِشُرَيْحٍ الْقَاضِي.
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أُشْكِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ بَعَثَ إِلَى مُحَمَّدِ
بْنِ سِيرِينَ فَسَأَلَهُ عَنْهُ.
وَقَالَ إِيَاسٌ: إِنِّي لَأُكَلِّمُ النَّاسَ بِنِصْفِ عَقْلِي، فَإِذَا
اخْتَصَمَ إِلَيَّ اثْنَانِ جَمَعْتُ عَقْلِي كُلَّهُ.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّكَ
لَتُعْجَبُ بِرَأْيِكَ. فَقَالَ: لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ أَقْضِ بِهِ.
وَقَالَ لَهُ آخَرُ: إِنَّ فِيكَ خِصَالًا لَا تُعْجِبُنِي. فَقَالَ: مَا هِيَ ؟
فَقَالَ: تَحْكُمُ قَبْلَ أَنْ تَفْهَمَ، وَتُجَالِسَ كُلَّ أَحَدٍ، وَتَلْبَسُ
الثِّيَابَ الْغَلِيظَةَ. فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا أَكْثَرُ ; الثَّلَاثَةُ أَوِ
الِاثْنَانِ ؟ قَالَ: الثَّلَاثَةُ. فَقَالَ: مَا أَسْرَعَ مَا فَهِمْتَ
وَأَجَبْتَ. فَقَالَ: أَوَ يَجْهَلُ هَذَا أَحَدٌ ؟ فَقَالَ: وَكَذَلِكَ مَا
أَحْكَمُ أَنَا بِهِ، وَأَمَّا مُجَالَسَتِي لِكُلِّ أَحَدٍ فَلَأَنْ أَجْلِسَ
مَعَ مَنْ يَعْرِفُ لِي قَدْرِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَجْلِسَ مَعَ مَنْ لَا
يَعْرِفُ لِي قَدْرِي، وَأَمَّا الثِّيَابُ فَإِنَّمَا أَلْبَسُ مِنْهَا مَا
يَقِينِي لَا مَا أَقِيهِ أَنَا.
قَالُوا: وَتَحَاكَمَ إِلَيْهِ اثْنَانِ قَدْ أَوْدَعَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ
الْآخَرِ مَالًا، وَجَحَدَهُ الْآخَرُ، فَقَالَ إِيَاسٌ لِلْمُودِعِ: أَيْنَ
أَوْدَعْتَهُ ؟ قَالَ: عِنْدَ شَجَرَةٍ فِي بُسْتَانٍ. فَقَالَ: انْطَلِقْ
إِلَيْهَا، فَقِفْ عِنْدَهَا لَعَلَّكَ تَتَذَكَّرُ. فَانْطَلَقَ. وَجَلَسَ الْآخَرُ،
فَجَعَلَ إِيَاسٌ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ وَيُلَاحِظُهُ، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ
فَقَالَ لَهُ: أَوْصَلَ صَاحِبُكَ بَعْدُ إِلَيْهَا ؟ فَقَالَ: لَا بَعْدُ،
أَصْلَحَكَ اللَّهُ. فَقَالَ لَهُ: قُمْ يَا عَدُوَّ اللَّهِ فَأَدِّ إِلَيْهِ
حَقَّهُ، وَإِلَّا جَعَلْتُكَ نَكَالًا. وَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَامَ مَعَهُ،
فَدَفَعَ إِلَيْهِ وَدِيعَتَهُ بِكَمَالِهَا.
وَجَاءَهُ آخَرُ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ أَوْدَعْتُ عِنْدَ فُلَانٍ مَالًا،
وَقَدْ جَحَدَنِي. فَقَالَ لَهُ: اذْهَبِ الْآنَ وَائْتِنِي غَدًا. وَبَعَثَ مِنْ فَوْرِهِ
إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ الْجَاحِدِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ
قَدِ اجْتَمَعَ عِنْدَنَا هَاهُنَا
مَالٌ، فَضَعْهُ عِنْدَكَ فِي مَكَانٍ حَرِيزٍ. فَقَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً.
فَقَالَ: لَهُ اذْهَبِ الْآنَ وَائْتِنِي غَدًا. وَأَصْبَحَ ذَلِكَ الرَّجُلُ
صَاحِبُ الْحَقِّ فَجَاءَ إِلَى إِيَاسٍ فَقَالَ لَهُ: اذْهَبِ الْآنَ إِلَيْهِ
فَقُلْ لَهُ: أَعْطِنِي حَقِّي وَإِلَّا رَفَعَتُكَ إِلَى الْقَاضِي. فَذَهَبَ
فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَخَافَ أَنْ لَا يُودِعَ عِنْدَهُ الْحَاكِمُ، فَدَفَعَ
إِلَيْهِ حَقَّهُ، فَجَاءَ إِلَى إِيَاسٍ فَأَعْلَمَهُ، ثُمَّ جَاءَ ذَلِكَ
الرَّجُلُ مِنَ الْغَدِ ; رَجَاءَ أَنْ يُودَعَ، فَانْتَهَرَهُ إِيَاسٌ
وَطَرَدَهُ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ خَائِنٌ.
وَتَحَاكَمَ إِلَيْهِ اثْنَانِ فِي جَارِيَةٍ، فَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهَا
ضَعِيفَةُ الْعَقْلِ، فَقَالَ لَهَا إِيَاسٌ: أَيُّ رِجْلَيْكِ أَطْوَلَ ؟
فَقَالَتْ: هَذِهِ. فَقَالَ لَهَا: أَتَذْكُرِينَ لَيْلَةَ وُلِدْتِ ؟ فَقَالَتْ:
نَعَمْ. فَقَالَ لِلْبَائِعِ: رُدَّ رُدَّ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ إِيَاسًا سَمِعَ صَوْتَ امْرَأَةٍ مِنْ بَيْتِهَا،
فَقَالَ: هَذِهِ امْرَأَةٌ حَامِلٌ بِصَبِيٍّ. فَلَمَّا وَلَدَتْ وَلَدَتْ كَمَا
قَالَ، فَسُئِلَ: بِمَ عَرَفْتَ ذَلِكَ ؟ قَالَ: سَمِعْتُ صَوْتَهَا وَنَفَسُهَا
مَعَهُ، فَعَلِمْتُ أَنَّهَا حَامِلٌ، وَفِي صَوْتِهَا صَحَلٌ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ
غُلَامٌ. قَالُوا: ثُمَّ مَرَّ يَوْمًا بِبَعْضِ الْمَكَاتِبِ، فَإِذَا صَبِيٌّ
هُنَالِكَ فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ أَدْرِي شَيْئًا فَهَذَا الصَّبِيُّ ابْنُ تِلْكَ
الْمَرْأَةِ فَإِذَا هُوَ ابْنُهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: شَهِدَ رَجُلٌ
عِنْدَ إِيَاسٍ فَقَالَ لَهُ: مَا اسْمُكَ ؟ فَقَالَ: أَبُو الْعَنْقَزِ. فَلَمْ
يَقْبَلْ شَهَادَتَهُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنِ
الْأَعْمَشِ: دَعَوْنِي إِلَى إِيَاسٍ فَإِذَا رَجُلٌ كُلَّمَا فَرَغَ مِنْ
حَدِيثٍ أَخَذَ فِي آخِرَ.
وَقَالَ إِيَاسٌ: كُلُّ رَجُلٍ لَا يَعْرِفُ عَيْبَ نَفْسِهِ فَهُوَ أَحْمَقُ.
فَقِيلَ لَهُ: فَمَا عَيْبُكَ ؟ قَالَ: كَثْرَةُ الْكَلَامِ.
قَالُوا: وَلَمَّا مَاتَتْ أُمُّهُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ:
كَانَ لِي بَابَانِ مَفْتُوحَانِ إِلَى الْجَنَّةِ، فَغُلِقَ أَحَدُهُمَا.
وَقَالَ أَبُوهُ: إِنَّ النَّاسَ يَلِدُونَ أَبْنَاءً، وَوَلَدْتُ أَبًا.
وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَجْلِسُونَ حَوْلَهُ، وَيَكْتُبُونَ عَنْهُ الْفِرَاسَةَ،
فَبَيْنَمَا هُمْ حَوْلَهُ جُلُوسٌ، إِذْ نَظَرَ إِلَى رَجُلٍ قَدْ جَاءَ،
فَجَلَسَ عَلَى دَكَّةِ حَانُوتٍ، وَجَعَلَ كُلَّمَا مَرَّ أَحَدٌ يَنْظُرُ
إِلَيْهِ، ثُمَّ قَامَ فَنَظَرَ فِي وَجْهِ رَجُلٍ، ثُمَّ عَادَ، فَقَالَ
لِأَصْحَابِهِ: هَذَا فَقِيهُ كُتَّابٍ قَدْ أَبَقَ لَهُ غُلَامٌ أَعْوَرُ فَهُوَ
يَتَطَلَّبُهُ. فَقَامُوا إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ فَسَأَلُوهُ، فَوَجَدُوهُ كَمَا
قَالَ إِيَاسٌ فَقَالُوا لِإِيَاسٍ: مِنْ أَيْنَ عَرَفْتَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ:
لَمَّا جَلَسَ عَلَى دَكَّةِ الْحَانُوتِ عَلِمْتُ أَنَّهُ ذُو وِلَايَةٍ، ثُمَّ
نَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِفَقَاهَةِ الْمَكْتَبِ، ثُمَّ جَعَلَ
يَنْظُرُ إِلَى كُلِّ مَنْ يَمُرُّ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ فَقَدَ غُلَامًا،
ثُمَّ لَمَّا قَامَ فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِ ذَلِكَ الرَّجُلِ مِنَ الْجَانِبِ
الْآخَرِ، عَرَفْتُ أَنَّ غُلَامَهُ أَعْوَرُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً فِي تَرْجَمَتِهِ، مِنْ
ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: شَهِدَ
عِنْدِي رَجُلٌ فِي بُسْتَانٍ،
فَقُلْتُ لَهُ: كَمْ عَدَدُ أَشْجَارِهِ ؟ فَقَالَ: كَمْ عَدَدُ جُذُوعِ هَذَا
الْمَجْلِسِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ مِنْ مُدَّةِ سِنِينَ ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي.
وَأَقْرَرْتُ شَهَادَتَهُ.
قَالَ خَلِيفَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: تُوفِّيَ بِوَاسِطَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ
وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثَلَاثٍ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ
ذَكَرَ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ شُيُوخِهِ أَنَّ خَاقَانَ مِلْكَ التُّرْكِ لَمَّا
قُتِلَ فِي وِلَايَةِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ عَلَى خُرَاسَانَ،
تَفَرَّقَ شَمْلُ الْأَتْرَاكِ وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُغِيرُ عَلَى بَعْضٍ،
وَبَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا حَتَّى كَادَتْ أَنْ تُخَرَّبَ بِلَادُهُمْ،
وَاشْتَغَلُوا عَنِ الْمُسْلِمِينَ.
وَفِيهَا سَأَلَ أَهْلُ الصُّغْدِ مِنْ أَمِيرِ خُرَاسَانَ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ
أَنْ يَرُدَّهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَسَأَلُوهُ شُرُوطًا أَنْكَرَهَا
الْعُلَمَاءُ، مِنْهَا ; أَنْ لَا يُعَاقَبُ مَنِ ارْتَدَّ مِنْهُمْ عَنِ
الْإِسْلَامِ، وَلَا تُؤْخَذُ أُسَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، وَغَيْرُ
ذَلِكَ، فَأَرَادَ أَنْ يُوَافِقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِشِدَّةِ نِكَايَتِهِمْ فِي
الْمُسْلِمِينَ، فَعَابَ عَلَيْهِ النَّاسُ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَى هِشَامٍ فِي
ذَلِكَ فَتَوَقَّفَ، ثُمَّ لَمَّا رَأَى أَنَّ هَؤُلَاءِ إِذَا اسْتَمَرُّوا عَلَى
مُعَانَدَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ ضَرَرُهُمْ أَشَدَّ، أَجَابَهُمْ إِلَى
ذَلِكَ.
وَقَدْ بَعَثَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ أَمِيرُ الْعِرَاقِ وَفْدًا إِلَى أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ يَسْأَلُ مِنْهُ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ نِيَابَةَ خُرَاسَانَ،
وَتَكَلَّمُوا فِي نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ أَمِيرِ خُرَاسَانَ بِأَنَّهُ وَإِنْ
كَانَ شَهْمًا شُجَاعًا، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَبِرَ وَضَعُفَ بَصَرُهُ فَلَا
يَعْرِفُ الرَّجُلَ إِلَّا مِنْ قَرِيبٍ بِصَوْتِهِ، وَتَكَلَّمُوا فِيهِ كَلَامًا
كَثِيرًا، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ذَلِكَ هِشَامٌ وَاسْتَمَرَّ بِهِ عَلَى
إِمْرَةِ خُرَاسَانَ وَوِلَايَتِهَا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا يَزِيدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ وَالْعُمَّالُ فِيهَا مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الْقَصِيرُ مِنْ أَهْلِ
دِمَشْقَ وَأَبُو يُونُسَ سُلَيْمُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ وَاسْعِ بْنِ جَابِرٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرَاجِمَهُمْ فِي
كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ "، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِلَادَ الرُّومِ
فَلَقِيَ مَلِكَ الرُّومِ أَلْيُونَ فَسَلِمَ سُلَيْمَانُ وَغَنِمَ.
وَفِيهَا قَدِمَ جَمَاعَةٌ مِنْ دُعَاةِ بَنِي الْعَبَّاسِ مِنْ بِلَادِ
خُرَاسَانَ قَاصِدِينَ إِلَى مَكَّةَ، فَمَرُّوا بِالْكُوفَةِ فَبَلَغَهُمْ أَنَّ
فِي السِّجْنِ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْ نُوَّابِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْقَسْرِيِّ قَدْ حَبَسَهُمْ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ فَاجْتَمَعُوا بِهِمْ
فِي السِّجْنِ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى الْبَيْعَةِ لِبَنِي الْعَبَّاسِ وَإِذَا
عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ جَانِبٌ كَبِيرٌ، فَقَبِلُوا مِنْهُمْ، وَوَجَدُوا
عِنْدَهُمْ فِي السِّجْنِ أَبَا مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيَّ وَهُوَ إِذْ ذَاكَ
غُلَامٌ يَخْدِمُ عِيسَى بْنَ مَعْقِلَ الْعِجْلِيَّ وَكَانَ مَحْبُوسًا،
فَأَعْجَبَهُمْ شَهَامَتُهُ وَقُوَّتُهُ وَاسْتِجَابَتُهُ مَعَ مَوْلَاهُ إِلَى
هَذَا الْأَمْرِ، فَاشْتَرَاهُ بُكَيْرُ بْنُ مَاهَانَ مِنْهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ
دِرْهَمٍ، وَخَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ، فَاسْتَنْدَبُوهُ لِهَذَا الْأَمْرِ،
فَكَانُوا لَا يُوَجِّهُونَهُ إِلَى مَكَانٍ
إِلَّا ذَهَبَ، وَنَتَجَ مَا
يُوَجِّهُونَهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا
بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. وَهُوَ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ دُعَاةُ بَنِي
الْعَبَّاسِ فَقَامَ مَقَامَهُ وَلَدُهُ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِنَّمَا تُوُفِّيَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَأَبُو مَعْشَرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ
هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَجَّ بِالنَّاسِ
فِيهَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْحَجَّاجِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَمَعَهُ
امْرَأَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَكَانَ
نَائِبَ الْحِجَازِ وَالطَّائِفِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
يَقِفُ عَلَى بَابِهَا، وَيَهْدِي إِلَيْهَا الْأَلْطَافَ وَالتُّحَفَ،
وَيَعْتَذِرُ إِلَيْهَا مِنَ التَّقْصِيرِ، وَهِيَ لَا تَلْتَفِتُ إِلَى ذَلِكَ.
وَنُوَّابُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَكِّيُّ الْقَارِئُ، مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
السَّائِبِ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ
وَاثِلَةَ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَوَثَّقَهُ الْأَئِمَّةُ.
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: بَعْدَهَا بِسَنَةٍ.
وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ. وَقِيلَ: سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
الزُّهْرِيُّ
مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ،
أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ الزُّهْرِيُّ أَحَدُ الْأَعْلَامِ، مِنْ أَئِمَّةِ
الْإِسْلَامِ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، سَمِعَ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ،
وَرَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ.
رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَصَابَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ جَهْدٌ شَدِيدٌ، فَارْتَحَلْتُ إِلَى دِمَشْقَ، وَكَانَ عِنْدِي
عِيَالٌ كَثِيرَةٌ، فَجِئْتُ جَامِعَهَا، فَجَلَسْتُ فِي أَعْظَمِ حَلْقَةٍ،
فَإِذَا رَجُلٌ قَدْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ مَرْوَانَ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
مَسْأَلَةٌ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ مِنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِيهَا شَيْئًا -
وَقَدْ شَذَّ عَنْهُ - فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ يَرْوِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ. فَقُلْتُ: إِنِّي أَحْفَظُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَخَذَنِي فَأَدْخَلَنِي عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ.
فَسَأَلَنِي: مِمَّنْ أَنْتَ ؟ فَانْتَسَبْتُ لَهُ، وَذَكَرْتُ لَهُ حَاجَتِي
وَعِيَالِي، فَسَأَلَنِي: هَلْ تَحْفَظُ الْقُرْآنَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ،
وَالْفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ. فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَأَجَبْتُهُ،
فَقَضَى دَيْنِي، وَأَمَرَ لِي بِجَائِزَةٍ، وَقَالَ لِي: اطْلُبِ الْعِلْمَ،
فَإِنِّي أَرَى لَكَ عَيْنًا حَافِظَةً وَقَلْبًا ذَكِيًّا. قَالَ: فَرَجَعْتُ
إِلَى الْمَدِينَةِ أَطْلُبُ الْعِلْمَ وَأَتَتَبَّعُهُ، فَبَلَغَنِي أَنَّ
امْرَأَةً بِقُبَاءَ رَأَتْ رُؤْيَا عَجِيبَةً، فَأَتَيْتُهَا فَسَأَلْتُهَا عَنْ
ذَلِكَ، فَقَالَتْ: إِنَّ بِعْلِي مَاتَ وَتَرَكَ لَنَا خَادِمًا وَدَاجِنًا
وَنُخَيْلَاتٍ ; نَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا،
وَنَأْكُلُ مِنْ ثَمَرِهَا،
فَبَيْنَمَا أَنَا بَيْنَ النَّائِمَةِ وَالْيَقْظَى رَأَيْتُ كَأَنَّ ابْنِي
الْكَبِيرَ - وَكَانَ مُشْتَدًّا - قَدْ أَقْبَلَ، فَأَخَذَ الشَّفْرَةَ، فَذَبَحَ
وَلَدَ الدَّاجِنِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا يُضَيِّقُ عَلَيْنَا اللَّبَنَ. تَمَّ
نَصَبَ الْقِدْرَ، وَقَطَّعَهُ وَوَضَعَهُ فِيهِ، ثُمَّ أَخَذَ الشَّفْرَةَ
فَذَبَحَ بِهَا أَخَاهُ - وَأَخُوهُ صَغِيرٌ كَمَا قَدْ جَاءَ - ثُمَّ
اسْتَيْقَظْتُ مَذْعُورَةً، فَدَخَلَ وَلَدِي الْكَبِيرُ فَقَالَ: أَيْنَ
اللَّبَنُ ؟ فَقُلْتُ: شَرِبَهُ وَلَدُ الدَّاجِنِ. فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ ضَيَّقَ
عَلَيْنَا اللَّبَنَ. ثُمَّ أَخَذَ الشَّفْرَةَ فَذَبَحَهُ وَقَطَّعَهُ فِي
الْقِدْرِ، فَبَقِيتُ مُشْفِقَةً خَائِفَةً مِمَّا رَأَيْتُ، فَأَخَذْتُ وَلَدِي
الصَّغِيرَ فَغَيَّبْتُهُ فِي بَعْضِ بُيُوتِ الْجِيرَانِ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ إِلَى
الْمَنْزِلِ وَأَنَا مُشْفِقَةٌ جِدًّا مِمَّا رَأَيْتُ، فَأَخَذَتْنِي عَيْنِي
فَنِمْتُ، فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ قَائِلًا يَقُولُ: مَا لَكِ مُغْتَمَّةً ؟
فَقُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُ مَنَامًا، فَأَنَا أَحْذَرُ مِنْهُ. فَقَالَ: يَا
رُؤْيَا، يَا رُؤْيَا. فَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، فَقَالَ: مَا
أَرَدْتِ إِلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ ؟ قَالَتْ: مَا أَرَدْتُ إِلَّا
خَيْرًا. ثُمَّ قَالَ: يَا أَحْلَامُ، يَا أَحْلَامُ. فَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ
دُونَهَا فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، فَقَالَ: مَا أَرَدْتِ إِلَى هَذِهِ
الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ ؟ فَقَالَتْ: مَا أَرَدْتُ إِلَّا خَيْرًا. ثُمَّ قَالَ:
يَا أَضْغَاثُ، يَا أَضْغَاثُ. فَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ شَعِثَةٌ،
فَقَالَ: مَا أَرَدْتِ إِلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ ؟ فَقَالَتْ:
إِنَّهَا امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَغُمَّهَا سَاعَةً. ثُمَّ
اسْتَيْقَظْتُ، فَجَاءَ ابْنِي فَوَضَعَ الطَّعَامَ، وَقَالَ: أَيْنَ أَخِي ؟
فَقُلْتُ لَهُ: دَرَجَ إِلَى بُيُوتِ الْجِيرَانِ. فَذَهَبَ وَرَاءَهُ،
فَكَأَنَّمَا هُدِيَ إِلَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِ يُقَبِّلُهُ، ثُمَّ وَضَعَهُ
وَجَلَسْنَا جَمِيعًا، فَأَكَلَنَا مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ.
وُلِدَ الزُّهْرِيُّ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ
مُعَاوِيَةَ وَكَانَ قَصِيرًا قَلِيلَ اللِّحْيَةِ، لَهُ شَعَرَاتٌ طِوَالٌ،
خَفِيفُ الْعَارِضِينَ.
قَالُوا: وَقَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي نَحْوٍ مَنْ ثَمَانِينَ يَوْمًا، وَجَالَسَ
سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ
ثَمَانَ سِنِينَ أَوْ عَشْرَ سِنِينَ،
تَمَسُّ رُكْبَتُهُ رُكْبَتَهُ.
وَكَانَ يَخْدِمُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَسْتَقِي لَهُ الْمَاءَ
الْمَالِحَ، وَيَدُورُ عَلَى مَشَايِخِ الْحَدِيثِ وَمَعَهُ أَلْوَاحٌ يَكْتُبُ
عَنْهُمُ الْحَدِيثَ، وَيَكْتُبُ عَنْهُمْ كُلَّ مَا سَمِعَ مِنْهُمْ، حَتَّى
صَارَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ أَوْ أَعْلَمَهُمْ فِي زَمَانِهِ، وَقَدِ احْتَاجَ أَهْلُ
عَصْرِهِ إِلَيْهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ:
كُنَّا نَكْرَهُ كِتَابَ الْعِلْمِ حَتَّى أَكْرَهَنَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ
الْأُمَرَاءُ، فَرَأَيْنَا أَنْ لَا نَمْنَعَهُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ كَانَ الزُّهْرِيُّ يَرْجِعُ مِنْ عِنْدِ عُرْوَةَ
فَيَقُولُ لِجَارِيَةٍ عِنْدَهُ فِيهَا لُكْنَةٌ: حَدَّثَنَا عُرْوَةُ ثَنَا
فُلَانٌ. وَيَسْرُدُ عَلَيْهَا مَا سَمِعَهُ مِنْهُ، فَتَقُولُ لَهُ الْجَارِيَةُ:
وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا تَقُولُ. فَيَقُولُ لَهَا: اسْكُتِي لَكَاعِ، فَإِنِّي
لَا أُرِيدُكِ، إِنَّمَا أُرِيدُ نَفْسِي.
ثُمَّ وَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِدِمَشْقَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَأَكْرَمَهُ
وَقَضَى دَيْنَهُ، وَفَرَضَ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ مِنْ
أَصْحَابِهِ وَجُلَسَائِهِ، ثُمَّ كَانَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَوْلَادِهِ مِنْ
بَعْدِهِ الْوَلِيدِ، وَسُلَيْمَانَ وَكَذَلِكَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ ثُمَّ عِنْدَ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَاسْتَقْضَاهُ يَزِيدُ
مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ حَبِيبٍ ثُمَّ كَانَ حَظِيًّا عِنْدَ هِشَامٍ وَحَجَّ
مَعَهُ، وَجَعَلَهُ مُعَلِّمَ أَوْلَادِهِ إِلَى أَنْ تُوفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، قَبْلَ هِشَامٍ بِسَنَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ
اللَّيْثَ يَقُولُ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: مَا اسْتَوْدَعْتُ قَلْبِي شَيْئًا قَطُّ
فَنَسِيتُهُ.
قَالَ: وَكَانَ يَكْرَهُ أَكْلَ التُّفَّاحِ وَسُؤْرَ الْفَأْرِ، وَيَقُولُ:
إِنَّهُ يُنْسِي. وَكَانَ يَشْرَبُ الْعَسَلَ وَيَقُولُ: إِنَّهُ يُذَكِّرُ.
وَفِيهِ يَقُولُ فَائِدُ بْنُ أَقْرَمَ:
ذَرْ ذَا وَأَثْنِ عَلَى الْكَرِيمِ مُحَمَّدٍ وَاذْكُرْ فَوَاضِلَهُ عَلَى الْأَصْحَابِ
وَإِذَا يُقَالُ مَنِ الْجَوَادُ بِمَالِهِ
قِيلَ الْجَوَادُ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابِ أَهْلُ الْمَدَائِنِ يَعْرِفُونَ
مَكَانَهُ
وَرَبِيعُ نَادِيهِ عَلَى الْأَعْرَابِ يَشْرِي وَفَاءَ جِفَانِهِ وَيَمُدُّهَا
بِكُسُورِ أَثْبَاجٍ وَفَتْقِ لُبَابِ
وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: حَدَّثَ الزُّهْرِيُّ
يَوْمًا بِحَدِيثٍ، فَلَمَّا قَامَ أَخَذْتُ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ
فَاسْتَفْهَمْتُهُ، فَقَالَ: تَسْتَفْهِمُنِي ؟ مَا اسْتَفْهَمْتُ عَالِمًا قَطُّ،
وَلَا رَدَدْتُ عَلَى عَالِمٍ قَطُّ. ثُمَّ جَعَلَ ابْنُ مَهْدِيٍّ يَقُولُ:
فَذِيكَ الطِّوَالُ، وَتِلْكَ الْمَغَازِي.
وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ خَالِدٍ السَّلَامِيِّ عَنِ
الْوَلِيدِ بْنِ
مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدٍ - يَعْنِي
ابْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ - أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ سَأَلَ
الزُّهْرِيَّ أَنْ يَكْتُبَ لِبَنِيهِ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِهِ، فَأَمْلَى عَلَى
كَاتِبِهِ أَرْبَعَمِائَةِ حَدِيثٍ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ
فَحَدَّثَهُمْ بِهَا، ثُمَّ إِنَّ هِشَامًا قَالَ لِلزَّهْرِيِّ: إِنَّ ذَلِكَ
الْكِتَابَ ضَاعَ. فَقَالَ: لَا عَلَيْكَ. فَأَمْلَى عَلَيْهِمْ تِلْكَ
الْأَحَادِيثَ، ثُمَّ أَخْرَجَ هِشَامٌ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ، فَإِذَا هُوَ لَمْ
يُغَادِرْ حَرْفًا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ هِشَامٌ امْتِحَانَ حِفْظِهِ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ سَوْقًا
لِلْحَدِيثِ إِذَا حَدَّثَ مِنَ الزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: مَا رَأَيْتُ
أَحَدًا أَنَصَّ لِلْحَدِيثِ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَلَا أَهْوَنَ مِنَ الدِّينَارِ
وَالدِّرْهَمِ عِنْدَهُ، وَمَا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ
إِلَّا بِمَنْزِلَةِ الْبَعْرِ.
قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: وَلَقَدْ جَالَسْتُ جَابِرًا، وَابْنَ عَبَّاسٍ،
وَابْنَ عُمَرَ، وَابْنَ الزُّبَيْرِ فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَنْسَقُ لِلْحَدِيثِ
مِنَ الزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَحْسَنُ النَّاسِ حَدِيثًا وَأَجْوَدُهُمْ
إِسْنَادًا الزُّهْرِيُّ.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَحْسَنُ الْأَسَانِيدِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَلِيٍّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ:
مَكَثْتُ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً أَخْتَلِفُ مِنَ الْحِجَازِ إِلَى
الشَّامِ، وَمِنَ الشَّامِ إِلَى الْحِجَازِ فَمَا كُنْتُ أَسْمَعُ حَدِيثًا
أَسْتَطْرِفُهُ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: مَا رَأَيْتُ عَالِمًا قَطُّ أَجْمَعَ مِنَ ابْنِ شِهَابٍ
وَلَوْ سَمِعْتَهُ يُحَدِّثُ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لَقُلْتَ: مَا
يُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا. وَإِنْ حَدَّثَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ
قَلْتَ: لَا يُحْسِنُ إِلَّا هَذَا. وَإِنْ حَدَّثَ عَنِ الْأَعْرَابِ وَالْأَنْسَابِ
قُلْتَ: لَا يُحْسِنُ إِلَّا هَذَا. وَإِنْ حَدَّثَ عَنِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
كَانَ حَدِيثَهُ، ثُمَّ يَتْلُوهُ بِدُعَاءٍ جَامِعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي
أَسْأَلُكَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ أَحَاطَ بِهِ عِلْمُكَ، فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ أَحَاطَ بِهِ عِلْمُكَ، فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ اللَّيْثُ: وَكَانَ الزُّهْرِيُّ أَسْخَى مَنْ
رَأَيْتُ، كَانَ يُعْطِي كُلَّ مَنْ جَاءَ وَسَأَلَهُ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ
عِنْدَهُ شَيْءٌ اسْتَسْلَفَ، وَكَانَ يُطْعِمُ النَّاسَ الثَّرِيدَ وَيَسْقِيهِمُ
الْعَسَلَ، وَكَانَ يَسْمُرُ عَلَى شَرَابِ الْعَسَلِ كَمَا يَسْمُرُ أَهْلُ
الشَّرَابِ عَلَى شَرَابِهِمْ، وَيَقُولُ: اسْقُونَا وَحَدِّثُونَا. فَإِذَا
نَعَسَ أَحَدُهُمْ يَقُولُ لَهُ: مَا أَنْتَ مِنْ سُمَّارِ قُرَيْشٍ. وَكَانَتْ
لَهُ قُبَّةٌ مُعَصْفَرَةٌ، وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ، وَتَحْتُهُ
بِسَاطٌ مُعَصْفَرٌ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: قَالَ يَحْيَى
بْنُ سَعِيدٍ: مَا بَقِيَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعِلْمِ مَا بَقِيَ عِنْدَ ابْنِ
شِهَابٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَ مَعْمَرٌ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ: عَلَيْكُمْ بِابْنِ شِهَابٍ فَإِنَّهُ مَا بَقِيَ أَحَدٌ أَعْلَمُ
بِسُنَّةٍ مَاضِيَةٍ مِنْهُ. وَكَذَا قَالَ مَكْحُولٌ.
وَقَالَ أَيُّوبُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنَ الزُّهْرِيِّ. فَقِيلَ
لَهُ: وَلَا الْحَسَنُ ؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَعْلَمَ مِنَ الزُّهْرِيِّ.
وَقِيلَ لِمَكْحُولٍ: مَنْ أَعْلَمُ مَنْ لَقِيتَ ؟ قَالَ: الزُّهْرِيُّ. قِيلَ:
ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: الزُّهْرِيُّ. قِيلَ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: الزُّهْرِيُّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: كَانَ الزُّهْرِيُّ إِذَا دَخَلَ الْمَدِينَةَ لَمْ يُحَدِّثْ
بِهَا أَحَدٌ حَتَّى يَخْرُجَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: مُحَدِّثُو أَهْلِ الْحِجَازِ
ثَلَاثَةٌ الزُّهْرِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: الَّذِينَ أَفْتَوْا أَرْبَعَةٌ
الزُّهْرِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ
وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ
أَفْقَهُهُمْ عِنْدِي.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: ثَلَاثٌ إِذَا كُنَّ فِي الْقَاضِي فَلَيْسَ بِقَاضٍ، إِذَا
كَرِهَ اللَّوَائِمَ وَأَحَبَّ الْمَحَامِدَ، وَكَرِهَ الْعَزْلَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ: كَانَ يُقَالُ: فُصَحَاءُ زَمَانِهِمُ
الزُّهْرِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُوسَى بْنُ طَلْحَةَ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ الَّذِي
أَدَّبَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَدَّبَ
رَسُولُ اللَّهِ بِهِ أَمَّتَهُ أَمَانَةُ اللَّهِ إِلَى رَسُولِهِ لِيُؤَدِّيَهُ
عَلَى مَا أُدِّيَ إِلَيْهِ، فَمَنْ سَمِعَ عِلْمًا فَلْيَجْعَلْهُ أَمَامَهُ
حُجَّةً فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ:
الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَمِرُّوا
أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا جَاءَتْ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: إِنَّ مِنْ غَوَائِلِ
الْعِلْمِ أَنْ يُتْرَكَ الْعَالِمُ
حَتَّى يَذْهَبَ عِلْمُهُ،
وَالنِّسْيَانَ، وَالْكَذِبَ، وَهُوَ أَشَدُّ الْغَوَائِلِ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: الْقِرَاءَةُ عَلَى الْعَالَمِ
وَالسَّمَاعُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: إِذَا طَالَ
الْمَجْلِسُ كَانَ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَصِيبٌ.
وَقَدْ قَضَى عَنْهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مَرَّةً ثَمَانِينَ أَلْفًا.
وَفِي رِوَايَةٍ: سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَفِي رِوَايَةٍ عِشْرِينَ أَلْفًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَتَبَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي
الْإِسْرَافِ، وَكَانَ يَسْتَدِينُ، فَقَالَ لَهُ: لَا آمَنُ أَنْ يَحْبِسَ
هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ أَيْدِيَهُمْ عَنْكَ فَتَكُونَ قَدْ حُمِلْتَ عَلَى
أَمَانَتِكَ. قَالَ: فَوَعَدَهُ الزُّهْرِيُّ أَنْ يُقْصِرَ، فَمَرَّ بِهِ بَعْدَ
ذَلِكَ وَقَدْ وَضَعَ الطَّعَامَ وَنَصَبَ مَوَائِدَ الْعَسَلِ، فَوَقَفَ بِهِ
رَجَاءٌ وَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَا هَذَا بِالَّذِي فَارَقْتَنَا عَلَيْهِ.
فَقَالَ لَهُ الزُّهْرِيُّ: انْزِلْ فَإِنَّ السَّخِيَّ لَا تُؤَدِّبُهُ
التَّجَارِبُ.
وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى:
لَهُ سَحَائِبُ جُودٍ فِي أَنَامِلِهِ أَمْطَارُهَا الْفِضَّةُ الْبَيْضَاءُ
وَالذَّهَبُ
يَقُولُ فِي الْعُسْرِ إِنْ أَيْسَرْتُ ثَانِيَةً أَقْصَرْتُ عَنْ بَعْضِ مَا
أُعْطِي وَمَا أَهَبُ
حَتَّى إِذَا عَادَ أَيَامُ
الْيَسَارِ لَهُ رَأَيْتَ أَمْوَالَهُ فِي النَّاسِ تُنْتَهَبُ
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وُلِدَ الزُّهْرِيُّ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ. وَقَدِمَ
فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى أَمْوَالِهِ لَيْلَةَ
الثُّلَاثَاءِ بِشَغْبٍ وَبَدَا فَأَقَامَ بِهَا، فَمَرِضَ هُنَاكَ وَمَاتَ، وَأَوْصَى
أَنْ يُدْفَنَ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لِسَبْعَ عَشْرَةَ
مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً،
قَالُوا: وَكَانَ ثِقَةً، كَثِيرَ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ وَالرِّوَايَةِ،
فَقِيهًا جَامِعًا.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ الْعَسْقَلَانِيُّ: رَأَيْتُ قَبْرَ
الزُّهْرِيِّ بِأَدَامَى - وَهِيَ خَلْفَ شَغْبٍ وَبَدَا مِنْ فِلَسْطِينَ -
مُسَنَّمًا مُجَصَّصًا.
وَقَدْ وَقَفَ الْأَوْزَاعِيُّ يَوْمًا عَلَى قَبْرِهِ فَقَالَ: يَا قَبْرُ كَمْ
فِيكَ مِنْ عِلْمٍ وَحِلْمٍ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ تُوفِّيَ الزُّهْرِيُّ بِأَمْوَالِهِ بِشَغْبٍ
لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ
عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ لِيَدْعُوَ لَهُ الْمَارَّةُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ
تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: سَنَةَ
خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَالصَّحِيحُ
الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، كَمَا
أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ:
بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ بْنِ تَمِيمٍ السُّكُونِيُّ أَبُو عَمْرٍو وَيُقَالُ: أَبُو
زُرْعَةَ إِمَامُ الْجَامِعِ بِدِمَشْقَ أَيَّامَ هِشَامٍ وَقَاصُّ أَهْلِ
الشَّامِ، كَانَ أَحَدَ الزُّهَّادِ الْكِبَارِ وَالْعُبَّادِ الصُّوَّامِ
الْقُوَّامِ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ لَهُ صُحْبَةٌ، وَعَنْ جَابِرٍ،
وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ
أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يَكْتُبُ عَنْهُ مَا
يَقُولُهُ مِنَ الْفَوَائِدِ الْعَظِيمَةِ فِي قَصَصِهِ وَوَعْظِهِ، وَقَالَ: مَا
رَأَيْتُ وَاعِظًا قَطُّ مِثْلَهُ. وَقَالَ أَيْضًا: مَا بَلَغَنِي عَنْ أَحَدٍ
مِنَ الْعِبَادَةِ مَا بَلَغَنِي عَنْهُ، كَانَ يُصَلِّي فِي الْيَوْمِ
وَاللَّيْلَةِ أَلْفَ رَكْعَةٍ.
وَقَالَ غَيْرُهُ، وَهُوَ الْأَصْمَعِيُّ: كَانَ إِذَا نَعَسَ فِي لَيْلِ
الشِّتَاءِ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي ثِيَابِهِ فِي الْبِرْكَةِ، فَعَاتَبَهُ بَعْضُ
أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ مَاءَ الْبِرْكَةِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ
صَدِيدِ جَهَنَّمَ.
وَقَالَ آخَرُ، وَهُوَ الْوَلِيدُ
بْنُ مُسْلِمٍ: كَانَ إِذَا كَبَّرَ فِي الْمِحْرَابِ سَمِعُوا تَكْبِيرَهُ مِنَ
الْأَوْزَاعِ - قُلْتُ: وَهِيَ خَارِجُ بَابِ الْفَرَادِيسِ بِمَحَلَّةِ سُوقِ
قُمَيْلَةَ الْيَوْمَ - قَالَ: وَكُنَّا نَتَبَيَّنُ قِرَاءَتَهُ مِنْ عَقَبَةِ
الشِّيحِ عِنْدَ دَارِ الضِّيَافَةِ. يَعْنِي مِنْ عِنْدِ دَارِ الذَّهَبِ دَاخِلَ
بَابِ الْفَرَادِيسِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ: هُوَ شَامِيٌّ تَابِعِيٌّ
ثِقَةٌ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: كَانَ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ، قَاصًّا
حَسَنَ الْقِصَصِ.
وَقَدِ اتَّهَمَهُ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ بِالْقَدَرِ، حِينَ قَالَ بِلَالٌ
يَوْمًا فِي وَعْظِهِ: رُبَّ مَسْرُورٍ مَغْبُونٍ، وَرُبَّ مَغْبُونٍ لَا
يَشْعُرُ، فَوَيْلٌ لِمَنْ لَهُ الْوَيْلُ وَلَا يَشْعُرُ، يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ
وَيَضْحَكُ، وَقَدْ حَقَّ عَلَيْهِ فِي قَضَاءِ اللَّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ
النَّارِ، فَيَا وَيْلٌ لَكَ رُوحًا، وَيَا وَيْلٌ لَكَ جَسَدًا، فَلْتَبْكِ
وَلْتَبْكِ عَلَيْكَ الْبَوَاكِي لِطُولِ الْأَمَدِ.
وَقَدْ سَاقَ ابْنُ عَسَاكِرَ شَيْئًا حَسَنًا مِنْ كَلَامِهِ فِي مَوَاعِظِهِ
الْبَلِيغَةِ ; فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاللَّهِ لَكَفَى بِهِ ذَنْبًا أَنَّ
اللَّهَ يُزَهِّدُنَا فِي الدُّنْيَا، وَنَحْنُ نَرْغَبُ فِيهَا،
زَاهِدُكُمْ رَاغِبٌ، وَعَالِمُكُمْ
جَاهِلٌ، وَمُجْتَهِدُكُمْ مُقَصِّرٌ.
وَقَالَ أَيْضًا: أَخٌ لَكَ كُلَّمَا لَقِيَكَ ذَكَّرَكَ بِنَصِيبِكَ مِنَ
اللَّهِ، أَوْ أَخْبَرَكَ بِعَيْبٍ فِيكَ، أَحَبُّ إِلَيْكَ وَخَيْرٌ لَكَ مِنْ
أَخٍ كُلَّمَا لَقِيَكَ وَضَعَ فِي كَفِّكَ دِينَارًا.
وَقَالَ أَيْضًا: لَا تَكُنْ وَلِيًّا لِلَّهِ فِي الْعَلَانِيَةِ وَعَدُوَّهُ فِي
السِّرِّ، وَلَا تَكُنْ ذَا وَجْهَيْنِ وَذَا لِسَانَيْنِ، فَتُظْهِرُ لِلنَّاسِ
أَنَّكَ تَخْشَى اللَّهَ لِيَحْمَدُوكَ، وَقَلْبُكَ فَاجِرٌ.
وَقَالَ أَيْضًا: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ لَمْ تُخْلَقُوا لِلْفَنَاءِ،
وَإِنَّمَا خُلِقْتُمْ لِلْبَقَاءِ، تُنْقَلُونَ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، كَمَا
نُقِلْتُمْ مِنَ الْأَصْلَابِ إِلَى الْأَرْحَامِ، وَمِنَ الْأَرْحَامِ إِلَى
الدُّنْيَا، وَمِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْقُبُورِ، وَمِنَ الْقُبُورِ إِلَى
الْمَوْقِفِ، وَمِنَ الْمَوْقِفِ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ.
وَقَالَ أَيْضًا: عِبَادُ الرَّحْمَنِ، إِنَّكُمْ تَعْمَلُونَ فِي أَيَّامٍ
قِصَارٍ لِأَيَّامٍ طِوَالٍ، وَفِي دَارِ زَوَالٍ لِدَارِ مُقَامٍ، وَدَارِ حُزْنٍ
وَنَصَبٍ لِدَارِ نَعِيمٍ وَخُلْدٍ، فَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ عَلَى يَقِينٍ فَلَا
يَتَعَنَّ، عِبَادَ الرَّحْمَنِ، لَوْ قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاكُمُ الْمَاضِيَةُ
لَكَانَ فِيمَا تَسْتَقْبِلُونَ لَكُمْ شُغُلٌ، وَلَوْ عَمِلْتُمْ بِمَا
تَعْمَلُونَ لَكُنْتُمْ عِبَادَ اللَّهِ حَقًّا، عِبَادَ الرَّحْمَنِ، أَمَّا مَا
وَكَلَكُمُ اللَّهُ بِهِ
فَتُضَيِّعُونَهُ، وَأَمَّا مَا تَكَفَّلَ اللَّهُ لَكُمْ بِهِ فَتَطْلُبُونَهُ !
مَا هَكَذَا نَعَتَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُوقِنِينَ، أَذَوُو عُقُولٍ فِي
الدُّنْيَا وَبُلْهٌ عَمَّا خُلِقْتُمْ لَهُ ؟ ! فَكَمَا تَرْجُونَ رَحْمَةَ
اللَّهِ بِمَا تُؤَدُّونَ مِنْ طَاعَتِهِ، فَكَذَلِكَ أَشْفِقُوا مِنْ عَذَابِهِ
بِمَا تَنْتَهِكُونَ مِنْ مَعَاصِيهِ، عِبَادَ الرَّحْمَنِ، هَلْ جَاءَكُمْ
مُخْبِرٌ يُخْبِرُكُمْ أَنَّ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِكُمْ تُقُبِّلَ مِنْكُمْ ؟
أَوْ شَيْئًا مِنْ خَطَايَاكُمْ غُفِرَ لَكُمْ ؟ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا
خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ:
115 ] وَاللَّهِ لَوْ عُجِّلَ لَكُمُ الثَّوَابُ فِي الدُّنْيَا لَاسْتَقْلَلْتُمْ
مَا فُرِضَ عَلَيْكُمْ، أَتَرْغَبُونَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ لِتَعْجِيلِ دَارٍ
مَغْمُورَةٍ بِالْآفَاتِ، وَلَا تَرْغَبُونَ وَتَنَافِسُونَ فِي جَنَّةٍ أُكُلُهَا
دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ
النَّارُ [ الرَّعْدِ: 35 ] ؟ !
وَقَالَ أَيْضًا: الذِّكْرُ ذِكْرَانِ ; ذِكْرُ اللَّهِ بِاللِّسَانِ حَسَنٌ
جَمِيلٌ، وَذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ مَا أَحَلَّ وَحَرَّمَ أَفْضَلُ، عِبَادُ
الرَّحْمَنِ، يُقَالُ لِأَحَدِنَا: تُحِبُّ أَنْ تَمُوتَ ؟ فَيَقُولُ: لَا.
فَيُقَالُ: لِمَ ؟ فَيَقُولُ: حَتَّى أَعْمَلَ. فَيُقَالُ لَهُ: اعْمَلْ.
فَيَقُولُ: سَوْفَ. فَلَا يُحِبُّ أَنْ يَمُوتَ، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ،
وَأَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ أَنْ يُؤَخِّرَ عَمَلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا
يُحِبُّ أَنْ يُؤَخَّرَ عَنْهُ عَرَضُ دُنْيَاهُ، عِبَادَ الرَّحْمَنِ، إِنَّ
الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْفَرِيضَةَ الْوَاحِدَةَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَقَدْ أَضَاعَ مَا سِوَاهَا، فَمَا يَزَالُ يُمَنِّيهِ الشَّيْطَانُ
فِيهَا وَيُزَيِّنُ لَهُ حَتَّى مَا يَرَى شَيْئًا دُونَ الْجَنَّةِ، فَقَبْلَ
أَنْ تَعْمَلُوا أَعْمَالَكُمْ فَانْظُرُوا مَاذَا تُرِيدُونَ بِهَا، فَإِنْ
كَانَتْ خَالِصَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَمْضُوهَا، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ
اللَّهِ فَلَا تَشُقُّوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَلَا شَيْءَ لَكُمْ، فَإِنَّ
اللَّهَ لَا يَقْبَلُ
مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ
خَالِصًا، فَإِنَّهُ قَالَ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [ فَاطِرٍ: 10 ].
وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ إِلَى عَذَابِكُمْ بِسَرِيعٍ ; يُقِيلُ
الْعَثْرَةَ، وَيَقْبَلُ الْمُقْبِلَ، وَيَدْعُو الْمُدْبِرَ.
وَقَالَ أَيْضًا: إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ لَجُوجًا، مُمَارِيًا، مُعْجَبًا
بِرَأْيِهِ، فَقَدْ تَمَّتْ خَسَارَتُهُ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: خَرَجَ النَّاسُ بِدِمَشْقَ يَسْتَسْقُونَ، فَقَامَ
فِيهِمْ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ مَنْ حَضَرْتُمْ، أَلَسْتُمْ
مُقِرِّينَ بِالْإِسَاءَةِ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ
قُلْتَ: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [ التَّوْبَةِ: 91 ] وَقَدْ
أَقْرَرْنَا بِالْإِسَاءَةِ، فَاعْفُ عَنَّا وَاسْقِنَا. قَالَ: فَسُقُوا
يَوْمَهُمْ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَيْضًا: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَقَدْ أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا يَشْتَدُّونَ
بَيْنَ الْأَعْرَاضِ، وَيَضْحَكُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَإِذَا جَنَّهُمُ
اللَّيْلُ كَانُوا رُهْبَانًا. وَسَمِعْتُهُ أَيْضًا يَقُولُ: لَا تَنْظُرُ إِلَى
صِغَرِ الذَّنْبِ، وَانْظُرْ مَنْ عَصَيْتَ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ بَادَأَكَ
بِالْوُدِّ فَقَدَ اسْتَرَقَّكَ بِالشُّكْرِ.
وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ
إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَيْغِ الْقُلُوبِ، وَمِنْ تَبِعَاتِ الذُّنُوبِ، وَمِنْ
مُرْدِيَاتِ الْأَعْمَالِ، وَمُضِلَّاتِ الْفِتَنِ.
الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ،
هُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ
مَرْوَانُ الْجَعْدِيُّ وَهُوَ مَرْوَانُ الْحِمَارُ آخِرُ خُلَفَاءِ بَنِي
أُمَيَّةَ كَانَ شَيْخُهُ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ أَصْلُهُ مِنْ حَرَّانَ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ مَوَالِي بَنِي مَرْوَانَ. سَكَنَ الْجَعْدُ دِمَشْقَ،
وَكَانَتْ لَهُ بِهَا دَارٌ بِالْقُرْبِ مِنَ الْقَلَانِسِيِّينَ إِلَى جَانِبِ
الْكَنِيسَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. قُلْتُ: وَهِيَ مَحَلَّةٌ بِالْقُرْبِ
مِنَ الْخَوَّاصِينَ الْيَوْمَ غَرْبِيَّهَا عِنْدَ حَمَّامِ الْقَطَّانِينَ
الَّذِي يُقَالُ لَهُ: حَمَّامُ قُلَيْنِسَ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ: وَقَدْ أَخَذَ بِدْعَتَهُ عَنْ بَيَانِ بْنِ
سَمْعَانَ وَأَخَذَهَا بَيَانٌ عَنْ طَالُوتِ ابْنِ أُخْتِ لَبِيدِ بْنِ أَعْصَمَ
وَزَوْجِ ابْنَتِهِ، عَنْ لَبِيدِ بْنِ أَعْصَمَ السَّاحِرِ لَعَنَهُ اللَّهُ،
وَأَخَذَ عَنِ الْجَعْدِ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ الْخَزَرِيُّ. وَقِيلَ:
التِّرْمِذِيُّ. وَقَدْ أَقَامَ بِبَلْخَ وَكَانَ يُصَلِّي مَعَ مُقَاتِلِ بْنِ
سُلَيْمَانَ فِي مَسْجِدِهِ
وَيَتَنَاظَرَانِ، حَتَّى نُفِيَ
إِلَى تِرْمِذَ، ثُمَّ قُتِلَ الْجَهْمُ بِأَصْبَهَانَ وَقِيلَ: بِمَرْوَ.
قَتَلَهُ نَائِبُهَا سَلْمُ بْنُ أَحْوَزَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَجَزَاهُ عَنِ
الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، وَأَخَذَ بِشْرُ الْمَرِيسِيُّ عَنِ الْجَهْمِ وَأَخَذَ
أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ، عَنْ بِشْرٍ وَأَمَّا الْجَعْدُ لَعَنَهُ اللَّهُ،
فَإِنَّهُ أَقَامَ بِدِمَشْقَ حَتَّى أَظْهَرَ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ،
فَتَطَلَّبَهُ بَنُو أُمَيَّةَ فَهَرَبَ مِنْهُمْ، فَسَكَنَ الْكُوفَةَ فِلْقَيْهِ
بِهَا الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ فَتَقَلَّدَ هَذَا الْقَوْلَ، لَعَنَهُمَا
اللَّهُ، ثُمَّ قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ يَوْمَ عِيدِ
الْأَضْحَى بِالْكُوفَةِ وَذَلِكَ أَنَّ خَالِدًا خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ فِي
خُطْبَتِهِ تِلْكَ: أَيُّهَا النَّاسُ، ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ،
فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ
يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، تَعَالَى
اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ فِي
أَصْلِ الْمِنْبَرِ بِيَدِهِ، أَثَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَتَقَبَّلَ مِنْهُ،
وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَقَدْ كَانَ هِشَامٌ
طَلَبَهُ بِدِمَشْقَ حِينَ أَظْهَرَ مَا أَظْهَرَ، ثُمَّ إِنَّهُ هَرَبَ بَعْدَ
ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ أَنْ
يَقْتُلَهُ، فَقَتَلَهُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ رَوَى قِصَّتَهُ مَعَ خَالِدٍ
الْبُخَارِيُّ فِي " أَفْعَالِ الْعِبَادِ " وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ
وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي السُّنَّةِ كَالطَّبَرَانِيِّ، وَابْنِ
أَبِي عَاصِمٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ وَذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي
" التَّارِيخِ ".
وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَى وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَأَنَّهُ كَانَ
كُلَّمَا رَاحَ إِلَى وَهْبٍ
يَغْتَسِلُ وَيَقُولُ: أَجْمَعُ
لِلْعَقْلِ. وَكَانَ يَسْأَلُ وَهْبًا عَنْ صِفَاتِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ،
فَقَالَ لَهُ وَهْبٌ يَوْمًا: وَيْلَكَ يَا جَعْدُ أَقْصِرِ الْمَسْأَلَةَ، إِنِّي
لَأَظُنُّكَ مِنَ الْهَالِكِينَ، لَوْ لَمْ يُخْبِرْنَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ
أَنَّ لَهُ يَدًا مَا قُلْنَا ذَلِكَ، وَأَنَّ لَهُ عَيْنًا مَا قُلْنَا ذَلِكَ.
ثُمَّ لَمْ يَلْبَثِ الْجَعْدُ أَنْ صُلِبَ، ثُمَّ قُتِلَ.
وَذُكِرَ فِي تَرْجَمَتِهِ أَنَّهُ قَالَ لِلْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ وَيُرْوَى
لِعِمْرَانِ بْنِ حِطَّانَ:
لَيْثٌ عَلَيَّ وَفِي الْحُرُوبِ نَعَامَةٌ فَتْخَاءُ تَجْفُلُ مِنْ صَفِيرِ
الصَّافِرِ
هَلَّا بَرَزْتَ إِلَى غَزَالَةَ فِي الْوَغَى بَلْ كَانَ قَلْبُكَ فِي جَنَاحَيْ
طَائِرِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا رِزْقُ اللَّهِ بْنُ
مُوسَى، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، ثَنَا عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ مُصْعَبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:تُرْفَعُ زِينَةُ الدُّنْيَا سَنَةَ
خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي "
مُسْنَدِهِ " عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ نُفَيْلٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ مُصْعَبٍ
عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ. قُلْتُ: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مُنْكَرٌ وَمُصْعَبُ
بْنُ مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ تُكُلِّمَ فِيهِ،
وَضَعَّفَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ وَكَذَا تَكَلَّمَ فِي
الرَّاوِي عَنْهُ أَيْضًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا غَزَا النُّعْمَانُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الصَّائِفَةَ
مِنْ بِلَادِ الرُّومِ وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا تُوَفِّي أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.
ذِكْرُ وَفَاتِهِ وَتَرْجَمَتِهِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
هُوَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي
الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، أَبُو الْوَلِيدِ الْقُرَشِيُّ
الْأُمَوِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّهُ أُمُّ هِشَامٍ
بِنْتُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ وَكَانَتْ دَارُهُ بِدِمَشْقَ
عِنْدَ بَابِ الْخَوَّاصِينَ وَبَعْضُهَا الْيَوْمَ مَدْرَسَةُ نُورِ الدِّينِ
الشَّهِيدِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: النُّورِيَّةُ الْكَبِيرَةُ. وَتُعْرَفُ
بِدَارِ الْقَبَّابِينَ يَعْنِي الَّذِينَ يَبِيعُونَ الْقِبَابَ. وَهِيَ
الْخِيَامُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ
أَخِيهِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِعَهْدٍ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ، وَكَانَ
لَهُ مِنَ الْعُمْرِ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَكَانَ جَمِيلًا
أَبْيَضَ أَحْوَلَ، يُخَضِّبُ بِالسَّوَادِ، وَهُوَ الرَّابِعُ مِنْ وَلَدِ عَبْدِ
الْمَلِكِ لِصُلْبِهِ الَّذِينَ وُلُّوا الْخِلَافَةَ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ
الْمَلِكِ رَأَى فِي الْمَنَامِ كَأَنَّهُ بَالَ فِي الْمِحْرَابِ أَرْبَعَ
مَرَّاتٍ، فَدَسَّ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مَنْ سَأَلَهُ عَنْهَا،
فَفَسَّرَهَا لَهُ بِأَنَّهُ يَلِي الْخِلَافَةَ مِنْ وَلَدِهِ أَرْبَعَةٌ،
فَوَقَعَ ذَلِكَ، فَكَانَ هِشَامٌ آخِرَهُمْ، وَكَانَ فِي خِلَافَتِهِ حَازِمَ
الرَّأْيِ، جَمَّاعًا لِلْأَمْوَالِ يُبَخَّلُ، وَكَانَ ذَكِيًّا مُدَبِّرًا، لَهُ
بَصَرٌ بِالْأُمُورِ جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا، وَكَانَ فِيهِ حِلْمٌ وَأَنَاةٌ،
شَتَمَ مَرَّةً رَجُلًا مِنَ الْأَشْرَافِ، فَقَالَ: أَتَشْتُمُنِي وَأَنْتَ
خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ ؟ فَاسْتَحْيَا وَقَالَ: اقْتَصَّ مِنِّي
بَدَلَهَا. أَوْ قَالَ: بِمِثْلِهَا. فَقَالَ: إِذَنْ أَكُونُ سَفِيهًا مِثْلَكَ.
قَالَ: فَخُذْ عِوَضًا مِنْهَا. قَالَ: لَا أَفْعَلُ. قَالَ: فَاتْرُكْهَا
لِلَّهِ.
قَالَ: هِيَ لِلَّهِ، ثُمَّ لَكَ.
فَقَالَ هِشَامٌ عِنْدَ ذَلِكَ: وَاللَّهِ لَا أَعُودُ إِلَى مِثْلِهَا.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَسْمَعَ رَجُلٌ هِشَامًا كَلَامًا، فَقَالَ لَهُ:
أَتَقُولُ لِي مِثْلَ هَذَا وَأَنَا خَلِيفَتُكَ ؟
وَغَضِبَ مَرَّةً عَلَى رَجُلٍ، فَقَالَ لَهُ: اسْكُتْ وَإِلَّا ضَرَبْتُكَ
سَوْطًا.
وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ قَدِ اقْتَرَضَ مِنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ
مَالًا ; أَرْبَعَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي
مَرْوَانَ حَتَّى اسْتُخْلِفَ هِشَامٌ فَقَالَ: مَا فَعَلَ حَقُّنَا قِبَلَكَ ؟
قَالَ: مَوْفُورٌ مَشْكُورٌ. فَقَالَ: هُوَ لَكَ.
وَكَانَ هِشَامٌ مِنْ أَكْرَهِ النَّاسِ لِسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَلَقَدْ دَخَلَ
عَلَيْهِ مِنْ مَقْتَلِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَابْنِهِ يَحْيَى أَمْرٌ شَدِيدٌ،
وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي افْتَدَيْتُهُمَا بِجَمِيعِ مَا أَمْلِكُ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ غَنِيٍّ، عَنْ بِشْرٍ مَوْلَى هِشَامٍ
قَالَ: أُتِيَ هِشَامٌ بِرَجُلٍ عِنْدَهُ قِيَانٌ وَخَمْرٌ وَبَرْبَطٌ. فَقَالَ:
اكْسِرُو الطُّنْبُورَ عَلَى رَأْسِهِ
وَقَرْنِهِ. فَبَكَى الشَّيْخُ. قَالَ
بِشْرٌ: فَضَرَبَهُ، فَقُلْتُ لَهُ وَأَنَا أُعَزِّيهِ: عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ.
فَقَالَ: أَتُرَانِي أَبْكِي لِلضَّرْبِ، إِنَّمَا أَبْكِي لِاحْتِقَارِهِ الْبَرْبَطَ
حَتَّى سَمَّاهُ طُنْبُورًا.
قَالَ: وَأَغْلَظَ لِهِشَامٍ رَجُلٌ يَوْمًا فِي الْكَلَامِ فَقَالَ: لَيْسَ لَكَ
أَنْ تَقُولَ هَذَا لِإِمَامِكَ.
قَالَ: وَتَفَقَّدَ أَحَدَ وَلَدِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ: مَا
لَكَ لَمْ تَشْهَدِ الْجُمُعَةَ ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَغْلَتِي عَجَزَتْ عَنِّي.
فَبَعَثَ إِلَيْهِ: أَمَا كَانَ يُمْكِنُكَ الْمَشْيُ. وَمَنَعَهُ أَنْ يَرْكَبَ
سَنَةً.
وَذَكَرَ الْمَدَائِنِيُّ أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى إِلَى هِشَامٍ طَيْرَيْنِ،
فَأَوْرَدَهُمَا السَّفِيرُ إِلَى هِشَامٍ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ فِي
وَسَطِ دَارِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَرْسِلْهُمَا فِي الدَّارِ. فَأَرْسَلَهُمَا،
ثُمَّ قَالَ: جَائِزَتِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: وَيْحَكَ ! وَمَا
جَائِزَتُكَ عَلَى هَدِيَّةٍ طَيْرَيْنِ ؟ خُذْ أَحَدَهُمَا. فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَسْعَى
خَلْفَ أَحَدِهِمَا، فَقَالَ: وَيْحَكَ ! مَا لَكَ ؟ فَقَالَ: أَخْتَارُ
أَجْوَدَهُمَا. قَالَ: وَتَخْتَارُ أَيْضًا الْجَيِّدَ وَتَتْرُكَ الرَّدِيءَ ؟
ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا.
وَذَكَرَ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ قَحْذَمٍ كَاتِبِ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ قَالَ:
بَعَثَنِي يُوسُفُ إِلَى هِشَامٍ بِيَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَلُؤْلُؤَةٍ كَانَتَا
لِرَائِقَةَ جَارِيَةِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ
مُشْتَرَى الْيَاقُوتَةِ ثَلَاثَةٌ
وَسَبْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ. قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ
فَوْقَهُ فَرْشٌ لَمْ أَرَ رَأْسَ هِشَامٍ مِنْ عُلُوِّ تِلْكَ الْفُرُشِ،
فَأَوْرَدْتُهَا لَهُ، فَقَالَ: كَمْ زِنْتُهُمَا ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ مِثْلَ هَذِهِ
لَا مِثْلَ لَهَا. فَسَكَتَ.
قَالُوا: وَرَأَى قَوْمًا يَفْرِطُونَ الزَّيْتُونَ، فَقَالَ: الْقُطُوهُ لَقْطًا،
وَلَا تَنْفُضُوهُ نَفَضَا، فَتُفْقَأَ عُيُونُهُ وَتَنْكَسِرَ غُصُونُهُ.
وَكَانَ يَقُولُ: ثَلَاثَةٌ لَا يَضَعْنَ الشَّرِيفَ ; تَعَاهُدُ الصَّنِيعَةِ،
وَإِصْلَاحُ الْمَعِيشَةِ، وَطَلَبُ الْحَقِّ وَإِنْ قَلَّ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَرَائِطِيُّ: يُقَالُ: إِنَّ هِشَامًا لَمْ يَقُلْ مِنَ
الشِّعْرِ سِوَى هَذَا الْبَيْتِ:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْصِ الْهَوَى قَادَكَ الْهَوَى إِلَى كُلِّ مَا فِيهِ
عَلَيْكَ مَقَالُ
وَقَدْ رُوِيَ لَهُ شِعْرٌ غَيْرُ هَذَا.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ وَسْنَانَ الْأَعْرَجِيِّ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي
نُحَيْلَةَ، عَنْ عَقَّالِ بْنِ شَبَّةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى هِشَامٍ وَعَلَيْهِ
قَبَاءُ فَنَكٍ أَخْضَرُ، فَوَجَّهَنِي إِلَى
خُرَاسَانَ 72، ثُمَّ جَعَلَ
يُوصِينِي وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْقَبَاءِ، فَفَطِنَ، فَقَالَ: مَا لَكَ ؟
قُلْتُ: رَأَيْتُ عَلَيْكَ قَبَاءَ فَنَكٍ أَخْضَرَ قَبْلَ أَنْ تَلِيَ
الْخِلَافَةَ، فَجَعَلْتُ أَتَأَمَّلُ هَذَا ; أَهْوَ ذَاكَ أَمْ غَيْرُهُ ؟
قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ ذَاكَ، مَا لِي قَبَاءٌ
غَيْرُهُ، وَأَمَّا مَا تَرَوْنَ مِنْ جَمْعِي لِهَذَا الْمَالِ وَصَوْنِهِ
فَإِنَّهُ لَكُمْ. قَالَ عَقَّالٌ: وَكَانَ هِشَامٌ مَحْشُوًّا عَقْلًا.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ عَمِّ السَّفَّاحِ: جَمَعْتُ دَوَاوِينَ
بَنِي أُمَيَّةَ فَلَمْ أَرَ أَصْلَحَ لِلْعَامَّةِ وَالسُّلْطَانِ مِنْ دِيوَانِ
هِشَامٍ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ غَسَّانَ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ: لَمْ يَكُنْ
أَحَدٌ مِنْ بَنِي مَرْوَانَ أَشَدَّ نَظَرًا فِي أَمْرِ أَصْحَابِهِ
وَدَوَاوِينِهِ، وَلَا أَشَدَّ مُبَالَغَةً فِي الْفَحْصِ عَنْهُمْ مِنْ هِشَامٍ.
وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ غَيْلَانَ الْقَدَرِيَّ وَلَمَّا أُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ
قَالَ لَهُ: وَيْحَكَ ! قُلْ مَا عِنْدَكَ، إِنْ كَانَ حَقًّا اتَّبَعْنَاهُ،
وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا رَجَعْتَ عَنْهُ. فَنَاظَرَهُ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ
فَقَالَ لِمَيْمُونٍ: أَشَاءَ اللَّهُ أَنْ يُعْصَى ؟ فَقَالَ لَهُ مَيْمُونٌ:
أَيُعْصَى اللَّهُ كَارِهًا ؟ فَسَكَتَ غَيْلَانُ، فَقَيَّدَهُ حِينَئِذٍ هِشَامٌ
وَقَتَلَهُ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ أَبِي
الزِّنَادِ، عَنْ مُنْذِرِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ قَالَ: أَصَبْنَا فِي خَزَائِنِ
هِشَامٍ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ قَمِيصٍ، كُلُّهَا قَدْ أُثِرَ بِهَا.
وَشَكَى هِشَامٌ إِلَى أَبِيهِ ثَلَاثًا ; إِحْدَاهَا أَنَّهُ يَهَابُ الصُّعُودَ
عَلَى الْمِنْبَرِ، وَالثَّانِيَةُ، قِلَّةُ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ،
وَالثَّالِثَةُ، أَنَّ عِنْدَهُ فِي الْقَصْرِ مِائَةُ جَارِيَةٍ لَا يَكَادُ
يَصِلُ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُوهُ: أَمَّا صُعُودُكَ
عَلَى الْمِنْبَرِ فَإِذَا عَلَوْتَ فَوْقَهُ فَارْمِ بِبَصَرِكَ إِلَى مُؤَخَّرِ
النَّاسِ فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكَ، وَأَمَّا قِلَّةُ الطَّعَامِ فَمُرِ
الطَّبَّاخَ فَلْيُكْثِرِ الْأَلْوَانَ، فَلَعَلَّكَ أَنْ تَتَنَاوَلَ مِنْ كُلِّ
لَوْنٍ لُقْمَّةً، وَعَلَيْكَ بِكُلِّ بَيْضَاءَ بَضَّةٍ ذَاتِ جَمَالٍ وَحُسْنٍ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيُّ: لَمَّا بَنَى هِشَامُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ الرُّصَافَةَ قَالَ: أُحِبَّ أَنْ أَخْلُوَ بِهَا يَوْمًا لَا
يَأْتِينِي فِيهِ خَبَرُ غَمٍّ. فَمَا انْتَصَفَ النَّهَارُ حَتَّى أَتَتْهُ
رِيشَةُ دَمٍ مِنْ بَعْضِ الثُّغُورِ فَقَالَ: وَلَا يَوْمًا وَاحِدًا ؟
وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَمْكُثْ بَعْدَ
ذَلِكَ إِلَّا شَهْرًا وَاحِدًا.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ هِشَامٌ لَا يُكْتَبُ إِلَيْهِ
بِكِتَابٍ فِيهِ ذِكْرُ الْمَوْتِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ
الْحِزَامِيُّ، ثَنَا حُسَيْنُ بْنُ
زَيْدٍ، عَنْ شِهَابِ بْنِ عَبْدِ
رَبِّهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: مَشَيْتُ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ -
يَعْنِي ابْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - إِلَى دَارِهِ
عِنْدَ الْحَمَّامِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ طَالَ مُلْكُ هِشَامٍ
وَسُلْطَانُهُ، وَقَدْ قَرُبَ مِنَ الْعِشْرِينَ سَنَةً، وَقَدْ زَعَمَ النَّاسُ
أَنَّ سُلَيْمَانَ سَأَلَ رَبَّهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ،
فَزَعَمَ النَّاسُ أَنَّهَا الْعِشْرُونَ. فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا أَحَادِيثُ
النَّاسِ، وَلَكِنْ أَبِي حَدَّثَنِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:لَنْ يُعَمِّرَ اللَّهُ مَلِكًا فِي
أُمَّةِ نَبِيٍّ مَضَى قَبْلَهُ مَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيُّ مِنَ الْعُمْرِ فِي
أُمَّتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَمَّرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً بِمَكَّةَ وَعَشْرًا بِالْمَدِينَةِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: لَيْسَ حَدِيثٌ فِيهِ تَوْقِيتٌ
غَيْرَ هَذَا، قَرَأَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَلَى كِتَابِي فَقَالَ: مَنْ
حَدَّثَكَ بِهِ ؟ فَقُلْتُ: إِبْرَاهِيمُ. فَتَلَهَّفَ ؟ أَنْ لَا يَكُونُ
سَمِعَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي " تَارِيخِهِ " عَنْ
أَحْمَدَ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيِّ.
وَرَوَى مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنِي
عِيَاذُ بْنُ الْمَغْرَاءِ الْعَتَكِيُّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا
يَقُولُ: هَلَاكُ مُلْكِ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ أَحْوَلَ. يَعْنِي
هِشَامًا.
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي مُعَاذٍ
النُّمَيْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ كُلَيْعٍ، عَنْ
سَالِمٍ كَاتِبِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا يَوْمًا
هِشَامٌ وَعَلَيْهِ كَآبَةٌ، وَقَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْحُزْنُ، فَاسْتَدْعَى
الْأَبْرَشَ بْنَ الْوَلِيدِ فَجَاءَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا
لِي أَرَاكَ هَكَذَا ؟ فَقَالَ: مَا لِي لَا أَكُونُ وَقَدْ زَعَمَ أَهْلُ
الْعِلْمِ بِالنُّجُومِ أَنِّي أَمُوتُ إِلَى ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ مِنْ يَوْمِي
هَذَا. قَالَ: فَكَتَبْنَا ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ آخَرَ لَيْلَةٍ مِنْ ذَلِكَ
جَاءَنِي رَسُولُهُ فِي اللَّيْلِ يَقُولُ: أَحْضِرْ مَعَكَ دَوَاءً لِلذَّبْحَةِ،
وَكَانَتْ قَدْ أَصَابَتْهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَاسْتَعْمَلَ مِنْهُ فَعُوفِيَ،
فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ وَمَعِي ذَلِكَ الدَّوَاءُ، فَتَنَاوَلَهُ وَهُوَ فِي وَجَعٍ
شَدِيدٍ، وَاسْتَمَرَّ فِيهِ عَامَّةُ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَالَ: يَا سَالِمُ
اذْهَبْ إِلَى مَنْزِلِكَ فَقَدْ وَجَدْتُ خِفَّةً، وَذَرِ الدَّوَاءَ عِنْدِي.
فَذَهَبْتُ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ وَصَلْتُ إِلَى مَنْزِلِي حَتَّى سَمِعْتُ
الصِّيَاحَ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ.
وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ هِشَامًا نَظَرَ إِلَى أَوْلَادِهِ وَهُمْ يَبْكُونَ
حَوْلَهُ، فَقَالَ: جَادَ لَكُمْ هِشَامٌ بِالدُّنْيَا وَجُدْتُمْ عَلَيْهِ
بِالْبُكَاءِ، وَتَرَكَ لَكُمْ مَا جَمَعَ، وَتَرَكْتُمْ عَلَيْهِ مَا كَسَبَ، مَا
أَعْظَمَ مُنْقَلَبَ هِشَامٍ إِنْ لَمْ يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُ.
وَلَمَّا مَاتَ جَاءَتِ الْخَزَنَةُ فَخَتَمُوا عَلَى حَوَاصِلِهِ، وَأَرَادُوا
تَسْخِينَ الْمَاءِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا لَهُ عَلَى قُمْقُمٍ، حَتَّى اسْتَعَارُوا
لَهُ. وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: الْحُكْمُ لِلْحَكَمِ الْحَكِيمِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالرُّصَافَةِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ
رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَهُوَ ابْنُ بِضْعٍ
وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: إِنَّهُ جَاوَزَ السِّتِّينَ. وَصَلَّى
عَلَيْهِ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ
بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الَّذِي وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ، وَكَانَتْ خِلَافَةُ
هِشَامٍ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَقِيلَ: وَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ وَأَيَّامٌ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ: ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مُصْعَبٍ
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:تُرْفَعُ زِينَةُ
الدُّنْيَا سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ قَالَ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ:
زِينَتُهَا نُورُ الْإِسْلَامِ وَبَهْجَتُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَعْنِي
الرِّجَالَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: لَمَّا مَاتَ هِشَامٌ تَوَلَّى مُلْكُ بَنِي أُمَيَّةَ وَاضْطَرَبَ
أَمْرُهُمْ جِدًّا، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَأَخَّرَتْ أَيَّامُهُمْ بَعْدَهُ نَحْوًا
مِنْ سَبْعِ سِنِينَ، وَلَكِنْ فِي اخْتِلَافٍ وَهَيْجٍ، وَمَا زَالُوا حَتَّى
خَرَجَتْ عَلَيْهِمْ بَنُو الْعَبَّاسِ فَاسْتَلَبُوهُمْ نِعْمَتَهُمْ
وَمُلْكَهُمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا، وَسَلَبُوهُمُ الْخِلَافَةَ، كَمَا
سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ مَبْسُوطًا مُقَرَّرًا فِي
مَوَاضِعِهِ.
خِلَافَةُ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ
بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْفَاسِقِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَبْعَدَهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَالْمَدَائِنِيُّ: بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ
مَاتَ عَمُّهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ
خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: بُويِعَ لَهُ يَوْمَ السَّبْتِ فِي رَبِيعٍ
الْآخِرِ. وَكَانَ عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَكَانَ
سَبَبُ وِلَايَتِهِ أَنَّ أَبَاهُ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ كَانَ قَدْ
جَعَلَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ لِأَخِيهِ هِشَامٍ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ
الْوَلِيدِ هَذَا، فَلَمَّا وَلِيَ هِشَامٌ أَكْرَمَ ابْنَ أَخِيهِ الْوَلِيدَ
حَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِ أَمْرُ الشَّرَابِ وَخُلَطَاءِ السُّوءِ وَمَجَالِسِ
اللَّهْوِ، فَأَرَادَ هِشَامٌ أَنْ يَقْطَعَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَأَمَّرَهُ عَلَى
الْحَجِّ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، فَأَخَذَ مَعَهُ كِلَابُ الصَّيْدِ
خُفْيَةً مِنْ عَمِّهِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ جَعَلَهَا فِي صَنَادِيقَ، فَسَقَطَ
مِنْهَا صُنْدُوقٌ فِيهِ كَلْبٌ، فَسَمِعَ صَوْتَهُ، فَأَحَالُوا ذَلِكَ عَلَى
الْجَمَّالِ، فَضُرِبَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالُوا: وَاصْطَنَعَ الْوَلِيدُ
قُبَّةً عَلَى قَدْرِ الْكَعْبَةِ وَمِنْ عَزْمِهِ أَنْ يَنْصِبَ تِلْكَ
الْقُبَّةَ فَوْقَ سَطْحِ الْكَعْبَةِ وَيَجْلِسَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ هُنَالِكَ،
وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ الْخُمُورَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، فَلَمَّا
وَصَلَ إِلَى مَكَّةَ هَابَ أَنْ يَفْعَلَ مَا كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَيْهِ مِنَ
الْجُلُوسِ فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ ; خَوْفًا مِنَ النَّاسِ وَمِنْ
إِنْكَارِهِمْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ عَمُّهُ ذَلِكَ مِنْهُ نَهَاهُ
مِرَارًا، فَلَمْ يَنْتَهِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى حَالِهِ الْقَبِيحِ، وَعَلَى
فِعْلِهِ الرَّدِيءِ، فَعَزَمَ عَمُّهُ عَلَى خَلْعِهِ مِنَ الْخِلَافَةِ -
وَلَيْتَهُ فَعَلَ - وَأَنْ يُوَلِّيَ بَعْدَهُ مَسْلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ
وَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَمِنْ أَخْوَالِهِ،
وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَيْتَ ذَلِكَ تَمَّ، وَلَكِنْ
لَمْ يَنْتَظِمْ حَتَّى قَالَ هِشَامٌ يَوْمًا لِلْوَلِيدِ: وَيْحَكَ ! وَاللَّهِ
مَا أَدْرِي أَعْلَى الْإِسْلَامِ أَنْتَ أَمْ لَا، فَإِنَّكَ مَا تَدَعُ شَيْئًا
مِنَ الْمُنْكَرَاتِ إِلَّا أَتَيْتَهُ غَيْرَ مُتَحَاشٍ وَلَا مُسْتَتِرٍ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ:
يَا أَيُّهَا السَّائِلُ عَنْ دِينِنَا دِينِي عَلَى دِينِ أَبِي شَاكِرِ
نَشْرَبُهَا صِرْفًا وَمَمْزُوجَةً
بِالسُّخْنِ أَحْيَانًا وَبِالْفَاتِرِ
فَغَضِبِ هِشَامٌ عَلَى ابْنِهِ مَسْلَمَةَ، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا شَاكِرٍ،
وَقَالَ لَهُ: يُعَيِّرُنِي بِكَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ
أُرَقِّيَكَ إِلَى الْخِلَافَةِ ؟ وَبَعَثَهُ عَلَى الْمَوْسِمِ سَنَهَ تِسْعَ
عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، فَأَظْهَرَ النُّسُكَ وَالْوَقَارَ وَاللِّينَ، وَقَسَّمَ بِمَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ أَمْوَالًا، فَقَالَ مَوْلًى لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ
يَا أَيُّهَا السَّائِلُ عَنْ
دِينِنَا دِينِي عَلَى دِينِ أَبِي شَاكِرِ
الْوَاهِبِ الْجُرْدِ بِأَرْسَانِهَا لَيْسَ بِزِنْدِيقٍ وَلَا كَافِرِ
وَوَقَعَتْ بَيْنَ هِشَامٍ وَبَيْنَ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ وَحْشَةٌ عَظِيمَةٌ
بِسَبَبِ تَعَاطِي الْوَلِيدِ مَا كَانَ يَتَعَاطَاهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ
وَالْمُنْكَرَاتِ، فَتَنَكَّرَ لَهُ هِشَامٌ وَعَزَمَ عَلَى خَلْعِهِ وَتَوْلِيَةِ
وَلَدِهِ مَسْلَمَةَ وِلَايَةَ الْعَهْدِ، فَفَرَّ مِنْهُ الْوَلِيدُ إِلَى
الصَّحْرَاءِ، وَجَعَلَا يَتَرَاسَلَانِ بِأَقْبَحِ الْمُرَاسَلَاتِ، وَجَعَلَ
هِشَامٌ يَتَوَعَّدُهُ وَعِيدًا شَدِيدًا وَيَتَهَدَّدُهُ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ
حَتَّى مَاتَ هِشَامٌ، وَالْوَلِيدُ فِي الْبَرِّيَّةِ، فَلَمَّا كَانَتِ
اللَّيْلَةُ الَّتِي قَدِمَ فِي صَبِيحَتِهَا عَلَيْهِ الْبُرُدُ بِالْخِلَافَةِ ;
قَلِقَ الْوَلِيدُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ قَلَقًا شَدِيدًا، وَقَالَ لِبَعْضِ
أَصْحَابِهِ: وَيْحَكَ ! قَدْ أَخَذَنِي اللَّيْلَةَ قَلَقٌ عَظِيمٌ، فَارْكَبْ
لَعَلَّنَا نَنْبَسِطُ، فَسَارَا مِيلَيْنِ يَتَكَلَّمَانِ فِي هِشَامٍ وَمَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ كَتْبِهِ إِلَيْهِ بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، ثُمَّ
رَأَيَا مِنْ بُعْدٍ رَهْجًا وَأَصْوَاتًا وَغُبَارًا، ثُمَّ انْكَشَفَ ذَلِكَ
عَنْ بُرُدٍ يَقْصِدُونَهُ بِالْوِلَايَةِ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ: وَيْحَكَ ! إِنَّ
هَذِهِ رُسُلُ هِشَامٍ اللَّهُمَّ أَعْطِنَا خَيْرَهَا. فَلَمَّا اقْتَرَبَتِ
الْبَرُدُ مِنْهُ وَتَبَيَّنُوهُ تَرَجَّلُوا إِلَى الْأَرْضِ، وَجَاءُوا
فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، فَبُهِتَ وَقَالَ: وَيْحَكُمْ ! أَمَاتَ
هِشَامٌ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَمَنْ بَعَثَكُمْ ؟ قَالُوا: سَالِمُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ صَاحِبُ دِيوَانِ الرَّسَائِلِ. وَأَعْطَوْهُ الْكِتَابَ
فَقَرَأَهُ، ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَكَيْفَ مَاتَ عَمُّهُ
هِشَامٌ فَأَخْبَرُوهُ، فَكَتَبَ مِنْ فَوْرِهِ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى أَمْوَالِ
هِشَامٍ وَحَوَاصِلِهِ بِالرُّصَافَةِ وَقَالَ:
لَيْتَ هِشَامًا عَاشَ حَتَّى يَرَى مِكْيَالَهُ الْأَوْفَرَ قَدْ طُبِّعَا
كِلْنَاهُ بِالصَّاعِ الَّذِي كَالَهُ وَمَا ظَلَمْنَاهُ بِهِ إِصْبَعَا
وَمَا أَتَيْنَا ذَاكَ عَنْ بِدْعَةٍ
أَحَلَّهُ الْفُرْقَانُ لِي أَجْمَعَا
ثُمَّ سَارَ إِلَى دِمَشْقَ، وَاسْتَعْمَلَ الْعُمَّالَ، وَجَاءَتْهُ الْبَيْعَةُ
مِنَ الْآفَاقِ، وَجَاءَتْهُ الْوُفُودُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ مَرْوَانُ بْنُ
مُحَمَّدٍ - وَهُوَ إِذْ ذَاكَ نَائِبُ إِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ -
يُبَارِكُ لَهُ فِي خِلَافَةِ اللَّهِ لَهُ عَلَى عِبَادِهِ وَالتَّمْكِينِ فِي
بِلَادِهِ، وَيُهَنِّئُهُ بِمَوْتِ هِشَامٍ وَظَفْرِهِ بِهِ، وَالتَّحَكُّمِ فِي
أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَيَذْكُرُ لَهُ أَنَّهُ جَدَّدَ الْبَيْعَةَ لَهُ فِي
بِلَادِهِ، وَأَنَّهُمْ فَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا بِذَلِكَ، وَلَوْلَا خَوْفُهُ
مِنَ الثَّغْرِ لَاسْتَنَابَ عَلَيْهِ وَرَكِبَ بِنَفْسِهِ إِلَيْهِ، شَوْقًا
إِلَى رُؤْيَتِهِ، وَرَغْبَةً فِي مُشَافَهَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْوَلِيدَ سَارَ
فِي النَّاسِ سِيرَةً حَسَنَةً بَادِيَ الرَّأْيِ، وَأَمَرَ بِإِعْطَاءِ
الزَّمْنَى وَالْمَجْذُومِينَ وَالْعُمْيَانَ، لِكُلِّ إِنْسَانٍ خَادِمًا،
وَأَخْرَجَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ الطِّيبَ وَالتُّحَفَ لِعِيَالَاتِ
الْمُسْلِمِينَ، وَزَادَ فِي أُعْطِيَّاتِ النَّاسِ، وَلَا سِيَّمَا أَهْلَ
الشَّامِ وَالْوُفُودَ، وَكَانَ كَرِيمًا مُمَدَّحًا شَاعِرًا مُجِيدًا، لَا
يُسْأَلُ شَيْئًا قَطُّ فَيَقُولُ: لَا. وَمِنْ شِعْرِهِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ
يَمْدَحُ نَفْسَهُ بِالْكَرَمِ:
ضَمِنْتُ لَكُمْ إِنْ لَمْ تَعُقْنِي عَوَائِقُ بِأَنَّ سَمَاءَ الضُّرِّ عَنْكُمْ
سَتُقْلِعُ
سَيُوشِكُ إِلْحَاقٌ مَعًا وَزِيَادَةٌ وَأَعْطِيَةٌ مِنِّي إِلَيْكُمْ تَبَرَّعُ
مُحَرَّمُكُمْ دِيوَانُكُمْ وَعَطَاؤُكُمْ بِهِ تَكْتُبُ الْكُتَّابُ شَهْرًا
وَتَطْبَعُ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَقَدَ الْوَلِيدُ الْبَيْعَةَ لِابْنِهِ الْحَكَمِ ثُمَّ عُثْمَانَ عَلَى أَنْ يَكُونَا وَلِيِّيِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، وَبَعَثَ الْبَيْعَةَ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ أَمِيرِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ فَأَرْسَلَهَا إِلَى نَائِبِ خُرَاسَانَ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، فَخَطَبَ بِذَلِكَ نَصْرٌ خُطْبَةً عَظِيمَةً بَلِيغَةً طَوِيلَةً سَاقَهَا ابْنُ جَرِيرٍ بِكَمَالِهَا. وَاسْتَوْسَقَ لِلْوَلِيدِ الْمَمَالِكُ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وَأَخَذَتِ الْبَيْعَةُ لِوَلَدَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ فِي الْآفَاقِ، وَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ بِالِاسْتِقْلَالِ بِوِلَايَةِ خُرَاسَانَ، ثُمَّ وَفَدَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ عَلَى الْوَلِيدِ فَسَأَلَهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ وِلَايَةَ خُرَاسَانَ، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ كَمَا كَانَتْ فِي أَيَّامِ هِشَامٍ وَأَنْ يَكُونَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ وَنُوَّابُهُ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ، فَكَتَبَ عِنْدَ ذَلِكَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ يَسْتَوْفِدُهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، وَأَنْ يُكْثِرَ مِنَ اسْتِصْحَابِ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ، فَحَمَلَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ أَلْفَ مَمْلُوكٍ عَلَى الْخَيْلِ، وَأَلْفَ وَصِيفَةٍ، وَشَيْئًا كَثِيرًا مِنْ أَبَارِيقِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ التُّحَفِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ يَسْتَحِثُّهُ سَرِيعًا، وَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ طَنَابِيرَ وَبَرَابِطَ وَمُغْنِيَاتٍ وَبَازَاتٍ وَبَرَاذِينَ فُرْهًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ آلَاتِ الطَّرَبِ وَالْفِسْقِ، فَكَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْهُ وَكَرِهُوهُ، وَقَالَ الْمُنَجِّمُونَ لِنَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ: إِنَّ الْفِتْنَةَ قَرِيبًا سَتَقَعُ بِالشَّامِ. فَجَعَلَ يَتَثَاقَلُ فِي سَيْرِهِ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ جَاءَتْهُ الْبُرُدُ، فَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ الْوَلِيدَ قَدْ قُتِلَ، وَهَاجَتِ الْفِتْنَةُ الْعَظِيمَةُ فِي النَّاسِ بِالشَّامِ فَعَدَلَ بِمَا مَعَهُ إِلَى بَعْضِ الْمُدُنِ، فَأَقَامَ بِهَا، وَبَلَغَهُ أَنَّ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ قَدْ هَرَبَ مِنَ الْعِرَاقِ وَاضْطَرَبَتِ الْأُمُورُ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ قَتْلِ الْخَلِيفَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى
الْوَلِيدُ يُوسُفَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ وِلَايَةَ
الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَأَمَرَهَ أَنْ يُقِيمَ إِبْرَاهِيمَ،
وَمُحَمَّدًا ابْنِي هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ بِالْمَدِينَةِ
مُهَانَيْنِ لِكَوْنِهِمَا خَالَيْ هِشَامٍ ثُمَّ يَبْعَثُ بِهِمَا إِلَى يُوسُفَ
بْنِ عُمَرَ نَائِبِ الْعِرَاقِ فَبَعَثَهُمَا إِلَيْهِ، فَمَا زَالَ
يُعَذِّبُهُمَا حَتَّى مَاتَا، وَأَخَذَ مِنْهُمَا أَمْوَالًا كَثِيرَةً.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ
الْأَنْصَارِيَّ قَضَاءَ الْمَدِينَةِ.
وَفِيهَا بَعَثَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ إِلَى أَهْلِ قُبْرُسَ جَيْشًا مَعَ
أَخِيهِ، وَقَالَ: خَيِّرْهُمْ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى الشَّامِ،
وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى الرُّومِ. فَكَانَ مِنْهُمْ مَنِ اخْتَارَ
جِوَارَ الْمُسْلِمِينَ بِالشَّامِ وَمِنْهُمْ مَنِ انْتَقَلَ إِلَى بِلَادِ
الرُّومِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا قَدِمَ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، وَمَالِكُ بْنُ
الْهَيْثَمِ، وَلَاهِزُ بْنُ قُرَيْظٍ، وَقَحْطَبَةُ بْنْ شَبِيبٍ مَكَّةَ
فَلَقُوا - فِي قَوْلٍ أَهْلِ السِّيَرِ - مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ فَأَخْبَرُوهُ
بِقِصَّةِ أَبِي مُسْلِمٍ فَقَالَ: أَحَرٌّ هُوَ أَمْ عَبْدٌ ؟ فَقَالُوا: أَمَّا
هُوَ فَيَزْعُمُ أَنَّهُ حُرٌّ، وَأَمَّا مَوْلَاهُ فَيَزْعُمُ أَنَّهُ عَبْدٌ.
فَاشْتَرَوْهُ فَأَعْتَقُوهُ، وَدَفَعُوا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيٍّ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ
وَكُسْوَةً بِثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَقَالَ لَهُمْ: لَعَلَّكُمْ لَا تَلْقَوْنِي
بَعْدَ عَامِكُمْ هَذَا، فَإِنْ مُتُّ فَإِنَّ صَاحِبَكُمْ إِبْرَاهِيمَ بْنَ
مُحَمَّدٍ - يَعْنِي ابْنَهُ - فَإِنَّهُ ابْنِي، فَأُوصِيكُمْ بِهِ. وَمَاتَ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْقِعْدَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
بَعْدَ أَبِيهِ عَلِيٍّ بِسَبْعِ سِنِينَ.
وَفِيهَا قُتِلَ يَحْيَى بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَلِيٍّ بِخُرَاسَانَ. وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِيهَا يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ أَمِيرُ مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ، وَأَمِيرُ الْعِرَاقِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ، وَأَمِيرُ
خُرَاسَانَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ، وَهُوَ فِي هِمَّةِ الْوُفُودِ إِلَى الْوَلِيدِ
بْنِ يَزِيدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا مَعَهُ مِنَ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ،
فَقُتِلَ الْوَلِيدُ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْقُرَشِيِّ
الْهَاشِمِيِّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ، وَهُوَ أَبُو السَّفَّاحِ
وَالْمَنْصُورِ رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَجَمَاعَةٍ،
وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ ابْنَاهُ الْخَلِيفَتَانِ أَبُو الْعَبَّاسِ
عَبْدُ اللَّهِ السَّفَّاحُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ عَبْدُ اللَّهِ الْمَنْصُورُ،
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَوْصَى
إِلَيْهِ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِالْأَخْبَارِ،
فَبَشَّرَهُ بِأَنَّ الْخِلَافَةَ سَتَكُونُ فِي وَلَدِهِ، فَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ
فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ، وَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُ يَتَزَايَدُ حَتَّى
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَقِيلَ: فِي
الَّتِي بَعْدَهَا. عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ مَنْ أَحْسَنِ
النَّاسِ شَكْلًا، فَأَوْصَى بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ
إِبْرَاهِيمَ فَمَا أُبْرِمَ
الْأَمْرُ إِلَّا لِوَلَدِهِ السَّفَّاحُ، فَاسْتَلَبَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ
الْأَمْرَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا يَحْيَى بْنُ زَيْدِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا
قُتِلَ أَبُوهُ زَيْدٌ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، لَمْ يَزَلْ
يَحْيَى مُخْتَفِيًا فِي خُرَاسَانَ عِنْدَ الْحَرِيشِ بْنِ عَمْرِو بْنِ دَاوُدَ
بِبَلْخَ حَتَّى مَاتَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلَكِ فَكَتَبَ عِنْدَ ذَلِكَ
يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ يُخْبِرُهُ بِأَمْرِ يَحْيَى بْنِ
زَيْدٍ فَكَتَبَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ إِلَى نَائِبِ بَلْخَ عَقِيلِ بْنِ مَعْقِلِ
الْعِجْلِيِّ فَأَحْضَرَ الْحَرِيشَ فَعَاقَبَهُ سِتَّمِائَةِ سَوْطٍ، فَلَمْ
يَدُلَّ عَلَيْهِ، وَجَاءَ وَلَدُ الْحَرِيشِ فَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ، فَحُبِسَ،
فَكَتَبَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ إِلَى يُوسُفَ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَى الْوَلِيدِ
بْنِ يَزِيدَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى نَصْرِ بْنِ
سَيَّارٍ يَأْمُرُهُ بِإِطْلَاقِهِ مِنَ السِّجْنِ، وَإِرْسَالِهِ إِلَيْهِ
صُحْبَةِ أَصْحَابِهِ، وَيُجَهِّزُهُمْ إِلَيْهِ فَأَطْلَقَهُمْ وَأَطْلَقَ لَهُمْ
وَجَهَّزَهُمْ، فَسَارُوا إِلَى دِمَشْقَ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ
تَوَسَّمَ نَصْرٌ مِنْهُ غَدْرًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ جَيْشًا عَشَرَةَ آلَافٍ،
فَكَسَرَهُمْ يَحْيَى بْنُ زَيْدٍ وَإِنَّ مَا مَعَهُ سَبْعُونَ رَجُلًا، وَقَتَلَ
أَمِيرَهُمْ، وَاسْتَلَبَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، ثُمَّ جَاءَ جَيْشٌ
آخَرُ، فَقَتَلُوهُ وَاحْتَزُّوا رَأَسَهُ، وَقَتَلُوا جَمِيعَ أَصْحَابِهِ،
رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهَذِهِ
تَرْجَمَتُهُ:
هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ
الْحَكَمِ، أَبُو الْعَبَّاسِ الْأُمَوِيُّ الدِّمَشْقِيُّ بُويِعَ لَهُ
بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ عَمِّهِ هِشَامٍ فِي السَّنَةِ الْخَالِيَةِ بِعَهْدٍ مِنْ
أَبِيهِ، كَمَا قَدَّمْنَا. وَأَمُّهُ أُمُّ الْحَجَّاجِ بِنْتُ مُحَمَّدِ بْنِ
يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ
ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ. وَقَتْلُ يَوْمَ
الْخَمِيسَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ
وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ النَّاسِ بِسَبَبِ
قَتْلِهِ وَهُوَ خَلِيفَةٌ ; لِفِسْقِهِ، وَقِيلَ: وَزَنْدَقَتِهِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، ثَنَا ابْنُ
عَيَّاشٍ، حَدَّثَنِي الْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: وُلِدَ لِأَخِي
أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامٌ، فَسَمَّوْهُ
الْوَلِيدَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمَّيْتُمُوهُ
بِأَسْمَاءِ فَرَاعِنَتِكُمْ، لَيَكُونَنَّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ رَجُلٌ يُقَالُ
لَهُ: الْوَلِيدُ.
لَهَوَ شَرٌّ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ
مِنْ فِرْعَوْنَ لِقَوْمِهِ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَقَدْ رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ،
وَهِقْلُ بْنُ زِيَادٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، وَبِشْرُ بْنُ بَكْرٍ عَنِ
الْأَوْزَاعِيِّ، فَلَمْ يَذْكُرُوا عُمَرَ فِي إِسْنَادِهِ، وَأَرْسَلُوهُ،
وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ كَثِيرٍ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ. ثُمَّ سَاقَ طُرُقَهُ
هَذِهِ كُلَّهَا بِأَسَانِيدِهَا وَأَلْفَاظِهَا. وَحَكَى عَنِ الْبَيْهَقِيِّ
أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مُرْسَلٌ حَسَنٌ.
ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ عَطَاءٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّهَا قَالَتْ: دَخَلَ
عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدِي غُلَامٌ مِنْ
آلِ الْمُغِيرَةِ اسْمُهُ الْوَلِيدُ فَقَالَ: " مَنْ هَذَا يَا أُمَّ
سَلَمَةَ ؟ " قَالَتْ: هَذَا الْوَلِيدُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَقَدِ اتَّخَذْتُمُ الْوَلِيدَ حَنَانًا، غَيِّرُوا
اسْمَهُ ; فَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فِرْعَوْنٌ يُقَالُ لَهُ:
الْوَلِيدُ ".
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ،
ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
. غَالِبٍ الْأَنْطَاكِيُّ، ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، ثَنَا صَدَقَةُ، عَنْ هِشَامِ
بْنِ الْغَازِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، عَنْ أَبِي
عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ حَتَّى يَثْلَمَهُ رَجُلٌ
مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ.
صِفَةُ مَقْتَلِهِ وَزَوَالِ دَوْلَتِهِ
كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مُجَاهِرًا بِالْفَوَاحِشِ مُصِرًّا عَلَيْهَا، مُنْتَهِكًا
مَحَارِمَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، لَا يَتَحَاشَى مِنْ مَعْصِيَةٍ، وَرُبَّمَا
اتَّهَمَهُ بَعْضُهُمْ بِالزَّنْدَقَةِ وَالِانْحِلَالِ مِنَ الدِّينِ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ. لَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ عَاصِيًا شَاعِرًا مَاجِنًا
مُتَعَاطِيًا لِلْمَعَاصِي، لَا يَتَحَاشَى بِهَا مَنْ أَحَدٍ وَلَا يَسْتَحِي
مَنْ أَحَدٍ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ وَبَعْدَ أَنْ وَلِيَ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَخَاهُ سُلَيْمَانَ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ سَعَى فِي
قَتْلِهِ، قَالَ: أَشْهَدُ - بُعْدًا لَهُ - أَنَّهُ كَانَ شَرُوبًا لِلْخَمْرِ
مَاجِنًا فَاسِقًا، وَلَقَدْ أَرَادَنِي عَلَى نَفَسِي الْفَاسِقُ.
وَحَكَى الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا، عَنِ ابْنِ دُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَاتِمٍ،
عَنِ الْعُتْبِيِّ أَنَّ
الْوَلِيدَ بْنَ يَزِيدَ نَظَرَ إِلَى
نَصْرَانِيَّةٍ مِنْ حِسَانِ نِسَاءِ النَّصَارَى اسْمُهَا سَفْرَى فَأَحَبَّهَا،
فَبَعَثَ إِلَيْهَا يُرَاوِدُهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَأَبَتْ عَلَيْهِ، فَأَلَحَّ
عَلَيْهَا، وَعَشِقَهَا، فَلَمْ تُطَاوِعْهُ، فَاتَّفَقَ اجْتِمَاعُ النَّصَارَى
فِي بَعْضِ كَنَائِسِهِمْ لِعِيدٍ لَهُمْ، فَذَهَبَ الْوَلِيدُ إِلَى بُسْتَانٍ
هُنَاكَ، فَتَنَكَّرَ وَأَظْهَرَ أَنَّهُ مُصَابٌ، فَخَرَجَ النِّسَاءُ مِنَ
الْكَنِيسَةِ إِلَى الْبُسْتَانِ، فَرَأَيْنَهُ فَأَحْدَقْنَ بِهِ، فَجَعَلَ
يُكَلِّمُ سَفْرَى وَيُمَازِحُهَا وَتُضَاحِكُهُ وَلَا تَعْرِفُهُ، حَتَّى
اشْتَفَى مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَتْ قِيلَ لَهَا: وَيْحَكِ !
أَتَدْرِينَ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ ؟ فَقَالَتْ: لَا. فَقِيلَ لَهَا: هُوَ
الْوَلِيدُ. فَلَمَّا تَحَقَّقَتْ ذَلِكَ حَنَّتْ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ،
وَكَانَتْ عَلَيْهِ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَيْهَا. فَقَالَ الْوَلِيدُ فِي ذَلِكَ:
أَضْحَى فُؤَادُكَ يَا وَلِيدُ عَمِيدَا صَبًّا قَدِيمًا للْحِسَانِ صَيُودَا مِنْ
حَبِّ وَاضِحَةِ الْعَوَارِضِ طِفْلَةٍ
بَرَزَتْ لَنَا نَحْوَ الْكَنِيسَةِ عِيدَا مَا زِلْتُ أَرْمُقُهَا بِعَيْنَيْ
وَامِقٍ
حَتَّى بَصُرْتُ بِهَا تُقَبِّلُ عُودَا عُودَ الصَّلِيبِ فَوَيْحُ نَفْسِيَ مَنْ
رَأَى
مِنْكُمْ صَلِيبًا مِثْلَهُ مَعْبُودَا فَسَأَلْتُ رَبِّيَ أَنْ أَكُونَ مَكَانَهُ
وَأَكُونَ فِي لَهَبِ الْجَحِيمِ وَقُودَا
وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا لَمَّا ظَهَرَ أَمْرُهُ، وَعَلِمَ بِحَالِهِ النَّاسُ،
وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا وَقَعَ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ:
أَلَّا حَبَّذَا سَفْرَى وَإِنْ قِيلَ إِنَّنِي كَلِفْتُ بِنَصْرَانِيَّةٍ
تَشْرَبُ الْخَمْرَا
يَهُونُ عَلَيَّ أَنْ نَظَلَّ
نَهَارَنَا إِلَى اللَّيْلِ لَا أُولَى نُصَلِّي وَلَا عَصْرَا
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ طَرَارٍ النَّهْرَوَانِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ بَعْدَ
إِيرَادِهِ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ: لِلْوَلِيدِ فِي هَذَا النَّحْوِ مِنَ
الْخَلَاعَةِ وَالْمُجُونِ وَسَخَافَةِ الدِّينِ مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ، وَقَدْ
نَاقَضْنَاهُ فِي أَشْيَاءَ مِنْ مَنْظُومِ شِعْرِهِ الْمُتَضَمِّنِ رَكِيكَ
ضَلَالِهِ وَكُفْرِهِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ أَنَّ الْوَلِيدَ سَمِعَ بِخِمَّارٍ صَلْفٍ
بِالْحِيرَةِ، فَقَصَدَهُ حَتَّى شَرِبَ مِنْهُ ثَلَاثَةَ أَرْطَالٍ مِنَ
الْخَمْرِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى فَرَسِهِ، وَمَعَهُ اثْنَانِ مِنْ أَصْحَابِهِ،
فَلَمَّا انْصَرَفَ أَمَرَ لِلْخَمَّارِ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ: أَخْبَارُ الْوَلِيدِ كَثِيرَةٌ قَدْ
جَمَعَهَا الْأَخْبَارِيِّونَ مَجْمُوعَةً وَمُفْرَدَةً، وَقَدْ جَمَعْتُ شَيْئًا
مِنْ سِيَرِهِ وَآثَارِهِ، وَمِنْ شِعْرِهِ الَّذِي ضَمَّنَهُ مَا فَجَرَ بِهِ
مِنْ خُرْقِهِ وَسَفَاهَتِهِ، وَحُمْقِهِ وَهَزَلِهِ، وَمُجُونِهِ وَسَخَافَةِ
دِينِهِ، وَمَا صَرَّحَ بِهِ مِنَ الْإِلْحَادِ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ،
وَالْكَفْرِ بِمَنْ أَنْزَلَهُ وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَارَضْتُ شِعْرَهُ
السَّخِيفَ بِشِعْرٍ حَصِيفٍ، وَبَاطِلَهُ بِحَقٍّ نَبِيهٍ شَرِيفٍ، وَتَوَخَّيْتُ
رِضَاءَ اللَّهِ، عَزَّ
وَجَلَّ، وَاسْتِيجَابَ مَغْفِرَتِهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي
شَيْخٍ، ثَنَا صَالِحُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: أَرَادَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ
الْحَجَّ، وَقَالَ: أَشْرَبُ فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ. فَهَمَّ قَوْمٌ أَنْ
يَفْتِكُوا بِهِ إِذَا خَرَجَ، فَجَاءُوا إِلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْقَسْرِيِّ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ فَأَبَى، فَقَالُوا لَهُ:
فَاكْتُمْ عَلَيْنَا. فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَنَعَمْ. فَجَاءَ إِلَى الْوَلِيدِ
فَقَالَ لَهُ: لَا تَخْرُجْ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ. فَقَالَ: وَمَنْ هَؤُلَاءِ
الَّذِينَ تَخَافُهُمْ عَلَيَّ ؟ قَالَ: لَا أُخْبِرُكَ بِهِمْ. قَالَ: إِنْ لَمْ
تُخْبِرْنِي بِهِمْ بَعَثْتُ بِكَ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ. قَالَ: وَإِنْ
بَعَثْتَ بِي إِلَى يُوسُفَ. فَبَعَثَهُ إِلَى يُوسُفَ فَعَذَّبَهُ حَتَّى
قَتَلَهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يُعْلِمَهُ بِهِمْ
سَجَنَهُ، ثُمَّ سَلَّمَهُ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ يَسْتَخْلِصُ مِنْهُ
أَمْوَالَ الْعِرَاقِ فَقَتَلَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ يُوسُفَ لَمَّا وَفَدَ
إِلَى الْوَلِيدِ اشْتَرَى مِنْهُ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ
بِخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ يُخَلِّصُهَا مِنْهُ، فَمَا زَالَ يُعَاقِبُهُ،
وَيَسْتَخْلِصُ مِنْهُ حَتَّى قَتَلَهُ، فَغَضِبَ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ قَتْلِهِ،
وَخَرَجُوا عَلَى الْوَلِيدِ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ:
كُنْتُ عِنْدَ الْمَهْدِيِّ فَذُكِرَ
الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ فَقَالَ رَجُلٌ فِي الْمَجْلِسِ: كَانَ زِنْدِيقًا.
فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: خِلَافَةُ اللَّهِ عِنْدَهُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَجْعَلَهَا
فِي زِنْدِيقٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ جَوْصَاءَ الدِّمَشْقِيُّ: ثَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ، ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا حُصَيْنُ بْنُ
الْوَلِيدِ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ
الدَّرْدَاءِ تَقُولُ: إِذَا قُتِلَ الْخَلِيفَةُ الشَّابُّ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ
بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ مَظْلُومًا، لَمْ تَزَلْ طَاعَةٌ مُسْتَخَفًّا
بِهَا، وَدَمٌ مَسْفُوكًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ:
ذِكْرُ قَتْلِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: النَّاقِصُ.
لِلْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ وَكَيْفَ قُتِلَ
قَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ أَمْرِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ وَخَلَاعَتِهِ
وَمَجَانَتِهِ، وَمَا ذُكِرَ عَنْهُ مِنْ تَهَاوُنِهِ وَاسْتِخْفَافِهِ بِأَمْرِ
دِينِهِ قَبْلَ خِلَافَتِهِ، وَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ وَأَفْضَتْ إِلَيْهِ
لَمْ
يَزْدَدْ فِي الَّذِي كَانَ فِيهِ
مِنَ اللَّهْوِ وَاللَّذَّةِ وَالرُّكُوبِ إِلَى الصَّيْدِ وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ
وَمُنَادَمَةِ الْفُسَّاقِ، إِلَّا تَمَادِيًا وَجِدًّا، فَثَقُلَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ
عَلَى رَعِيَّتِهِ وَجُنْدِهِ، وَكَرِهُوهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَكَانَ مِنْ
أَعْظَمِ مَا جَنَى عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى أَوْرَثَهُ ذَلِكَ هَلَاكَهُ،
إِفْسَادُهُ عَلَى نَفْسِهِ بَنِي عَمَّيْهِ هِشَامٍ، وَالْوَلِيدِ مَعَ
إِفْسَادِهِ الْيَمَانِيَةَ وَهُمْ عُظْمُ جُنْدِ خُرَاسَانَ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ
لَمَّا قَتَلَ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ وَسَلَّمَهُ إِلَى
غَرِيمِهِ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ الَّذِي هُوَ نَائِبُ الْعِرَاقِ إِذْ ذَاكَ،
فَلَمْ يَزَلْ يُعَاقِبُهُ حَتَّى هَلَكَ، انْقَلَبُوا عَلَيْهِ وَتَنَكَّرُوا
لَهُ، وَسَاءَهُمْ قَتْلُهُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي تَرْجَمَتِهِ.
ثُمَّ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ، أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ يَزِيدَ ضَرَبَ
ابْنَ عَمِّهِ سُلَيْمَانَ بْنَ هِشَامٍ مِائَةَ سَوْطٍ، وَحَلَّقَ رَأْسَهُ
وَلِحْيَتَهُ، وَغَرَّبَهُ إِلَى عَمَّانَ، فَحَبَسَهُ بِهَا، فَلَمْ يَزَلْ
هُنَاكَ حَتَّى قُتِلَ الْوَلِيدُ وَأَخَذَ جَارِيَةً كَانَتْ لِآلِ عَمِّهِ
الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَكَلَّمَهُ فِيهَا عُمَرُ بْنُ الْوَلِيدِ
فَقَالَ: لَا أَرُدُّهَا. فَقَالَ: إِذَنْ تَكْثُرَ الصَّوَاهِلُ حَوْلَ
عَسْكَرِكَ. وَحَبَسَ الْأَفْقَمَ يَزِيدَ بْنَ هِشَامٍ وَبَايَعَ لِوَلَدَيْهِ
الْحَكَمِ وَعُثْمَانَ وَكَانَا دُونَ الْبُلُوغِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ
أَيْضًا، وَنَصَحُوهُ فَلَمْ يَنْتَصِحْ، وَنَهَوْهُ فَلَمْ يَرْتَدِعْ وَلَمْ
يَقْبَلْ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، وَرَمَاهُ
بَنُو هِشَامٍ وَبَنُو
الْوَلِيدِ بِالْكَفْرِ وَغَشِيَانِ
أُمَّهَاتِ أَوْلَادِ أَبِيهِ، وَقَالُوا: قَدِ اتَّخَذَ مِائَةَ جَامِعَةٍ، عَلَى
كُلِّ جَامِعَةٍ اسْمُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ لِيَقْتُلَهُ بِهَا،
وَرَمَوْهُ بِالزَّنْدَقَةِ، وَكَانَ أَشَدَّهُمْ فِيهِ قَوْلًا يَزِيدُ بْنُ
الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَكَانَ النَّاسُ إِلَى قَوْلِهِ أَمْيَلُ ;
لِأَنَّهُ أَظْهَرَ النُّسُكَ وَالتَّوَاضُعَ، وَجَعَلَ يَقُولُ: مَا يَسَعُنَا
الرِّضَا بِالْوَلِيدِ. حَتَّى حَمَلَ النَّاسَ عَلَى الْفَتْكِ بِهِ.
قَالُوا: وَانْتُدِبَ لِلْقِيَامِ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ قُضَاعَةَ
وَالْيَمَانِيَةِ وَخَلْقٌ مِنْ أَعْيَانِ الْأُمَرَاءِ وَآلِ الْوَلِيدِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ، وَآلِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ الْقَائِمَ
بِأَعْبَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَالدَّاعِيَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ بَنِي أُمَيَّةَ وَكَانَ يُنْسَبُ إِلَى
الصَّلَاحِ وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ، فَبَايَعَهُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ
نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ أَخُوهُ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ فَلْمْ يَقْبَلُ،
فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ الْوَلِيدَ لَقَيَّدْتُكَ
وَأَرْسَلْتُكَ إِلَيْهِ. وَاتَّفَقَ خُرُوجُ النَّاسِ مِنْ دِمَشْقَ مِنْ وَبَاءٍ
وَقَعَ بِهَا، فَكَانَ مِمَّنْ خَرَجَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ نَحْوَ الْمِائَتَيْنِ، إِلَى
نَاحِيَةِ مَشَارِفِ دِمَشْقَ، فَانْتَظَمَ لِيَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ أَمْرُهُ،
وَجَعَلَ أَخُوهُ الْعَبَّاسُ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ، فَلَا
يَقْبَلُ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ فِي ذَلِكَ:
إِنِّي أُعِيذُكُمُ بِاللَّهِ مِنْ
فِتَنٍ مِثْلِ الْجِبَالِ تَسَامَى ثُمَّ تَنْدَفِعُ إِنَّ الْبَرِيَّةَ قَدْ
مَلَّتْ سِيَاسَتَكُمْ
فَاسْتَمْسِكُوا بِعَمُودِ الدِّينِ وَارْتَدِعُوا لَا تُلْحِمُنَّ ذِئَابَ
النَّاسِ أَنْفُسَكُمْ
إِنَّ الذِّئَابَ إِذَا مَا أُلْحِمَتْ رَتَعُوا لَا تَبْقُرُنَّ بِأَيْدِيكُمْ
بُطُونَكُمُ
فَثَمَّ لَا حَسْرَةٌ تُغْنِي وَلَا جَزَعُ
فَلَمَّا اسْتَوْسَقَ لِيَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ أَمْرُهُ، وَبَايَعَهُ مَنْ
بَايَعَهُ مِنَ النَّاسِ، قَصَدَ دِمَشْقَ فَدَخَلَهَا فِي غَيْبَةِ الْوَلِيدِ
فَبَايَعَهُ أَكْثَرُ أَهْلِهَا فِي اللَّيْلِ، وَبَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ
الْمِزَّةِ قَدْ بَايَعُوا كَبِيرَهُمْ مُعَاوِيَةَ بْنَ مَصَادٍ فَمَضَى إِلَيْهِ
يَزِيدُ مَاشِيًا فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَصَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ
مَطَرٌ شَدِيدٌ، فَأَتَوْهُ فَطَرَقُوا بَابَهُ لَيْلًا، ثُمَّ دَخَلُوا، فَكَلَّمَهُ
يَزِيدُ فِي ذَلِكَ، فَبَايَعَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ مَصَادٍ ثُمَّ رَجَعَ يَزِيدُ
مِنْ لَيْلَتِهِ إِلَى دِمَشْقَ عَلَى طَرِيقِ الْقَنَاةِ وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ
أَسْوَدَ، فَحَلَفَ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ دِمَشْقَ إِلَّا فِي
السِّلَاحِ، فَلَبِسَ سِلَاحًا مِنْ تَحْتِ ثِيَابِهِ فَدَخَلَهَا، وَكَانَ
الْوَلِيدُ قَدِ اسْتَنَابَ عَلَى دِمَشْقَ فِي غَيْبَتِهِ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ وَقَدْ خَرَجَ مِنْهَا
أَيْضًا مِنَ الْوَبَاءِ فَهُوَ مُقِيمٌ بِقَطَنَا وَاسْتَخْلَفَ ابْنَهُ عَلَى
دِمَشْقَ، وَعَلَى شُرْطَتِهَا أَبُو الْعَاجِ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
السُّلَمِيُّ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ اجْتَمَعَ أَصْحَابُ يَزِيدَ
بَيْنَ الْعِشَائَيْنِ عِنْدَ بَابِ الْفَرَادِيسِ فَلَمَّا أُذِّنَ لِعَشَاءِ
الْآخِرَةِ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ
غَيْرُهُمْ بَعَثُوا إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ
فَجَاءَهُمْ، فَقَصَدُوا بَابَ
الْمَقْصُورَةِ فَفَتَحَ لَهُمْ خَادِمٌ، فَدَخَلُوا فَوَجَدُوا أَبَا الْعَاجِ
وَهُوَ سَكْرَانُ، فَأَخَذُوهُ وَأَخَذُوا خُزَّانَ بَيْتِ الْمَالِ،
وَتَسَلَّمُوا الْحَوَاصِلَ، وَتَقْوَوْا بِالْأَسْلِحَةِ، وَأَمَرَ يَزِيدُ
بِإِغْلَاقِ أَبْوَابِ الْبَلَدِ، وَأَنْ لَا يَفْتَحَ إِلَّا لِمَنْ يَعْرِفُ،
فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ قَدِمَ أَهْلُ الْحَوَاضِرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ،
فَدَخَلُوا مِنْ سَائِرِ أَبْوَابِ الْبَلَدِ، كُلُّ أَهْلِ مَحِلَّةٍ مِنَ
الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِمْ، فَكَثُرَتِ الْجُيُوشُ حَوْلَ يَزِيدَ بْنِ
الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي نُصْرَتِهِ، وَكُلُّهُمْ قَدْ بَايَعَهُ
بِالْخِلَافَةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ:
فَجَاءَتْهُمْ أَنْصَارُهُمْ حِينَ أَصْبَحُوا سَكَاسِكُهَا أَهْلُ الْبُيوُتِ
الصَّنَادِدِ
وَكَلْبٌ فَجَاءُوهُمْ بِخَيْلٍ وَعِدَّةٍ مِنَ الْبِيضِ وَالْأَبْدَانِ ثُمَّ
السَّوَاعِدِ
فَأَكْرِمْ بِهَا أَحْيَاءَ أَنْصَارِ سُنَّةٍ هُمْ مَنَعُوا حُرْمَاتِهَا كُلَّ
جَاحِدِ
وَجَاءَتْهُمْ شَعْبَانُ وَالْأَزْدُ شُرَّعًا وَعَبْسٌ وَلَخْمٌ بَيْنَ حَامٍ
وَذَائِدِ
وَغَسَّانُ وَالْحَيَّانِ قَيْسٌ وَتَغْلِبٌ وَأَحْجَمَ عَنْهَا كُلُّ وَانٍ
وَزَاهِدِ
فَمَا أَصْبَحُوا إِلَّا وَهُمْ أَهْلُ مُلْكِهَا قَدِ اسْتَوْثَقُوا مِنْ كُلِّ
عَاتٍ وَمَارِدِ
وَبَعَثَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَصَادٍ فِي مِائَتَيْ
فَارِسٍ إِلَى قَطَنَا لِيَأْتُوهُ بِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْحَجَّاجِ نَائِبِ دِمَشْقَ، وَلَهُ الْأَمَانُ، وَكَانَ قَدْ تَحَصَّنَ فِي
قَصْرٍ هُنَاكَ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَوَجَدُوا عِنْدَهُ خُرْجَيْنِ ; فِي كُلٍّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا مَرُّوا بِالْمِزَّةِ
قَالَ أَصْحَابُ ابْنِ مَصَادٍ:
خُذْ هَذَا الْمَالَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا تُحَدِّثُ الْعَرَبُ أَنِّي أَوَّلُ مَنْ خَانَ. ثُمَّ أَتَوْا بِهِ يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَاسْتَخْدَمَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ جُنْدًا لِلْقِتَالِ قَرِيبًا مِنْ أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَبَعَثَ بِهِمْ مَعَ أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ خَلْفَ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ لِيَأْتُوا بِهِ، وَرَكِبَ بَعْضُ مَوَالِي الْوَلِيدِ فَرَسًا سَابِقًا، فَسَاقَ بِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْلَاهُ مِنَ اللَّيْلِ وَقَدْ نَفَقَ الْفَرَسُ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ، وَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، ثُمَّ تَوَاتَرَتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَاكَ إِلَى حِمْصَ، فَإِنَّهَا حَصِينَةٌ، وَقَالَ الْأَبْرَشُ سَعِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْكَلْبِيُّ: انْزِلْ عَلَى قَوْمِي بِتَدْمُرَ. فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ رَكِبَ بِمَنْ مَعَهُ وَهُوَ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ، وَقَصَدَهُ أَصْحَابُ يَزِيدَ فَالْتَقَوْا بِثِقَلِهِ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَأَخَذُوهُ، وَجَاءَ الْوَلِيدُ فَنَزَلَ حِصْنَ الْبَخْرَاءِ الَّذِي كَانَ لِلنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَجَاءَهُ رَسُولُ الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ: إِنِّي آتِيكَ. وَكَانَ مِنْ أَنْصَارِهِ، فَأَمَرَ الْوَلِيدُ بِإِبْرَازِ سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ وَقَالَ: أَعَلَيَّ يَتَوَثَّبُ الرِّجَالُ، وَأَنَا أَثِبُ عَلَى الْأَسَدِ، وَأَتَخَصَّرُ الْأَفَاعِيَ ؟! وَقَدِمَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْوَلِيدِ بِمَنْ مَعَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ قَدْ خَلَصَ مَعَهُ مِنَ الْأَلْفَيْ فَارِسٍ ثَمَانِمِائَةِ فَارِسٍ، فَتَصَافُّوا فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَبَّاسِ جَمَاعَةٌ، حُمِلَتْ رُءُوسُهُمْ إِلَى الْوَلِيدِ، وَقَدْ كَانَ جَاءَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ لِنَصْرِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَخُوهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ فَجِيءَ بِهِ إِلَيْهِ قَهْرًا حَتَّى بَايَعَ لِأَخِيهِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ وَاجْتَمَعُوا
عَلَى حَرْبِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ اجْتِمَاعَهُمْ فَرُّوا مِنَ الْوَلِيدِ إِلَيْهِمْ، وَبَقِيَ الْوَلِيدُ فِي ذُلٍّ وَقُلٍّ مِنَ النَّاسِ، فَلَجَأَ إِلَى الْحِصْنِ فَجَاءُوا إِلَيْهِ، وَأَحَاطُوا بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يُحَاصِرُونَهُ، فَدَنَا الْوَلِيدُ مِنْ بَابِ الْحِصْنِ فَنَادَى: لِيُكَلِّمْنِي رَجُلٌ شَرِيفٌ. فَكَلَّمَهُ يَزِيدُ بْنُ عَنْبَسَةَ السَّكْسَكِيُّ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: أَلَمْ أَرْفَعِ الْمُؤَنَ عَنْكُمْ ؟ أَلَمْ أُعْطِ فُقَرَاءَكُمْ ؟ أَلَمْ أَخْدِمْ زَمَنَاكُمْ ؟ فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: إِنَّمَا نَنْقِمُ عَلَيْكَ انْتِهَاكَ الْمَحَارِمِ، وَشُرْبَ الْخُمُورِ، وَنِكَاحَ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِ أَبِيكَ، وَاسْتِخْفَافَكَ بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا أَخَا السَّكَاسِكِ، فَلَعَمْرِي لَقَدْ أَكْثَرْتَ وَأَغْرَقْتَ، وَإِنَّ فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ لِي لَسِعَةً عَمَّا ذَكَرْتَ. ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُونِي لَا يُرْتَقُ فَتْقُكُمْ، وَلَا يُلِمَّ شَعَثُكُمْ، وَلَا تَجْتَمِعُ كَلِمَتُكُمْ. وَرَجَعَ إِلَى الدَّارِ، فَجَلَسَ وَوَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُصْحَفًا، فَنَشَرَهُ وَأَقْبَلَ يَقْرَأُ فِيهِ، وَقَالَ: يَوْمٌ كَيَوْمِ عُثْمَانَ. وَاسْتَسْلَمَ وَتَسَوَّرَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الْحَائِطَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ نَزَلَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ عَنْبَسَةَ فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ وَإِلَى جَانِبِهِ سَيْفُهُ فَقَالَ: نَحِّهِ عَنْكَ. فَقَالَ الْوَلِيدُ: لَوْ أَرَدْتَ الْقِتَالَ بِهِ لَكَانَ غَيْرَ هَذَا. فَأَخَذَ بِيَدِهِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَبْعَثَ بِهِ إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ فَبَادَرَهُ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَأَقْبَلُوا عَلَى الْوَلِيدِ يَضْرِبُونَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ بِالسُّيُوفِ حَتَّى قَتَلُوهُ، ثُمَّ جَرُّوهُ بِرِجْلِهِ لِيُخْرِجُوهُ، فَصَاحَتِ النِّسْوَةُ، فَتَرَكُوهُ، وَاحْتَزَّ أَبُو عِلَاقَةَ الْقُضَاعِيُّ رَأْسَهُ، وَخَاطُوا مَا كَانَ جُرِحَ فِي وَجْهِهِ بِعَقَبٍ، وَبَعَثُوا بِهِ إِلَى يَزِيدَ مَعَ
عَشَرَةِ نَفَرٍ، مِنْهُمْ مَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ، وَرَوْحُ بْنُ مُقْبِلٍ، وَبِشْرٌ مَوْلَى كِنَانَةَ مِنْ بَنِي كَلْبٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُلَقَّبُ بِوَجْهِ الْفَلْسِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ بَشَّرُوهُ بِقَتْلِ الْوَلِيدِ وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، فَأَطْلَقَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَ الْعَشْرَةِ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَقَالَ لَهُ رَوْحُ بْنُ مُقْبِلٍ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَتْلِ الْوَلِيدِ الْفَاسِقِ. فَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَرَجَعَتِ الْجُيُوشُ إِلَى يَزِيدَ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَ يَدَهُ لِلْمُبَايَعَةِ يَزِيدُ بْنُ عَنْبَسَةَ السَّكْسَكِيُّ فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا رِضًا لَكَ فَأَعِنِّي عَلَيْهِ. وَكَانَ قَدْ جَعَلَ لِمَنْ جَاءَهُ بِرَأْسِ الْوَلِيدِ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا جِيءَ بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَقِيلَ: يَوْمَ الْأَرْبِعَاءَ. لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَأَمَرَ يَزِيدُ بِنَصْبِ رَأْسِهِ عَلَى رُمْحٍ، وَأَنْ يُطَافَ بِهِ فِي الْبَلَدِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا يُنْصَبُ رَأْسُ الْخَارِجِيِّ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَنْصِبَنَّهُ. فَشَهَرَهُ فِي الْبَلَدِ عَلَى رُمْحٍ، ثُمَّ أَوْدَعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ شَهْرًا، ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إِلَى أَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَزِيدَ، فَقَالَ أَخُوهُ: بُعْدًا لَهُ، أَشْهَدُ أَنَّكَ كُنْتَ شَرُوبًا لِلْخَمْرِ مَاجِنًا فَاسِقًا، وَلَقَدْ أَرَادَنِي عَلَى نَفَسِي الْفَاسِقِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ رَأْسَهُ لَمْ يَزَلْ مُعَلِّقًا بِحَائِطِ جَامِعِ دِمَشْقَ الشَّرْقِيِّ مِمَّا يَلِي الصَّحْنَ، حَتَّى انْقَضَتْ دَوْلَةُ بَنِي أُمَيَّةَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَثَرَ دَمِهِ. وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ قُتِلَ
سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَقِيلَ:
ثَمَانِيًا وَثَلَاثِينَ. وَقِيلَ: إِحْدَى - وَقِيلَ: ثِنْتَانِ. وَقِيلَ:
خَمْسٌ. وَقِيلَ: سِتٌّ - وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. وَمُدَّةُ وِلَايَتِهِ سَنَةٌ
وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ عَلَى الْأَشْهَرِ. وَقِيلَ: وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: كَانَ شَدِيدَ الْبَطْشِ، طَوِيلَ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ،
كَانَتْ تُضْرَبُ لَهُ سِكَّةُ الْحَدِيدِ فِي الْأَرْضِ، وَيُرْبَطُ فِيهَا
خَيْطٌ إِلَى رِجْلِهِ، ثُمَّ يَثِبُ عَلَى الْفَرَسِ، فَيَرْكَبُهَا، وَلَا
يَمَسُّ الْفَرَسَ، فَتَنْقَلِعُ تِلْكَ السِّكَّةُ مِنَ الْأَرْضِ مَعَ وَثْبَتِهِ.
خِلَافَةُ يَزِيدَ بْنِ
الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
وَهُوَ الْمُلَقَّبُ بِالنَّاقِصِ ; لِنَقْصِهِ النَّاسَ الزِّيَادَةَ الَّتِي
كَانَ زَادَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ، وَهِيَ عَشَرَةٌ
عَشَرَةٌ، وَرَدِّهِ إِيَّاهُمْ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي زَمَنِ هِشَامٍ.
وَيُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ لَقَّبَهُ بِذَلِكَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ.
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَقْتَلِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، وَذَلِكَ
لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ - وَكَانَ فِيهِ
صَلَاحٌ وَوَرَعٌ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَوَّلُ مَا عَمِلَ انْتِقَاصُهُ مِنْ
أَرْزَاقِ الْجُنْدِ مَا كَانَ الْوَلِيدُ زَادَهُمْ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ
عَشْرَةٌ عَشْرَةٌ، فَسُمِّيَ النَّاقِصَ لِذَلِكَ. وَيُقَالُ فِي الْمَثَلِ:
الْأَشَجُّ وَالنَّاقِصُ أَعْدَلَا بَنِي مَرْوَانَ. يَعْنِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَهَذَا. وَلَكِنْ لَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ مِنْ
آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ، وَانْتَشَرَتِ
الْفِتَنُ، وَاخْتَلَفَتْ كَلِمَةُ بَنِي مَرْوَانَ فَنَهَضَ سُلَيْمَانُ بْنُ
هِشَامٍ، وَكَانَ مُعْتَقَلًا فِي سِجْنِ الْوَلِيدِ بِعَمَّانَ، فَاسْتَحْوَذَ
عَلَى أَمْوَالِهَا وَحَوَاصِلِهَا، وَأَقْبَلَ إِلَى دِمَشْقَ، فَجَعَلَ يَلْعَنُ
الْوَلِيدَ وَيَعِيبُهُ وَيَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ، فَأَكْرَمَهُ يَزِيدُ وَرَدَّ
عَلَيْهِ أَمْوَالَهُ الَّتِي كَانَ أَخَذَهَا مِنْهُ الْوَلِيدُ وَتَزَوَّجَ
يَزِيدُ أُخْتَ سُلَيْمَانَ وَهِيَ أُمُّ هِشَامٍ بِنْتُ هِشَامٍ
وَنَهَضَ أَهْلُ حِمْصَ إِلَى دَارِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ الَّتِي عِنْدَهُمْ فَهَدَمُوهَا، وَحَبَسُوا أَهْلَهُ وَبَنِيهِ، وَهَرَبَ هُوَ مِنْ حِمْصَ، فَلَحِقَ بِيَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى دِمَشْقَ، وَأَظْهَرَ أَهْلُ حِمْصَ الْأَخْذَ بِدَمِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، وَأَغْلَقُوا أَبْوَابَ الْبَلَدِ، وَأَقَامُوا النَّوَائِحَ وَالْبَوَاكِيَ عَلَى الْوَلِيدِ وَكَاتَبُوا الْأَجْنَادَ فِي طَلَبِ ثَأْرِ الْوَلِيدِ فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهُمْ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْحَكَمُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنُ يَزِيدَ الَّذِي أَخَذَ لَهُ الْعَهْدَ هُوَ الْخَلِيفَةُ، وَخَلَعُوا نَائِبَهُمْ، وَهُوَ مَرْوَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ثُمَّ قَتَلُوهُ وَقَتَلُوا ابْنَهُ، وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ حُصَيْنٍ فَلَمَّا انْتَهَى خَبَرُهُمْ إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ كَتَبَ إِلَيْهِمْ كِتَابًا مَعَ يَعْقُوبَ بْنِ هَانِئٍ، وَمَضْمُونُ الْكِتَابِ أَنَّهُ يَدْعُو إِلَى أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ شُورَى، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ رَضِينَا بِوَلِيِّ عَهْدِنَا الْحَكَمِ بْنِ الْوَلِيدِ. فَأَخَذَ يَعْقُوبُ بِلِحْيَتِهِ وَقَالَ: وَيْحَكَ ! لَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ يَتِيمًا تَحْتَ حَجْرِكَ لَمْ يَحِلَّ لَكَ أَنْ تَدْفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ، فَكَيْفَ أَمْرُ الْأُمَّةِ. فَوَثَبَ أَهْلُ حِمْصَ عَلَى رُسُلِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ فَطَرَدُوهُمْ عَنْهُمْ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيُّ: لَوْ قَدْ قَدِمْتُ دِمَشْقَ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيَّ مِنْهُمُ اثْنَانِ. فَرَكِبُوا مَعَهُ، وَسَارُوا نَحْوَ دِمَشْقَ، وَقَدْ أَمَّرُوا عَلَيْهِمُ السُّفْيَانِيَّ فَتَلَقَّاهُمْ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ قَدْ جَهَّزَهُمْ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَجَهَّزَ أَيْضًا عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ الْحَجَّاجِ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ يَكُونُونَ عِنْدَ ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ، وَجَهَّزَ هِشَامَ بْنَ مَصَادٍ الْمِزِّيَّ فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لِيِكُونُوا عَلَى عَقَبَةِ السُّلَمِيَّةِ فَمَرَّ أَهْلُ حِمْصَ، وَتَرَكُوا جَيْشَ سُلَيْمَانَ بْنِ هِشَامٍ ذَاتَ الْيَسَارِ
وَعَدَّوْهُ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ
سُلَيْمَانُ سَاقَ فِي طَلَبِهِمْ، فَلَحِقَهُمْ عِنْدَ السُّلَيْمَانِيَّةِ
فَجَعَلُوا الزَّيْتُونَ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَالْجَبَلَ عَنْ شَمَائِلِهِمْ
وَالْجِبَابَ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ مَخْلَصٌ إِلَيْهِمْ إِلَّا مِنْ
جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَاقْتَتَلُوا هُنَالِكَ فِي قَيَّالَةِ الْحَرِّ قِتَالًا
شَدِيدًا، فَقُتِلَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَبَيْنَمَا هُمْ
كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْحَجَّاجِ بِمَنْ مَعَهُ، فَحَمَلَ
عَلَى أَهْلِ حِمْصَ فَاخْتَرَقَ جَيْشَهُمْ، حَتَّى رَكِبَ التَّلَّ الَّذِي فِي
وَسَطِهِمْ، وَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ، فَتَفَرَّقُوا وَاتَّبَعَهُمُ النَّاسُ،
ثُمَّ تَنَادَوْا بِالْكَفِّ عَنْهُمْ عَلَى أَنْ يُبَايِعُوا لِيَزِيدَ بْنِ
الْوَلِيدِ وَأَسَرُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً، مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ
السُّفْيَانِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ثُمَّ
ارْتَحَلَ سُلَيْمَانُ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ فَنَزَلَا عَذْرَاءَ وَمَعَهُمُ
الْجُيُوشُ وَأَشْرَافُ النَّاسِ، وَأَشْرَافُ أَهْلِ حِمْصَ مِنَ الْأُسَارَى،
وَمَنِ اسْتَجَابَ مِنْ غَيْرِ أَسْرٍ، بَعْدَ مَا قُتِلَ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ
نَفْسٍ، فَدَخَلُوا بِهِمْ عَلَى يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ،
وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَصَفَحَ عَنْهُمْ، وَأَطْلَقَ الْأَعْطِيَاتِ لَهُمْ، لَا
سِيَّمَا لِأَشْرَافِهِمْ، وَوَلَّى عَلَيْهِمُ الَّذِي اخْتَارُوهُ، وَهُوَ
مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَطَابَتْ عَلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ،
وَأَقَامُوا عِنْدَهُ بِدِمَشْقَ سَامِعِينَ لَهُ مُطِيعِينَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَايَعَ أَهْلُ فِلَسْطِينَ يَزِيدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي سُلَيْمَانَ كَانَتْ لَهُمْ أَمْلَاكٌ
هُنَاكَ، وَكَانُوا ينْزِلُونَهَا، وَكَانَ
أَهْلُ فِلَسْطِينَ يُحِبُّونَ مُجَاوَرَتَهُمْ، فَلَمَّا قُتِلَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ كَتَبَ سَعِيدُ بْنُ رَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ - وَكَانَ رَئِيسَ تِلْكَ النَّاحِيَةِ - إِلَى - يَزِيدَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ يَدْعُوهُ إِلَى الْمُبَايَعَةِ لَهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَ الْأُرْدُنِّ خَبَرُهُمْ بَايَعُوا أَيْضًا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَأَمَّرُوهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا انْتَهَى خَبَرُهُمْ إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، بَعَثَ إِلَيْهِمُ الْجُيُوشَ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ هِشَامٍ فِي الدَّمَاشِقَةِ وَأَهْلِ حِمْصَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ السُّفْيَانِيِّ فَصَالَحَهُمْ أَهْلُ الْأُرْدُنِّ أَوَّلًا وَرَجَعُوا إِلَى الطَّاعَةِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ فِلَسْطِينَ وَكَتَبَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ وِلَايَةَ الْإِمْرَةِ بِالرَّمَلَةِ وَتِلْكَ النَّوَاحِي لِأَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْوَلِيدِ وَاسْتَقَرَّتِ الْمَمَالِكُ هُنَالِكَ، وَقَدْ خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّاسَ بِدِمَشْقَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، أَنَا وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا، وَلَا حِرْصًا عَلَى الدُّنْيَا، وَلَا رَغْبَةً فِي الْمِلْكِ، وَمَا بِي إِطْرَاءُ نَفْسِي، إِنِّي لَظَلُومٌ لِنَفْسِي إِنْ لَمْ يَرْحَمْنِي رَبِّي، وَلَكِنِّي خَرَجْتُ غَضَبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِدِينِهِ، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا هُدِمَتْ مَعَالِمُ الدِّينِ، وَأُطْفِئَ نُورُ أَهْلِ التَّقْوَى، وَظَهَرَ الْجَبَّارُ الْعَنِيدُ، الْمُسْتَحِلُّ لِكُلِّ حُرْمَةٍ، وَالرَّاكِبُ كُلَّ بِدْعَةٍ، مَعَ أَنَّهُ وَاللَّهِ مَا كَانَ يُصَدِّقُ بِالْكِتَابِ، وَلَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، وَإِنَّهُ لَابْنُ عَمِّي فِي النَّسَبِ، وَكُفْئِي فِي الْحَسَبِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ اسْتَخَرْتُ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَكِلَنِي إِلَى نَفْسِي، وَدَعَوْتُ إِلَى ذَلِكَ مَنْ أَجَابَنِي مِنْ أَهْلِ وِلَايَتِي، وَسَعَيْتُ فِيهِ حَتَّى أَرَاحَ اللَّهُ مِنْهُ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ، بِحَوَلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ، لَا بِحَوْلِي وَقُوَّتِي، أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ لَكُمْ
عَلَيَّ أَنْ لَا أَضَعَ حَجَرًا
عَلَى حَجَرٍ، وَلَا لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، وَلَا أَكْرِي نَهْرًا، وَلَا
أُكَثِّرُ مَالًا، وَلَا أُعْطِيَهُ زَوْجَةً وَلَا وَلَدًا، وَلَا أَنْقُلُ
مَالًا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ حَتَّى أَسُدَّ ثَغْرَ ذَلِكَ الْبَلَدِ،
وَخَصَاصَةَ أَهْلِهِ بِمَا يُعِينُهُمْ، فَإِنْ فَضَلَ فَضْلٌ نَقَلْتُهُ إِلَى
الْبَلَدِ الَّذِي يَلِيهِ مِمَّنْ هُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ، وَلَا أُجَمِّرَكُمْ
فِي ثُغُورِكُمْ فَأَفْتِنَكُمْ وَأَفْتِنَ أَهْلِيكُمْ، وَلَا أُغْلِقُ بَابِي
دُونَكُمْ فَيَأْكُلَ قَوِيُّكُمْ ضَعِيفَكُمْ، وَلَا أَحْمِلَ عَلَى أَهْلِ
جِزْيَتِكُمْ مَا يُجْلِيهِمْ عَنْ بِلَادِهِمْ وَيَقْطَعُ نَسْلَهُمْ، وَإِنَّ
لَكُمْ عِنْدِي أَعْطِيَاتِكُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَأَرْزَاقَكُمْ فِي كُلِّ
شَهْرٍ، حَتَّى تَسْتَدِرَّ الْمَعِيشَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ
أَقْصَاهُمْ كَأَدْنَاهُمْ، فَإِنْ أَنَا وَفَّيْتُ لَكُمْ بِمَا قُلْتُ،
فَعَلَيْكُمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَحُسْنُ الْمُؤَازَرَةِ، وَإِنْ أَنَا لَمْ
أَفِ لَكُمْ، فَلَكُمْ أَنْ تَخْلَعُونِي إِلَّا أَنْ تَسْتَتِيبُونِي، فَإِنْ
تُبْتُ قَبِلْتُمْ مِنِّي، وَإِنْ عَلِمْتُمْ أَحَدًا مَنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ
يُعْطِيكُمْ مِنْ نَفْسِهِ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتُكُمْ، فَأَرَدْتُمْ أَنْ
تُبَايِعُوهُ، فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُبَايِعُهُ وَيَدْخُلُ فِي طَاعَتِهِ،
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ،
إِنَّمَا الطَّاعَةُ طَاعَةُ اللَّهِ، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَأَطِيعُوهُ
بِطَاعَةِ اللَّهِ مَا أَطَاعَ، فَإِذَا عَصَى فَدَعَا إِلَى مَعْصِيَتِهِ فَهُوَ
أَهْلٌ أَنْ يُعْصَى وَيُقْتَلَ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ
لِي وَلَكُمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ عَنْ
إِمْرَةِ الْعِرَاقِ لَمَّا ظَهَرَ مِنْهُ مِنَ الْحَنَقِ عَلَى الْيَمَانِيَةِ،
وَهُمْ قَوْمُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ حِينَ قُتِلَ
الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ وَكَانَ قَدْ
سَجَنَ غَالِبَ مَنْ بِبِلَادِهِ مِنْهُمْ، وَجَعَلَ الْأَرْصَادَ عَلَى
الثُّغُورِ ; خَوْفًا مِنْ جُنْدِ الْخَلِيفَةِ، فَعَزَلَهُ عَنْهَا أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَوَلَّى عَلَيْهَا مَنْصُورَ بْنَ
جُمْهُورٍ مَعَ بِلَادِ السِّنْدِ وَسِجِسْتَانَ وَخُرَاسَانَ وَقَدْ كَانَ
مَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ أَعْرَابِيًّا جِلْفًا، وَكَانَ يُزَنُّ بِمَذْهَبِ
الْغَيْلَانِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ وَلَكِنْ كَانَتْ لَهُ آثَارٌ حَسَنَةٌ،
وَغِنَاءٌ كَثِيرٌ فِي مَقْتَلِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ فَحَظِيَ بِذَلِكَ عِنْدَ
يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا فَرَغَ النَّاسُ مِنْ
مَقْتَلِ الْوَلِيدِ ذَهَبَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى الْعِرَاقِ فَأَخَذَ الْبَيْعَةَ
مِنْ أَهْلِهَا لِيَزِيدَ وَقَرَّرَ بِالْأَقَالِيمِ نُوَّابًا وَعُمَّالًا،
وَكَرَّ رَاجِعًا فِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ ; فَلِذَلِكَ وَلَّاهُ الْخَلِيفَةُ مَا
وَلَّاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ فَإِنَّهُ فَرَّ مِنَ الْعِرَاقِ فَلَحِقَ بِبِلَادِ
الْبَلْقَاءِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ فَأَحْضَرُوهُ
إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ - وَكَانَ كَبِيرَ
اللِّحْيَةِ جِدًّا، رُبَّمَا كَانَتْ تُجَاوِزُ سَرَّتْهُ، وَكَانَ قَصِيرَ
الْقَامَةِ - فَوَبَّخَهُ وَأَنَّبَهُ، ثُمَّ سَجَنَهُ، وَأَمَرَ بِاسْتِخْلَاصِ
الْحُقُوقِ مِنْهُ، وَلَمَّا انْتَهَى مَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ إِلَى الْعِرَاقِ
قَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ
مَقْتَلِ الْوَلِيدِ وَأَنَّ اللَّهَ أَخَذَهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ،
وَأَنَّهُ قَدْ وَلَّى عَلَيْهِمْ مَنْصُورَ بْنَ جُمْهُورٍ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ
شَجَاعَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالْحَرْبِ، فَبَايَعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ لِيَزِيدَ
بْنِ الْوَلِيدِ وَكَذَلِكَ أَهْلُ السِّنْدِ وَسِجِسْتَانَ.
وَأَمَّا نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ نَائِبُ خُرَاسَانَ فَإِنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ
السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِمَنْصُورِ بْنِ جُمْهُورٍ وَأَبَى أَنْ يَنْقَادَ
لِأَوَامِرِهِ، وَقَدْ كَانَ جَهَّزَ هَدَايَا كَثِيرَةً لِلْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ
فَاسْتَمَرَّتْ لَهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ
مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُلَقَّبُ بِالْحِمَارِ كِتَابًا إِلَى الْغَمْرِ
بْنِ يَزِيدَ أَخِي الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، يَحُثُّهُ عَلَى الْقِيَامِ بِطَلَبِ
دَمِ أَخِيهِ الْوَلِيدِ وَكَانَ مَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ أَمِيرًا عَلَى
أَذْرَبِيجَانَ وَإِرْمِينِيَّةَ.
ثُمَّ إِنَّ يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَزَلَ مَنْصُورَ بْنَ جُمْهُورٍ عَنْ
وِلَايَةِ الْعِرَاقِ وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ يُحِبُّونَ أَبَاكَ فَقَدْ
وَلَّيْتُكَهَا. وَذَلِكَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا، وَكَتَبَ لَهُ إِلَى أُمَرَاءِ
الشَّامِ الَّذِينَ بِالْعِرَاقِ يُوصِيهِمْ بِهِ ; خَشْيَةَ أَنْ يَمْتَنِعَ
مَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ مِنْ تَسْلِيمِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ، فَسَلَّمَ
إِلَيْهِ، وَسَمِعَ وَأَطَاعَ.
وَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ بِوِلَايَةِ خُرَاسَانَ
مُسْتَقِلًّا بِهَا، فَخَرَجَ عَلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْكَرْمَانِيُّ.
لِأَنَّهُ وُلِدَ بِكَرْمَانَ وَهُوَ أَبُو عَلِيٍّ جَدِيعُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
شَبِيبٍ الْمَعْنِيُّ وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ بِحَيْثُ إِنَّهُ كَانَ
يَشْهَدُ الْجُمُعَةَ فِي نَحْوٍ مِنْ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ يُسَلِّمُ
عَلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ وَلَا يَجْلِسُ عِنْدَهُ، فَتَحَيَّرَ نَصْرُ بْنُ
سَيَّارٍ وَأُمَرَاؤُهُ فِيمَا يَصْنَعُ بِهِ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ بَعْدَ
جَهْدٍ عَلَى سَجْنِهِ، فَسُجِنَ قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ،
فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَرَكِبُوا مَعَهُ،
فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ نَصْرٌ مَنْ قَاتَلَهُمْ وَقَهَرَهُمْ وَكَسَرَهُمْ.
وَاسْتَخَفَّ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ بِنَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ
وَتَلَاشَوْا أَمْرَهُ وَحُرْمَتَهُ، وَأَلَحُّوا عَلَيْهِ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ،
وَأَسْمَعُوهُ غَلِيظَ مَا يَكْرَهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ بِسِفَارَةِ سَلْمِ
بْنِ أَحْوَزَ أَدَّى ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَخَرَجَتِ الْبَاعَةُ مِنَ الْمَسْجِدِ
الْجَامِعِ وَهُوَ يَخْطُبُ، وَانْفَضَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَنْهُ، فَقَالَ
لَهُمْ نَصْرٌ فِيمَا قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ
نَشَرْتُكُمْ وَطَوَيْتُكُمْ،
وَطَوَيْتُكُمْ وَنَشَرْتُكُمْ، فَمَا عِنْدِي مِنْكُمْ عَشَرَةٌ عَلَى دِينٍ،
فَاتَّقُوا اللَّهَ، فَوَاللَّهِ لَئِنِ اخْتَلَفَ فِيكُمْ سَيْفَانِ
لَيَتَمَنَّيْنَّ الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَنْ يَنْخَلِعَ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ
وَوَلَدِهِ وَلَمْ يَكُنْ رَآهَا. ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ النَّابِغَةِ:
فَإِنْ يَغْلِبْ شَقَاؤُكُمُ عَلَيْكُمْ فَإِنِّي فِي صَلَاحِكُمُ سَعَيْتُ
وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَشْرَجِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ
الْوَرْدِ الْجَعْدِيُّ:
أَبِيتُ أَرْعَى النُّجُومَ مُرْتِفِقًا إِذَا اسْتَقَلَّتْ تَجْرِي أَوَائِلُهَا
مِنْ فِتْنَةٍ أَصْبَحَتْ مُجَلِّلَةً قَدْ عَمَّ أَهْلَ الصَّلَاةِ شَامِلُهَا
مَنْ بِخُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ وَمَنْ بِالشَّامِ كُلٌّ شَجَاهُ شَاغِلُهَا
فَالنَّاسُ مِنْهَا فِي لَوْنٍ مُظْلِمَةٍ دَهْمَاءَ مُلْتَجَّةٍ غَيَاطِلُهَا
يُمْسِي السَّفِيهُ الَّذِي يُعَنَّفُ بِالْ جَهْلِ سَوَاءً فِيهَا وَعَاقِلُهَا
وَالنَّاسُ فِي كُرْبَةٍ يَكَادُ لَهَا تَنْبِذُ أَوْلَادَهَا حَوَامِلُهَا
يَغْدُونَ مِنْهَا فِي ظِلِّ مُبْهَمَةٍ عَمْيَاءَ تَغْتَالُهُمْ غَوَائِلُهَا
لَا يَنْظُرُ النَّاسُ مِنْ عَوَاقِبِهَا إِلَّا الَّتِي لَا يَبِينُ قَائِلُهَا
كَرَغْوَةِ الْبَكْرِ أَوْ كَصَيْحَةِ حُبْ لَى طَرَقَتْ حَوْلَهَا قَوابِلُهَا
فَجَاءَ فِينَا يَزْرِي بِوِجْهَتِهِ فِيهَا خُطُوبٌ جَمٌّ زَلْازِلُهَا
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَخَذَ
الْخَلِيفَةُ الْبَيْعَةَ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ
مِنْ بَعْدِهِ لِأَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
ثُمَّ مِنْ بَعْدِ إِبْرَاهِيمَ، لِعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحَجَّاجِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ
فِيهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، وَقَدْ حَرَّضَهُ عَلَى
ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَكَابِرِ وَالْوُزَرَاءِ.
وَفِيهَا عَزَلَ يَزِيدُ عَنْ إِمْرَةِ الْحِجَازِ يُوسُفَ بْنَ مُحَمَّدٍ
الثَّقَفِيَّ وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، فَقَدِمَهَا فِي أَوَاخِرِ ذِي الْقِعْدَةِ مِنْهَا.
وَفِيهَا أَظْهَرَ مَرْوَانُ الْحِمَارُ الْخِلَافَ لِيَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ
وَخَرَجَ مِنْ بِلَادِ إِرْمِينِيَّةَ يُظْهِرُ أَنَّهُ يَطْلُبُ بِدَمِ
الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى حَرَّانَ أَظْهَرَ
الْمُوَافَقَةَ، وَبَايَعَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ، أَبَا هَاشِمٍ بُكَيْرَ بْنَ مَاهَانَ إِلَى أَرْضِ خُرَاسَانَ،
فَاجْتَمَعَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ بِمَرْوَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ
كِتَابَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْإِمَامِ إِلَيْهِمْ وَوَصِيَّتَهُ،
فَتَلَقَّوْا ذَلِكَ بِالْقَبُولِ، وَأَرْسَلُوا مَعَهُ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ
النَّفَقَاتِ.
وَفِي سَلْخِ ذِي الْقِعْدَةِ، وَقِيلَ: فِي سَلْخِ ذِي الْحِجَّةِ. وَقِيلَ:
لِعَشَرٍ مَضَيْنَ مِنْهُ. وَقِيلَ: بَعْدَ الْأَضْحَى مِنْهَا. كَانَتْ وَفَاةُ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهَذِهِ
تَرْجَمَتُهُ:
هُوَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ
الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ
مَنَافِ بْنِ قَصِيِّ، أَبُو خَالِدٍ الْأُمَوِيُّ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ أَوَّلَ
مَا بُويِعَ بِهَا فِي قَرْيَةٍ الْمِزَّةِ ثُمَّ دَخَلَ دِمَشْقَ فَغَلَبَ
عَلَيْهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ الْجُيُوشَ إِلَى ابْنِ عَمِّهِ الْوَلِيدِ بْنِ
يَزِيدَ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى الْخِلَافَةِ فِي أَوَاخِرَ جُمَادَى
الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ بِالنَّاقِصِ ; لِنَقْصِهِ
النَّاسَ الْعَشَرَاتِ الَّتِي زَادَهُمْ إِيَّاهَا الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ،
وَقِيلَ: إِنَّمَا سَمَّاهُ بِذَلِكَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُلَقَّبُ
بِالْحِمَارِ. فَكَانَ يَقُولُ: النَّاقِصُ بْنُ الْوَلِيدِ. وَأَمُّهُ شَاهْفَرِنْدَ
بِنْتُ فَيْرُوزَ بْنِ كِسْرَى كِسْرَوِيَّةٌ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأُمُّهُ شَاهْ آفْرِيْدَ بِنْتُ فَيْرُوزَ بْنِ
يَزْدَجِرْدَ بْنِ شَهْرِيَارَ بْنِ كِسْرَى. وَهُوَ الْقَائِلُ:
أَنَا ابْنُ كِسْرَى وَأَبِي مَرْوَانُ وَقَيْصَرُ جَدِّي وَجَدُّ خَاقَانَ
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ جَدَّهُ فَيْرُوزُ وَأُمُّ أُمِّهِ بِنْتُ
قَيْصَرَ وَأُمُّ شِيرَوَيْهِ هِيَ بِنْتُ خَاقَانَ مَلِكُ التُّرْكِ وَكَانَتْ
قَدْ سَبَاهَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ هِيَ وَأُخْتًا لَهَا، فَبَعَثَهُمَا
إِلَى الْحَجَّاجِ فَأَرْسَلَ بِهَذِهِ إِلَى الْوَلِيدِ وَاسْتَبْقَى عِنْدَهُ
الْأُخْرَى. فَوَلَدَتْ هَذِهِ لِلْوَلِيدِ يَزِيدَ النَّاقِصَ، وَكَانَ
مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ تِسْعِينَ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ.
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْأَوْزَاعِيُّ مَسْأَلَةً فِي السَّلَمِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ وِلَايَتِهِ فِيمَا سَلَفَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَأَنَّهُ كَانَ عَادِلًا دَيِّنًا، مُحِبًّا لِلْخَيْرِ، مُبْغِضًا لِلشَّرِّ،
قَاصِدًا لِلْحَقِّ.
وَقَدْ خَرَجَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى صَلَاةِ
الْعِيدِ بَيْنَ صَفَّيْنِ مِنَ الْخَيَّالَةِ، وَالسُّيُوفُ مُسَلَّةٌ عَنْ
يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، وَرَجَعَ مِنَ الْمُصَلَّى إِلَى الْخَضْرَاءِ
كَذَلِكَ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا،
يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: الْأَشَجُّ وَالنَّاقِصُ أَعْدَلَا بَنِي مَرْوَانَ.
وَالْمُرَادُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهَذَا.
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ اللَّيْثِيِّ قَالَ: قَالَ
يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّاقِصُ: يَا بَنِي أُمَيَّةَ إِيَّاكُمْ وَالْغِنَاءَ،
فَإِنَّهُ يُنْقِصُ الْحَيَاءَ، وَيَزِيدُ فِي الشَّهْوَةِ، وَيَهْدِمُ
الْمُرُوءَةَ، وَإِنَّهُ لَيَنُوبُ عَنِ الْخَمْرِ، وَيَفْعَلَ مَا يَفْعَلُ
الْمُسْكِرُ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَجَنِّبُوهُ النِّسَاءَ
فَإِنَّ الْغِنَاءَ دَاعِيَةُ الزِّنَى.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنِ الشَّافِعِيِّ: لَمَّا وَلِيَ يَزِيدُ بْنُ
الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ:
النَّاقِصُ. دَعَا النَّاسَ إِلَى الْقَدَرِ، وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهِ، وَقَرَّبَ
غَيْلَانَ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَلَعَلَّهُ قَرَّبَ أَصْحَابَ غَيْلَانَ
لِأَنَّ غَيْلَانَ قَتَلَهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ: آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ يَزِيدُ بْنُ
الْوَلِيدِ النَّاقِصُ: وَاحَسْرَتَاهُ ! وَاأَسَفَاهُ. وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ:
الْعَظَمَةُ لِلَّهِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْخَضْرَاءِ مِنْ طَاعُونٍ أَصَابَهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ
السَّبْتِ لِسَبْعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَقِيلَ: فِي مُسْتَهَلِّهِ.
وَقِيلَ: يَوْمَ الْأَضْحَى مِنْهُ. وَقِيلَ: بَعْدَهُ بِأَيَّامٍ. وَقِيلَ: لِعَشْرٍ
بَقَيْنَ مِنْهُ. وَقِيلَ: فِي سَلْخِهِ. وَقِيلَ: فِي سَلْخِ ذِي الْقِعْدَةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَأَكْثَرُ مَا قِيلَ فِي عُمْرِهِ سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ
سَنَةً. وَقِيلَ: ثَلَاثُونَ سَنَةً. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَتِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ عَلَى الْأَشْهَرِ. وَقِيلَ:
خَمْسَةُ أَشْهُرٍ وَأَيَّامٌ.
وَصَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ وَهُوَ وَلِيُّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عُفَيْرٍ أَنَّهُ دُفِنَ بَيْنَ بَابِ
الْجَابِيَةِ وَبَابِ الصَّغِيرِ وَقِيلَ: إِنَّهُ دُفِنَ بِبَابِ الْفَرَادِيسِ.
وَكَانَ أَسْمَرَ نَحِيفًا، حَسَنَ الْجِسْمِ، حَسَنَ الْوَجْهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ: كَانَ يَزِيدُ أَسْمَرَ
طَوِيلًا، صَغِيرَ الرَّأْسِ، بِوَجْهِهِ خَالٌ، وَكَانَ جَمِيلًا، فِي فَمِهِ
بَعْضُ السِّعَةِ، وَلَيْسَ بِالْمُفْرِطِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ
نَائِبُ الْحِجَازِ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ نَائِبُ الْعِرَاقِ وَنَصْرُ بْنُ
سَيَّارٍ عَلَى نِيَابَةِ خُرَاسَانَ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ
بْنِ أَسَدِ بْنِ كُرْزِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْقَرِيٍّ، أَبُو الْهَيْثَمِ
الْبَجَلِيُّ الْقَسْرِيُّ الدَّمَشْقِيُّ أَمِيرُ مَكَّةَ وَالْحِجَازِ
لِلْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ ثُمَّ لِأَخِيهِ سُلَيْمَانَ، وَأَمِيرُ
الْعِرَاقَيْنِ لِأَخِيهِمَا هِشَامٍ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: كَانَتْ دَارُهُ بِدِمَشْقَ فِي مُرَبَّعَةِ الْقَزِّ
وَتُعْرَفُ الْيَوْمَ بِدَارِ الشَّرِيفِ الزَّيْدِيِّ وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ
الْحَمَّامُ الَّذِي دَاخِلُ بَابِ تَوْمَاءَ.
رَوَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: " يَا
أَسَدُ، أَتُحِبُّ الْجَنَّةَ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: " فَأَحِبَّ
لِلْمُسْلِمِينَ مَا تُحِبَّ لِنَفْسِكَ " رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، عَنْ
عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ سَيَّارٍ أَبِي الْحَكَمِ
أَنَّهُ سَمِعَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ ذَلِكَ.
وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَوْسَطَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي
خَالِدٍ، وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَوَى عَنْ جِدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْفِيرِ الْمَرَضِ الذُّنُوبَ.
وَكَانَتْ أَمُّهُ نَصْرَانِيَّةً، وَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ فِي
الْأَشْرَافِ، مِمَّنْ أَمُّهُ نَصْرَانِيَّةٌ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: أَوَّلُ مَا عُرِفَ مِنْ رِيَاسَتِهِ أَنَّهُ أَوَطَأَ
صَبِيًّا بِدِمَشْقَ بِفَرَسِهِ، فَحَمَلَهُ فَأَشْهَدَ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ
أَنَّهُ هُوَ صَاحِبُهُ، فَإِنْ مَاتَ فَعَلَيْهِ دِيَتُهُ. وَقَدِ اسْتَنَابَهُ
الْوَلِيدُ عَلَى الْحِجَازِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ،
ثُمَّ اسْتَنَابَهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهَا، وَفِي سَنَةِ سِتٍّ وَمِائَةٍ اسْتَنَابَهُ
هِشَامٌ عَلَى الْعِرَاقِ إِلَى سَنَةِ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، ثُمَّ
سَلَّمَهُ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ
الَّذِي وَلَّاهُ مَكَانَهُ، فَعَاقَبَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً
ثُمَّ أَطْلَقَهُ، فَأَقَامَ بِدِمَشْقَ إِلَى الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
فَسَلَّمَهُ الْوَلِيدُ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ لِيَسْتَخْلِصَ مِنْهُ
خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، فَمَاتَ تَحْتَ الْعُقُوبَةِ الْبَلِيغَةِ ; كَسَرَ
قَدَمَيْهِ، ثُمَّ سَاقَيْهِ، ثُمَّ فَخِذَيْهِ، ثُمَّ صَدْرَهُ، فَمَاتَ وَلَمْ
يَتَكَلَّمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَلَا تَأْوَّهَ حَتَّى خَرَجَتْ رُوحُهُ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ الْعُتْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ: خَطَبَ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ يَوْمًا،
فَارْتَجَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَجِيءُ
أَحْيَانًا، وَيَعْزُبُ أَحْيَانًا، فَيَتَسَبَّبُ عِنْدَ مَجِيئِهِ سَبَبُهُ،
وَيَتَعَذَّرُ عِنْدَ عُزُوبِهِ مَطْلَبُهُ، وَقَدْ يُرَدُّ إِلَى السَّلِيطِ
بَيَانُهُ، وَيُنِيبُ إِلَى الْحَصْرِ كَلَامُهُ، وَسَيَعُودُ إِلَيْنَا مَا
تُحِبُّونَ، وَنَعُودُ لَكُمْ كَمَا تُرِيدُونَ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ: خَطَبَ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ يَوْمًا
بِوَاسِطَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تَنَافَسُوا فِي الْمَكَارِمِ،
وَسَارِعُوا إِلَى الْمَغَانِمِ، وَاشْتَرُوا الْحَمْدَ بِالْجُودِ، وَلَا
تَكْتَسِبُوا بِالْمَطْلِ ذَمًّا، وَلَا تَعْتَدُّوا بِمَعْرُوفٍ لَمْ
تُعَجِّلُوهُ، وَمَهْمَا يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْكُمْ نِعْمَةٌ عِنْدَ أَحَدٍ لَمْ
يَبْلُغْ شُكْرَهَا، فَاللَّهُ أَحْسَنُ لَهُ جَزَاءً، وَأَجْزَلُ عَطَاءً،
وَاعْلَمُوا أَنَّ حَوَائِجَ النَّاسِ إِلَيْكُمْ نِعَمٌ فَلَا تَمَلُّوهَا
فَتُحَوَّلَ نِقَمًا، فَإِنَّ أَفْضَلَ الْمَالِ مَا أَكْسَبَ أَجْرًا وَأَوْرَثَ
ذِكْرًا، وَلَوْ رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ لَرَأَيْتُمُوهُ رَجُلًا حَسَنًا
جَمِيلًا يَسُرُّ النَّاظِرِينَ، وَيَفُوقُ الْعَالَمِينَ، وَلَوْ رَأَيْتُمُ
الْبُخْلَ لَرَأَيْتُمُوهُ رَجُلًا مُشَوَّهًا قَبِيحًا تَنْفِرُ مِنْهُ
الْقُلُوبُ، وَتُغَضُّ دُونَهُ الْأَبْصَارُ، إِنَّهُ مَنْ جَادَ سَادَ، وَمَنْ
بَخِلَ ذَلَّ، وَأَكْرَمُ النَّاسِ مَنْ أَعْطَى مَنْ لَا يَرْجُوهُ، وَمَنْ عَفَا
عَنْ قُدْرَةٍ، وَأَوْصَلُ النَّاسِ مَنْ وَصَلَ مَنْ قَطَعَهُ،
وَمَنْ لَمْ يَطِبْ حَرْثُهُ لَمْ
يَزْكُ نَبْتُهُ، وَالْفُرُوعُ عِنْدَ مَغَارِسِهَا تَنْمُو، وَبِأُصُولِهَا
تَسْمُو.
وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْهَيْثَمِ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا
قَدِمَ عَلَى خَالِدٍ فَأَنْشَدَهُ قَصِيدَةً امْتَدَحَهُ بِهَا يَقُولُ فِيهَا:
إِلَيْكَ ابْنَ كُرْزِ الْخَيْرِ أَقْبَلْتُ رَاغِبًا لِتَجَبُرَ مِنِّي مَا وَهَى
وَتَبَدَّدَا إِلَى الْمَاجِدِ الْبُهْلُولِ ذِي الْحِلْمِ وَالنَّدَى
وَأَكْرَمِ خَلْقِ اللَّهِ فَرْعًا وَمَحْتِدَا إِذَا مَا أُنَاسٌ قَصَّرُوا
بِفِعَالِهِمْ
نَهَضَتْ فَلَمْ تُلْفَى هُنَالِكَ مُقْعَدَا فَيَالَكَ بَحْرًا يَغْمُرُ النَّاسَ
مَوْجُهُ
إِذَا يُسْأَلُ الْمَعْرُوفَ جَاشَ وَأَزْبَدَا بَلَوْتُ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي
كُلِّ مَوْطِنٍ
فَأَلْفَيْتُ خَيْرَ النَّاسِ نَفْسًا وَأَمْجَدَا فَلَوْ كَانَ فِي الدُّنْيَا
مِنَ النَّاسِ خَالِدٌ
لِجُودٍ بِمَعْرُوفٍ لَكُنْتُ مُخَلَّدًا فَلَا تَحْرِمَنِّي مِنْكَ مَا قَدْ
رَجَوْتُهُ
فَيُصْبِحَ وَجْهِي كَالِحَ اللَّوْنِ أَرْبَدَا
قَالَ: فَحَفِظَهَا خَالِدٌ فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ عِنْدَ خَالِدٍ قَامَ
الْأَعْرَابِيُّ يَنْشُدُهَا، فَابْتَدَرَهُ إِلَيْهَا خَالِدٌ فَأَنْشَدَهَا
قَبْلَهُ، وَقَالَ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، إِنَّ هَذَا شِعْرٌ قَدْ سَبَقْنَاكَ
إِلَيْهِ. فَنَهَضَ الشَّيْخُ، فَوَلَّى ذَاهِبًا، فَأَتْبَعَهُ خَالِدٌ مَنْ
يَسْمَعُ مَا يَقُولُ، فَإِذَا هُوَ يُنْشِدُ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
أَلَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا كُنْتُ أَرْتَجِي لَدَيْهِ وَمَا لَاقَيْتُ مِنْ
نَكَدِ الْجُهْدِ
دَخَلْتُ عَلَى بَحْرٍ يَجُودُ بِمَالِهِ وَيُعْطِي كَثِيرَ الْمَالِ فِي طَلَبِ
الْحَمْدِ
فَخَالَفَنِي الْجَدُّ الْمَشُومُ لِشِقْوَتِي وَقَارَبَنِي نَحْسِي وَفَارَقَنِي
سَعْدِي
فَلَوْ كَانَ لِي رِزْقٌ لَدَيْهِ لَنِلْتُهُ وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ مِنَ الْوَاحِدِ
الْفَرْدِ
فَرَدَّهُ إِلَى خَالِدٍ وَأَعْلَمَهُ بِمَا كَانَ يَقُولُ، فَأَمَرَ لَهُ
بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَأَلَ
أَعْرَابِيٌّ خَالِدًا الْقَسْرِيَّ أَنْ يَمْلَأَ لَهُ جِرَابَهُ دَقِيقًا،
فَأَمَرَ بِمَلْئِهِ لَهُ دَرَاهِمَ، فَقِيلَ لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ خَرَجَ مِنْ
عِنْدِهِ: مَا فَعَلَ مَعَكَ ؟ فَقَالَ: سَأَلْتُهُ مَا أَشْتَهِي، فَأَمَرَ لِي
بِمَا يَشْتَهِي هُوَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَيْنَمَا خَالِدٌ يَسِيرُ فِي مَوْكِبِهِ إِذْ تَلَقَّاهُ
أَعْرَابِيٌّ، فَسَأَلَهُ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ ! وَلِمَ ؟
أَقَطَعْتَ السَّبِيلَ ؟ أَأَخْرَجْتَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ ؟ فَكُلُّ ذَلِكَ
يَقُولُ: لَا. قَالَ: فَلِمَ ؟ قَالَ: مِنَ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ. فَقَالَ: سَلْ
حَاجَتَكَ. فَقَالَ: ثَلَاثِينَ أَلْفًا. فَقَالَ خَالِدٌ: مَا رَبِحَ أَحَدٌ
مِثَلَ مَا رَبِحْتُ الْيَوْمَ ; إِنِّي وَضَعْتُ فِي نَفْسِي أَنْ يَسْأَلَنِي
مِائَةَ أَلْفٍ، فَسَأَلَ ثَلَاثِينَ، فَرَبِحْتُ سَبْعِينَ أَلْفًا، ارْجِعُوا
بِنَا الْيَوْمَ. وَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا.
وَكَانَ إِذَا جَلَسَ تُوضَعُ الْأَمْوَالُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَقُولُ: إِنَّ
هَذِهِ الْأَمْوَالَ وَدَائِعُ لَا بُدَّ مِنْ تَفْرِقَتِهَا.
وَسَقَطَ خَاتَمٌ لِجَارِيَتِهِ رَائِقَةَ يُسَاوِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فِي
بَالُوعَةِ الدَّارِ، فَسَأَلَتْهُ أَنْ يُؤْتَى بِمَنْ يَسْتَخْرِجُهُ، فَقَالَ:
إِنَّ يَدَكِ أَكْرَمُ عَلَيَّ مِنْ أَنْ تَلْبَسَهُ بَعْدَمَا صَارَ إِلَى هَذَا
الْمَوْضِعِ الْقَذِرِ. وَأَمَرَ لَهَا بِخَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ بَدَلَهُ،
وَقَدْ كَانَ لِرَائِقَةَ هَذِهِ مِنَ الْحُلِيِّ شَيْءٌ عَظِيمٌ، مِنْ جُمْلَةِ
ذَلِكَ يَاقُوتَةٌ وَجَوْهَرَةٌ، كُلُّ وَاحِدَةٍ بِثَلَاثَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفِ
دِينَارٍ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي
كِتَابِ " أَفْعَالِ الْعِبَادِ " وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ
" السُّنَّةِ "، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي كُتُبِ
السُّنَّةِ، أَنَّ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ خَطَبَ النَّاسَ فِي
عِيدِ أَضْحًى، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ
ضَحَايَاكُمْ، فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ
اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى
تَكْلِيمًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ عُلُوًّا
كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ.
قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ: كَانَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ مِنْ
أَهْلِ الشَّامِ، وَهُوَ مُؤَدِّبُ مَرْوَانَ الْحِمَارِ، وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُ:
مَرْوَانُ الْجَعْدِيُّ. نِسْبَةً إِلَيْهِ، وَهُوَ شَيْخُ الْجَهْمِ بْنِ
صَفْوَانَ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الطَّائِفَةُ الْجَهْمِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ:
إِنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ. تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ
عُلُوًّا كَبِيرًا. وَكَانَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ قَدْ تَلَقَّى هَذَا
الْمَذْهَبَ الْخَبِيثَ عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: بَيَانُ بْنُ سِمْعَانَ.
وَأَخَذَهُ بَيَانٌ، عَنْ طَالُوتَ ابْنِ أُخْتِ لَبِيدِ بْنِ أَعْصَمَ عَنْ
خَالِهِ لَبِيدِ بْنِ أَعْصَمَ الْيَهُودِيِّ الَّذِي سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، وَجُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ
تَرَكَهُ تَحْتَ رَاعُوفَةٍ بِبِئْرِ ذِي أَرْوَانَ الَّتِي كَانَ مَاؤُهَا
نُقَاعَةَ الْحِنَّاءِ. وَقَدْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ فِي "
الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا. وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ
اللَّهَ أَنْزَلَ بِسَبَبِ
ذَلِكَ سُورَتَيِ "
الْمُعَوِّذَتَيْنِ ".
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ
الرِّفَاعِيُّ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ قَالَ: رَأَيْتُ خَالِدًا
الْقَسْرِيَّ حِينَ أُتِيَ بِالْمُغِيرَةِ وَأَصْحَابِهِ، وَقَدْ وُضِعَ لَهُ
سَرِيرٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِرَجُلٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، ثُمَّ قَالَ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ سَعِيدٍ:
أَحْيِهِ ! - وَكَانَ الْمُغِيرَةُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى، فَقَالَ:
وَاللَّهِ، أَصْلَحَكَ اللَّهُ، مَا أُحْيِي الْمَوْتَى. قَالَ: لَتُحْيِيَنَّهُ
أَوْ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ
أَمَرَ بِطُنِّ قَصَبٍ، فَأَضْرَمُوا فِيهِ نَارًا، ثُمَّ قَالَ لِلْمُغِيرَةِ:
اعْتَنِقْهُ. فَأَبَى، فَعَدَا رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمُغِيرَةِ فَاعْتَنَقَهُ،
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَرَأَيْتُ النَّارَ تَأْكُلُهُ وَهُوَ يُشِيرُ
بِالسَّبَّابَةِ. قَالَ خَالِدٌ: هَذَا وَاللَّهِ أَحَقُّ بِالرِّئَاسَةِ مِنْكَ.
ثُمَّ قَتَلَهُ وَقَتَلَ أَصْحَابَهُ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: أُتِيَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِرَجُلٍ تَنَبَّأَ
بِالْكُوفَةِ فَقِيلَ لَهُ: مَا عَلَامَةُ نُبُوَّتِكَ ؟ قَالَ: قَدْ أُنْزِلَ
عَلَيَّ قُرْآنٌ. قِيلَ: مَا هُوَ ؟ قَالَ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْجَمَاهِرْ،
فَصْلِ لِرَبِّكَ وَلَا تُجَاهِرْ. وَلَا تُطِعْ كُلَّ كَافِرٍ وَفَاجِرْ.
فَأَمَرَ بِهِ، فَصُلِبَ، فَقَالَ وَهُوَ يُصْلَبُ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ
الْعَمُودْ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ عَلَى عُودْ، فَأَنَا ضَامِنٌ لَكَ أَنْ لَا
تَعُودْ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أُتِيَ خَالِدٌ بِشَابٍّ قَدْ وُجِدَ فِي دَارِ قَوْمٍ،
وَادُّعِيَ عَلَيْهِ السَّرَقُ،
فَسَأَلَهُ فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ
بِقَطْعِ يَدِهِ، فَتَقَدَّمَتْ فَتَاةٌ حَسْنَاءُ، فَقَالَتْ:
أَخَالِدٌ قَدْ أَوَطَأْتَ وَاللَّهِ عُشْوَةً وَمَا الْعَاشِقُ الْمِسْكِينُ
فِينَا بِسَارِقِ
أَقَرَّ بِمَا لَمْ يَجْنِهِ غَيْرَ أَنَّهُ رَأَى الْقَطْعَ أُولَى مِنْ
فَضِيحَةِ عَاشِقِ
فَأَمَرَ خَالِدٌ بِإِحْضَارِ أَبِيهَا، فَزَوَّجَهَا مِنْ ذَلِكَ الْفَتَى،
وَأَمْهَرَهَا عَنْهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى خَالِدٍ فَقَالَ: إِنِّي قَدِ
امْتَدَحْتُكَ بِبَيْتَيْنِ، وَلَسْتُ أَنْشُدُهُمَا إِلَّا بِعَشَرَةِ آلَافٍ
وَخَادِمٍ. فَقَالَ: قُلْ. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَزِمْتَ نَعَمْ حَتَّى كَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ سَمِعْتَ مِنَ الْأَشْيَاءِ شَيْئًا
سِوَى نَعَمْ
وَأَنْكَرْتَ لَا حَتَّى كَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ سَمِعْتَ بِهَا فِي سَالِفِ
الدَّهْرِ وَالْأُمَمْ
قَالَ: فَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَخَادِمٍ يَحْمِلُهَا.
قَالَ: وَدَخَلَ عَلَيْهِ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ لَهُ: سَلْ حَاجَتَكَ. فَقَالَ
لَهُ: مِائَةُ أَلْفٍ. فَقَالَ: أَكْثَرْتَ، حُطَّ مِنْهَا. فَقَالَ: أَضَعُ
مِنْهَا تِسْعِينَ أَلْفًا. قَالَ: فَتَعْجَّبَ مِنْهُ خَالِدٌ فَقَالَ: أَيُّهَا
الْأَمِيرُ، سَأَلْتُكَ عَلَى قَدْرِكَ، وَوَضَعْتُ عَلَى قَدْرِي. فَقَالَ لَهُ:
لَنْ تَغْلِبَنِي. وَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ.
قَالَ: وَدَخَلَ عَلَيْهِ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ قُلْتُ فِيكَ
شِعْرًا، وَأَنَا أَسْتَصْغِرُهُ
فِيكَ. فَقَالَ: قُلْ. فَأَنْشَأَ
يَقُولُ:
تَعَرَّضْتَ لِي بِالْجُودِ حَتَّى نَعَشْتَنِي وَأَعْطَيْتَنِي حَتَّى ظَنَنْتُكَ
تَلْعَبُ
فَأَنْتَ النَّدَى وَابْنُ النَّدَى وَأَخُو النَّدَى حَلِيفُ النَّدَى مَا
للنَّدَى عَنْكَ مَذْهَبُ
فَقَالَ: سَلْ حَاجَتَكَ. قَالَ: عَلَيَّ خَمْسُونَ أَلْفًا دَيْنًا. فَقَالَ:
قَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِهَا، وَشَفَعْتُهَا لَكَ. فَأَعْطَاهُ مِائَةَ أَلْفٍ.
قَالَ أَبُو الطِّيبِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى ابْنِ الْوَشَّاءِ:
دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ فَأَنْشَدَهُ:
كَتَبْتَ نَعَمْ بِبَابِكَ فَهِيَ تَدْعُو إِلَيْكَ النَّاسَ مُسْفِرَةَ
النِّقَابِ
وَقُلْتَ لِلَا عَلَيْكِ بِبَابِ غَيْرِي فَإِنَّكِ لَنْ تُرَيْ أَبَدًا بِبَابِي
قَالَ: فَأَعْطَاهُ عَلَى كُلِّ بَيْتٍ خَمْسِينَ أَلْفًا. وَقَدْ قَالَ فِيهِ
ابْنُ مَعِينٍ: كَانَ رَجُلُ سُوءٍ يَقَعُ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ خَالِدًا حَفَرَ بِئْرًا بِمَكَّةَ
ادَّعَى فَضْلَهَا عَلَى زَمْزَمَ.
وَلَهُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ تَفْضِيلُ الْخَلِيفَةِ عَلَى الرَّسُولِ. وَهَذَا
كُفْرٌ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِكَلَامِهِ غَيْرَ مَا يَبْدُو مِنْهُ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ
وَلَعَلَّ هَذَا لَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ صَاحِبَ " الْعِقْدِ
" سَبَّ بِهِ،
وَيُقَرِّرُهُ عَنْهُ ; لِأَنَّ
صَاحِبَ الْعِقْدِ كَانَ فِيهِ تَشَيُّعٌ شَنِيعٌ، وَرُبَّمَا لَا يَفْهَمُهُ
كُلُّ أَحَدٍ، وَقَدِ اغْتَرَّ بِهِ شَيْخُنَا الذَّهَبِيُّ فَمَدَحَهُ
بِالْحِفْظِ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يَفْهَمْ تَشَيُّعَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْوَلِيدَ
بْنَ يَزِيدَ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْحَجِّ فِي إِمَارَتِهِ، وَمِنْ نِيَّتِهِ
أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ
جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ اجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ وَتَوْلِيَةِ غَيْرِهِ
مِنَ الْجَمَاعَةِ، فَحَذَّرَ خَالِدٌ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ،
فَسَأَلَهُ أَنْ يُسَمِّيَهُمْ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَعَاقَبَهُ عِقَابًا شَدِيدًا،
ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ فَعَاقَبَهُ حَتَّى مَاتَ شَرَّ
قِتْلَةٍ وَأَسْوَأَهَا، وَذَلِكَ فِي مُحَرَمٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ
سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
وَذَكَرَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " وَقَالَ:
كَانَ يُتَّهَمُ فِي دِينِهِ، وَقَدْ بَنَى لِأُمِّهِ كَنِيسَةً فِي دَارِهِ
فَنَالَ مِنْهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْأَعْيَانِ ":
كَانَ فِي نَسَبِهِ يَهُودٌ، فَانْتَمَوْا إِلَى الْعَرَبِ، وَكَانَ يَقْرُبُ مِنْ
شِقٍّ، وَسَطِيحٍ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَقَدْ كَانَا ابْنَيْ خَالَةٍ، وَعَاشَ كُلٌّ
مِنْهُمَا سِتَّمِائَةٍ، وَوُلِدَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ مَاتَتْ
طَرِيفَةُ بِنْتُ الْخَيْرِ بَعْدَمَا تَفَلَتْ فِي فَمِ
كُلٍّ مِنْهُمَا، وَقَالَتْ: إِنَّهُ
سَيَقُومُ مَقَامِي فِي الْكَهَانَةِ. ثُمَّ مَاتَتْ مِنْ يَوْمِهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ، وَدَرَّاجٌ
أَبُو السَّمْحِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ فِي قَوْلٍ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ
حَبِيبٍ الْمُحَارِبِيُّ قَاضِي دِمَشْقَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَاسِمٍ
شَيْخُ مَالِكٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرَاجِمَهُمْ فِي كِتَابِ " التَّكْمِيلِ ".
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْخَلِيفَةُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ بِوَصِيَّةِ أَخِيهِ يَزِيدَ النَّاقِصِ إِلَيْهِ، وَمُبَايَعَةِ
الْأُمَرَاءِ لَهُ بِذَلِكَ، وَجَمِيعِ أَهْلِ الشَّامِ، إِلَّا أَهْلَ حِمْصَ
فَلْمْ يُبَايِعُوهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ
الْمُلَقَّبَ بِالْحِمَارِ كَانَ نَائِبًا بِأَذْرَبِيجَانَ وَإِرْمِينِيَّةَ -
وَتِلْكَ كَانَتْ لِأَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ - وَكَانَ نَقِمَ عَلَى يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ
فِي قَتْلِهِ الْوَلِيدَ بْنَ يَزِيدَ، وَأَقْبَلَ فِي طَلَبِ دَمِ الْوَلِيدِ
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى حَرَّانَ أَنَابَ وَبَايَعَ يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ
فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى بَلَغَهُ مَوْتُهُ، فَأَقْبَلَ فِي أَهْلِ
الْجَزِيرَةِ حَتَّى وَصَلَ قِنَّسْرِينَ، فَحَاصَرَ أَهْلَهَا، فَنَزَلُوا عَلَى
طَاعَتِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى حِمْصَ وَعَلَيْهَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
الْحَجَّاجِ مِنْ جِهَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْوَلِيدِ
يُحَاصِرُهُمْ حَتَّى يُبَايِعُوا لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْوَلِيدِ وَقَدْ
أَصَرُّوا عَلَى عَدَمِ مُبَايَعَتِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ الْعَزِيزِ قُرْبُ
مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ تَرَحَّلَ عَنْهَا، وَقَدِمَ مَرْوَانُ إِلَيْهَا،
فَبَايَعُوهُ وَسَارُوا مَعَهُ قَاصِدِينَ دِمَشْقَ، وَمَعَهُمْ جُنْدُ الْجَزِيرَةِ
وَجُنْدُ قِنَّسْرِينَ، فَتَوَجَّهَ مَرْوَانُ إِلَى دِمَشْقَ فِي ثَمَانِينَ
أَلْفًا، وَقَدْ بَعَثَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ سُلَيْمَانَ بْنَ هِشَامِ
بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، فَالْتَقَى الْجَيْشَانِ
عِنْدَ عَيْنِ الْجَرِّ مِنَ الْبِقَاعِ، فَدَعَاهُمْ مَرْوَانُ إِلَى الْكَفِّ
عَنِ الْقِتَالِ، وَأَنْ يُخَلُّوا عَنِ ابْنَيِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ -
وَهُمَا الْحَكَمُ، وَعُثْمَانُ - اللَّذَيْنِ كَانَا قَدْ أُخِذَ الْعَهْدُ
لَهُمَا، وَكَانَ يَزِيدُ قَدْ سَجَنَهُمَا بِدِمَشْقَ فَأَبَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ،
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا مِنْ حِينِ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ إِلَى
الْعَصْرِ، وَبَعَثَ مَرْوَانُ سَرِيَّةً
تَأْتِي جَيْشَ سُلَيْمَانَ بْنِ
هِشَامٍ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَتَمَّ لَهُمْ مَا أَرَادُوهُ، وَأَقْبَلُوا مِنْ
وَرَائِهِمْ يُكَبِّرُونَ، وَحَمَلَ الْآخَرُونَ مِنْ تِلْقَائِهِمْ عَلَيْهِمْ،
فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ فِي أَصْحَابِ سُلَيْمَانَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ أَهْلُ
حِمْصَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَاسْتُبِيحَ عَسْكَرُهُمْ.
وَكَانَ مِقْدَارُ مَا قُتِلَ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ قَرِيبًا
مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَأُسِرَ مِنْهُمْ
مِثْلُهُمْ، فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ مَرْوَانُ الْبَيْعَةَ لِلْغُلَامَيْنِ ابْنَيِ
الْوَلِيدِ الْحَكَمِ، وَعُثْمَانَ، وَأَطْلَقَهُمْ كُلَّهُمْ سِوَى رَجُلَيْنِ،
وَهَمَا يَزِيدُ بْنُ الْعَقَّارِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ مَصَادٍ الْكَلْبِيَّانِ،
فَضَرَبَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ بِالسِّيَاطِ وَحَبَسَهُمَا، فَمَاتَا فِي
السِّجْنِ ; لِأَنَّهُمَا كَانَا مِمَّنْ بَاشَرَ قَتْلَ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ
حِينَ قُتِلَ، وَأَمَّا سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ وَبَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ
فَإِنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا مُنْهَزِمِينَ، فَمَا أَصْبَحَ لَهُمُ الصُّبْحُ إِلَّا
بِدِمَشْقَ فَأَخْبَرُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْوَلِيدِ
بِمَا وَقَعَ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُمْ رُءُوسُ الْأُمَرَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ،
وَهُمْ: عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْحَجَّاجِ، وَيَزِيدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْقَسْرِيُّ، وَأَبُو عِلَاقَةَ السَّكْسَكِيُّ، وَالْأَصْبَغُ بْنُ
ذُؤَالَةَ الْكَلْبِيُّ وَنُظَرَاؤُهُمْ، عَلَى أَنْ يَعْمِدُوا إِلَى قَتْلِ
ابْنَيِ الْوَلِيدِ الْحَكَمِ، وَعُثْمَانَ خَشْيَةَ أَنْ يَلِيَا الْخِلَافَةَ
فَيُهْلِكَا مَنْ عَادَاهُمَا وَقَتَلَ أَبَاهُمَا، فَبَعَثُوا إِلَيْهِمَا
يَزِيدَ بْنَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ فَعَمَدَ إِلَى السِّجْنِ
وَفِيهِ الْحَكَمُ، وَعُثْمَانُ ابْنَا الْوَلِيدِ وَقَدْ بَلَغَا، وَيُقَالُ:
وَوُلِدَ لِأَحَدِهِمَا وَلَدٌ. فَشَدَخَهُمَا بِالْعَمْدِ، وَقَتَلَ يُوسُفَ بْنَ
عُمَرَ وَكَانَ مَسْجُونًا مَعَهُمَا، وَكَانَ فِي سِجْنِهِمَا أَيْضًا أَبُو
مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيُّ فَهَرَبَ فَدَخَلَ فِي بَيْتٍ دَاخِلَ السِّجْنِ،
وَجَعَلَ وَرَاءَ الْبَابِ رَدْمًا، فَحَاصَرُوهُ فَامْتَنَعَ، فَأَتَوْا بِنَارٍ
لِيَحْرِقُوا الْبَابَ، ثُمَّ اشْتَغَلُوا عَنْ ذَلِكَ بِقُدُومِ مَرْوَانَ بْنِ
مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ إِلَى دِمَشْقَ فِي طَلَبِ الْمُنْهَزِمِينَ.
ذِكْرُ دُخُولِ مَرْوَانَ الْحِمَارِ
دِمَشْقَ فِيهَا وَوِلَايَتِهِ الْخِلَافَةَ، وَعَزْلِهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ
الْوَلِيدِ عَنْهَا
لَمَّا أَقْبَلَ مَرْوَانُ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ مِنْ عَيْنِ الْجَرِّ
وَاقْتَرَبَ مِنْ دِمَشْقَ وَقَدِ انْهَزَمَ أَهْلُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ بِالْأَمْسِ،
هَرَبَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَمَدَ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ إِلَى
بَيْتِ الْمَالِ، فَفَتَحَهُ وَأَنْفَقَ مَا فِيهِ عَلَى أَصْحَابِهِ وَمَنِ
اتَّبَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ، وَثَارَ مَوَالِي الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ إِلَى
دَارِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحَجَّاجِ فَقَتَلُوهُ فِيهَا وَانْتَهَبُوهَا،
وَنَبَشُوا قَبْرَ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ وَصَلَبُوهُ عَلَى بَابِ الْجَابِيَةِ
وَدَخَلَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ دِمَشْقَ فَنَزَلَ فِي أَعَالِيهَا، وَأُتِيَ
بِالْغُلَامَيْنِ الْحَكَمِ، وَعُثْمَانَ مَقْتُولَيْنِ، وَكَذَلِكَ يُوسُفُ بْنُ
عُمَرَ فَأَمَرَ بِهِمْ فَدُفِنُوا، وَأُتِيَ بِأَبِي مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيِّ
وَهُوَ فِي كُبُولِهِ، فَسَلَّمَ عَلَى مَرْوَانَ بِالْخِلَافَةِ، فَقَالَ
مَرْوَانُ: مَهْ ! فَقَالَ: إِنَّ هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ جَعَلَاهَا لَكَ مِنْ
بَعْدِهِمَا. ثُمَّ أَنْشَدَهُ قَصِيدَةً قَالَهَا الْحَكَمُ فِي السِّجْنِ،
وَهِيَ طَوِيلَةٌ، فَمِنْهَا قَوْلُهُ:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ مَرْوَانَ عَنِّي وَعَمِّي الْغَمْرَ طَالَ بِهِ حَنِينَا
بِأَنِّي قَدْ ظُلِمْتُ وَصَارَ قَوْمِي
عَلَى قَتْلِ الْوَلِيدِ مُشَايِعِينَا فَإِنْ أَهْلَكْ أَنَا وَوَلِيُّ عَهْدِي
فَمَرْوَانٌ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَا
ثُمَّ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيُّ لِمَرْوَانَ: ابْسُطْ يَدَكَ.
فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ بِالْخِلَافَةِ
مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ
حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ ثُمَّ بَايَعَهُ رُءُوسُ أَهْلِ الشَّامِ مِنْ أَهْلِ
دِمَشْقَ وَحِمْصَ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مَرْوَانُ: اخْتَارُوا
أُمَرَاءَ نُوَلِّيهِمْ عَلَيْكُمْ. فَاخْتَارَ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ أَمِيرًا،
فَوَلَّاهُ عَلَيْهِمْ، فَعَلَى دِمَشْقَ زَامَلُ بْنُ عَمْرٍو الْحُبْرَانِيُّ
وَعَلَى حِمْصَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَجَرَةَ الْكِنْدِيُّ وَعَلَى الْأُرْدُنِّ
الْوَلِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَرْوَانَ، وَعَلَى فَلَسْطِينَ ثَابِتُ بْنُ
نُعَيْمٍ الْجُذَامِيُّ.
وَلَمَّا اسْتَوْسَقَ الشَّامُ لِمَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ رَجَعَ إِلَى حَرَّانَ،
وَعِنْدَ ذَلِكَ طَلَبَ مِنْهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ الَّذِي كَانَ
خَلِيفَةً وَابْنُ عَمِّهِ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ الْأَمَانَ، فَآمَنَهُمَا،
وَقَدِمَ عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ فِي أَهْلِ تَدْمُرَ فَبَايَعُوهُ.
ثُمَّ لَمَّا اسْتَقَرَّ مَرْوَانُ بِحَرَّانَ أَقَامَ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ،
فَانْتَقَضَ عَلَيْهِ مَا كَانَ انْبَرَمَ لَهُ مِنْ مُبَايَعَةِ أَهْلِ الشَّامِ،
فَنَقَضَ أَهْلُ حِمْصَ وَغَيْرُهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى حِمْصَ جَيْشًا،
فَوَافَوْهُمْ لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدِمَ
مَرْوَانُ إِلَيْهَا بَعْدَ الْفِطْرِ بِيَوْمَيْنِ، فَنَازَلَهَا مَرْوَانُ فِي
جُنُودٍ كَثِيرَةٍ، وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ
الْمَخْلُوعُ وَسُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ وَهُمَا عِنْدَهُ مُكَرَّمَانِ
خِصِّيصَانِ لَا يَجْلِسُ إِلَّا بِهِمَا وَقْتَ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ،
فَلَمَّا حَاصَرَ حِمْصَ نَادَوْهُ: إِنَّا عَلَى طَاعَتِكَ. فَقَالَ: افْتَحُوا
بَابَ الْبَلَدِ. فَفَتَحُوهُ، ثُمَّ كَانَ مِنْهُمْ بَعْضُ الْقِتَالِ، فَقَتَلَ
مِنْهُمْ نَحْوَ الْخَمْسِمِائَةٍ أَوِ السِّتِّمِائَةِ. فَأَمَرَ بِهِمْ
فَصُلِبُوا حَوْلَ الْبَلَدِ، وَأَمَرَ بِهَدْمِ بَعْضِ سُورِهَا.
وَأَمَّا أَهْلُ دِمَشْقَ فَإِنَّ أَهْلَ الْغُوطَةِ حَاصَرُوا أَمِيرَهُمْ
زَامَلَ بْنَ عَمْرٍو وَوَلَّوْا
عَلَيْهِمْ يَزِيدَ بْنَ خَالِدٍ الْقَسْرِيَّ
وَثَبَتَ فِي الْمَدِينَةِ نَائِبَهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
مَرْوَانُ مِنْ حِمْصَ عَسْكَرًا نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، فَلَمَّا
اقْتَرَبُوا مِنْ دِمَشْقَ خَرَجَ النَّائِبُ فِيمَنْ مَعَهُ، وَالْتَقَوْا هُمْ
وَالْعَسْكَرُ بِأَهْلِ الْغُوطَةِ فَهَزَمُوهُمْ وَحَرَّقُوا الْمِزَّةَ وَقُرًى
أُخْرَى مَعَهَا، وَاسْتَجَارَ يَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ الْقَسْرِيُّ، وَأَبُو
عِلَاقَةَ الْكَلْبِيُّ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمِزَّةِ مِنْ لَخْمٍ فَدَلَّ
عَلَيْهِمْ زَامَلُ بْنُ عَمْرٍو فَأُتِيَ بِهِمَا، فَقَتَلَهُمَا وَبَعَثَ
بِرَأْسَيْهِمَا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مَرْوَانَ وَهُوَ بِحِمْصَ.
وَخَرَجَ ثَابِتُ بْنُ نُعَيْمٍ فِي أَهْلِ فِلَسْطِينَ عَلَى الْخَلِيفَةِ،
وَأَتَوْا طَبَرِيَّةَ فَحَاصَرُوهَا، فَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِمْ جَيْشًا،
فَأَجْلَوْهُمْ عَنْهَا وَاسْتَبَاحُوا عَسْكَرَهُمْ، وَفَرَّ ثَابِتُ بْنُ
نُعَيْمٍ هَارِبًا إِلَى فِلَسْطِينَ فَأَتْبَعَهُ الْأَمِيرُ أَبُو الْوَرْدِ
فَهَزَمَهُ ثَانِيَةً، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَأَسَرَ أَبُو الْوَرْدِ
ثَلَاثَةً مِنْ أَوْلَادِهِ، فَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَهُمْ جَرْحَى،
فَأَمَرَ بِمُدَاوَاتِهِمْ، ثُمَّ كَتَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نَائِبِ
فِلَسْطِينَ وَهُوَ الرُّمَاحِسُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيُّ يَأْمُرُهُ
بِطَلَبِ ثَابِتِ بْنِ نُعَيْمٍ حَيْثُ كَانَ، فَمَا زَالَ يَتَلَطَّفُ بِهِ
حَتَّى أَخَذَهُ أَسِيرًا، وَذَلِكَ بَعْدَ شَهْرَيْنِ، فَبَعَثَهُ إِلَى
الْخَلِيفَةِ، فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَكَذَلِكَ جَمَاعَةٌ
كَانُوا مَعَهُ، وَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى دِمَشْقَ، فَأُقِيمُوا عَلَى بَابِ
مَسْجِدِهَا ; لِأَنَّ أَهْلَ دِمَشْقَ كَانُوا قَدْ أَرَجَفُوا بِأَنَّ ثَابِتَ
بْنَ نُعَيْمٍ ذَهَبَ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ فَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا، وَقَتَلَ
نَائِبَ مَرْوَانَ فِيهَا، فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَيْهِمْ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ
وَالرِّجْلَيْنِ ; لِيَعْرِفُوا بُطْلَانَ مَا كَانُوا بِهِ أَرَجَفُوا.
وَأَقَامَ الْخَلِيفَةُ مَرْوَانُ بِدِيرِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مُدَّةً
حَتَّى بَايَعَ لِابْنَيْهِ عُبَيْدِ اللَّهِ ثُمَّ عَبْدِ اللَّهِ وَزَوَّجَهُمَا
ابْنَتَيْ هِشَامٍ وَهُمَا أُمُّ هِشَامٍ وَعَائِشَةُ وَكَانَ مَجْمَعًا حَافِلًا،
وَعَقْدًا هَائِلًا، وَبَيْعَةً عَامَّةً، وَلَكِنْ لَمْ تَكُنْ فِي نَفْسِ
الْأَمْرِ تَامَّةً، وَقَدِمَ الْخَلِيفَةُ إِلَى
دِمَشْقَ وَأَمَرَ بِثَابِتٍ
وَأَصْحَابِهِ بَعْدَ مَا كَانُوا قُطِعُوا أَنْ يُصْلَبُوا عَلَى أَبْوَابِ
الْبَلَدِ، وَلَمْ يَسْتَبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا وَاحِدًا، وَهُوَ عَمْرُو
بْنُ الْحَارِثِ الْكَلْبِيُّ وَكَانَ عِنْدَهُ - فِيمَا زَعَمَ - عِلْمٌ
بِوَدَائِعَ كَانَ ثَابِتُ بْنُ نُعَيْمٍ أَوْدَعَهَا عِنْدَ أَقْوَامٍ.
وَاسْتَوْسَقَ أَمْرُ الشَّامِ لِمَرْوَانَ مَا عَدَا تَدْمُرَ فَسَارَ مِنْ
دِمَشْقَ فَنَزَلَ الْقَسْطَلَ مِنْ أَرْضِ حِمْصَ وَبَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ
تَدْمُرَ قَدْ عَوَّرُوا مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْمِيَاهِ، فَاشْتَدَّ
غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ، وَمَعَهُ جَحَافِلُ مِنَ الْجُيُوشِ، فَتَكَلَّمَ
الْأَبْرَشُ بْنُ الْوَلِيدِ - وَكَانُوا قَوْمَهُ - وَسَأَلَ مِنْهُ أَنْ
يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أَوَّلًا لِيُعْذِرَ إِلَيْهِمْ، فَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ
الْوَلِيدِ أَخَا الْأَبْرَشِ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَلْتَفِتُوا
إِلَيْهِ، وَلَا سَمِعُوا لَهُ قَوْلًا، فَرَجَعَ، فَهَمَّ الْخَلِيفَةُ أَنْ
يَبْعَثَ إِلَيْهِمُ الْجُنُودَ، فَسَأَلَهُ الْأَبْرَشُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَيْهِمْ
بِنَفْسِهِ، فَأَرْسَلَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمُ الْأَبْرَشُ كَلَّمَهُمْ
وَاسْتَمَالَهُمْ إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَأَجَابَهُ أَكْثَرُهُمْ،
وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ، فَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُعْلِمْهُ بِمَا وَقَعَ،
فَأَمَرَهُ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَهْدِمَ بَعْضَ سُورِهَا، وَأَنْ يُقْبِلَ بِمَنْ
أَطَاعَهُ مِنْهُمْ إِلَيْهِ، فَفَعَلَ، فَلَمَّا حَضَرُوا عِنْدَهُ سَارَ بِمَنْ
مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ نَحْوَ الرُّصَافَةِ عَلَى طَرِيقِ الْبَرِّيَّةِ،
وَمَعَهُ مِنَ الرُّءُوسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ الْمَخْلُوعُ
وَسُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ وَلَدِ الْوَلِيدِ، وَيَزِيدَ،
وَسُلَيْمَانَ فَأَقَامَ بِالرُّصَافَةِ أَيَّامًا، ثُمَّ شَخَصَ إِلَى الرَّقَّةِ
فَاسْتَأْذَنَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ أَنْ يُقِيمَ هُنَاكَ أَيَّامًا ;
لِيَسْتَرِيحَ وَيُجِمَّ ظَهْرَهُ، فَأَذِنَ لَهُ، وَانْحَدَرَ مَرْوَانُ فَنَزَلَ
عِنْدَ وَاسِطَ عَلَى شَطِّ الْفُرَاتِ فَأَقَامَ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَضَى إِلَى
قَرْقِيسِيَا وَابْنُ هُبَيْرَةَ بِهَا ; لِيَبْعَثَهُ إِلَى الْعِرَاقِ
لِمُحَارَبَةِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ الشَّيْبَانِيِّ الْخَارِجِيِّ
الْحَرُورِيِّ وَاشْتَغَلَ مَرْوَانُ بِهَذَا الْأَمْرِ.
وَأَقْبَلَ عَشَرَةُ آلَافِ فَارِسٍ مِمَّنْ كَانَ مَرْوَانُ قَدْ بَعَثَهُمْ فِي بَعْضِ السَّرَايَا، فَاجْتَازُوا بِالرُّصَافَةِ وَفِيهَا سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ اسْتَأْذَنَ الْخَلِيفَةَ فِي الْمُقَامِ هُنَاكَ لِلرَّاحَةِ، فَدَعَوْهُ إِلَى الْبَيْعَةِ لَهُ وَخَلْعِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَمُحَارَبَتِهِ، فَاسْتَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَخَلَعَ مَرْوَانَ وَسَارَ بِالْجُيُوشِ إِلَى قِنَّسْرِينَ، وَكَاتَبَ أَهْلَ الشَّامِ، فَانْفَضُّوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَكَتَبَ سُلَيْمَانُ إِلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ الَّذِي جَهَّزَهُ مَرْوَانُ لِقِتَالِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ الْخَارِجِيِّ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ نَحْوٌ مَنْ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَبَعَثَ مَرْوَانُ إِلَيْهِمْ عِيسَى بْنَ مُسْلِمٍ فِي نَحْوٍ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا أَيْضًا، فَالْتَقَوْا بِأَرْضِ قِنَّسْرِينَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَجَاءَ مَرْوَانُ وَالنَّاسُ فِي الْحَرْبِ، فَقَاتَلَهُمْ أَشَدَّ الْقِتَالِ فَهَزَمَهُمْ، وَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ هِشَامٍ وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِهِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ نَيِّفًا عَلَى ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَذَهَبَ سُلَيْمَانُ مَفْلُولًا، فَأَتَى حِمْصَ، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ مَنِ انْهَزَمَ مَنْ جَيْشِهِ، فَعَسْكَرَ بِهِمْ فِيهَا، وَبَنَى مَا كَانَ مَرْوَانُ هَدَمَ مِنْ سُورِهَا، فَجَاءَهُمْ مَرْوَانُ فَحَاصَرَهُمْ بِهَا، وَنَصَبَ عَلَيْهِمْ نَيِّفًا وَثَمَانِينَ مَنْجَنِيقًا، فَمَكَثَ كَذَلِكَ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ يَرْمِيهِمْ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَيَخْرُجُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَيُقَاتِلُونَ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ. هَذَا وَقَدْ ذَهَبَ سُلَيْمَانُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْجَيْشِ مَعَهُ إِلَى تَدْمُرَ وَقَدِ اعْتَرَضُوا جَيْشَ مَرْوَانَ فِي الطَّرِيقِ، وَهَمُّوا بِالْفَتْكِ بِهِ وَأَنْ يُبَيِّتُوهُ فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ، وَتَهَيَّأَ لَهُمْ مَرْوَانُ فَقَاتَلَهُمْ، فَقَتَلُوا مِنْ جَيْشِهِ قَرِيبًا مِنْ سِتَّةِ آلَافٍ وَهُمْ تِسْعُمِائَةٍ، وَانْصَرَفُوا إِلَى تَدْمُرَ وَلَزِمَ مَرْوَانُ
مُحَاصَرَةَ حِمْصَ كَمَالَ عَشَرَةِ
أَشْهُرٍ، فَلَمَّا تَتَابَعَ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ، وَلَزِمَهُمُ الذُّلُّ،
سَأَلُوهُ أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ، فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِهِ،
ثُمَّ سَأَلُوهُ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ سَعِيدِ بْنِ هِشَامٍ
وَابْنَيْهِ مَرْوَانَ، وَعُثْمَانَ وَمِنَ السَّكْسَكِيِّ الَّذِي كَانَ مَعَهُ
عَلَى جَيْشِهِ، وَمِنْ حَبَشِيٍّ كَانَ يَشْتُمُهُ وَيَفْتَرِي عَلَيْهِ،
فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَأَمَّنَهُمْ وَقَتَلَ أُولَئِكَ.
ثُمَّ سَارَ إِلَى الضَّحَّاكِ الْخَارِجِيِّ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَائِبُ الْعِرَاقِ قَدْ صَالَحَ الضَّحَّاكَ
الْخَارِجِيَّ عَلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الْكُوفَةِ وَأَعْمَالِهَا، وَجَاءَتْ
خُيُولُ مَرْوَانَ قَاصِدَةً إِلَى الْكُوفَةِ فَتَلَقَّاهُمْ نَائِبُهَا مِنْ
جِهَةِ الضَّحَّاكِ، مِلْحَانُ الشَّيْبَانِيُّ فَقَاتَلَهُمْ فَقُتِلَ مِلْحَانُ
فَاسْتَنَابَ الضَّحَّاكُ عَلَيْهَا الْمُثَنَّى بْنَ عِمْرَانَ مِنْ بَنِي
عَائِذَةَ وَسَارَ الضَّحَّاكُ فِي ذِي الْقِعْدَةِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَسَارَ
ابْنُ هُبَيْرَةَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَانْتَزَعَهَا مِنْ أَيْدِي الْخَوَارِجِ
وَأَرْسَلَ الضَّحَّاكُ جَيْشًا إِلَى الْكُوفَةِ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الشَّيْبَانِيُّ وَكَانَ
سَبَبُ خُرُوجِهِ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: سَعِيدُ بْنُ بَهْدَلٍ - وَكَانَ
خَارِجِيًّا - اغْتَنَمَ غَفْلَةَ النَّاسِ وَاشْتِغَالَهُمْ بِمَقْتَلِ
الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، فَثَارَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ بِالْعِرَاقِ
وَالْتَفَّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ - وَلَمْ تَجْتَمِعْ قَبْلَهُ لِخَارِجِيٍّ
- فَقَصَدَتْهُمُ الْجُيُوشُ، فَاقْتَتَلُوا مَعَهُمْ، فَتَارَةً يَكْسِرُونَ،
وَتَارَةً يُكْسَرُونَ، ثُمَّ مَاتَ سَعِيدُ بْنُ بَهْدَلٍ فِي طَاعُونٍ
أَصَابَهُ،
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْخَوَارِجِ
مِنْ بَعْدِهِ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ هَذَا، فَالْتَفَّ أَصْحَابُهُ عَلَيْهِ،
وَالْتَقَى هُوَ وَجَيْشٌ كَثِيرٌ، فَغَلَبَتِ الْخَوَارِجُ وَقَتَلُوا خَلْقًا
كَثِيرًا، مِنْهُمْ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخُو أَمِيرِ
الْعِرَاقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَرَثَاهُ
بِأَشْعَارٍ. ثُمَّ قَصَدَ الضَّحَّاكُ بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مَرْوَانَ،
فَاجْتَازَ بِالْكُوفَةِ، فَنَهَضَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا، فَكَسَرَهُمْ وَدَخَلَ
الْكُوفَةَ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، وَاسْتَنَابَ بِهَا رَجُلًا اسْمُهُ
حَسَّانُ ثُمَّ اسْتَنَابَ مِلْحَانَ الشَّيْبَانِيَّ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَسَارَ هُوَ فِي طَلَبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ نَائِبِ الْعِرَاقِ فَالْتَقَوْا، فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ
كَثِيرَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَتَفْصِيلُهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى بَنِي
الْعَبَّاسِ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْإِمَامِ وَمَعَهُمْ أَبُو
مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، فَدَفَعُوا إِلَيْهِ نَفَقَاتٍ كَثِيرَةً،
وَأَعْطَوْهُ خُمْسَ أَمْوَالِهِمْ، وَلَمْ يَنْتَظِمْ لَهُمْ أَمْرٌ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ لِكَثْرَةِ الشُّرُورِ الْمُنْتَشِرَةِ، وَالْفِتَنِ الْوَاقِعَةِ
بَيْنَ النَّاسِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ بِالْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ،
فَحَارَبَهُ أَمِيرُ الْعِرَاقِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ فَجَرَتْ بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، ثُمَّ أَجْلَاهُ
عَنْهَا، فَلَحِقَ بِالْجِبَالِ، فَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ الَّذِي كَانَ لَحِقَ
بِبِلَادِ التُّرْكِ وَمَالَأَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَمَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِ بِالْهِدَايَةِ، وَوَفَّقَهُ حَتَّى خَرَجَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ،
وَكَانَ ذَلِكَ عَنْ دُعَاءِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى الْإِسْلَامِ،
فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَخَرَجَ إِلَى
خُرَاسَانَ فَأَكْرَمَهُ نَصْرُ بْنُ
سَيَّارٍ نَائِبُهَا، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ وَجَاءُوا لِتَهْنِئَتِهِ،
ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ خُصُومَةٌ، وَاسْتَمَرَّ
الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَطَاعَةِ الْإِمَامِ، وَعِنْدَهُ بَعْضُ الْمُنَاوَأَةِ لِنَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَأَبُو مَعْشَرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَمِيرُ الْحِجَازِ
وَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ.
وَأَمِيرُ الْعِرَاقِ النَّضْرُ بْنُ سَعِيدٍ الْحَرَشِيُّ وَقَدْ خَرَجَ عَلَيْهِ
الضَّحَّاكُ الْحَرُورِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَأَمِيرُ خُرَاسَانَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ، وَقَدْ خَرَجَ عَلَيْهِ
الْكَرْمَانِيُّ، وَالْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ.
وَمِمَّنْ تُوفِّي فِي هَذِهِ السَّنَةِ بُكَيْرُ بْنُ الْأَشَجِّ، وَسَعْدُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، وَعَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مَالِكٍ
الْجَزَرِيُّ، وَعُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ، وَمَالِكُ
بْنُ دِينَارٍ، وَوَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ
يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ النَّاقِصَ كَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابَ أَمَانٍ
حَتَّى خَرَجَ مِنْ بِلَادِ التُّرْكِ وَصَارَ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ،
وَرَجَعَ عَنْ مُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ.
وَأَنَّهُ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ نَائِبِ خُرَاسَانَ
وَحْشَةٌ وَمُنَافَسَاتٌ كَثِيرَةٌ يَطُولُ شَرْحُهَا، فَلَمَّا صَارَتِ
الْخِلَافَةُ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ اسْتَوْحَشَ الْحَارِثُ بْنُ
سُرَيْجٍ مِنْ ذَلِكَ، وَتَوَلَّى ابْنُ هُبَيْرَةَ نِيَابَةَ الْعِرَاقِ وَجَاءَتِ
الْبَيْعَةُ لِمَرْوَانَ، فَامْتَنَعَ الْحَارِثُ مِنْ قَبُولِهَا وَتَكَلَّمَ فِي
مَرْوَانَ وَجَاءَهُ سَلْمُ بْنُ أَحْوَزَ أَمِيرُ الشُّرْطَةِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ
رُءُوسِ الْأَجْنَادِ وَالْأُمَرَاءِ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَكُفَّ لِسَانَهُ
وَيَدَهُ، وَأَنْ لَا يُفَرِّقَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَبَى وَبَرَزَ
نَاحِيَةً عَنِ النَّاسِ، وَدَعَا نَصْرَ بْنَ سَيَّارٍ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ
مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَامْتَنَعَ نَصْرٌ مِنْ
مُوَافَقَتِهِ، وَاسْتَمَرَّ هُوَ عَلَى خُرُوجِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَمَرَ
الْجَهْمَ بْنَ صَفْوَانَ مَوْلَى بَنِي رَاسِبٍ، وَيُكَنَّى بِأَبِي مُحْرِزٍ -
وَهُوَ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْفِرْقَةُ الْجَهْمِيَّةُ - أَنْ يَقْرَأَ
كِتَابًا فِيهِ سِيرَةِ الْحَارِثِ عَلَى النَّاسِ، وَكَانَ الْحَارِثُ يَقُولُ:
أَنَا صَاحِبُ الرَّايَاتِ السُّودِ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ نَصْرٌ يَقُولُ: إِنْ
كُنْتَ ذَاكَ فَلَعَمْرِي إِنَّكُمُ الَّذِينَ تُخَرِّبُونَ سُورَ دِمَشْقَ
وَتُزِيلُونَ بَنِي أُمَيَّةَ فَخْذْ مِنِّي خَمْسَمِائَةِ رَأْسٍ وَمِائَتَيْ
بَعِيرٍ وَمَا شِئْتَ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَإِنْ كُنْتَ غَيْرَهُ فَقَدْ
أَهْلَكْتَ عَشِيرَتَكَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِالْحَارِثُ يَقُولُ: لَعَمْرِي إِنَّ
هَذَا لَكَائِنٌ. فَقَالَ لَهُ
نَصْرٌ: فَابْدَأْ بِالْكَرْمَانِيِّ أَوَّلًا، ثُمَّ سِرْ إِلَى الرَّيِّ وَأَنَا فِي طَاعَتِكَ إِذَا وَصَّلْتَهَا. ثُمَّ تَنَاظَرَ نَصْرٌ وَالْحَارِثُ وَرَضِيَا أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَالْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ فَحَكَمَا أَنْ يُعْزَلَ نَصْرٌ وَيَكُونَ الْأَمْرُ شُورَى، فَامْتَنَعَ نَصْرٌ مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ، وَلَزِمَ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَغَيْرُهُ قِرَاءَةَ سِيرَةِ الْحَارِثِ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَجَامِعِ وَالطُّرُقِ، فَاسْتَجَابَ لَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَجَمْعٌ غَفِيرٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ انْتَدَبَ لِقِتَالِهِ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْجُيُوشِ عَنْ أَمْرِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، فَقَصَدُوهُ فَحَاجَفَ دُونَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ طَائِفَةً كَثِيرَةً مِنْهُمُ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ، طَعَنَهُ رَجُلٌ فِي فِيهِ فَقَتَلَهُ، وَيُقَالُ: بَلْ أُسِرَ الْجَهْمُ فَأُوقِفُ بَيْنَ يَدَيْ سَلْمِ بْنِ أَحْوَزَ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ: إِنَّ لِي أَمَانًا مِنِ ابْنِكَ. فَقَالَ: مَا كَانَ لَهُ أَنْ يُؤَمِّنَكَ، وَلَوْ فَعَلَ مَا أَمَّنْتُكَ، وَلَوْ مَلَأْتَ هَذِهِ الْمُلَاءَةَ كَوَاكِبَ، وَأَنْزَلْتَ إِلَيَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مَا نَجَوْتَ، وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ فِي بَطْنِي لَشَقَقْتُ بَطْنِي حَتَّى أَقْتُلَكَ. وَأَمَرَ عَبْدَ رَبِّهِ بْنَ سِيسَنَ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ، وَالْكَرْمَانِيُّ عَلَى نَصْرٍ وَمُخَالَفَتِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاتِّبَاعِ أَئِمَّةِ الْهُدَى، وَتَحْرِيمِ الْمُنْكِرَاتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَاقْتَتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا، فَغَلَبَ الْكَرْمَانِيُّ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْحَارِثِ وَكَانَ رَاكِبًا عَلَى بَغْلٍ، فَتَحَوَّلَ عَنْهُ إِلَى فَرَسٍ، فَحَرَنَتْ أَنْ تَمْشِيَ، وَهَرَبَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْهُمْ سِوَى مِائَةٌ، فَأَدْرَكَهُ أَصْحَابُ الْكَرْمَانِيِّ فَقَتَلُوهُ تَحْتَ شَجَرَةِ زَيْتُونٍ، وَقِيلَ: تَحْتَ شَجَرَةِ غُبَيْرَاءَ. وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَحَدِ لَسِتٍّ بَقِيْنَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقُتِلَ مَعَهُ مِائَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ،
وَاحْتَاطَ الْكَرْمَانِيُّ عَلَى
حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ، وَأَخَذَ أَمْوَالَ مَنْ خَرَجَ مَعَهُ أَيْضًا،
وَأَمَرَ بِصَلْبِ الْحَارِثِ بِلَا رَأْسٍ عَلَى بَابِ مَدِينَةِ مَرْوَ،
وَلَمَّا بَلَغَ نَصْرَ بْنَ سَيَّارٍ مَقْتَلُ الْحَارِثِ قَالَ فِي ذَلِكَ:
يَا مُدْخِلَ الذُّلِّ عَلَى قَوْمِهِ بُعْدًا وَسُحْقًا لَكَ مِنْ هَالِكِ
شُؤْمُكَ أَرْدَى مُضَرًا كُلَّهَا
وَغَضَّ مِنْ قَوْمِكَ بِالْحَارِكِ مَا كَانَتِ الْأَزْدُ وَأَشْيَاعُهَا
تَطْمَعُ فِي عَمْرٍو وَلَا مَالِكِ وَلَا بَنِي سَعْدٍ إِذَا أَلْجَمُوا
كُلَّ طِمِرٍّ لَوْنُهُ حَالِكُ
وَقَدْ أَجَابَهُ عَبَّادُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ فِيمَا قَالَ:
أَلَّا يَا نَصْرُ قَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ وَقَدْ طَالَ التَّمَنِّيَ وَالرَّجَاءُ
وَأَصْبَحَتِ الْمَزُونُ بِأَرْضِ مَرْوٍ تُقَضِّي فِي الْحُكُومَةِ مَا تَشَاءُ
يَجُوزُ قَضَاؤُهَا فِي كُلِّ حُكْمٍ عَلَى مُضَرٍ وَإِنْ جَارَ الْقَضَاءُ
وَحِمْيَرُ فِي مَجَالِسِهَا قُعُودٌ تَرَقْرَقُ فِي رِقَابِهِمُ الدِّمَاءُ
فَإِنَّ مُضَرٌ بِذَا رَضِيَتْ وَذَلَّتْ فَطَالَ لَهَا الْمَذَلَّةُ وَالشَّقَاءُ
وَإِنْ هِيَ أَعَتَبَتْ فِيهَا وَإِلَّا فَحَلَّ عَلَى عَسَاكِرِهَا الْعَفَاءُ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَبَا
مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيَّ إِلَى
خُرَاسَانَ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى شِيعَتِهِمْ بِهَا: إِنَّ هَذَا أَبُو
مُسْلِمٍ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، وَقَدْ وَلَيْتُهُ عَلَى مَا غَلَبَ
عَلَيْهِ مِنْ أَرْضِ خُرَاسَانَ. فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو مُسْلِمٍ خُرَاسَانَ،
وَقَرَأَ عَلَى أَصْحَابِهِ هَذَا الْكِتَابَ، لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، وَلَمْ
يَعْمَلُوا بِهِ، وَأَعْرَضُوا عَنْهُ، وَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، فَرَجَعَ
إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، فَاشْتَكَاهُمْ
إِلَيْهِ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا قَابَلُوهُ بِهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، فَقَالَ لَهُ:
يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِنَّكَ رَجُلٌ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ ارْجِعْ
إِلَيْهِمْ وَعَلَيْكَ بِهَذَا الْحَيِّ مِنَ الْيَمَنِ فَالْزَمْهُمْ وَانْزِلْ
بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُتِمُّ هَذَا الْأَمْرَ إِلَّا بِهِمْ.
ثُمَّ حَذَّرَهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَحْيَاءِ، وَقَالَ لَهُ: إِنِ اسْتَطَعْتَ
أَنْ لَا تَدَعَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ لِسَانًا عَرَبِيًّا فَافْعَلْ، وَمَنْ
بَلَغَ مِنْ أَبْنَائِهِمْ خَمْسَةَ أَشْبَارٍ وَاتَّهَمْتَهُ فَاقْتُلْهُ،
وَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّيْخِ فَلَا تَعْصِهِ. يَعْنِي سُلَيْمَانَ بْنَ كَثِيرٍ،
وَسَيَأْتِي مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ فِيمَا
بَعْدُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الْخَارِجِيُّ فِي قَوْلِ
أَبِي مِخْنَفٍ وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الضَّحَّاكَ حَاصَرَ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِوَاسِطَ وَوَافَقَهُ عَلَى مُحَاصَرَتِهِ
مَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ، فَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَكَ فِي مُحَاصَرَتِي، وَلَكِنْ
عَلَيْكَ بِمَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ فَسِرْ إِلَيْهِ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ
اتَّبَعْتُكَ. فَاصْطَلَحَا عَلَى مُخَالَفَةِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ،
وَتَرَحَّلَ الضَّحَّاكُ عَنْهُ، وَسَارَ قَاصِدًا إِلَى قِتَالِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا اجْتَازَ الضَّحَّاكُ بِالْمَوْصِلِ كَاتَبَهُ
أَهْلُهَا، فَمَالَ إِلَيْهِمْ فَدَخَلَهَا، وَقَتَلَ
نَائِبَهَا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا،
وَبَلَغَ ذَلِكَ مَرْوَانَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ حِمْصَ، مَشْغُولٌ بِأَهْلِهَا
وَعَدَمِ مُبَايَعَتِهِمْ إِيَّاهُ، فَكَتَبَ إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَرْوَانَ - وَهُوَ نَائِبُهُ عَلَى الْجَزِيرَةِ - يَأْمُرُهُ أَنْ يُقَاتِلَ
الضَّحَّاكَ بِالْمَوْصِلِ فَسَارَ الضَّحَّاكُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَرْوَانَ وَكَانَ الضَّحَّاكُ قَدِ الْتَفَّ عَلَيْهِ مِائَةُ أَلْفٍ وَعِشْرُونَ
أَلْفًا، فَحَاصَرُوا نَصِيبِينَ، وَسَارَ مَرْوَانُ فِي طَلَبِهِ، فَالْتَقَيَا
هُنَالِكَ، فَاقْتَتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا جِدًّا، فَاقْتَحَمَ الضَّحَّاكُ عَنْ
فَرَسِهِ، وَتَرَجَّلَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ كُبَرَاءِ الْأُمَرَاءِ،
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ الضَّحَّاكُ فِي الْمَعْرَكَةِ،
وَحَجَزَ اللَّيْلُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَفَقَدَ أَصْحَابُ الضَّحَّاكِ
الضَّحَّاكَ وَشَكُّوا فِي أَمْرِهِ، حَتَّى أَخْبَرَهُمْ مَنْ شَاهَدَهُ قَدْ
قُتِلَ، فَبَكَوْا عَلَيْهِ وَنَاحُوا، وَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى مَرْوَانَ
فَبَعَثَ إِلَى الْمَعْرَكَةِ بِالْمَشَاعِلِ وَمَنْ يَعْرِفُ مَكَانَهُ بَيْنَ
الْقَتْلَى، فَلَمَّا وَجَدُوهُ جَاءُوا بِهِ إِلَى مَرْوَانَ وَهُوَ مَقْتُولٌ،
وَفِي رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ نَحْوٌ مَنْ عِشْرِينَ ضَرْبَةً، فَأَمَرَ بِرَأْسِهِ،
فَطِيفَ بِهِ فِي مَدَائِنِ الْجَزِيرَةِ.
وَاسْتَخْلَفَ الضَّحَّاكُ مِنْ بَعْدِهِ عَلَى جَيْشِهِ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ:
الْخَيْبَرِيُّ. فَالْتَفَّ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ جَيْشِ الضَّحَّاكِ وَالْتَفَّ
مَعَ الْخَيْبَرِيِّ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَأَهْلُ
بَيْتِهِ وَمَوَالِيهِ، وَالْجَيْشُ الَّذِي كَانُوا قَدْ بَايَعُوهُ فِي
السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ عَلَى الْخِلَافَةِ، وَخَلَعُوا مَرْوَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ
عَنِ الْخِلَافَةِ لِأَجْلِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا اقْتَتَلُوا مَعَ مَرْوَانَ
فَحَمَلَ الْخَيْبَرِيُّ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ شُجْعَانِ أَصْحَابِهِ عَلَى
مَرْوَانَ وَهُوَ فِي الْقَلْبِ، فَكَّرَ مُنْهَزِمًا، وَاتَّبَعُوهُ حَتَّى
أَخْرَجُوهُ مِنَ الْجَيْشِ، وَدَخَلُوا عَسْكَرَهُ، وَجَلَسَ
الْخَيْبَرِيُّ عَلَى فَرْشِهِ، هَذَا
وَمَيْمَنَةُ مَرْوَانَ ثَابِتَةٌ، وَعَلَيْهَا ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ
وَمَيْسَرَتُهُ أَيْضًا ثَابِتَةٌ، وَعَلَيْهَا إِسْحَاقُ بْنُ مُسْلِمٍ
الْعُقَيْلِيُّ. وَلَمَّا رَأَى عَبِيدَ الْعَسْكَرِ قِلَّةَ مَنْ مَعَ
الْخَيْبَرِيِّ وَأَنَّ الْمَيْمَنَةَ وَالْمَيْسَرَةَ مِنْ جَيْشِهِمْ
بَاقِيَتَانِ طَمِعُوا فِيهِ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ بِعُمُدِ الْخِيَامِ،
فَقَتَلُوهُ بِهَا، وَبَلَغَ مَقْتَلُهُ مَرْوَانَ وَقَدْ سَارَ عَنِ الْجَيْشِ
نَحْوًا مِنْ خَمْسَةِ أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٍ، فَرَجَعَ مَسْرُورًا، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُ
الْخَيْبَرِيِّ وَقَدْ وَلَّوْا عَلَيْهِمْ شَيَّبَانَ فَقَاتَلَهُمْ مَرْوَانُ
بَعْدَ ذَلِكَ بِالْكَرَادِيسِ، فَهَزَمَهُمْ.
وَفِيهَا بَعَثَ مَرْوَانُ الْحِمَارُ عَلَى إِمْرَةِ الْعِرَاقِ يَزِيدَ بْنَ
عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ لِيُقَاتِلَ مَنْ بِهَا مِنَ الْخَوَارِجِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ نَائِبُ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَأَمِيرُ
الْعِرَاقِ يَزِيدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ، وَأَمِيرُ خُرَاسَانَ نَصْرُ
بْنُ سَيَّارٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ: بَكْرُ بْنُ سَوَادَةَ، وَجَابِرٌ
الْجَعْفِيُّ، وَالْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ مَقْتُولًا كَمَا تَقَدَّمَ
وَالْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ أَحَدُ كُبَرَاءِ الْأُمَرَاءِ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَتِهِ وَعَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ، وَأَبُو حَصِينٍ عُثْمَانُ بْنُ عَاصِمٍ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، وَأَبُو الْتَّيَّاحِ يَزِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ الْمَكَّيُّ، وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، وَأَبُو قَبِيلٍ الْمَعَافِرِيُّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرَاجِمَهُمْ فِي كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ ".
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا اجْتَمَعَتِ الْخَوَارِجُ بَعْدَ الْخَيْبَرِيِّ عَلَى شَيْبَانَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحُلَيْسِ الْيَشْكُرِيِّ الْخَارِجِيِّ فَأَشَارَ
عَلَيْهِمْ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ أَنْ يَتَحَصَّنُوا بِالْمَوْصِلِ
وَيَجْعَلُوهَا مَنْزِلًا لَهُمْ، فَتَحَوَّلُوا إِلَيْهَا، وَتَبِعَهُمْ
مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَعَسْكَرُوا بِظَاهِرِهَا،
وَخَنْدَقُوا عَلَيْهِمْ مِمَّا يَلِي جَيْشَ مَرْوَانَ وَقَدْ خَنْدَقَ مَرْوَانُ
عَلَى جَيْشِهِ أَيْضًا مِنْ نَاحِيَتِهِمْ، وَأَقَامَ سَنَةً يُحَاصِرُهُمْ
وَيَقْتَتِلُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، وَظَفَرَ مَرْوَانُ
بِابْنِ أَخٍ لِسُلَيْمَانَ بْنِ هِشَامٍ وَهُوَ أُمَيَّةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ
هِشَامٍ، أَسَرهُ بَعْضُ جَيْشِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَتْ يَدَاهُ، ثُمَّ
ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَعَمُّهُ سُلَيْمَانُ وَالْجَيْشُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ.
وَكَتَبَ مَرْوَانُ إِلَى نَائِبِهِ بِالْعِرَاقِ يَزِيدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ
يَأْمُرُهُ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ فِي بِلَادِهِ، فَجَرَتْ لَهُ
مَعَهُمْ وَقَعَاتٌ عَدِيدَةٌ، فَظَفِرَ بِهِمُ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَأَبَادَ
خَضْرَاءَهُمْ، وَلَمْ يُبْقِ لَهُمْ بَقِيَّةً بِالْعِرَاقِ وَاسْتَنْقَذَ
الْكُوفَةَ مَنْ أَيْدِيهِمْ، وَكَانَ عَلَيْهَا الْمُثَنَّى بْنُ عِمْرَانَ
الْعَائِذِيُّ - عَائِذَةُ قُرَيْشٍ - فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَكَتَبَ مَرْوَانُ إِلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الْخَوَارِجِ أَنْ
يُمِدَّهُ بِعَامِرِ بْنِ ضُبَارَةَ - وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ - فَبَعَثَهُ فِي
سِتَّةِ آلَافٍ أَوْ ثَمَانِيَةِ آلَافٍ، فَأَرْسَلَتِ الْخَوَارِجُ إِلَيْهِ
سَرِيَّةً فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَاعْتَرَضُوهُ فِي الطَّرِيقِ، فَهَزَمَهُمُ
ابْنُ ضُبَارَةَ وَقَتَلَ أَمِيرَهُمُ الْجَوْنَ بْنَ كِلَابٍ الشَّيْبَانِيَّ
الْخَارِجِيَّ وَأَقْبَلَ نَحْوَ الْمَوْصِلِ،
أَوَّلُ ظُهُورِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ بِخُرَاسَانَ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق