الاثنين، 2 أغسطس 2021

- 29//2 البداية والنهاية لابن كثير

 

- 29//2     البداية والنهاية لابن كثير

 فِي صَفَرٍ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ بَرْكْيَارُوقُ إِلَى بَغْدَادَ وَنَزَلَ بِدَارِ الْمُلْكِ، وَأُعِيدَتْ لَهُ الْخُطْبَةُ بِبَغْدَادَ، وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ أَخِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَلِكْشَاهْ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ هَدِيَّةً هَائِلَةً، وَفَرِحَ بِهِ الْعَوَامُّ وَالنِّسَاءُ ; وَلَكِنَّهُ فِي ضِيقٍ مِنْ أَمْرِ أَخِيهِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ ; لِإِقْبَالِ الدَّوْلَةِ عَلَيْهِ وَاجْتِمَاعِهِمْ إِلَيْهِ، وَقِلَّةِ مَا مَعَهُ مِنْ أَمْوَالٍ، وَمُطَالَبَةِ الْجُنْدِ لَهُ بِأَرْزَاقِهِمْ، فَعَزَمَ عَلَى مُصَادَرَةِ الْوَزِيرِ ابْنِ جَهِيرٍ فَالْتَجَأَ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى الْمُصَالَحَةِ عَنْهُ بِمِائَةٍ وَسِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ الْتَقَى هُوَ وَأَخُوهُ مُحَمَّدٌ بِمَكَانٍ قَرِيبٍ مِنْ هَمَذَانَ فَهَزَمَهُ أَخُوهُ مُحَمَّدٌ، وَنَجَا هُوَ بِنَفْسِهِ فِي خَمْسِينَ فَارِسًا، وَقُتِلَ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ سَعْدُ الدَّوْلَةِ كُوَهْرَائِينُ الْخَادِمُ وَكَانَ قَدِيمَ الْهِجْرَةِ فِي الدَّوْلَةِ وَقَدْ وَلِيَ شِحْنَكِيَّةَ بَغْدَادَ، وَكَانَ حَلِيمًا حَسَنَ السِّيرَةِ لَمْ يَتَعَمَّدْ ظُلْمًا، وَلَمْ يَرَ خَادِمٌ مَا رَأَى مِنَ الْحِشْمَةِ وَالْحُرْمَةِ وَكَثْرَةِ الْخِدْمَةِ، وَقَدْ كَانَ يُكْثِرُ الصَّلَاةَ بِاللَّيْلِ وَلَا يَجْلِسُ إِلَّا عَلَى وُضُوءٍ، وَلَمْ يَمْرَضْ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَلَمْ يُصْدَعْ قَطُّ، وَلَمَّا جَرَى مَا جَرَى فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ ضَعُفَ أَمْرُ السُّلْطَانِ بَرْكْيَارُوقَ، ثُمَّ تَرَاجَعَ إِلَيْهِ جَيْشُهُ،

وَانْضَافَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ دَاوُدُ حَبَشِيٌّ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا فَالتَقَى مَعَ أَخِيهِ الْآخَرِ سَنْجَرَ، فَهَزَمَهُ سَنْجَرُ أَيْضًا، وَأُسِرَ دَاوُدُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ، فَقَتَلَهُ الْأَمِيرُ بُزْغُشُ أَحَدُ أُمَرَاءِ سَنْجَرَ فَضَعُفَ جَانِبُ بَرْكْيَارُوقَ وَتَقَهْقَرَ حَالُهُ وَتَفَرَّقَتْ عَنْهُ رِجَالُهُ، وَقُطِعَتْ خُطْبَتُهُ مِنْ بَغْدَادَ فِي رَابِعَ عَشَرَ رَجَبٍ، وَأُعِيدَتْ خُطْبَةُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ.
وَفِي رَمَضَانَ قُبِضَ عَلَى الْوَزِيرِ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ ابْنِ جَهِيرٍ وَعَلَى أَخَوَيْهِ ; زَعِيمِ الرُّؤَسَاءِ أَبِي الْقَاسِمِ وَأَبِي الْبَرَكَاتِ الْمُلَقَّبِ بِالْكَافِي، وَأُخِذَتْ مِنْهُمْ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَحُبِسَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ حَتَّى مَاتَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَفِي اللَّيْلَةِ السَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ قُتِلَ شِحْنَةُ أَصْبَهَانَ ضَرَبَهُ بَاطِنِيٌّ بِسِكِّينٍ فِي خَاصِرَتِهِ، وَقَدْ كَانَ يَتَحَرَّزُ مِنْهُمْ طُولَ مُبَاشَرَتِهِ، وَيَدَّرِعُ تَحْتَ ثِيَابِهِ سِوَى هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَمَاتَ مِنْ أَوْلَادِهِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ جَمَاعَةٌ فَخَرَجَ مِنْ دَارِهِ خَمْسُ جَنَائِزَ مِنْ صَبِيحَتِهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَقْبَلَ مَلِكُ الْفِرِنْجِ فِي ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَالْتَقَى مَعَهُ كُمُشْتِكِينُ ابْنُ الدَّانِشْمَنْدِ طَايْلُو أَتَابِكُ الْجُيُوشِ بِ دِمَشْقَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: أَمِينُ الدَّوْلَةِ، وَاقِفُ الْأَمِينِيَّةِ بِدِمَشْقَ وَبِبُصْرَى، - لَا الَّتِي بِبَعْلَبَكَّ - فَهَزَمَ الْفِرِنْجَ

وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا ; بِحَيْثُ لَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ سِوَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَأَكْثَرُهُمْ جَرْحَى - يَعْنِي الثَّلَاثَةَ آلَافٍ - وَذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَحِقَهُمْ إِلَى مَلَطْيَةَ فَمَلَكَهَا، وَأَسَرَ مَلِكَهَا؛ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ التُّونْتَاشُ التُّرْكِيُّ وَكَانَ شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

عَبْدُ الرَّزَّاقِ الْغَزْنَوِيُّ الصُّوفِيُّ، شَيْخُ رِبَاطِ عَتَّابٍ، حَجَّ مَرَّاتٍ عَلَى التَّجْرِيدِ، مَاتَ وَلَهُ نَحْوُ مِائَةِ سَنَةٍ، وَلَمْ يَتْرُكْ كَفَنًا، وَقَدْ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ وَهُوَ فِي الِاحْتِضَارِ: سَتُفْتَضَحُ الْيَوْمَ ; لَا يُوجَدُ لَكَ كَفَنٌ، فَقَالَ لَهَا: لَوْ تَرَكْتُ كَفَنًا لَافْتُضِحْتُ.
وَعَكْسُهُ أَبُو الْحَسَنِ الْبِسْطَامِيُّ
شَيْخُ رِبَاطِ ابْنِ الْمِحْلِبَانِ، كَانَ لَا يَلْبَسُ إِلَّا الصُّوفَ شِتَاءً وَصَيْفًا، وَيُظْهِرُ الزُّهْدَ، وَحِينَ تُوُفِّيَ وُجِدَ لَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِينَارٍ مَدْفُونَةٌ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ حَالَيْهِمَا، وَاتِّفَاقِ مَوْتِهِمَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَرَحِمَ اللَّهُ الْأَوَّلَ وَسَامَحَ الثَّانِي.
الْوَزِيرُ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ ابْنُ جَهِيرٍ، مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَهِيرٍ الْوَزِيرُ الْكَبِيرُ
أَبُو مَنْصُورٍ، الْمُلَقَّبُ عَمِيدَ الدَّوْلَةِ كَانَ أَحَدَ رُؤَسَاءِ الْوُزَرَاءِ وَسَادَاتِ الْكُبَرَاءِ، خَدَمَ ثَلَاثَةً مِنَ الْخُلَفَاءِ وَوَزَرَ لِاثْنَيْنِ مِنْهُمْ، وَكَانَ حَلِيمًا قَلِيلَ الْعَجَلَةِ ;

إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُتَكَلَّمُ فِيهِ بِسَبَبِ الْكِبْرِ، وَقَدْ وَلِيَ الْوَزَارَةَ مَرَّاتٍ ; يُعْزَلُ ثُمَّ يُعَادُ، ثُمَّ كَانَ آخِرَهَا هَذِهِ الْمَرَّةُ، حُبِسَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ السِّجْنِ إِلَّا مَيِّتًا فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
ابْنُ جَزْلَةَ الطَّبِيبُ
يَحْيَى بْنُ عِيسَى بْنِ جَزْلَةَ، صَاحِبُ " الْمِنْهَاجِ " فِي الطِّبِّ، كَانَ نَصْرَانِيًّا وَكَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَى الشَّيْخِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ الْوَلِيدِ الْمُعْتَزِلِيِّ يَشْتَغِلُ عَلَيْهِ فِي الْمَنْطِقِ، فَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُوَضِّحُ لَهُ الدَّلَالَاتِ حَتَّى أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَاسْتَخْلَفَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيُّ قَاضِي الْقُضَاةِ فِي كَتْبِ السِّجِلَّاتِ، ثُمَّ كَانَ يُطَبِّبُ النَّاسَ بَعْدَ ذَلِكَ بِلَا أُجْرَةٍ، وَرُبَّمَا رَكَّبَ لَهُمُ الْأَدْوِيَةَ مِنْ مَالِهِ تَبَرُّعًا، وَقَدْ أَوْصَى بِكُتُبِهِ أَنْ تَكُونَ وَقْفًا بِمَشْهَدِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ

فِيهَا عَظُمَ الْخَطْبُ بِأَصْبَهَانَ وَنَوَاحِيهَا بِالْبَاطِنِيَّةِ، فَقَتَلَ السُّلْطَانُ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأُبِيحَتْ دِيَارُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ لِلْعَامَّةِ، كُلُّ مَنْ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ فَلَهُمْ قَتْلُهُ وَمَالُهُ، وَكَانُوا قَدِ اسْتَحْوَذُوا عَلَى قِلَاعٍ كَثِيرَةٍ ; وَأَوَّلُ قَلْعَةٍ مَلَكُوهَا فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ، وَكَانَ الَّذِي مَلَكَهَا الْحَسَنَ بْنَ الصَّبَّاحِ أَحَدَ دُعَاتِهِمْ، وَكَانَ قَدْ دَخَلَ مِصْرَ وَتَعَلَّمَ مِنَ الزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ كَانُوا بِهَا، ثُمَّ صَارَ إِلَى تِلْكَ النَّوَاحِي بِبِلَادِ أَصْبَهَانَ فَكَانَ لَا يَدْعُو إِلَّا غَبِيًّا لَا يَعْرِفُ يَمِينَهُ مِنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ يُطْعِمُهُ الْعَسَلَ بِالْجَوْزِ وَالشُّونِيْزِ حَتَّى يَحْتَرِقَ مِزَاجُهُ وَيَفْسُدَ دِمَاغُهُ، ثُمَّ يَذْكُرُ لَهُ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَيَكْذِبُ لَهُ مِنْ أَقَاوِيلِ الرَّافِضَةِ الضُّلَّالِ ; أَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَمُنِعُوا حَقَّهُمْ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: فَإِذَا كَانَتِ الْخَوَارِجُ تُقَاتِلُ مَعَ بَنِي أُمَيَّةَ لِعَلِيٍّ ; فَأَنْتَ أَحَقُّ أَنْ تُقَاتِلَ فِي نُصْرَةِ إِمَامِكَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَا يَزَالُ يَسْقِيهِ مِنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ حَتَّى يَسْتَجِيبَ لَهُ، وَيَصِيرَ أَطْوَعَ لَهُ مِنْ أُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَيُظْهِرُ لَهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنَ الْمَخْرَقَةِ وَالنِّيرَنْجَاتِ وَالْحِيَلِ الَّتِي لَا تَرُوجُ إِلَّا عَلَى الْجُهَّالِ ; حَتَّى الْتَفَّ عَلَيْهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ يَتَهَدَّدُهُ وَيَنْهَاهُ عَنْ بَعْثِهِ الْفِدَاوِيَّةَ إِلَى الْعُلَمَاءِ، فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنَ الشَّبَابِ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُرْسِلَ مِنْكُمْ رَسُولًا إِلَى مَوْلَاهُ، فَاشْرَأَبَّتْ وُجُوهُ الْحَاضِرِينَ،

مِنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ لِشَابٍ مِنْهُمْ: اقْتُلْ نَفْسَكَ، فَأَخْرَجَ سِكِّينًا فَضَرَبَ بِهَا غَلْصَمَتَهُ، فَسَقَطَ مَيِّتًا، وَقَالَ لِآخَرَ مِنْهُمْ: أَلْقِ نَفْسَكَ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ فَرَمَى نَفْسَهُ مِنْ رَأْسِ الْقَلْعَةِ إِلَى أَسْفَلِ خَنْدَقِهَا فَتَقَطَّعَ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ: هَذَا الْجَوَابُ فَمِنْهَا امْتَنَعَ السُّلْطَانُ مِنْ مُرَاسَلَتِهِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَسَيَأْتِي أَنَّ الْمَلِكَ صَلَاحَ الدِّينِ فَاتِحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، جَرَى لَهُ مَعَ سِنَانٍ صَاحِبِ الْإِيوَانِ مِثْلُ هَذَا.
وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ بِفَتْحِ جَامِعِ الْقَصْرِ وَأَنْ يُبَيَّضَ وَأَنْ يُصَلَّى فِيهِ التَّرَاوِيحُ، وَأَنْ يُجْهَرَ بِالْبَسْمَلَةِ، وَأَنْ يُمْنَعَ النِّسَاءُ مِنَ الْخُرُوجِ لَيْلًا لِلْفُرْجَةِ.
وَفِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ السُّلْطَانُ بَرْكْيَارُوقُ إِلَى بَغْدَادَ فَخُطِبَ لَهُ بِهَا، ثُمَّ لَحِقَهُ أَخَوَاهُ مُحَمَّدٌ وَسَنْجَرُ، فَدَخَلَاهَا، وَهُوَ مَرِيضٌ فَعَبَرَا فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَقُطِعَتْ خُطْبَتُهُ، وَخُطِبَ لَهُمَا بِهَا وَهَرَبَ بَرْكْيَارُوقُ إِلَى وَاسِطٍ، وَنَهَبَ جَيْشُهُ مَا اجْتَازُوا بِهِ مِنَ الْبِلَادِ وَالْأَرَاضِي، فَنَهَاهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ ذَلِكَ وَوَعَظَهُ، فَلَمْ يُفِدْ شَيْئًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَتِ الْفِرِنْجُ قِلَاعًا كَثِيرَةً ; مِنْهَا قَيْسَارِيَّةُ وَسَرُوجُ، وَسَارَ مَلِكُ الْفِرِنْجِ كُنْدُفْرِي، وَهُوَ الَّذِي أَخَذَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَى عَكَّا فَحَاصَرَهَا فَجَاءَهُ سَهْمٌ فِي عُنُقِهِ فَمَاتَ مِنْ فَوْرِهِ، أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَجْنَادِهِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الصَّبَّاغِ أَبُو مَنْصُورٍ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ ثُمَّ عَلَى عَمِّهِ أَبِي نَصْرِ بْنِ الصَّبَّاغِ، وَكَانَ فَقِيهًا فَاضِلًا كَثِيرَ الصَّلَاةِ، يَصُومُ الدَّهْرَ، وَقَدْ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِرَبْعِ الْكَرْخِ، وَالْحِسْبَةَ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ
أَبُو مُحَمَّدٍ الطَبَسِيُّ، رَحَلَ وَجَمَعَ وَصَنَّفَ وَكَانَ أَحَدَ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ، ثِقَةً، صَدُوقًا، عَالِمًا بِالْحَدِيثِ، وَرِعًا، حَسَنَ الْخُلُقِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ السَّرْخَسِيُّ، نَزَلَ مَرْوَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَأَمْلَى، وَرَحَلَ إِلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَكَانَ حَافِظًا لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مُتَدَيِّنًا، وَرِعًا؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَزِيزِي بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَنْصُورٍ
أَبُو الْمَعَالِي الْجِيلِيُّ الْقَاضِي، الْمُلَقَّبُ شَيْذَلَهْ، كَانَ شَافِعِيًّا فِي الْفُرُوعِ أَشْعَرِيًّا فِي الْأُصُولِ، وَكَانَ حَاكِمًا بِبَابِ

الْأَزَجِ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ بَابِ الْأَزَجِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ شَنَآنٌ كَبِيرٌ، سَمِعَ رَجُلًا يُنَادِي عَلَى حِمَارٍ لَهُ ضَائِعٍ فَقَالَ: يَدْخُلُ بَابَ الْأَزَجِ وَيَأْخُذُ بِيَدِ مَنْ شَاءَ. وَقَالَ يَوْمًا لِلنَّقِيبِ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيِّ: لَوْ حَلَفَ إِنْسَانٌ أَنَّهُ لَا يَرَى إِنْسَانًا فَرَأَى أَهْلَ بَابَ الْأَزَجِ لَمْ يَحْنَثْ، فَقَالَ لَهُ الشَّرِيفُ: مَنْ عَاشَرَ قَوْمًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَهُوَ مِنْهُمْ، وَلِهَذَا لَمَّا مَاتَ فَرِحُوا بِمَوْتِهِ كَثِيرًا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَوْقٍ
أَبُو الْفَضَائِلِ الرَّبَعِيُّ الْمَوْصِلِيُّ تَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَسَمِعَ مِنَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً، صَالِحًا، كَتَبَ الْكَثِيرَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّاذَانِيُّ نَزَلَ أَوَانَا، وَكَانَ مُقْرِئًا، فَقِيهًا، صَالِحًا، لَهُ أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ وَمُكَاشَفَاتٌ، أَخَذَ عَنِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ الْحَدِيثَ وَغَيْرِهِ.

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: بَلَغَنِي أَنَّ ابْنًا لَهُ صَغِيرًا طَلَبَ مِنْهُ غَزَالًا وَأَلَحَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ غَدًا يَأْتِيكَ غَزَالٌ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَتَى غَزَالٌ فَجَعَلَ يَنْطَحُ الْبَابَ بِقَرْنَيْهِ حَتَّى يَفْتَحَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ يَا بُنَيَّ أَتَاكَ الْغَزَالُ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ وَدْعَانَ
أَبُو نَصْرٍ الْمَوْصِلِيُّ الْقَاضِي، قَدِمَ بَغْدَادَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَحَدَّثَ عَنْ عَمِّهِ بِ " الْأَرْبَعِينَ الْوَدْعَانِيَّةِ " وَقَدْ سَرَقَهَا عَمُّهُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ وَدْعَانَ مِنْ زَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ الْهَاشِمِيِّ، فَرَكَّبَ لَهَا أَسَانِيدَ إِلَى مَنْ بَعْدَ زَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ كُلُّهَا، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا مَعَانٍ صَحِيحَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ
أَبُو سَعْدٍ الْمُسْتَوْفِي، شَرَفُ الْمُلْكِ الْخُوَارَزْمِيُّ، جَلِيلُ الْقَدْرِ، وَكَانَ مُتَعَصِّبًا لِأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَوَقَفَ لَهُمْ مَدْرَسَةً بِمَرْوَ، وَوَقَفَ فِيهَا كُتُبًا كَثِيرَةً وَبَنَى مَدْرَسَةً بِبَغْدَادَ عِنْدَ بَابِ الطَّاقِ وَبَنَى الْقُبَّةَ عَلَى قَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبَنَى أَرْبِطَةً فِي الْمَفَاوِزِ وَعَمِلَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَكَانَ مِنْ أَطْيَبِ النَّاسِ مَأْكَلًا وَمَشْرَبًا وَأَحْسَنِهِمْ مَلْبَسًا وَأَكْثَرِهِمْ مَالًا، ثُمَّ تَرَكَ الْعِمَالَةَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِنَفْسِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْقُشَيْرِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِعَمِيدِ خُرَاسَانَ، قَدِمَ بَغْدَادَ أَيَّامَ طُغْرُلْبَكَ، وَحَدَّثَ عَنْ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَسْرُورٍ، وَكَانَ

كَثِيرَ الرَّغْبَةِ فِي الْخَيْرِ، وَقَفَ بِمَرْوَ مَدْرَسَةً عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيِّ وَذُرِّيَّتِهِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَهُمْ يَتَوَلَّوْنَهَا إِلَى الْآنِ، وَبَنَى بِنَيْسَابُورَ مَدْرَسَةً وَفِيهَا تُرْبَتُهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْبَطِرِ أَبُو الْخَطَّابِ الْبَزَّازُ الْقَارِئُ.
وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَتَفَرَّدَ عَنِ ابْنِ رِزْقَوَيْهِ، وَغَيْرِهِ، وَطَالَ عُمْرُهُ، وَرُحِلَ إِلَيْهِ مِنَ الْآفَاقِ، وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ صَحِيحَ السَّمَاعِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي ثَالِثِ الْمُحَرَّمِ قُبِضَ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفِ بِإِلْكِيَا الْهَرَّاسِيِّ وَعُزِلَ عَنْ تَدْرِيسِ النِّظَامِيَّةِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ رَمَاهُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ السُّلْطَانِ بِأَنَّهُ بَاطِنِيٌّ، فَشَهِدَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ ابْنُ عَقِيلٍ بِبَرَاءَتِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَجَاءَتِ الرِّسَالَةُ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ بِخَلَاصِهِ.
وَفِيهَا فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ حَادِي عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ جَلَسَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَظْهِرُ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَعَلَى كَتِفَيْهِ الْبُرْدَةُ وَبِيَدِهِ الْقَضِيبُ، وَجَاءَ الْمَلِكَانِ الْأَخَوَانِ مُحَمَّدٌ وَسَنْجَرُ أَبْنَاءُ مَلِكْشَاهْ فَقَبَّلَا الْأَرْضَ وَخَلَعَ عَلَيْهِمَا الْخِلَعَ السُّلْطَانِيَّةِ ; عَلَى مُحَمَّدٍ سَيْفًا وَطَوْقًا وَسُوَارًا وَلِوَاءً وَأَفْرَاسًا مِنْ مَرَاكِبِهِ، وَعَلَى سَنْجَرَ دُونَ ذَلِكَ.
وَوَلَّى الْخَلِيفَةُ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا الْمُلْكَ، وَاسْتَنَابَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْخِلَافَةِ ; دُونَ مَا أَغْلَقَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ بَابَهُ، ثُمَّ خَرَجَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ فِي تَاسِعِ عَشَرَ الشَّهْرِ، فَأَرْجَفَ النَّاسُ بِقُدُومِ بَرْكْيَارُوقَ ثُمَّ اصْطَلَحُوا عَلَى أُمُورٍ، فَرَكِبَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ، فَالْتَقَوْا وَجَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَانْهَزَمَ مُحَمَّدٌ وَجَرَى عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ شَدِيدٌ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانَهُ.
وَفِي رَجَبٍ قَبِلَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيُّ شَهَادَةَ أَبِي الْحُسَيْنِ وَأَبِي خَازِمٍ ابْنَيِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ. وَفِيهَا قَدِمَ عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْغَزْنَوِيُّ،

فَوَعَظَ النَّاسَ، وَكَانَ شَافِعِيًّا أَشْعَرِيًّا، فَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْحَنَابِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ بِبَغْدَادَ.
وَفِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِبَغْدَادَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ حُمَيْدٌ الْعُمَرِيُّ صَاحِبُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ دُبَيْسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيِّ، صَاحِبُ الْحِلَّةِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَبُو الْقَاسِمِ صَاحِبُ مِصْرَ، الْمُلَقَّبُ بِالْمُسْتَعْلِي فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ ابْنُهُ عَلِيٌّ وَلَهُ تِسْعُ سِنِينَ، وَلُقِّبَ الْآمِرَ بِأَحْكَامِ اللَّهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ
أَبُو نَصْرٍ الْقَاضِي الْبَنْدَنِيجِيُّ الضَّرِيرُ الشَّافِعِيُّ، أَخَذَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ ثُمَّ جَاوَرَ بِمَكَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، يُفْتِي وَيُدَرِّسُ، وَيَرْوِي الْحَدِيثَ، وَكَانَ مِنْ نَوَادِرِ الزَّمَانِ، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
عَدِمْتُكِ نَفْسِي مَا تَمَلِّي بَطَالَتِي وَقَدْ مَرَّ إِخْوَانِي وَأَهْلُ مَوَدَّتِي أُعَاهِدُ رَبِّي ثُمَّ أَنْقُضُ عَهْدَهُ
وَأَتْرُكُ عَزْمِي حِينَ تُعْرِضُ شَهْوَتِي وَزَادِي قَلِيلٌ مَا أَرَاهُ مُبَلِّغِي
أَلِلزَّادِ أَبْكِي أَمْ لِطُولِ مَسَافَتِي ؟

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا حَاصَرَ السُّلْطَانُ بَرْكْيَارُوقُ أَخَاهُ مُحَمَّدًا بَأَصْبَهَانَ، فَضَاقَتْ عَلَى أَهْلِهَا الْأَرْزَاقُ وَاشْتَدَّ الْغَلَاءُ عِنْدَهُمْ جِدًّا، وَأَخَذَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ أَهْلَهَا بِالْمُصَادَرَةِ، وَالْحِصَارُ حَوْلَهُمْ مِنْ خَارِجِ الْبَلَدِ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمُ الْخَوْفُ وَالْجُوعُ وَالنَّقْصُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، ثُمَّ خَرَجَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ مِنْ أَصْبَهَانَ هَارِبًا، فَأَرْسَلَ أَخُوهُ فِي أَثَرِهِ مَمْلُوكَهُ إِيَازَ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ قَبْضِهِ، وَنَجَا بِنَفْسِهِ سَالِمًا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي صَفَرٍ مِنْهَا زِيدَ فِي أَلْقَابِ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبِي الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيِّ: تَاجُ الْإِسْلَامِ. وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قُطِعَتِ الْخُطْبَةُ لِلسَّلَاطِينِ بِبَغْدَادَ وَاقْتُصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْخَلِيفَةِ فِيهَا وَالدُّعَاءِ لَهُ.
ثُمَّ الْتَقَى الْأَخَوَانِ بَرْكْيَارُوقُ وَمُحَمَّدٌ فَانْهَزَمَ مُحَمَّدٌ أَيْضًا ثُمَّ اصْطَلَحَا. وَفِيهَا مَلَكَ دُقَاقُ بْنُ تُتُشَ بْنِ مَلِكْشَاهْ صَاحِبُ دِمَشْقَ مَدِينَةَ الرَّحْبَةِ، وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو الْمُظَفَّرِ الْخُجَنْدِيُّ الْوَاعِظُ بِالرَّيِّ، وَكَانَ فَقِيهًا شَافِعِيًّا مُدَرِّسًا، قَتَلَهُ رَافِضِيٌّ عَلَوِيٌّ فِي الْفِتْنَةِ، وَكَانَ عَالِمًا فَاضِلًا، وَكَانَ نِظَامُ الْمُلْكِ يَزُورُهُ وَيُعَظِّمُهُ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ خُمَارْتِكِينُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِوَارٍ
أَبُو طَاهِرٍ الْمُقْرِئُ صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ كَانَ ثِقَةً ثَبَتًا مَأْمُونًا عَالِمًا بِهَذَا الشَّأْنِ، قَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَبُو الْمَعَالِي
أَحَدُ الصُّلَحَاءِ الزُّهَّادِ ذَوِي الْكَرَامَاتِ وَالْمُكَاشَفَاتِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ مُتَقَلِّلًا مِنَ الدُّنْيَا، لَا يَلْبَسُ صَيْفًا وَلَا شِتَاءً إِلَّا قَمِيصًا وَاحِدًا، فَإِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ وَضَعَ عَلَى كَتِفِهِ مِئْزَرًا، وَذُكِرَ أَنَّهُ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ شَدِيدَةٌ فِي رَمَضَانَ فَعَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ ; لِيَسْتَقْرِضَ مِنْهُ شَيْئًا، قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا أُرِيدُهُ إِذَا بِطَائِرٍ قَدْ سَقَطَ عَلَى كَتِفِي وَقَالَ: يَا أَبَا الْمَعَالِي، أَنَا الْمَلَكُ الْفُلَانِيُّ لَا تَمْضِ إِلَيْهِ ; نَحْنُ نَأْتِيكَ بِهِ قَالَ فَبَكَّرَ إِلَيَّ الرَّجُلُ، رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُنْتَظَمِهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْهُ، كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ قَرِيبًا مِنْ قَبْرِ أَحْمَدَ.
السَّيِّدَةُ بِنْتُ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
الَّتِي تَزَوَّجَهَا طُغْرُلْبَكَ تُوُفِّيَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَتْ بِالرُّصَافَةِ، وَكَانَتْ كَثِيرَةَ الصَّدَقَةِ وَالْإِيثَارِ، وَجَلَسَ لِعَزَائِهَا فِي بَيْتِ النُّوبَةِ الْوَزِيرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا قَصَدَ الْفِرِنْجُ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - الشَّامَ فَقَاتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَقَتَلُوا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَقَدْ أُسِرَ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ بَرْدَوِيلُ صَاحِبُ الرُّهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَقَطَتْ مَنَارَةُ وَاسِطٍ، وَقَدُ كَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ الْمَنَائِرِ، كَانَ أَهْلُ الْبَلَدِ يَفْتَخِرُونَ بِهَا وَبِقُبَّةِ الْحَجَّاجِ، فَلَمَّا سَقَطَتْ سُمِعَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ بُكَاءٌ وَعَوِيلٌ شَدِيدٌ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَهْلِكْ بِسَبَبِهَا أَحَدٌ، وَكَانَ بِنَاؤُهَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ فِي زَمَنِ الْمُقْتَدِرِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَأَكَّدَ الصُّلْحُ بَيْنَ السُّلْطَانَيْنِ الْأَخَوَيْنِ بَرْكْيَارُوقَ وَمُحَمَّدٍ، وَاقْتَسَمَا الْبِلَادَ فَقُطِعَتِ الْخُطْبَةُ بِبَغْدَادَ لِمُحَمَّدٍ وَاسْتَمَرَّتْ لِلْمَلِكِ بَرْكْيَارُوقَ، وَبُعِثَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ وَإِلَى الْأَمِيرِ إِيَازَ وَفِيهَا أَخَذَتِ الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ عَكَّا وَغَيْرَهَا مِنَ السَّوَاحِلِ.
وَفِيهَا اسْتَوْلَى الْأَمِيرُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَنْصُورٍ صَاحِبُ الْحِلَّةِ عَلَى مَدِينَةِ وَاسِطٍ.. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمَلِكُ دُقَاقُ بْنُ تُتُشَ صَاحِبُ دِمَشْقَ، فَأَقَامَ مَمْلُوكُهُ طُغْتِكِينُ وَلَدًا لَهُ صَغِيرًا، مَكَانَهُ وَأَخَذَ الْبَيْعَةَ لَهُ، وَصَارَ هُوَ أَتَابِكَهُ، فَدَبَّرَا الْمُلْكَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً. وَفِيهَا عَزَلَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ وَزِيرَهُ أَبَا الْفَتْحِ الطُّغْرَائِيَّ وَنَفَاهُ إِلَى غَزْنَةَ.

وَفِيهَا وَلِيَ أَبُو نَصْرٍ نِظَامُ الْحَضْرَتَيْنِ دِيوَانَ الْإِنْشَاءِ بَعْدَ وَفَاةِ خَالِهِ أَبِي سَعْدٍ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُوصَلَايَا. وَفِيهَا قُتِلُ الطَّبِيبُ الْمَاهِرُ الْحَاذِقُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَكَانَتْ لَهُ إِصَابَاتٌ عَجِيبَةٌ جِدًّا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأَمِيرُ خُمَارْتِكِينُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَرْدَشِيرُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ الْوَاعِظُ، قَدِمَ بَغْدَادَ فَأَحَبَّتْهُ الْعَامَّةُ، فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَقَدْ كَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ جَيِّدَةٌ فِيمَا يَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ.
أَبُو الْفَرَجِ الْقُومَسَانِيُّ مِنْ أَهْلِ هَمَذَانَ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَجَمَاعَةٍ، وَكَانَ حَافِظًا، حَسَنَ الْمَعْرِفَةِ بِالرِّجَالِ وَالْمُتُونِ، ثِقَةً، مَأْمُونًا؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْعَلَاءُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ وَهْبِ بْنِ الْمُوصَلَايَا
سَعْدُ الدَّوْلَةِ كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ بِبَغْدَادَ، كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ، فَمَكَثَ فِي الرِّيَاسَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً نَحْوًا مِنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ فِي الْوَزَارَةِ مَرَّاتٍ، وَكَتَبَ الْإِنْشَاءَ

مُدَّةً، وَكَانَ فَصِيحَ الْعِبَارَةِ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ عُمْرٍ طَوِيلٍ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ
أَبُو عُمَرَ النَّهَاوَنْدِيُّ قَاضِي الْبَصْرَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَكَانَ فَقِيهًا، عَالِمًا، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِ، كَانَ مِنْ تَلَامِذَةِ الْمَاوَرْدِيِّ، مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ عَشْرٍ، وَقِيلَ: سَبْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ بَرْكْيَارُوقُ، وَعَهِدَ إِلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ مَلِكْشَاهْ وَعُمْرُهُ أَرْبَعُ سِنِينَ وَشُهُورٌ، فَخُطِبَ لَهُ بِبَغْدَادَ، وَنُثِرَ عِنْدَ ذِكْرِهِ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ، وَلُقِّبَ جَلَالَ الدَّوْلَةِ، وَجُعِلَ أَتَابِكُهُ الْأَمِيرَ إِيَازَ،، ثُمَّ جَاءَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدُ بْنُ مَلِكْشَاهْ إِلَى بَغْدَادَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الدَّوْلَةُ فَتَلَقَّوْهُ وَصَالَحُوهُ، وَكَانَ الَّذِي أَخَذَ الْبَيْعَةَ بِالصُّلْحِ إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيُّ مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ، وَخُطِبَ لَهُ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ وَلِابْنِ أَخِيهِ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، ثُمَّ قَتَلَ الْأَمِيرَ إِيَازَ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ وَحُمِلَتْ إِلَيْهِ الْخِلَعُ وَالدَّوَاةُ وَالدَّسْتُ.
وَحَضَرَ الْوَزِيرُ سَعْدُ الدَّوْلَةِ عِنْدَ إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيِّ فِي دَرْسِ النِّظَامِيَّةِ لِيُرَغِّبَ النَّاسَ فِي الْعِلْمِ.
وَفِي ثَانِي عَشَرَ رَجَبٍ مِنْهَا أُزِيلُ الْغِيَارُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الَّذِي كَانُوا أُلْزِمُوهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَلَا يُعْرَفُ مَا سَبَبُ ذَلِكَ، وَفِيهَا كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ مَا بَيْنَ الْمِصْرِيِّينَ وَالْفِرِنْجِ فَقَتَلُوا مِنَ الْفِرِنْجِ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ أُدِيلَ عَلَيْهِمُ الْفِرِنْجُ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا أَيْضًا.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

السُّلْطَانُ بَرْكْيَارُوقُ بْنُ مَلِكْشَاهْ رُكْنُ الدَّوْلَةِ السَّلْجُوقِيُّ، جَرَتْ لَهُ خُطُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَحُرُوبٌ هَائِلَةٌ، وَأَحْوَالٌ مُتَبَايِنَةٌ، خُطِبَ لَهُ بِبَغْدَادَ سِتَّ مَرَّاتٍ، وَعُزِلَ عَنْهَا سِتَّ مَرَّاتٍ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَشُهُورًا، وَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ مَلِكْشَاهْ فَلَمْ يَتِمَّ أَمْرُهُ ; بِسَبَبِ مُنَازَعَةِ عَمِّهِ مُحَمَّدٍ لَهُ.
عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ
أَبُو الْمُؤَيَّدِ الْغَزْنَوِيُّ الْأَشْعَرِيُّ كَانَ وَاعِظًا كَاتِبًا شَاعِرًا وَرَدَ بَغْدَادَ فَوَعَظَ بِهَا فَنَفَقَ عَلَى أَهْلِهَا، وَكَانَ أَشْعَرِيُّ الْمَذْهَبِ مُتَعَصِّبًا لَهُ، فَخَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ قَاصِدًا بَلَدَهُ فَتُوُفِّيَ بِإِسْفَرَايِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سِلَفَةَ الْأَصْبَهَانِيُّ
أَبُو أَحْمَدَ كَانَ شَيْخًا عَفِيفًا ثِقَةً سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَهُوَ وَالِدُ الْحَافِظِ أَبِي طَاهِرٍ السَّلَفِيِّ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَافِظُ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْغَسَّانِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ مُصَنِّفُ " تَقْيِيدِ الْمُهْمَلِ " عَلَى أَلْفَاظِ الصَّحِيحَيْنِ، وَهُوَ كِتَابٌ مُفِيدٌ كَثِيرُ النَّفْعِ، وَكَانَ حَسَنَ الْخَطِّ عَالِمًا بِاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ وَالْأَدَبِ، وَكَانَ يُسْمَعُ فِي جَامِعِ قُرْطُبَةَ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَعْبَانَ هَذِهِ السَّنَةَ، عَنْ

إِحْدَى وَسَبْعِينَ سَنَةً؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الصَّقْرِ
أَبُو الْحَسَنِ الْوَاسِطِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ بِالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَقَرَأَ الْأَدَبَ، وَقَالَ الشِّعْرَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
مَنْ قَالَ لِي جَاهٌ وَلِي حِشْمَةٌ وَلِي قَبُولٌ عِنْدَ مَوْلَانَا وَلَمْ يَعُدْ ذَاكَ بِنَفْعٍ عَلَى
صَدِيقِهِ لَا كَانَ مَنْ كَانَا

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا ادَّعَى رَجُلٌ النُّبُوَّةَ بِنَوَاحِي نَهَاوَنْدَ وَسَمَّى أَرْبَعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا، فَاتَّبَعَهُ عَلَى ضَلَالِهِ خَلْقٌ مِنَ الْجَهَلَةِ الرَّعَاعِ وَبَاعُوا أَمْلَاكَهُمْ وَدَفَعُوا أَثْمَانَهَا إِلَيْهِ، وَكَانَ كَرِيمًا يُعْطِي مَنْ قَصَدَهُ مَا عِنْدَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ قُتِلَ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ، لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَرَامَ رَجُلٌ آخَرُ مِنْ وَلَدِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ الْمُلْكَ فَلَمْ يَتِمَّ أَمْرُهُ؛ بَلْ قُبِضَ عَلَيْهِ فِي أَقَلَّ مِنْ شَهْرَيْنِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ ادَّعَى رَجُلٌ النُّبُوَّةَ وَآخَرُ الْمُلْكَ فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ زَوَالِهِمَا.
وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً ; فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْغَلَّاتِ وَغَرِقَتْ دُورٌ كَثِيرَةٌ بِبَغْدَادَ، وَفِيهَا كَسَرَ طُغْتِكِينُ أَتَابِكُ الْعَسَاكِرِ بِدِمَشْقَ الْفِرِنْجَ، وَعَادَ مَنْصُورًا إِلَى دِمَشْقَ، وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ سُرُورًا بِكَسْرَةِ الْفِرِنْجِ. وَفِي رَمَضَانِهَا حَاصَرَ الْمَلِكُ رِضْوَانُ بْنُ تُتُشَ صَاحِبُ حَلَبَ مَدِينَةَ نَصِيبِينَ.
وَفِيهَا وَرَدَ بَغْدَادَ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الْمُلَثَّمِينَ وَصُحْبَتُهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْفَقِيهُ، فَوَعَظَ النَّاسَ فِي جَامِعِ الْقَصْرِ وَهُوَ مُلَثَّمٌ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مِصْرَ، وَلَهُ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ مَعَ الْفِرِنْجِ وَاسْتُشْهِدَ فِي بَعْضِهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْعِرَاقِ رَجُلٌ مِنْ قَرَائِبِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

سَهْلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْأَرْغِيَانِيُّ أَبُو الْفَتْحِ الْحَاكِمُ، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَلَّقَ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ طَرِيقَهُ وَشَكَرَهُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ تَفَقَّهَ أَوَّلًا عَلَى الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ السِّنْجِيِّ، ثُمَّ تَفَقَّهَ وَعَلَّقَ عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي الْأُصُولِ وَنَاظَرَ بِحَضْرَتِهِ فَاسْتَجَادَهُ، وَوَلِيَ قَضَاءَ بَلَدِهِ مُدَّةً، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَبَنَى لِلصُّوفِيَّةِ رِبَاطًا مِنْ مَالِهِ، وَلَزِمَ التَّعَبُّدَ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ
أَبُو مَنْصُورٍ الْخَيَّاطُ، أَحَدُ الْقُرَّاءِ وَالصُّلَحَاءِ، خَتَمَ أُلُوفًا مِنَ الْخَتَمَاتِ، وَخَتَمَ عَلَيْهِ أُلُوفٌ مِنَ النَّاسِ، وَأَسْمَعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَحِينَ تُوُفِّيَ اجْتَمَعَ الْعَالَمُ فِي جِنَازَتِهِ اجْتِمَاعًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ فِي جِنَازَةٍ بِتِلْكَ الْأَزْمَانِ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ تُوُفِّيَ سَبْعًا وَتِسْعِينَ سَنَةً؛ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ ؟ فَقَالَ غَفَرَ لِي بِتَعْلِيمِي الصِّبْيَانَ الْفَاتِحَةَ.
مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ
أَبُو الْفَرَجِ الْبَصْرِيُّ، قَاضِيهَا

سَمِعَ أَبَا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيَّ وَالْمَاوَرْدِيَّ وَغَيْرَهُمَا، وَرَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ عَابِدًا خَاشِعًا عِنْدَ الذِّكْرِ.
مُهَارِشُ بْنُ مُجَلِّي،
أَمِيرُ الْعَرَبِ بِحَدِيثَةَ وَعَانَةَ، وَهُوَ الَّذِي أُودِعَ عِنْدَهُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ حِينَ كَانَتْ فِتْنَةُ الْبَسَاسِيرِيِّ بِبَغْدَادَ ; فَأَكْرَمَ الْخَلِيفَةَ حِينَ وَرَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَازَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، وَكَانَ الْأَمِيرُ مُهَارِشٌ هَذَا كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ، كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَنْ يُعْجِزَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ "
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنِي صَفْوَانُ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يُعْجِزَ أُمَّتِي عِنْدَ رَبِّهَا أَنْ يُؤَخِّرَهَا نِصْفَ يَوْمٍ " قِيلَ: لِسَعْدٍ: وَكَمْ نِصْفُ يَوْمٍ ؟ قَالَ: خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ، وَهَذَا مِنْ دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ، وَذِكْرُ هَذِهِ الْمُدَّةِ لَا يَنْفِي زِيَادَةً عَلَيْهَا كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا كَمَا أَخْبَرَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِيمَا بَعْدَ زَمَانِنَا، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَمِمَّا وَقَعَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْحَوَادِثِ أَنَّ السُّلْطَانَ مُحَمَّدَ بْنَ مَلِكْشَاهْ حَاصَرَ قِلَاعًا كَثِيرَةً مِنْ حُصُونِ الْبَاطِنِيَّةِ، فَافْتَتَحَ مِنْهَا أَمَاكِنَ كَثِيرَةً، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَجَمْعًا كَبِيرًا، وَجَمًّا غَفِيرًا، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا افْتَتَحَ مِنْ ذَلِكَ قَلْعَةً حَصِينَةً؛ كَانَ أَبُوهُ قَدْ بَنَاهَا بِالْقُرْبِ مِنْ أَصْبَهَانَ فِي رَأْسِ جَبَلٍ مَنِيعٍ هُنَاكَ، وَكَانَ سَبَبُ

بِنَائِهِ لَهَا أَنَّهُ كَانَ مَرَّةً فِي بَعْضِ صُيُودِهِ، فَهَرَبَ مِنْهُ كَلْبٌ، فَاتَّبَعَهُ إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ فَوَجَدَهُ وَكَانَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ رُسُلِ الرُّومِ، فَقَالَ الرُّومِيُّ: لَوْ كَانَ هَذَا الْجَبَلُ بِبِلَادِنَا لَاتَّخَذْنَا عَلَيْهِ قَلْعَةً، فَحَدَا هَذَا الْكَلَامُ السُّلْطَانَ إِلَى أَنِ ابْتَنَى فِي رَأْسِهِ قَلْعَةً أَنْفَقَ عَلَيْهَا أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ وَمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ يُقَالُ لَهُ: أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَطَّاشٍ فَتَعِبَ الْمُسْلِمُونَ بِسَبَبِهَا، فَحَاصَرَهَا ابْنُهُ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ سَنَةً حَتَّى افْتَتَحَهَا، وَسَلَخَ هَذَا الرَّجُلَ وَحَشَى جِلْدَهُ تِبْنًا وَقَطَعَ رَأْسَهُ، فَطِيفَ بِهِ فِي الْأَقَالِيمِ، ثُمَّ نَقَضَ هَذِهِ الْقَلْعَةَ حَجَرًا حَجَرًا وَأَلْقَتِ امْرَأَتُهُ نَفْسَهَا مِنْ أَعْلَى الْقَلْعَةِ فَتَلِفَتْ، وَهَلَكَ مَا كَانَ مَعَهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ، وَكَانَ النَّاسُ يَتَشَاءَمُونَ بِهَذِهِ الْقَلْعَةِ، يَقُولُونَ: كَانَ دَلِيلُهَا كَلْبًا، وَالْمُشِيرُ بِهَا كَافِرًا، وَالْمُتَحَصِّنُ بِهَا زِنْدِيقًا.
وَفِيهَا وَقَعَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ خَفَاجَةَ وَبَيْنَ عُبَادَةَ فَقَهَرَتْ عُبَادَةُ خَفَاجَةَ وَأَخَذَتْ بِثَأْرِهَا. وَفِيهَا اسْتَحْوَذَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَنْصُورٍ الْأَسَدِيُّ عَلَى مَدِينَةِ تِكْرِيتَ بَعْدَ قِتِالٍ كَثِيرٍ. وَفِيهَا أَرْسَلَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ الْأَمِيرَ جَاوَلِي سَقَاوُو إِلَى الْمَوْصِلِ وَأَقْطَعُهُ إِيَّاهَا، فَذَهَبَ فَانْتَزَعَهَا مِنَ الْأَمِيرِ جَكَرْمَشَ بَعْدَمَا قَاتَلَهُ، وَهَزَمَ أَصْحَابَهُ وَأَسَرَهُ، ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ جَكرمشُ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ سِيرَةً وَعَدْلًا وَإِحْسَانًا، ثُمَّ أَقْبَلَ قَلْجُ أَرْسَلَانَ بْنُ قُتُلْمِشَ فَحَاصَرَ الْمَوْصِلَ فَانْتَزَعَهَا مِنْ جَاوْلِي فَصَارَ جَاوْلِي إِلَى الرَّحْبَةِ فَأَخَذَهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى قِتَالِ قَلْجَ فَكَسَرَهُ وَأَلْقَى قَلْجُ نَفْسَهُ فِي النَّهْرِ الَّذِي لِلْخَابُورِ فَهَلَكَ.
وَفِيهَا نَشَأَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ الرُّومِ وَالْفِرِنْجِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا وَقُتِلَ

مِنَ الْفَرِيقَيْنِ طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ ثُمَّ كَانَتِ الْهَزِيمَةُ بَعْدَ كُلِّ حِسَابٍ عَلَى الْفِرِنْجِ.
وَفِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْهَا قُتِلَ فَخْرُ الْمُلْكِ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَكَانَ أَكْبَرَ أَوْلَادِهِ، وَهُوَ وَزِيرُ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ بِنَيْسَابُورَ، وَكَانَ صَائِمًا، قَتَلَهُ بَاطِنِيٌّ، وَكَانَ قَدْ رَأَى فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ: الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: عَجِّلْ إِلَيْنَا وَأَفْطِرْ عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ، فَأَصْبَحَ مُتَعَجِّبًا فَنَوَى الصَّوْمَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنَ الْمَنْزِلِ، فَمَا خَرَجَ إِلَّا فِي آخِرِ النَّهَارِ، فَرَأَى شَابًّا يَتَظَلَّمُ وَفِي يَدِهِ رُقْعَةٌ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ ؟ فَنَاوَلَهُ الرُّقْعَةَ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَقْرَؤُهَا إِذْ ضَرَبَهُ بِخَنْجَرٍ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ، فَأُخِذَ الْبَاطِنِيُّ فَرُفِعَ إِلَى السُّلْطَانِ فَقَرَّرَهُ، فَأَقَرَّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْوَزِيرِ أَنَّهُمْ أَمَرُوهُ بِذَلِكَ - وَكَانَ كَاذِبًا - فَقُتِلَ وَقُتِلُوا أَيْضًا.
وَفِي صَفَرٍ عَزَلَ الْخَلِيفَةُ الْوَزِيرَ أَبَا الْقَاسِمِ عَلِيَّ بْنَ جَهِيرٍ وَخَرَّبَ دَارَهُ الَّتِي كَانَ قَدْ بَنَاهَا أَبُوهُ مِنْ خَرَابِ بُيُوتِ النَّاسِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً لِذَوِي الْبَصَائِرِ وَالنُّهَى، وَاسْتُنِيبَ فِي الْوَزَارَةِ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيُّ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُرْكُمَانِيٌّ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ أَبُو الْمُظَفَّرِ الْخَوَافِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ أَنْظَرَ أَهْلِ زَمَانِهِ، تَفَقَّهَ عَلَى إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَكَانَ أَوْجَهَ تَلَامِذَتِهِ

وَلِيَ الْقَضَاءَ بِطُوسَ، وَنَوَاحِيهَا، وَكَانَ مَشْهُورًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بِحُسْنِ الْمُنَاظَرَةِ، وَإِفْحَامِ الْخُصُومِ، قَالَ: وَالْخَوَافِيُّ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالْوَاوِ نِسْبَةً إِلَى خَوَافٍ، وَهِيَ نَاحِيَةٌ مِنْ نَوَاحِي نَيْسَابُورَ. وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ السَّرَّاجُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَارِئُ الْبَغْدَادِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ بِالرِّوَايَاتِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّاتِ مِنَ الْمَشَايِخِ وَالشَّيْخَاتِ فِي بُلْدَانٍ مُتَبَايِنَاتٍ، وَقَدْ خَرَّجَ لَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ أَجْزَاءً مِنْ مَسْمُوعَاتِهِ، وَكَانَ صَحِيحَ الثَّبَتِ جَيِّدَ الذِّهْنِ أَدِيبًا شَاعِرًا، حَسَنَ النَّظْمِ نَظَمَ كِتَابَ " الْمُبْتَدَأِ " وَكِتَابَ " التَّنْبِيهِ " وَ " الْخِرَقِيِّ " وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَلَهُ كِتَابُ " مَصَارِعِ الْعُشَّاقِ " وَغَيْرُ ذَلِكَ وَمِنْ شِعْرِهِ:
قُلْ لِلَّذِينَ بِجَهْلِهِمْ أَضْحَوْا يَعِيبُونَ الْمَحَابِرْ وَالْحَامِلِينَ لَهَا مِنَ الْ
أَيْدِي بِمُجْتَمِعِ الْأَسَاوِرْ لَوْلَا الْمَحَابِرُ وَالْمَقَا
لِمُ وَالصَّحَائِفُ وَالدَّفَاتِرْ وَالْحَافِظُونَ شَرِيعَةَ الْ
مَبْعُوثِ مِنْ خَيْرِ الْعَشَائِرِ وَالنَّاقِلُونَ حَدِيثَهُ عَنْ
كَابِرٍ ثَبَتٍ وَكَابِرْ لَرَأَيْتَ مِنْ شِيعِ الضَّلَا
لِ عَسَاكِرًا تَتْلُو عَسَاكِرْ كُلٌّ يَقُولُ بِجَهْلِهِ
وَاللَّهُ لِلْمَظْلُومِ نَاصِرْ

سَمَّيْتُهُمْ أَهْلَ الْحَدِي
ثِ أُولِي النُّهَى وَأُولِي الْبَصَائِرْ حَشْوِيَّةٌ أُفٍّ لَكُمْ
وَلِمَنْ بِنَقْصِهِمْ يُجَاهِرْ هُمْ حَشْوُ جَنَّاتِ النَّعِيمِ
عَلَى الْأَسِرَّةِ وَالْمَنَابِرْ رُفَقَاءُ أَحْمَدَ كُلُّهُمْ
عَنْ حَوْضِهِ رَيَّانُ صَادِرْ
وَذَكَرَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ أَشْعَارًا رَائِقَةً مِنْهَا قَوْلُهُ:
وَمُدًّعٍ شَرْخَ الشَّبَابِ وَقَدْ عَمَّمَهُ الشَّيْبُ عَلَى وَفْرَتِهِ
يَخْضِبُ بِالْوَشْمَةِ عُثْنُونَهُ يَكْفِيهِ أَنْ يَكْذِبَ فِي لِحْيَتِهِ
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ
أَبُو مُحَمَّدٍ الشِّيرَازِيُّ الْفَارِسِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ وَتَفَقَّهَ، وَوَلَّاهُ نِظَامُ الْمُلْكِ تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ، فَدَرَّسَ بِهَا مُدَّةً، وَكَانَ يُمْلِي الْأَحَادِيثَ، وَكَانَ كَثِيرَ التَّصْحِيفِ رَوَى مَرَّةً حَدِيثَ " صَلَاةٌ فِي أَثَرِ صَلَاةٍ

كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ " فَقَالَ: كَنَارٍ فِي غَلَسٍ، ثُمَّ أَخَذَ يُفَسِّرُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَكْثَرُ لِإِضَاءَتِهَا.
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَسَدِيُّ الشَّاعِرُ،
لَقِيَ أَبَا الْحَسَنِ التِّهَامِيَّ، وَكَانَ مُغْرَمًا بِمَا يُعَارِضُ شِعْرَهُ، وَقَدْ أَقَامَ بِالْيَمَنِ وَبِالْعِرَاقِ ثُمَّ بِالْحِجَازِ ثُمَّ بِخُرَاسَانَ وَمِنْ شَعْرِهِ:
قُلْتُ ثَقَّلْتُ إِذْ أَتَيْتُ مِرَارًا قَالَ ثَقَّلْتَ كَاهِلِي بِالْأَيَادِي
قُلْتُ طَوَّلْتُ قَالَ بَلْ تَطَوَّ لْتَ وَأَبْرَمْتُ قَالَ حَبْلَ الْوِدَادِ
يُوسُفُ بْنُ عَلِيٍّ
أَبُو الْقَاسِمِ الزَّنْجَانِيُّ الْفَقِيهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَةِ، حَكَى عَنِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ عَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ قَالَ: كُنَّا يَوْمًا بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ فِي حَلْقَةٍ فَجَاءَ شَابٌّ خُرَاسَانِيُّ، فَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمُصَرَّاةِ، فَقَالَ الشَّابُّ: هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ مَقْبُولٍ. فَمَا اسْتَتَمَّ كَلَامَهُ حَتَّى سَقَطَتْ مِنْ سَقْفِ الْمَسْجِدِ حَيَّةٌ، فَنَهَضَ النَّاسُ هَارِبِينَ فَتَبِعَتِ الْحَيَّةُ ذَلِكَ الشَّابَّ مِنْ بَيْنِهِمْ

فَقِيلَ لَهُ: تُبْ تُبْ. فَقَالَ: تُبْتُ، فَذَهَبَتْ فَلَا نَدْرِي أَيْنَ ذَهَبَتْ. رَوَاهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْمُعَمَّرِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ، هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِيهَا جَدَّدَ الْخَلِيفَةُ الْخِلَعَ عَلَى وَزِيرِهِ أَبِي الْمَعَالِي هِبَةِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ وَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ إِلَى بَغْدَادَ فَتَلَقَّاهُ الْوَزِيرُ وَالْأَعْيَانُ، وَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِهَا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ مِنْ جَيْشِهِ إِلَى شَيْءٍ، وَتَغَضَّبَ السُّلْطَانُ غِيَاثُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ عَلَى صَدَقَةَ بْنِ مَنْصُورٍ الْأَسَدِيِّ صَاحِبِ الْحِلَّةِ وَتَكْرِيتَ بِسَبَبٍ أَنَّهُ آوَى رَجُلًا مِنْ أَعْدَائِهِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو دُلَفَ سُرْخَابُ الدَّيْلَمِيُّ صَاحِبُ سَاوَةَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ لِيُرْسِلَهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ جَيْشًا فَهَزَمُوا جَيْشَهُ، وَقَدْ كَانَ جَيْشَهُ عِشْرِينَ أَلْفَ فَارِسٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ رَاجِلٍ وَقُتِلَ صَدَقَةُ فِي الْمَعْرَكَةِ وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ، وَأَخَذُوا مِنْ زَوْجَتِهِ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَجَوَاهِرَ نَفِيسَةً.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَظَهَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَبِيَّةٌ عَمْيَاءُ تَتَكَلَّمُ عَلَى أَسْرَارِ النَّاسِ، وَبَالَغَ النَّاسُ فِي الْحِيَلِ، لِيَعْلَمُوا حَالَهَا فَلَمْ يَعْلَمُوا، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَأَشْكَلَ أَمْرُهَا عَلَى الْعُلَمَاءِ وَالْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ، حَتَّى إِنَّهَا كَانَتْ تُسْأَلُ عَنْ نُقُوشِ

الْخَوَاتِمِ الْمَقْلُوبَةِ الصَّعْبَةِ، وَعَنْ أَنْوَاعِ الْفُصُوصِ وَصِفَاتِ الْأَشْخَاصِ، وَمَا فِي دَاخِلِ الْبَنَادِقِ مِنَ الشَّمْعِ وَالطِّينِ وَالْحَبِّ الْمُخْتَلِفِ وَالْخَرَزِ، وَبَالَغَ أَحَدُهُمْ حَتَّى تَرَكَ يَدَهُ عَلَى ذَكَرِهِ فَقِيلَ لَهَا: مَا الَّذِي فِي يَدِهِ فَقَالَتْ: يَحْمِلُهُ إِلَى أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ.
وَفِيهَا قَدِمَ الْقَاضِي فَخْرُ الْمُلْكِ أَبُو عُبَيْدٍ عَلِيُّ بْنُ عَمَّارٍ صَاحِبُ طَرَابُلُسَ إِلَى بَغْدَادَ يَسْتَنْفِرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْفِرِنْجِ، فَأَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ غِيَاثُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ إِكْرَامًا زَائِدًا، وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَبَعَثَ مَعَهُ الْجُيُوشَ الْكَثِيرَةَ لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَةَ كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ خُلَقًا وَكَرَمًا وَإِحْسَانًا، مَلَكَ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَعُمِّرَ تِسْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَتَرَكَ مِنَ الْبَنِينَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ، وَمِنَ الْبَنَاتِ سِتِّينَ بِنْتًا، وَمَلَكَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ يَحْيَى، وَمِنْ أَحْسَنِ مَا مُدِحَ بِهِ الْأَمِيرُ تَمِيمٌ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَصَحُّ وَأَعْلَى مَا سَمِعْنَاهُ فِي النَّدَى مِنَ الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ مُنْذُ قَدِيمِ أَحَادِيثُ تَرْوِيهَا السُّيُولُ عَنِ الْحَيَا
عَنِ الْبَحْرِ عَنِ كَفِّ الْأَمِيرِ تَمِيمِ
صَدَقَةُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ دُبَيْسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، صَاحِبُ الْحِلَّةِ وَتَكْرِيتَ وَوَاسِطٍ وَغَيْرِهَا كَانَ كَرِيمًا، عَفِيفًا، ذَا ذِمَامٍ، مَلْجَأً لِكُلِّ خَائِفٍ، يَأْمَنُ فِي بِلَادِهِ وَتَحْتَ جَنَابِهِ، وَكَانَ يُحْسِنُ يَقْرَأُ الْكُتُبَ،

وَلَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، وَقَدِ اقْتَنَى كُتُبًا كَثِيرَةً جِدًّا نَفِيسَةً، وَكَانَ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَى امْرَأَةٍ قَطُّ، وَلَا يَتَسَرَّى عَلَى سُرِّيَّةٍ ; حِفْظًا لِلذِّمَامِ وَلِئَلَّا يَكْسِرَ قَلْبَ أَحَدٍ، وَقَدْ مُدِحَ بِأَوْصَافٍ جَمِيلَةٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا، قُتِلَ فِي بَعْضِ الْمَعْرَكَةِ، قَتَلَهُ غُلَامٌ اسْمُهُ بُزْغَشُ. وَكَانَ لَهُ مِنَ الْعُمْرِ تِسْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَلِيَ الْإِمَارَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ تَزَوَّجَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ بِالْخَاتُونِ بِنْتِ مَلِكْشَاهْ أُخْتِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَنُثِرَ الذَّهَبُ، وَكُتِبَ الْعَقْدُ بِأَصْبَهَانَ، وَفِيهَا كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ الْأَتَابِكِ طُغْتِكِينَ صَاحِبِ دِمَشْقَ وَبَيْنَ الْفِرِنْجِ. وَفِيهَا مَلَكَ سَعِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ الْعُمَرِيُّ الْحِلَّةَ السَّيْفِيَّةَ. وَفِيهَا زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً كَثِيرَةً فَغَرِقَتِ الْغَلَّاتُ فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِسَبَبِ ذَلِكَ غَلَاءً شَدِيدًا وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ قَايْمَازُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْحَسَنُ الْعَلَوِيُّ
أَبُو هَاشِمٍ رَئِيسُ هَمَذَانَ وَكَانَ ذَا مَالٍ جَزِيلٍ، صَادَرَهُ السُّلْطَانُ بِتِسْعِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَوَزَنَهَا وَلَمْ يَبِعْ فِيهَا عَقَارًا وَلَا غَيْرَهُ.
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ
أَبُو الْفَوَارِسِ، ابْنُ الْخَازِنِ الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ بِالْخَطِّ الْمَنْسُوبِ، تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَتَبَ بِيَدِهِ خَمْسَمِائَةِ

خَتْمَةٍ، مَاتَ فَجْأَةً؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو الْمَحَاسِنِ الرُّويَانِيُّ، مِنْ أَهْلِ طَبَرِسْتَانَ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وُلِدَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَرَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ حَتَّى بَلَغَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَحَصَّلَ عُلُومًا جَمَّةً، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَصَنَّفَ كُتُبًا فِي الْمَذْهَبِ مِنْ ذَلِكَ " الْبَحْرُ " فِي الْفُرُوعِ، وَهُوَ حَافِلٌ كَامِلٌ شَامِلٌ لِلْغَرَائِبِ وَغَيْرِهَا، وَفِي الْمَثَلِ: حَدِّثْ عَنِ الْبَحْرِ وَلَا حَرَجَ. وَكَانَ يَقُولُ: لَوِ احْتَرَقَتْ كُتُبُ الشَّافِعِيِّ أَمْلَيْتُهَا مِنْ حِفْظِي. قُتِلَ ظُلْمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ وَهُوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ فِي الْجَامِعِ بِطَبَرِسْتَانَ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ نَاصِرٍ الْمَرْوَزِيِّ وَعَلَّقَ عَنْهُ، وَكَانَ لِلرُّويَانِيِّ الْجَاهُ الْعَظِيمُ وَالْحُرْمَةُ الْوَافِرَةُ فِي تِلْكَ الدِّيَارِ، وَكَانَ نِظَامُ الْمُلْكِ كَثِيرَ التَّعْظِيمِ لَهُ، وَقَدْ صَنَّفَ كُتُبًا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ مِنْهَا: " بَحْرُ الْمَذْهَبِ " وَكِتَابُ " مَنَاصِيصِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ " وَكِتَابُ " الْكَافِي " وَ " حِلْيَةِ الْمُؤْمِنِ " وَلَهُ كُتُبٌ فِي الْخِلَافِ أَيْضًا؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
يَحْيَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ بِسْطَامٍ الشَّيْبَانِيُّ التَّبْرِيزِيُّ أَبُو زَكَرِيَّا
أَحَدُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ، قَرَأَ عَلَى أَبِي الْعَلَاءِ وَغَيْرِهِ. وَتَخَرَّجَ بِهِ جَمَاعَةٌ ;

مِنْهُمْ أَبُو مَنْصُورٍ ابْنُ الْجَوَالِيقِيِّ، قَالَ ابْنُ نَاصِرٍ: وَكَانَ ثِقَةً فِي النَّقْلِ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْكَثِيرَةُ. وَقَالَ ابْنُ خَيْرُونَ: لَمْ يَكُنْ مَرْضِيَّ الطَّرِيقَةِ، تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ بِبَابِ أَبْرَزَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا أَخَذَتِ الْفِرِنْجُ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - مَدِينَةَ طَرَابُلُسَ، وَقَتَلُوا مَنْ فِيهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَسَبَوُا الْحَرِيمَ وَالْأَطْفَالَ، وَغَنِمُوا الْأَمْتِعَةَ وَالْأَمْوَالَ، ثُمَّ أَخَذُوا مَدِينَةَ جَبَلَةَ بَعْدَهَا بِعَشْرِ لَيَالٍ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ، وَقَدْ هَرَبَ مِنْهُمْ فَخْرُ الْمُلْكِ بْنُ عَمَّارٍ فَقَصَدَ صَاحِبَ دِمَشْقَ طُغْتِكِينَ فَأَكْرَمَهُ وَأَقْطَعَهُ بِلَادًا كَثِيرَةً.
وَفِيهَا وَثَبَ بَعْضُ الْبَاطِنِيَّةِ عَلَى الْوَزِيرِ أَبِي نَصْرِ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ فَجَرَحَهُ، ثُمَّ أُخِذَ الْبَاطِنِيُّ فَسُقِيَ الْخَمْرَ فَأَقَرَّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ فَأُخِذُوا فَقُتِلُوا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ قَايْمَازُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ
أَبُو بَكْرٍ الْعُلْثِيُّ، كَانَ يَعْمَلُ فِي تَجْصِيصِ الْحِيطَانِ وَلَا يَنْقُشُ صُورَةً، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا، وَكَانَتْ لَهُ أَمْلَاكٌ يَبِيعُ مِنْهَا

وَيَتَقَوَّتُ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَتَفَقَّهَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْفِقْهِ، وَكَانَ إِذَا حَجَّ يَزُورُ الْقُبُورَ بِمَكَّةَ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى قَبْرِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ يَخُطُّ إِلَى جَانِبِهِ خَطًّا بِعَصَاهُ وَيَقُولُ: يَا رَبِّ هَاهُنَا فَقُدِّرَ أَنَّهُ حَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَوَقَفَ بِعَرَفَاتٍ مُحْرِمًا فَتُوفِّيَ بِهَا مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. فَغُسِّلَ وَكُفِّنَ وَطِيفَ بِهِ حَوْلَ الْبَيْتِ، ثُمَّ دُفِنَ إِلَى جَانِبِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ. فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ يَخُطُّهُ بِعَصَاهُ، وَلَمَّا بَلَغَ النَّاسَ وَفَاتُهُ بِبَغْدَادَ اجْتَمَعُوا لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ صَلَاةَ الْغَائِبِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ سَعْدَوَيْهِ
أَبُو الْفِتْيَانِ الدِّهِسْتَانِيُّ رَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَدَارَ الدُّنْيَا، وَخَرَّجَ وَانْتَخَبَ، وَكَانَ لَهُ فِقْهٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَكَانَ ثِقَةً، وَقَدْ صَحَّحَ عَلَيْهِ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَّالِيُّ كِتَابَ الصَّحِيحَيْنِ، كَانَتْ وَفَاتُهُ بِسَرْخَسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدٌ وَيُعْرَفُ بِأَخِي حَمَّادِي
كَانَ أَحَدَ الصُّلَحَاءِ الْكِبَارِ، كَانَ بِهِ مَرَضٌ مُزْمِنٌ، فَرَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فَعُوفِيَ، فَلَزِمَ مَسْجِدًا لَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، لَا يَخْرُجُ إِلَّا إِلَى الْجُمُعَةِ، وَانْقَطَعَ عَنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ، كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ فِي زَاوِيَةٍ بِالْقُرْبِ مِنْ قَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ تَجَهَّزَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْبَغَادِدَةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرُهُمْ، وَفِيهِمُ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ لِلْخُرُوجِ إِلَى الشَّامِ لِيُقَاتِلُوا الْفِرِنْجِ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - وَذَلِكَ حِينَ بَلَغَهُمْ أَنَّهُمْ فَتَحُوا مَدَائِنَ عِدَّةً ; مِنْ ذَلِكَ مَدِينَةُ صَيْدَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَذَا غَيْرُهَا مِنَ الْمَدَائِنِ، ثُمَّ رَجَعَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ حِينَ بَلَغَهُمْ كَثْرَةُ الْفِرِنْجِ.
وَفِيهَا قَدِمَتْ خَاتُونُ بِنْتُ مَلِكْشَاهْ زَوْجَةُ الْخَلِيفَةِ إِلَى بَغْدَادَ، فَنَزَلَتْ فِي دَارِ أَخِيهَا السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ حُمِلَ جِهَازُهَا عَلَى مِائَةٍ وَاثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ جَمَلًا وَسَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ بَغْلًا، وَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ لِقَدُومِهَا، وَكَانَ دُخُولُهَا عَلَى الْخَلِيفَةِ فِي اللَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ رَمَضَانَ وَكَانَتْ لَيْلَةً مَشْهُودَةً.
وَفِي شَعْبَانَ دَرَّسَ أَبُو بَكْرٍ الشَّامِيُّ بِالنِّظَامِيَّةِ مَعَ التَّاجِيَّةِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْوَزِيرُ وَالْأَعْيَانُ مِنَ الدَّوْلَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ قَايْمَازُ، وَلَمْ يَتَمَكَّنِ الْخُرَاسَانِيُّونَ مِنَ الْحَجِّ مِنَ الْعَطَشِ وَقِلَّةِ الْمَاءِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

إِدْرِيسُ بْنُ حَمْزَةَ
أَبُو الْحَسَنِ الشَّامِيُّ الرَّمْلِيُّ الْعُثْمَانِيُّ أَحَدُ فُحُولِ

الْمُنَاظِرِينَ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، تَفَقَّهَ أَوَّلًا عَلَى نَصْرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ بِبَغْدَادَ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَدَخَلَ خُرَاسَانَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَأَقَامَ بِسَمَرْقَنْدَ وَدَرَّسَ بِمَدْرَسَتِهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عِمَادِ الدِّينِ
أَبُو الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ، وَيُعْرَفُ بِإِلْكِيَا الْهَرَّاسِيِّ، أَحَدُ الْفُقَهَاءِ الْكِبَارِ مِنْ رُءُوسِ الشَّافِعِيَّةِ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمَائَةٍ، وَاشْتَغَلَ عَلَى إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَكَانَ هُوَ وَالْغَزَّالِيُّ أَكْبَرَ التَّلَامِذَةِ، وَقَدْ وَلِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَقَدْ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ هَذَا فَصِيحًا جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ جَمِيلًا.
وَكَانَ يُكَرِّرُ الدَّرْسَ عَلَى كُلِّ مَرْقَاةٍ مِنْ مَرَاقِي دَرَجِ النِّظَامِيَّةِ بِنَيْسَابُورَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَكَانَتِ الْمَرَاقِي سَبْعِينَ مَرْقَاةً، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَنَاظَرَ وَأَفْتَى وَدَرَّسَ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ وَسَادَاتِ الْفُقَهَاءِ، وَلَهُ كِتَابٌ يَرُدُّ فِيهِ عَلَى مَا انْفَرَدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُجَلَّدٍ، وَلَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ، وَقَدِ اتُّهِمَ فِي وَقْتٍ بِأَنَّهُ يُمَالِئُ الْبَاطِنِيَّةَ فَنُزِعَ مِنْهُ التَّدْرِيسُ، ثُمَّ شَهِدَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِبَرَاءَتِهِ مِنْ ذَلِكَ ; مِنْهُمُ ابْنُ عَقِيلٍ فَأُعِيدَ إِلَيْهِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ مُسْتَهَلَّ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ؛ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ الْحَدِيثَ وَيُنَاظِرُ بِهِ، وَهُوَ الْقَائِلُ: إِذَا جَالَتْ فُرْسَانُ الْأَحَادِيثِ فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ طَارَتْ رُءُوسُ الْمَقَايِيسِ فِي مَهَابِّ الرِّيَاحِ، وَحَكَى السَّلَفِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتُفْتِيَ فِي كَتَبَةِ الْحَدِيثِ هَلْ يَدْخُلُونَ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْفُقَهَاءِ ؟ فَأَجَابَ نَعَمْ ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ

حَفِظَ عَلَى أُمَّتِي أَرْبَعِينَ حَدِيثًا بَعَثَهُ اللَّهُ فَقِيهًا عَالِمًا " وَأَنَّهُ اسْتُفْتِيَ فِي يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَذَكَرَ عَنْهُ ثَلْبًا وَفِسْقًا وَسَوَّغَ شَتْمَهُ، وَأَمَّا الْغَزَّالِيُّ فَإِنَّهُ خَالَفَ فِي ذَلِكَ وَمَنَعَ مِنْ لَعْنِهِ ; لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ وَلَمْ يَثْبُتْ بِأَنَّهُ رَضِيَ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسَوِّغًا لِلَعْنِهِ ; لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يُلْعَنُ، لَا سِيَّمَا وَبَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ( الشُّورَى: مِنَ الْآيَةِ 25 ) قَالَ: وَأَمَّا التَّرَحُّمُ عَلَيْهِ فَجَائِزٌ؛ بَلْ مُسْتَحَبٌّ؛ بَلْ نَحْنُ نَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ فِي جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ عُمُومًا فِي الصَّلَوَاتِ، ذَكَرَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ مَبْسُوطًا بِلَفْظِهِ فِي تَرْجَمَةِ إِلْكِيَا هَذَا، قَالَ: وَإِلْكِيَا مَعْنَاهُ: كَبِيرُ الْقَدْرِ، الْمُقَدَّمُ الْمُعَظَّمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا بَعَثَ السُّلْطَانُ غِيَاثُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ جَيْشًا كَثِيفًا صُحْبَةَ الْأَمِيرِ مَوْدُودِ بْنِ التُّوتِكِينِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ وَسُكْمَانَ الْقُطْبِيِّ صَاحِبِ تَبْرِيزَ وَأَحْمَدِيلَ صَاحِبِ مَرَاغَةَ وَالْأَمِيرِ إِيلْغَازِي صَاحِبِ مَارِدِينَ، وَالْمُقَدَّمُ عَلَى الْجَمِيعِ الْأَمِيرُ مَوْدُودٌ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ بِالشَّامِ، فَانْتَزَعُوا مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ حُصُونًا كَثِيرَةً، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا
وَلَمَّا دَخَلُوا دِمَشْقَ دَخَلَ الْأَمِيرُ مَوْدُودٌ إِلَى جَامِعِهَا لِيُصَلِّيَ فِيهِ فَجَاءَهُ بَاطِنِيٌّ فِي زِيِّ سَائِلٍ يَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُ ضَرَبَهُ فِي فُؤَادِهِ فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى هَذَا الْبَاطِنِيِّ، وَوُجِدَ رَجُلٌ أَعْمَى فِي سَطْحِ الْجَامِعِ بِبَغْدَادَ مَعَهُ سِكِّينٌ مَسْمُومٌ، فَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يُرِيدُ قَتْلَ الْخَلِيفَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وُلِدَ لِلْخَلِيفَةِ مِنْ بِنْتِ السُّلْطَانِ وَلَدٌ ذَكَرٌ فَضُرِبَتِ الدَّبَادِبُ وَالْبُوقَاتُ، وَجَلَسَ الْوَزِيرُ بِبَابِ الْفِرْدَوْسِ لِلْهَنَاءِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَخُو الْخَلِيفَةِ فَقُطِعَ الطَّبْلُ أَيَّامًا، وَجَلَسَ الْوَزِيرُ بِبَابِ الْفِرْدَوْسِ

لِلْعَزَاءِ، وَهَكَذَا الدُّنْيَا قَرْضٌ هَذَا يُعَزَّى وَهَذَا يُهَنَّى.
وَفِي رَمَضَانَ عُزِلَ الْوَزِيرُ أَحْمَدُ بْنُ النِّظَامِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ وَزَارَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا.
وَفِيهَا حَاصَرَتِ الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ صُورَ، وَكَانَتْ بِأَيْدِي الْمِصْرِيِّينَ، عَلَيْهَا عِزُّ الْمُلْكِ الْأَعَزُّ مِنْ جِهَتِهِمْ فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا عَظِيمًا وَمَنَعَهَا مَنْعًا جَيِّدًا حَتَّى فَنِيَ مَا عِنْدَهُ مِنَ النِّشَابِ وَالْعُدَدِ، فَأَمَدَّهُ طُغْتِكِينُ صَاحِبُ دِمَشْقَ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْعُدَدَ وَالْآلَاتِ فَقَوِيَ جَانِبُهُ، وَتَرَحَّلَتْ عَنْهُ الْفِرِنْجُ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْجُيُوشِ نَظَرٌ الْخَادِمُ وَكَانَتْ سَنَةً مُخْصِبَةً.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَّالِيُّ وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمَائَةٍ وَتَفَقَّهَ عَلَى إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَبَرَعَ فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ مُنْتَشِرَةٌ فِي فُنُونٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَكَانَ مِنْ أَذْكِيَاءِ الْعَالَمِ فِي كُلِّ مَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ، وَسَادَ فِي شَبِيبَتِهِ حَتَّى إِنَّهُ دَرَّسَ بِالنِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَلَهُ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، فَحَضَرَ عِنْدَهُ رُءُوسَ الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ مِمَّنْ حَضَرَ عِنْدَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنْ رُءُوسِ الْحَنَابِلَةِ، فَتَعَجَّبُوا مِنْ فَصَاحَتِهِ وَاطِّلَاعِهِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَتَبُوا كَلَامَهُ فِي مُصَنَّفَاتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ عَنِ الدُّنْيَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَقْبَلَ

عَلَى أَعْمَالِ الْآخِرَةِ، فَكَانَ يَرْتَزِقُ مِنَ النَّسْخِ، وَرَحَلَ إِلَى الشَّامِ فَأَقَامَ بِهَا بِدِمَشْقَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ مُدَّةً، وَصَنَّفَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كِتَابَهُ " إِحْيَاءَ عُلُومِ الدِّينِ " وَهُوَ كِتَابٌ عَجِيبٌ، وَيَشْتَمِلُ عَلَى عُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الشَّرْعِيَّاتِ، وَمَمْزُوجٌ بِأَشْيَاءَ لَطِيفَةٍ مِنَ التَّصَوُّفِ وَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، لَكِنْ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ غَرَائِبُ وَمُنْكَرَاتٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَوْضُوعٌ، كَمَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْفُرُوعِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَالْكِتَابُ الْمَوْضُوعُ لِلرَّقَائِقِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ أَسْهَلُ أَمْرًا مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ شَنَّعَ عَلَيْهِ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ ثُمَّ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي ذَلِكَ تَشْنِيعًا كَثِيرًا، وَأَرَادَ الْمَازَرِيُّ أَنْ يَحْرِقَ كِتَابَهُ " إِحْيَاءَ عُلُومِ الدِّينِ " وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْمَغَارِبَةِ، وَقَالُوا: هَذَا كِتَابُ إِحْيَاءِ عُلُومِ دِينِهِ، وَأَمَّا دِينُنَا فَإِحْيَاءُ عُلُومِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ، كَمَا قَدْ حَكَيْتُ كَلَامَهُ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ زَيَّفَابْنُ سُكَّرٍ مَوَاضِعَ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ، وَبَيَّنَ زَيْفَهَا فِي مُصَنَّفٍ مُفِيدٍ، وَقَدْ كَانَ الْغَزَّالِيُّ يَقُولُ: أَنَا مُزْجَى الْبِضَاعَةِ فِي الْحَدِيثِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَالَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ إِلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ وَالتَّحَفُّظِ " لِلصَّحِيحَيْنِ " وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ كِتَابًا عَلَى الْإِحْيَاءِ وَسَمَّاهُ، " إِعْلَامُ الْأَحْيَاءِ بِأَغَالِيطِ الْإِحْيَاءِ ". قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ثُمَّ أَلْزَمَهُ بَعْضُ الْوُزَرَاءِ بِالْخُرُوجِ إِلَى نَيْسَابُورَ فَدَرَّسَ بِنِظَامِيَّتِهَا ثُمَّ

عَادَ إِلَى بَلَدِهِ طُوسَ، وَابْتَنَى بِهَا رِبَاطًا وَاتَّخَذَ دَارًا حَسَنَةً، وَغَرَسَ فِيهَا بُسْتَانًا، أَنِيقًا، وَأَقْبَلَ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَحِفْظِ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ بِطُوسَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ سَأَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَهُوَ فِي السِّيَاقِ، فَقَالَ: أَوْصِنِي فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالْإِخْلَاصِ فَلَمْ يَزَلْ يُكَرِّرُهَا حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا جَلَسَ ابْنُ الطَّبَرِيِّ مُدَرِّسًا بِالنِّظَامِيَّةِ وَعُزِلَ عَنْهَا الشَّاشِيُّ، وَفِيهَا دَخَلَ الشَّيْخُ الصَّالِحُ أَحَدُ الْعُبَّادِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ إِلَى بَغْدَادَ فَوَعَظَ النَّاسَ، وَكَانَ لَهُ الْقَبُولُ التَّامُّ، وَكَانَ فَقِيهًا شَافِعِيًّا، تَفَقَّهَ بِالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ، فَكَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ صَالِحَةٌ، جَارَاهُ رَجُلٌ مَرَّةً يُقَالُ لَهُ: ابْنُ السَّقَّاءِ فِي مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ لَهُ: اسْكُتْ فَإِنِّي أَجِدُ مِنْ كَلَامِكَ رَائِحَةَ الْكُفْرِ، وَلَعَلَّكَ أَنْ تَمُوتَ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ. فَاتَّفَقَ بَعْدَ مُدَّةٍ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فِي حَاجَةٍ، فَتَنَصَّرَ هُنَاكَ. فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا.
وَقَامَ إِلَيْهِ مَرَّةً وَهُوَ يَعِظُ النَّاسَ ابْنَا أَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيِّ، فَقَالَا لَهُ: إِنْ كُنْتَ تَتَكَلَّمُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ وَإِلَّا فَاسْكُتْ، فَقَالَ: لَا مُتِّعْتُمَا بِشَبَابِكُمَا، فَمَاتَا شَابَّيْنِ وَلَمْ يَبْلُغَا سِنَّ الْكُهُولَةِ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا أَمِيرُ الْجُيُوشِ نَظَرٌ الْخَادِمُ، وَنَالَهُمْ عَطَشٌ شَدِيدٌ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

صَاعِدُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ إِسْمَاعِيلِ بْنِ صَاعِدٍ أَبُو الْعَلَاءِ الْخَطِيبُ

النَّيْسَابُورِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَوَلِيَ الْخَطَابَةَ بَعْدَ أَبِيهِ وَالتَّدْرِيسَ وَالتَّذْكِيرَ، وَكَانَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ يُثْنِي عَلَيْهِ، وَقَدْ وَلِيَ قَضَاءَ خُوَارَزْمَ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلَاسَاغُونِيُّ التُّرْكِيُّ الْحَنَفِيُّ وَيُعْرَفُ بِالْلَامِشِيِّ، أَوْرَدَ عَنْهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ حَدِيثًا، وَذَكَرَ أَنَّهُ وَلِيَ قَضَاءَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَشَكَوْا مِنْهُ، فَعُزِلَ عَنْهَا، ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ دِمَشْقَ، وَكَانَ غَالِيًا فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الَّذِي رَتَّبَ الْإِقَامَةَ مَثْنَى مَثْنَى، قَالَ: إِلَى أَنْ أَزَالَ اللَّهُ ذَلِكَ بِدَوْلَةِ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ.
قَالَ: وَكَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى نَصْبِ إِمَامٍ حَنَفِيٍّ بِالْجَامِعِ ; فَامْتَنَعَ أَهْلُ دِمَشْقَ مِنْ ذَلِكَ، وَامْتَنَعُوا مِنَ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ، وَصَلَّوْا بِأَجْمَعِهِمْ فِي دَارِ الْخَيْلِ، وَهِيَ الَّتِي قِبْلِيَّ الْجَامِعِ مَكَانَ الْمَدْرَسَةِ الْأَمِينِيَّةِ وَمَا يُجَاوِرُهَا، وَحَدُّهَا الطُّرُقَاتُ الْأَرْبَعَةُ، وَكَانَ يَقُولُ: لَوْ كَانَتْ لِي الْوِلَايَةُ لَأَخَذْتُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْجِزْيَةَ، وَكَانَ مُبْغِضًا لِأَصْحَابِ مَالِكٍ أَيْضًا. قَالَ: وَلَمْ تَكُنْ سِيرَتُهُ فِي الْقَضَاءِ مَحْمُودَةً، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا. قَالَ: وَقَدْ شَهَدْتُ جِنَازَتَهُ وَأَنَا صَغِيرٌ فِي الْجَامِعِ.

الْمُعَمَّرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُعَمَّرِ
أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي عِمَامَةَ، الْوَاعِظُ كَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا مَاجِنًا ظَرِيفًا ذَكِيًّا، لَهُ كَلِمَاتٌ فِي الْوَعْظِ حَسَنَةٌ وَرَسَائِلُ مَسْمُوعَةٌ مُسْتَحْسَنَةٌ، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
أَبُو عَلِيٍّ الْمَغْرِبِيُّ
كَانَ عَابِدًا زَاهِدًا وَرِعًا، يَتَقَوَّتُ بِأَدْنَى شَيْءٍ، ثُمَّ عَنَّ لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِعِلْمِ الْكِيمْيَاءِ، فَأُخِذَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ خَبَرٌ بَعْدَ ذَلِكَ.
نُزْهَةُ
أُمُّ وَلَدٍ لِلْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ، كَانَتْ سَوْدَاءَ مُحْتَشِمَةً كَرِيمَةَ النَّفْسِ، تُوُفِّيَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَانِي عَشَرَ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ
مُصَنِّفُ " الْأَنْسَابِ " وَغَيْرُهُ، وَهُوَ تَاجُ الْإِسْلَامِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْمُظَفَّرِ الْمَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، السَّمْعَانِيُّ، الْمَرْوَزِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْحَافِظُ الْمُحَدِّثُ، قِوَامُ الدِّينِ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْمُصَنِّفِينَ رَحَلَ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ حَتَّى كَتَبَ عَنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ شَيْخٍ، وَصَنَّفَ " التَّفْسِيرَ "، " وَالتَّارِيخَ " وَ " الْأَنْسَابَ " وَ " الذَّيْلَ " عَلَى تَارِيخِ الْخَطِيبِ

الْبَغْدَادِيِّ، وَذَكَرَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ مُصَنَّفَاتٍ عَدِيدَةً جِدًّا ; مِنْهَا كِتَابُهُ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ أَلْفَ حَدِيثٍ عَنْ مِائَةِ شَيْخٍ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا إِسْنَادًا وَمَتْنًا، وَهُوَ مُفِيدٌ جِدًّا، رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْفِرِنْجِ فِي أَرْضِ طَبَرِيَّةَ كَانَ فِيهَا مَلِكُ دِمَشْقَ الْأَتَابِكُ طُغْتِكِينُ، وَفِي خِدْمَتِهِ صَاحِبُ سِنْجَارَ وَصَاحِبُ مَارِدِينَ وَصَاحِبُ الْمَوْصِلِ، فَهَزَمُوا الْفِرِنْجَ هَزِيمَةً فَاضِحَةً، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَنِمُوا مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَمَلَكُوا تِلْكَ النَّوَاحِيَ كُلَّهَا؛ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى دِمَشْقَ فَذَكَرَ ابْنُ السَّاعِي فِي تَارِيخِهِ مَقْتَلَ الْمَلِكِ مَوْدُودٍ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَالَ: صَلَّى هُوَ وَالْأَتَابِكُ طُغْتِكِينُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْجَامِعِ، ثُمَّ خَرَجَا إِلَى الصَّحْنِ وَيَدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي يَدِ الْآخَرِ، فَطَفَرَ بَاطِنِيٌّ عَلَى مَوْدُودٍ، فَقَتَلَهُ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَيُقَالُ: إِنَّ طُغْتِكِينَ هُوَ الَّذِي مَالَأَ عَلَيْهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَجَاءَ كِتَابٌ مِنَ الْفِرِنْجِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ: إِنَّ أُمَّةً قَتَلَتْ عَمِيدَهَا فِي يَوْمِ عِيدِهَا فِي بَيْتِ مَعْبُودِهَا لَحَقِيقٌ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُبِيدَهَا.
وَفِيهَا مَلَكَ حَلَبَ أَلْبُ أَرْسَلَانَ بْنُ رِضْوَانَ بْنِ تُتُشَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَقَامَ بِأَمْرِ السَّلْطَنَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ لُؤْلُؤٌ الْخَادِمُ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى الرَّسْمِ.
وَفِيهَا فُتِحَ الْمَارَسْتَانُ الَّذِي أَنْشَأَهُ كُمُشْتِكِينُ الْخَادِمُ بِبَغْدَادَ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ زَنْكِي بْنُ بُرْسُقَ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَيْهَقِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَتَنَقَّلَ فِي الْبِلَادِ، وَدَرَّسَ بِمَدِينَةِ خُوَارِزْمَ، وَكَانَ فَاضِلًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَرْضِيَّ الطَّرِيقَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَلَدِهِ بَيْهَقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
شُجَاعُ بْنُ أَبِي شُجَاعٍ فَارِسِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ فَارِسٍ
أَبُو غَالِبٍ الذُّهْلِيُّ الْحَافِظُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ فَاضِلًا فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَشَرَعَ فِي تَتْمِيمِ " تَارِيخِ الْخَطِيبِ " ثُمَّ غَسَلَهُ، وَكَانَ يُكْثِرُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ ; لِأَنَّهُ كَتَبَ شِعْرَ ابْنِ الْحَجَّاجِ سَبْعَ مَرَّاتٍ. تُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ عَنْ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَنْبَسَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ الْأُمَوِيُّ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ الْأَبِيْوَرْدِيُّ
الشَّاعِرُ، كَانَ عَالِمًا بِاللُّغَةِ وَالْأَنْسَابِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَصَنَّفَ " تَارِيخَ أَبِيْوَرْدَ " وَ " أَنْسَابَ الْعَرَبِ " وَلَهُ كِتَابٌ فِي الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ يُنْسَبُ

إِلَى الْكِبْرِ وَالتِّيهِ الزَّائِدِ ; حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَدْعُو فِي صِلَاتِهِ اللَّهُمَّ مَلِّكْنِي مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَكَتَبَ مَرَّةً إِلَى الْخَلِيفَةِ: الْخَادِمُ الْمُعَاوِيُّ، فَكَشَطَ الْخَلِيفَةُ الْمِيمَ فَبَقِيَتِ الْعَاوِيَّ، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
تَنَكَّرَ لِي دَهْرِي وَلَمْ يَدْرِ أَنَّنِي أَعِزُّ وَأَحْدَاثُ الزَّمَانِ تَهُونُ وَظَلَّ يُرِينِي الْخَطْبَ كَيْفَ اعْتِدَاؤُهُ
وَبِتُّ أُرِيهِ الصَّبْرَ كَيْفَ يَكُونُ
مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ
أَبُو الْفَضْلِ الْمَقْدِسِيُّ الْحَافِظُ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمَائَةٍ، وَأَوَّلُ سَمَاعِهِ سَنَةَ سِتِّينَ، وَسَافَرَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إِلَى بِلَادٍ كَثِيرَةٍ، وَسَمِعَ كَثِيرًا، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ، وَصَنَّفَ كُتُبًا مُفِيدَةً ; غَيْرَ أَنَّهُ صَنَّفَ كِتَابًا فِي إِبَاحَةِ السَّمَاعِ وَفِي التَّصَوُّفِ، وَاسْتَعْمَلَ فِيهِ أَحَادِيثَ مُنْكَرَةً جِدًّا، وَأَوْرَدَ أَحَادِيثَ صَحِيحَةً فِي غَيْرِ كُنْهِهَا، وَقَدْ أَثْنَى عَلَى حِفْظِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ هَذَا الَّذِي سَمَّاهُ " صِفَةَ التَّصَوُّفِ " وَقَالَ عَنْهُ: يَضْحَكُ مِنْهُ مَنْ رَآهُ، قَالَ: وَكَانَ دَاوُدِيَّ الْمَذْهَبِ، فَمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ أَثْنَى لِأَجْلِ حِفْظِهِ لِلْحَدِيثِ، وَإِلَّا فَمَا يُجَرَّحُ بِهِ أَوْلَى، قَالَ: وَذَكَرَهُ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ وَانْتَصَرَ لَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، بَعْدَ أَنْ قَالَ: سَأَلْتُ عَنْهُ شَيْخَنَا إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَحْمَدَ الطَّلْحِيَّ فَأَسَاءَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ، وَكَانَ سَيِّئَ الرَّأْيِ فِيهِ. قَالَ وَسَمِعْنَا

أَبَا الْفَضْلِ بْنَ نَاصِرٍ. يَقُولُ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، صَنَّفَ فِي جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى الْمُرْدِ، وَكَانَ يَذْهَبُ مَذْهَبَ الْإِبَاحِيَّةِ، ثُمَّ أَوْرَدَ لَهُ مِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
دَعِ التَّصَوُّفَ وَالزُّهْدَ الَّذِي اشْتَغَلَتْ بِهِ جَوَارِحُ أَقْوَامٍ مِنَ النَّاسِ
وَعُجْ عَلَى دَيْرِ دَارَيَّا فَإِنَّ بِهِ الْرُّهْ بَانَ مَا بَيْنَ قِسِّيسٍ وَشَمَّاسِ
وَاشْرَبْ مُعَتَّقَةً مِنْ كَفِّ كَافِرَةٍ تَسْقِيكَ خَمْرَيْنِ مِنْ لَحْظٍ وَمِنْ كَاسِ
ثُمَّ اسْتَمِعَ رَنَّةَ الْأَوْتَارِ مِنْ رَشَأٍ مُهَفْهَفٍ طَرْفُهُ أَمْضَى مِنَ الْمَاسِ
غَنِّي بِشِعْرِ امْرِئٍ فِي النَّاسِ مُشْتَهِرٍ مُدَوَّنٍ عَنْدَهُمْ فِي صَدْرِ قِرْطَاسِ
لَوْلَا نَسِيمٌ بِذِكْرَاكُمْ يُرَوِّحُنِي لَكُنْتُ مُحْتَرِقًا مِنْ حَرِّ أَنْفَاسِي
ثُمَّ قَالَ السَّمْعَانِيُّ: لَعَلَّهُ قَدْ تَابَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذَا غَيْرُ مَرْضِيٍّ ; أَنْ يَذْكُرَ جَرْحَ الْأَئِمَّةِ لَهُ، ثُمَّ يَعْتَذِرُ عَنْ ذَلِكَ بِاحْتِمَالِ تَوْبَتِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ جَعَلَ يُرَدِّدُ هَذَا الْبَيْتَ:
وَمَا كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ الْجَفَا فَمِمَّنْ تُرَى قَدْ تَعَلَّمْتُمُ
ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَادَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا.
أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ
صَاحِبُ الْمُسْتَظْهِرِيِّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عُمَرَ الشَّاشِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، وُلِدَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ

وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمَائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ عَلَى أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ وَأَبِي بَكْرٍ الْخَطِيبِ وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَتَفَقَّهَ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَقَرَأَ " الشَّامِلَ " عَلَى مُصَنِّفِهِ ابْنِ الصَّبَّاغِ، وَاخْتَصَرَهُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي جَمَعَهُ لِلْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ وَسَمَّاهُ " حِلْيَةَ الْعُلَمَاءِ بِمَعْرِفَةِ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ " وَيُعْرَفُ بِالْمُسْتَظْهِرِيِّ، وَقَدْ دَرَّسَ بِالنِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ ثُمَّ عُزِلَ عَنْهَا، وَكَانَ يُنْشِدُ:
تَعَلَّمْ يَا فَتَى وَالْعُودُ غَضٌّ وَطِينُكَ لَيِّنٌ وَالطَّبْعُ قَابِلْ
فَحَسْبُكَ يَا فَتَى شَرَفًا وَفَخْرًا سُكُوتُ الْحَاضِرِينَ وَأَنْتَ قَائِلْ
تُوُفِّيَ سَحَرَ يَوْمِ السَّبْتِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ بِبَابِ أَبْرَزَ.
الْمُؤْتَمَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ
أَبُو نَصْرٍ السَّاجِيُّ الْمَقْدِسِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَخَرَّجَ، وَكَانَ ثِقَةً، صَحِيحَ النَّقْلِ، حَسَنَ الْخَطِّ، مَشْكُورَ السِّيرَةِ، لَطِيفَ النَّفْسِ، اشْتَغَلَ فِي الْفِقْهِ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ مُدَّةً، وَرَحَلَ إِلَى أَصْبَهَانَ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنْ جُمْلَةِ الْحُفَّاظِ لَا سِيَّمَا لِلْمُتُونِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهُوَ أَحَقُّ مِنْهُ بِذَلِكَ، وَأَيْنَ الثُّرَيَّا مِنَ الثَّرَى؟ تُوُفِّيَ الْمُؤْتَمَنُ يَوْمَ السَّبْتِ ثَامِنَ عَشَرَ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِبَغْدَادَ، وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ هَائِلَةٌ بِأَرْضِ الْجَزِيرَةِ هَدَمَتْ مِنْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ بُرْجًا، وَمِنَ الرُّهَا بُيُوتًا كَثِيرَةً وَبَعْضَ سُورِ حَرَّانَ وَدُورًا كَثِيرَةً فِي بِلَادٍ شَتَّى ; فَهَلَكَ أَكْثَرُهَا، وَفِي بَالِسَ نَحْوًا مِنْ مِائَةِ دَارٍ، وَقُلِبَ بِنِصْفِ قَلْعَةِ حَرَّانَ وَسَلِمَ نِصْفُهَا، وَخُسِفَ بِمَدِينَةِ سُمَيْسَاطَ، وَهَلَكَ تَحْتَ الرَّدْمِ خَلْقٌ كَثِيرٌ. فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا قُتِلَ صَاحِبُ حَلَبَ تَاجُ الدَّوْلَةِ أَلْبُ أَرْسَلَانَ بْنُ رِضْوَانَ بْنِ تُتُشَ، قَتَلَهُ غِلْمَانُهُ، وَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ سُلْطَانْشَاهِ بْنُ رِضْوَانَ.
وَفِيهَا مَلَكَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ بْنُ مَلِكْشَاهْ بِلَادَ غَزْنَةَ وَخُطِبَ لَهُ بِهَا بَعْدَ مُقَاتَلَةٍ عَظِيمَةٍ، وَأَخَذَ مِنْهَا أَمْوَالًا كَثِيرَةً ; مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةُ تِيجَانٍ ; قِيمَةُ كُلِّ تَاجٍ مِنْهَا أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَسَبْعَةَ عَشَرَ سَرِيرًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَأَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةِ قِطْعَةِ مَصَاغٍ مُرَصَّعَةٍ، فَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقَرَّرَ فِي مُلْكِهَا بَهْرَامْ شَاهْ مِنْ بَيْتِ بَنِي سُبُكْتِكِينَ وَلَمْ يُخْطَبْ بِغَزْنَةَ قَبْلَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ مِنَ السَّلْجُوقِيَّةِ لِأَحَدٍ.

وَفِيهَا وَلَّى السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ لِلْأَمِيرِ آقْ سَنْقُرَ الْبُرْسُقِيِّ الْمَوْصِلَ وَأَعْمَالَهَا، وَأَمَرَهُ بِمُقَاتَلَةِ الْفِرِنْجِ فَقَاتَلَهُمْ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَخَذَ مِنْهُمُ الرُّهَا، وَخَرَّبَهَا وَسُرُوجَ وَسُمَيْسَاطَ، وَنَهَبَ مَارِدِينَ، وَأَسَرَ ابْنَ مَلِكِهَا إِيَازَ بْنَ إِيلْغَازِي، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ إِلَيْهِ مَنْ يَتَهَدَّدُهُ، فَفَرَّ مِنْهُ إِلَى طُغْتِكِينَ صَاحِبِ دِمَشْقَ، فَاتَّفَقَا عَلَى عِصْيَانِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَجَرَتْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ نَائِبِ حِمْصَ قُرْجَانَ بْنِ قُرَاجَةَ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ ثُمَّ اصْطَلَحُوا.
وَفِيهَا مَلَكَتْ زَوْجَةُ مَرْعَشَ الْإِفْرِنْجِيَّةُ، بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا، لَعَنَهُمَا اللَّهُ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا أَمِيرُ الْجُيُوشِ أَبُو الْخَيْرِ يَمَنٌ الْخَادِمُ، وَشَكَرَ النَّاسُ حَجَّهُمْ مَعَهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا جَهَّزَ السُّلْطَانُ غِيَاثُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مَلِكْشَاهْ صَاحِبُ الْعِرَاقِ جَيْشًا كَثِيفًا مَعَ الْأَمِيرِ بُرْسُقَ بْنِ بُرْسُقَ إِلَى إِيلْغَازِي صَاحِبِ مَارِدِينَ وَإِلَى طُغْتِكِينَ صَاحِبِ دِمَشْقَ لِيُقَاتِلَهُمَا عَلَى تَمَالُئِهِمَا عَلَى عِصْيَانِ السُّلْطَانِ، وَقَطْعِ خُطْبَتِهِ، وَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ عَمَدَ لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ الْجَيْشُ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ هَرَبَا مِنْهُ وَتَحَيَّزَا إِلَى الْفِرِنْجِ، وَجَاءَ الْأَمِيرُ بُرْسُقُ إِلَى كَفَرْ طَابَ فَفَتَحَهَا عَنْوَةً، وَأَخَذَ مَا كَانَ فِيهَا مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَجَاءَ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ رُوجِيلُ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ وَأَلْفَيْ رَاجِلٍ، فَكَبَسَ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَخَذَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَهَرَبَ بُرْسُقُ فِي طَائِفَةٍ قَلِيلَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَتَمَزَّقَ الْجَيْشُ الَّذِي كَانَ مَعَهُ شَذَرَ مَذَرَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا قَدِمَ السُّلْطَانُ غِيَاثُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ إِلَى بَغْدَادَ، وَجَاءَ إِلَيْهِ طُغْتِكِينُ صَاحِبُ دِمَشْقَ مُعْتَذِرًا إِلَيْهِ فَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَرَضِيَ عَنْهُ، وَرَدَّهُ إِلَى عَمَلِهِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَلَّةَ أَبُو عُثْمَانَ الْأَصْبَهَانِيُّ، أَحَدُ

الرَّحَّالِينَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ وَعَظَ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ ثَلَاثِينَ مَجْلِسًا، وَاسْتَمْلَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ وَتُوُفِّيَ بِأَصْبَهَانَ.
مُنْتَجَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُسْتَظْهِرِيُّ،
أَبُو الْحَسَنِ الْخَادِمُ، كَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: وَقَفَ عَلَى أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ بْنِ مُوسَى
أَبُو الْبَرَكَاتِ السَّقَطِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَرَحَلَ فِيهِ، وَكَانَ فَاضِلًا عَارِفًا بِاللُّغَةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
يَحْيَى بْنُ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ،
صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ عَارِفًا، حَسَنَ السِّيرَةِ، مُحِبًّا لِلْفُقَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، وَلَهُمْ عَلَيْهِ أَرْزَاقٌ، مَاتَ وَلَهُ ثِنْتَانِ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَتَرَكَ ثَلَاثِينَ وَلَدًا، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ عَلِيٌّ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ بِبَغْدَادَ احْتَرَقَتْ فِيهِ دُورٌ كَثِيرَةٌ ; مِنْهَا دَارُ نُورِ الْهُدَى الزَّيْنَبِيِّ، وَرِبَاطُ بِهْرُوزَ وَدَارُ كُتُبِ النِّظَامِيَّةِ، وَسَلِمَتِ الْكُتُبُ ; لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ نَقَلُوهَا.
وَفِيهَا قُتِلَ صَاحِبُ مَرَاغَةَ فِي مَجْلِسِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ قَتَلَهُ الْبَاطِنِيَّةُ، وَفِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ بِمَشْهَدِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا بِمَدِينَةِ طُوسَ ; فَقُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَفِيهَا سَارَ السُّلْطَانُ إِلَى فَارِسَ بَعْدَ مَوْتِ نَائِبِهَا خَوْفًا عَلَيْهَا مِنْ صَاحِبِ كَرْمَانَ،. وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْجُيُوشِ أَبُو الْحَسَنِ نَظَرٌ الْخَادِمُ، وَكَانَتْ سَنَةً مُخْصِبَةً آمِنَةً، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْبَغَوِيُّ الْمُفَسِّرُ الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ، كَمَا سَيَأْتِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عَقِيلُ بْنُ الْإِمَامِ أَبِي الْوَفَا عَلِيِّ بْنِ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ، كَانَ شَابًّا قَدْ بَرَعَ وَحَفِظَ الْقُرْآنَ وَكَتَبَ مَلِيحًا وَفَهِمَ الْمَعَانِي جَيِّدًا، وَلَمَّا تُوُفِّيَ تَصَبَّرَ أَبُوهُ وَتَشَكَّرَ

وَأَظْهَرَ التَّجَلُّدَ، فَقَرَأَ قَارِئٌ فِي الْعَزَاءِ: يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ [ يُوسُفَ: 78 ] الْآيَةَ. فَبَكَى ابْنُ عَقِيلٍ بُكَاءً شَدِيدًا.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَيَانٍ الرَّزَّازُ
آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنِ ابْنِ مَخْلَدٍ بِجُزْءِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ، وَتَفَرَّدَ بِأَشْيَاءَ غَيْرِهِ أَيْضًا، تُوُفِّيَ فِيهَا عَنْ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ
أَبُو بَكْرٍ السَّمْعَانِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَحَدَّثَ، وَوَعَظَ بِالنِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَأَمْلَى بِمَرْوَ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ مَجْلِسًا، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ بِالْحَدِيثِ، وَكَانَ أَدِيبًا شَاعِرًا فَاضِلًا لَهُ قَبُولٌ عَظِيمٌ فِي الْقُلُوبِ، تُوُفِّيَ بِمَرْوَ عَنْ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ طَاهِرِ بْنِ حَمَدٍ أَبُو مَنْصُورٍ الْخَازِنُ،
فَقِيهُ الْإِمَامِيَّةِ وَمُفْتِيهِمْ بِالْكَرْخِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ التَّنُوخِيِّ وَابْنِ غَيْلَانَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ.

مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو بَكْرٍ النَّسَوِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَتْ إِلَيْهِ تَزْكِيَةُ الشُّهُودِ بَنَسَا، وَكَانَ فَاضِلًا دَيِّنًا وَرِعًا.
مَحْفُوظُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ
أَبُو الْخَطَّابِ الْكَلْوَذَانِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ وَمُصَنِّفِيهِمْ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَتَفَقَّهَ بِالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَقَرَأَ الْفَرَائِضَ عَلَى الْوَنِّيِّ، وَدَرَّسَ وَأَفْتَى وَنَاظَرَ، وَصَنَّفَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ وَجَمَعَ قَصِيدَةً يَذْكُرُ فِيهَا اعْتِقَادَهُ وَمَذْهَبَهُ، يَقُولُ فِيهَا:
دَعْ عَنْكَ تَذْكَارَ الْخَلِيطِ الْمُنْجِدِ وَالشَّوْقَ نَحْوَ الْآنِسَاتِ الْخُرَّدِ وَالنَّوْحَ فِي تَذْكَارِ سُعْدَى إِنَّمَا
تَذْكَارُ سُعْدَى شُغْلُ مَنْ لَمْ يَسْعَدِ وَاسْمَعْ مَقَالِي إِنْ أَرَدْتَ تَخَلُّصًا
يَوْمَ الْحِسَابِ وَخُذْ بِهَدْيِي تَهْتَدِ
وَذَكَرَ تَمَامَهَا وَهِيَ طَوِيلَةٌ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ الْقَصْرِ، وَجَامِعِ الْمَنْصُورِ وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي رَابِعِ صَفَرٍ مِنْهَا انْكَسَفَ الْقَمَرُ كُسُوفًا كُلِّيًّا، وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ هَجَمَ الْفِرِنْجُ عَلَى رَبَضِ حَمَاةَ فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا، وَرَجَعُوا - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - إِلَى بِلَادِهِمْ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِبَغْدَادَ ; سَقَطَتْ مِنْهَا دُورٌ كَثِيرَةٌ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَغَلَتِ الْغَلَّاتُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِبَغْدَادَ جِدًّا، وَفِيهَا قُتِلَ لُؤْلُؤٌ الْخَادِمُ الَّذِي كَانَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى مَمْلَكَةِ حَلَبَ بَعْدَ مَوْتِ أُسْتَاذِهِ رِضْوَانَ بْنِ تُتُشَ، قَتَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ مِنْ حَلَبَ مُتَوَجِّهًا إِلَى جَعْبَرَ، فَتَنَادَى جَمَاعَةٌ مِنْ مَمَالِيكِهِ وَغَيْرِهِمْ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ: أَرْنَبٌ أَرْنَبٌ. فَرَمَوْهُ بِالسِّهَامِ مُوهِمِينَ أَنَّهُمْ يَصِيدُونَ صَيْدًا فَقَتَلُوهُ.
وَفِيهَا كَانَ وَفَاةُ السُّلْطَانِ غِيَاثِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ، مَلِكِ بِلَادَ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ وَالْأَقَالِيمِ الْوَاسِعَةِ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً، عَادِلًا رَحِيمَ الْقَلْبِ سَهْلَ الْأَخْلَاقِ مَحْمُودَ الْعِشْرَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ

اسْتَدْعَى وَلَدَهُ مَحْمُودًا، وَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَبَكَى كُلٌّ مِنْهُمَا، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ، وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَنَةً، فَجَلَسَ وَعَلَيْهِ التَّاجُ وَالسُّوَارَانِ، وَحَكَمَ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ صَرَفَ الْخَزَائِنَ إِلَى الْعَسَاكِرِ، وَكَانَ فِيهَا أَحَدَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاسْتَقَرَّ الْمُلْكُ لَهُ، وَخُطِبَ لَهُ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَكَانَ عُمْرُ أَبِيهِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، وَقَدْ كَانَ خُطِبَ لَهُ بِبَغْدَادَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ، وَنَازَعَهُ أَخُوهُ بَرْكْيَارُوقُ ثُمَّ اسْتَقَرَّ لَهُ الْمُلْكُ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَفِيهَا وُلِدَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنِ زَنْكِي بْنِ آقْ سُنْقُرَ، صَاحِبُ حَلَبَ وَدِمَشْقَ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْقَاضِي الْمُرْتَضَى أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْقَاسِمِ الشَّهْرَزُورِيُّ، وَالِدُ الْقَاضِي جَمَالِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الشَّهْرَزُورِيِّ قَاضِي دِمَشْقَ فِي أَيَّامِ نُورِ الدِّينِ، اشْتَغَلَ بِبَغْدَادَ وَتَفَقَّهَ بِهَا، وَكَانَ شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ، بَارِعًا دَيِّنًا حَسَنَ النَّظْمِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ فَكَانَ يَعِظُ وَيَتَكَلَّمُ عَلَى الْقُلُوبِ، وَلَهُ قَصِيدَةٌ بَارِعَةٌ فِي عِلْمِ التَّصَوُّفِ، أَوْرَدَهَا الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ بِتَمَامِهَا لِحُسْنِهَا وَفَصَاحَتِهَا:
لَمَعَتْ نَارُهُمْ وَقَدْ عَسْعَسَ اللَّيْ لُ وَمَلَّ الْحَادِي وَحَارَ الدَّلِيلُ

فَتَأَمَّلْتُهَا وَفِكْرِي مِنَ الْبَيْ
نِ عَلِيلٌ وَلَحْظُ عَيْنِي كَلِيلُ وَفُؤَادِي ذَاكَ الْفُؤَادُ الْمُعَنَّى
وَغَرَامِي ذَاكَ الْغَرَامُ الدَّخِيلُ
وَمِنْ شِعْرِهِ:
يَا لَيْلُ مَا جِئْتُكُمْ زَائِرًا إِلَّا وَجَدْتُ الْأَرْضَ تُطْوَى لِي
وَلَا ثَنَيْتُ الْعَزْمَ عَنْ بَابِكُمْ إِلَّا تَعَثَّرْتُ بِأَذْيَالِي
وَمِنْ شَعْرِهِ دُوبَيْتُ:
يَا قَلْبُ إِلَامَ لَا يُفِيدُ النُّصْحُ دَعْ مَزْحَكَ كَمْ جَنَى عَلَيْكَ الْمَزْحُ
مَا جَارِحَةٌ مِنْكَ عَدَاهَا جُرْحُ مَا تَشْعُرُ بِالْخُمَارِ حَتَّى تَصْحُو
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَزَعَمَ الْعِمَادُ فِي " الْخَرِيدَةِ " أَنَّهُ تُوُفِّيَ بَعْدَ الْعِشْرِينَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبْهَانَ
أَبُو عَلِيٍّ الْكَاتِبُ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَوَى وَعُمِّرَ مِائَةَ سَنَةٍ، وَتَغَيَّرَ قَبْلَ مَوْتِهِ وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ ; فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ:
لِي أَجَلٌ قَدَّرَهُ اللَّهُ نَعَمْ وَرِزْقٌ أَتَوَفَّاهُ

حَتَّى إِذَا اسْتَوْفَيْتُ مِنْهُ الَّذِي قُدِّرَ لِي لَا أَتَعَدَّاهُ
قَالَ كِرَامٌ كَنْتُ أَغْشَاهُمُ فِي مَجْلِسٍ قَدْ كُنْتُ أَغْشَاهُ
صَارَ ابْنُ نَبْهَانَ إِلَى رَبِّهِ يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاهُ
أَمِيرُ الْحَاجِّ يُمْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو الْخَيْرِ الْمُسْتَظْهِرِيُّ، كَانَ جَوَّادًا كَرِيمًا مُمَدَّحًا، ذَا رَأْيٍ وَفِطْنَةٍ ثَاقِبَةٍ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ طَلْحَةَ النِّعَالِيِّ بِإِفَادَةِ أَبِي نَصْرٍ الْأَصْبَهَانِيِّ، وَكَانَ يَؤُمُّ بِهِ فِي الصَّلَوَاتِ، وَلَمَّا قَدِمَ رَسُولًا إِلَى أَصْبَهَانَ حَدَّثَ بِهَا، وَاتَّفَقَ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ هُنَاكَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا خُطِبَ لِلسُّلْطَانِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ بِأَمْرِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ. وَفِيهَا سَأَلَ دُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ بْنِ مَنْصُورٍ الْأَسَدِيِّ مِنَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى الْحِلَّةِ وَغَيْرِهَا، مِمَّا كَانَ أَبُوهُ يَتَوَلَّاهُ مِنَ الْأَعْمَالِ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَوَلَّاهُ مَا كَانَ أَبُوهُ يَتَوَلَّاهُ مِنْ ذَلِكَ، فَعَظُمَ وَارْتَفَعَ شَأْنُهُ.

وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ
وَهُوَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، كَانَ خَيِّرًا فَاضِلًا ذَكِيًّا بَارِعًا، كَتَبَ الْخَطَّ الْمَنْسُوبَ، وَكَانَتْ أَيَّامُهُ بِبَغْدَادَ كَأَنَّهَا الْأَعْيَادُ، وَكَانَ رَاغِبًا فِي الْبِرِّ وَالْخَيْرِ مُسَارِعًا إِلَى ذَلِكَ ; لَا يَرُدُّ سَائِلًا، وَكَانَ جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ، لَا يُصْغِي إِلَى أَقْوَالِ الْوُشَاةِ فِي النَّاسِ وَلَا يَثِقُ بِالْمُبَاشِرِينَ، وَقَدْ ضَبَطَ أُمُورَ الْخِلَافَةِ جَيِّدًا وَأَحْكَمَهَا وَعَرَفَهَا وَعَلِمَهَا، وَلَدَيْهِ عِلْمٌ كَثِيرٌ، وَفَضْلٌ كَبِيرٌ، وَشِعْرٌ حَسَنٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا عِنْدَ ذِكْرِ خِلَافَتِهِ، وَقَدْ وَلِيَ غُسْلَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ السُّنِّيِّ، وَصَلَّى عَلَيْهِ وَلَدُهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْفَضْلُ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا، وَدُفِنَ فِي حُجْرَةٍ كَانَ يَسْكُنُهَا.

وَالْعَجَبُ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ السُّلْطَانُ أَلْبُ أَرْسَلَانَ مَاتَ بَعْدَهُ الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ مَاتَ بَعْدَهُ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ مَاتَ بَعْدَهُ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ؛ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَكَانَتْ وَفَاةُ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ فِي سَادِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا.

خِلَافَةُ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي مَنْصُورٍ الْفَضْلِ بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ
لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ - كَمَا ذَكَرْنَا - بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَقَدْ كَانَ وَلِيَ الْعَهْدَ مِنْ مُدَّةِ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ الَّذِي أَخَذَ الْبَيْعَةَ لَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيُّ، وَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْبَيْعَةُ لَهُ هَرَبَ أَخُوهُ أَبُو الْحَسَنِ فِي سَفِينَةٍ وَمَعَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، وَقَصَدَ دُبَيْسَ بْنَ صَدَقَةَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ دُبَيْسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيَّ بِالْحِلَّةِ، فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، فَقَلِقَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، فَرَاسَلَ دُبَيْسًا فِي ذَلِكَ مَعَ نَقِيبِ النُّقَبَاءِ الزَّيْنَبِيِّ، فَهَرَبَ أَخُو الْخَلِيفَةِ مِنْ دُبَيْسٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ جَيْشًا فَأَلْجَئُوهُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَلَحِقَهُ عَطَشٌ شَدِيدٌ فَلَقِيَهُ بَدَوِيَّانِ فَسَقَيَاهُ مَاءً، وَحَمَلَاهُ إِلَى بَغْدَادَ، فَأَحْضَرَهُ أَخُوهُ إِلَيْهِ فَاعْتَنَقَا وَتَبَاكَيَا، وَأَنْزَلَهُ الْخَلِيفَةُ دَارًا كَانَ يَسْكُنُهَا قَبْلَ الْخِلَافَةِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَطَيَّبَ نَفْسَهُ، وَكَانَ مُدَّةُ غَيْبَتِهِ عَنْ بَغْدَادَ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، وَاسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ بِلَا مُنَازَعَةٍ لِلْمُسْتَرْشِدِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِبَغْدَادَ، وَانْقَطَعَ الْغَيْثُ وَعُدِمَتِ الْأَقْوَاتُ، وَتَفَاقَمَ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ بِبَغْدَادَ، وَنَهَبُوا الدِّيَارَاتِ نَهَارًا جِهَارًا، وَلَمْ تَسْتَطِعِ الشُّرْطَةُ لِذَلِكَ

تَغْيِيرًا وَلَا إِنْكَارًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ نَظَرٌ الْخَادِمُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ آنِفًا فِي هَذَا الْعَامِ.
ثُمَّ تُوُفِّيَتْ بَعْدَهُ جَدَّتُهُ أَمُّ أَبِيهِ الْمُقْتَدِي.
أُرْجُوَانُ الْأَرْمَنِيَّةُ
وَتُدْعَى قُرَّةَ الْعَيْنِ، وَكَانَ لَهَا بِرٌّ كَثِيرٌ وَمَعْرُوفٌ وَصَدَقَاتٌ، وَقَدْ حَجَّتْ ثَلَاثَ حَجَّاتٍ، وَأَدْرَكَتْ خِلَافَةَ ابْنِهَا الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ وَخِلَافَةَ ابْنِهِ الْمُسْتَظْهِرِ وَخِلَافَةَ ابْنِهِ الْمُسْتَرْشِدِ، وَرَأَتْ لِلْمُسْتَرْشِدِ وَلَدًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ؛ رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْفَضْلِ
أَبُو الْفَضْلِ الْأَنْصَارِيُّ، رَوَى الْحَدِيثَ، وَكَانَ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي حِفْظِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَتَفَقَّهَ عَلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَحْمَدَ الْحَلْوَانِئِيِّ، وَكَانَ يَذْكُرُ الدُّرُوسَ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ سُئِلَ مِنْ غَيْرِ مُطَالَعَةٍ وَلَا مُرَاجَعَةٍ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ طَلَبِهِ يُكَرِّرُ الْمَسْأَلَةَ أَرْبَعَمِائَةِ مَرَّةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الزَّيْنَبِيُّ،
قَرَأَ الْقُرْآنَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيِّ

فَبَرَعَ وَأَفْتَى، وَدَرَّسَ بِمَشْهَدِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَظَرَ فِي أَوْقَافِهَا وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلُقِّبَ نُورَ الْهُدَى، وَسَارَ فِي الرُّسُلِيَّةِ إِلَى الْمُلُوكِ، وَوَلِيَ نِقَابَةَ الطَّالِبِيِّينَ وَالْعَبَّاسِيِّينَ، ثُمَّ اسْتَعْفَى بَعْدَ شُهُورٍ، فَوَلِيَ أَخُوهُ طِرَادٌ نِقَابَةَ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثِنْتَانِ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيٌّ، وَحَضَرَهُ الْأَعْيَانُ وَالْعُلَمَاءُ، وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ دَاخِلَ الْقُبَّةِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ أَبُو طَاهِرٍ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْخَرَزِيِّ صَاحِبُ الْمَخْزَنِ فِي أَيَّامِ الْمُسْتَظْهِرِ، وَكَانَ لَا يُوَفِّي الْمُسْتَرْشِدَ حَقَّهُ مِنَ التَّعْظِيمِ، وَهُوَ وَلِيُّ عَهْدٍ، فَلَمَّا صَارَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ صَادَرَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ غُلَامًا لَهُ فَأَوْمَأَ إِلَى بَيْتٍ، فَوَجَدَ فِيهِ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَخَذَهَا الْخَلِيفَةُ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ هَذَا بِقَلِيلٍ فِي هَذَا الْعَامِ.
أَبُو الْفَضْلِ بْنُ الْخَازِنِ،
كَانَ أَدِيبًا لَطِيفًا شَاعِرًا فَاضِلًا، فَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
وَافَيْتُ مَنْزِلَهُ فَلَمْ أَرَ صَاحِبًا إِلَّا تَلَقَّانِي بِوَجْهٍ ضَاحِكِ وَالْبِشْرُ فِي وَجْهِ الْغُلَامِ نَتِيجَةٌ
لِمُقَدِّمَاتِ ضِياءِ وَجْهِ الْمَالِكِ وَدَخَلْتُ جَنَّتَهُ وَزُرْتُ جَحِيمَهُ
فَشَكَرْتُ رِضْوَانًا وَرَأْفَةَ مَالِكِ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتِ الْحُرُوبُ الشَّدِيدَةُ بَيْنَ السُّلْطَانِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ وَبَيْنَ عَمِّهِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ بْنِ مَلِكْشَاهْ، فَكَانَ النَّصْرُ فِيهَا لِسَنْجَرَ، فَخُطِبَ لَهُ بِبَغْدَادَ فِي سَادِسَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ ثُمَّ وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا وَرَسَمَ السُّلْطَانُ سَنْجَرَ أَنْ يُخْطَبَ لِابْنِ أَخِيهِ مَحْمُودٍ فِي سَائِرِ أَعْمَالِهِ.
وَفِيهَا سَارَتِ الْفِرِنْجُ إِلَى مَدِينَةِ حَلَبَ فَفَتَحُوهَا عَنْوَةً وَمَلَكُوهَا وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا، فَسَارَ إِلَيْهِمْ صَاحِبُ مَارِدِينَ إِيلْغَازِي بْنُ أُرْتُقَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فَهَزَمَهُمْ عَنْهَا، وَلَحِقَهُمْ إِلَى جَبَلٍ قَدْ تَحَصَّنُوا فِيهِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ هُنَالِكَ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً؛ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الْيَسِيرُ، وَأَسَرَ مِنْ مُقَدَّمِهِمْ نَيِّفًا وَسَبْعِينَ رَجُلًا، وَقُتِلَ فِيمَنْ قُتِلَ سَرْخَالُ صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى بَغْدَادَ فَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ وَقَدْ بَالَغَ مُبَالَغَةً فَاحِشَةً:
قُلْ مَا تَشَاءُ فَقَوْلُكَ الْمَقْبُولُ وَعَلَيْكَ بَعْدَ الْخَالِقِ التَّعْوِيلُ

وَاسْتَبْشَرَ الْقُرْآنُ حِينَ نَصَرْتَهُ
وَبَكَى لِفَقْدِ رِجَالِهِ الْإِنْجِيلُ
وَفِيهَا قُتِلَ الْأَمِيرُ مَنْكُبِرْسُ الَّذِي كَانَ شِحْنَةَ بَغْدَادَ وَكَانَ ظَالِمًا غَاشِمًا سَيِّئَ السِّيرَةِ، قَتَلَهُ الْمَلِكُ مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ لِأُمُورٍ ; مِنْهَا أَنَّهُ تَزَوَّجَ سُرِّيَّةَ أَبِيهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَنِعْمَ مَا فَعَلَ، وَقَدْ أَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ مَا كَانَ أَظْلَمَهُ وَأَغْشَمَهُ.
وَفِيهَا تَوَلَّى قَضَاءَ قُضَاةِ بَغْدَادَ الْأَكْمَلُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيُّ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيِّ، وَفِيهَا ظَهَرَ قَبْرُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَبْرُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَشَاهَدَ ذَلِكَ النَّاسُ وَلَمْ تَبْلَ أَجْسَادُهُمْ، وَعِنْدَهُمْ قَنَادِيلُ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْخَازِنِ فِي " تَارِيخِهِ " وَأَظُنُّهُ نَقَلَهُ مِنْ " الْمُنْتَظَمِ " لِابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

ابْنُ عَقِيلٍ عَلِيُّ بْنُ عَقِيلِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ أَبُو الْوَفَاءِ، شَيْخُ الْحَنَابِلَةِ بِبَغْدَادَ وَصَاحِبُ " الْفُنُونِ " وَغَيْرِهَا مِنَ التَّصَانِيفِ الْمُفِيدَةِ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى

وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمَائَةٍ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى ابْنِ شِيطَا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَتَفَقَّهَ بِالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ، وَقَرَأَ الْأَدَبَ عَلَى ابْنِ بَرْهَانَ، وَالْفَرَائِضَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَمَذَانِيِّ، وَالْوَعْظَ عَلَى أَبِي طَاهِرِ بْنِ الْعَلَّافِ صَاحِبِ ابْنِ سَمْعُونَ، وَالْأُصُولَ عَلَى أَبِي الْوَلِيدِ الْمُعْتَزِلِيِّ، وَكَانَ يَجْتَمِعُ بِجَمِيعِ الْعُلَمَاءِ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ، فَرُبَّمَا لَامَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَلَا يَلْوِي عَلَيْهِمْ، فَلِهَذَا بَرَزَ عَلَى أَقْرَانِهِ، وَبَذَّ أَهْلَ زَمَانِهِ فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، مَعَ صِيَانَةٍ وَدِيَانَةٍ وَحُسْنِ صُورَةٍ وَكَثْرَةِ اشْتِغَالٍ، وَقَدْ وَعَظَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ فَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَقَدْ مَتَّعَهُ اللَّهُ بِجَمِيعِ حَوَاسِّهِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بُكْرَةَ الْجُمُعَةِ ثَانِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً جِدًّا، وَدُفِنَ قَرِيبًا مِنْ قَبْرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إِلَى جَانِبِ الْخَادِمِ مُخَلِّصٍ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ حَمُّويَهِ
أَبُو الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيُّ، قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ وُلِدَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ،

وَاشْتَغَلَ وَبَرَعَ وَتَوَلَّى قَضَاءَ الْقُضَاةِ بَعْدَ أَبِيهِ، ثُمَّ عُزِلَ بِأَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيِّ، ثُمَّ أُعِيدَ إِلَى الْحُكْمِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَا يُعْرَفُ حَاكِمٌ وَلِيَ الْحُكْمَ أَصْغَرُ سِنًّا مِنْهُ - يَعْنِي بِبَغْدَادَ - مِنْ قُضَاةِ الْقُضَاةِ. وَقَالَ: وَلَا يُعْرَفُ حَاكِمٌ وَلِيَ لِأَرْبَعَةٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ غَيْرُهُ إِلَّا شُرَيْحٌ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَمَانَتِهِ وَدِيَانَتِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحَرِّيهِ وَتَوَقِّيهِ وَقُوَّتِهِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ وَلِيَ الْحُكْمَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، كَذَلِكَ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَقَبْرُهُ عِنْدَ مَشْهَدِ أَبِي حَنِيفَةَ.
الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
أَبُو سَعْدٍ الْمُخَرِّمِيُّ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَتَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَنَاظَرَ وَأَفْتَى وَدَرَّسَ، وَجَمَعَ كُتُبًا كَثِيرَةً لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهَا، وَنَابَ فِي الْقَضَاءِ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، جَمِيلَ الطَّرِيقَةِ، سَدِيدَ الْأَقْضِيَةِ، وَقَدْ بَنَى مَدْرَسَةً بِبَابِ الْأَزَجِ، وَهِيَ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلِيِّ الْحَنْبَلِيِّ، ثُمَّ عُزِلَ عَنِ الْقَضَاءِ وَصُودِرَ بِأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ أَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ عِنْدَ قَبْرِ أَحْمَدَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي النِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ السُّلْطَانَيْنِ مَحْمُودٍ وَمَسْعُودٍ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ عِنْدَ عَقَبَةِ أَسَدَابَاذَ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ مَسْعُودٍ، وَأُسِرَ وَزِيرُهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْمَاعِيلَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَائِهِ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ بِقَتْلِ الْوَزِيرِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ، فَقُتِلَ وَلَهُ نَيِّفٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي صِنَاعَةِ الْكِيمْيَاءِ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ مَسْعُودٍ الْأَمَانَ، وَاسْتَقْدَمَهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا اعْتَنَقَا وَبَكَيَا وَاصْطَلَحَا.
وَفِيهَا نَهَبَ دُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ صَاحِبُ الْحِلَّةِ الْبِلَادَ وَرَكِبَ بِنَفْسِهِ إِلَى بَغْدَادَ، فَنَصَبَ خَيْمَةً بِإِزَاءِ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَأَظْهَرَ مَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الضَّغَائِنِ، وَذَكَرَ كَيْفَ طِيفَ بِرَأْسِ أَبِيهِ فِي الْبِلَادِ، وَتَهَدَّدَ الْمُسْتَرْشِدَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ يُسَكِّنُ جَأْشَهُ، وَيَعِدُهُ أَنَّهُ سَيُصْلِحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَلَمَّا قَدِمَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ بَغْدَادَ أَرْسَلَ دُبَيْسٌ يَسْتَأْمِنُ، فَأَمَّنَهُ وَأَجْرَاهُ عَلَى عَادَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَهَبَ جَيْشَ السُّلْطَانِ، فَرَكِبَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ بِنَفْسِهِ لِقِتَالِهِ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ أَلْفَ سَفِينَةٍ لِيَعْبُرَ بِهَا إِلَى الْحِلَّةِ، فَهَرَبَ دُبَيْسٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَالْتَجَأَ إِلَى إِيلْغَازِي فَأَقَامَ عِنْدَهُ سَنَةً، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْحِلَّةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِمَا، فَلَمْ يَقْبَلَا مِنْهُ، وَجَهَّزَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ جَيْشًا فَحَاصَرُوهُ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ قَرِيبًا مِنْ سَنَةٍ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فِي بِلَادِهِ لَا يَتَمَكَّنُ الْجَيْشُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْأَمَاكِنِ.

وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْكُرْجِ وَالْمُسْلِمِينَ بِالْقُرْبِ مِنْ تَفْلِيسَ، وَمَعَ الْكُرْجِ كُفَّارُ الْقُفْجَاقِ، فَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَنِمُوا أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَأَسَرُوا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ أَسِيرٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَنَهَبَ الْكُرْجُ تِلْكَ النَّوَاحِي وَفَعَلُوا أَشْيَاءَ مُنْكَرَةً، وَحَاصَرُوا تَفْلِيسَ مُدَّةً ثُمَّ مَلَكُوهَا عَنْوَةً، بَعْدَمَا أَحْرَقُوا الْقَاضِيَ وَالْخَطِيبَ حِينَ خَرَجُوا إِلَيْهِمْ يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ، وَقَتَلُوا عَامَّةَ أَهْلِهَا، وَسَبَوُا الذُّرِّيَّةَ، وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى الْأَمْوَالِ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَفِيهَا أَغَارَ جُوسْلِينُ الْفِرِنْجِيُّ صَاحِبُ الرُّهَا عَلَى خَلْقٍ مِنَ الْعَرَبِ وَالتُّرْكُمَانِ فَقَتَلَهُمْ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ.
وَفِيهَا تَمَرَّدَتِ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ، وَأَخَذُوا الدُورَ جِهَارًا لَيْلًا وَنَهَارًا، فَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ ابْتِدَاءُ مُلْكِ مُحَمَّدِ بْنِ تُومَرْتَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، كَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ أَنَّهُ قَدِمَ فِي حَدَاثَةِ سِنِّهِ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ إِلَى بَغْدَادَ فَسَكَنَ النِّظَامِيَّةَ، وَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ فَحَصَّلَ جَانِبًا جَيِّدًا مِنَ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ عَلَى الْغَزَّالِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ يُظْهِرُ التَّعَبُّدَ وَالزُّهْدَ وَالْوَرَعَ، وَرُبَّمَا أَنْكَرَ عَلَى الْغَزَّالِيِّ حُسْنَ مَلَابِسِهِ، وَلَا سِيَّمَا حِينَ لَبِسَ خِلْعَةَ التَّدْرِيسِ بِالنِّظَامِيَّةِ، ثُمَّ حَجَّ وَعَادَ إِلَى بِلَادِهِ، فَكَانَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقْرِئُ النَّاسَ الْقُرْآنَ، وَيَشْغَلُهُمْ فِي الْفِقْهِ، فَطَارَ ذِكْرُهُ فِي النَّاسِ، وَاجْتَمَعَ بِهِ يَحْيَى بْنُ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ صَاحِبُ بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ

فَعَظَّمَهُ وَأَكْرَمَهُ وَسَأَلَهُ الدُّعَاءَ فَاشْتُهِرَ أَيْضًا بِذَلِكَ وَبَعُدَ صِيتُهُ، وَلَيْسَ مَعَهُ إِلَّا رِكْوَةٌ وَعَصًا، وَلَا يَسْكُنُ إِلَّا الْمَسَاجِدَ، ثُمَّ كَانَ يَنْتَقِلُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ حَتَّى دَخَلَ مَرَّاكُشَ، وَمَعَهُ تِلْمِيذُهُ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ عَلِيٍّ، وَكَانَ وَقَدْ كَانَ تَوَسَّمَ فِيهِ النَّجَابَةَ وَالشَّهَامَةَ، فَرَأَى فِيهَا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ أَضْعَافَ مَا رَأَى فِي غَيْرِهَا ; مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الرِّجَالَ يَتَلَثَّمُونَ وَالنِّسَاءَ يَمْشِينَ حَاسِرَاتٍ عَنْ وُجُوهِهِنَّ، فَأَخَذَ فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّهُ اجْتَازَ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أُخْتُ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ بْنِ تَاشُفِينَ مَلِكِ مَرَّاكُشَ وَمَا حَوْلَهَا، وَمَعَهَا نِسَاءٌ رَاكِبَاتٌ حَاسِرَاتٌ عَنْ وُجُوهِهِنَّ، فَشَرَعَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يُنْكِرُونَ عَلَيْهِنَّ وَيَضْرِبُونَ الدَّوَابَّ، فَسَقَطَتْ أُخْتُ الْمَلِكِ عَنْ دَابَّتِهَا، فَأَحْضَرَهُ الْمَلِكُ وَأَحْضَرَ الْفُقَهَاءَ فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ بِالْحُجَّةِ، وَأَخَذَ يَعِظُ الْمَلِكَ فِي نَفْسِهِ، وَمَعَ هَذَا نَفَاهُ الْمَلِكُ عَنْ بَلَدِهِ، فَشَرَعَ يُشَنِّعُ عَلَيْهِ وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى قِتَالِهِ، فَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَجَهَّزَ إِلَيْهِ ابْنُ تَاشُفِينَ جَيْشًا كَثِيفًا فَهَزَمَهُمُ ابْنُ تُومَرْتَ، فَعَظُمَ شَأْنُهُ وَارْتَفَعَ أَمْرُهُ وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَتَسَمَّى بِالْمَهْدِيِّ، وَسَمَّى جَيْشَهُ جَيْشَ الْمُوَحِّدِينَ، وَأَلَّفَ كِتَابًا فِي التَّوْحِيدِ وَعَقِيدَةً تُسَمَّى الْمُرْشِدَةُ، ثُمَّ كَانَتْ لَهُ وَقَعَاتٌ مَعَ جُيُوشِ ابْنِ تَاشُفِينَ، فَقَتَلَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْوَنْشَرِيسِيِّ، وَكَانَ ذَكَرَ أَنَّهُ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ وَعَلَّمَهُ الْقُرْآنَ وَ " الْمُوَطَّأَ " وَلَهُ بِذَلِكَ مَلَائِكَةٌ يَشْهَدُونَ بِهِ فِي بِئْرٍ سَمَّاهُ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِهِ وَكَانَ قَدْ أَرْصَدَ فِيهِ رِجَالًا، فَلَمَّا سَأَلَهُمْ وَالنَّاسُ يَسْمَعُونَ شَهِدُوا لَهُ

بِذَلِكَ، فَأَمَرَ حِينَئِذٍ بِطَمِّ الْبِئْرِ عَلَيْهِمْ فَمَاتُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَلِهَذَا يُقَالُ: مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سُلِّطَ عَلَيْهِ.
ثُمَّ جَهَّزَ ابْنُ تُومَرْتَ الَّذِي لَقَّبَ نَفْسَهُ بِالْمَهْدِيِّ جَيْشًا عَلَيْهِمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَنْشَرِيسِيُّ وَعَبْدُ الْمُؤْمِنِ لِمُحَاصَرَةِ مَرَّاكُشَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُهَا فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَنْشَرِيسِيُّ هَذَا الَّذِي زَعَمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُخَاطِبُهُ، ثُمَّ افْتَقَدُوهُ فِي الْقَتْلَى فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَالُوا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ رَفَعَتْهُ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ دَفَنَهُ وَالنَّاسُ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَهْدِيِّ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ كَانَ حِينَ جَهَّزَ الْجَيْشَ مَرِيضًا مُدْنِفًا، فَلَمَّا جَاءَهُ الْخَبَرُ ازْدَادَ مَرَضًا إِلَى مَرَضِهِ، وَسَاءَهُ قَتْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْوَنْشَرِيسِيِّ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ لِعَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَلَقَّبَهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ كَانَ شَابًّا حَسَنًا حَازِمًا عَاقِلًا.
ثُمَّ مَاتَ ابْنُ تُومَرْتَ وَقَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ إِحْدَى وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَمُدَّةُ مُلْكِهِ عَشْرُ سِنِينَ، وَحِينَ صَارَ الْأَمْرُ إِلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ عَلِيٍّ أَحْسَنَ إِلَى الرَّعَايَا، وَظَهَرَتْ مِنْهُ سِيرَةٌ جَيِّدَةٌ فَأَحَبَّهُ النَّاسُ، وَاتَّسَعَتْ مَمَالِكُهُ، وَكَثُرَتْ جُيُوشُهُ وَرَعِيَّتُهُ، وَنَصَبَ الْعَدَاوَةَ لِابْنِ تَاشُفِينَ صَاحِبِ مَرَّاكُشَ، وَلَمْ يَزَلِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمَا إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، فَمَاتَ ابْنُ تَاشُفِينَ، فَقَامَ وَلَدُهُ تَاشُفِينَ مِنْ بَعْدِهِ فَمَاتَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَوَلِيَ أَخُوهُ إِسْحَاقُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ بْنِ تَاشُفِينَ، فَسَارَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ، فَمَلَكَ تِلْكَ النَّوَاحِيَ وَفَتَحَ مَدِينَةَ مَرَّاكُشَ وَقَتَلَ هُنَالِكَ أُمَمًا لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقُتِلَ مَلِكُهَا إِسْحَاقُ، وَكَانَ صَغِيرَ السِّنِّ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَكَانَ إِسْحَاقُ هَذَا آخِرَ مُلُوكِ الْمُرَابِطِينَ، وَكَانَ مُدَّةُ مُلْكِهِمْ سَبْعِينَ سَنَةً.

وَالَّذِينَ مَلَكُوا مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ: عَلِيٌّ وَوَالِدُهُ يُوسُفُ وَوَلَدَاهُ تَاشُفِينُ وَإِسْحَاقُ ابْنَا عَلِيٍّ الْمَذْكُورِ.
فَاسْتَوْطَنَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ مَدِينَةَ مَرَّاكُشَ، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُهُ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَظَفِرَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ بِدَكَّالَةَ، وَهِيَ قَبِيلَةٌ عَظِيمَةٌ نَحْوُ مِائَتَيْ أَلْفِ رَاجِلٍ وَعِشْرِينَ أَلْفِ فَارِسٍ مُقَاتِلٍ مِنَ الشُّجْعَانِ الْأَبْطَالِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُ بِيعَتِ الْجَارِيَةُ الْحَسْنَاءُ بِدَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَقَدْ رَأَيْتُ لِبَعْضِهِمْ فِي سِيرَةِ ابْنِ تُومَرْتَ هَذَا مُجَلَّدًا فِي أَحْكَامِهِ وَأَيَّامِهِ، وَكَيْفَ تَمَلَّكَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَمَا كَانَ يَتَعَاطَاهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُوهِمُ أَنَّهَا أَحْوَالٌ بَرَّةٌ، وَهِيَ مَحَالُّ لَا تَصْدُرُ إِلَّا عَنْ فَجَرَةٍ، وَمَا قَتَلَ مِنَ النَّاسِ وَأَزْهَقَ مِنَ الْأَنْفُسِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ السِّيبِيِّ، أَبُو الْبَرَكَاتِ، أَسْنَدَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ يُعَلِّمُ أَوْلَادَ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ، فَلَمَّا صَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى الْمُسْتَرْشِدِ، وَلَّاهُ الْمَخْزَنَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْأَمْوَالِ وَالصَّدَقَاتِ، يَتَعَاهَدُ أَهْلَ الْعِلْمِ، وَخَلَّفَ مَالًا كَثِيرًا حُزِرَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، أَوْصَى مِنْهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ لِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ سِتٍّ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَصَلَّى عَلَيْهِ الْوَزِيرُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ صَدَقَةَ، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.

عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ هَوَازِنَ
أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ، قَرَأَ عَلَى أَبِيهِ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ جَمَاعَةٍ، وَكَانَ ذَا ذَكَاءٍ وَفِطْنَةٍ، وَلَهُ خَاطِرٌ حَاضِرٌ جَرِيءٌ، وَلِسَانٌ مَاهِرٌ فَصِيحٌ، وَقَدْ دَخَلَ بَغْدَادَ فَوَعَظَ بِهَا، فَوَقَعَ بِسَبَبِهِ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، فَحُبِسَ بِسَبَبِهَا الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبِي مُوسَى وَأَمَرَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ بِالْخُرُوجِ مِنْ بَغْدَادَ لِإِطْفَاءِ الْفِتْنَةِ فَعَادَ إِلَى بَلَدِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ
أَبُو حَامِدٍ الدِّينَوَرِيُّ، كَانَ كَثِيرَ الْمَالِ وَالصَّدَقَاتِ، ذَا حِشْمَةٍ وَمُرُوءَةٍ وَوَجَاهَةٍ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ، وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ وَوَعَظَ، وَكَانَ مَلِيحَ الْإِيرَادِ حُلْوَ الْمَنْطِقِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالرَّيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا أَقْطَعَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ الْأَمِيرَ إِيلْغَازِي مَدِينَةَ مَيَّافَارِقِينَ فَبَقِيَتْ فِي يَدِ أَوْلَادِهِ إِلَى أَنْ أَخَذَهَا صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ فِي سَنَةِ ثَمَانِينَ.
وَفِيهَا أَقْطَعَ أَيْضًا آقْ سُنْقُرَ الْبُرْسُقِيَّ مَدِينَةَ الْمَوْصِلِ وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ الْفِرِنْجِ.
وَفِيهَا حَاصَرَ بَلَكُ بْنُ بَهْرَامَ - وَهُوَ ابْنُ أَخِي إِيلْغَازِي - مَدِينَةَ الرُّهَا، فَأَسَرَ مَلِكَهَا جُوسْلِينَ الْفِرِنْجِيَّ وَجَمَاعَةً مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ وَسَجَنَهُمْ بِقَلْعَةِ خَرْتَبِرْتَ.
وَفِيهَا هَبَّتْ رِيحٌ سَوْدَاءُ، فَاسْتَمَرَّتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَأَهْلَكَتْ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِالْحِجَازِ، فَتَضَعْضَعَ بِسَبَبِهَا الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ، وَتَهَدَّمَ بَعْضُهُ، وَتَهَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ حَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ.

وَفِيهَا ظَهَرَ رَجُلٌ عَلَوِيٌّ بِمَكَّةَ، كَانَ قَدِ اشْتَغَلَ بِالنِّظَامِيَّةِ فِي الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ، أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فَاتَّبَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ، فَنَفَاهُ صَاحِبُهَا ابْنُ أَبِي هَاشِمٍ إِلَى الْبَحْرَيْنِ.
وَفِيهَا احْتَرَقَتْ دَارُ السُّلْطَانِ بِأَصْبَهَانَ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَثَاثِ وَالْفِرَاشِ وَالْجَوَاهِرِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سِوَى الْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَقَبْلَ ذَلِكَ بِأُسْبُوعٍ احْتَرَقَ جَامِعُ أَصْبَهَانَ أَيْضًا، وَكَانَ جَامِعًا عَظِيمًا فِيهِ أَخْشَابٌ تُسَاوِي أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَفِي جُمْلَةِ مَا احْتَرَقَ فِيهِ خَمْسُمِائَةِ مُصْحَفٍ ; مِنْ جُمْلَتِهَا مُصْحَفٌ بِخَطِّ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا جَلَسَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَرْشِدُ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ فِي أُبَّهَةِ الْخِلَافَةِ ; الْبُرْدَةُ عَلَى كَتِفَيْهِ وَالْقَضِيبُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَجَاءَ الْأَخَوَانِ الْمَلِكَانِ مَحْمُودٌ وَمَسْعُودٌ فَوَقَفَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَبَّلَا الْأَرْضَ، فَخَلَعَ عَلَى مَحْمُودٍ سَبْعَ خِلَعٍ وَطَوْقًا وَسِوَارَيْنِ وَتَاجًا، وَأُجْلِسَ عَلَى كُرْسِيٍّ، وَوَعَظَهُ الْخَلِيفَةُ وَتَلَا عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [ الزَّلْزَلَةِ: 7، 8 ] وَأَمَرَهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الرَّعَايَا، وَعَقَدَ لَهُ الْخَلِيفَةُ لِوَاءَيْنِ بِيَدِهِ، وَقَلَّدَهُ الْمُلْكَ، وَخَرَجَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مُطَاعَيْنِ مُعَظَّمَيْنِ، وَالْجَيْشُ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا إِلَى دَارِهِمَا فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ جِدًّا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَظَرٌ الْخَادِمُ.
وَقَدْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
ابْنُ الْقَطَّاعِ اللُّغَوِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادَةِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ

الْأَغْلَبِ السَّعْدِيُّ الصِّقِلِّيُّ ثُمَّ الْمِصْرِيُّ اللُّغَوِيُّ، مُصَنِّفُ كِتَابِ " الْأَفْعَالِ " الَّذِي بَرَزَ فِيهِ عَلَى ابْنِ الْقُوطِيَّةِ وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَدِمَ مِصْرَ فِي حُدُودِ سَنَةِ خَمْسِمِائَةٍ لَمَّا أَشْرَفَتِ الْفِرِنْجُ عَلَى أَخْذِ صِقِلِّيَةَ، فَأَكْرَمَهُ الْمِصْرِيُّونَ، وَبَالَغُوا فِي إِكْرَامِهِ وَكَانَ يُنْسَبُ إِلَى التَّسَاهُلِ فِي الرِّوَايَةِ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، أَوْرَدَ لَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ مِنْهُ قِطْعَةً جَيِّدَةً، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْقَاسِمِ شَاهِنْشَاهْ، الْأَفْضَلُ بْنُ أَمِيرِ الْجُيُوشِ بَدْرِ الْجَمَالِيِّ، مُدَبِّرُ دَوْلَةِ الْفَاطِمِيِّينَ بِمِصْرَ، وَإِلَى أَبِيهِ تُنْسَبُ قَيْسَارِيَّةُ أَمِيرِ الْجُيُوشِ، الْعَامَّةُ تَقُولُ: مَرْجُيُوشُ. وَأَبُوهُ بَانِي الْجَامِعِ الَّذِي بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِسُوقِ الْعَطَّارِينَ، وَمَشْهَدِ الرَّأْسِ بِعَسْقَلَانَ أَيْضًا، وَكَانَ أَبُوهُ نَائِبَ الْمُسْتَنْصِرِ عَلَى مَدِينَةِ صُورَ وَقِيلَ: عَلَى عَكَّا، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ إِلَيْهِ فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ، فَرَكِبَ الْبَحْرَ، فَاسْتَنَابَهُ عَلَى دِيَارِ مِصْرَ، فَسَدَّدَ الْأُمُورَ بَعْدَ فَسَادِهَا، وَمَاتَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَامَ فِي الْوَزَارَةِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ الْأَفْضَلُ هَذَا، فَكَانَ كَأَبِيهِ فِي الشَّهَامَةِ وَالصَّرَامَةِ.

وَلَمَّا مَاتَ الْمُسْتَنْصِرُ أَقَامَ الْمُسْتَعْلِي وَاسْتَمَرَّتِ الْأُمُورُ عَلَى يَدَيْهِ، وَكَانَ عَادِلًا حَسَنَ السِّيرَةِ، مَوْصُوفًا بِجَوْدَةِ السَّرِيرَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ضَرَبَهُ فِدَاوِيٌّ وَهُوَ رَاكِبٌ فَقَتَلَهُ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَبِيهِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
وَكَانَتْ دَارُهُ دَارَ الْوَكَالَةِ الْيَوْمَ بِمِصْرَ، وَقَدْ وُجِدَتْ لَهُ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا تَفُوقُ الْعَدَّ وَالْإِحْصَاءَ ; مِنَ الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ وَالنَّفَائِسِ، فَانْتَقَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْفَاطِمِيِّ، فَجُعِلَ فِي خِزَانَتِهِ، وَذَهَبَ جَامِعُهُ إِلَى سَوَاءِ الْحِسَابِ عَلَى الْفَتِيلِ مِنْ ذَلِكَ وَالنَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ. وَاعْتَاضَ عَنْهُ الْخَلِيفَةُ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَطَائِحِيِّ وَلُقِّبَ الْمَأْمُونَ
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: تَرَكَ الْأَفْضَلُ مِنَ الذَّهَبِ الْعَيْنِ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنَ الدَّرَاهِمِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ إِرْدَبًّا، وَسَبْعِينَ أَلْفَ ثَوْبِ دِيبَاجٍ أَطْلَسَ، وَثَلَاثِينَ رَاحِلَةَ أَحْقَاقِ ذَهَبٍ عِرَاقِيٍّ، وَدَوَاةَ ذَهَبٍ فِيهَا جَوْهَرَةٌ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمِائَةَ مِسْمَارِ ذَهَبٍ ; زِنَةُ كُلِّ مِسْمَارٍ مِائَةُ مِثْقَالٍ، فِي عَشَرَةِ مَجَالِسَ ; عَلَى كُلِّ مِسْمَارٍ مَنْدِيلٌ مَشْدُودٌ بِذَهَبٍ، كُلُّ مِنْدِيلٍ عَلَى لَوْنٍ مِنَ الْأَلْوَانِ مِنْ مَلَابِسِهِ، وَخَمْسَمِائَةِ صُنْدُوقِ كُسْوَةٍ لِلُبْسِ بَدَنِهِ. قَالَ: وَخَلَّفَ مِنَ الرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْمَرَاكِبِ وَالْمِسْكِ وَالطِّيبِ وَالْحُلِيِّ مَا لَا يَعْلَمُ قَدْرُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَخَلَّفَ مِنَ الْبَقَرِ وَالْجَوَامِيسِ وَالْغَنَمِ مَا يُسْتَحْيَى مِنْ ذِكْرِ عَدِّهِ، وَبَلَغَ ضَمَانُ أَلْبَانِهَا فِي السَّنَةِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَتَرَكَ صُنْدُوقَيْنِ كَبِيرَيْنِ فِيهِمَا إِبَرُ ذَهَبٍ بِرَسْمِ النِّسَاءِ.

عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ إِسْحَاقَ الطُّوسِيُّ
ابْنُ أَخِي نِظَامِ الْمُلْكِ، تَفَقَّهَ بِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَأَفْتَى وَدَرَّسَ وَنَاظَرَ، وَوَزَرَ لِلْمَلِكِ سَنْجَرَ، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
خَاتُونُ السَّفَرِيَّةُ
حَظِيَّةُ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ وَهِيَ أَمُّ السُّلْطَانَيْنِ مُحَمَّدٍ وَسَنْجَرَ، كَانَتْ كَثِيرَةَ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ، لَهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ سَبِيلٌ يَخْرُجُ مَعَ الْحُجَّاجِ، وَفِيهَا دِينٌ وَخَيْرٌ، وَلَمْ تَزَلْ تَبْحَثُ حَتَّى عَرَفَتْ مَكَانَ أُمِّهَا وَأَهْلِهَا، فَبَعَثَتِ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةِ حَتَّى اسْتَحْضَرَتْهُمْ، وَلَمَّا قَدِمَتْ عَلَيْهَا أُمُّهَا كَانَ لَهَا عَنْهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً لَمْ تَرَهَا، فَأَحَبَّتْ أَنْ تَسْتَعْلِمَ فَهْمَهَا، فَجَلَسَتْ بَيْنَ جَوَارِيهَا، فَلَمَّا سَمِعَتْ أُمُّهَا كَلَامَهَا عَرَفَتْهَا، فَقَامَتْ إِلَيْهَا فَاعْتَنَقَا وَبَكَيَا، ثُمَّ أَسْلَمَتْ أُمُّهَا عَلَى يَدَيْهَا، جَزَاهَا اللَّهُ خَيْرًا وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا.
وَقَدْ تَفَرَّدَتْ بِوِلَادَةِ مَلِكَيْنِ فِي دَوْلَةِ الْأَتْرَاكِ وَالْعَجَمِ، وَلَا يُعْرَفُ لَهَا نَظِيرٌ إِلَّا الْيَسِيرُ ; مِنْ ذَلِكَ: وَلَّادَةُ بِنْتُ الْعَبَّاسِ وَلَدَتْ لِعَبْدِ الْمَلِكِ الْوَلِيدَ وَسُلَيْمَانَ وَشَاهْفِرِنْدُ، وَلَدَتْ لِلْوَلِيدِ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمَ وَلِيَا الْخِلَافَةَ أَيْضًا، وَالْخَيْزُرَانُ وَلَدَتْ لِلْمَهْدِيِّ الْهَادِيَ وَالرَّشِيدَ.
الطُّغْرَائِيُّ
نَاظِمُ " لَامِيَّةِ الْعَجَمِ " الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ

مُؤَيَّدُ الدِّينِ الْأَصْبَهَانِيُّ الْعَمِيدُ فَخْرُ الْكُتَّابِ الْمُنْشِئُ الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ بِالطُّغْرَائِيِّ، وَقَدْ وَلِيَ الْوَزَارَةَ بِإِرْبِلَ مُدَّةً، أَوْرَدَ لَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ قَصِيدَتَهُ اللَّامِيَّةَ الَّتِي أَلَّفَهَا فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فِي بَغْدَادَ، يَشْرَحُ فِيهَا أَحْوَالَهُ وَأُمُورَهُ، وَتُعْرَفُ بِلَامِيَّةِ الْعَجَمِ أَوَّلُهَا:
أَصَالَةُ الرَّأْيِ صَانَتْنِي عَنِ الْخَطَلِ وَحِلْيَةُ الْفَضْلِ زَانَتْنِي لَدَى الْعَطَلِ مَجْدِي أَخِيرًا وَمَجْدِي أَوَّلًا شَرَعٌ
وَالشَّمْسُ رَأْدَ الضُّحَى كَالشَّمْسِ فِي الطَّفَلِ فِيمَ الْإِقَامَةُ بِالزَّوْرَاءِ لَا سَكَنِي
بِهَا وَلَا نَاقَتِي فِيهَا وَلَا جَمَلِي
وَقَدْ سَرَدَهَا الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ بِكَمَالِهَا وَأَوْرَدَ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الشِّعْرِ أَيْضًا.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا رَجَعَ السُّلْطَانُ طُغْرُلُ إِلَى طَاعَةِ أَخِيهِ مَحْمُودٍ، بَعْدَمَا كَانَ قَدْ خَرَجَ عَنْهَا، وَأَخَذَ بِلَادَ أَذْرَبِيجَانَ.
وَفِيهَا أَقْطَعَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ مَدِينَةَ وَاسِطٍ لِآقْ سُنْقُرَ مُضَافًا إِلَى الْمَوْصِلِ فَسَيَّرَ إِلَيْهَا عِمَادَ الدِّينِ زَنْكِي بْنَ آقْ سُنْقُرَ فَوَلِيهَا وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ بِهَا، وَأَبَانَ عَنْ حَزْمٍ وَكِفَايَةٍ.
وَفِي صَفَرٍ مِنْهَا قُتِلَ وَزِيرُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ أَبُو طَالِبٍ السُّمَيْرَمِيُّ، قَتَلَهُ بَاطِنِيٌّ، وَكَانَ قَدْ بَرَزَ لِلْمَسِيرِ إِلَى هَمَذَانَ، وَكَانَتْ قَدْ خَرَجَتْ زَوْجَتُهُ فِي مِائَةِ جَارِيَةٍ بِمَرَاكِبِ الذَّهَبِ، فَلَمَّا بَلَغَهُنَّ قَتْلُهُ رَجَعْنَ حَافِيَاتٍ حَاسِرَاتٍ قَدْ هُنَّ بَعْدَ الْعِزِّ. وَاسْتَوْزَرَ السُّلْطَانُ بَعْدَهُ شَمْسَ الْمُلْكِ عُثْمَانَ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ
وَفِيهَا اتَّقَعَ آقْ سُنْقُرُ الْبُرْسُقِيُّ وَدُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ فَهَزَمَهُ دُبَيْسٌ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ جَيْشِهِ، فَاسْتَوْثَقَ السُّلْطَانُ مَنْصُورُ بْنُ صَدَقَةَ أَخَا دُبَيْسٍ وَوَلَدَهُ، وَرَفَعَهُمَا إِلَى قَلْعَةٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ آذَى دُبَيْسٌ تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَنَهَبَ الْبِلَادَ، وَجَزَّ شَعْرَهُ وَلَبِسَ السَّوَادَ، وَنَهَبَ أَمْوَالَ الْخَلِيفَةِ أَيْضًا مِنَ الْبِلَادِ، فَنُودِيَ فِي بَغْدَادَ لِلْخُرُوجِ لِقِتَالِهِ،

وَبَرَزَ الْخَلِيفَةُ فِي الْجَيْشِ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ أَسْوَدُ وَطَرْحَةٌ، وَعَلَى كَتِفَيْهِ الْبُرْدَةُ، وَبِيَدِهِ الْقَضِيبُ، وَفِي وَسَطِهِ مِنْطَقَةُ حَرِيرٍ صِينِيٍّ، وَمَعَهُ وَزِيرُهُ نِظَامُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ وَنَقِيبُ النُّقَبَاءِ عَلِيُّ بْنُ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيُّ وَشَيْخُ الشُّيُوخِ صَدْرُ الدِّينِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَتَلَقَّاهُ آقْ سُنْقُرُ الْبُرْسُقِيُّ وَمَعَهُ الْجَيْشُ، فَقَبَّلُوا الْأَرْضَ وَرَتَّبَ الْبُرْسُقِيُّ الْجَيْشَ، وَوَقَفَ الْقُرَّاءُ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، وَأَقْبَلَ دُبَيْسٌ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْإِمَاءُ يَضْرِبْنَ بِالدُّفُوفِ، وَالْمَخَانِيثُ بِالْمَلَاهِي، وَالْتَقَى الْفَرِيقَانِ، وَقَدْ شَهَرَ الْخَلِيفَةُ سَيْفَهُ، وَكَبَّرَ وَاقْتَرَبَ مِنَ الْمَعْرَكَةِ، فَحَمَلَ عَنْبَرُ بْنُ أَبِي الْعَسْكَرِ عَلَى مَيْمَنَةِ الْخَلِيفَةِ فَكَسَرَهَا، وَقَتَلَ أَمِيرًا، ثُمَّ حَمَلَ مَرَّةً ثَانِيَةً فَكَشَفَهُمْ كَالْأُولَى فَحَمَلَ عَلَيْهِ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي بْنُ آقْ سُنْقُرَ، فَأَسَرَ عَنْبَرَ وَأَسَرَ مَعَهُ بُدَيْلَ بْنَ زَائِدَةَ فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ دُبَيْسٍ، وَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَاءِ، فَغَرِقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِضَرْبِ أَعْنَاقِ الْأَسَارَى صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَحُصِّلَتْ نِسَاءُ دُبَيْسٍ وَسَرَارِيُّهُ فِي السَّبْيِ، وَعَادَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بَغْدَادَ فَدَخَلَهَا فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنَ السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَأَمَّا دُبَيْسٌ فَإِنَّهُ نَجَا بِنَفْسِهِ وَقَصَدَ غُزَيَّةَ فَصَحِبَهُمْ إِلَى الْبَصْرَةِ فَدَخَلَهَا وَنَهَبَهَا وَقَتَلَ أَمِيرَهَا، ثُمَّ خَافَ مِنَ الْبُرْسُقِيِّ فَخَرَجَ عَنْهَا، وَسَارَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ وَالْتَحَقَ بِالْفِرِنْجِ وَحَضَرَ مَعَهُمْ حِصَارَ، حَلَبَ، ثُمَّ فَارَقَهُمْ وَالْتَحَقَ بِالْمَلِكِ طُغْرُلَ أَخِي السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ.
وَفِيهَا مَلَكَ السُّلْطَانُ حُسَامُ الدِّينِ تَمُرْتَاشُ بْنُ إِيلْغَازِي بْنِ أُرْتُقَ قَلْعَةَ

مَارِدِينَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ، وَمَلَكَ أَخُوهُ سُلَيْمَانُ مَيَّافَارِقِينَ. وَفِيهَا ظَهَرَ مَعْدِنُ نُحَاسٍ بِدِيَارِ بَكْرٍ قَرِيبًا مِنْ قَلْعَةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ. وَفِيهَا دَخَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْوُعَّاظِ بَغْدَادَ فَوَعَظُوا بِهَا، وَحَصَلَ لَهُمْ قَبُولٌ تَامٌّ مِنَ الْعَوَامِّ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَظَرٌ الْخَادِمُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي الْأَشْعَثِ أَبُو مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ أَخُو أَبِي الْقَاسِمِ، وَكَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ هَذَا أَحَدَ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ زَعَمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَا لَيْسَ عِنْدَ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ، صَحِبَ الْخَطِيبَ مُدَّةً، وَجَمَعَ وَأَلَفَّ وَصَنَّفَ وَرَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ أَبُو طَالِبٍ السُّمَيْرَمِيُّ،
نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ بِأَصْبَهَانَ، كَانَ وَزِيرَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَكَانَ مُجَاهِرًا بِالظُّلْمِ وَالْفِسْقِ، وَأَحْدَثَ عَلَى النَّاسِ مُكُوسًا وَجَدَّدَهَا بَعْدَمَا كَانَتْ قَدْ أُزِيلَتْ، مِنْ مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ، وَكَانَ يَقُولُ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ كَثْرَةِ الظُّلْمِ لِمَنْ لَا نَاصِرَ لَهُ، وَكَثْرَةِ مَا أَحْدَثْتُ مِنَ السُّنَنِ السَّيِّئَةِ.
وَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى هَمَذَانَ أَحْضَرَ الْمُنَجِّمِينَ، فَضَرَبُوا لَهُ تَحْتَ رَمْلٍ لِسَاعَةِ

خُرُوجِهِ؛ لِيَكُونَ أَسْرَعَ لِعَوْدِهِ، فَخَرَجَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ السُّيُوفُ الْمَسْلُولَةُ، وَالْمَمَالِيكُ بِالْعُدَدِ الْبَاهِرَةِ، وَمَعَ هَذَا جَاءَهُ بَاطِنِيٌّ فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ بَعْدَمَا ضَرَبَهُ غَيْرَ مَا مَرَّةً فِي مَقَاتِلِهِ ثُمَّ ذَبَحَهُ كَمَا تُذْبَحُ الشَّاةُ، وَالْمَمَالِيكُ يَضْرِبُونَ بِالسُّيُوفِ وَالنِّبَالِ فِي ظَهْرِهِ وَلَا يُبَالِي بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ; حَتَّى قَتَلَهُ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَهُ، وَرَجَعَ نِسَاؤُهُ حَاسِرَاتٍ عَنْ وُجُوهِهِنَّ ; قَدْ أَبْدَلَهُنَّ اللَّهُ الذِّلَّةَ بَعْدَ الْعِزَّةِ، وَالْخَوْفَ بَعْدَ الْأَمْنِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ سَلْخَ صَفَرٍ، وَمَا أَشْبَهَ حَالَهُنَّ بِقَوْلِ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ فِي الْخَيْزُرَانِ وَجَوَارِيهَا حِينَ مَاتَ الْمَهْدِيُّ:
رُحْنَ فِي الْوَشْيِ وَأَصْبَحْنَ عَلَيْهِنَّ الْمُسُوحُ كُلُّ نَطَّاحٍ مِنَ النَّاسِ لَهُ يَوْمٌ نَطُوحُ لَتُمُوتَنَّ وَلَوْ عُمِّرْتَ مَا عُمِّرَ نُوحُ
فَعَلَى نَفْسِكَ نُحْ إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ تَنُوحُ
الْحَرِيرِيُّ صَاحِبُ الْمَقَامَاتِ
الْقَاسِمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَرِيرِيُّ الْبَصْرِيُّ، مُؤَلِّفُ الْمَقَامَاتِ الَّتِي سَارَتْ بِفَصَاحَتِهَا الرُّكْبَانُ، وَكَادَ يُرْبِي فِيهَا عَلَى سَحْبَانَ، وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ بِاللُّغَةِ وَالنَّحْوِ، وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَفَاقَ أَهْلَ زَمَانِهِ، وَبَرَزَ عَلَى أَقْرَانِهِ، وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ وَعَمِلَ صِنَاعَةَ الْإِنْشَاءِ مَعَ الْكُتَّبِ فِي بَابِ الْخَلِيفَةِ،

وَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ تُنْكَرُ بَدِيهَتُهُ وَلَا تَتَعَكَّرُ فِكْرَتُهُ وَقَرِيحَتُهُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَحَدَّثَ وَقَرَأَ الْأَدَبَ وَاللُّغَةَ، وَفَاقَ أَهْلَ زَمَانِهِ بِالذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ وَالْفَصَاحَةِ، وَحُسْنِ الْعِبَارَةِ، وَصَنَّفَ الْمَقَامَاتِ الْمَعْرُوفَةَ، مَنْ تَأَمَّلَهَا عَرَفَ قَدْرَ مُنْشِئِهَا، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِالْبَصْرَةِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَبَا زَيْدٍ وَالْحَارِثَ بْنَ هَمَّامٍ لَا وُجُودَ لَهُمَا، وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ مِنْ بَابِ الْأَمْثَالِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَبُو زَيْدٍ الْمُطَهَّرُ بْنُ سَلَّارَ السَّرُوجِيُّ كَانَ لَهُ وُجُودٌ، وَكَانَ فَاضِلًا، وَلَهُ عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ بِاللُّغَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّ أَبَا زَيْدٍ كَانَ اسْمُهُ الْمُطَهَّرُ بْنُ سَلَّارَ، وَكَانَ بَصْرِيًّا فَاضِلًا فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ، وَكَانَ يَشْتَغِلُ عَلَى الْحَرِيرِيِّ بِالْبَصْرَةِ، وَأَمَّا الْحَارِثُ بْنُ هَمَّامٍ فَإِنَّمَا عَنَى بِهِ نَفْسَهُ ; لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ " كُلُّكُمْ حَارِثٌ، وَكُلُّكُمْ هَمَّامٌ " كَذَا قَالَ الْقَاضِي. وَإِنَّمَا اللَّفْظُ الْمَحْفُوظُ: " أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ " ; لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ إِمَّا حَارِثٌ وَهُوَ الْفَاعِلُ أَوْ هَمَّامٌ مِنَ الْهِمَّةِ وَهُوَ الْعَزْمُ وَالْخِطْرَةُ، وَذَكَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَقَامَةٍ عَمِلَهَا الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ، وَهِيَ الْحَرَامِيَّةُ، وَكَانَ سَبَبَهَا أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ رَجُلٌ ذُو طِمْرَيْنِ فَصِيحُ اللِّسَانِ، فَاسْتَسْمَوْهُ، فَقَالَ أَبُو زَيْدٍ السَّرُوجِيُّ: فَعَمِلَ فِيهِ هَذِهِ الْمَقَامَةَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَرْشِدِ، وَهُوَ جَلَالُ الدِّينِ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْعِزِّ عَلِيِّ بْنِ صَدَقَةَ، قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَذَا رَأَيْتُهُ فِي نُسْخَةٍ بِخَطِّ الْمُصَنِّفِ

عَلَى حَاشِيَتِهَا، وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّنْ قَالَ: هُوَ الْوَزِيرُ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو نَصْرٍ أَنُوشُرْوَانُ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَاشَانِيُّ، وَهُوَ وَزِيرُ الْمُسْتَرْشِدِ أَيْضًا، وَيُقَالُ: إِنَّ الْحَرِيرِيَّ كَانَ قَدْ عَمِلَهَا أَرْبَعِينَ مَقَامَةً، فَلَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ وَلَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ، وَامْتَحَنَهُ بَعْضُ الْوُزَرَاءِ فَجَلَسَ نَاحِيَةً وَأَخَذَ دَوَاةً وَقِرْطَاسًا فَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ، حَتَّى عَادَ إِلَى بَلَدِهِ فَعَمِلَ عَشَرَةً أُخْرَى، فَأَتَمَّهَا خَمْسِينَ مَقَامَةً، وَقَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَفْلَحَ الشَّاعِرُ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُ فِيهَا:
شَيْخٌ لَنَا مِنْ رَبِيعَةِ الْفَرَسْ يَنْتِفُ عُثْنُونَهُ مِنَ الْهَوَسْ
أَنْطَقَهُ اللَّهُ بِالْمَشَانِ كَمَا رَمَاهُ وَسْطَ الدِّيوَانِ بِالْخَرَسْ
وَمَعْنَى قَوْلِهِ بِالْمَشَانِ: هُوَ مَكَانٌ بِالْبَصْرَةِ، وَيُذْكَرُ أَنَّهُ كَانَ صَدْرَ دِيوَانِ الْمَشَانِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ ذَمِيمَ الْخَلْقِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ رَجُلًا رَحَلَ إِلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ ازْدَرَاهُ فَفَهِمَ الْحَرِيرِيُّ ذَلِكَ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
مَا أَنْتَ أَوَّلُ سَارٍ غَرَّهُ قَمَرٌ وَرَائِدٍ أَعْجَبَتْهُ خُضْرَةُ الدِّمَنِ
فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ غَيْرِي إِنَّنِي رَجُلٌ مِثْلَ الْمُعَيْدِيِّ فَاسْمَعْ بِي وَلَا تَرَنِي
وَيُقَالُ: إِنَّ الْمُعَيْدِيَّ اسْمُ حِصَانٍ جَوَادٍ كَانَ فِي الْعَرَبِ دَمِيمِ الْخِلْقَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْبَغَوِيُّ الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، صَاحِبُ " التَّفْسِيرِ " وَ " شَرْحِ السُّنَّةِ " وَ " التَّهْذِيبِ " فِي الْفِقْهِ، وَ " الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ " وَ " الْمَصَابِيحِ " فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، اشْتَغَلَ عَلَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ، وَبَرَعَ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ، وَكَانَ عَلَّامَةَ زَمَانِهِ فِيهَا، وَكَانَ دَيِّنًا وَرِعًا زَاهِدًا عَابِدًا صَالِحًا، تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ عَشْرٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَدُفِنَ مَعَ شَيْخِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ بِالطَّالَقَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ عَادَ الْخَلِيفَةُ مِنَ الْحِلَّةِ بَعْدَ أَنْ كَسَرَ جَيْشَ دُبَيْسٍ وَمَزَّقَ شَمْلَهُ، وَقَطَعَ وَصْلَهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الشَّهْرِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ بَغْدَادَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، وَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا.
وَفِيهَا عَزَمَ الْخَلِيفَةُ عَلَى طُهُورِ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَخِيهِ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ، فَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ بِزِينَةٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، وَأَظْهَرَ النَّاسُ مِنَ الْحُلِيِّ وَالْمَصَاغِ وَالثِّيَابِ مَا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا قَدِمَ أَسْعَدُ الْمِيهَنِيُّ، مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ نَاظِرًا عَلَيْهَا، وَصُرِفَ الْبَاقَرْحِيُّ عَنْهَا، فَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفُقَهَاءِ بِسَبَبِ أَنَّهُ قَطَعَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَاكْتَفَى بِثَمَانِينَ طَالِبًا مِنْهُمْ فَقَطْ، فَلَمْ يَهُنْ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ.
وَفِيهَا سَارَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ إِلَى بِلَادِ الْكُرْجِ، وَقَدْ وَقَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُفْجَاقِ خُلْفٌ، فَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمْ، ثُمَّ عَادَ إِلَى هَمَذَانَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا.
وَفِيهَا مَلَكَ طُغَتِكِينُ صَاحِبُ دِمَشْقَ مَدِينَةَ حَمَاةَ بَعْدَ وَفَاةِ صَاحِبِهَا مَحْمُودِ بْنِ قَرَاجَا، وَقَدْ كَانَ ظَالِمًا غَاشِمًا.
وَفِيهَا عُزِلَ نَقِيبُ الْعَلَوِيِّينَ، وَهُدِمَتْ دَارُ عَلِيِّ بْنِ أَفْلَحَ ; لِأَنَّهُمَا كَانَا عَيْنًا لِدُبَيْسٍ، وَأُضِيفُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيِّ نِقَابَةُ الْعَلَوِيِّينَ مَعَ نِقَابَةِ الْعَبَّاسِيِّينَ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ صَدَقَةَ التَّغْلِبِيُّ.
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْخَيَّاطِ، الشَّاعِرُ الدِّمَشْقِيُّ الْكَاتِبُ الْمَاهِرُ، لَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ مَشْهُورٍ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: خُتِمَ بِهِ دِيوَانُ الشُّعَرَاءِ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ شَاعِرًا مَاهِرًا مُحْسِنًا مُجِيدًا مُكْثِرًا، حُفَظَةً لِأَشْعَارِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَخْبَارِهِمْ. وَأَوْرَدَ لَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ مِنْ شَعْرِهِ الرَّائِعِ قِطَعًا ; مِنْ ذَلِكَ قَصِيدَتُهُ الَّتِي لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَاهَا لَكَفَتْهُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ فِي أَوَّلِهَا:
خُذَا مِنْ صَبَا نَجْدٍ أَمَانًا لِقَلْبِهِ فَقْدَ كَادَ رَيَّاهَا يَطِيرُ بِلُبِّهِ وَإِيَّاكُمَا ذَاكَ النَّسِيمَ فَإِنَّهُ
مَتَى هَبَّ كَانَ الْوَجْدُ أَيْسَرَ خَطْبِهِ خَلِيلَيَّ لَوْ أَحْبَبْتُمَا لَعَلِمْتُمَا
مَحَلَّ الْهَوَى مِنْ مُغْرَمِ الْقَلْبِ صَبِّهِ يُذَكَّرُ وَالذِّكْرَى تَشُوقُ وَذُو الْهَوَى
يَتُوقُ وَمَنْ يَعْلَقْ بِهِ الْحُبُّ يُصْبِهِ غَرَامٌ عَلَى يَأْسِ الْهَوَى وَرَجَائِهِ
وَشَوْقٌ عَلَى بُعْدِ الْمَزَارِ وَقُرْبِهِ وَفِي الرَّكْبِ مَطْوِيُّ الضُّلُوعِ عَلَى جَوًى
مَتَى يَدْعُهُ دَاعِي الْغَرَامِ يُلَبِّهِ إِذَا خَطَرَتْ مِنْ جَانِبِ الرَّمْلِ نَفْحَةٌ
تَضَمَّنَ مِنْهَا دَاؤُهُ دُونَ صَحْبِهِ وَمُحْتَجِبٍ بَيْنَ الْأَسِنَّةِ مُعْرِضٍ
وَفِي الْقَلْبِ مِنْ إِعْرَاضِهِ مِثْلُ حُجْبِهِ أَغَارُ إِذَا آنَسْتُ فِي الْحَيِّ أَنَّةً
حَذَارًا وَخَوْفًا أَنْ تَكُونَ لَحُبِّهِ
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ عَنْ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً بِدِمَشْقَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِي عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا ظَهَرَتِ الْبَاطِنِيَّةُ بِآمِدَ فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُهَا، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ سَبْعَمِائَةٍ؛ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا رُدَّتِ الشِّحْنَكِيَّةُ بِبَغْدَادَ إِلَى سَعْدِ الدَّوْلَةِ يَرَنْقُشَ الزَّكَوِيِّ، وَسُلِّمَ إِلَيْهِ مَنْصُورُ بْنُ صَدَقَةَ أَخُو دُبَيْسٍ لِيُسَلِّمَهُ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، وَوَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ دُبَيْسًا قَدِ الْتَجَأَ إِلَى طُغْرُلَ، وَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى أَخْذِ بَغْدَادَ، فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّأَهُّبِ لِقِتَالِهِمَا، وَأُمِرَ آقْ سُنْقُرُ بِالْعَوْدِ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَاسْتَنَابَ عَلَى الْبَصْرَةِ عِمَادَ الدِّينِ زَنْكِي بْنِ آقْ سُنْقُرَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ دَخَلَ الْمَلِكُ حُسَامُ الدِّينِ تَمُرْتَاشُ بْنُ إِيلْغَازِي بْنِ أُرْتُقَ مَدِينَةَ حَلَبَ، وَقَدْ مَلَكَهَا بَعْدَ مَلِكِهَا بَلَكَ بْنِ بَهْرَامَ بْنِ أُرْتُقَ، وَكَانَ قَدْ حَاصَرَ قَلْعَةَ مَنْبِجَ فَجَاءَهُ سَهْمٌ فِي حَلْقِهِ فَمَاتَ، فَاسْتَنَابَ تَمُرْتَاشَ بِحَلَبَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَارِدِينَ فَأُخِذَتْ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَخَذَهَا آقْ سُنْقُرُ مُضَافَةً إِلَى الْمَوْصِلِ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الْقَاضِي أَبَا سَعْدٍ الْهَرَوِيَّ ; لِيَخْطُبَ لَهُ ابْنَةَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَشَرَعَ الْخَلِيفَةُ فِي بِنَاءِ دَارٍ عَلَى حَافَّةِ دِجْلَةَ؛ لِأَجْلِ الْعَرُوسِ، وَكَمَلَ بِنَاءُ الْمُثَمَّنَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَالُ الدَّوْلَةِ إِقْبَالٌ الْمُسْتَرْشِدِيُّ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَرْهَانَ أَبُو الْفَتْحِ وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْحَمَّامِيِّ، تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ، وَبَرَعَ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، ثُمَّ نَقَمَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ أَشْيَاءَ، فَحَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الِانْتِقَالِ إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَاشْتَغَلَ عَلَى الْغَزَّالِيِّ وَالشَّاشِيِّ، وَبَرَعَ وَسَادَ وَشَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي الزَّيْنَبِيِّ، وَدَرَّسَ فِي النِّظَامِيَّةِ شَهْرًا. تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى، وَدُفِنَ بِبَابِ أَبْرَزَ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ أَبُو جَعْفَرٍ الدَّامَغَانِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَشَهِدَ عِنْدَ أَبِيهِ، وَنَابَ فِي الْكَرْخِ عَنْ أَخِيهِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَوَلِيَ حِجَابَةَ بَابِ النُّوبِيِّ، ثُمَّ عُزِلَ، ثُمَّ أُعِيدَ، وَكَانَ دَمِثَ الْأَخْلَاقِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
أَبُو الْفَضْلِ الْمَيْدَانِيُّ، صَاحِبُ كِتَابِ " الْأَمْثَالِ " وَلَيْسَ لَهُ مِثْلُهُ فِي بَابِهِ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا قَصَدَ دُبَيْسٌ وَالسُّلْطَانُ طُغْرُلُ بَغْدَادَ ; لِيَأْخُذَاهَا مِنْ يَدِ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا اقْتَرَبَا مِنْهَا بَرَزَ إِلَيْهِمَا الْخَلِيفَةُ فِي جَحْفَلٍ عَظِيمٍ، وَالنَّاسُ مُشَاةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَلَيْهِ السَّوَادُ وَالْبُرُدُ، وَبِيَدِهِ الْقَضِيبُ، إِلَى أَوَّلِ مَنْزِلَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَمْسَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَقْتَتِلُونَ فِي صَبِيحَتِهَا - وَمِنْ عَزْمِهِمْ أَنْ يَنْهَبُوا بَغْدَادَ - أَرْسَلَ اللَّهُ مَطَرًا عَظِيمًا وَمَرِضَ السُّلْطَانُ طُغْرُلُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَتَفَرَّقَتْ تِلْكَ الْجُمُوعُ، وَرَجَعُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ خَائِبِينَ خَائِفِينَ، وَالْتَجَأَ دُبَيْسٌ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - وَطُغْرُلُ إِلَى الْمَلِكِ سَنْجَرَ وَسَأَلَاهُ الْأَمَانَ مِنَ الْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَحَبَسَ دُبَيْسًا فِي قَلْعَتِهِ، وَوَشَى وَاشٍ إِلَى الْمَلِكِ سَنْجَرَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِالْمُلْكِ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ الْآنَ لِقِتَالِ الْأَعْدَاءِ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ سَنْجَرَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَأَضْمَرَ سُوءًا مَعَ أَنَّهُ قَدْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنَ الْخَلِيفَةِ.
وَفِيهَا قُتِلَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ مَنْصُورٍ الْهَرَوِيُّ بِهَمَذَانَ، قَتَلَتْهُ الْبَاطِنِيَّةُ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَهُ الْخَلِيفَةُ إِلَى سَنْجَرَ يَخْطُبُ ابْنَتَهُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَظَرٌ الْخَادِمُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

آقْ سُنْقُرُ الْبُرْسُقِيُّ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ قَتَلَتْهُ الْبَاطِنِيَّةُ فِي مَقْصُورَةِ جَامِعِهَا فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، وَقَدْ كَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُرْكِيًّا جَيِّدَ السِّيرَةِ، صَحِيحَ السَّرِيرَةِ، مُحَافِظًا عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا، كَثِيرَ الْبِرِّ وَالصَّدَقَاتِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الرَّعَايَا، وَلَمَّا تُوُفِّيَ قَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ السُّلْطَانُ عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودٌ وَأَقَرَّهُ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ عَلَى عَمَلِهِ.
هِلَالُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَيْحِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالِ بْنِ رَبَاحٍ
، مُؤَذِّنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَحَلَ وَجَالَ فِي الْبِلَادِ، وَكَانَ شَيْخًا جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ، حَسَنَ الْقِرَاءَةِ، طَيِّبَ النَّغْمَةِ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِسَمَرْقَنْدَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ
مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ مَنْصُورٍ أَبُو سَعِيدٍ الْهَرَوِيُّ، أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ وَالسَّادَةِ الْكُبَرَاءِ، قَتَلَتْهُ الْبَاطِنِيَّةُ بِهَمَذَانَ ; حِينَ ذَهَبَ فِي الرُّسُلِيَّةِ عَنِ الْخَلِيفَةِ إِلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ فِي خِطْبَةِ ابْنَتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

سَنَةُ عِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ،
فِيهَا تَرَاسَلَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ وَالْخَلِيفَةُ عَلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ وَأَنْ يَكُونَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ سَنْجَرُ كَتَبَ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ مَحْمُودٍ يَنْهَاهُ وَيَسْتَمِيلُهُ إِلَيْهِ، وَيُحَذِّرُهُ مِنَ الْخَلِيفَةِ، وَأَنَّهُ مَتَى مَا فَرَغَا مِنْهُ تَفَرَّغَ لَهُ وَرَتَّبَ عَلَيْهِ، فَأَصْغَى إِلَى قَوْلِ عَمِّهِ، وَرَجَعَ عَنْ عَزْمِهِ، وَأَقْبَلَ يَقْصِدُ بَغْدَادَ لِيَدْخُلَهَا عَامَهُ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ لِقِلَّةِ الْأَقْوَاتِ بِهَا، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا أَزِفَ قُدُومُهُ، خَرَجَ الْخَلِيفَةُ مِنْ دَارِهِ وَتَحَيَّزَ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى النَّاسِ، وَدَخَلَ عِيدُ الْأَضْحَى فَخَطَبَ الْخَلِيفَةُ النَّاسَ بِنَفْسِهِ خُطْبَةً عَظِيمَةً بَلِيغَةً فَصِيحَةً جِدًّا، وَكَبَّرَ وَرَاءَهُ خُطَبَاءُ الْجَوَامِعِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَقَدْ سَرَدَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِطُولِهَا، وَرَوَاهَا عَنْ مَنْ حَضَرَهَا مِنَ الْخَلِيفَةِ مَعَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبِي الْقَاسِمِ الزَّيْنَبِيِّ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْعُدُولِ، وَلَمَّا أَرَادَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَنْزِلَ عَنِ الْمِنْبَرِ ابْتَدَرَهُ أَبُو الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْهَاشِمِيُّ فَأَنْشَدَهُ:

عَلَيْكَ سَلَامُ اللَّهِ يَا خَيْرَ مَنْ عَلَا عَلَى مِنْبَرٍ قَدْ حَفَّ أَعْلَامَهُ النَّصْرُ وَأَفْضَلَ مَنْ أَمَّ الْأَنَامَ وَعَمَّهُمْ
بِسِيرَتَهِ الْحُسْنَى وَكَانَ لَهُ الْأَمْرُ لَقَدْ شَنَّفَتْ أَسْمَاعَنَا مِنْكَ خُطْبَةٌ
وَمَوْعِظَةٌ فَصْلٌ يَلِينُ لَهَا الصَّخْرُ مَلَأْتَ بِهَا كُلَّ الْقُلُوبِ مَهَابَةً
فَقَدْ رَجَفَتْ مِنْ خَوْفِ تَخْوِيفِهَا مِصْرُ سَمَا لَفْظُهَا فَضْلًا عَلَى كُلِّ قَائِلٍ
وَجَلَّ عُلَاهَا أَنْ يُلِمَّ بِهَا حَصْرُ أَشَدْتَ بِهَا سَامِيَ الْمَنَابِرِ رِفْعَةً
تَقَاصَرَ عَنْ إِدْرَاكِهَا الْأَنْجُمُ الزُّهْرُ وَزِدْتَ بِهَا عَدْنَانَ مَجْدًا مُؤَثَّلًا
فَأَضْحَى لَهَا بَيْنَ الْأَنَامِ بِكَ الْفَخْرُ فَلِلَّهِ عَصْرٌ أَنْتَ فِيهِ إِمَامُهُ
وَلِلَّهِ دِينٌ أَنْتَ فِيهِ لَنَا الصَّدْرُ بَقِيتَ عَلَى الْأَيْامِ وَالْمُلْكِ كُلَّمَا
تَقَادَمَ عَصْرٌ أَنْتَ فِيهِ أَتَى عَصْرُ وَأَصْبَحْتَ بِالْعِيدِ السَّعِيدِ مُهَنَّأً
يُشَرِّفُنَا فِيهِ صَلَاتُكَ وَالنَّحْرُ
وَلَمَّا نَزَلَ الْخَلِيفَةُ عَنِ الْمِنْبَرِ ذَبَحَ الْبَدَنَةَ بِيَدِهِ، وَدَخَلَ السُّرَادِقَ، وَتَبَاكَى النَّاسُ وَدَعَوْا لِلْخَلِيفَةِ بِالتَّوْفِيقِ وَالنَّصْرِ، ثُمَّ دَخَلَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ إِلَى بَغْدَادَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَنَزَلُوا فِي بُيُوتِ النَّاسِ، وَحَصَلَ لِلنَّاسِ أَذًى كَثِيرٌ فِي حَرِيمِهِمْ، فَرَاسَلَ الْخَلِيفَةَ فِي الصُّلْحِ، فَأَبَى ذَلِكَ الْخَلِيفَةُ، وَرَكِبَ فِي جَيْشِهِ وَقَاتَلَ الْأَتْرَاكَ وَمَعَهُ شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ ; وَلَكِنَّ الْعَامَّةَ كُلَّهُمْ مَعَهُ، فَقَتَلَ مِنَ الْأَتْرَاكِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ جَاءَ عِمَادُ الدِّينِ زِنْكِي فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ مِنْ وَاسِطٍ فِي السُّفُنِ إِلَى السُّلْطَانِ، نَجْدَةً فَلَمَّا اسْتَشْعَرَ الْخَلِيفَةُ ذَلِكَ دَعَا إِلَى الصُّلْحِ، فَوَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَ

السُّلْطَانِ وَالْخَلِيفَةِ، وَأَخَذَ الْمَلِكُ يَسْتَبْشِرُ بِذَلِكَ جِدًّا، وَيَعْتَذِرُ إِلَى الْخَلِيفَةِ مِمَّا وَقَعَ، ثُمَّ خَرَجَ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الْآتِيَةِ إِلَى هَمَذَانَ لِمَرَضٍ حَصَلَ لَهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ أَوَّلُ مَجْلِسٍ تَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى الْمِنْبَرِ يَعِظُ النَّاسَ، وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَحَضَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ يَعْلَى الْعَلَوِيُّ الْبَلْخِيُّ، وَكَانَ سُنِّيًّا عَلَّمَهُ كَلِمَاتٍ، ثُمَّ أَصْعَدُهُ الْمِنْبَرَ فَقَالَهَا، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَحُزِرَ الْجَمْعُ يَوْمَئِذٍ بِخَمْسِينَ أَلْفًا.
وَفِيهَا اقْتَتَلَ طُغْتِكِينُ صَاحِبُ دِمَشْقَ وَأَعْدَاؤُهُ مِنَ الْفِرِنْجِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَنِمَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو الْفَتْحِ الطُّوسِيُّ الْغَزَّالِيُّ أَخُو أَبِي حَامِدٍ الْغَزَّالِيِّ، كَانَ وَاعِظًا مُفَوَّهًا ذَا حَظٍّ مِنَ الْكَلَامِ وَالزُّهْدِ وَحُسْنِ التَّأَتِّي، وَلَهُ نُكَتٌ جَيِّدَةٌ، وَوَعَظَ مَرَّةً فِي دَارِ الْمَلِكِ مَحْمُودٍ، فَأَطْلَقَ لَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، وَخَرَجَ فَإِذَا عَلَى الْبَابِ فَرَسُ الْوَزِيرِ بِسَرْجِهَا الذَّهَبِ وَسَلَاسِلِهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُلِيِّ فَرَكِبَهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْوَزِيرُ فَقَالَ: دَعُوهُ وَلَا يُرَدُّ عَلَيَّ الْفَرَسُ، وَسَمِعَ مَرَّةً نَاعُورَةً تَئِنُّ، فَأَلْقَى عَلَيْهَا رِدَاءَهُ فَتَمَزَّقَ قِطَعًا، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ كَانَتْ لَهُ نُكَتٌ ; إِلَّا أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى كَلَامِهِ التَّخْلِيطُ، وَرِوَايَةُ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ

الْمَصْنُوعَةِ وَالْحِكَايَاتِ الْفَارِغَةِ وَالْمَعَانِي الْفَاسِدَةِ، ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَشْيَاءَ مُنْكَرَةً مِنْ كَلَامِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ ; مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَقَظَةِ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَدَلَّهُ عَلَى الصَّوَابِ، قَالَ: وَكَانَ يَتَعَصَّبُ لِإِبْلِيسَ وَيَعْذُرُ لَهُ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ كَثِيرٍ، قَالَ: وَنُسِبَ إِلَى مَحَبَّةِ الْمُرْدَانِ، وَالْقَوْلِ بِالْمُشَاهَدَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ كَانَ وَاعِظًا مَلِيحَ الْوَعْظِ، حَسَنَ الْمَنْظَرِ، صَاحِبَ كَرَامَاتٍ وَإِشَارَاتٍ، وَكَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ غَيْرَ أَنَّهُ مَالَ إِلَى الْوَعْظِ فَغَلَبَ عَلَيْهِ، وَدَرَّسَ بِالنِّظَامِيَّةِ نِيَابَةً عَنْ أَخِيهِ لَمَّا تَزَهَّدَ وَتَرَكَهَا، وَاخْتَصَرَ إِحْيَاءَ عُلُومِ الدِّينِ فِي مُجَلَّدٍ سَمَّاهُ: " لُبَابَ الْإِحْيَاءِ " وَلَهُ " الذَّخِيرَةُ فِي عِلْمِ الْبَصِيرَةِ " وَطَافَ الْبِلَادَ وَخَدَمَ الصُّوفِيَّةِ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ مَائِلًا إِلَى الِانْقِطَاعِ وَالْعُزْلَةِ.
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْوَكِيلُ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بَرْهَانَ أَبُو الْفَتْحِ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ تَفَقَّهَ عَلَى الْغَزَّالِيِّ وَإِلْكِيَا، وَأَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيِّ، وَكَانَ بَارِعًا فِي الْأُصُولِ، لَهُ كِتَابُ " الْوَجِيزِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ " وَكَانَتْ لَهُ فُنُونٌ جَيِّدَةٌ يُتْقِنُهَا جَيِّدًا، وَوَلِيَ تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ دُونَ شَهْرٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
بَهْرَامُ بْنُ بَهْرَامَ
أَبُو شُجَاعٍ الْبَيِّعُ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَبَنَى مَدْرَسَةً لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ بِكَلْوَاذَى، وَوَقَفَ قِطْعَةً مِنْ أَمْلَاكِهِ عَلَى الْفُقَهَاءِ.

صَاعِدُ بْنُ سَيَّارِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
أَبُو الْعَلَاءِ الْإِسْحَاقِيُّ الْهَرَوِيُّ الْحَافِظُ، أَحَدُ الْمُتْقِنِينَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَتُوُفِّيَ بِغَوْرَجَ؛ قَرْيَةٍ عَلَى بَابِ هَرَاةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْخَلِيفَةُ وَالسُّلْطَانُ مَحْمُودٌ يَتَحَارَبَانِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي السُّرَادِقِ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ الْمُحَرَّمِ تَوَصَّلَ جَمَاعَةٌ مِنْ جُنْدِ السُّلْطَانِ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَحَصَلَ فِيهَا أَلْفُ مُقَاتِلٍ عَلَيْهِمُ السِّلَاحُ فَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، وَخَرَجَ الْجَوَارِي وَهُنَّ حَاسِرَاتٌ يَسْتَغِثْنَ حَتَّى دَخَلْنَ دَارَ الْخَاتُونِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَأَنَا رَأَيْتُهُنَّ كَذَلِكَ، فَلَمَّا وَقَعَ ذَلِكَ رَكِبَ الْخَلِيفَةُ فِي جَيْشِهِ وَجِيءَ بِالسُّفُنِ فَرَكِبَ فِيهَا الْجَيْشُ، وَانْقَلَبَتْ بَغْدَادُ بِالصُّرَاخِ حَتَّى كَأَنَّ الدُّنْيَا قَدْ زُلْزِلَتْ، وَثَارَتِ الْعَامَّةُ مَعَ جَيْشِ الْخَلِيفَةِ فَكَسَرُوا جَيْشَ السُّلْطَانِ، وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَأَسَرُوا آخَرِينَ وَنَهَبُوا دَارَ السُّلْطَانِ، وَدَارَ وَزِيرِهِ وَدَارَ طَبِيبِهِ أَبِي الْبَرَكَاتِ، وَأَخَذُوا مَا كَانَ فِي دَارِهِ مِنَ الْوَدَائِعِ، وَمَرَّتْ خَبْطَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، حَتَّى إِنَّهُمْ نَهَبُوا الصُّوفِيَّةَ بِرِبَاطِ بِهْرُوزَ.
وَجَرَتْ أُمُورٌ طَوِيلَةٌ وَخُطُوبٌ جَلِيلَةٌ، وَنَالَتِ الْعَامَّةُ مِنَ السُّلْطَانِ، وَجَعَلُوا يَقُولُونَ لَهُ: يَا بَاطِنِيُّ تَتْرُكُ قِتَالَ الْفِرِنْجِ وَالرُّومِ وَتُقَاتِلُ الْخَلِيفَةَ ؟ ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ انْتَقَلَ إِلَى دَارِهِ فِي سَابِعِ الْمُحَرَّمِ، فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ تَمَاثَلَ الْحَالُ وَطَلَبَ السُّلْطَانُ مِنَ الْخَلِيفَةِ الْأَمَانَ وَالصُّلْحَ، فَلَانَ الْخَلِيفَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَتَبَاشَرَ النَّاسُ بِالصُّلْحِ

فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ نَقِيبَ النُّقَبَاءِ وَقَاضِيَ الْقُضَاةِ وَشَيْخَ الشُّيُوخِ وَبِضْعَةً وَثَلَاثِينَ شَاهِدًا، فَاحْتَبَسَهُمُ السُّلْطَانُ عِنْدَهُ سِتَّةَ أَيَّامٍ، فَسَاءَ ذَلِكَ النَّاسَ وَخَافُوا مِنْ فِتْنَةٍ أُخْرَى أَشَدَّ مِنَ الْأُولَى، وَكَانَ يَرَنُقْشُ الزَّكَوِيُّ شِحْنَةُ بَغْدَادَ يُغْرِي السُّلْطَانَ بِأَهْلِ بَغْدَادَ لِيَنْهَبَ أَمْوَالَهُمْ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، ثُمَّ أَذِنَ لِأُولَئِكَ الْجَمَاعَةِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَقْتَ الْمَغْرِبِ، فَصَلَّى بِهِمُ الْقَاضِي وَقَرَءُوا عَلَيْهِ كِتَابَ الْخَلِيفَةِ، فَقَامَ قَائِمًا، فَأَجَابَ الْخَلِيفَةَ إِلَى جَمِيعِ مَا اقْتَرَحَ عَلَيْهِ، وَوَقَعَ الصُّلْحُ وَالتَّحْلِيفُ، وَدَخَلَ جَيْشُ السُّلْطَانِ إِلَى بَغْدَادَ وَهُمْ فِي غَايَةِ الْجَهْدِ مِنْ قِلَّةِ الطَّعَامِ عِنْدَهُمْ فِي الْعَسْكَرِ، وَقَالُوا: لَوْ لَمْ يُصَالِحْ لَمِتْنَا جُوعًا، وَظَهَرَ مِنَ السُّلْطَانِ حِلْمٌ كَثِيرٌ عَنِ الْعَوَامِّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِرَدِّ مَا نُهِبَ مِنْ دُورِ الْجُنْدِ، وَأَنَّ مَنْ كَتَمَ شَيْئًا أُبِيحَ دَمُهُ، وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ عَلِيَّ بْنَ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيَّ النَّقِيبَ إِلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ ; لِيُبْعِدَ عَنْ بَابِهِ دُبَيْسًا، وَأَرْسَلَ مَعَهُ الْخِلَعَ وَالْأَلْوِيَةَ، فَأَكْرَمَ السُّلْطَانُ الرَّسُولَ، وَأَذِنَ بِضَرْبِ الطُّبُولِ عَلَى بَابِهِ فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ، وَظَهَرَ مِنْهُ طَاعَةٌ كَبِيرَةٌ.
ثُمَّ مَرِضَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ بِبَغْدَادَ فَأَمَرَهُ الطَّبِيبُ بِالِانْتِقَالِ عَنْهَا إِلَى هَمَذَانَ، فَسَارَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ وَفَوَّضَ شِحْنَكِيَّةِ بَغْدَادَ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي، فَلَمَّا وَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى هَمَذَانَ بَعَثَ إِلِى شِحْنَكِيَّةِ بَغْدَادَ مُجَاهِدَ الدِّينِ بِهْرُوزَ وَجَعَلَ إِلَيْهِ الْحِلَّةِ، وَبَعَثَ عِمَادَ الدِّينِ زَنْكِي إِلَى الْمَوْصِلِ وَأَعْمَالِهَا.
وَفِيهَا دَرَّسَ الْحَسَنُ بْنُ سَلْمَانَ بِالنِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ.
وَفِيهَا وَرَدَ أَبُو الْفُتُوحِ الْإِسْفَرَايِينِيُّ فَوَعَظَ بِبَغْدَادَ، فَأَوْرَدَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مُنْكَرَةً

جِدًّا، فَاسْتُتِيبَ مِنْهَا، وَأُمِرَ بِالِانْتِقَالِ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَشَدَّ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكَابِرِ، وَرَدُّوهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَوَقَعَ بِسَبَبِهِ فِتَنٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَرَجَمَهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ فِي الْأَسْوَاقِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يُطْلِقُ عِبَارَاتٍ لَا يُحْتَاجُ إِلَى إِيرَادِهَا، فَنَفَرَتْ مِنْهُ قُلُوبُ الْعَامَّةِ وَأَبْغَضُوهُ، وَجَلَسَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلِيُّ فَتَكَلَّمَ عَلَى النَّاسِ فَأَعْجَبَهُمْ، وَأَحَبُّوهُ وَتَرَكُوا ذَاكَ.
وَفِيهَا قَتَلَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَظَرٌ الْخَادِمُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الْهَمَذَانِيُّ الْفَرَضِيُّ، صَاحِبُ " التَّارِيخِ " مَنْ بَيْتِ الْحَدِيثِ وَالْأَئِمَّةِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ شَيْخِهِ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَنَّهُ طَعَنَ فِيهِ. تُوُفِّيَ فَجْأَةً فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ ابْنِ سُرَيْجٍ.
فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ فَضْلُوَيْهِ،
سَمِعَتِ الْخَطِيبَ وَابْنَ الْمُسْلِمَةِ وَغَيْرَهُمَا، وَكَانَتْ وَاعِظَةً لَهَا رِبَاطٌ تَجْتَمِعُ فِيهِ الزَّاهِدَاتُ، وَقَدْ سَمِعَ عَلَيْهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ " مُسْنَدَ الشَّافِعِيِّ " وَغَيْرَهُ.
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّيِّدِ
الْبَطَلْيَوْسِيُّ ثُمَّ الْبَلَنْسِيُّ

صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ فِي اللُّغَةِ وَغَيْرِهَا، جَمَعَ " الْمُثَلَّثَ " فِي مُجَلَّدَيْنِ، وَزَادَ فِيهِ عَلَى قُطْرُبَ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، وَلَهُ " شَرْحُ سَقْطِ الزَّنْدِ " لِأَبِي الْعَلَاءِ أَحْسَنُ مِنْ شَرْحِ الْمُصَنِّفِ، وَلَهُ " شَرْحُ أَدَبِ الْكَاتِبِ " لِابْنِ قُتَيْبَةَ، وَمِنْ شِعْرِهِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ قَوْلُهُ:
أَخُو الْعِلْمِ حَيٌّ خَالِدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ وَأَوْصَالُهُ تَحْتَ التُّرَابِ رَمِيمُ وَذُو الْجَهْلِ مَيْتٌ وَهُوَ مَاشٍ عَلَى الثَّرَى
يُظَنُّ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَهُوَ عَدِيمُ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي أَوَّلِهَا قَدِمَ رَسُولُ سَنْجَرَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَسْأَلُ مِنْهُ أَنْ يُخْطَبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ بَغْدَادَ، فَكَانَ يُخْطَبُ لَهُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فِي جَامِعٍ.
وَفِيهَا مَاتَ ابْنُ صَدَقَةَ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ، وَاسْتُنِيبَ فِي الْوَزَارَةِ نَقِيبُ النُّقَبَاءِ. وَفِيهَا اجْتَمَعَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ بِعَمِّهِ سَنْجَرَ وَاصْطَلَحَا بَعْدَ خُشُونَةٍ، وَسَلَّمَ سَنْجَرُ دُبَيْسًا إِلَى مَحْمُودٍ عَلَى أَنْ يَسْتَرْضِيَ عَنْهُ الْخَلِيفَةَ وَيَعْزِلَ زَنْكِي عَنِ الْمَوْصِلِ وَبِلَادِهَا، وَيُسَلِّمَ ذَلِكَ إِلَى دُبَيْسٍ. وَاشْتَهَرَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بِبَغْدَادَ أَنَّ دُبَيْسًا أَقْبَلَ إِلَى بَغْدَادَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى الْمَلِكِ مَحْمُودٍ: لَئِنْ لَمْ يَكُفَّهُ عَنْ قُدُومِ بَغْدَادَ وَإِلَّا خَرَجْنَا إِلَيْهِ وَنَقَضْنَا مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مِنَ الْعُهُودِ وَالصُّلْحِ.
وَفِيهَا مَلَكَ الْأَتَابِكُ زَنْكِي بْنُ آقْ سُنْقُرَ مَدِينَةَ حَلَبَ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْبِلَادِ. وَفِيهَا مَلَكَ تَاجُ الْمُلُوكِ بُورَى بْنُ طُغْتِكِينَ مَدِينَةَ دِمَشْقَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ مِنْ مَمَالِيكِ تَاجِ الدَّوْلَةِ تُتُشَ بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ وَكَانَ عَاقِلًا حَازِمًا عَادِلًا خَيِّرًا كَثِيرَ الْجِهَادِ لِلْفِرِنْجِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا عُمِلَ بِبَغْدَادَ مُصَلًّى لِلْعِيدِ ظَاهِرَ بَابَ الْحَلْبَةِ، وَحُوِّطَ عَلَيْهِ، وَجُعِلَ فِيهِ قِبْلَةٌ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ نَظَرٌ الْخَادِمُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ صَدَقَةَ، أَبُو عَلِيٍّ وَزِيرُ الْمُسْتَرْشِدِ، تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا، وَمِنْ شِعْرِهِ الَّذِي أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَدْ بَالَغَ فِيهِ قَوْلُهُ:
وَجَدْتُ الْوَرَى كَالْمَاءِ طَعْمًا وَرِقَّةً وَأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ زُلَالُهُ وَصَوَّرْتُ مَعْنَى الْعَقْلِ شَخْصًا مُصَوَّرًا
وَأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِثَالُهُ فَلَوْلَا مَكَانُ الشَّرْعِ وَالدِّينِ وَالتُّقَى
لَقُلْتُ مِنَ الْإِعْظَامِ جَلَّ جَلَالُهُ
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ اللَّامِشِيُّ
مِنْ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ، رَوَى الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ، وَكَانَ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْمُنَاظَرَةِ، وَكَانَ خَيِّرًا دَيِّنًا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ، مُطَّرِحًا لِلتَّكَلُّفِ، أَمَّارًا بِالْمَعْرُوفِ، قَدِمَ مِنْ عِنْدِ الْخَاقَانِ مَلِكِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي رِسَالَةٍ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَحُجُّ عَامَكَ هَذَا ؟ فَقَالَ: لَا أَجْعَلُ الْحَجَّ تَبَعًا لِرِسَالَتِهِمْ. فَعَادَ إِلَى بَلَدِهِ، فَمَاتَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
طُغْتِكِينُ الْأَتَابِكُ
صَاحِبُ دِمَشْقَ التُّرْكِيُّ أَحَدُ غِلْمَانِ تَاجِ الدَّوْلَةِ تُتُشَ

بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ السَّلْجُوقِيِّ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ وَأَعْدَلِهِمْ وَأَكْثَرِهِمْ جِهَادًا لِلْأَعْدَاءِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا الْعَامِ، وَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ تَاجُ الْمُلُوكِ بُورَى

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ إِلَى بَغْدَادَ، وَاجْتَهَدَ فِي إِرْضَاءِ الْخَلِيفَةِ عَنْ دُبَيْسٍ، وَأَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ بِلَادَ الْمَوْصِلِ، فَامْتَنَعَ الْخَلِيفَةُ مِنْ ذَلِكَ وَأَبَى أَشَدَّ الْإِبَاءِ، هَذَا وَقَدْ تَأَخَّرَ دُبَيْسٌ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى بَغْدَادَ ثُمَّ دَخَلَهَا وَرَكِبَ بَيْنَ النَّاسِ فَلَعَنُوهُ وَشَتَمُوهُ فِي وَجْهِهِ، وَقَدِمَ عِمَادُ الدِّينِ زِّنْكِي فَبَذَلَ لِلسُّلْطَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَهَدَايًا وَتُحَفًا وَالْتَزَمَ لِلْخَلِيفَةِ بِمِثْلِهَا عَلَى أَنْ لَا يُوَلِّيَ دُبَيْسًا شَيْئًا، وَعَلَى أَنْ يَسْتَمِرَّ زَنْكِي عَلَى عَمَلِهِ بِالْمَوْصِلِ فَأَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَرَجَعَ إِلَى عَمَلِهِ وَمَلَكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَلَبَ وَحَمَاةَ وَأَسَرَ صَاحِبَهَا سُونْجَ بْنَ تَاجِ الْمُلُوكِ فَافْتَدَى مِنْهُ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَلْخِ رَبِيعٍ الْآخِرِ خَلَعَ السُّلْطَانُ عَلَى نَقِيبِ النُّقَبَاءِ بِالْوَزَارَةِ اسْتِقْلَالًا، وَلَا يُعْرَفُ أَحَدٌ مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ بَاشَرَ الْوَزَارَةَ غَيْرُهُ.
وَفِي رَمَضَانَ جَاءَ دُبَيْسٌ فِي جَيْشٍ إِلَى الْحِلَّةِ فَمَلَكَهَا وَدَخَلَ إِلَيْهَا، فِي أَصْحَابِهِ وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ فَارِسٍ، ثُمَّ إِنَّهُ شَرَعَ فِي جَمْعِ الْأَمْوَالِ وَأَخْذِ الْغَلَّاتِ مِنَ الْقُرَى، حَتَّى حَصَّلَ نَحْوًا مِنْ خَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاسْتَخْدَمَ قَرِيبًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَتَفَاقَمَ الْحَالُ بِأَمْرِهِ وَبَعَثَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَسْتَرْضِيهِ فَلَمْ يَرْضَ عَنْهُ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً جِدًّا فَلَمْ يَقْبَلْهَا الْخَلِيفَةُ، وَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى

السُّلْطَانِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ جَيْشًا فَانْهَزَمَ مِنْهُمْ وَذَهَبَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، لَا جَمَعَ اللَّهُ بِهِ شَمْلًا، وَأَغَارَ عَلَى الْبَصْرَةِ فَأَخَذَ مِنْهَا حَوَاصِلَ السُّلْطَانِ وَالْخَلِيفَةِ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَرِّيَّةَ فَانْقَطَعَ خَبَرُهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ صَاحِبُ دِمَشْقَ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ سِتَّةَ آلَافٍ، وَعَلَّقَ رَأْسَ كَبِيرِهِمْ عَلَى بَابِ الْقَلْعَةِ وَأَرَاحَ اللَّهُ أَهْلَ الشَّامِ مِنْهُمْ.
وَفِيهَا حَاصَرَتِ الْفِرِنْجِ مَدِينَةَ دِمَشْقَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُهَا فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَبَعَثَ أَهْلُ دِمَشْقَ عَبْدَ الْوَهَّابِ الْوَاعِظَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التُّجَّارِ إِلَى بَغْدَادَ يَسْتَغِيثُونَ بِالْخَلِيفَةِ وَهَمُّوا بِكَسْرِ مِنْبَرِ الْجَامِعِ حَتَّى وُعِدُوا بِأَنَّهُمْ سَيَكْتُبُونَ إِلَى السُّلْطَانِ ; لِيَبْعَثَ جَيْشًا كَثِيفًا نُصْرَةً لِأَهْلِ الشَّامِ فَلَمْ يُبْعَثْ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ حَتَّى نَصَرَهُمُ اللَّهُ مِنْ عِنْدِهِ فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ سِوَى أَرْبَعِينَ نَفْسًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَقُتِلَ بَيْمَنْدُ الْفِرِنْجِيُّ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَخَبَّطَ النَّاسُ فِي الْحَجِّ حَتَّى ضَاقَ الْوَقْتُ بِسَبَبِ فِتْنَةِ دُبَيْسٍ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - حَتَّى حَجَّ بِهِمْ أَحَدُ مَمَالِيكِ يَرَنُقْشَ الزَّكَوِيِّ وَكَانَ اسْمُهُ بَغَاجِقَ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَسْعَدُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ الْمِيهَنِيُّ أَبُو الْفَتْحِ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ

تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيِّ، وَسَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ، وَتَفَرَّدَ مِنْ بَيْنِ أَقْرَانِهِ، وَوَلِيَ تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَحَصَلَ لَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَعُلِّقَ عَنْهُ " تَعْلِيقَةُ الْخِلَافِ " ثُمَّ عُزِلَ عَنِ النِّظَامِيَّةِ، فَسَارَ إِلَى هَمَذَانَ، فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِالْعِرَاقِ ; تَهَدَّمَتْ بِسَبَبِهَا دُورٌ كَثِيرَةٌ بِبَغْدَادَ، وَوَقَعَ بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ مَطَرٌ عَظِيمٌ فَسَقَطَ بَعْضُهُ نَارًا تَأَجَّجُ، فَاحْتَرَقَتْ دُورٌ كَثِيرَةٌ مِنْ ذَلِكَ، وَتَهَارَبَ النَّاسُ.
وَفِيهَا وُجِدَ بِبَغْدَادَ عَقَارِبُ طَيَّارَةٌ لَهَا شَوْكَتَانِ، فَخَافَ النَّاسُ مِنْهَا خَوْفًا شَدِيدًا، وَفِيهَا مَلَكَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ مَدِينَةَ سَمَرْقَنْدَ وَكَانَ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ خَانَ.
وَفِيهَا مَلَكَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي بِلَادًا كَثِيرَةً مِنَ الْجَزِيرَةِ، وَمِنْ بِلَادِ الْفِرِنْجِ وَجَرَتْ لَهُ مَعَهُمْ حُرُوبٌ طَوِيلَةٌ وَخُطُوبٌ جَلِيلَةٌ، وَنُصِرَ عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْمَوَاقِفِ كُلِّهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ جَيْشِ الرُّومِ حِينَ قَدِمُوا إِلِى الشَّامِ، وَمَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ عَلَى ذَلِكَ.

قَتْلُ خَلِيفَةِ مِصْرَ الْفَاطِمِيِّ
وَفِي ثَانِي ذِي الْقَعْدَةِ قُتِلَ الْخَلِيفَةُ الْفَاطِمِيُّ الْآمِرُ بِأَحْكَامِ اللَّهِ ابْنُ الْمُسْتَعْلِي صَاحِبُ مِصْرَ، قَتَلَتْهُ الْبَاطِنِيَّةُ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ تِسْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفًا، وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ هُوَ الْعَاشِرُ

مِنَ الْفَاطِمِيِّينَ، وَالْعَاشِرُ مِنْ وَلَدِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَهْدِيِّ، وَلَمَّا قُتِلَ الْآمِرُ تَغَلَّبَ عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ غُلَامٌ مِنْ غِلْمَانِ الْخَلِيفَةِ أَرْمَنِيٌّ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى الْأُمُورِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، حَتَّى حَضَرَ أَبُو عَلِيٍّ أَحْمَدُ بْنُ الْأَفْضَلِ بْنِ بَدْرٍ الْجَمَالِيُّ، فَأَقَامَ الْخَلِيفَةَ الْحَافِظَ أَبَا الْمَيْمُونِ عَبْدَ الْمَجِيدِ بْنَ الْأَمِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَمَانٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَلَمَّا أَقَامَهُ اسْتَحْوَذَ عَلَى الْأُمُورِ دُونَهُ، وَحَصَرَهُ فِي مَجْلِسٍ، لَا يَدْخُلُ إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ يُرِيدُهُ، وَنَقَلَ الْأَمْوَالَ مِنَ الْقَصْرِ إِلَى دَارِهِ وَلَمْ يَبْقَ لِلْحَافِظِ سِوَى الِاسْمِ فَقَطْ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو إِسْحَاقَ الْكَلْبِيُّ مِنْ أَهْلِ غَزَّةَ، جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، وَمِنْ شِعْرِهِ فِي الْأَتْرَاكِ:
فِي فِتْنَةٍ مِنْ جُيُوشِ التُّرْكِ مَا تَرَكَتْ لِلرَّعْدِ كَرَّاتُهُمْ صَوْتًا وَلَا صِيتَا قَوْمٌ إِذَا قُوبِلُوا كَانُوا مَلَائِكَةً
حُسْنًا وَإِنْ قُوتِلُوا كَانُوا عَفَارِيتَا
وَلَهُ:
لَيْتَ الَّذِي بِالْعِشْقِ دُونَكَ خَصَّنِي يَا ظَالِمِي قَسَمَ الْمَحَبَّةَ بَيْنَنَا
أَلْقَى الْهِزَبْرَ فَلَا أَخَافُ وُثُوبَهُ وَيَرُوعُنِي نَظَرُ الْغَزَالِ إِذَا رَنَا

وَلَهُ:
إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ مَتَاعٌ وَالسَّفِيهُ الْغَوِيُّ مَنْ يَصْطَفِيهَا
مَا مَضَى فَاتَ وَالْمُؤَمَّلُ غَيْبٌ وَلَكَ السَّاعَةُ التَّي أَنْتَ فِيهَا
وَلَهُ أَيْضًا:
قَالُوا هَجَرْتَ الشِّعْرَ قُلْتُ ضَرُورَةٌ بَابُ الْبَوَاعِثِ وَالدَّوَاعِي مُغْلَقُ
خَلَتِ الْبِلَادُ فَلَا كَرِيمٌ يُرْتَجَى مِنْهُ النَّوَالُ وَلَا مَلِيحٌ يُعْشَقُ
وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَى وَيُخَانُ فِيهِ مِنَ الْكَسَادِ وَيُسْرَقُ
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي الْوَفَيِّاتِ مِنْ شِعْرِهِ الرَّائِقِ قَوْلُهُ:
إِشَارَةٌ مِنْكَ تَكْفِينَا وَأَحْسَنُ مَا رُدَّ السَّلَامُ غَدَاةَ الْبَيْنِ بِالْعَنَمِ
حَتَّى إِذَا طَاحَ عَنْهَا الْمِرْطُ مِنْ دَهَشٍ وَانْحَلَّ بِالضَّمِّ سِلْكُ الْعِقْدِ فِي الظُّلَمِ
تَبَسَّمَتْ فَأَضَاءَ اللَّيْلُ فَالْتَقَطَتْ حَبَّاتِ مُنْتَثِرٍ فِي ضَوْءٍ مُنْتَظَمِ
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِبِلَادِ بَلْخَ، وَدُفِنَ فِيهَا.
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ الدَّبَّاسُ
أَبُو

عَبْدِ اللَّهِ الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ بِالْبَارِعِ، قَرَأَ الْقِرَاءَاتِ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ عَارِفًا بِالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْأَدَبِ، وَلَهُ شِعْرٌ رَائِقٌ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدُونَ بْنِ مُرَجَّى
أَبُو عَامِرٍ الْعَبْدَرِيُّ الْقُرَشِيُّ الْحَافِظُ، أَصْلُهُ مِنْ مَيُورْقَةَ، مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ وَدَخَلَ بَغْدَادَ فَسَمِعَ بِهَا عَلَى طِرَادٍ الزَّيْنَبِيِّ وَالْحُمَيْدِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْحَدِيثِ جَيِّدَةٌ، وَكَانَ يَذْهَبُ فِي الْفُرُوعِ مَذْهَبَ الظَّاهِرِيَّةِ، تُوُفِّيَ فِي بَغْدَادَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا ضَلَّ دُبَيْسٌ عَنِ الطَّرِيقِ فِي الْبَرِّيَّةِ فَأَسَرَهُ بَعْضُ أُمَرَاءِ الْأَعْرَابِ بِأَرْضِ الشَّامِ، وَحَمَلَهُ إِلَى مَلِكِ دِمَشْقَ بُورَى بْنِ طُغْتِكِينَ، فَبَاعَهُ مِنْ زَنْكِي بْنِ آقْ سُنْقُرَ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا حَصَلَ فِي يَدِهِ لَمْ يَشُكَّ دُبَيْسٌ أَنَّهُ سَيُهْلِكُهُ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْعَدَاوَةِ فَأَكْرَمَهُ زَنْكِي، وَأَعْطَاهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً وَقَدَّمَهُ وَاحْتَرَمَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ رُسُلُ الْخَلِيفَةِ فِي طَلَبِهِ فَبَعَثَهُ مَعَهُمْ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ حُبِسَ فِي قَلْعَتِهَا.
وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ مَحْمُودٌ وَمَسْعُودٌ فَتَوَاجَهَا لِلْقِتَالِ ثُمَّ اصْطَلَحَا، وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمَلِكِ مَحْمُودِ بْنِ مَلِكْشَاهْ بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ، فَأُقِيمَ فِي الْمُلْكِ مَكَانَهُ ابْنُهُ دَاوُدُ، وَجُعِلَ لَهُ أَتَابِكٌ وَوَزِيرٌ، وَخُطِبَ لَهُ بِأَكْثَرِ الْبِلَادِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَبُو نَصْرٍ الطُّوسِيُّ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ بِالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَكَانَ شَيْخًا لَطِيفًا، عَلَيْهِ نُورٌ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَنْشَدَنِي:

عَلَى كُلِّ حَالٍ فَاجْعَلِ الْحَزْمَ عُدَّةً تُقَدِّمُهُ بَيْنَ النَّوَائِبِ وَالدَّهْرِ فَإِنْ نِلْتَ خَيْرًا نِلْتَهُ بِعَزِيمَةٍ
وَإِنْ قَصَّرَتْ عَنْكَ الْخُطُوبُ فَعَنْ عُذْرِ
قَالَ: وَأَنْشَدَنِي أَيْضًا:
لَبِسْتُ ثَوْبَ الرَّجَا وَالنَّاسُ قَدْ رَقَدُوا وَقُمْتُ أَشْكُو إِلَى مَوْلَايَ مَا أَجِدُ
وَقُلْتُ يَا عُدَّتِي فِي كُلِّ نَائِبَةٍ وَمَنْ عَلَيْهِ لِكَشْفِ الضُّرِ أَعْتَمِدُ
وَقَدْ مَدَدْتُ يَدِي وَالضُّرُ مُشْتَمِلٌ إِلَيْكَ يَا خَيْرَ مَنْ مُدَّتْ إِلَيْهِ يَدُ
فَلَا تَرُدَّنَّهَا يَا رَبِّ خَائِبَةً فَبَحْرُ جُودِكَ يَرْوِي كُلَّ مَنْ يَرِدُ
الْحَسَنُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
ابْنُ الْفَتَى، أَبُو عَلِيٍّ، الْفَقِيهُ مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ، وَقَدْ وَعَظَ بِجَامِعِ الْقَصْرِ، وَكَانَ يَقُولُ: أَنَا فِي الْفِقْهِ مُنْتَهَى، وَفِي الْوَعْظِ مُبْتَدَى. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَغَسَّلَهُ الْقَاضِي أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الرُّطَبِيِّ، وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِي إِسْحَاقَ.
حَمَّادُ بْنُ مُسْلِمٍ الرَّحْبِيُّ الدَّبَّاسُ
كَانَ يُذْكَرُ لَهُ أَحْوَالٌ وَمُكَاشَفَاتٌ وَاطِّلَاعٌ عَلَى مُغَيَّبَاتٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَامَاتِ، وَرَأَيْتُ ابْنَ الْجَوْزِيِّ يَتَكَلَّمُ فِيهِ

وَيَقُولُ: كَانَ عُرْيًا مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَنْفُقُ عَلَى الْجُهَّالِ.
وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ كَانَ يُنَفِّرُ النَّاسَ عَنْهُ، وَكَانَ حَمَّادٌ الدَّبَّاسُ يَقُولُ: ابْنُ عَقِيلٍ عَدُوِّي. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ النَّاسُ يَنْذِرُونَ لَهُ، فَيَقْبَلُ ذَلِكَ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ، وَصَارَ يَأْخُذُ مِنَ الْمَنَامَاتِ، وَيُنْفِقُ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ وَدُفِنَ بِالْشُّونِيْزِيَّةِ.
عَلِيُّ بْنُ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ
أَخُو الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَرْشِدِ، تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَتُرِكَ ضَرْبُ الطُّبُولِ، وَجَلَسَ النَّاسُ لِلْعَزَاءِ أَيَّامًا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ الْمَاهِيَانِيُّ،
أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، تَفَقَّهَ بِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِ، وَرَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إِلَى بِلَادٍ شَتَّى، وَدَرَّسَ وَأَفْتَى وَنَاظَرَ، تُوفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ، وَدُفِنَ بِقَرْيَةِ مَاهِيَانَ مِنْ بِلَادِ مَرْوَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
مَحْمُودٌ السُّلْطَانُ بْنُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهِ بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ بْنِ دَاوُدَ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ، وَكَانَ فِيهِ حِلْمٌ وَأَنَاةٌ وَبِرٌّ

وَصَلَابَةٌ، وَجَلَسُوا لِعَزَائِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. سَامَحَهُ اللَّهُ.
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْحُصَيْنِ
أَبُو الْقَاسِمِ الشَّيْبَانِيُّ، رَاوِي الْمُسْنَدِ، عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ الْمُذْهِبِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ سَمِعَ قَدِيمًا؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَبَاكَرَ بِهِ أَبُوهُ فَأَسْمَعُهُ وَمَعَهُ أَخُوهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ عِلْيَةِ الْمَشَايِخِ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتًا صَحِيحَ السَّمَاعِ، تُوُفِّيَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ ثَلَاثٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ مَسْعُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ بَغْدَادَ، وَقَدِمَهَا قَرَاجَا السَّاقِي، وَمَعَهُ سَلْجُوقُ شَاهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَطْلُبُ الْمُلْكَ لِنَفْسِهِ، وَقَدِمَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي بْنُ آقْ سُنْقُرَ لِيَنْضَمَّ إِلَيْهِمَا فَتَلَقَّاهُ قَرَاجَا السَّاقِي، فَهَزَمَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى تَكْرِيتَ، فَخَدَمَهُ نَائِبُ قَلْعَتِهَا نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبَ - وَالِدُ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ الَّذِي فَتَحَ الْقُدْسَ فِيمَا بَعْدُ حَتَّى عَادَ إِلَى بِلَادِهِ - فَكَانَ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي مَصِيرِ نَجْمِ الدِّينِ أَيُّوبَ إِلَيْهِ، وَهُوَ بِحَلَبَ فَخَدَمَ عِنْدَهُ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الْأُمُورِ مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ مِمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَيْنِ مَسْعُودًا وَسَلْجُوقَ شَاهْ اجْتَمَعَا فَاصْطَلَحَا، وَرَكِبَا إِلَى الْمَلِكِ سَنْجَرَ، فَاقْتَتَلَا مَعَهُ، فَكَانَ جَيْشُهُ مِائَةً وَسِتِّينَ أَلْفًا، وَكَانَ الَّذِينَ مَعَهُمَا قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ قُتِلَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَأَسَرَ جَيْشُ سَنْجَرَ قَرَاجَا السَّاقِي فَقَتَلَهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَجْلَسَ طُغْرُلَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ وَرَجَعَ سَنْجَرُ إِلَى بِلَادِهِ، وَكَتَبَ طُغْرُلُ إِلَى دُبَيْسٍ وَزَنْكِي لِيَذْهَبَا إِلَى بَغْدَادَ فَيَأْخُذَاهَا، فَأَقْبَلَا فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فَبَرَزَ إِلَيْهِمَا الْخَلِيفَةُ فَهَزَمَهُمَا، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِهِمَا، وَأَزَاحَ اللَّهُ شَرَّهُمَا عَنْهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ الْأَفْضَلِ بْنِ بَدْرٍ الْجَمَالِيُّ وَزِيرُ الْحَافِظِ الْفَاطِمِيِّ، فَنَقَلَ الْحَافِظُ الْأَمْوَالَ الَّتِي كَانَ أَخَذَهَا إِلَى دَارِهِ، وَاسْتَوْزَرَ بَعْدَهُ أَبَا الْفَتْحِ يَانَسَ

الْحَافِظِيَّ وَلَقَّبَهُ أَمِيرَ الْجُيُوشِ، ثُمَّ احْتَالَ لَهُ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَوْزَرَ وَلَدَهُ حَسَنًا وَخُطِبَ لَهُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمُسْتَرْشِدُ وَزِيرَهُ عَلِيَّ بْنَ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيَّ، وَاسْتَوْزَرَ أَنُوشِرْوَانَ بْنَ خَالِدٍ بَعْدَ تَمَنُّعٍ. وَفِيهَا مَلَكَ دِمَشْقَ شَمْسُ الْمُلُوكِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ بُورِي بْنِ طُغْتِكِينَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ، وَاسْتَوْزَرَ يُوسُفَ بْنَ فَيْرُوزَ، وَكَانَ خَيِّرًا، فَمَلَكَ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَأَطَاعَهُ أَخُوهُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ عُمَرَ بْنِ عِيسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ السُّلَمِيُّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ كَادِشٍ الْعُكْبَرِيُّ أَبُو الْعِزِّ الْبَغْدَادِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ يَفْهَمُهُ وَيَرْوِيهِ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَوَى عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ ; مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْخَشَّابِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ يَتَّهِمُهُ وَيَرْمِيهِ بِأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِوَضْعِ حَدِيثٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ الْأَنْمَاطِيُّ: كَانَ مُخَلِّطًا. تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَاضِي أَبِي

يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ الْحَنْبَلِيُّ، وُلِدَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، سَمِعَ أَبَاهُ وَغَيْرَهُ، وَتَفَقَّهَ وَنَاظَرَ وَأَفْتَى وَدَرَّسَ، وَكَانَ لَهُ بَيْتٌ فِيهِ مَالٌ فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَقُتِلَ وَأُخِذَ مَالُهُ، ثُمَّ أَظْهَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى قَاتِلِهِ فَقَتَلُوهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ إِلَى بَغْدَادَ، فَخُطِبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِهَا، وَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ وَوَلَّاهُ السَّلْطَنَةَ، وَلَمَّا ذُكِرَ عَلَى الْمَنَابِرِ نُثِرَتِ الدَّنَانِيرُ وَالذَّهَبُ عَلَى النَّاسِ، وَخُلِعَ عَلَى الْمَلِكِ دَاوُدَ بْنِ مَحْمُودٍ. وَفِيهَا جَمَعَ دُبَيْسٌ جَمْعًا كَثِيرًا بِوَاسِطٍ وَانْضَمَّ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ جَيْشًا فَكَسَرُوهُ وَفَرَّقُوا شَمْلَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْمَوْصِلِ، لِيَأْخُذَهَا مِنْ يَدِ زَنْكِي، فَخَرَجَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ وَخَلْقٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَكَابِرِ وَالْوُزَرَاءِ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهَا بَعَثَ إِلَيْهِ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي يَعْرِضُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ وَالتُّحَفِ شَيْئًا كَثِيرًا؛ لِيَرْجِعَ عَنْهُ فَلَمْ يَقْبَلْ، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ السُّلْطَانَ مَسْعُودًا قَدِ اصْطَلَحَ مَعَ دُبَيْسٍ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ فَكَرَّ رَاجِعًا سَرِيعًا إِلَى بَغْدَادَ سَالِمًا مُعَظَّمًا.
وَفِيهَا مَاتَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ، فَطَلَبَ حَلْقَتَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - وَكَانَ شَابًّا - فَحَصَلَتْ لِغَيْرِهِ، وَلَكِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَزِيرُ أَنُوشِرْوَانَ فِي الْوَعْظِ، فَتَكَّلَمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى النَّاسِ بِأَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ بَغْدَادَ، وَكَثُرَتْ مَجَالِسُهُ وَازْدَحَمَ عَلَيْهِ النَّاسُ.
وَفِيهَا مَلَكَ شَمْسُ الْمُلُوكِ إِسْمَاعِيلُ صَاحِبُ دِمَشْقَ مَدِينَةَ حَمَاةَ، وَكَانَتْ بِيَدِ زَنْكِي، وَفِي ذِي الْحِجَّةِ نَهَبَ التُّرْكُمَانُ مَدِينَةَ طَرَابُلُسَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْقُومَصُ

- لَعَنَهُ اللَّهُ - فَهَزَمُوهُ وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَحَاصَرُوهُ بِهَا مُدَّةً طَوِيلَةً حَتَّى طَالَ الْحِصَارُ فَانْصَرَفُوا.
وَفِيهَا وُلِّيَ مَكَّةَ قَاسِمُ بْنُ أَبِي فُلَيْتَةَ بَعْدَ أَبِيهِ. وَفِيهَا قَتَلَ شَمْسُ الْمُلُوكِ أَخَاهُ سُونْجَ. وَفِيهَا اشْتَرَى الْبَاطِنِيَّةُ حِصْنَ الْقُدْمُوسِ بِالشَّامِ فَسَكَنُوهُ، وَحَارَبُوا مَنْ جَاوَرَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْفِرِنْجِ، وَفِيهَا اقْتَتَلَتِ الْفِرِنْجُ فِيمَا بَيْنَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَمَحَقَ اللَّهُ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَزَاهُمْ فِيهَا أَيْضًا عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي فَقَتَلَ مِنْهُمْ أَلْفَ قَتِيلٍ، وَغَنِمَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَيُقَالُ لَهَا: غَزَاةُ أَسْوَارٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا نَظَرٌ الْخَادِمُ، وَكَذَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا.

تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَخْلَدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الرُّطَبِيِّ تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنِ الصَّبَّاغِ بِبَغْدَادَ، وَبِأَصْبَهَانَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ الْخُجَنْدِيِّ ثُمَّ وُلِّيَ الْحُكْمَ بِبَغْدَادَ بِالْحَرِيمِ، وَالْحِسْبَةَ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ يُؤَدِّبُ أَوْلَادَ الْخَلِيفَةِ، تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ.
أَسْعَدُ بْنُ أَبِي نَصْرِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ
أَبُو الْفَتْحِ الْمِيهَنِيُّ مَجْدُ الدِّينِ، أَحَدُ أَئِمَّةُ الشَّافِعِيَّةِ وَصَاحِبُ " الطَّرِيقَةِ فِي الْخِلَافِ " الْمَطْرُوقَةِ، وَقَدْ دَرَّسَ بِالنِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ فَعُزِلَ عَنْهَا، وَاشْتَهَرَ

أَصْحَابُهُ هُنَالِكَ وَبَعُدَ صِيتُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ أَنَّهُ وَلِيَهَا، وَأَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَقَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ.
الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ
أَبُو نَصْرٍ الْيُونَارَتِيُّ مِنْ قُرَى أَصْبَهَانَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَحَلَ وَخَرَّجَ، وَلَهُ تَارِيخٌ، وَكَانَ يَكْتُبُ حَسَنًا، وَيَقْرَأُ فَصِيحًا، تُوُفِّيَ بِأَصْبَهَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. ابْنُ الزَّاغُونِيِّ الْحَنْبَلِيُّ
عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ نَصْرِ بْنِ السَّرِيِّ الزَّاغُونِيُّ، الْإِمَامُ الشَّهِيرُ، قَرَأَ الْقِرَاءَاتِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ بِالْفِقْهِ وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَلَهُ يَدٌ فِي الْوَعْظِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ فِي جِنَازَتِهِ، وَكَانَتْ حَافِلَةً جِدًّا.
عَلِيُّ بْنُ يَعْلَى بْنِ عَوَضٍ
أَبُو الْقَاسِمِ الْعَلَوِيُّ الْهَرَوِيُّ، سَمِعَ " مُسْنَدَ أَحْمَدَ " مِنِ ابْنِ الْحُصَيْنِ، وَ " التِّرْمِذِيَّ " مِنْ أَبِي عَامِرٍ الْأَزْدِيِّ، وَكَانَ يَعِظُ

النَّاسَ بِنَيْسَابُورَ، ثُمَّ قَدِمَ بَغْدَادَ فَوَعَظَ بِهَا، فَحَصَلَ لَهُ الْقَبُولُ التَّامُّ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ، وَجَمَعَ أَمْوَالًا وَكُتُبًا، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَلَكَنِي فِي الْوَعْظِ، وَتَكَلَّمْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنَا صَغِيرٌ، وَتَكَلَّمْتُ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ انْصِرَافِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعُثْمَانِيُّ الدِّيبَاجِيُّ، وَكَانَ بِبَغْدَادَ يُعْرَفُ بِالْمَقْدِسِيِّ، تَفَقَّهَ وَكَانَ أَشْعَرِيَّ الِاعْتِقَادِ، وَوَعَظَ النَّاسَ بِبَغْدَادَ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: سَمِعْتُهُ يُنْشِدُ فِي مَجْلِسِهِ قَوْلَهُ:
دَعْ جُفُونِي يَحِقُّ لِي أَنْ أَنُوحَا لَمْ تَدَعْ لِي الذُّنُوبُ قَلْبًا صَحِيحَا أَخْلَقَتْ بَهْجَتِي أَكُفُّ الْمَعَاصِي
وَنَعَانِي الْمَشِيبُ نَعْيًا فَصِيحًا كُلَّمَا قُلْتُ قَدْ بَرَا جُرْحُ قَلْبِي
عَادَ قَلْبِي مِنَ الذُّنُوبِ جَرِيحَا إِنَّمَا الْفَوْزُ وَالنَّعِيمُ لِعَبْدٍ
جَاءَ فِي الْحَشْرِ آمِنًا مُسْتَرِيحَا
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ خَلَفٍ
أَبُو خَازِمِ بْنُ أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ، الْفَقِيهُ ابْنُ الْفَقِيهِ، وُلِدَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الزَّاهِدِينَ الْأَخْيَارِ، تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا.
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدِيسٍ الْأَزْدِيُّ

الصَّقِلِّيُّ
الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ أَشْعَارًا رَائِقَةً فَمِنْهَا قَوْلُهُ:
قُمْ هَاتِهَا مِنْ كَفِّ ذَاتِ الْوِشَاحْ فَقَدْ نَعَى اللَّيْلَ بَشِيرُ الصَّبَاحْ
بَاكِرْ إِلَى اللَّذَّاتِ وَارْكَبْ لَهَا سَوَابِقَ اللَّهْوِ ذَوَاتِ الْمِرَاحْ
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَرْشُفَ شَمْسُ الضُّحَى رِيقَ الْغَوَادِي مِنْ ثُغُورِ الْأَقَاحْ
وَمِنْ جُمْلَةِ مَعَانِيهِ النَّادِرَةِ:
زَادَتْ عَلَى كَحَلِ الْجُفُونِ تَكَحُّلًا وَيُسَمُّ نَصْلُ السَّهْمِ وَهُوَ قَتُولُ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا اصْطَلَحَ الْخَلِيفَةُ وَزَنْكِي. وَفِيهَا فَتَحَ زَنْكِي قِلَاعًا كَثِيرَةً وَقَتَلَ خَلْقًا مِنَ الْفِرِنْجِ. وَفِيهَا فَتَحَ شَمْسُ الْمُلُوكِ شَقِيفَ تِيرُونَ، وَنَهَبَ بِلَادَ الْفِرِنْجِ.
وَفِيهَا قَدِمَ سَلْجُوقُ شَاهْ بَغْدَادَ، فَنَزَلَ بِدَارِ الْمَمْلَكَةِ وَأَكْرَمَهُ الْخَلِيفَةُ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، ثُمَّ قَدِمَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ رُكَّابٌ عَلَى جِمَالٍ لِقِلَّةِ الْخَيْلِ.
وَفِيهَا تَوَلَّى إِمْرَةَ بَنِي عَقِيلٍ أَوْلَادُ سُلَيْمَانَ بْنِ مُهَارِشٍ الْعَقِيلِيِّ ; إِكْرَامًا لِجَدِّهِمْ.
وَفِيهَا أُعِيدَ ابْنُ طِرَادٍ إِلَى الْوَزَارَةِ. وَفِيهَا خُلِعَ عَلَى إِقْبَالٍ الْمُسْتَرْشِدِيِّ خِلَعَ الْمُلُوكِ، وَلُقِّبَ مَلِكَ الْعَرَبِ سَيْفَ الدَّوْلَةِ، وَرَكِبَ فِي الْخِلَعِ وَحَضَرَ الدِّيوَانَ. وَفِيهَا قَوِيَ أَمْرُ الْمَلِكِ طُغْرُلَ، وَضَعُفَ أَمْرُ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو الْوَفَاءِ الْفِيرُوزَابَاذِيُّ، أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، سَكَنَ رِبَاطَ الزَّوْزَنِيِّ، وَكَانَ كَلَامُهُ يُسْتَحْلَى، وَكَانَ يَحْفَظُ مِنْ سِيَرِ

الصُّوفِيَّةِ ; أَخْبَارِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا.
أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِقِيُّ
الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَرْهُونَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِقِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَتَفَقَّهَ بِهَا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ بَيَانٍ الْكَازَرُونِيِّ صَاحِبِ الْمَحَامِلِيِّ، ثُمَّ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنِ الصَّبَّاغِ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ يُكَرَّرُ عَلَى " الْمُهَذَّبِ " وَ " الشَّامِلِ " ثُمَّ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِوَاسِطٍ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ جَيِّدَ السَّرِيرَةِ مُمَتَّعًا بِحَوَاسِّهِ وَعَقْلِهِ إِلَى أَنْ تُوَفِّيَ فِي مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ
أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيُّ، سَمَعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِيهِ، وَنَاظَرَ وَأَفْتَى وَكَانَ فَاضِلًا وَاعِظًا فَصِيحًا مُفَوَّهًا، شَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي وَعْظِهِ وَحُسْنِ نَظْمِهِ وَنَثْرِهِ وَلَفْظِهِ.
تُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ وَقَدْ قَارَبَ الْخَمْسِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ
أَبُو بَكْرٍ الْقَطَّانُ وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْحَلَّاجِ الْبَغْدَادِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَقَرَأَ الْقِرَاءَاتِ وَكَانَ خَيِّرًا زَاهِدًا عَابِدًا يُتَبَرَّكُ بِدُعَائِهِ وَيُزَارُ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ عَبْدُ الْوَاحِدِ الشَّافِعِيُّ
أَبُو رَشِيدٍ مِنْ أَهْلِ آمُلَ طَبَرِسْتَانَ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَحَجَّ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ، وَسَمِعَ مِنَ الْحَدِيثِ وَرَوَى شَيْئًا يَسِيرًا، وَكَانَ زَاهِدًا مُنْقَطِعًا عَنِ النَّاسِ مُشْتَغِلًا بِنَفْسِهِ، رَكِبَ مَرَّةً مَعَ تُجَّارٍ فِي الْبَحْرِ فَأَوْفَوْا عَلَى جَزِيرَةٍ، فَقَالَ: دَعُونِي فِي هَذِهِ أَعْبُدِ اللَّهَ فِيهَا، فَمَانَعُوهُ، فَأَبَى إِلَّا الْمُقَامَ بِهَا، فَتَرَكُوهُ وَسَارُوا، فَرَدَّتْهُمُ الرِّيحُ، فَرَاوَدُوهُ عَلَى الْمَسِيرِ مَعَهُمْ فَامْتَنَعَ فَسَارُوا فَرَدَّتْهُمُ الرِّيحُ إِلَيْهِ، فَرَاوَدُوهُ فَامْتَنَعَ فَسَارُوا فَرَدَّتْهُمُ الرِّيحُ إِلَيْهِ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ نَسِيرَ إِلَّا بِكَ، وَإِذَا أَرَدْتَ الْمُقَامَ بِهَا فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَسَارَ مَعَهُمْ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا فَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً، ثُمَّ تَرَحَّلَ عَنْهَا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ بِهَا ثُعْبَانٌ يَبْتَلِعُ الْإِنْسَانَ، وَبِهَا عَيْنُ مَاءٍ يَشْرَبُ مِنْهَا وَيَتَوَضَّأُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ آمُلَ، فَمَاتَ بِهَا فِي هَذَا الْعَامِ، وَقَبَرُهُ مَشْهُورٌ يُزَارُ.
أُمُّ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَرْشِدِ
تُوُفِّيَتْ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْعَتَمَةِ تَاسِعَ عَشَرَ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمُسْتَرْشِدِ وَوِلَايَةُ الرَّاشِدِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَبَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَقَائِعُ كَثِيرَةٌ، فَاقْتَضَى الْحَالُ أَنَّ الْخَلِيفَةَ أَرَادَ قَطْعَ الْخُطْبَةِ لَهُ مِنْ بَغْدَادَ، فَاتَّفَقَ مَوْتُ أَخِيهِ طُغْرُلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ، فَسَارَ إِلَى الْبِلَادِ فَمَلَكَهَا، وَقَوِيَ جَانِبُهُ ثُمَّ شَرَعَ يَجْمَعُ الْعَسَاكِرَ لِيَأْخُذَ بَغْدَادَ مِنَ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا عَلِمَ الْخَلِيفَةُ بِذَلِكَ انْزَعَجَ وَاسْتَعَدَّ لِذَلِكَ، وَقَفَزَ جَمَاعَةٌ مِنْ رُءُوسِ الْأُمَرَاءِ إِلَى الْخَلِيفَةِ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ سَطْوَةِ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ، وَرَكِبَ الْخَلِيفَةُ مِنْ بَغْدَادَ فِي جَحَافِلَ كَثِيرَةٍ فِيهِمُ الْقُضَاةُ وَرُءُوسُ الدَّوْلَةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، فَمَشَوْا بَيْنَ يَدَيْهِ أَوَّلَ مَنْزِلِهِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى السُّرَادِقِ وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُقَدِّمَةً، وَأَرْسَلَ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ دُبَيْسَ بْنَ صَدَقَةَ بْنِ مَنْصُورِ، الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الْحِلَّةِ فَجَرَتْ خُطُوبٌ كَبِيرَةٌ وَحُرُوبٌ كَثِيرَةٌ. وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ الْجَيْشَيْنِ الْتَقَيَا فِي عَاشِرِ رَمَضَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا كَثِيرًا، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ الصَّفَّيْنِ سِوَى خَمْسَةِ أَنْفُسٍ، ثُمَّ حَمَلَ الْخَلِيفَةُ عَلَى جَيْشِ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ فَهَزَمَهُمْ. ثُمَّ تَرَاجَعُوا فَحَمَلُوا عَلَى جَيْشِ الْخَلِيفَةِ، فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا، وَأَسَرُوا الْخَلِيفَةَ، وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُ وَحَوَاصِلُهُ، مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الثِّيَابِ وَالْخِلَعِ وَالْأَثَاثِ وَالْقُمَاشِ وَالْمَاعُونِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَطَارَ الْخَبَرُ فِي الْأَقَالِيمِ، وَحِينَ بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَادَ انْزَعَجَ النَّاسُ

لِذَلِكَ، وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا صُورَةً وَمَعْنًى، وَجَاءَتِ الْعَامَّةُ إِلَى الْمَنَابِرِ فَكَسَرُوهَا وَامْتَنَعُوا مِنْ حُضُورِ الْجَمَاعَاتِ، وَخَرَجَ النِّسَاءُ فِي الْبَلَدِ حَاسِرَاتٍ يَنُحْنَ عَلَى الْخَلِيفَةِ، وَمَا جَرَى عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْرِ وَتَأَسَّى بِأَهْلِ بَغْدَادَ فِي ذَلِكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ، وَتَمَّتْ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ وَانْتَشَرَتْ فِي الْأَقَالِيمِ، وَاسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَهَلَّ شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ وَالشَّنَاعَةُ فِي الْأَقَالِيمِ مُنْتَشِرَةٌ، فَكَتَبَ الْمَلِكُ سَنْجَرُ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ يُحَذِّرُهُ غِبَّ ذَلِكَ، وَيُبَصِّرُهُ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ وَالْخَطْبِ الْجَسِيمِ، وَيَأْمُرُهُ أَنْ يُعِيدَ الْخَلِيفَةَ إِلَى مُسْتَقَرِّ عِزِّهِ وَدَارِ خِلَافَتِهِ، فَامْتَثَلَ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ ذَلِكَ وَضُرِبَ لِلْخَلِيفَةِ سُرَادِقٌ عَظِيمٌ، وَنُصِبَ لَهُ فِيهِ قُبَّةٌ عَظِيمَةٌ تَحْتَهَا سَرِيرٌ هَائِلٌ، وَأُلْبِسَ الْخَلِيفَةُ السَّوَادَ عَلَى عَادَتِهِ وَأُرْكِبَ بَعْضَ مَا كَانَ يَرْكَبُهُ مِنْ مَرَاكِبِهِ. وَجَاءَ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ فَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَمْسَكَ لِجَامَ الْفَرَسِ وَتَمَشَّى فِي خِدْمَتِهِ، وَالْجَيْشُ كُلُّهُمْ مُشَاةٌ حَتَّى أُجْلِسَ الْخَلِيفَةُ عَلَى سَرِيرِهِ وَوَقَفَ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَخَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَيْهِ، وَجِيءَ بِدُبَيْسٍ مَكْتُوفًا، وَعَنْ يَمِينِهِ أَمِيرَانِ وَعَنْ يَسَارِهِ أَمِيرَانِ وَسَيْفٌ مَسْلُولٌ وَشُقَّةٌ بَيْضَاءُ، فَطُرِحَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، مَاذَا يَرْسُمُ فِيهِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ ؟! فَأَقْبَلَ السُّلْطَانُ يَشْفَعُ فِي دُبَيْسٍ وَهُوَ مُلْقًى يَقُولُ: الْعَفْوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَا أَخْطَأْتُ وَالْعَفْوُ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِإِطْلَاقِهِ وَهُوَ يَقُولُ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ، فَنَهَضَ قَائِمًا وَالْتَمَسَ أَنْ يُقَبِّلَ يَدَ الْخَلِيفَةِ فَأَذِنَ لَهُ فَقَبَّلَهَا وَأَمَرَّهَا عَلَى صَدْرِهِ، وَسَأَلَ الْعَفْوَ عَنْهُ وَعَمَّا كَانَ مِنْهُ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَطَارَ هَذَا الْخَبَرُ فِي الْآفَاقِ وَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ مُسْتَهَلُّ ذِي الْقَعْدَةِ جَاءَتِ الرُّسُلُ مِنْ جِهَةِ

الْمَلِكِ سَنْجَرَ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ يَسْتَحِثُّهُ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَأَنْ يُبَادِرَ إِلَى سُرْعَةِ رَدِّهِ إِلَى وَطَنِهِ، وَأَرْسَلَ مَعَ الرُّسُلِ جَيْشًا لِيَكُونُوا فِي خِدْمَةِ الْخَلِيفَةِ إِلَى بَغْدَادَ فَصَحِبَ الْجَيْشَ عَشَرَةٌ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ، فَقِيلَ: مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَقِيلَ: بَلْ كَانُوا مُجَهَّزِينَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِلَّا أَنَّهُمْ حَالَةَ وُصُولِهِمْ إِلَى هُنَالِكَ حَمَلُوا عَلَى الْخَلِيفَةِ فِي خَيْمَتِهِ، فَقَتَلُوهُ فِيهَا وَقَطَّعُوهُ قِطَعًا، فَلَمْ يَلْحَقِ النَّاسُ مِنْهُ إِلَّا الرُّسُومَ، وَقَتَلُوا مَعَهُ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُكَيْنَةَ فَأُخِذَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ فَأُحْرِقُوا قَبَّحَهُمُ اللَّهُ، وَسَارَتْ بِذَلِكَ الرُّكْبَانُ فِي الْبُلْدَانِ فَمَا مِنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ إِلَّا وَهُمْ أَشَدُّ حُزْنًا عَلَى الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَرْشِدِ مِنَ الْأُخْرَى لَا سِيَّمَا أَهْلَ بَغْدَادَ وَخَرَجَتِ النِّسَاءُ فِي الطُّرُقَاتِ يَنُحْنَ عَلَيْهِ وَيَنْدُبْنَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مَا كُنَّ يَقُلْنَهُ مِنَ النِّيَاحَةِ عَلَى الْخَلِيفَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ مَقْتَلُهُ عَلَى بَابِ مَرَاغَةَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَابِعَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ فَحُمِلَ إِلَى بَغْدَادَ وَلَمَّا اسْتَقَرَّ خَبَرُ مَوْتِهِ بِبَغْدَادَ عُمِلَ لَهُ الْعَزَاءُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَمَا بُويِعَ لِوَلَدِهِ الرَّاشِدِ.
ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ تَرْجَمَةِ الْمُسْتَرْشِدِ رَحِمَهُ اللَّهُ
كَانَ الْمُسْتَرْشِدُ شُجَاعًا مِقْدَامًا بَعِيدَ الْهِمَّةِ، فَصِيحًا بَلِيغًا عَذْبَ الْكَلَامِ حَسَنَ الْإِيرَادِ مَلِيحَ الْخَطِّ، كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، مُحَبَّبًا إِلَى الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَهُوَ آخِرُ خَلِيفَةٍ رُئِيَ خَطِيبًا، قُتِلَ وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَكَانَتْ مُدَّةُ

خِلَافَتِهِ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ.

خِلَافَةُ الرَّاشِدِ بِاللَّهِ أَبِي جَعْفَرٍ مَنْصُورِ بْنِ الْمُسْتَرْشِدِ،
كَانَ أَبُوهُ قَدْ أَخَذَ لَهُ الْعَهْدَ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَخْلَعَهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُقَدَّرْ، فَلَمَّا قُتِلَ أَبُوهُ بِبَابِمَرَاغَةَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا، كَانَ هُوَ بِبَغْدَادَ فَلَمَّا جَاءَ خَبَرُهُ إِلَيْهَا بَايَعَهُ الْأُمَرَاءُ وَالْأَعْيَانُ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ بِبَغْدَادَ وَسَائِرِ الْبِلَادِ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ كَبِيرًا لَهُ أَوْلَادٌ، وَكَانَ أَبْيَضَ جَسِيمًا حَسَنَ اللَّوْنِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ جِيءَ بِالْمُسْتَرْشِدِ - قَدْ نُقِلَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى بَغْدَادَ - فَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِبَيْتِ النُّوبَةِ وَكَثُرَ الزِّحَامُ وَخَرَجَ النَّاسُ لِصَلَاةِ الْعِيدِ مِنَ الْغَدِ، وَهُمْ فِي حُزْنٍ شَدِيدٍ عَلَى الْمُسْتَرْشِدِ، وَقَدْ ظَهَرَ الرَّفْضُ قَلِيلًا فِي أَوَّلِ أَيَّامِ الرَّاشِدِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عُمَرَ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيُّ، تَفَقَّهَ بِأَبِيهِ وَاخْتَرَمَتْهُ الْمَنِيَّةُ بَعْدَ أَخِيهِ وَلَمْ يَبْلُغْ سِنَّ الرِّوَايَةِ.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَلِيٍّ
أَبُو الْقَاسِمِ الْحَاكِمِيُّ تَفَقَّهَ بِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَكَانَ رَفِيقَ الْغَزَالِيِّ فِي الِاشْتِغَالِ وَأَسَنَّ مِنْهُ، فَلِهَذَا كَانَ الْغَزَالِيُّ يَحْتَرِمُهُ وَيُكْرِمُهُ وَكَانَ فَقِيهًا بَارِعًا وَعَابِدًا وَرِعًا، كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ

بِطُوسَ وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ الْغَزَالِيِّ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
دُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ دُبَيْسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ
أَبُو الْأَعَزِّ الْأَسَدِيُّ الْأَمِيرُ، مِنْ بَيْتِ الْإِمْرَةِ وِسَادَةِ الْأَعْرَابِ كَانَ شُجَاعًا بَطَلًا فَعَلَ الْأَفَاعِيلَ وَتَمَزَّقَ فِي الْبِلَادِ مِنْ خَوْفِهِ مِنَ الْخَلِيفَةِ ثُمَّ اسْتُرْضِيَ عَنْهُ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَرْشِدُ كَمَا ذَكَرْنَا، فَلَمَّا قُتِلَ الْخَلِيفَةُ عَاشَ بَعْدَهُ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ اتُّهِمَ عِنْدَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ بِأَنَّهُ قَدْ كَاتَبَ زَنْكِي يَنْهَاهُ عَنِ الْقُدُومِ عَلَى السُّلْطَانِ، وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَنْجُوَ بِنَفْسِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ غُلَامًا أَرْمَنِيًّا فَوَجَدَهُ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ يُفَكِّرُ فِي أَمْرِهِ فَمَا كَلَّمَهُ حَتَّى شَهَرَ سَيْفَهُ وَضَرَبَهُ بِهِ فَأَبَانَ رَأْسَهُ عَنْ جُثَّتِهِ، وَيُقَالُ: بَلِ اسْتَدْعَاهُ السُّلْطَانُ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
طُغْرُلُ السُّلْطَانُ بْنُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ
تُوفِّيَ بِهَمَذَانَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرْزِيجَانِيُّ،
كَانَ عَابِدًا زَاهِدًا حَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِأَنَّ الْقُدْرَةَ تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحِيلِ، ثُمَّ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَعُذِرَ بِجَهْلِهِ وَعَدَمِ تَعَقُّلِهِ لِمَا يَقُولُ.

الْفَضْلُ أَبُو مَنْصُورٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ،
كَانَ مِنْ خِيَارِ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ شَهْمًا شُجَاعًا يُبَاشِرُ الْحُرُوبَ بِنَفْسِهِ وَقَدْ أَسْلَفْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ.
قَتَلَتْهُ الْبَاطِنِيَّةُ بِبَابِ مَرَاغَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى بَغْدَادَ فَدُفِنَ بِهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ وَبَلَّ بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَنْزِلَتَهُ وَمَأْوَاهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهل التأويل يتعرون أمام قانوني الحق والميزان

    بسم الله الرحمن الرحيم خلاصة قانون الحق = أن الله خلق السماوات والارض وما فيهم وما بينهم وما لأجلهم بقدر قام في وقت محدد وزمن مع...