الأحد، 1 أغسطس 2021

21.. / 1 البداية والنهاية تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

   21.. / 1 ا    البداية والنهاية

تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنَى سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ - جَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ وَفِتَنٌ مُنْتَشِرَةٌ بِبِلَادِ الْمَشْرِقِ
وَاسْتَحْوَذَ عَلَى بِلَادِ خُرَاسَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ. وَقَهَرَ عُمَّالَهَا وَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ يَزِيدَ وَابْنِهِ مُعَاوِيَةَ، قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ مُلْكُ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى تِلْكَ النَّوَاحِي، وَجَرَتْ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ هَذَا وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ مَرْثَدٍ حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَتَفْصِيلُهَا، اكْتَفَيْنَا بِذِكْرِهَا إِجْمَالًا ; إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْصِيلِهَا كَبِيرُ فَائِدَةٍ، وَهِيَ حُرُوبُ فِتْنَةٍ وَقِتَالُ بُغَاةٍ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ - بَايَعَ أَهْلُ خُرَاسَانَ سَلْمَ بْنَ زِيَادِ بْنِ أَبِيهِ، وَأَحَبُّوهُ حَتَّى إِنَّهُمْ سَمَّوْا بِاسْمِهِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ غُلَامٍ مَوْلُودٍ، ثُمَّ نَكَثُوا وَاخْتَلَفُوا، فَخَرَجَ عَنْهُمْ سَلْمٌ، وَتَرَكَ عَلَيْهِمُ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ.

وَفِيهَا اجْتَمَعَ مَلَأُ الشِّيعَةِ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ بِالْكُوفَةِ، وَتَوَاعَدُوا النَّخِيلَةَ ; لِيَأْخُذُوا بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَا زَالُوا فِي ذَلِكَ مُجِدِّينَ، وَعَلَيْهِ عَازِمِينَ، مِنْ بَعْدِ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ بِكَرْبَلَاءَ فِي الْعَاشِرِ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَقَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ بَعْثِهِمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا حَصَلَ بِبِلَادِهِمْ خَذَلُوهُ وَتَخَلَّوْا عَنْهُ وَلَمْ يَنْصُرُوهُ.
فَجَادَتْ بِوَصْلٍ حِينَ لَا يَنْفَعُ الْوَصْلُ
فَاجْتَمَعُوا فِي دَارِ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ وَهُوَ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، وَكَانَ رُءُوسُ الْقَائِمِينَ فِي ذَلِكَ خَمْسَةً ; سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ الصَّحَابِيَّ، وَالْمُسَيَّبَ بْنَ نَجَبَةَ الْفَزَارِيَّ أَحَدَ كِبَارِ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ الْأَزْدِيَّ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَالٍ التَّيْمِيَّ، وَرِفَاعَةَ بْنَ شَدَّادٍ الْبَجَلِيَّ، وَكُلُّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَاجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ بَعْدَ خُطَبٍ وَمَوَاعِظَ عَلَى تَأْمِيرِ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ عَلَيْهِمْ، فَتَعَاهَدُوا وَتَعَاقَدْوا، وَتَوَاعَدُوا النُّخَيْلَةَ ; أَنْ يَجْتَمِعَ مَنْ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِهَا فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، ثُمَّ جَمَعُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَسْلِحَتِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا وَأَعَدُّوهُ لِذَلِكَ.

وَكَتَبَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ إِلَى سَعْدِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، وَهُوَ بِالْمَدَائِنِ يَدْعُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَاسْتَجَابَ لَهُ، وَدَعَا إِلَيْهِ سَعْدٌ مَنْ أَطَاعَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدَائِنِ فَبَادَرُوا إِلَيْهِ بِالِاسْتِجَابَةِ وَالْقَبُولِ، وَتَمَالَئُوا عَلَيْهِ وَتَوَاعَدُوا النُّخَيْلَةَ فِي التَّارِيخِ الْمَذْكُورِ. وَكَتَبَ سَعْدٌ إِلَى سُلَيْمَانَ بِذَلِكَ، فَفَرِحَ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْمَدَائِنِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَتَنَشَّطُوا لِأَمْرِهِمُ الَّذِي تَمَالَئُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَابْنُهُ مُعَاوِيَةُ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، طَمِعُوا فِي الْأَمْرِ، وَاعْتَقَدْوا أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَدْ ضَعُفُوا، وَلَمْ يَبْقَ مَنْ يُقِيمُ لَهُمْ أَمْرًا، فَغَدَوْا إِلَى سُلَيْمَانَ، وَاسْتَشَارُوهُ فِي الظُّهُورِ وَأَنْ يَخْرُجُوا إِلَى النُّخَيْلَةِ قَبْلَ الْأَجَلِ، فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَ الْأَجَلُ الَّذِي وَاعَدُوا إِخْوَانَهُمْ فِيهِ. ثُمَّ هُمْ فِي الْبَاطِنِ يُعِدُّونَ السِّلَاحَ وَالْقُوَّةَ، وَلَا يَشْعُرُ بِهِمْ جُمْهُورُ النَّاسِ، وَحِينَئِذٍ عَمَدَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ نَائِبِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ عَلَى الْكُوفَةِ، فَأَخْرَجُوهُ مِنَ الْقَصْرِ، وَاصْطَلَحُوا عَلَى عَامِرِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْمُلَقَّبُ دُحْرُوجَةَ، فَبَايَعَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَهُوَ يَسُدُّ الْأُمُورَ حَتَّى تَأْتِيَ نُوَّابُ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ - قَدِمَ أَمِيرَانِ إِلَى الْكُوفَةِ مِنْ جِهَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ; أَحَدُهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ عَلَى الْحَرْبِ وَالثَّغْرِ، وَالْآخَرُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ عَلَى الْخَرَاجِ، وَقَدْ كَانَ قَدْمُ قَبْلَهُمَا إِلَى

الْكُوفَةِ بِجُمُعَةٍ وَاحِدَةٍ لِلنِّصْفِ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ - وَهُوَ الْمُخْتَارُ الثَّقَفِيُّ الْكَذَّابُ - فَوَجَدَ الشِّيعَةَ قَدِ الْتَفَتَ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ، وَعَظَّمُوهُ تَعْظِيمًا زَائِدًا، وَهُمْ مُعِدُّونَ لِلْحَرْبِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ، دَعَا فِي الْبَاطِنِ إِلَى إِمَامَةِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَقَّبَهُ الْمَهْدِيَّ، فَاتَّبَعَهُ كَثِيرٌ مِنَ الشِّيعَةِ، وَفَارَقُوا سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ وَصَارَتِ الشِّيعَةُ فِرْقَتَيْنِ ; الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ مَعَ سُلَيْمَانَ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ عَلَى النَّاسِ لِلْأَخْذِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ، وَفِرْقَةُ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى إِمَامَةِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَذَلِكَ عَنْ غَيْرِ أَمْرِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَرِضَاهُ، وَإِنَّمَا يَتَقَوَّلُونَ عَلَيْهِ لِيُرَوِّجُوا عَلَى النَّاسِ بِهِ، وَلِيَتَوَصَّلُوا إِلَى أَغْرَاضِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَجَاءَتِ الْعَيْنُ الصَّافِيَةُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ نَائِبِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ فِرْقَتَا الشِّيعَةِ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا ; مِنَ الْخُرُوجِ عَلَى النَّاسِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى مَا يُرِيدُونَ، وَأَشَارَ مَنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يُبَادِرَ إِلَيْهِمْ، وَيَحْتَاطَ عَلَيْهِمْ، وَيَبْعَثَ الشَّرَطَ وَالْمُقَاتِلَةَ فَيَقْمَعُهُمْ عَمَّا هُمْ مُجْمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ إِرَادَةِ الشَّرِّ وَالْفِتْنَةِ، فَقَامَ خَطِيبًا فِي النَّاسِ، وَذَكَرَ فِي خُطْبَتِهِ مَا بَلَغَهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ الْأَخْذَ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ، وَلَقَدْ عَلِمُوا أَنِّي لَسْتُ مِمَّنْ قَتَلَهُ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَمِمَّنْ أُصِيبَ بِقَتْلِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَعَنَ قَاتِلَهُ، وَإِنِّي لَا أَتَعَرَّضُ لِأَحَدٍ قَبْلَ أَنْ يَبْدَأَنِي بِالشَّرِّ، وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ الْأَخْذَ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ، فَلْيَعْمِدُوا إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ،. فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ الْحُسَيْنَ وَخِيَارَ أَهْلِهِ ; فَلْيَأْخُذُوا مِنْهُ بِالثَّأْرِ ; وَلَا يَخْرُجُوا بِسُيُوفِهِمْ عَلَى أَهْلِ بَلَدِهِمْ، فَيَكُونُ فِيهِ حَتْفُهُمْ وَاسْتِئْصَالُهُمْ. فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ الْأَمِيرُ الْآخَرُ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَغُرَّنَّكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ كَلَامُ هَذَا الْمُدَاهِنِ، إِنَّا وَاللَّهِ قَدِ اسْتَيْقَنَّا أَنَّ قَوْمًا يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ عَلَيْنَا،

وَلَنَأْخُذَنَّ الْوَالِدَ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدَ بِالْوَالِدِ، وَالْحَمِيمَ بِالْحَمِيمِ، وَالْعَرِيفَ بِمَا فِي عِرَافَتِهِ، حَتَّى يَدِينُوا بِالْحَقِّ وَيَذِلُّوا لِلطَّاعَةِ. فَوَثَبَ إِلَيْهِ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ الْفَزَارِيُّ فَقَطَعَ عَلَيْهِ كَلَامَهُ، فَقَالَ: يَابْنَ النَّاكِثِينَ أَتُهَدِّدُنَا بِسَيْفِكَ وَغَشْمِكَ ؟ ! أَنْتَ وَاللَّهِ أَذَلُّ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّا لَا نَلُومُكَ عَلَى بُغْضِنَا وَقَدْ قَتَلْنَا أَبَاكَ وَجَدَّكَ، وَإِنَّا لَنَرْجُوَ أَنَّ نُلْحِقَكَ بِهِمَا قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْقَصْرِ. وَسَاعَدَ الْمُسَيَّبَ بْنَ نَجَبَةَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ، وَرَدَّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُمَّالِ، وَجَرَتْ فِتْنَةٌ وَشَرٌّ كَثِيرٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَنَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ عَنِ الْمِنْبَرِ، وَحَاوَلُوا أَنْ يُوقِعُوا بَيْنَ الْأَمِيرَيْنِ، فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَتِ الشِّيعَةُ أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ بِالسِّلَاحِ، وَأَظْهَرُوا مَا كَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَى النَّاسِ، وَرَكِبُوا مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ فَقَصَدُوا نَحْوَ الْجَزِيرَةِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَأَمَّا الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيُّ الْكَذَّابُ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ بَغِيضًا إِلَى الشِّيعَةِ مِنْ يَوْمِ طُعِنَ الْحَسَنُ، وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى الشَّامِ بِأَهْلِ الْعِرَاقِ، فَلَجَأَ إِلَى الْمَدَائِنِ، فَأَشَارَ الْمُخْتَارُ عَلَى عَمِّهِ، وَهُوَ نَائِبُ الْمَدَائِنِ بِأَنْ يَقْبِضَ عَلَى الْحَسَنِ وَيَبْعَثَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَيَتَّخِذُ بِذَلِكَ عِنْدَهُ الْيَدَ الْبَيْضَاءَ، فَامْتَنَعَ عَمُّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَبْغَضَتْهُ الشِّيعَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ مَا كَانَ، وَقَتَلَهُ ابْنُ زِيَادٍ، كَانَ الْمُخْتَارُ يَوْمَئِذٍ بِالْكُوفَةِ، فَبَلَغَ ابْنَ زِيَادٍ أَنَّهُ يَقُولُ: لَأَقُومَنَّ بِنَصْرَةِ مُسْلِمٍ، وَلَآخُذُنَّ بِثَأْرِهِ.

فَأَحْضَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَضَرَبَ عَيْنَهُ بِقَضِيبٍ كَانَ بِيَدِهِ فَشَتَرَهَا، وَأَمَرَ بِسِجْنِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ أُخْتَهُ سَجْنُهُ بَكَتْ وَجَزِعَتْ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكَتَبَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ يَشْفَعُ عِنْدَهُ فِي إِخْرَاجِ الْمُخْتَارِ مِنَ السِّجْنِ، فَبَعَثَ يَزِيدُ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ أَنَّ سَاعَةَ وُقُوفِكَ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ تُخْرِجُ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ مِنَ السِّجْنِ، فَلَمْ يُمْكِنِ ابْنَ زِيَادٍ غَيْرُ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَهُ وَقَالَ لَهُ: إِنْ وَجَدْتُكَ بِالْكُوفَةِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ضَرَبْتُ عُنُقَكَ. فَخَرَجَ الْمُخْتَارُ إِلَى الْحِجَازِ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَأَقْطَعَنَّ أَنَامِلَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ وَلَأَقْتُلَنَّ بِالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَدَدَ مَنْ قُتِلَ عَلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا. فَلَمَّا اسْتَفْحَلَ أَمْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ بَايَعَهُ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْأُمَرَاءِ عِنْدَهُ، وَلَمَّا حَاصَرَهُ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ وَأَهْلُ الشَّامِ قَاتَلَ الْمُخْتَارُ دُونَهُ أَشَدَّ الْقِتَالِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَوْتُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَاضْطِرَابُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، نَقَمَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ، وَخَرَجَ مِنَ الْحِجَازِ، فَقَصَدَ الْكُوفَةَ فَدَخَلَهَا فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، وَالنَّاسُ يَتَهَيَّئُونَ لِلصَّلَاةِ، فَجَعَلَ لَا يَمُرُّ بِمَلَأٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا سَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرُوا بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِالْأَعْدَاءِ. وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى إِلَى سَارِيَةٍ هُنَالِكَ، حَتَّى أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، ثُمَّ صَلَّى مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ حَتَّى صُلِّيَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ وَعَظَّمُوهُ، وَجَعَلَ يَدْعُو إِلَى إِمَامِهِ الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَيُظْهِرُ الِانْتِصَارَ لِأَهْلِ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ بِصَدَدِ أَنْ يُقِيمَ شِعَارَهُمْ، وَيُظْهِرَ مَنَارَهُمْ، وَيَسْتَوْفِيَ ثَأْرَهُمْ، وَيَقُولَ لِلنَّاسِ الَّذِينَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ مِنَ الشِّيعَةِ، وَقَدْ خَشِيَ أَنْ يُبَادِرُوا إِلَى الْخُرُوجِ مَعَ سُلَيْمَانَ، فَجَعَلَ يُخَذِّلُهُمْ وَيَسْتَمِيلُهُمْ إِلَيْهِ، وَيَقُولُ لَهُمْ: إِنِّي

قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ قِبَلِ وَلِيِّ الْأَمْرِ، وَمَعْدِنِ الْفَضْلِ، وَوَصِيِّ الْوَصِيِّ، وَالْإِمَامِ الْمَهْدِيِّ، بِأَمْرٍ فِيهِ الشِّفَاءُ، وَكَشْفُ الْغِطَاءِ، وَقَتْلُ الْأَعْدَاءِ، وَتَمَامُ النَّعْمَاءِ، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاهُ، إِنَّمَا هُوَ عَشَمَةٌ مِنَ الْعَشَمِ، وَشَنٌّ بَالٍ، لَيْسَ بِذِي تَجْرِبَةٍ لِلْأُمُورِ، وَلَا لَهُ عِلْمٌ بِالْحُرُوبِ، إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ فَيَقْتُلَ نَفْسَهُ وَيَقْتُلَكُمْ، وَإِنِّي إِنَّمَا أَعْمَلُ عَلَى مَثَلٍ قَدْ مُثِّلَ لِي، وَأَمَرٍ قَدْ بُيِّنَ لِي، فِيهِ عِزُّ وَلِيِّكُمْ، وَقَتْلُ عَدُوِّكُمْ، وَشِفَاءُ صُدُورِكُمْ، فَاسْمَعُوا مِنِّي وَأَطِيعُوا أَمْرِي، ثُمَّ أَبْشِرُوا وَتَبَاشَرُوا، فَإِنِّي لَكُمْ بِكُلِّ مَا تَأْمَلُونَ وَتُحِبُّونَ كَفِيلٌ. فَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الشِّيعَةِ، وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ مِنْهُمْ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، فَلَمَّا خَرَجُوا مَعَ سُلَيْمَانَ إِلَى النُّخَيْلَةِ قَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَشَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ وَغَيْرِهِمَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ نَائِبِ الْكُوفَةِ: إِنَّ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ أَشَدُّ عَلَيْكَمْ مِنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ الشُّرَطَ فَأَحَاطُوا بِدَارِهِ، فَأَخَذَهُ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى السِّجْنِ مُقَيَّدًا. وَقِيلَ: بِغَيْرِ قَيْدٍ. فَأَقَامَ بِهِ مُدَّةً وَمَرِضَ فِيهِ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي عِيسَى أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ إِلَيْهِ مَعَ حُمَيْدِ بْنِ مُسْلِمٍ الْأَزْدِيِّ نَعُودُهُ وَنَتَعَاهَدُهُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَمَا وَرَبِّ الْبِحَارِ، وَالنَّخِيلِ وَالْأَشْجَارِ، وَالْمَهَامِهِ وَالْقِفَارِ، وَالْمَلَائِكَةِ الْأَبْرَارِ، وَالْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ،

لَأَقْتُلَنَّ كُلَّ جَبَّارٍ، بِكُلِّ لَدْنٍ خَطَّارٍ، وَمُهَنَّدٍ بَتَّارٍ، وَجُمُوعٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، لَيْسُوا بِمِيلٍ أَغْمَارٍ، وَلَا بِعُزَّلٍ أَشْرَارٍ، حَتَّى إِذَا أَقَمْتُ عَمُودَ الدِّينِ، وَجَبَرْتُ صَدْعَ الْمُسْلِمِينَ، وَشَفَيْتُ غَلِيلَ صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَدْرَكْتُ ثَأْرَ أَوْلَادِ النَّبِيِّينَ، لَمْ أَبْكِ عَلَى زَوَالِ الدُّنْيَا، وَلَمْ أَحْفِلْ بِالْمَوْتِ إِذَا دَنَا. قَالَ: وَكَانَ كُلَّمَا أَتَيْنَاهُ وَهُوَ فِي السِّجْنِ يُرَدِّدُ عَلَيْنَا هَذَا الْقَوْلَ حَتَّى خَرَجَ.

ذِكْرُ هَدْمِ الْكَعْبَةِ وَبِنَائِهَا فِي أَيَّامِ ابْنِ الزُّبَيْرِ
قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ هَدَمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْكَعْبَةَ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَالَ جِدَارُهَا مِمَّا رُمِيَتْ بِهِ مِنْ حِجَارَةِ الْمَنْجَنِيقِ، فَهَدَمَ الْجُدْرَانَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ وَيُصَلُّونَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فِي تَابُوتٍ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، وَادَّخَرَ مَا كَانَ فِي الْكَعْبَةِ مِنْ حُلِيٍّ وَثِيَابٍ وَطِيبٍ عِنْدَ الْخَزَّانِ، حَتَّى أَعَادَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِنَاءَهَا عَلَى مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَهَا عَلَيْهِ مِنَ الشَّكْلِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا أَرَادَ ابْنُ الزُّبَيْرِ هَدْمَ الْبَيْتِ شَاوَرَ النَّاسَ فِي هَدْمِهَا، فَأَشَارَ عَلَيْهِ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ بِذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْشَى أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَكَ مَنْ يَهْدِمُهَا، فَلَا تَزَالُ تُهْدَمُ حَتَّى يَتَهَاوَنَ النَّاسُ بِحُرْمَتِهَا، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تُصْلِحَ مَا وَهَى مِنْهَا، وَتَدَعَ بَيْتًا أَسْلَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَأَحْجَارًا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا. فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لَوِ احْتَرَقَ بَيْتُ أَحَدِكُمْ مَا رَضِيَ حَتَّى يُجَدِّدَهُ، فَكَيْفَ بِبَيْتِ رَبِّكُمْ ؟ ! ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ اسْتَخَارَ اللَّهَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ غَدَا فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، فَبَدَأَ يَنْقُضُ الرُّكْنَ إِلَى الْأَسَاسِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْأَسَاسِ

وَجَدُوا أَصْلًا بِالْحَجَرِ مُشَبَّكًا كَأَصَابِعِ الْيَدَيْنِ، فَدَعَا ابْنُ الزُّبَيْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ بَنَى الْبَيْتَ وَأَدْخَلَ الْحَجَرَ فِيهِ، وَجَعَلَ لِلْكَعْبةِ بَابَيْنِ مَوْضُوعَيْنِ بِالْأَرْضِ ; بَابٌ يُدْخَلُ مِنْهُ وَبَابٌ يُخْرَجُ مِنْهُ، وَوَضَعَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ بِيَدِهِ، وَشَدَّهُ بِفِضَّةٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ تَصَدَّعَ، وَجَعَلَ طُولَ الْكَعْبَةِ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا، وَكَانَ طُولُهَا سَبْعَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا فَاسْتَقْصَرَهُ، وَزَادَ فِي وُسْعِ الْكَعْبَةِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَلَطَّخَ جُدْرَانَهَا بِالْمِسْكِ، وَسَتَرَهَا بِالدِّيبَاجِ، ثُمَّ اعْتَمَرَ مِنْ مَسَاجِدِ عَائِشَةَ، وَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّى وَسَعَى، وَأَزَالَ مَا كَانَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَفِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالزُّبَالَةِ، وَمَا كَانَ حَوْلَهَا مِنَ الدِّمَاءِ، وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ قَدْ وَهَتْ مِنْ أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلِهَا مِنْ حِجَارَةِ الْمَنْجَنِيقِ، وَاسْوَدَّ الرُّكْنُ، وَانْصَدَعَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنَ النَّارِ الَّتِي كَانَتْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ.
وَكَانَ سَبَبُ تَجْدِيدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ لَهَا مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِكُفْرٍ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ وَلَأَدْخَلْتُ فِيهَا الْحَجَرَ، فَإِنَّ قَوْمَكِ

قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ، وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَخْرُجُونَ مِنَ الْآخَرِ، وَلَأَلْصَقْتُ بَابَهَا بِالْأَرْضِ، فَإِنَّ قَوْمَكِ رَفَعُوا بَابَهَا لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا ". فَبَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَتْهُ بِهِ خَالَتُهُ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا. ثُمَّ لَمَّا غَلَبَهُ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، كَمَا سَيَأْتِي، وَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ هَدَمَ الْحَائِطَ الشَّمَالِيَّ وَأَخْرَجَ الْحَجَرَ كَمَا كَانَ أَوَّلًا، وَأَدْخَلَ الْحِجَارَةَ الَّتِي هَدَمَهَا إِلَى جَوْفِ الْكَعْبَةِ فَرَضَّهَا فِيهَا، فَارْتَفَعَ الْبَابُ، وَسَدَّ الْغَرْبِيَّ، وَتِلْكَ آثَارُهُ إِلَى الْآنَ، وَذَلِكَ بِأَمْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْحَدِيثُ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: وَدِدْنَا أَنَّا تَرَكْنَاهُ وَمَا تَوَلَّى مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ هَمَّ الْمَهْدِيُّ بْنُ الْمَنْصُورِ الْعَبَّاسِيُّ أَنْ يُعِيدَهَا عَلَى مَا بَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَاسْتَشَارَ الْإِمَامَ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَتَّخِذَهَا الْمُلُوكُ مَلْعَبَةً. يَعْنِي يَتَلَاعَبُونَ فِي بِنَائِهَا بِحَسْبِ آرَائِهِمْ، فَهَذَا يَرَى رَأْيَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهَذَا يَرَى رَأْيَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَكَانَ

عَامِلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ أَخُوهُ عُبَيْدَةُ، وَعَلَى الْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ، وَعَلَى قَضَائِهَا سَعِيدُ بْنُ نِمْرَانَ، وَامْتَنَعَ شُرَيْحٌ أَنْ يَحْكُمَ فِي زَمَانِ الْفِتْنَةِ، وَعَلَى الْبَصْرَةٍ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ التَّيْمِيُّ وَعَلَى قَضَائِهَا هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ. وَكَانَ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ وَقْعَةُ مَرْجِ رَاهِطٍ، كَمَا قَدَّمْنَا، وَقَدِ اسْتَقَرَّ مُلْكُ الشَّامِ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَذَلِكَ بَعْدَ ظَفَرِهِ بِالضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ وَقَتْلِهِ لَهُ فِي الْوَقْعَةِ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَقِيلَ: إِنَّ فِيهَا دَخَلَ مَرْوَانُ مِصْرَ وَأَخَذَهَا مِنْ نَائِبِهَا الَّذِي مِنْ جِهَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَحْدَمٍ. وَاسْتَقَرَّتْ يَدُ مَرْوَانَ عَلَى الشَّامِ وَمِصْرَ وَأَعْمَالِهَا.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ
فَفِيهَا اجْتَمَعَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ نَحْوٌ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، كُلُّهُمْ يَطْلُبُونَ الْأَخْذَ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ مِمَّنْ قَتَلَهُ.
وَقَدْ خَطَبَهُمْ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ حِينَ خَرَجُوا مِنَ الْكُوفَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِالنُّخَيْلَةِ، فَحَرَّضَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: مَنْ كَانَ خَرَجَ مِنْكُمْ لِطَلَبِ الدُّنْيَا ذَهَبِهَا وَحَرِيرِهَا فَلَيْسَ مَعَنَا مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا مَعَنَا سُيُوفٌ عَلَى عَوَاتِقِنَا، وَرِمَاحٌ فِي أَكُفِّنَا، وَزَادٌ يَكْفِينَا حَتَّى نَلْقَى عَدُوَّنَا. فَأَجَابُوهُ إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، ثُمَّ أَشَارَ عَلَيْهِمْ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ بِقَصْدِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِمُقَاتَلَةِ مَنْ بِالْكُوفَةِ مِنْ رُءُوسِ الْقَبَائِلِ مِنْ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ كَعُمَرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَضْرَابِهِ، فَامْتَنَعَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ إِلَّا أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ ; فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي جَهَّزَ إِلَيْهِ الْجُيُوشَ، وَأَلَّبَ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ مَا طَلَبَهُ مِنْهُ، وَقَالَ: لَيْسَ لَهُ إِلَّا السَّيْفُ، وَهَا هُوَ قَدْ أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ قَاصِدًا

الْعِرَاقَ. فَصَمَّمَ النَّاسُ مَعَهُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ.
فَلَمَّا أَزْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ بَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ أُمَرَاءُ الْكُوفَةِ مِنْ جِهَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ يَقُولَانِ لَهُ: إِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَكُونَ أَيْدِينَا وَاحِدَةً عَلَى ابْنِ زِيَادٍ. وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَبْعَثُوا مَعَهُمْ جَيْشًا لِيُقَوِّيَهُمْ عَلَى مَا قَصَدُوا لَهُ، وَبَعَثُوا إِلَيْهِ الْبَرِيدَ أَنْ يَنْتَظِرَهُمْ حَتَّى يَقْدُمُوا عَلَيْهِ، فَتَهَيَّأَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ لِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ فِي رُءُوسِ الْأُمَرَاءِ، وَجَلَسَ فِي أُبَّهَتِهِ، وَالْجُيُوشُ مُحْدِقَةٌ بِهِ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ فِي أَشْرَافِ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ غَيْرِ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ ; لِئَلَّا يَطْمَعُوا فِيهِمْ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ كُلِّهَا لَا يَبِيتُ إِلَّا فِي قَصْرِ الْإِمَارَةِ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ الْأَمِيرَانِ عِنْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ قَالَا لَهُ وَأَشَارَا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَذْهَبُوا حَتَّى تَكُونَ أَيْدِيهِمْ كُلِّهِمْ وَاحِدَةً عَلَى قِتَالِ عَدُوِّهِمُ ابْنِ زِيَادٍ، وَيُجَهِّزُوا مَعَهُمْ جَيْشًا آخَرَ ; فَإِنَّ أَهْلَ الشَّامِ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَهُمْ يُحَاجِفُونَ عَنِ ابْنِ زِيَادٍ، فَامْتَنَعَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِمَا وَقَالَ: إِنَّا قَدْ

خَرَجْنَا لِأَمْرٍ لَا نَرْجِعُ عَنْهُ، وَلَا نَتَأَخَّرُ فِيهِ. فَانْصَرَفَ الْأَمِيرَانِ رَاجِعِينَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَانْتَظَرَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ وَأَصْحَابُهُ أَصْحَابَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ وَاعَدُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَهْلِ الْمَدَائِنِ أَنْ يَقْدُمُوا عَلَيْهِمُ النُّخَيْلَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمْ يَقْدُمُوا عَلَيْهِمْ وَلَا وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَقَامَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ فِي أَصْحَابِهِ خَطِيبًا، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى الذَّهَابِ لِمَا خَرَجُوا لَهُ، وَقَالَ: لَوْ قَدْ سَمِعَ إِخْوَانُكُمْ بِمَسِيرِكُمْ لَلَحِقُوكُمْ سِرَاعًا. فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ وَأَصْحَابُهُ مِنَ النُّخَيْلَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ مَضَيْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، فَسَارَ بِهِمْ مَرَاحِلَ، مَا يَتَقَدَّمَونَ مَرْحَلَةً إِلَى نَحْوِ الشَّامِ إِلَّا تَخَلَّفَ عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ مَعَهُ، فَلَمَّا مَرُّوا بِقَبْرِ الْحُسَيْنِ صَاحُوا صَيْحَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَتَبَاكَوْا، وَبَاتُوا عِنْدَهُ لَيْلَةً، وَظَلُّوا يَوْمًا يَدْعُونَ وَيَتَرَحَّمُونَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَيَتَرَضَّوْنَ عَنْهُ، وَيَتَمَنَّوْنَ أَنْ لَوْ كَانُوا مَاتُوا مَعَهُ شُهَدَاءَ.
قُلْتُ: لَوْ كَانَ هَذَا الْعَزْمُ وَالِاجْتِمَاعُ قَبْلَ وُصُولِ الْحُسَيْنِ إِلَى تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ لَكَانَ أَنْفَعَ لَهُ وَأَنْصُرَ مِنِ اجْتِمَاعِهِمْ لِنُصْرَتِهِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ.
وَلَمَّا أَرَادُوا الِانْصِرَافَ جَعَلَ لَا يَسِيرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ الْقَبْرَ فَيَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَغْفِرَ لَهُ، حَتَّى جَعَلُوا يَزْدَحِمُونَ عَلَيْهِ أَشَدَّ مِنِ ازْدِحَامِهِمْ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، ثُمَّ سَارُوا قَاصِدِينَ الشَّامَ، فَلَمَّا اجْتَازُوا بِقَرْقِيسِيَا تَحَصَّنَ مِنْهُمْ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ: إِنَّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالِكُمْ فَأَخْرِجْ إِلَيْنَا سُوقًا، فَإِنَّا إِنَّمَا نُقِيمُ عِنْدَكُمْ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. فَأَمَرَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ أَنْ يُخْرَجَ السُّوقُ إِلَيْهِمْ،

وَأَمَرَ لِلرَّسُولِ إِلَيْهِ - وَهُوَ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ الْفَزَارِيُّ - بِفَرَسٍ وَأَلْفِ دِرْهَمٍ. فَقَالَ: أَمَّا الْمَالُ فَلَا، وَأَمَّا الْفَرَسُ فَنَعَمْ. وَبَعَثَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ وَرُءُوسِ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَهُ، إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ عِشْرِينَ جَزُورًا وَطَعَامًا وَعَلَفًا كَثِيرًا، ثُمَّ خَرَجَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ فَشَيَّعَهُمْ، وَسَايَرَ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ وَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَدْ وَجَّهُوا إِلَيْكُمْ جَيْشًا كَثِيفًا وَعَدَدًا كَثِيرًا مَعَ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَشُرَحْبِيلَ بْنِ ذِي الْكَلَاعِ، وَأَدْهَمَ بْنِ مُحْرِزٍ الْبَاهِلِيِّ، وَرَبِيعَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ الْغَنَوِيِّ، وَجَبَلَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخَثْعَمِيِّ. فَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا، وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ. ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِمْ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ أَنْ يَدْخُلُوا مَدِينَتَهُ أَوْ يَكُونُوا عِنْدَ بَابِهَا، فَإِنْ جَاءَهُمْ أَحَدٌ كَانَ مَعَهُمْ عَلَيْهِ، فَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: قَدْ عَرَضَ عَلَيْنَا أَهْلُ بَلَدِنَا مِثْلَ ذَلِكَ فَامْتَنَعْنَا. قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ ذَلِكَ فَبَادِرُوهُمْ إِلَى عَيْنِ الْوَرْدَةِ، فَيَكُونَ الْمَاءُ وَالْمَدِينَةُ وَالْأَسْوَاقُ خَلْفَ ظُهُورِكُمْ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فَأَنْتُمْ آمِنُونَ مِنْهُ. ثُمَّ أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَعْتَمِدُونَهُ فِي حَالِ الْقِتَالِ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ وَالنَّاسُ خَيَرًا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُمْ، وَسَارَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ فَبَادَرَ إِلَى عَيْنِ الْوَرْدَةِ، فَنَزَلَ غَرْبِيَّهَا، وَأَقَامَ هُنَاكَ خَمْسًا قَبْلَ وُصُولِ أَعْدَائِهِ إِلَيْهِ.

وَقْعَةُ عَيْنِ وَرْدَةَ
وَاسْتَرَاحَ سُلَيْمَانُ وَأَصْحَابُهُ وَاطْمَأَنُّوا، فَلَمَّا اقْتَرَبَ قُدُومُ أَهْلِ الشَّامِ إِلَيْهِمْ خَطَبَ سُلَيْمَانُ أَصْحَابَهُ، فَرَغَّبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَزَهَّدَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، وَقَالَ: إِنْ قُتِلْتُ فَالْأَمِيرُ عَلَيْكَمُ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ، فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ، فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَالٍ، فَإِنْ قُتِلَ فَرِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ. ثُمَّ بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمُسَيَّبَ بْنَ نَجَبَةَ فِي أَرْبَعِمِائَةِ فَارِسٍ، فَأَغَارُوا عَلَى جَيْشِ شُرَحْبِيلَ بْنِ ذِي الْكَلَاعِ وَهُمْ غَارُّونَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً وَجَرَحُوا آخَرِينَ، وَاسْتَاقُوا نَعَمًا، وَأَتَى الْخَبَرُ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَأَرْسَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ فَصَبَّحَ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ وَجَيْشَهُ فَتَوَاقَفُوا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ قَائِمٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَدْ تَهَيَّأَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِصَاحِبِهِ، فَدَعَا الشَّامِيُّونَ أَصْحَابَ سُلَيْمَانَ إِلَى الدُّخُولِ فِي طَاعَةِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَدَعَا أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ الشَّامِيِّينَ إِلَى أَنْ يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ فَيَقْتُلُوهُ عَنِ الْحُسَيْنِ، وَامْتَنَعَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنْ يُجِيبَ إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ الْآخَرَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا عَامَّةَ يَوْمِهِمْ إِلَى اللَّيْلِ، وَكَانَتِ الدَّائِرَةُ فِيهِ لِلْعِرَاقِيِّينَ عَلَى الشَّامِيِّينَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَصْبَحَ ابْنُ ذِي الْكَلَاعِ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَى الشَّامِيِّينَ فِي ثَمَانِيَةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَقَدْ أَنَّبَهُ وَشَتَمَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ فِي هَذَا الْيَوْمِ

قِتَالًا لَمْ يَرَ الشِّيبُ وَالْمُرْدُ مِثْلَهُ قَطُّ، لَا يَحْجِزُ بَيْنَهُمْ إِلَّا أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ إِلَى اللَّيْلِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَصَلَ إِلَى الشَّامِيِّينَ أَدْهَمُ بْنُ مُحْرِزٍ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا إِلَى حِينِ ارْتِفَاعِ الضُّحَى، ثُمَّ اسْتَدَارَ أَهْلُ الشَّامِ بِأَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَحَاطُوا بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَخَطَبَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ النَّاسَ، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا عَظِيمًا جِدًّا، ثُمَّ تَرَجَّلَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ وَكَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ، وَنَادَى: يَا عِبَادَ اللَّهِ، مَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالتَّوْبَةَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَالْوَفَاءَ بِعَهْدِهِ فَلْيَأْتِ إِلَيَّ. فَتَرَجَّلَ مَعَهُ نَاسٌ كَثِيرُونَ وَكَسَرُوا جُفُونَ سُيُوفِهِمْ، وَحَمَلُوا حَتَّى صَارُوا فِي وَسَطِ الْقَوْمِ، وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً حَتَّى خَاضُوا فِي الدِّمَاءِ، وَقُتِلَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ، رَمَاهُ يَزِيدُ بْنُ الْحُصَيْنِ بِسَهْمٍ فَوَقَعَ، ثُمَّ وَثَبَ، ثُمَّ وَقَعَ، ثُمَّ وَثَبَ، ثُمَّ وَقَعَ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ، فَقَاتَلَ بِهَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ مَيَّالَةُ الذَّوَائِبِ وَاضِحَةَ اللَّبَاتِ وَالتَّرَائِبِ أَنِّي غَدَاةَ الرَّوْعِ وَالتَّغَالُبِ
أَشْجَعُ مِنْ ذِي لِبْدَةٍ مُوَاثِبِ
قَطَّاعُ أَقْرَانٍ مَخُوفُ الْجَانِبِ
ثُمَّ قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَضَى فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ نَحْبَهُ، وَلَحِقَ صَحْبَهُ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ، فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا أَيْضًا وَهُوَ يَقُولُ:

رَحِمَ اللَّهُ أَخَوَيَّ، مِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. وَحَمَلَ حِينَئِذٍ رَبِيعَةُ بْنُ الْمُخَارِقِ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ حَمْلَةً مُنْكَرَةً، وَتَبَارَزَ هُوَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ، ثُمَّ اتَّحَدَا فَحَمَلَ ابْنُ أَخِي رَبِيعَةَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ احْتَمَلَ عَمَّهُ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَالٍ، فَحَرَّضَ النَّاسَ عَلَى الْجِهَادِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: الرَّوَاحَ إِلَى الْجَنَّةِ. وَذَلِكَ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَحَمَلَ بِالنَّاسِ فَفَرَّقَ مَنْ كَانَ حَوْلَهُ، ثُمَّ قُتِلَ، وَكَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْمُفْتِينَ، قَتَلَهُ أَدْهَمُ بْنُ مُحْرِزٍ الْبَاهِلِيُّ أَمِيرُ الْحَرْبِ سَاعَتَئِذٍ مِنْ جِهَةِ الشَّامِيِّينَ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ رِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ، فَانْحَازَ بِالنَّاسِ، وَقَدْ دَخَلَ الظَّلَامُ، وَرَجَعَ الشَّامِيُّونَ إِلَى رِحَالِهِمْ، وَانْشَمَرَ رِفَاعَةُ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ رَاجِعًا إِلَى بِلَادِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ الشَّامِيُّونَ إِذَا الْعِرَاقِيُّونَ قَدْ كَرُّوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَلَمْ يَبْعَثُوا وَرَاءَهُمْ طَلَبًا وَلَا أَحَدًا، فَقَطَعَ رِفَاعَةُ بِمَنْ مَعَهُ الْخَابُورَ وَمَرَّ عَلَى قَرْقِيسِيَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الطَّعَامَ وَالْعَلَفَ وَالْأَطِبَّاءَ فَأَقَامُوا ثَلَاثًا حَتَّى اسْتَرَاحُوا ثُمَّ رَحَلُوا، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى هِيتَ إِذَا سَعْدُ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَدْ أَقْبَلَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدَائِنِ قَاصِدِينَ إِلَى نُصْرَتِهِمْ، فَلَمَّا أَخْبَرُوهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ، وَنَعَوْا إِلَيْهِ أَصْحَابَهُمْ تَرَحَّمُوا عَلَيْهِمْ وَاسْتَغْفَرُوا لَهُمْ وَتَبَاكَوْا عَلَى إِخْوَانِهِمْ، وَانْصَرَفَ أَهْلُ الْمَدَائِنِ إِلَيْهَا، وَرَجَعَ رَاجِعَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَيْهَا، وَقَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَإِذَا الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ كَمَا هُوَ فِي السِّجْنِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ بَعْدُ، فَكَتَبَ إِلَى رِفَاعَةَ بْنِ شَدَّادٍ يُعَزِّيهِ فِيمَنْ قُتِلَ

مِنْهُمْ وَيَتَرَحَّمُ عَلَيْهِمْ، وَيَغْبِطُهُمْ بِمَا نَالُوا مِنَ الشَّهَادَةِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ، وَيَقُولُ: مَرْحَبًا بِالَّذِينِ أَعْظَمَ اللَّهُ أُجُورَهُمْ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ، وَاللَّهِ مَا خَطَا مِنْهُمْ أَحَدٌ خُطْوَةً إِلَّا كَانَ ثَوَابُ اللَّهِ لَهُ فِيهَا أَعْظَمَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَإِنَّ سُلَيْمَانَ قَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ وَجَعَلَ رُوحَهُ فِي أَرْوَاحِ النَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَبَعْدُ فَأَنَا الْأَمِيرُ الْمَأْمُونُ، قَاتِلُ الْجَبَّارِينَ وَالْمُفْسِدِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَأَعِدُّوا وَاسْتَعَدُّوا وَأَبْشِرُوا، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَالطَّلَبِ بِدِمَاءِ أَهْلِ الْبَيْتِ. وَذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ قُدُومِهِمْ أَخْبَرَ النَّاسَ بِهَلَاكِهِمْ عَنْ رَئِيِّهِ الَّذِي كَانَ يَأْتِي إِلَيْهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يَأْتِيهِ شَيْطَانٌ فَيُوحِي إِلَيْهِ قَرِيبًا مِمَّا كَانَ يُوحِي شَيْطَانُ مُسَيْلِمَةَ إِلَيْهِ. وَكَانَ جَيْشُ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ وَأَصْحَابِهِ يُسَمَّى بِجَيْشِ التَّوَّابِينَ.
وَقَدْ كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ الْخُزَاعِيُّ أَبُو مُطَرِّفٍ الْكُوفِيُّ صَحَابِيًّا جَلِيلًا نَبِيلًا عَابِدًا زَاهِدًا، رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا، وَشَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ صِفِّينَ، وَكَانَ أَحَدُ مَنْ كَانَ يَجْتَمِعُ الشِّيعَةُ فِي دَارِهِ لِبَيْعَةِ الْحُسَيْنِ، وَكَتَبَ إِلَى الْحُسَيْنِ فِيمَنْ كَتَبَ بِالْقُدُومِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَلَمَّا قَدِمَهَا تَخَلَّوْا عَنْهُ، وَقُتِلَ بِكَرْبَلَاءَ، وَرَأَى هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ كَانُوا سَبَبًا فِي قُدُومِهِ، وَأَنَّهُمْ خَذَلُوهُ حَتَّى قُتِلَ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، فَنَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا، ثُمَّ اجْتَمَعُوا فِي هَذَا الْجَيْشِ،

وَسَمَّوْا جَيْشَهُمْ جَيْشَ التَّوَّابِينَ، وَسَمَّوْا سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ أَمِيرَ التَّوَّابِينَ، فَقُتِلَ سُلَيْمَانُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ بِعَيْنِ وَرْدَةَ، سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ قُتِلَ ثَلَاثًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَأَمَّا الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ الْفَزَارِيُّ، فَإِنَّهُ قَدِمَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ مِنَ الْعِرَاقِ وَشَهِدَ فَتْحَ دِمَشْقَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْعِرَاقِ وَشَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ صِفِّينَ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ أَحَدَ الْكِبَارِ الَّذِينَ خَرَجُوا يَطْلُبُونَ بِدَمِ الْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ وَرَأْسُ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بَعْدَ الْوَقْعَةِ، وَكَتَبَ أُمَرَاءُ الشَّامِيِّينَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَظْفَرَهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَأَعْلَمَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْجُنُودِ وَمَنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَقَدْ قَالَ: أَهْلَكَ اللَّهُ رُءُوسَ الضُّلَّالِ ; سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ وَأَصْحَابَهُ. وَعَلَّقَ الرُّءُوسَ بِدِمَشْقَ. وَكَانَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ قَدْ عَهِدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى وَلَدَيْهِ ; عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَخَذَ بَيْعَةَ الْأُمَرَاءِ عَلَى ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ.
وَفِيهَا دَخَلَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَعَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْأَشْدَقُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،

فَأَخَذَاهَا مِنْ يَدِ نَائِبِهَا الَّذِي كَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَحْدَمٍ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ مَرْوَانَ قَصَدَهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ نَائِبُهَا ابْنُ جَحْدَمٍ، فَقَابَلَهُ مَرْوَانُ لِيُقَاتِلَهُ، فَاشْتَغَلَ بِهِ، وَخَلَصَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ مِنْ وَرَاءِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَحْدَمٍ، فَدَخَلَ مِصْرَ، فَمَلَكَهَا، وَهَرَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَدَخَلَ مَرْوَانُ إِلَى مِصْرَ، فَمَلَكَهَا وَجَعَلَ عَلَيْهَا وَلَدَهُ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مَرْوَانَ.
وَفِيهَا بَعَثَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَخَاهُ مُصْعَبًا لِيَفْتَحَ لَهُ الشَّامَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مَرْوَانُ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ، فَتَلَقَّاهُ إِلَى فِلَسْطِينَ، فَهَرَبَ مِنْهُ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَرَّ رَاجِعًا، وَلَمْ يَظْفَرْ بِشَيْءٍ، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُ الشَّامِ وَمِصْرَ لِمَرْوَانَ.
وَفِيهَا جَهَّزَ مَرْوَانُ جَيْشَيْنِ ; أَحَدُهُمَا مَعَ حُبَيْشِ بْنِ دُلَجَةَ الْقَيْنِيِّ لِيَأْخُذَ لَهُ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ، وَالْآخَرُ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ إِلَى الْعِرَاقِ

لِيَنْتَزِعَهُ مِنْ نُوَّابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ لَقُوا جَيْشَ التَّوَّابِينَ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ عِنْدَ عَيْنِ الْوَرْدَةِ ; قَتَلُوا أَكْثَرَ أَصْحَابِ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ مَعَهُ وَاسْتَمَرُّوا ذَاهِبِينَ فَلَمَّا كَانُوا بِالْجَزِيرَةِ بَلَغَهُمْ مَوْتُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِأُمِّ خَالِدٍ امْرَأَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَهِيَ أُمُّ هَاشِمٍ بِنْتُ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَرْوَانُ بِتَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا لِيُصَغِّرَ ابْنَهَا خَالِدًا فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنْهُ أَنْ يُمَلِّكُوهُ بَعْدَ أَخِيهِ مُعَاوِيَةَ، فَتَزَوَّجَ أُمَّهُ لِيُصَغِّرَ أَمْرَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ دَاخِلٌ إِلَى عِنْدِ مَرْوَانَ، إِذْ جَعَلَ مَرْوَانُ يَتَكَلَّمُ فِيهِ عِنْدَ جُلَسَائِهِ، فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ لَهُ فِيمَا خَاطَبَهُ بِهِ: يَابْنَ الرَّطْبَةِ الِاسْتِ. فَذَهَبَ خَالِدٌ إِلَى أُمِّهِ، فَأَخْبَرَهَا بِمَا قَالَ لَهُ، فَقَالَتْ: اكْتُمْ ذَلِكَ، وَلَا تُعْلِمْهُ أَنَّكَ أَعْلَمْتَنِي بِذَلِكَ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا مَرْوَانُ قَالَ لَهَا: هَلْ ذَكَرَنِي خَالِدٌ عِنْدَكِ بِسُوءٍ ؟ فَقَالَتْ لَهُ: وَمَا عَسَاهُ يَقُولُ لَكَ وَهُوَ يُحِبُّكُ وَيُعَظِّمُكَ. ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ رَقَدَ عِنْدَهَا، فَلَمَّا أَخَذَهُ النَّوْمُ عَمَدَتْ إِلَى وِسَادَةٍ، فَوَضَعَتْهَا عَلَى وَجْهِهِ، وَتَحَامَلَتْ عَلَيْهَا هِيَ وَجَوَارِيهَا حَتَّى مَاتَ غَمًّا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ثَالِثِ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ بِدِمَشْقَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِحْدَى وَسِتُّونَ وَقِيلَ: إِحْدَى وَثَمَانُونَ سَنَةً. وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ. وَقِيلَ: عَشَرَةَ أَشْهُرٍ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.

وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ جَدِّ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ الَّذِينَ كَانُوا بَعْدَهُ
هُوَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ، وَيُقَالُ: أَبُو الْحَكَمِ. وَيُقَالُ: أَبُو الْقَاسِمِ. وَهُوَ صَحَابِيٌّ عِنْدَ طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ ; لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَى عَنْهُ فِي حَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، عَنْ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَرَوَى عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَكَانَ كَاتِبُهُ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَبُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ الْأَسَدِيَّةِ، وَكَانَتْ حَمَاتَهُ. وَقَالَ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ: كَانَتْ خَالَتَهُ. وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِهَا حَمَاتَهُ وَخَالَتَهُ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ، وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَحْفَظْ عَنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَمَانِيَ سِنِينَ حِينَ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنَ التَّابِعِينَ. وَقَدْ كَانَ مَرْوَانُ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ وَفُضَلَائِهَا.

رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ امْرَأَةً إِلَى أُمِّهَا، فَقَالَ: إِنَّ جَرِيرًا الْبَجَلِيَّ يَخْطُبُ إِلَيْكُمْ أَسْلَمَ، وَهُوَ سَيِّدُ شَبَابِ الْمَشْرِقِ، وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَهُوَ سَيِّدُ شَبَابِ قُرَيْشٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَهُوَ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَعُمَرُ. فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: أَجَادٌّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: قَدْ زَوَّجْنَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يُكْرِمُهُ وَيُعَظِّمُهُ، وَكَانَ كَاتِبَ الْحُكْمِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ جَرَتْ قَضِيَّةُ الدَّارِ، وَبِسَبَبِهِ حُصِرَ عُثْمَانُ فِيهَا، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ أُولَئِكَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ، فَامْتَنَعَ عُثْمَانُ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ قَاتَلَ مَرْوَانُ يَوْمَ الدَّارِ قِتَالًا شَدِيدًا، وَقَتَلَ بَعْضَ أُولَئِكَ الْخَوَارِجِ، وَكَانَ عَلَى الْمَيْسَرَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ رَمَى طَلْحَةَ بِسَهْمٍ فِي رُكْبَتِهِ، فَقَتَلَهُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: كَانَ عَلِيٌّ يَوْمَ الْجَمَلِ حِينَ انْهَزَمَ النَّاسُ يُكْثِرُ السُّؤَالَ عَنْ مَرْوَانَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّهُ تَعْطِفُنِي عَلَيْهِ رَحِمٌ مَاسَّةٌ، وَهُوَ سَيِّدٌ مِنْ شَبَابِ قُرَيْشٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ، أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: مَنْ تَرَى لِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِكَ ؟ فَقَالَ: وَأَمَّا الْقَارِئُ لِكِتَابِ اللَّهِ، الْفَقِيهُ فِي دِينِ اللَّهِ، الشَّدِيدُ فِي حُدُودِ اللَّهِ،

فَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ. وَقَدِ اسْتَنَابَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ، يَعْزِلُهُ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِلَيْهَا، وَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ فِي سِنِينَ مُتَعَدِّدَةٍ.
وَقَالَ حَنْبَلٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَالَ: يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ عِنْدَ مَرْوَانَ قَضَاءٌ، وَكَانَ يَتَّبِعُ قَضَاءَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ وَذَكَرَ مَرْوَانَ يَوْمًا، فَقَالَ: قَالَ مَرْوَانُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ أَصْبَحْتُ فِيمَا أَنَا فِيهِ مِنْ هِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَهَذَا الشَّأْنِ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِ قَالَ: كَانَ مَرْوَانُ إِذَا ذَكَرَ الْإِسْلَامَ قَالَ:
بِنِعْمَةِ رَبِّي لَا بِمَا قَدَّمَتْ يَدِي وَلَا بِبَرَاتِي إِنَّنِي كُنْتُ خَاطِئَا
وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ، أَنَّهُ قَالَ: شَهِدَ مَرْوَانُ جِنَازَةً، فَلَمَّا صَلَّى عَلَيْهَا انْصَرَفَ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَصَابَ قِيرَاطًا وَحُرِمَ قِيرَاطًا. فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ مَرْوَانُ، فَأَقْبَلَ يَجْرِي قَدْ بَدَتْ رُكْبَتَاهُ، فَقَعَدَ

حَتَّى أُذِنَ لَهُ.
وَرَوَى الْمَدَائِنِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّ مَرْوَانَ كَانَ أَسْلَفَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ حِينَ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ مَقْتَلِ أَبِيهِ سِتَّةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنْ لَا يَسْتَرْجِعَ مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ شَيْئًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بِذَلِكَ، فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَقَبِلَهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَنْبَأَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ كَانَا يُصَلِّيَانِ خَلْفَ مَرْوَانَ وَلَا يُعِيدَانِهَا، وَيَعْتَدَّانِ بِهَا.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدَّمَ الْخُطْبَةَ عَلَى الصَّلَاةِ يَوْمَ الْعِيدِ مَرْوَانُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: خَالَفْتَ السُّنَّةَ. فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: إِنَّهُ قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ".
قَالُوا: وَلَمَّا كَانَ نَائِبًا بِالْمَدِينَةِ كَانَ إِذَا وَقَعَتْ مُعْضِلَةٌ جَمَعَ مَنْ عِنْدِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَاسْتَشَارَهُمْ فِيهَا. قَالُوا: وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ الصِّيعَانَ، فَأَخَذَ بِأَعْدَلَهَا، فَنُسِبَ إِلَيْهِ الصَّاعُ، فَقِيلَ: صَاعُ مَرْوَانَ.

وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ اللَّهَبِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ عِنْدِ مَرْوَانَ، فَلَقِيَهُ قَوْمٌ قَدْ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ فَقَالُوا: إِنَّهُ أَشْهَدَنَا الْآنَ عَلَى مِائَةِ رَقَبَةٍ أَعْتَقَهَا السَّاعَةَ. قَالَ: فَغَمَزَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَدِي، وَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، يَكٌّ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ رَقَبَةٍ. قَالَ الزُّبَيْرُ: الْيَكُّ: الْوَاحِدُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا بَلَغَ بَنُو أَبِي فُلَانٍ ثَلَاثِينَ رَجُلًا اتَّخَذُوا مَالَ اللَّهِ دُوَلًا، وَدِينَ اللَّهِ دَخَلًا، وَعِبَادَ اللَّهِ خَوَلًا ".
وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى زَحْمُوَيْهِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا بَلَغَ بَنُو الْحَكَمِ ثَلَاثِينَ اتَّخَذُوا دِينَ اللَّهِ دَخَلًا، وَعِبَادَ اللَّهِ خَوَلًا، وَمَالَ اللَّهِ دُوَلًا ". وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِذَا بَلَغَ بَنُو أُمَيَّةَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا ". وَذَكَرَهُ، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ. وَرَوَاهُ الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ قَوْلِهِ: " إِذَا بَلَغَ بَنُو أَبِي الْعَاصِ ثَلَاثِينَ رَجُلًا " فَذَكَرَهُ.

وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي قَبِيلٍ، عَنِ ابْنِ مَوْهَبٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا بَلَغَ بَنُو الْحَكَمِ ثَلَاثِينَ اتَّخَذُوا مَالَ اللَّهِ بَيْنَهُمْ دُوَلًا، وَعِبَادَ اللَّهِ خَوَلًا، وَكِتَابَ اللَّهِ دَغَلًا، فَإِذَا بَلَغُوا سِتَّةً وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ كَانَ هَلَاكُهُمْ أَسْرَعَ مِنْ لَوْكِ تَمْرَةٍ ".وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ فَقَالَ: " أَبُو الْجَبَابِرَةِ الْأَرْبَعَةِ ". وَهَذِهِ الطُّرُقُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ.
وَرَوَى أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّ بَنِي الْحَكَمِ يَنْزُونَ عَلَى مِنْبَرِهِ وَيَرْقَوْنَ، فَأَصْبَحَ كَالْمُتَغَيِّظِ، وَقَالَ: " رَأَيْتُ بَنِي الْحَكَمِ يَنْزُونَ عَلَى مِنْبَرِي نَزْوَ الْقِرَدَةِ ". فَمَا رُئِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ. وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا، وَفِيهِ: فَأُوحِيَ إِلَيْهِ: إِنَّمَا هِيَ دُنْيَا أُعْطُوهَا. فَقَرَّتْ عَيْنُهُ. وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [ الْإِسْرَاءِ: 60 ]. يَعْنِي بَلَاءً لِلنَّاسِ وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَسَنَدُهُ إِلَى سَعِيدٍ ضَعِيفٌ. وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ، فَلِهَذَا أَضْرَبْنَا صَفْحًا عَنْ إِيرَادِهَا لِعَدَمِ صِحَّتِهَا.
وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ الْحَكَمُ مِنْ أَكْبَرِ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ،

وَقَدِمَ الْحَكَمُ الْمَدِينَةَ ثُمَّ طَرَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ، وَمَاتَ بِهَا، وَمَرْوَانُ كَانَ أَكْبَرَ الْأَسْبَابِ فِي حِصَارِ عُثْمَانَ، لِأَنَّهُ زَوَّرَ عَلَى لِسَانِهِ كِتَابًا إِلَى مِصْرَ بِقَتْلِ أُولَئِكَ الْوَفْدِ، وَلَمَّا كَانَ مُتَوَلِّيًا عَلَى الْمَدِينَةِ لِمُعَاوِيَةَ كَانَ يَسُبُّ عَلِيًّا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: لَقَدْ لَعَنَ اللَّهُ أَبَاكَ الْحَكَمَ وَأَنْتَ فِي صُلْبِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ، فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْحَكَمَ وَمَا وَلَدَ " وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ حَسَّانَ بْنَ مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ مَرْوَانُ أَرْضَ الْجَابِيَةِ، أَعْجَبَهُ إِتْيَانُهُ إِلَيْهِ، فَبَايَعَهُ، وَبَايَعَ لَهُ أَهْلَ الْأُرْدُنِّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا انْتَظَمَ لَهُ الْأَمْرُ نَزَلَ عَنِ الْإِمْرَةِ لِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، وَيَكُونُ لِمَرْوَانَ إِمْرَةُ حِمْصَ، وَلِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ نِيَابَةُ دِمَشْقَ.
وَكَانَتِ الْبَيْعَةُ لِمَرْوَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلنِّصْفِ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ. قَالَهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: وَكَانَتْ وَقْعَةُ مَرْجِ رَاهِطٍ فِي ذِي الْحِجَّةِ، مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ عِيدِ النَّحْرِ بِيَوْمَيْنِ.
قَالُوا: فَغَلَبَ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، وَاسْتَوْسَقَ لَهُ مُلْكُ الشَّامِ وَمِصْرَ، فَلَمَّا

اسْتَقَرَّ مُلْكُهُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ بَايَعَ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - وَالِدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - وَتَرَكَ الْبَيْعَةَ لِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ; لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَرَاهُ أَهْلًا لِلْخِلَافَةِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ حَسَّانُ بْنُ مَالِكٍ، وَإِنْ كَانَ خَالًا لِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، وَهُوَ الَّذِي قَامَ بِأَعْبَاءِ بَيْعَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ إِنَّ أُمَّ خَالِدٍ دَبَّرَتْ أَمْرَ مَرْوَانَ فَسَمَّتْهُ، وَيُقَالُ: بَلْ وَضَعَتْ عَلَى وَجْهِهِ وَهُوَ نَائِمٌ وِسَادَةً، فَمَاتَ مَخْنُوقًا، ثُمَّ إِنَّهَا أَعْلَنَتِ الصُّرَاخَ هِيَ وَجَوَارِيهَا وَصِحْنَ: مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَجْأَةً. فَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فِي الْخِلَافَةِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مَذْعُورٍ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: كَانَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مَرْوَانُ: وَجَبَتِ الْجَنَّةُ لِمَنْ خَافَ النَّارَ. وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: الْعِزَّةُ لِلَّهِ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ أَبِي عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَرْبِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: كَانَ نَقْشُ خَاتَمِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ آمَنْتُ بِالْعَزِيزِ الرَّحِيمِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ عَنْ إِحْدَى - وَقِيلَ: ثَلَاثٍ - وَسِتِّينَ سَنَةً.
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: كَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ تُوُفِّيَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَقَالَ خَلِيفَةُ: حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: مَاتَ

مَرْوَانُ بِدِمَشْقَ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: عَشَرَةَ أَشْهُرٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرُهُ: كَانَ قَصِيرًا، أَحْمَرَ الْوَجْهِ، أَوْقَصَ، دَقِيقَ الْعُنُقِ، كَبِيرَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ: خَيْطُ بَاطِلٍ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عُفَيْرٍ، أَنَّ مَرْوَانَ مَاتَ حِينَ انْصَرَفَ مِنْ مِصْرَ بِالصِّنَّبْرَةِ، وَيُقَالُ: بِلُدٍّ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ بِدِمَشْقَ، وَدُفِنَ بَيْنَ بَابِ الْجَابِيَةِ وَبَابِ الصَّغِيرِ.

خِلَافَةُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُوهُ فِي ثَالِثِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، جُدِّدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ بِدِمَشْقَ وَمِصْرَ وَأَعْمَالِهَا، فَاسْتَقَرَّتْ يَدُهُ عَلَى مَا كَانَتْ يَدُ أَبِيهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ بَعَثَ بَعْثَيْنِ ; أَحَدُهُمَا مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ إِلَى الْعِرَاقِ لِيَنْتَزِعهَا مِنْ نُوَّابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَقِيَ فِي طَرِيقِهِ جَيْشَ التَّوَّابِينَ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ عِنْدَ عَيْنِ الْوَرْدَةِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا تَقَدَّمَ، مِنْ ظَفَرِهِ بِهِمْ، وَقَتْلِهِ أَمِيرَهُمْ وَأَكْثَرَهُمْ. وَالْبَعْثُ الْآخَرُ مَعَ حُبَيْشِ بْنِ دُلَجَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَرْتَجِعَهَا مِنْ نَائِبِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَسَارَ نَحْوَهَا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهَا هَرَبَ نَائِبُهَا جَابِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَوْفٍ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَجَهَّزَ نَائِبُ الْبَصْرَةِ مِنْ قِبَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، جَيْشًا مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى ابْنِ دُلَجَةَ لِيُخْرِجُوهُ مِنَ الْمَدِينَةِ فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ حُبَيْشُ بْنُ دُلَجَةَ سَارَ إِلَيْهِمْ، وَبَعَثَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَبَّاسَ بْنَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ نَائِبًا عَلَى الْمَدِينَةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ فِي طَلَبِ حُبَيْشٍ، فَسَارَ فِي طَلَبِهِمْ حَتَّى لَحِقَهُمْ بِالرَّبَذَةِ، فَرَمَى يَزِيدُ بْنُ سِيَاهٍ حُبَيْشًا بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَقُتِلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَهُزِمَ الْبَاقُونَ، وَتَحَصَّنَ مِنْهُمْ خَمْسُمِائَةٍ فِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ، فَقَتَلَهُمْ صَبْرًا، وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى الشَّامِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَمَّا دَخَلَ يَزِيدُ بْنُ سِيَاهٍ الْأَسْوَارِيُّ قَاتِلُ حُبَيْشِ بْنِ دُلَجَةَ إِلَى

الْمَدِينَةِ مَعَ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ كَانَ عَلَيْهِ ثِيَابُ بَيَاضٍ وَهُوَ رَاكِبٌ بِرْذَوْنًا أَشْهَبَ، فَمَا لَبِثَ أَنِ اسْوَدَّتْ ثِيَابُهُ وَدَابَّتُهُ مِمَّا يَتَمَسَّحُ النَّاسُ بِهِ وَمِنْ كَثْرَةِ مَا صَبُّوا عَلَيْهِ مِنَ الطِّيبِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّتْ شَوْكَةُ الْخَوَارِجِ بِالْبَصْرَةِ.
وَفِيهَا قَتَلَ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ، وَهُوَ رَأْسُ الْخَوَارِجِ وَرَأْسُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، مُسْلِمُ بْنُ عُبَيْسٍ فَارِسُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، ثُمَّ قَتَلَهُ رَبِيعَةُ السَّلِيطِيُّ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمَا نَحْوُ خَمْسَةِ أُمَرَاءَ، وَقُتِلَ فِي وَقْعَةِ الْخَوَارِجِ قُرَّةُ بْنُ إِيَاسٍ الْمُزَنِيُّ أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَلَمَّا قُتِلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ رَأَّسَتِ الْخَوَارِجُ عَلَيْهِمْ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ مَاحُوزَ، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى الْمَدَائِنِ فَقَتَلُوا أَهْلَهَا، ثُمَّ غَلَبُوا عَلَى الْأَهْوَازِ وَغَيْرِهَا، وَجَبَوُا الْأَمْوَالَ وَأَتَتْهُمُ الْأَمْدَادُ مِنَ الْيَمَامَةِ وَالْبَحْرَيْنِ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى أَصْفَهَانَ، وَعَلَيْهَا عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ الرِّيَاحِيُّ، فَالْتَقَاهُمْ فَهَزَمَهُمْ، وَلَمَّا قُتِلَ أَمِيرُ الْخَوَارِجِ ابْنُ مَاحُوزَ، كَمَا سَنَذْكُرُ، أَقَامُوا عَلَيْهِمْ قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ أَمِيرًا.
ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ قِصَّةَ قِتَالِهِمْ مَعَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: دُولَابُ. وَكَانَتِ الدَّوْلَةُ لِلْخَوَارِجِ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَخَافَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ مِنَ الْخَوَارِجِ أَنْ

يَدْخُلُوا الْبَصْرَةَ، فَبَعَثَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَعَزَلَ نَائِبَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ، الْمَعْرُوفَ بِبَبَّةَ، بِالْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَعْرُوفِ بِالْقُبَاعِ، وَأَرْسَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ الْأَزْدِيَّ عَلَى عَمَلِ خُرَاسَانَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ قَالُوا لَهُ: إِنَّ قِتَالَ الْخَوَارِجِ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لَكَ. فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ بَعَثَنِي عَلَى خُرَاسَانَ، وَلَسْتُ أَعْصِي أَمْرَهُ. فَاتَّفَقَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ مَعَ أَمِيرِهِمُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ عَلَى أَنْ كَتَبُوا كِتَابًا عَلَى لِسَانِ ابْنِ الزُّبَيْرِ إِلَى الْمُهَلَّبِ يَأْمُرُهُ فِيهِ بِالْمَسِيرِ لِلْخَوَارِجِ لِيَكُفَّهُمْ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَلَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ اشْتَرَطَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنْ يُقَوِّيَ جَيْشَهُ مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ الْخَوَارِجِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ كَتَبُوا بِذَلِكَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَأَمْضَى لَهُمْ ذَلِكَ وَسَوَّغَهُ. فَسَارَ إِلَيْهِمُ الْمُهَلَّبُ، وَكَانَ شُجَاعًا بَطَلًا صِنْدِيدًا، فَلَمَّا الْتَقَى هُوَ وَالْخَوَارِجُ أَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ فِي عُدَّةٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا مِنَ الدُّرُوعِ وَالزُّرُودِ وَالْخُيُولِ وَالسِّلَاحِ، وَذَلِكَ أَنَّ لَهُمْ مُدَّةً يَأْكُلُونَ تِلْكَ النَّوَاحِيَ، وَقَدْ صَارَ لَهُمْ تَحَمُّلٌ عَظِيمٌ مَعَ شَجَاعَةٍ لَا تُدَانَى، وَإِقَدْامٍ لَا يُسَامَى، وَقُوَّةٍ لَا تُبَارَى، وَسَبْقٍ إِلَى حَوْمَةِ الْوَغَى لَا يُجَارَى، فَلَمَّا تَوَاقَفَ النَّاسُ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: سِلَّى وَسِلِّبْرَى. اقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَصَبْرَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ صَبْرًا بَاهِرًا، وَكَانَ الْمُهَلَّبُ فِي نَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، ثُمَّ إِنَّ الْخَوَارِجَ حَمَلُوا حَمْلَةً مُنْكَرَةً، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْمُهَلَّبِ لَا يَلْوِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدٍ، وَلَا يَلْتَفِتُ أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ، وَوَصَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَلُّهُمْ، وَأَمَّا الْمُهَلَّبُ فَإِنَّهُ سَبَقَ الْمُنْهَزِمِينَ، فَوَقَفَ لَهُمْ بِمَكَانٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَجَعَلَ يُنَادِي: إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ. فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْ جَيْشِهِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ مِنَ الْفُرْسَانِ الشُّجْعَانِ، فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رُبَّمَا يَكِلُ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيُهْزَمُونَ، وَيُنْزِلُ النَّصْرَ عَلَى الْجَمْعِ الْيَسِيرِ فَيَظْهَرُونَ،

وَلَعَمْرِي مَا بِكُمُ الْآنَ مِنْ قِلَّةٍ، وَأَنْتُمْ فُرْسَانُ أَهْلِ الْمِصْرَ وَأَهْلُ النَّصْرِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ أَحَدًا مِمَّنِ انْهَزَمَ مَعَكُمُ الْآنَ، وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا. ثُمَّ قَالَ: عَزَمْتُ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ إِلَّا أَخَذَ عَشَرَةَ أَحْجَارٍ مَعَهُ، ثُمَّ امْشُوا بِنَا إِلَى عَسْكَرِهِمْ ; فَإِنَّهُمُ الْآنَ آمِنُونَ، وَقَدْ خَرَجَتْ خُيُولُهُمْ فِي طَلَبِ إِخْوَانِكُمْ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ خَيْلُهُمْ حَتَّى تَسْتَبِيحُوا عَسْكَرَهُمْ، وَتَقْتُلُوا أَمِيرَهُمْ. فَفَعَلَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَزَحَفَ بِهِمْ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ عَلَى عَسْكَرِ الْخَوَارِجِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا نَحْوًا مِنْ سَبْعَةِ آلَافٍ، وَقَتَلَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْمَاحُوزِ فِي جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْأَزَارِقَةِ، وَاحْتَازَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَقَدْ أَرْصَدَ الْمُهَلَّبُ خُيُولًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ مِنْ طَلَبِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَجَعَلُوا يُقْتَطَعُونَ دُونَ قَوْمِهِمْ، وَانْهَزَمَ فَلُّهُمْ إِلَى كَرْمَانَ وَأَرْضِ أَصْبَهَانَ، وَأَقَامَ الْمُهَلَّبُ بِالْأَهْوَازِ حَتَّى قَدِمَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَعَزَلَ عَنْهَا الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ قَبْلَ مَهْلِكِهِ ابْنَهُ مُحَمَّدًا إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَذَلِكَ قَبْلَ مَسِيرِهِ إِلَى مِصْرَ. قُلْتُ: مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ هَذَا هُوَ وَالِدُ مَرْوَانَ الْحِمَارِ، وَهُوَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، وَهُوَ آخِرُ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَمِنْ يَدِهِ اسْتَلَبَ الْخِلَافَةَ الْعَبَّاسِيُّونَ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَخَاهُ عُبَيْدَةَ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ، وَوَلَّاهَا أَخَاهُ مُصْعَبًا، وَذَلِكَ أَنَّ عُبَيْدَةَ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ:

وَقَدْ رَأَيْتُمْ مَا صَنَعَ اللَّهُ بِقَوْمِ صَالِحٍ فِي نَاقَةٍ قِيمَتُهَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ. فَلَمَّا بَلَغَتْ أَخَاهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ وَعَزَلَهُ، فَسُمِّيَ مُقَوِّمَ النَّاقَةِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي آخِرِهَا عَزَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَنِ الْكُوفَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الْخَطْمِيَّ، وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ الَّذِي كَانَ أَمِيرَ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَ الْحَرَّةِ، لَمَّا خَلَعُوا يَزِيدَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ الطَّاعُونُ الْجَارِفُ بِالْبَصْرَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": كَانَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي ذَكَرَهُ شَيْخُنَا الذَّهَبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ مُعْظَمَ ذَلِكَ بِالْبَصْرَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَمَاتَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْهُ أَحَدٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْهُ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا، وَأَصْبَحَ النَّاسُ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ مَوْتَى إِلَّا قَلِيلًا مِنْ آحَادِ النَّاسِ، حَتَّى ذُكِرَ أَنَّ أُمَّ الْأَمِيرِ بِهَا مَاتَتْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهَا مَنْ يَحْمِلُهَا، حَتَّى اسْتَأْجَرُوا لَهَا أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ،

حَدَّثَنِي مَعْدِيٌّ، عَنْ رَجُلٍ يُكَنَّى أَبَا النُّفَيْلِ، وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ زَمَنَ الطَّاعُونِ، قَالَ: كُنَّا نَطُوفُ فِي الْقَبَائِلِ وَنَدْفِنُ الْمَوْتَى، فَلَمَّا كَثُرُوا لَمْ نَقْوَ عَلَى الدَّفْنِ، فَكُنَّا نَدْخُلُ الدَّارَ، وَقَدْ مَاتَ أَهْلُهَا، فَنَسُدُّ بَابَهَا. قَالَ: فَدَخَلْنَا دَارًا فَفَتَّشْنَاهَا، فَلَمْ نَجِدْ فِيهَا أَحَدًا حَيًّا فَسَدَدْنَا بَابَهَا، فَلَمَّا مَضَتِ الطَّوَاعِينُ كُنَّا نَطُوفُ نَنْزِعُ تِلْكَ السُّدَدِ عَنِ الْأَبْوَابِ، فَفَتَحْنَا سُدَّةَ الْبَابِ الَّذِي كُنَّا فَتَّشْنَاهُ، فَإِذَا نَحْنُ بِغُلَامٍ فِي وَسَطِ الدَّارِ طَرِيٍّ دَهِينٍ، كَأَنَّمَا أُخِذَ سَاعَتَئِذٍ مِنْ حِجْرِ أُمِّهِ. قَالَ: وَنَحْنُ وُقُوفٌ عَلَى الْغُلَامِ نَتَعَجَّبُ مِنْهُ فَدَخَلَتْ كَلْبَةٌ مِنْ شَقٍّ فِي الْحَائِطِ، فَجَعَلَتْ تَلُوذُ بِالْغُلَامِ، وَالْغُلَامُ يَحْبُو إِلَيْهَا حَتَّى مَصَّ مِنْ لَبَنِهَا. قَالَ مَعْدِيٌّ: وَأَنَا رَأَيْتُ ذَلِكَ الْغُلَامَ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ، وَقَدْ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ - يَعْنِي أَكْمَلَ بِنَاءَهَا - وَأَدْخَلَ فِيهَا الْحَجَرَ، وَجَعَلَ لَهَا بَابَيْنِ، يُدْخَلُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَيُخْرَجُ مِنَ الْآخَرِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ خَالِدِ بْنِ رُسْتُمَ الصَّنْعَانِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ جِيلٍ، أَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ يَوْمَ كَانَ عَلَيْهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَسَمِعَهُ يَقُولُ: حَدَّثَتْنِي أُمِّي أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ: " لَوْلَا قُرْبُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَرَدَدْتُ الْكَعْبَةَ عَلَى

أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ، فَأَزِيدُ فِي الْكَعْبَةِ مِنَ الْحِجْرِ ". قَالَ: فَأَمَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَحَفَرُوا فَوَجَدُوا قِلَاعًا أَمْثَالَ الْإِبِلِ، فَحَرَّكُوا مِنْهَا صَخْرَةً، فَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ فَقَالَ: أَقِرُّوهَا عَلَى أَسَاسِهَا. فَبَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَجَعَلَ لَهَا بَابَيْنِ، يُدْخَلُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَيُخْرَجُ مِنَ الْآخَرِ.
قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَنْ عَائِشَةَ فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَالْمَسَانِيدِ، وَمَوْضُوعُ سِيَاقِ طُرُقِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ " الْأَحْكَامِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حُرُوبًا جَرَتْ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ بِخُرَاسَانَ، وَبَيْنَ الْحَرِيشِ بْنِ هِلَالٍ الْقُرَيْعِيِّ، يَطُولُ تَفْصِيلُهَا.
قَالَ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ
وَفِيهَا وَثَبَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيُّ الْكَذَّابُ بِالْكُوفَةِ؛ لِيَأْخُذَ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - فِيمَا يَزْعُمُ - وَأَخْرَجَ عَنْهَا عَامِلَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ مَغْلُوبِينَ إِلَى الْكُوفَةِ وَجَدُوا الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ الْكَذَّابَ مَسْجُونًا، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ يُعَزِّيهِمْ وَيَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا، وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيْهِمْ خِفْيَةً: أَبْشِرُوا، فَإِنِّي لَوْ قَدْ خَرَجْتُ إِلَيْكُمْ جَرَّدْتُ فِيمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مِنْ أَعْدَائِكُمُ السَّيْفَ، فَجَعَلْتُهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ رُكَامًا، وَقَتَلْتُهُمْ فَذًّا وَتَوْأَمًا، فَرَحَّبَ اللَّهُ بِمَنْ قَارَبَ مِنْكُمْ وَاهْتَدَى، وَلَا يُبْعِدُ اللَّهُ إِلَّا مَنْ أَبَى وَعَصَى. فَلَمَّا وَصَلَهُمُ الْكِتَابُ

قَرَءُوهُ سِرًّا وَرَدُّوا إِلَيْهِ: إِنَّا كَمَا تُحِبُّ، فَمَتَى أَحْبَبْتَ أَخْرَجْنَاكَ مِنْ مَحْبَسِكَ. فَكَرِهَ أَنْ يُخْرِجُوهُ مِنْ مَكَانِهِ عَلَى وَجْهِ الْقَهْرِ لِنُوَّابِ الْكُوفَةِ، فَتَلَطَّفَ فَكَتَبَ إِلَى زَوْجِ أُخْتِهِ صَفِيَّةَ - وَكَانَتِ امْرَأَةً صَالِحَةً - وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَشَفَعَ فِي خُرُوجِهِ مِنْ مَحْبِسِهِ عِنْدَ نَائِبَيِ الْكُوفَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، وَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ، فَكَتَبَ ابْنُ عُمَرَ إِلَيْهِمَا يَشْفَعُ عِنْدَهُمَا فِيهِ فَلَمْ يُمْكِنْهُمَا رَدُّهُ، وَكَانَ فِيمَا كَتَبَ إِلَيْهِمَا ابْنُ عُمَرَ: قَدْ عَلِمْتُمَا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمَا مِنَ الْوُدِّ وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَ الْمُخْتَارِ مِنَ الْقَرَابَةِ وَالصِّهْرِ، وَأَنَا أُقْسِمُ عَلَيْكُمَا لَمَا خَلَّيْتُمَا سَبِيلَهُ، وَالسَّلَامُ. فَاسْتُدْعِيَا بِهِ فَضَمِنَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَحْلَفَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ إِنْ هُوَ بَغَى لِلْمُسْلِمِينَ غَائِلَةً فَعَلَيْهِ أَلْفُ بَدَنَةٍ يَنْحَرُهَا تُجَاهَ الْكَعْبَةِ، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ - مِنْ عَبْدٍ وَأَمَةٍ - حُرٌّ، فَالْتَزَمَ لَهُمَا بِذَلِكَ، وَلَزِمَ مَنْزِلَهُ، وَجَعَلَ يَقُولُ: قَاتَلَهُمَا اللَّهُ، أَمَّا حَلِفِي بِاللَّهِ، فَإِنِّي لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَأَمَّا إِهْدَائِي أَلْفَ بَدَنَةٍ فَيَسِيرٌ، وَأَمَّا عِتْقِي مَمَالِيكِي فَوَدِدْتُ أَنَّهُ قَدِ اسْتَتَمَّ لِي هَذَا الْأَمْرُ وَلَا أَمْلِكُ مَمْلُوكًا وَاحِدًا.
وَاجْتَمَعَتِ الشِّيعَةُ عَلَيْهِ، وَكَثُرَ أَصْحَابُهُ وَبَايَعُوهُ فِي السِّرِّ. وَكَانَ الَّذِي يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ لَهُ وَيُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَيْهِ خَمْسَةً ; وَهُمُ السَّائِبُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَ يَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ، وَ أَحْمَرُ بْنُ شُمَيْطٍ ; وَرِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ، وَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ الْجُشَمِيُّ، وَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُ يَقْوَى وَيَشْتَدُّ وَيَسْتَفْحِلُ وَيَرْتَفِعُ، حَتَّى عَزَلَ

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنِ الْكُوفَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، وَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ، وَبَعْثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ نَائِبًا عَلَيْهَا، وَبَعَثَ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ نَائِبًا عَلَى الْبَصْرَةِ.
فَلَمَّا دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ الْمَخْزُومِيُّ إِلَى الْكُوفَةِ، فِي رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، خَطَبَ النَّاسَ، وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَمَرَنِي أَنْ أَسِيرَ فِيكُمْ بِسِيرَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. فَقَامَ إِلَيْهِ السَّائِبُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ فَقَالَ: لَا نَرْضَى إِلَّا بِسِيرَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الَّتِي سَارَ بِهَا فِي بِلَادِنَا، وَلَا نُرِيدُ سِيرَةَ عُثْمَانَ - وَتَكَلَّمَ فِيهِ - وَلَا سِيرَةَ عُمَرَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُ لِلنَّاسِ إِلَّا خَيْرًا. وَصَدَّقَهُ عَلَى مَا قَالَ بَعْضُ أُمَرَاءِ الشِّيعَةِ، فَسَكَتَ الْأَمِيرُ وَقَالَ: إِنِّي سَأَسِيرُ فِيكُمْ بِمَا تُحِبُّونَ مِنْ ذَلِكَ.
وَجَاءَ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ، وَهُوَ إِيَاسُ بْنُ مُضَارِبٍ الْعِجْلِيُّ إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ، وَلَسْتُ آمَنُ الْمُخْتَارَ، فَابْعَثْ إِلَيْهِ فَارْدُدْهُ إِلَى السِّجْنِ، فَإِنَّ عُيُونِي قَدْ أَخْبَرُونِي أَنَّ أَمْرَهُ قَدِ اسْتَجْمَعَ لَهُ، وَكَأَنَّكَ بِهِ وَقَدْ وَثَبَ بِالْمِصْرِ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ زَائِدَةَ بْنَ قُدَامَةَ، وَأَمِيرًا آخَرَ مَعَهُ، فَدَخَلَا عَلَى الْمُخْتَارِ فَقَالَا لَهُ: أَجِبِ الْأَمِيرَ. فَدَعَا بِثِيَابِهِ وَأَمَرَ بِإِسْرَاجِ

دَابَّتِهِ، وَتَهَيَّأَ لِلذَّهَابِ مَعَهُمَا، فَقَرَأَ زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ الْآيَةَ. فَأَلْقَى الْمُخْتَارُ نَفْسَهُ وَأَمَرَ بِقَطِيفَةٍ أَنْ تُلْقَى عَلَيْهِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ مَرِيضٌ، وَقَالَ: أَخْبِرَا الْأَمِيرَ بِحَالِي، فَرَجَعَا إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ فَاعْتَذَرَا عَنْهُ، فَصَدَّقَهُمَا وَلَهَا عَنْهُ.
فَلَمَّا كَانَ الْمُحَرَّمُ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَزْمَ الْمُخْتَارُ عَلَى الْخُرُوجِ لِطَلَبِ ثَأْرِ الْحُسَيْنِ - فِيمَا يَزْعُمُ - فَلَمَّا صَمَّمَ عَلَى ذَلِكَ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الشِّيعَةُ وَثَبَّطُوهُ عَنِ الْخُرُوجِ الْآنَ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ، ثُمَّ أَنَفَذُوا طَائِفَةً مِنْهُمْ إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ يَسْأَلُونَهُ عَنْ أَمْرِ الْمُخْتَارِ وَمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا بِهِ كَانَ مُلَخَّصُ مَا قَالَ لَهُمْ: إِنَّا لَا نَكْرَهُ أَنْ يَنْصُرَنَا اللَّهُ بِمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ. وَقَدْ كَانَ الْمُخْتَارُ بَلَغَهُ مَخْرَجُهُمْ إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَخَشِيَ أَنْ يُكَذِّبَهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهَمَّ بِالْخُرُوجِ قَبْلَ رُجُوعٍ أُولَئِكَ، وَجَعَلَ يَسْجَعُ لَهُمْ سَجْعًا مِنْ سَجْعِ الْكُهَّانِ بِذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا سَجَعَ بِهِ. فَلَمَّا رَجَعُوا أَخْبَرُوهُ بِمَا قَالَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَوِيَ أَمْرُ الشِّيعَةِ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو مِخْنَفٍ أَنَّ أُمَرَاءَ الشِّيعَةِ قَالُوا لِلْمُخْتَارِ: اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ أُمَرَاءِ

الْكُوفَةِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ وَهُمْ أَلْبٌ عَلَيْنَا، وَإِنَّهُ إِنْ بَايَعَكَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيُّ وَحَدَهُ أَغْنَانَا عَنْ جَمِيعِ مَنْ سِوَاهُ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمُخْتَارُ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ يَدْعُونَهُ إِلَى الدُّخُولِ مَعَهُمْ فِي الْأَخْذِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ، وَذَكَّرُوهُ سَابِقَةَ أَبِيهِ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: قَدْ أَجَبْتُكُمْ إِلَى مَا سَأَلْتُمْ، عَلَى أَنْ أَكُونَ أَنَا وَلِيَّ أَمْرِكُمْ. فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ الْمَهْدِيَّ قَدْ بَعَثَ الْمُخْتَارَ إِلَيْنَا وَزِيرًا لَهُ وَدَاعِيًا إِلَيْهِ. فَسَكَتَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ، فَرَجَعُوا إِلَى الْمُخْتَارِ فَأَخْبَرُوهُ، فَمَكَثَ ثَلَاثًا ثُمَّ خَرَجَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ إِلَيْهِ، فَدَخَلَ عَلَى ابْنِ الْأَشْتَرِ فَقَامَ إِلَيْهِ وَاحْتَرَمَهُ وَأَكْرَمَهُ وَجَلَسَ إِلَيْهِ فَدَعَاهُ الْمُخْتَارُ إِلَى الدُّخُولِ مَعَهُمْ، وَأَخْرَجَ لَهُ كِتَابًا عَلَى لِسَانِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ يَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ مَعَ أَصْحَابِهِ مِنَ الشِّيعَةِ، فِيمَا قَامُوا فِيهِ مِنْ نُصْرَةِ آلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَخْذِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ: إِنَّهُ قَدْ جَاءَتْنِي كُتُبُ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ بِغَيْرِ هَذَا النِّظَامِ، فَقَالَ الْمُخْتَارُ: إِنَّ هَذَا زَمَانٌ وَذَاكَ زَمَانٌ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ: فَمَنْ يَشْهَدُ أَنَّ هَذَا كِتَابُهُ. فَتَقَدَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ فَشَهِدُوا بِذَلِكَ. فَقَامَ ابْنُ الْأَشْتَرِ مِنْ مَجْلِسِهِ وَأَجْلَسَ الْمُخْتَارَ فِيهِ وَبَايَعَهُ، وَدَعَا لَهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَشَرَابٍ مِنْ عَسَلٍ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ - وَكَانَ حَاضِرًا ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ هُوَ وَأَبُوهُ -: فَلَمَّا انْصَرَفَ الْمُخْتَارُ، قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ: يَا شَعْبِيُّ، وَمَاذَا تَرَى فِيمَا شَهِدَ بِهِ هَؤُلَاءِ ؟ فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ قُرَّاءٌ وَأُمَرَاءٌ وَوُجُوهُ النَّاسِ، وَلَا أَرَاهُمْ يُشْهِدُونَ إِلَّا بِمَا يَعْلَمُونَ. قَالَ:

وَكَتَمْتُهُ مَا فِي نَفْسِي مِنِ اتِّهَامِهِمْ، وَلَكِنِّي كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يَخْرُجُوا لِلْأَخْذِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ، وَكُنْتُ عَلَى رَأْيِ الْقَوْمِ.
ثُمَّ جَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يَخْتَلِفُ إِلَى الْمُخْتَارِ فِي مَنْزِلِهِ هُوَ وَمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ قَوْمِهِ، ثُمَّ اتَّفَقَ رَأْيُ الشِّيعَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُمْ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ; سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ.
وَقَدْ بَلَغَ ابْنَ مُطِيعٍ أَمْرُ الْقَوْمِ وَمَا اشْتَوَرُوا عَلَيْهِ، فَبَعَثَ الشُّرَطَ فِي كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الْكُوفَةِ، وَأَلْزَمَ كُلَّ أَمِيرٍ بِحِفْظِ نَاحِيَتِهِ مِنْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا أَحَدٌ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الثُّلَاثَاءِ خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ قَاصِدًا إِلَى دَارِ الْمُخْتَارِ فِي مِائَةِ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ وَعَلَيْهِمُ الدُّرُوعُ تَحْتَ الْأَقْبِيَةِ، فَلَقِيَهُ إِيَاسُ بْنُ مُضَارِبٍ فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا ابْنَ الْأَشْتَرِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ ؟ إِنَّ أَمَرَكَ لِمُرِيبٌ، فَوَاللَّهِ لَا أَدْعُكَ حَتَّى أُحْضِرَكَ إِلَى الْأَمِيرِ فَيَرَى فِيكَ رَأْيَهُ. فَتَنَاوَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ رُمْحًا مِنْ يَدِ رَجُلٍ فَطَعَنَهُ فِي ثُغْرَةِ نَحْرِهِ، فَسَقَطَ وَأَمَرَ رَجُلًا فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَذَهَبَ بِهِ إِلَى الْمُخْتَارِ فَأَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمُخْتَارُ بَشَّرَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ، فَهَذَا طَائِرٌ صَالِحٌ. ثُمَّ طَلَبَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْمُخْتَارِ أَنْ يَخْرُجَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، فَأَمَرَ الْمُخْتَارُ بِالنَّارِ أَنْ تُرْفَعَ، وَأَنْ يُنَادَى بِشِعَارِ أَصْحَابِهِ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ، يَا ثَارَاتِ الْحُسَيْنِ. ثُمَّ نَهَضَ الْمُخْتَارُ فَجَعْلَ يَلْبَسُ دِرْعَهُ وَسِلَاحَهُ وَهُوَ يَقُولُ:

قَدْ عَلِمَتْ بَيْضَاءُ حَسْنَاءُ الطَّلَلْ وَاضِحَةُ الْخَدَّيْنِ عَجْزَاءُ الْكَفَلْ أَنِّي غَدَاةَ الرَّوْعِ مِقْدَامٌ بَطَلْ
وَخَرَجَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ، فَجَعَلَ يَتَقَصَّدُ الْأُمَرَاءَ الْمُوَكَّلِينَ بِنَوَاحِي الْبَلَدِ، فَيَطْرُدُهُمْ عَنْ أَمَاكِنِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَيُنَادِي بِشِعَارِ الْمُخْتَارِ. وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ فَنَادَى بِشِعَارِ الْمُخْتَارِ: يَا ثَارَاتِ الْحُسَيْنِ. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، وَجَاءَ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ فَاقْتَتَلَ هُوَ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ دَارِهِ وَحَصَرَهُ حَتَّى جَاءَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ فَطَرَدَهُ عَنْهُ.
فَرَجَعَ شَبَثٌ إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَجْمَعَ الْأُمَرَاءَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَنْهَضَ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّ أَمْرَ الْمُخْتَارِ قَدْ قَوِيَ وَاسْتَفْحَلَ، وَجَاءَتِ الشِّيعَةُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ إِلَى الْمُخْتَارِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ عَبَّى جَيْشَهُ وَصَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ، فَقَرَأَ فِيهَا: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَ عَبَسَ وَتَوَلَّى فِي الثَّانِيَةِ. قَالَ بَعْضُ مَنْ سَمِعَهُ: فَمَا سَمِعْتُ إِمَامًا أَفْصَحَ لَهْجَةً مِنْهُ. وَقَدْ جَهَّزَ ابْنُ مُطِيعٍ جَيْشًا؛ ثَلَاثَةَ آلَافٍ عَلَيْهِمْ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَأَرْبَعَةَ آلَافٍ أُخْرَى مَعَ رَاشِدِ بْنِ إِيَاسِ بْنِ مُضَارِبٍ، فَوَجَّهَ الْمُخْتَارُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ فِي سِتِّمِائَةِ فَارِسٍ وَسِتِّمِائَةِ رَاجِلٍ إِلَى رَاشِدِ بْنِ إِيَاسٍ، وَبَعْثَ نُعَيْمَ بْنَ هُبَيْرَةَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ وَسِتِّمِائَةِ رَاجِلٍ إِلَى شَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ. فَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ فَإِنَّهُ هَزَمَ قِرْنَهُ رَاشِدَ

بْنَ إِيَاسٍ وَقَتْلَهُ وَأَرْسَلَ إِلَى الْمُخْتَارِ يُبَشِّرُهُ، وَأَمَّا نُعَيْمُ بْنُ هُبَيْرَةَ فَإِنَّهُ لَقِيَ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ فَهَزَمَهُ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ وَقَتْلَهُ وَجَاءَ فَأَحَاطَ بِالْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ وَحَصَرَهُ، وَأَقْبَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ نَحْوَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، فَاعْتَرَضَ لَهُ حَسَّانُ بْنُ فَائِدِ الْعَبْسِيُّ فِي نَحْوٍ مِنْ أَلْفَيْ فَارِسٍ مِنْ جِهَةِ ابْنِ مُطِيعٍ، فَاقْتَتَلُوا سَاعَةً، فَهَزَمَهُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ أَقْبَلَ نَحْوَ الْمُخْتَارِ، فَوَجَدَ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ قَدْ حَصَرَ الْمُخْتَارَ وَجَيْشَهُ، فَمَا زَالَ حَتَّى طَرَدَهُمْ عَنْهُ، وَكَرُّوا رَاجِعِينَ. وَخَلَصَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الْمُخْتَارِ، وَارْتَحَلُوا مِنْ مَكَانِهِمْ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ فِي ظَاهِرِ الْكُوفَةِ فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ: اعْمِدْ بِنَا إِلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ، فَلَيْسَ دُونَهُ أَحَدٌ يَرُدُّ عَنْهُ. فَوَضَعُوا مَا مَعَهُمْ مِنَ الْأَثْقَالِ وَأَجْلَسُوا هُنَالِكَ ضَعَفَةَ الْمَشَايِخِ وَالرِّجَالِ.

وَاسْتَخْلَفَ الْمُخْتَارُ عَلَى مَنْ هُنَالِكَ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ، وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ، وَعَبَّأَ الْمُخْتَارُ جَيْشَهُ كَمَا كَانَ، وَسَارَ نَحْوَ الْقَصْرِ، فَبَعَثَ ابْنُ مُطِيعٍ عَمْرَو بْنَ الْحَجَّاجِ فِي أَلْفَيْ رَجُلٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمُخْتَارُ يَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ، وَسَارَ هُوَ وَابْنُ الْأَشْتَرِ أَمَامَهُ حَتَّى دَخَلَ الْكُوفَةَ مِنْ بَابِ الْكُنَاسَةِ، وَأَرْسَلَ ابْنُ مُطِيعٍ شَمِرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ - الَّذِي قَتَلَ الْحُسَيْنَ - فِي أَلْفَيْنِ آخَرَيْنِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمُخْتَارُ سَعِيدَ بْنَ مُنْقِذٍ الْهَمَذَانِيَّ، وَسَارَ الْمُخْتَارُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى سِكَّةِ شَبَثٍ، وَإِذَا

نَوْفَلُ بْنُ مُسَاحِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَخْرَمَةَ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ، وَخَرَجَ ابْنُ مُطِيعٍ مِنَ الْقَصْرِ فِي النَّاسِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ، فَتَقَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ إِلَى الْجَيْشِ الَّذِي مَعَ نَوْفَلِ بْنِ مُسَاحِقٍ. فَهَزَمَهُمْ وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّةِ ابْنِ مُسَاحِقٍ فَمَتَّ إِلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ، فَأَطْلَقَهُ، فَكَّانِ لَا يَنْسَاهَا بَعْدُ لِابْنِ الْأَشْتَرِ.
ثُمَّ تَقَدَّمَ الْمُخْتَارُ بِجَيْشِهِ إِلَى الْكُنَاسَةِ وَحَصَرُوا ابْنَ مُطِيعٍ بِقَصْرِهِ ثَلَاثًا، وَمَعَهُ أَشْرَافُ النَّاسِ سِوَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، فَإِنَّهُ لَزِمَ دَارَهُ، فَلَمَّا ضَاقَ الْحَالُ عَلَى ابْنِ مُطِيعٍ وَأَصْحَابِهِ اسْتَشَارَهُمْ فَأَشَارَ عَلَيْهِ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ وَلَهُمْ مِنَ الْمُخْتَارِ أَمَانًا، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ هَذَا وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مُطَاعٌ بِالْحِجَازِ وَبِالْبَصْرَةِ. فَقَالَ لَهُ: فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَذْهَبَ بِنَفْسِكَ مُخْتَفِيًا حَتَّى تَلْحَقَ بِصَاحِبِكَ فَتُخْبِرَهُ بِمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ، وَبِمَا كَانَ مِنَّا فِي نَصْرِهِ وَإِقَامَةِ دَوْلَتِهِ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ خَرَجَ ابْنُ مُطِيعٍ مُخْتَفِيًا حَتَّى دَخَلَ دَارَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ أَخْذَ الْأُمَرَاءُ لَهُمْ أَمَانًا مِنْ أَمِيرِهِمُ ابْنِ الْأَشْتَرِ فَأَمَّنَهُمْ، فَخَرَجُوا مِنَ الْقَصْرِ وَجَاءُوا إِلَى الْمُخْتَارِ فَبَايَعُوهُ، وَجَاءَ الْمُخْتَارُ فَدَخْلَ الْقَصْرَ فَبَاتَ فِيهِ، وَأَصْبَحَ أَشْرَافُ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ وَعَلَى بَابِ الْقَصْرِ، فَخَرَجَ الْمُخْتَارُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَخَطَبَ النَّاسَ خُطْبَةً بَلِيغَةً، ثُمَّ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ وَقَالَ: فَوَالَّذِي جَعَلَ السَّمَاءَ سَقْفًا مَكْفُوفًا وَالْأَرْضَ فِجَاجًا سُبُلًا، مَا بَايَعْتُمْ بَعْدَ بَيْعَةِ عَلِيٍّ أَهْدَى مِنْهَا، ثُمَّ نَزَلَ فَدَخَلَ وَدَخَلَ النَّاسُ يُبَايِعُونَهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَالطَّلَبِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ الْبَيْتِ، وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْمُخْتَارِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ مُطِيعٍ فِي دَارِ أَبِي مُوسَى،

فَأَرَاهُ أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ قَوْلَهُ، حَتَّى كَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يُرِيهِ أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ قَوْلَهُ. فَسَكَتَ الرَّجُلُ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ بَعْثَ الْمُخْتَارُ إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَقَدْ أُخْبِرْتُ بِمَكَانِكَ، - وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا قَبْلَ ذَلِكَ - فَذَهَبَ ابْنُ مُطِيعٍ إِلَى الْبَصْرَةِ وَكْرِهَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ مَغْلُوبٌ. وَشَرَعَ الْمُخْتَارُ يَتَحَبَّبُ إِلَى النَّاسِ بِحُسْنِ السِّيرَةِ وَوَجَدَ فِي بَيْتِ الْمَالِ تِسْعَةَ آلَافِ أَلْفٍ، فَأَعْطَى الْجَيْشَ الَّذِينَ حَضَرُوا مَعَهُ الْقِتَالَ نَفَقَاتٍ كَثِيرَةً. وَاسْتَعْمَلَ عَلَى شُرْطَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَامِلٍ الشَّاكِرِيَّ، وَقَرَّبَ أَشْرَافَ النَّاسِ فَكَانُوا جُلَسَاءَهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَوَالِي الَّذِينَ قَامُوا بِنَصْرِهِ، وَقَالُوا لِأَبِي عَمْرَةَ كِيسَانَ مَوْلَى عُرَيْنَةَ، وَكَانَ عَلَى حَرَسِهِ: قَدَّمَ وَاللَّهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْعَرَبَ وَتَرَكَنَا، فَأَنْهَى ذَلِكَ أَبُو عَمْرَةَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: بَلْ هُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [ السَّجْدَةِ: 22 ] فَقَالَ لَهُمْ أَبُو عَمْرَةَ: أَبْشِرُوا فَإِنَّهُ سَيَقْتُلُهُمْ وَيُقَرِّبُكُمْ فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ وَسَكَتُوا.
ثُمَّ إِنَّ الْمُخْتَارَ بَعَثَ الْأُمَرَاءَ إِلَى النَّوَاحِي وَالْبُلْدَانِ وَالْأَقَالِيمِ وَالرَّسَاتِيقِ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، وَعَقَدَ الْأَلْوِيَةَ وَالرَّايَاتِ. وَقَرَّرَ الْإِمَارَةَ وَالْوِلَايَاتِ، وَجَعَلَ يَجْلِسُ لِلنَّاسِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ اسْتَقْضَى شُرَيْحًا،

فَتَكَلَّمَ فِي شُرَيْحٍ طَائِفَةٌ مِنَ الشِّيعَةِ، وَقَالُوا إِنَّهُ شَهِدَ عَلَى حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ، وَإِنَّهُ لَمْ يُبَلِّغْ عَنْ هَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ مَا أَرْسَلَهُ بِهِ، وَقَدْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَزَلَهُ عَنِ الْقَضَاءِ، فَلَمَّا بَلَغَ شُرَيْحًا ذَلِكَ تَمَارَضَ وَلَزِمَ بَيْتَهُ، فَجَعَلَ الْمُخْتَارُ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَجَعَلَ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَالِكٍ الطَّائِيَّ قَاضِيًا.

فَصْلٌ ( تَتَبُّعُ الْمُخْتَارِ لِقَتَلَةِ الْحُسَيْنِ )
ثُمَّ شَرَعَ الْمُخْتَارُ يَتَتَبَّعُ قَتَلَةَ الْحُسَيْنِ مِنْ شَرِيفٍ وَوَضِيعٍ فَيَقْتُلُهُ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنْ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ كَانَ قَدْ جَهَّزَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ مِنْ دِمَشْقَ لِيَدْخُلَ الْكُوفَةَ، فَإِنْ هُوَ ظَفِرَ بِهَا فَلْيُبِحْهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَجَعَلَ لَهُ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْبِلَادِ، فَسَارَ ابْنُ زِيَادٍ قَاصِدًا الْكُوفَةَ فَلَقِيَ جَيْشَ التَّوَّابِينَ بِعَيْنِ الْوَرْدَةِ - كَمَا ذَكَرْنَا - ثُمَّ سَارَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْجَزِيرَةِ فَوَجَدَ بِهَا قَيْسَ عَيْلَانَ، وَهُوَ مِنْ أَنْصَارِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ كَانَ مَرْوَانُ أَصَابَ مِنْهُمْ قَتْلَى كَثِيرَةً يَوْمَ مَرْجِ رَاهِطٍ، وَهُمْ أَلْبٌ عَلَيْهِ، وَعَلَى ابْنِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ بَعْدِهِ، فَتَعَوَّقَ عَنِ الْمَسِيرِ سَنَةً وَهُوَ مُحَاصِرٌ قَيْسَ عَيْلَانَ بِالْجَزِيرَةِ، ثُمَّ وَصَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَانْحَازَ نَائِبُهَا عَنْهُ إِلَى تَكْرِيتَ، وَكَتَبَ

إِلَى الْمُخْتَارِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَنَدَبَ الْمُخْتَارُ يَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ اخْتَارَهَا، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي سَأُمِدُّكَ بِالرِّجَالِ بَعْدَ الرِّجَالِ. فَقَالَ لَهُ لَا تُمِدَّنِي إِلَّا بِالدُّعَاءِ، وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُخْتَارُ إِلَى ظَاهِرِ الْكُوفَةِ فَوَدَّعَهُ وَدَعَا لَهُ، وَقَالَ لَهُ: لِيَكُنْ خَبَرُكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ عِنْدِي، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ فَنَاجِزْهُمْ، وَلَا تُؤَخِّرْ فُرْصَةً.
وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ مَخْرَجِهِمْ مِنَ الْكُوفَةِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ جَهَّزَ بَيْنَ يَدَيْهِ سَرِيَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مَعَ رَبِيعَةَ بْنِ مُخَارِقٍ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَالْأُخْرَى مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْلَةَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَقَالَ: أَيُّكُمْ سَبَقَ فَهُوَ الْأَمِيرُ، وَإِنْ سَبَقْتُمَا مَعًا فَالْأَمِيرُ عَلَى النَّاسِ أَسَنُّكُمَا، فَسَبَقَ رَبِيعَةُ بْنُ مُخَارِقٍ إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَنَسٍ فَالْتَقَيَا فِي طَرَفِ أَرْضِ الْمَوْصِلِ مِمَّا يَلِي الْكُوفَةَ، فَتَوَاقَفَا هُنَالِكَ، وَيَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ مَرِيضٌ مُدْنَفٌ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُحَرِّضُ قَوْمَهُ عَلَى الْجِهَادِ وَيَدُورُ عَلَى الْأَرْبَاعِ وَهُوَ مَحْمُولٌ مُضْنًى رَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ، وَهُوَ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: يَا شُرْطَةَ اللَّهِ، اصْبِرُوا تُؤَجَرُوا، وَقَاتِلُوا عَدُوَّكُمْ تَظْفَرُوا، ثُمَّ نَزَلَ فَوُضِعَ لَهُ سَرِيرُهُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، وَقَالَ لِقَوْمِهِ: قَاتِلُوا عَنْ أَمِيرِكُمْ إِنْ شِئْتُمْ أَوْ فِرُّوا عَنْهُ، وَقَالَ لِلنَّاسِ: إِنْ هَلَكْتُ فَالْأَمِيرُ عَلَى النَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ضَمْرَةَ الْعُذْرِيُّ رَأْسُ الْمَيْمَنَةِ، فَإِنْ هَلَكَ فَسِعْرُ بْنُ أَبِي سِعْرٍ رَأْسُ الْمَيْسَرَةِ. وَكَانَ وَرْقَاءُ بْنُ عَازِبٍ الْأَسَدِيُّ عَلَى الْخَيْلِ، وَهُوَ وَهَؤُلَاءِ، الثَّلَاثَةُ أُمَرَاءُ

الْأَرْبَاعِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الصُّبْحِ، فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَالشَّامِيُّونَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَاضْطَرَبَتْ كُلٌّ مِنَ الْمَيْمَنَتَيْنِ وَالْمَيْسَرَتَيْنِ، ثُمَّ حَمَلَ وَرْقَاءُ عَلَى الْخَيْلِ فَهَزَمَهَا، وَفَرَّ الشَّامِيُّونَ، وَقُتِلَ أَمِيرُهُمْ رَبِيعَةُ بْنُ مُخَارِقٍ، وَاحْتَازَ جَيْشُ الْمُخْتَارِ مَا فِي عَسْكَرِهِمْ، وَرَجَعَ فُرَّارُهُمْ فَلَقَوُا الْأَمِيرَ الْآخَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَمْلَةَ فَقَالَ: مَا خَبَرُكُمْ ؟ فَأَخْبَرُوهُ فَرَجَعَ بِهِمْ وَسَارَ بِهِمْ نَحْوَ يَزِيدَ بْنِ أَنَسٍ فَانْتَهَى إِلَيْهِمْ عِشَاءً، فَبَاتَ النَّاسُ مُتَحَاجِزِينَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَوَاقَفُوا عَلَى تَعْبِئَتِهِمْ وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَضْحَى مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فَهَزَمَ جَيْشُ الْمُخْتَارِ جَيْشَ الشَّامِيِّينَ أَيْضًا، وَقَتَلُوا أَمِيرَهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَمْلَةَ، وَاحْتَوَوْا عَلَى مَا فِي مُعَسْكَرِهِمْ، وَأَسَرُوا مِنْهُمْ ثَلَاثَمِائَةِ أَسِيرٍ، فَجَاءُوا بِهِمْ إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَنَسٍ وَهُوَ عَلَى آخَرِ رَمَقٍ، فَأَمَرَ بِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ.
وَمَاتَ يَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ خَلِيفَتُهُ وَرْقَاءُ بْنُ عَامِرٍ وَدَفَنَهُ، وَسَقَطَ فِي أَيْدِي أَصْحَابِهِ وَجَعَلُوا يَتَسَلَّلُونَ رَاجِعِينَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَقَالَ لَهُمْ وَرْقَاءُ: يَا قَوْمُ مَاذَا تَرَوْنَ ؟ إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ زِيَادٍ قَدْ أَقْبَلَ فِي ثَمَانِينَ أَلْفًا مِنَ الشَّامِ، وَلَا أَرَى لَكُمْ بِهِمْ طَاقَةً، وَقَدْ هَلَكَ أَمِيرُنَا وَتَفَرَّقَ عَنَّا طَائِفَةٌ مِنَ الْجَيْشِ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَلَوِ انْصَرَفْنَا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِنَا وَنُظْهِرُ أَنَّا إِنَّمَا انْصَرَفْنَا حُزْنًا مِنَّا عَلَى أَمِيرِنَا لَكَانَ خَيْرًا لَنَا مِنْ أَنْ نَلْقَاهُمْ فَيَهْزِمُونَا، وَنَرْجِعَ مَغْلُوبِينَ. فَاتَّفَقَ رَأْيُ الْأُمَرَاءِ عَلَى ذَلِكَ، فَرَجَعُوا إِلَى الْكُوفَةِ.
فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُمْ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَأَنَّهُمْ قَدْ كَرُّوا رَاجِعِينَ، وَبَلَغَهُمْ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ قَدْ هَلَكَ، أَرْجَفَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِالْمُخْتَارِ، وَقَالُوا: قُتِلَ يَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ فِي الْمَعْرَكَةِ

وَانْهَزَمَ جَيْشُهُ وَعَمَّا قَلِيلٍ يَقْدَمُ عَلَيْكُمُ ابْنُ زِيَادٍ فَيَسْتَأْصِلُكُمْ وَيَشْتَفُّ خَضْرَاءَكُمْ، ثُمَّ تَمَالَئُوا عَلَى الْخُرُوجِ عَلَى الْمُخْتَارِ وَقَالُوا: هُوَ كَذَّابٌ، وَاتَّفَقُوا عَلَى حَرْبِهِ وَقِتَالِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَقَالُوا: هُوَ كَذَّابٌ قَدْ قَدَّمَ مَوَالِيَنَا عَلَى أَشْرَافِنَا، وَزَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ قَدْ أَمَرَهُ بِالْأَخْذِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ، وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَقَوِّلٌ عَلَيْهِ. وَانْتَظَرُوا بِخُرُوجِهِمْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْكُوفَةِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ فَإِنَّهُ قَدْ عَيَّنَهُ الْمُخْتَارُ أَنْ يَخْرُجَ فِي سَبْعَةِ آلَافٍ لِلِقَاءِ ابْنِ زِيَادٍ فَلَمَّا خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ اجْتَمَعَ أَشْرَافُ النَّاسِ مِمَّنْ كَانَ فِي جَيْشِ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ وَغَيْرِهِمْ فِي دَارِ شَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُخْتَارِ، ثُمَّ وَثَبُوا فَرَكِبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ مَعَ أَمِيرِهَا فِي نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْكُوفَةِ وَقَصَدُوا قَصْرَ الْإِمَارَةِ، وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ عَمْرَو بْنَ تَوْبَةَ بَرِيدًا إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ لِيَرْجِعَ إِلَيْهِ سَرِيعًا، وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ إِلَى أُولَئِكَ يَقُولُ لَهُمْ: مَاذَا تَنْقِمُونَ ؟ فَإِنِّي أُجِيبُكُمْ إِلَى جَمِيعِ مَا تَطْلُبُونَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُثَبِّطَهُمْ عَنْ مُنَاهَضَتِهِ حَتَّى يَقْدَمَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ وَقَالَ: إِنْ كُنْتُمْ لَا تُصَدِّقُونِي فِي أَمْرِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَابْعَثُوا مِنْ جِهَتِكُمْ وَأَبْعَثُ مِنْ جِهَتِي مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ. وَلَمْ يَزَلْ يُطَاوِلُهُمْ حَتَّى قَدِمَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَانْقَسَمَ هُوَ وَالنَّاسُ فِرْقَتَيْنِ فَتَكَفَّلَ الْمُخْتَارُ بِأَهْلِ الْيَمَنِ، وَتَكَفُّلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ

بِمُضَرَ، وَعَلَيْهِمْ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَكَانَ ذَلِكَ بِإِشَارَةِ الْمُخْتَارِ، حَتَّى لَا يَتَوَلَّى ابْنُ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيُّ قِتَالَ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَيَحْنُوَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ الْمُخْتَارُ شَدِيدًا عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ اقْتَتَلَ النَّاسُ فِي نَوَاحِي الْكُوفَةِ قِتَالًا عَظِيمًا، وَكَثُرَتِ الْقَتْلَى بَيْنَهُمْ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ وَجَرَتْ فُصُولٌ وَأَحْوَالٌ حَرْبِيَّةٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهَا، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَشْرَافِ؛ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ، وَسَبْعُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ، وَقُتِلَ مِنْ مُضَرَ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَيُعَرَفُ هَذَا الْيَوْمُ بِجَبَّانَةِ السَّبِيعِ. وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ ثُمَّ كَانَتِ النُّصْرَةُ لِلْمُخْتَارِ عَلَيْهِمْ، وَأَسَرَ مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةِ أَسِيرٍ، فَعَرَضُوا عَلَى الْمُخْتَارِ فَقَالَ: انْظُرُوا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ شَهِدَ مَقْتَلَ الْحُسَيْنِ فَاقْتُلُوهُ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ مِائَتَانِ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا، وَقَتَلَ أَصْحَابُهُ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُؤْذِيهِمْ وَيُسِيءُ إِلَيْهِمْ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُخْتَارِ، ثُمَّ أَطْلَقَ الْبَاقِينَ، وَهَرَبَ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ الزُّبِيدِيُّ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ قَتْلَ الْحُسَيْنِ فَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ مِنَ الْأَرْضِ.

ذِكْرُ مَقْتَلِ شَمِرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ الَّتِي قَتَلَتْ حُسَيْنًا
وَهَرَبَ أَشْرَافُ الْكُوفَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَكَانَ مِمَّنْ هَرَبَ

لِقَصْدِهِ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - فَبَعَثَ الْمُخْتَارُ فِي أَثَرِهِ غُلَامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ: زَرْبِيٌّ. فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ قَالَ شَمِرٌ لِأَصْحَابِهِ: تَقَدَّمُوا وَذَرُونِي وَرَاءَكُمْ بِصِفَةِ أَنَّكُمْ قَدْ هَرَبْتُمْ وَتَرَكْتُمُونِي حَتَّى يَطْمَعَ فِيَّ هَذَا الْعِلْجُ. فَسَاقُوا وَتَأَخَّرَ شَمِرٌ فَأَدْرَكَهُ زَرْبِيٌّ فَعَطْفَ عَلَيْهِ شَمِرٌ، فَدَقَّ ظَهْرَهُ فَقَتَلَهُ، وَسَارَ شَمِرٌ وَتَرْكَهُ، وَكَتَبَ كِتَابًا إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ يُنْذِرُهُ بِقُدُومِهِ عَلَيْهِ، وَوِفَادَتِهِ إِلَيْهِ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ فَرَّ مِنْ هَذِهِ الْوَقْعَةِ يَهْرُبُ إِلَى مُصْعَبٍ بِالْبَصْرَةِ، وَبَعَثَ شَمِرٌ الْكِتَابَ مَعَ عِلْجٍ مِنْ عُلُوجِ قَرْيَةٍ قَدْ نَزَلَ عِنْدَهَا يُقَالُ لَهَا الْكَلْتَانِيَّةُ عِنْدَ نَهْرٍ إِلَى جَانِبِ تَلٍّ هُنَاكَ، فَذَهَبَ ذَلِكَ الْعِلْجُ فَلَقِيَهُ عِلْجٌ آخَرُ فَقَالَ لَهُ: إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ قَالَ: إِلَى مُصْعَبٍ. قَالَ مِمَّنْ ؟ قَالَ مِنْ شَمِرٍ. فَقَالَ: اذْهَبْ مَعِي إِلَى سَيِّدِي. وَإِذَا سَيِّدُهُ أَبُو عَمْرَةَ أَمِيرُ حَرَسِ الْمُخْتَارِ، وَهُوَ قَدْ رَكِبَ فِي طَلَبِ شَمِرٍ، فَدَلَّهُ الْعِلْجُ عَلَى مَكَانِهِ فَقَصَدَهُ أَبُو عَمْرَةَ، وَقَدْ أَشَارَ أَصْحَابُ شَمِرٍ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا كُلُّهُ فَرَقٌ مِنَ الْكَذَّابِ، وَاللَّهِ لَا أَرْتَحِلُ مِنْ هَاهُنَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ حَتَّى أَمْلَأَ قُلُوبَهُمْ رُعْبًا، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ كَابَسَهُمْ أَبُو عَمْرَةَ فِي الْخَيْلِ فَأَعْجَلَهُمْ أَنْ يَرْكَبُوا أَوْ يَلْبَسُوا أَسْلِحَتَهُمْ، وَثَارَ إِلَيْهِمْ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ فَطَاعَنَهُمْ بِرُمْحِهِ وَهُوَ عُرْيَانُ، ثُمَّ دَخَلَ خَيْمَتَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا سَيْفًا وَهُوَ يَقُولُ:

نَبَّهْتُمُ لَيْثَ عَرِينٍ بَاسِلَا جَهْمًا مُحَيَّاهُ يَدُقُّ الْكَاهِلَا لَمْ يُرَ يَوْمًا عَنْ عَدُوٍّ نَاكِلَا
إِلَّا كَذَا مُقَاتِلًا أَوْ قَاتِلَا يُبْرِحْهُمُ ضَرْبًا وَيُرْوِي الْعَامِلَا
ثُمَّ مَا زَالَ يُنَاضِلُ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمَّا سَمِعَ أَصْحَابُهُ، وَهُمْ مُنْهَزِمُونَ صَوْتَ التَّكْبِيرِ وَقَوْلَ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ: اللَّهُ أَكْبَرُ قُتِلَ الْخَبِيثُ. عَرَفُوا أَنَّهُ قَدْ قُتِلَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: وَلَمَّا خَرَجَ الْمُخْتَارُ مِنْ جَبَّانَةِ السَّبِيعِ، وَأَقْبَلَ إِلَى الْقَصْرِ - يَعْنِي مُنْصَرَفَهُ مِنَ الْقِتَالِ - نَادَاهُ سُرَاقَةُ بْنُ مِرْدَاسٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ، وَكَانَ فِي الْأَسْرَى:
امْنُنْ عَلَيَّ الْيَوْمَ يَا خَيْرَ مَعَدْ وَخَيْرَ مَنْ حَلَّ بِشِحْرٍ وَالْجَنَدْ
وَخَيْرَ مَنْ لَبَّى وَصَامَ وَسَجَدْ
قَالَ: فَبَعَثَهُ إِلَى السِّجْنِ، فَاعْتَقَلَهُ لَيْلَةً، ثُمَّ أَطْلَقُهُ مِنَ الْغَدِ، فَأَقْبَلَ إِلَى الْمُخْتَارِ، وَهُوَ يَقُولُ:

أَلَا أَخْبِرْ أَبَا إِسْحَاقَ أَنَّا نَزَوْنَا نَزْوَةً كَانَتْ عَلَيْنَا
خَرَجْنَا لَا نَرَى الضُّعَفَاءَ شَيْئًا وَكَانَ خُرُوجُنَا بَطَرًا وَحَيْنًا
نَرَاهُمْ فِي مَصَافِهِمُ قَلِيلًا وَهُمْ مِثْلُ الدَّبَا حِينَ الْتَقَيْنَا
بَرَزْنَا إِذْ رَأَيْنَاهُمْ فَلَمَّا رَأَيْنَا الْقَوْمَ قَدْ بَرَزُوا إِلَيْنَا
رَأَيْنَا مِنْهُمُ ضَرْبًا وَطَحْنًا وَطَعْنًا صَائِبًا حَتَّى انْثَنَيْنَا
نُصِرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ كُلَّ يَوْمٍ بِكُلِّ كَتِيبَةٍ تَنْعَى حُسَيْنَا
كَنَصْرِ مُحَمَّدٍ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَيَوْمَ الشِّعْبِ إِذْ لَاقَى حُنَيْنَا
فَأَسْجِحْ إِذْ مَلَكْتَ فَلَوْ مَلَكْنَا لَجُرْنَا فِي الْحُكُومَةِ وَاعْتَدَيْنَا
تَقَبَّلْ تَوْبَةً مِنِّي فَإِنِّي سَأَشْكُرُ إِذْ جَعَلْتَ النَّقْدَ دَيْنَا
وَجَعَلَ سُرَاقَةُ بْنُ مِرْدَاسٍ يَحْلِفُ أَنَّهُ رَأَى الْمَلَائِكَةَ تَقَاتِلُ عَلَى الْخُيُولِ الْبُلْقِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَأْسِرْهُ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ، فَأَمَرَهُ الْمُخْتَارُ أَنْ يَصْعَدَ الْمِنْبَرَ فَيُخْبِرُ النَّاسَ بِذَلِكَ. فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَأَخْبَرَ النَّاسَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا نَزَلَ خَلَا بِهِ الْمُخْتَارُ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّكَ لَمْ تَرَ الْمَلَائِكَةَ، وَإِنَّمَا أَرَدْتَ

بِقَوْلِكَ هَذَا أَنِّي لَا أَقْتُلُكَ، وَلَسْتُ أَقْتُلُكَ فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ لَا تُفْسِدْ عَلَيَّ أَصْحَابِي. فَذَهَبَ سُرَاقَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَجَعَلَ يَقُولُ:
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا إِسْحَاقَ أَنِّي رَأَيْتُ الْبُلْقَ دُهْمًا مُصْمِتَاتِ
كَفَرْتُ بِوَحْيِكُمْ وَجَعَلْتُ نَذْرًا عَلَيَّ قِتَالَكُمْ حَتَّى الْمَمَاتِ
رَأَتْ عَيْنَايَ مَا لَمْ تُبْصِرَاهُ كِلَانَا عَالِمٌ بِالتُّرَّهَاتِ
إِذَا قَالُوا أَقُولُ لَهُمْ كَذَبْتُمْ وَإِنْ خَرَجُوا لَبِسْتُ لَهُمْ أَدَاتِي
قَالُوا: ثُمَّ خَطَبَ الْمُخْتَارُ أَصْحَابَهُ فَحَرَّضَهُمْ فِي خُطْبَتِهِ تِلْكَ عَلَى تَتَبُّعِ مَنْ قَتَلَ الْحُسَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ الْمُقِيمِينَ بِهَا، فَقَالَ: مَا دِينُنَا تَرْكُ قَوْمٍ قَتَلُوا حُسَيْنًا يَمْشُونَ فِي الدُّنْيَا أَحْيَاءً آمِنِينَ، بِئْسَ نَاصِرُ آلِ مُحَمَّدٍ، إِنِّي إِذًا كَذَّابٌ كَمَا سَمَّيْتُمُونِي أَنْتُمْ، فَإِنِّي بِاللَّهِ أَسْتَعِينُ عَلَيْهِمْ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنِي سَيْفًا أَضْرِبُهُمْ، وَرُمْحًا أَطْعَنُهُمْ، وَطَالِبَ وَتْرِهِمْ، وَالْقَائِمَ بِحَقِّهِمْ، وَإِنَّهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ قَتَلَهُمْ، وَأَنْ يُذِلَّ مَنْ جَهِلَ حَقَّهُمْ، فَسَمُّوهُمْ ثُمَّ اتْبَعُوهُمْ حَتَّى تَقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّهُ لَا يَسُوغُ لِيَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ حَتَّى أُطَهِّرَ الْأَرْضَ

مِنْهُمْ، وَأَنْفِي مَنْ فِي الْمِصْرِ مِنْهُمْ، ثُمَّ جَعَلَ يَتَتَبَّعُ مَنْ فِي الْكُوفَةِ مِنْهُمْ وَكَانُوا يَأْتُونَ بِهِمْ حَتَّى يُوقَفُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَأْمُرُ بِقَتْلِهِمْ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْقِتْلَاتِ مِمَّا يُنَاسِبُ مَا فَعَلُوا، وَمِنْهُمْ مَنْ حَرَّقَهُ بِالنَّارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ أَطْرَافَهُ وَتَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْمَى بِالنِّبَالِ حَتَّى يَمُوتَ، فَأَتَوْهُ بِمَالِكِ بْنِ بَشِيرٍ، فَقَالَ لَهُ الْمُخْتَارُ: أَنْتَ الَّذِي نَزَعْتَ بُرْنُسَ الْحُسَيْنِ عَنْهُ ؟ فَقَالَ: خَرَجْنَا وَنَحْنُ كَارِهُونَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا. فَقَالَ: اقْطَعُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ تَرَكُوهُ يَضْطَرِبُ حَتَّى مَاتَ، وَقَتَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَسَيْدٍ الْجُهَنِيَّ وَغَيْرَهُ شَرَّ قِتْلَةٍ.

مَقْتَلُ خَوْلِيِّ بْنِ يَزِيدَ الْأَصْبَحِيِّ الَّذِي احْتَزَّ رَأْسَ الْحُسَيْنِ
بَعْثَ إِلَيْهِ الْمُخْتَارُ أَبَا عَمْرَةَ صَاحِبَ حَرَسِهِ، فَكَبَسَ بَيْتَهُ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِمُ امْرَأَتُهُ، فَسَأَلُوهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: لَا أَدْرِي أَيْنَ هُوَ. وَأَشَارَتْ بِيَدِهَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ مُخْتَفٍ فِيهِ، وَكَانَتْ تُبْغِضُهُ مِنْ لَيْلَةِ قَدِمَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ مَعَهُ إِلَيْهَا، وَكَانَتْ تَلُومُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَاسْمُهَا الْعَيُوفُ بِنْتُ مَالِكِ بْنِ نَهَارِ بْنِ عَقْرَبٍ الْحَضْرَمِيِّ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَوَجَدُوهُ قَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ قَوْصَرَّةً، فَحَمَلُوهُ إِلَى الْمُخْتَارِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِ وَأَنْ يُحَرَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَبَعْثَ الْمُخْتَارُ إِلَى حَكِيمِ بْنِ فُضَيْلٍ السِّنْبِسِيِّ - وَكَانَ قَدْ سَلَبَ الْعَبَّاسَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ - فَأُخِذَ، فَذَهَبَ أَهْلُهُ إِلَى عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فَرَكِبَ لِيَشْفَعَ فِيهِ عِنْدَ الْمُخْتَارِ، فَخَشِيَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَخَذُوهُ أَنْ يَسْبِقَهُمْ عَدِيٌّ إِلَى الْمُخْتَارِ فَيُشَفِّعَهُ فِيهِ، فَقَتَلُوا حَكِيمًا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمُخْتَارِ، فَدَخَلَ عَدِيٌّ فَشَفَعَ فِيهِ فَشَفَّعَهُ فِيهِ، فَلَمَّا رَجَعُوا وَقَدْ قَتَلُوهُ شَتَمَهُمْ عَدِيٌّ، وَقَامَ مُتَغَضِّبًا عَلَيْهِمْ، وَقَدْ تَقَلَّدَ مِنَّةَ الْمُخْتَارِ، وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ إِلَى زَيْدِ بْنِ رُقَادٍ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، فَلَمَّا أَحَاطَ الطَّلَبُ بِدَارِهِ خَرَجَ فَقَاتَلَهُمْ فَرَمَوْهُ بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ حَتَّى سَقَطَ، ثُمَّ حَرَّقُوهُ وَبِهِ رَمَقُ الْحَيَاةِ، وَطَلَبَ الْمُخْتَارُ سِنَانَ بْنَ أَنَسٍ، الَّذِي كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ قَتَلَ الْحُسَيْنَ، فَوَجَدُوهُ قَدْ هَرَبَ إِلَى الْبَصْرَةِ أَوِ الْجَزِيرَةِ فَهُدِمَتْ دَارُهُ. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ مِمَّنْ هَرَبَ إِلَى مُصْعَبٍ فَأَمَرَ الْمُخْتَارُ بِهَدْمِ دَارِهِ، وَأَنْ يُبْنَى بِهَا دَارُ حَجَرِ بْنِ عَدِيٍّ الَّتِي كَانَ زِيَادٌ هَدَمَهَا.

مَقْتَلُ عُمَرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَمِيرِ الْجَيْشِ الَّذِينَ قَتَلُوا الْحُسَيْنَ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، جَالِسًا ذَاتَ يَوْمٍ ;

إِذْ جَاءَ غُلَامٌ لَهُ، وَدَمُهُ يَسِيلُ عَلَى عَقِبَيْهِ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَنْ فَعَلَ بِكَ هَذَا ؟ فَقَالَ: ابْنُكَ عُمَرُ. فَقَالَ سَعْدُ: اللَّهُمَّ اقْتُلْهُ وَأَسِلْ دَمَهُ. وَكَانَ سَعْدٌ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ، فَلَمَّا ظَهَرَ الْمُخْتَارُ عَلَى الْكُوفَةِ اسْتَجَارَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، وَكَانَ صَدِيقًا لِلْمُخْتَارِ مِنْ قَرَابَتِهِ مِنْ عَلِيٍّ، فَأَتَى الْمُخْتَارَ فَأَخْذَ مِنْهُ لِعُمَرَ بْنِ سَعْدٍ أَمَانًا ; مَضْمُونُهُ أَنَّهُ آمِنٌ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ مَا أَطَاعَ وَلَزِمَ رَحْلَهُ وَمِصْرَهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ حَدَثًا، وَأَرَادَ الْمُخْتَارُ مَا لَمْ يَأْتِ الْخَلَاءَ فَيَبُولَ أَوْ يَغُوطَ، وَلَمَّا بَلَغَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ الْمُخْتَارَ يُرِيدُ قَتْلَهُ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ لَيْلًا يُرِيدُ السَّفَرَ نَحْوَ مُصْعَبٍ أَوْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَنَمَى لِلْمُخْتَارِ بَعْضُ مَوَالِيهِ ذَلِكَ. فَقَالَ الْمُخْتَارُ: وَأَيُّ حَدَثٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا ؟ وَقِيلَ: إِنَّ مَوْلَاهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُ: تَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِكَ وَرَحْلِكَ ؟ ارْجِعْ. فَرَجَعَ. وَلَمَّا أَصْبَحَ بَعْثَ إِلَى الْمُخْتَارِ يَقُولُ لَهُ: هَلْ أَنْتَ مُقِيمٌ عَلَى أَمَانِكَ ؟ وَقِيلَ: إِنَّهُ أَتَى الْمُخْتَارَ يَتَعَرَّفُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الْمُخْتَارُ: اجْلِسْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَرْسَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْدَةَ إِلَى الْمُخْتَارِ يَقُولُ لَهُ: هَلْ أَنْتَ مُقِيمٌ عَلَى أَمَانِكَ لَهُ ؟ فَقَالَ لَهُ الْمُخْتَارُ: اجْلِسْ. فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ الْمُخْتَارُ: لِصَاحِبِ حَرَسِهِ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِرَأْسِهِ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ، وَأَتَاهُ بِرَأْسِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْمُخْتَارَ قَالَ لَيْلَةً: لَأَقْتُلَنَّ غَدًا رَجُلًا عَظِيمَ الْقَدَمَيْنِ، غَائِرَ الْعَيْنَيْنِ، مُشْرِفَ الْحَاجِبَيْنِ، يُسَرُّ بِقَتْلِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ، وَكَانَ الْهَيْثَمُ بْنُ الْأَسْوَدِ حَاضِرًا فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ أَرَادَ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُهُ

الْعُرْيَانُ فَأَنْذَرَهُ، فَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا بَعْدَمَا أَعْطَانِي مِنَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ ؟ وَكَانَ الْمُخْتَارُ حِينَ قَدِمَ الْكُوفَةَ أَحْسَنَ السِّيرَةَ إِلَى أَهْلِهَا أَوَّلًا، وَكَتَبَ لِعُمَرَ بْنِ سَعْدٍ كِتَابَ أَمَانٍ إِلَّا أَنْ يُحْدِثَ حَدَثًا. قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ يَقُولُ: إِنَّمَا أَرَادَ الْمُخْتَارُ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ الْكَنِيفَ فَيُحَدِثَ فِيهِ. ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ قَلِقَ أَيْضًا، ثُمَّ جَعَلَ يَتَنَقَّلُ مِنْ مَحَلَّةٍ إِلَى مَحَلَّةٍ، ثُمَّ صَارَ أَمْرُهُ أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى دَارِهِ، وَقَدْ بَلَغَ الْمُخْتَارَ انْتِقَالُهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، فَقَالَ: كَلَّا وَاللَّهِ، إِنَّ فِي عُنُقِهِ سِلْسِلَةً تَرُدُّهُ لَوْ جَهِدَ أَنْ يَنْطَلِقَ مَا اسْتَطَاعَ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَبَعْثَ إِلَيْهِ أَبَا عَمْرَةَ، فَدَخْلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَجِبِ الْأَمِيرَ، فَقَامَ عُمَرُ، فَعَثَرَ فِي جُبَّتِهِ، فَضَرَبَهُ أَبُو عَمْرَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهُ، وَجَاءَ بِرَأْسِهِ فِي أَسْفَلِ قَبَائِهِ حَتَّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُخْتَارِ، فَقَالَ الْمُخْتَارُ لِابْنِهِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ - وَكَانَ جَالِسًا عِنْدَ الْمُخْتَارِ -: أَتَعْرِفُ هَذَا الرَّأْسَ ؟ فَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ: نَعَمْ، وَلَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُ، فَقَالَ: صَدَقْتَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَوُضِعَ رَأْسُهُ مَعَ رَأْسِ أَبِيهِ، ثُمَّ قَالَ الْمُخْتَارُ هَذَا بِالْحُسَيْنِ، وَهَذَا بِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْأَكْبَرِ، وَلَا سَوَاءَ، وَاللَّهِ لَوْ قَتَلْتُ بِهِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ قُرَيْشٍ مَا وَفُّوا أُنْمُلَةً مِنْ أَنَامِلِهِ. ثُمَّ بَعَثَ الْمُخْتَارُ بِرَأْسَيْهِمَا إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا فِي ذَلِكَ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِلْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ مِنَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْمَهْدِيُّ فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي نِقْمَةً عَلَى أَعْدَائِكُمْ، فَهُمْ بَيْنَ قَتِيلٍ وَأَسِيرٍ وَطَرِيدٍ وَشَرِيدٍ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَتَلَ قَاتِلَكُمْ وَنَصَرَ مُؤَازِرَكُمْ، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِرَأْسِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ وَابْنِهِ، وَقَدْ قَتَلْنَا مَنْ شَرَكَ فِي دَمِ الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ كُلَّ مَنْ قَدَرْنَا عَلَيْهِ، وَلَنْ يُعْجِزَ اللَّهَ مَنْ بَقِيَ، وَلَسْتُ بِمُنْحَجِمٍ عَنْهُمْ حَتَّى لَا يَبْلُغَنِي أَنَّ عَلَى أَدِيمِ الْأَرْضِ مِنْهُمْ إِرْمِيًّا فَاكْتُبْ إِلَيَّ أَيُّهَا الْمَهْدِيُّ بِرَأْيِكَ أَتَّبِعُهُ وَأَكُنْ عَلَيْهِ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْمَهْدِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
وَلَمْ يَذْكُرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ مُحَمَّدًا ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ رَدَّ جَوَابَهُ، مَعَ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ قَدْ تَقَصَّى هَذَا الْفَصْلَ وَأَطَالَ شَرْحَهُ، وَيَظْهَرُ مِنْ غُبُونِ كَلَامِهِ وَنِظَامِهِ قُوَّةُ وَجْدِهِ بِهِ وَغَرَامِهِ، وَلِهَذَا تَوَسَّعَ فِي إِيرَادِهِ بِرِوَايَاتِ أَبِي مِخْنَفٍ لُوطِ بْنِ يَحْيَى، وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِيمَا يَرْوِيهِ، وَلَا سِيَّمَا فِي بَابِ التَّشَيُّعِ، وَهَذَا الْمَقَامُ لِلشِّيعَةِ فِيهِ غَرَامٌ وَأَيُّ غَرَامٍ، إِذْ فِيهِ الْأَخْذُ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ وَأَهْلِهِ مِنْ قَتَلَتِهِمْ وَالِانْتِقَامُ مِنْهُمْ. وَلَا شَكَّ أَنَّ قَتْلَ قَتَلَتِهِ كَانَ مُتَحَتِّمًا، وَالْمُبَادِرَةُ إِلَيْهِ كَانَ مَغْنَمًا، وَلَكِنْ إِنَّمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَى يَدِ الْمُخْتَارِ الْكَذَّابِ الَّذِي صَارَ بِدَعْوَاهُ إِتْيَانَ الْوَحْيِ إِلَيْهِ كَافِرًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنَّ اللَّهَ لِيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مَا يَكْتُبُهُ الْكَاتِبُونَ: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ

وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَمَا مِنْ يَدٍ إِلَّا يَدُ اللَّهِ فَوْقَهَا وَلَا ظَالِمٍ إِلَّا سَيُبْلَى بِظَالِمِ
وَسَيَأْتِي فِي تَرْجَمَةِ الْمُخْتَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ وَافْتِرَائِهِ، وَادِّعَائِهِ نُصْرَةَ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَهُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُتَسَتِّرٌ بِذَلِكَ لِيَجْمَعَ عَلَيْهِ رَعَاعًا مِنَ الشِّيعَةِ الَّذِينَ بِالْكُوفَةِ ; لِيُقِيمَ لَهُمْ دَوْلَةً وَيَصُولَ بِهِمْ وَيَجُولَ عَلَى مُخَالِفِيهِ صَوْلَةً.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَلَّطَ عَلَيْهِ مَنِ انْتَقَمَ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْكَذَّابُ الَّذِي قَالَ فِيهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ فَهَذَا هُوَ الْكَذَّابُ، وَهُوَ يُظْهِرُ التَّشَيُّعَ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَهُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ وَقَدْ وُلِّيَ الْكُوفَةَ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ كَمَا سَيَأْتِي، وَكَانَ الْحَجَّاجُ عَكْسَ هَذَا؛ كَانَ نَاصِبِيًّا جَلْدًا ظَالِمًا غَاشِمًا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ فِي طَبَقَةِ هَذَا، يُتَّهَمُ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَدَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَأَنَّهُ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ الْعَلِيِّ الْعَلَّامِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ الْمُخْتَارُ الْمُثَنَّى بْنَ مُخَرِّبَةَ الْعَبْدِيَّ إِلَى الْبَصْرَةِ يَدْعُو إِلَيْهِ مَنِ اسْتَطَاعَ مَنْ أَهْلِهَا، فَدَخَلَهَا وَابْتَنَى بِهَا مَسْجِدًا يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ فِيهِ قَوْمُهُ فَجَعَلَ يَدْعُو إِلَى الْمُخْتَارِ ثُمَّ أَتَى مَدِينَةَ الرِّزْقِ، فَعَسْكَرَ عِنْدَهَا فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْقُبَاعُ - وَهُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ قَبْلَ أَنْ يُعْزَلَ

بِمُصْعَبٍ - جَيْشًا مَعَ عَبَّادِ بْنِ الْحُصَيْنِ أَمِيرِ الشُّرْطَةِ، وَقَيْسِ بْنِ الْهَيْثَمِ فَقَاتَلُوهُ وَأَخَذُوا مِنْهُ الْمَدِينَةَ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَكَانَ قَدْ قَامَ بِنُصْرَتِهِمْ بَنُو عَبْدِ الْقَيْسِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الْجَيْشَ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ فَأَرْسَلَ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ، وَ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيَّ لِيُصْلِحَا بَيْنَ النَّاسِ وَسَاعَدَهُمَا مَالِكُ بْنُ مِسْمَعٍ، فَانْحَجَزَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَرَجَعَ إِلَى الْمُخْتَارِ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مَغْلُولًا مَغْلُوبًا مَسْلُوبًا، وَأَخْبَرَ الْمُخْتَارَ بِمَا وَقَعَ مِنَ الصُّلْحِ عَلَى يَدَيِ الْأَحْنَفِ وَغَيْرِهِ مِنْ أُولَئِكَ الْأُمَرَاءِ، وَطَمِعَ الْمُخْتَارُ فِيهِمْ، وَكَاتَبَهُمْ فِي أَنْ يَدْخُلُوا مَعَهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ.
وَكَانَ كِتَابُهُ إِلَى الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ: مِنَ الْمُخْتَارِ إِلَى الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ وَمَنْ قِبَلَهُ، فَسِلْمٌ أَنْتُمْ، أَمَّا بَعْدُ: فَوَيْلُ أُمِّ رَبِيعَةَ مِنْ مُضَرَ، وَإِنَّ الْأَحْنَفَ يُورِدُ قَوْمَهُ سَقَرَ، حَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ لَهُمُ الصَّدَرَ، وَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مَا قَدْ خُطَّ فِي الْقَدَرِ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُسَمُّونِي كَذَّابًا، وَقَدْ كُذِّبَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِي، وَلَسْتُ بِخَيْرٍ مِنْهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ حِبَّانِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ الْبَصْرَةَ فَقَعَدْتُ إِلَى حَلْقَةٍ فِيهَا الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: مَنْ أَنْتَ ؟ فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. فَقَالَ: أَنْتُمْ مَوَالٍ لَنَا. قُلْتُ: وَكَيْفَ ؟ قَالَ: قَدْ

أَنْقَذْنَاكُمْ مِنْ أَيْدِي عَبِيدِكُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ. قُلْتُ: تَدْرِي مَا قَالَ شَيْخٌ مِنْ هَمْدَانَ فِينَا وَفِيكُمْ ؟ فَقَالَ الْأَحْنَفُ: وَمَا قَالَ ؟ قُلْتُ: قَالَ:
أَفَخَرْتُمْ أَنْ قَتَلْتُمْ أَعَبُدًا وَهَزَمْتُمْ مَرَّةً آلَ عَزَلْ
فَإِذَا فَاخَرْتُمُونَا فَاذْكُرُوا مَا فَعَلْنَا بِكُمْ يَوْمَ الْجَمَلْ
بَيْنَ شَيْخٍ خَاضِبٍ عُثْنُونَهُ وَفَتًى أَبْيَضَ وَضَّاحًا رِفَلْ
جَاءَنَا يَهْدِجُ فِي سَابِغَةٍ فَذَبَحْنَاهُ ضُحًى ذَبْحَ الْحَمَلْ
وَعَفَوْنَا فَنَسِيتُمْ عَفْوَنَا وَكَفَرْتُمْ نِعْمَةَ اللَّهِ الْأَجَلْ
وَقَتَلْتُمْ بِحُسَيْنٍ مِنْهُمُ بَدَلًا مِنْ قَوْمِكُمْ شَرَّ بَدَلْ
قَالَ: فَغَضِبَ الْأَحْنَفُ، وَقَالَ: يَا غُلَامُ، هَاتِ الصَّحِيفَةَ، فَأُتِيَ بِصَحِيفَةٍ فِيهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ إِلَى الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَمَّا بَعْدُ: فَوَيْلُ أُمِّ رَبِيعَةَ مِنْ مُضَرَ، فَإِنَّ الْأَحْنَفَ يُورِدُ قَوْمَهُ سَقَرَ، حَيْثُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الصَّدَرِ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونِي، فَإِنْ كُذِّبْتُ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي، وَلَسْتُ بِخَيْرٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ الْأَحْنَفُ: هَذَا مِنَّا أَوْ مِنْكُمْ.

فَصْلٌ ( مُصَانَعَةُ الْمُخْتَارِ ابْنَ الزُّبَيْرِ يُرِيدُ خِدَاعَهُ )
وَلَمَّا عَلِمَ الْمُخْتَارُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَا يَنَامُ عَنْهُمْ، وَأَنَّ جَيْشَ الشَّامِ مِنْ قِبَلِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَقْصِدُونَهُ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ لَا يُرَامُ، شَرَعَ يُصَانِعُ ابْنَ الزُّبَيْرِ، يُرِيدُ خِدَاعَهُ وَالْمَكْرَ بِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنِّي كُنْتُ بَايَعْتُكَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالنُّصْحِ لَكَ، فَلَمَّا رَأَيْتُكَ قَدْ أَعْرَضْتَ عَنِّي تَبَاعَدْتُ عَنْكَ، فَإِنْ كُنْتَ عَلَى مَا أَعْهَدُ مِنْكَ فَأَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَكَ. وَالْمُخْتَارُ يُخْفِي هَذَا كُلَّ الْإِخْفَاءِ عَنِ الشِّيعَةِ، فَإِذَا ذَكَرَ لَهُ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ أَصَادِقٌ أَمْ كَاذِبٌ ؟ فَدَعَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، فَقَالَ لَهُ: تَجَهَّزْ إِلَى الْكُوفَةِ فَقَدْ وَلَّيْتُكَهَا. فَقَالَ: وَكَيْفَ وَبِهَا الْمُخْتَارُ ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَامِعٌ لَنَا مُطِيعٌ، وَأَعْطَاهُ قَرِيبًا مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا يَتَجَهَّزُ بِهَا، فَسَارَ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ لَقِيَهُ زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ مِنْ جِهَةِ الْمُخْتَارِ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ مُلْبِسَةٍ، وَمَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُخْتَارُ فَقَالَ لَهُ: أَعْطِهِ الْمَالَ، فَإِنْ هُوَ انْصَرَفَ وَإِلَّا فَأَرِهِ الرِّجَالَ فَقَاتِلْهُ حَتَّى يَنْصَرِفَ، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجِدَّ قَبَضَ الْمَالَ وَسَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَاجْتَمَعَ هُوَ وَابْنُ مُطِيعٍ بِهَا عِنْدَ أَمِيرِهَا الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبَى رَبِيعَةَ وَذَلِكَ قَبْلَ وُثُوبِ الْمُثَنَّى بْنِ مُخَرِّبَةَ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَقَبْلَ وُصُولِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا.
وَبَعْثَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ ابْنَ عَمِّهِ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْحَكَمِ فِي جَيْشٍ إِلَى وَادِي الْقُرَى ; لِيَأْخُذُوا الْمَدِينَةَ مِنْ نُوَّابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَكَتَبَ الْمُخْتَارُ إِلَى

ابْنِ الزُّبَيْرِ: إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ أَمُدَّكَ بِمَدَدٍ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْمُخْتَارُ خَدِيعَتَهُ وَمُكَايَدَتَهُ فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِنْ كُنْتَ عَلَى طَاعَتِي فَلَسْتُ أَكْرَهُ ذَلِكَ، فَابْعَثْ بِجُنْدٍ إِلَى وَادِي الْقُرَى لِيَكُونُوا مَدَدًا لَنَا عَلَى قِتَالِ الشَّامِيِّينَ فَجَهَّزَ الْمُخْتَارُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ عَلَيْهِمْ شُرَحْبِيلُ بْنُ وَرْسٍ الْهَمْدَانِيُّ لَيْسَ فِيهِمْ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا سَبْعُمِائَةٍ، وَقَالَ لَهُ: سِرْ حَتَّى تَدْخُلَ الْمَدِينَةَ فَإِنْ دَخَلَهَا فَاكْتُبْ إِلَيَّ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَخْذَ الْمَدِينَةِ مِنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ يَرْكَبُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مَكَّةَ لِيُحَاصِرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِهَا، وَخَشِيَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَارُ بَعَثَ ذَلِكَ الْجَيْشَ مَكْرًا فَبَعَثَ الْعَبَّاسَ بْنَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ فِي أَلْفَيْنِ وَأَمْرَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْأَعْرَابِ وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ فِي طَاعَتِي وَإِلَّا فَكَايِدُوهُمْ حَتَّى نُهْلِكَهُمْ.
فَأَقْبَلَ الْعَبَّاسُ بْنُ سَهْلٍ حَتَّى لَقِيَ ابْنَ وَرْسٍ بِالرَّقِيمِ وَقَدْ تَعَبَّى ابْنُ وَرْسٍ فِي جَيْشِهِ، فَاجْتَمَعَا عَلَى مَاءٍ هُنَالِكَ فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: أَلَسْتُمْ فِي طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ؟ فَقَالَ بَلَى. قَالَ فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ نَذْهَبَ إِلَى وَادِي الْقُرَى فَنُقَاتِلُ مَنْ بِهِ مِنَ الشَّامِيِّينَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ وَرْسٍ: فَإِنِّي لَمْ أُومَرْ بِطَاعَتِكَ، وَإِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَدْخُلَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ أَكْتُبَ إِلَى صَاحِبِي فَيَأْمُرَنِي بِأَمْرِهِ. فَفَهِمَ عَبَّاسٌ مَغْزَاهُ، وَلَمْ يُظْهِرْ لَهُ أَنَّهُ فَطِنَ لِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: رَأْيُكَ أَفْضَلُ، فَاعْمَلْ مَا بَدَا لَكَ، ثُمَّ نَهَضَ الْعَبَّاسُ مِنْ عِنْدِهِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الْجُزُرَ وَالْغَنَمَ وَالدَّقِيقَ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَهُمْ حَاجَةٌ أَكِيدَةٌ إِلَى

ذَلِكَ، وَجُوعٌ كَثِيرٌ فَجَعَلُوا يَذْبَحُونَ وَيَطْبُخُونَ وَيَخْتَبِزُونَ وَيَأْكُلُونَ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ بَيَّتَهُمْ عَبَّاسُ بْنُ سَهْلٍ فَقَتَلَ أَمِيرَهُمْ وَطَائِفَةً مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ وَأَسَرَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ وَرَجَعَ الْقَلِيلُ مِنْهُمْ إِلَى الْمُخْتَارِ وَإِلَى بِلَادِهِمْ خَائِبِينَ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي يُوسُفُ أَنَّ عَبَّاسَ بْنَ سَهْلٍ انْتَهَى إِلَيْهِمْ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا ابْنُ سَهْلٍ فَارِسٌ غَيْرُ وَكَلْ أَرْوَعُ مِقْدَامٌ إِذَا الْكَبْشُ نَكَلْ وَأَعْتَلِي رَأْسَ الطِّرِمَّاحِ الْبَطَلْ
بِالسَّيْفِ يَوْمَ الرَّوْعِ حَتَّى يُنْخَزَلْ
فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُمُ الْمُخْتَارَ قَامَ فِي أَصْحَابِهِ خَطِيبًا فَقَالَ: إِنَّ الْفُجَّارَ الْأَشْرَارَ قَتَلُوا الْأَبْرَارَ الْأَخْيَارَ، أَلَا إِنَّهُ كَانَ أَمْرًا مَأْتِيًّا وَقَضَاءً مَقْضِيًّا، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ مَعَ صَالِحِ بْنِ مَسْعُودٍ الْخَثْعَمِيِّ كِتَابًا يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّهُ بَعَثَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَيْشًا لِنُصْرَتِهِ فَغَدَرَ بِهِمْ جَيْشُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ أَبْعَثَ جَيْشًا آخَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَبْعَثُ مِنْ قِبَلِكَ رُسُلًا إِلَيْهِمْ فَافْعَلْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَحَبَّ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَيَّ مَا أُطِيعُ اللَّهَ فِيهِ، فَأَطِعِ اللَّهَ فِيمَا أَسْرَرْتَ وَأَعْلَنْتَ، وَاعْلَمْ أَنِّي لَوْ أَرَدْتُ الْقِتَالَ لَوَجَدْتُ النَّاسَ إِلَيَّ سِرَاعًا، وَالْأَعْوَانَ لِي كَثِيرَةً، وَلَكِنِّي أَعْتَزِلُهُمْ وَأَصْبِرُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، وَقَالَ لِصَالِحِ بْنِ مَسْعُودٍ: قُلْ لِلْمُخْتَارِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَكْفُفْ عَنِ الدِّمَاءِ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ كِتَابُ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ

قَالَ: إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ بِجَمْعِ الْبِرِّ وَالْيُسْرِ، وَبِطَرْحِ الْكُفْرِ وَالْغَدْرِ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْمَدَائِنِيِّ، وَ أَبَى مِخْنَفٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَمَدَ إِلَى ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَسَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَحَبَسَهُمْ حَتَّى يُبَايِعُوهُ، فَكَرِهُوا أَنْ يُبَايِعُوا إِلَّا مَنِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ فَتَهَدَّدَهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ وَاعْتَقَلَهُمْ بِزَمْزَمَ، فَكَتَبُوا إِلَى الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ يَسْتَصْرِخُونَهُ وَيَسْتَنْصِرُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ تَوَعَّدَنَا بِالْقَتْلِ وَالْحَرِيقِ فَلَا تَخْذُلُونَا كَمَا خَذَلْتُمُ الْحُسَيْنَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ. فَجَمَعَ الْمُخْتَارُ الشِّيعَةَ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ وَقَالَ: هَذَا كِتَابُ الْمَهْدِيِّ وَصَرِيخُ أَهْلِ الْبَيْتِ، قَدْ أَصْبَحُوا مَحْصُورِينَ يَنْتَظِرُونَ الْقَتْلَ وَالتَّحْرِيقَ. وَقَالَ: لَسْتُ أَبَا إِسْحَاقَ إِنْ لَمْ أَنْصُرْهُمْ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، وَإِنْ لَمْ أُسَرِّبْ إِلَيْهِمُ الْخَيْلَ كَالسَّيْلِ يَتْلُوهُ السَّيْلُ، حَتَّى يَحِلَّ بِابْنِ الْكَاهِلِيَّةِ الْوَيْلُ. ثُمَّ وَجَّهَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيَّ فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا مِنْ أَهْلِ الْقُوَّةِ، وَظَبْيَانَ بْنَ عُمَارَةَ التَّمِيمِيَّ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَبَا الْمُعْتَمِرِ فِي مِائَةٍ، وَهَانِئَ بْنَ قَيْسٍ فِي مِائَةٍ، وَعُمَيْرَ بْنَ طَارِقٍ فِي أَرْبَعِينَ، وَيُونُسَ بْنَ عِمْرَانَ فِي أَرْبَعِينَ، وَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ مَعَ

الطُّفَيْلِ بْنِ عَامِرٍ بِتَوْجِيهِ الْجُنُودِ إِلَيْهِ، فَنَزَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيُّ بِذَاتِ عِرْقٍ حَتَّى تَلَاحَقَ بِهِ نَحْوٌ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَارِسًا، ثُمَّ سَارَ بِهِمْ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ نَهَارًا جِهَارًا، وَهُمْ يَقُولُونَ: يَا ثَارَاتِ الْحُسَيْنِ. وَقَدْ أَعَدَّ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحَطَبَ لِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَأَصْحَابِهِ لِيُحَرِّقَهُمْ بِهِ إِنْ لَمْ يُبَايِعُوا، وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْأَجَلِ يَوْمَانِ، فَعَمَدُوا - يَعْنِي أَصْحَابَ الْمُخْتَارِ - إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَأَطْلَقُوهُ مِنْ سِجْنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَالُوا: إِنْ أَذِنْتَ لَنَا قَاتَلْنَا ابْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَرَى الْقِتَالَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. فَقَالَ لَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لَيْسَ يَبْرَحُ وَتَبْرَحُونَ حَتَّى يُبَايِعَ وَتُبَايِعُوا مَعَهُ، فَامْتَنَعُوا عَلَيْهِ ثُمَّ لَحِقَهُمْ بَقِيَّةُ أَصْحَابِهِمْ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ وَهُمْ دَاخِلُونَ الْحَرَمَ: يَا ثَارَاتِ الْحُسَيْنِ فَلَمَّا رَأَى ابْنُ الزُّبَيْرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ خَافَهُمْ وَكَفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ أَخَذُوا مُحَمَّدَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَخَذُوا مِنَ الْحَجِيجِ مَالًا كَثِيرًا فَسَارَ بِهِمْ حَتَّى دَخَلَ شِعْبَ عَلِيٍّ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ رَجُلٍ فَقَسَّمَ بَيْنَهُمْ ذَلِكَ الْمَالَ، هَكَذَا أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي صِحَّتِهَا نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَكَانَ نَائِبُهُ بِالْمَدِينَةِ أَخَاهُ مُصْعَبًا، وَنَائِبُهُ عَلَى الْبَصْرَةِ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَقَدِ اسْتَحْوَذَ الْمُخْتَارُ عَلَى الْكُوفَةِ، وَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ عَلَى بِلَادِ خُرَاسَانَ وَذَكَرَ حُرُوبًا جَرَتْ فِيهَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا.

فَصْلٌ ( شُخُوصُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ )

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ وَذَلِكَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ مَشَايِخِهِ: مَا هُوَ إِلَّا أَنْ فَرَغَ الْمُخْتَارُ مِنْ جَبَّانَةِ السَّبِيعِ وَأَهْلِ الْكُنَاسَةِ، فَمَا نَزَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ إِلَّا يَوْمَيْنِ حَتَّى أَشْخَصَهُ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ وَجَّهَهُ لَهُ لِقِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ ; فَخَرَجَ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ، وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُخْتَارُ يُودِّعُهُ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ خَاصَّةُ الْمُخْتَارِ، وَمَعَهُمْ كُرْسِيُّ الْمُخْتَارِ عَلَى بَغْلٍ أَشْهَبَ لِيَسْتَنْصِرُوا بِهِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَهُمْ حَافُّونَ بِهِ يَدْعُونَ وَيَسْتَصْرِخُونَ وَيَسْتَنْصِرُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ، فَرَجَعَ الْمُخْتَارُ بَعْدَ أَنْ وَصَّاهُ بِثَلَاثٍ ; قَالَ: يَا ابْنَ الْأَشْتَرِ، اتَّقِ اللَّهَ فِي سِرِّكَ وَعَلَانِيَتِكَ، وَأَسْرَعِ السَّيْرَ وَعَاجِلْ عَدُوَّكَ بِالْقِتَالِ. وَاسْتَمَرَّ أَصْحَابُ الْكُرْسِيِّ سَائِرِينَ مَعَ ابْنِ الْأَشْتَرِ، فَجَعْلَ ابْنُ الْأَشْتَرِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا، سُنَّةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِذْ عَكَفُوا عَلَى عِجْلِهِمْ. فَلَمَّا جَاوَزَ الْقَنْطَرَةَ إِبْرَاهِيمُ وَأَصْحَابُهُ انْصَرَفَ أَصْحَابُ الْكُرْسِيِّ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ سَبَبُ اتِّخَاذِ هَذَا الْكُرْسِيِّ مَا حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ

أَحْمَدَ بْنِ شَبُّوَيْهِ، حَدَّثَنِي أَبِي، ثَنَا سُلَيْمَانُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنِي طُفَيْلُ بْنُ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ قَالَ: أَعْدَمْتُ مَرَّةً مِنَ الْوَرِقِ فَإِنِّي لَكَذَلِكَ إِذْ مَرَرْتُ بِبَابِ جَارٍ لِي لَهُ كُرْسِيٌّ قَدْ رَكِبَهُ وَسَخٌ شَدِيدٌ، فَخَطَرَ عَلَى بَالِي أَنْ لَوْ قُلْتُ فِي هَذَا، فَرَجَعْتُ فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ أَنْ أَرْسِلْ إِلَيَّ بِالْكُرْسِيِّ، فَأَرْسَلَ بِهِ، فَأَتَيْتُ الْمُخْتَارَ فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي كُنْتُ أَكْتُمُكَ شَيْئًا وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ أَذْكُرَهُ لَكَ. قَالَ: وَمَا هُوَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: كَرِّسِيٌّ كَانَ جَعْدَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ فِيهِ أَثَرَةً مِنْ عِلْمٍ. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! فَأَخَّرْتَ هَذَا إِلَى الْيَوْمِ ؟ ابْعَثْ إِلَيْهِ. قَالَ: فَجِئْتُ بِهِ وَقَدْ غُسِلَ فَخَرَجَ عُودًا نُضَارًا وَقَدْ تَشْرَّبَ الزَّيْتَ، فَأَمَرَ لِي بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ نُودِيَ فِي النَّاسِ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً. قَالَ: فَخَطَبَ الْمُخْتَارُ النَّاسَ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ أَمْرٌ إِلَّا وَهُوَ كَائِنٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مِثْلُهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ التَّابُوتُ يُنْصَرُونَ بِهِ، وَإِنَّ هَذَا مِثْلُهُ. ثُمَّ أَمَرَ فَكُشِفَ عَنْهُ أَثْوَابُهُ، وَقَامَتِ السَّبَئِيَّةُ فَرَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ وَكَبَّرُوا ثَلَاثًا، فَقَامَ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ فَأَنْكَرَ عَلَى النَّاسِ وَكَادَ أَنْ يَكَفِّرَ مَنْ يَصْنَعُ بِهَذَا التَّابُوتِ هَذَا التَّعْظِيمَ، وَأَشَارَ بِأَنْ يُكْسَرَ

وَيُخْرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَيُرْمَى بِهِ فِي الْحُشِّ، فَشَكَرَهَا النَّاسُ لِشَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ فَلَمَّا قِيلَ: هَذَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ قَدْ أَقْبَلَ. وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ بَعْثَ مَعَهُ بِالْكُرْسِيِّ يُحْمَلُ عَلَى بَغْلٍ أَشْهَبَ قَدْ غُشِّيَ بِأَثْوَابِ الْحَرِيرِ، عَنْ يَمِينِهِ سَبْعَةٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ سَبْعَةٌ، فَلَمَّا تَوَاجَهُوا مَعَ الشَّامِيِّينَ - كَمَا سَيَأْتِي - وَغَلَبُوا الشَّامِيِّينَ وَقَتَلُوا ابْنَ زِيَادٍ، ازْدَادَ تَعْظِيمُهُمْ لِهَذَا الْكُرْسِيِّ حَتَّى بَلَغُوا بِهِ الْكُفْرَ، قَالَ الطُّفَيْلُ بْنُ جَعْدَةَ فَقُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَنَدِمْتُ عَلَى مَا صَنَعْتُ. وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي هَذَا الْكُرْسِيِّ، وَكَثُرَ عَيْبُ النَّاسِ لَهُ فَغُيِّبَ حَتَّى لَا يُرَى بَعْدَ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْكَلْبَيِّ أَنَّ الْمُخْتَارَ طَلَبَ مِنْ آلِ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ الْكُرْسِيَّ الَّذِي كَانَ عَلِيٌّ يَجْلِسُ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ مِمَّا يَقُولُ الْأَمِيرُ. فَأَلَحَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَوْ جَاءُوا بِأَيِّ كُرْسِيٍّ كَانَ لَقَبِلَهُ مِنْهُمْ، فَحَمَلُوا إِلَيْهِ كُرْسِيًّا مِنْ بَعْضِ الدُّورِ، فَقَالُوا: هَذَا هُوَ، فَخَرَجَتْ شِبَامٌ وَشَاكِرٌ وَسَائِرُ رُءُوسِ الْمُخْتَارِ بِهِ، وَقَدْ عَصَّبُوهُ بِالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ.
وَحَكَى أَبُو مِخْنَفٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ سَدَنَ هَذَا الْكُرْسِيَّ مُوسَى بْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، ثُمَّ إِنَّهُ عُتِبَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَدَفَعَهُ إِلَى حَوْشَبٍ الْبُرْسُمِيِّ، فَكَانَ صَاحِبَهُ حَتَّى هَلَكَ الْمُخْتَارُ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَيُرْوَى أَنَّ الْمُخْتَارَ كَانَ يُظْهِرُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِمَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُهُ هَذَا الْكُرْسِيَّ.

وَقَدْ قَالَ فِي هَذَا الْكُرْسِيِّ أَعْشَى هَمْدَانَ:
شَهِدْتُ عَلَيْكُمْ أَنَّكُمْ سَبَئِيَّةٌ وَإِنِّي بِكُمْ يَا شُرْطَةَ الشِّرْكِ عَارِفُ وَأُقْسِمُ مَا كُرْسِيُّكُمْ بِسَكِينَةٍ
وَإِنْ كَانَ قَدْ لُفَّتْ عَلَيْهِ اللَّفَائِفُ وَأَنْ لَيْسَ كَالتَّابُوتِ فِينَا وَإِنْ سَعَتْ
شِبَامٌ حَوَالَيْهِ وَنَهْدٌ وَخَارِفُ وَإِنِّي امْرُؤٌ أَحْبَبْتُ آلَ مُحَمَّدٍ
وَتَابَعْتُ وَحَيًا ضُمِّنَتْهُ الْمَصَاحِفُ وَتَابَعْتُ عَبْدَ اللَّهِ لَمَّا تَتَابَعَتْ
عَلَيْهِ قُرَيْشٌ شُمْطُهَا وَالْغَطَارِفُ
وَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ اللَّيْثِيُّ:
أَبْلِغْ أَبَا إِسْحَاقَ إِنْ جِئْتَهُ أَنِّي بِكُرْسِيِّكُمْ كَافِرُ
تَنْزُوا شِبَامٌ حَوْلَ أَعْوَادِهِ وَتَحْمِلُ الْوَحَيَ لَهُ شَاكِرُ
مُحْمَرَّةً أَعْيُنُهُمْ حَوْلَهُ كَأَنَّهُنَّ الْحِمَّصُ الْحَادِرُ
قُلْتُ: هَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ عَقْلِ الْمُخْتَارِ وَأَتْبَاعِهِ وَضَعْفِهِ وَقِلَّةِ عِلْمِهِ وَكَثْرَةِ جَهْلِهِ وَرَدَاءَةِ فَهْمِهِ وَتَرْوِيجِهِ الْبَاطِلَ عَلَى أَتْبَاعِهِ وَتَشْبِيهِهِ الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ لِيُضِلَّ بِهِ الطَّغَامَ وَيَجْمَعَ عَلَيْهِ جُهَّالَ الْعَوَامِّ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ فِي مِصْرَ طَاعُونٌ هَلَكَ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَفِيهَا ضَرَبَ الدَّنَانِيرَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ بِمِصْرَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَهَا بِهَا.

قَالَ صَاحِبُ مِرْآةَ الزَّمَانِ: وَفِيهَا ابْتَدَأَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بِبِنَاءِ الْقُبَّةِ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَعِمَارَةِ الْجَامِعِ الْأَقْصَى، وَكَمَلَتْ عِمَارَتُهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى مَكَّةَ، وَكَانَ يَخْطُبُ فِي أَيَّامِ مِنًى وَعَرَفَةَ، وَمُقَامَ النَّاسِ بِمَكَّةَ، وَيَنَالُ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَيَذْكُرُ مَسَاوِئَ بَنِي مَرْوَانَ، وَيَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْحَكَمَ وَمَا نَسَلَ، وَإِنَّهُ طَرِيدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَعِينُهُ، وَكَانَ يَدْعُو إِلَى نَفْسِهِ، وَكَانَ فَصِيحًا، فَمَالَ مُعْظَمُ أَهْلِ الشَّامِ إِلَيْهِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الْمَلِكِ فَمَنْعَ النَّاسِ مِنَ الْحَجِّ فَضَجُّوا، فَبَنَى لَهُمُ الْقُبَّةَ عَلَى الصَّخْرَةِ وَالْجَامِعَ الْأَقْصَى ; لِيَشْغَلَهُمْ بِذَلِكَ عَنِ الْحَجِّ وَيَسْتَعْطِفَ قُلُوبَهُمْ وَكَانُوا يَقِفُونَ عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَيَطُوفُونَ حَوْلَهَا كَمَا يَطُوفُونَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَيَنْحَرُونَ يَوْمَ الْعِيدِ وَيَحْلِقُونَ رُءُوسَهُمْ فَفَتَحَ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ تَشْنِيعِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَيْهِ، فَكَانَ يُشَنِّعُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ وَيَقُولُ ضَاهَى بِهَا فِعْلَ الْأَكَاسِرَةِ فِي إِيوَانِ كِسْرَى، وَالْخَضْرَاءَ كَمَا فَعَلَ مُعَاوِيَةُ، وَنَقْلَ الطَّوَافَ مِنْ بَيْتِ اللَّهِ إِلَى قِبْلَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَلَمَّا أَرَادَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِنَاءَهَا سَارَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَعَهُ الْأَمْوَالُ وَالْعُمَّالُ، وَوَكَّلَ بِالْعَمَلِ رَجَاءَ بْنَ حَيْوَةَ، وَيَزِيدَ بْنَ سَلَّامٍ مَوْلَاهُ، وَجَمَعَ الصُّنَّاعَ وَالْمُهَنْدِسِينَ فَأَمْرَهُمْ فَصَوَّرُوا لَهُ الْقُبَّةَ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ فَأَعْجَبَهُ، وَبَنَى لِلْمَالِ بَيْتًا شَرْقِيَّ الْقُبَّةِ، وَشَحَنَهُ بِالْمَالِ، وَأَمَرَ رَجَاءَ بْنَ حَيْوَةَ، وَيَزِيدَ أَنْ يُفْرِغَا

الْأَمْوَالَ إِفْرَاغًا، وَلَا يَتَوَقَّفَا فِيهِ، فَبَثُّوا النَّفَقَاتِ وَأَكْثَرُوا فَبَنَوُا الْقُبَّةَ الَّتِي هِيَ الْيَوْمَ قَائِمَةٌ، وَبَنَوْا مِنْ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ سَبْعَ قِبَابٍ، وَالْقُبَّةُ الَّتِي بَاقِيَةٌ الْيَوْمَ عَلَى الْمِحْرَابِ هِيَ أَوْسَطُهَا، وَلَمَّا تَمَّ بِنَاءُ الْقُبَّةِ عَمِلَ لَهَا جَلَّالَيْنِ ; أَحَدُهُمَا مِنْ لَبُّودٍ أَحْمَرَ لِلشِّتَاءِ، وَالْآخَرُ مِنْ أُدُمٍ لِلصَّيْفِ، وَحَفَّ الصَّخْرَةَ بِدَرَابِزِينَ مِنَ السَّاجِ الْمُطَعَّمِ بِالْيَشْمِ، وَخَلْفَ الدَّرَابِزِينِ سُتُورٌ مِنَ الدِّيبَاجِ مُرْخَاةً بَيْنَ الْعُمُدِ، وَكَانَتِ السَّدَنَةُ كُلَّ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنٍ يَذُوِّبُونَ الْمِسْكَ، وَالْعَنْبَرَ وَالْمَاوَرْدَ وَالزَّعْفَرَانَ وَيَعْمَلُونَ مِنْهُ غَالِيَةً، وَيُخَمِّرُونَهَا مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ يَدْخُلُ الْخَدَمُ الْحَمَّامَ مِنَ اللَّيْلِ

فَيَغْتَسِلُونَ وَيَتَطَيَّبُونَ، وَيَلْبَسُونَ ثِيَابَ الْوَشْيِ، وَيَشُدُّونَ أَوْسَاطَهُمْ بِالْمَنَاطِقِ الْمُحَلَّاةِ بِالذَّهَبِ وَيُخْلِّقُونَ الصَّخْرَةَ، ثُمَّ يَضَعُونَ الْبَخُورَ فِي مَجَامِرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَفِيهَا الْعُودُ الْقَمَارِيُّ الْمَغْلِيُّ بِالْمِسْكِ، وَيُرْخِي السَّدَنَةُ السُّتُورَ فَتَخْرُجُ تِلْكَ الرَّائِحَةُ فَتَمْلَأُ الْمَدِينَةَ كُلَّهَا، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: أَلَا إِنَّ الصَّخْرَةَ قَدْ فُتِحَتْ، فَمَنْ أَرَادَ الزِّيَارَةَ فَلْيَأْتِ، فَيُقْبِلُ النَّاسُ مُبَادِرِينَ، فَيُصَلُّونَ وَيَخْرُجُونَ، فَمَنْ وُجِدَتْ مِنْهُ رَائِحَةُ الْبَخُورِ قَالَ النَّاسُ: هَذَا كَانَ الْيَوْمَ فِي الصَّخْرَةِ.
وَأَبْوَابُ الصَّخْرَةِ أَرْبَعَةٌ، عَلَى كُلِّ بَابٍ عَشَرَةٌ مِنَ الْحَجَبَةِ، الْبَابُ الشَّمَالِيُّ يُسَمَّى بَابَ الْجَنَّةِ، وَالشَّرْقِيُّ بَابَ إِسْرَائِيلَ، وَالْغَرْبِيُّ بَابَ جِبْرِيلَ، وَالْقِبْلِيُّ بَابَ الْأَقْصَى، وَكَانُوا يُشْعِلُونَهَا بِدُهْنِ الْبَانِ، وَلَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ غَيْرَ أَيَّامِ الزِّيَارَةِ سِوَى الْخَدَمِ، وَكَانَ لِلْحَرَمِ عِشْرُونَ بَابًا، وَكَانَ فِيهِ أَلْفَ عَمُودٍ مِنَ الرُّخَامِ، وَفِي السُّقُوفِ سِتُّونَ أَلْفَ خَشَبَةٍ مِنَ السَّاجِ الْمَنْقُوشِ، وَمِنَ الْقَنَادِيلِ خَمْسَةُ آلَافِ قِنْدِيلٍ، وَكَانَ فِيهِ أَرْبَعُمِائَةِ سِلْسِلَةٍ، كُلُّ سِلْسِلَةٍ أَلْفُ رِطْلٍ شَامِيٍّ، طُولُ السَّلَاسِلِ ثَلَاثُونَ أَلْفَ ذِرَاعٍ، وَكَانَ يُوقَدُ فِي الصَّخْرَةِ كُلَّ لَيْلَةٍ مِائَةُ شَمْعَةٍ، وَكَذَا فِي الْأَقْصَى، وَكَانَ يُوقَدُ فِي الْقَنَادِيلِ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنَ الزَّيْتِ الْمَفْتُولِ قِنْطَارٌ، وَكَانَ فِي الْحَرَمِ خَمْسُونَ قُبَّةً، وَمِنْ أَلْوَاحِ الرَّصَاصِ سَبْعُونَ أَلْفَ لَوْحٍ، وَكَانَ فِي الْحَرَمِ ثَلَاثُمِائَةِ خَادِمٍ ابْتَاعُوا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِنَ الْخُمْسِ، كُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ قَامَ وَلَدُهُ بَعْدَهُ مَقَامَهُ، وَيَقْبِضُونَ أَرْزَاقَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ شَهْرًا بِشَهْرٍ، وَكَانَ فِي الْحَرَمِ مِائَةُ

صِهْرِيجٍ، وَكَانَتْ صَفَائِحُ الْقُبَّةِ وَسَقْفُ الْأَقْصَى مِنْ صَفَائِحِ الذَّهَبِ عِوَضَ الرَّصَاصِ، وَكَذَلِكَ أَبْوَابُ الْقُبَّةِ صَفَائِحُهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَمَلَ الْبِنَاءُ فَضَلَ مِنَ الْمَالِ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقِيلَ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ. وَكَتَبَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ، وَ يَزِيدُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعَرِّفَانِهِ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمَا: قَدْ جَعَلْتُهُ لَكُمَا عِوَضًا عَنْ تَعَبِكُمَا. فَكَتَبَا إِلَيْهِ: إِنَّمَا قُمْنَا بِهَذَا الْبَيْتِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا نَقْبَلُ عَلَى ذَلِكَ عَرَضَ الدُّنْيَا، وَلَوَدِدْنَا أَنْ نَزِيدَ فِيهِ مِنْ حَلْيِ نِسَائِنَا. فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ إِذَا أَبَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَفْرِغَاهُ عَلَى الْقُبَّةِ وَالْأَبْوَابِ، فَمَا كَانَ أَحَدٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَأَمَّلَ الْقُبَّةَ مِمَّا عَلَيْهَا مِنَ الذَّهَبِ. فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ قَدِمَ الْقُدْسَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ فَوَجْدَ الْأَقْصَى وَقِبَابُهُ تَشْكُو مِنَ الْخَرَابِ، فَأَمَرَ بِقَلْعِ الصَّفَائِحِ الَّتِي عَلَى الْقُبَّةِ وَالْأَبْوَابِ، وَأَنْ يُعَمَّرَ بِهَا مَا تَشَعَّثَ فِي الْحَرَمِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ طَوِيلًا فَأَمَرَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ طُولِهِ وَيُزَادَ فِي عَرْضِهِ، وَلَمَّا كَمَلَ الْبِنَاءُ كَتَبُوا عَلَى الْقُبَّةِ مِمَّا يَلِي الْبَابَ الْقِبْلِيَّ مِنْ جِهَةِ الْأَقْصَى بِالنَّصِّ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ: بَنَى هَذِهِ الْقُبَّةَ عَبْدُ اللَّهِ عَبْدُ الْمَلِكِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَكَانَ طُولُ الْمَسْجِدِ مِنَ الْقِبْلَةِ إِلَى الشَّمَالِ سَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَسِتِّينَ ذِرَاعًا، وَعَرَضُهُ أَرْبَعَمِائَةٍ وَسِتِّينَ ذِرَاعًا، وَكَانَ فَتْحُ الْقُدْسِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ

فَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ عَلَى يَدَيْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ ; وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ خَرَجَ مِنَ الْكُوفَةِ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، ثُمَّ اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُوَ سَائِرٌ لِقَصْدِ ابْنِ زِيَادٍ فِي أَرْضِ الْمَوْصِلِ فَكَانَ اجْتِمَاعُهُمَا بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الْخَازِرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْصِلِ خَمْسَةُ فَرَاسِخَ، فَبَاتَ ابْنُ الْأَشْتَرِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ سَاهِرًا لَا يَغْتَمِضُ بِنَوْمٍ، فَلَمَّا كَانَ قَرِيبَ الصُّبْحِ نَهَضَ فَعَبَّأَ جَيْشَهُ وَكَتَّبَ كَتَائِبَهُ، وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الْفَجْرَ فِي أَوَّلِ وَقْتٍ، ثُمَّ رَكِبَ فَنَاهَضَ جَيْشَ ابْنِ زِيَادٍ وَزَحَفَ بِجَيْشِهِ رُوَيْدًا وَهُوَ مَاشٍ فِي الرَّجَّالَةِ حَتَّى أَشْرَفَ مِنْ فَوْقِ تَلٍّ عَلَى جَيْشِ ابْنِ زِيَادٍ، فَإِذَا هُمْ لَمْ يَتَحَرَّكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ نَهَضُوا إِلَى خَيْلِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ مَدْهُوشِينَ، فَرَكَبَ ابْنُ الْأَشْتَرِ فَرَسَهُ وَجَعَلَ يَقِفُ عَلَى رَايَاتِ الْقَبَائِلِ فَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى قِتَالِ ابْنِ زِيَادٍ وَيَقُولُ: هَذَا قَاتَلُ ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ جَاءَكُمُ اللَّهُ بِهِ وَأَمْكَنَكُمُ اللَّهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، فَعَلَيْكُمْ بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ فَعَلَ فِي ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ فِرْعَوْنُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ! هَذَا ابْنُ زِيَادٍ قَاتِلُ الْحُسَيْنِ الَّذِي حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَاءِ الْفُرَاتِ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ هُوَ وَأَوْلَادُهُ وَنِسَاؤُهُ، وَمَنَعَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى بَلَدِهِ أَوْ يَأْتِيَ يَزِيدَ بْنَ

مُعَاوِيَةَ حَتَّى قَتَلَهُ ! وَيْحَكُمْ، اشْفُوا صُدُورَكُمْ مِنْهُ، وَارْوُوا رِمَاحَكُمْ وَسُيُوفَكُمْ مِنْ دَمِهِ، هَذَا الَّذِي فَعَلَ فِي آلِ نَبِيِّكُمْ مَا فَعَلَ، قَدْ جَاءَكُمُ اللَّهُ بِهِ. ثُمَّ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ وَأَمْثَالِهِ، ثُمَّ نَزَلَ تَحْتَ رَايَتِهِ.
وَأَقْبَلَ ابْنُ زِيَادٍ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ قَدْ جَعَلَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ حُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عُمَيْرَ بْنَ الْحُبَابِ السُّلَمِيَّ، وَكَانَ قَدِ اجْتَمَعَ بِابْنِ الْأَشْتَرِ وَوَعْدَهُ أَنَّهُ مَعَهُ وَأَنَّهُ سَيَنْهَزِمُ بِالنَّاسِ غَدًا وَعَلَى خَيْلِ ابْنِ زِيَادٍ شُرَحْبِيلُ بْنُ ذِي الْكَلَاعِ، وَابْنُ زِيَادٍ فِي الرَّجَّالَةِ يَمْشِي مَعَهُمْ، فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ تَوَاقَفَ الْفَرِيقَانِ حَتَّى حَمَلَ حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ بِالْمَيْمَنَةِ عَلَى مَيْسَرَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَهَزَمَهَا، وَقُتِلَ أَمِيرُهَا عَلِيُّ بْنُ مَالِكٍ الْجُشَمِيُّ فَأَخْذَ رَايَتَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ قُرَّةُ بْنُ عَلِيٍّ فَقُتِلَ أَيْضًا، وَاسْتَمَرَّتِ الْمَيْسَرَةُ ذَاهِبَةً فَجَعَلَ ابْنُ الْأَشْتَرِ يُنَادِيهِمْ: إِلَيَّ يَا شُرْطَةَ اللَّهِ، أَنَا ابْنُ الْأَشْتَرِ. وَقَدْ كَشَفَ عَنْ رَأْسِهِ لِيَعْرِفُوهُ فَالْتَاثُوا بِهِ وَانْعَطَفُوا عَلَيْهِ، وَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ حَمَلَتْ مَيْمَنَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ عَلَى مَيْسَرَةِ أَهْلِ الشَّامِ وَقِيلَ: بَلِ انْهَزَمَتْ مَيْسَرَةُ أَهْلِ الشَّامِ وَانْحَازَتْ إِلَى ابْنِ الْأَشْتَرِ، ثُمَّ حَمَلَ ابْنُ الْأَشْتَرِ بِمَنْ مَعَهُ وَجَعَلَ يَقُولُ لِصَاحِبِ رَايَتِهِ: ادْخُلْ بِرَايَتِكَ فِيهِمْ. وَقَاتَلَ ابْنُ الْأَشْتَرِ يَوْمَئِذٍ قِتَالًا عَظِيمًا، وَكَانَ لَا يَضْرِبُ بِسَيْفِهِ رَجُلًا إِلَّا صَرَعَهُ، وَكَثُرَتِ الْقَتْلَى بَيْنَهُمْ وَقِيلَ: إِنَّ

مَيْسَرَةَ أَهْلِ الشَّامِ ثَبَتُوا وَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا بِالرِّمَاحِ ثُمَّ بِالسُّيُوفِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الْحَمْلَةَ ابْنُ الْأَشْتَرِ، فَانْهَزَمَ جَيْشُ الشَّامِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَقْتُلُهُمْ كَمَا تُقْتَلُ الْحُمْلَانِ، وَأَتْبَعَهُمْ بِنَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الشُّجْعَانِ، وَثَبَتَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ فِي مَوْقِفِهِ حَتَّى اجْتَازَ بِهِ ابْنُ الْأَشْتَرِ فَقَتَلَهُ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ، لَكِنْ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: الْتَمِسُوا فِي الْقَتْلَى رَجُلًا ضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ فَنَفَحَنِي مِنْهُ رِيحُ الْمِسْكِ، شَرَّقَتْ يَدَاهُ وَغَرَّبَتْ رِجْلَاهُ وَهُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ رَايَةٍ مُنْفَرِدَةٍ عَلَى شَاطِئِ نَهْرِ خَازِرَ، فَالْتَمَسُوهُ فَإِذَا هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ وَإِذَا هُوَ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنُ الْأَشْتَرِ فَقَطَعَهُ نِصْفَيْنِ، فَاحْتَزُّوا رَأَسَهُ وَبَعَثُوهُ إِلَى الْمُخْتَارِ إِلَى الْكُوفَةِ مَعَ الْبِشَارَةِ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِأَهْلِ الشَّامِ. وَقُتِلَ مِنْ رُءُوسِ أَهْلِ الشَّامِ أَيْضًا حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، وَ شُرَحْبِيلُ بْنُ ذِي الْكَلَاعِ، وَأَتْبَعَ الْكُوفِيُّونَ أَهْلَ الشَّامِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً وَغَرِقَ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ قُتِلَ، وَاحْتَازُوا مَا كَانَ فِي مُعَسْكَرِهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْخُيُولِ.
وَقَدْ كَانَ الْمُخْتَارُ بِشَّرَ أَصْحَابَهُ بِالنَّصْرِ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ الْخَبَرُ فَمَا نَدْرِي أَكَانَ ذَلِكَ تَفَاؤُلًا مِنْهُ أَوِ اتِّفَاقًا وَقْعَ لَهُ أَوْ كِهَانَةً - وَأَمَّا عَلَى مَا كَانَ يَزْعُمُ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ فَلَا، فَإِنَّ مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ كَفَرَ، وَمَنْ أَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَفَرَ - لَكِنْ قَالَ: إِنَّ الْوَقْعَةَ كَانَتْ بِنَصِيبِينَ. فَأَخْطَأَ مَكَانَهَا، فَإِنَّهَا إِنَّمَا كَانَتْ بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ، وَهَذَا مِمَّا انْتَقَدَهُ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ عَلَى أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ حِينَ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِالْفَتْحِ، وَقَدْ خَرَجَ الْمُخْتَارُ مِنَ الْكُوفَةِ لِيَتَلَقَّى الْبِشَارَةَ، فَأَتَى الْمَدَائِنَ فَصَعِدَ

مِنْبَرَهَا، فَبَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ إِذْ جَاءَتْهُ الْبِشَارَةُ وَهُوَ هُنَالِكَ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَقَالَ لِي بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَمَا سَمِعْتُهُ بِالْأَمْسِ يُخْبِرُنَا بِهَذَا ؟ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْوَقْعَةَ كَانَتْ بِنَصِيبِينَ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ وَإِنَّمَا قَالَ الْبَشِيرُ: إِنَّهُمْ كَانُوا بِالْخَازِرِ مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا تُؤْمِنُ يَا شَعْبِيُّ حَتَّى تَرَى الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.
ثُمَّ رَجَعَ الْمُخْتَارُ إِلَى الْكُوفَةِ وَفَى غَيْبَتِهِ هَذِهِ تَمَكَّنَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ كَانَ قَاتَلَهُ يَوْمَ جَبَّانَةِ السَّبِيعِ وَالْكُنَاسَةِ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْبَصْرَةِ ; لِيَجْتَمِعُوا بِمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ مِنْهُمْ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَأَمَّا ابْنُ الْأَشْتَرِ فَإِنَّهُ بَعَثَ بِالْبِشَارَةِ وَرَأَسِ عُبَيْدِ اللَّهِ إِلَى الْمُخْتَارِ، وَاسْتَقَلَّ هُوَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ فَبَعَثَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى نِيَابَةِ نَصِيبِينَ، وَبَعَثَ عُمَّالًا إِلَى الْمَوْصِلِ، وَأَخَذَ سِنْجَارَ وَدَارَا وَمَا وَالَاهَا مِنَ الْجَزِيرَةِ.
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ: كَانَ مَقْتَلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ يَوْمَ عَاشُورَاءَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَالصَّوَابُ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ.

وَقَدْ قَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مِرْدَاسٍ الْبَارِقِيُّ يَمْدَحُ ابْنَ الْأَشْتَرِ عَلَى قَتْلِهِ ابْنَ زِيَادٍ:
أَتَاكُمْ غُلَامٌ مِنْ عَرَانِينِ مَذْحِجٍ جَرِيءٌ عَلَى الْأَعْدَاءِ غَيْرُ نَكُولِ فَيَا ابْنَ زِيَادٍ بُؤْ بِأَعْظَمِ مَالِكٍ
وَذُقْ حَدَّ مَاضِي الشَّفْرَتَيْنِ صَقِيلِ ضَرَبْنَاكَ بِالْعَضْبِ الْحُسَامِ بِحَدِّهِ
إِذَا مَا أَبَأْنَا قَاتِلًا بِقَتِيلِ جَزَى اللَّهُ خَيْرًا شُرْطَةَ اللَّهِ إِنَّهُمْ
شَفَوْا مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَمْسِ غَلِيلِي

وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ ابْنِ زِيَادٍ
هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ عُبَيْدٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَيُقَالُ لَهُ: زِيَادُ بْنُ أَبِيهِ، وَ ابْنُ سُمَيَّةَ. أَمِيرُ الْعِرَاقِ بَعْدَ أَبِيهِ زِيَادٍ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: وَيُقَالُ لَهُ: عُبَيْدُ اللَّهِ ابْنُ مَرْجَانَةَ - وَهِيَ أُمُّهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَكَانَتْ مَجُوسِيَّةً. وَكُنْيَتُهُ أَبُو حَفْصٍ وَقَدْ سَكَنَ دِمَشْقَ بَعْدَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَتْ لَهُ دَارٌ عِنْدَ

الدِّيمَاسِ تُعْرَفُ بَعْدَهُ بِدَارِ ابْنِ عَجْلَانَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ الضَّبِّيِّ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ. وَحَدَّثَ عَنْهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَ أَبُو الْمُلَيْحِ بْنُ أُسَامَةَ، وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ: ذَكَرُوا أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ حِينَ قَتَلَ الْحُسَيْنَ كَانَ عُمْرُهُ ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى زِيَادٍ أَنْ أَوْفِدْ إِلَيَّ ابْنَكَ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ لَمْ يَسْأَلْهُ مُعَاوِيَةُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا نَفَذَ مِنْهُ، حَتَّى سَأَلَهُ عَنِ الشِّعْرِ فَلَمْ يَعْرِفْ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ مَا مَنَعَكَ مِنْ تَعَلُّمِ الشِّعْرِ ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَجْمَعَ فِي صَدْرِي مَعَ كَلَامِ الرَّحْمَنِ كَلَامَ الشَّيْطَانِ. فَقَالَ: اغْرُبْ، فَوَاللَّهِ مَا مَنَعَنِي مِنَ الْفِرَارِ يَوْمَ صِفِينَ إِلَّا قَوْلُ ابْنِ الْإِطْنَابَةِ حَيْثُ يَقُولُ:

أَبَتْ لِي عِفَّتِي وَأَبَى بَلَائِي وَأَخْذِي الْحَمْدَ بِالثَّمَنِ الرَّبِيحِ وَإِعْطَائِي عَلَى الْإِعْدَامِ مَالِي
وَإِقْدَامِي عَلَى الْبَطَلِ الْمُشِيحِ وَقَوْلِي كُلَّمَا جَشَأَتْ وَجَاشَتْ
مَكَانَكِ تُعْذَرِي أَوْ تَسْتَرِيحِي لِأَدْفَعَ عَنْ مَآثِرَ صَالِحَاتٍ
وَأَحْمِي بَعْدُ عَنْ أَنْفٍ صَحِيحِ
ثُمَّ كَتَبَ إِلَى أَبِيهِ: أَنْ رَوِّهِ مِنَ الشِّعْرِ، فَرَوَّاهُ حَتَّى كَانَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَمِنْ شِعْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ:
سَيَعْلَمُ مَرْوَانُ ابْنُ نِسْوَةِ أَنَّنِي إِذَا الْتَقَتِ الْخِيلَانِ أَطْعَنُهَا شَزْرًا
وَإِنِّي إِذَا حَلَّ الضُّيُوفُ وَلَمْ أَجِدْ سِوَى فَرَسِي أَوْسَعْتُهُ لَهُمْ نَحْرًا
وَقَدْ سَأَلَ مُعَاوِيَةُ يَوْمًا أَهْلَ الْبَصْرَةِ عَنِ ابْنِ زِيَادٍ فَقَالُوا: إِنَّهُ لَظَرِيفٌ وَلَكِنَّهُ يَلْحَنُ. فَقَالَ: أَوَلَيْسَ اللَّحْنُ أَظْرَفَ لَهُ ؟ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّهُ يَلْحَنُ فِي كَلَامِهِ، أَيْ يُلْغِزُ. وَهُوَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
مَنْطِقٌ رَائِعٌ وَتَلْحَنُ أَحْيَا نًا وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْنَا

وَقِيلَ: إِنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُ يَلْحَنُ فِي قَوْلِهِ لَحْنًا وَهُوَ ضِدُّ الْإِعْرَابِ. وَقِيلَ: أَرَادُوا اللَّحْنَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الصَّوَابِ. وَهُوَ الْأَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَاسْتَحْسَنَ مُعَاوِيَةُ مِنْهُ السُّهُولَةَ فِي الْكَلَامِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَتَغَنَّى فِي كَلَامِهِ وَيُفَخِّمُهُ، وَيَتَشَدَّقُ فِيهِ، وَقِيلَ: أَرَادُوا أَنَّهُ كَانَتْ فِيهِ لُكْنَةٌ مِنْ كَلَامِ الْعَجَمِ ; فَإِنَّ أُمَّهُ مَرْجَانَةَ كَانَتْ سُرِّيَّةً، وَكَانَتْ بِنْتَ بَعْضِ مُلُوكِ الْأَعَاجِمِ ; يُزْدَجِرْدَ أَوْ غَيْرِهِ. قَالُوا: وَكَانَ فِي كَلَامِهِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْعَجَمِ ; قَالَ يَوْمًا لِبَعْضِ الْخَوَارِجِ: أَهَرُورِيٌّ أَنْتَ ؟ يَعْنِي: أَحَرُورِيٌّ أَنْتَ ؟ وَقَالَ يَوْمًا: مِنْ كَاتَلَنَا كَاتَلْنَاهُ. أَيْ: مَنْ قَاتَلَنَا قَاتَلْنَاهُ، وَقَوْلُ مُعَاوِيَةَ: ذَاكَ أَظْرَفُ لَهُ؛ أَيْ أَجْوَدُ لَهُ حَيْثُ نَزَعَ إِلَى أَخْوَالِهِ، وَقَدْ كَانُوا يُوصَفُونَ بِحُسْنِ السِّيَاسَةِ وَجَوْدَةِ الرِّعَايَةِ وَمَحَاسِنِ الشِّيَمِ.
ثُمَّ لَمَّا مَاتَ زِيَادٌ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَلَّى مُعَاوِيَةُ عَلَى الْبَصْرَةِ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ سَنَةً وَنِصْفًا ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى عَلَيْهَا ابْنَ زِيَادٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ. فَلَمَّا تَوَلَّى يَزِيدُ الْخِلَافَةَ جَمْعَ لَهُ بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، فَبَنَى فِي إِمَارَةِ يَزِيدَ الْبَيْضَاءَ، وَجَعَلَ بَابَ الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ الَّذِي كَانَ لِكِسْرَى عَلَيْهَا، وَبَنَى الْحَمْرَاءَ وَهِيَ عَلَى سِكَّةِ الْمِرْبَدِ، فَكَانَ يَشْتُو فِي الْحَمْرَاءِ وَيَصِيفُ فِي الْبَيْضَاءِ.
قَالُوا: وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، إِنَّ امْرَأَتِي مَاتَتْ،

وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ أُمَّهَا. فَقَالَ لَهُ: كَمْ عَطَاؤُكَ فِي الدِّيوَانِ ؟ فَقَالَ: سَبْعُمِائَةٍ، فَقَالَ: يَا غُلَامُ، حُطَّهُ مِنْ عَطَائِهِ أَرْبَعَمِائَةٍ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَكْفِيكَ مَنْ فِقْهِكَ هَذَا ثَلَاثُمِائَةٍ !
قَالُوا: وَتَخَاصَمَتْ أُمُّ الْفُجَيْعِ وَزَوْجُهَا إِلَيْهِ وَقَدْ أَحَبَّتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تُفَارِقَ زَوْجَهَا، فَقَالَ أَبُو الْفُجَيْعِ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، إِنَّ خَيْرَ شَطْرَيِ الرَّجُلِ آخِرُهُ، وَإِنَّ شَرَّ شَطْرَيِ الْمَرْأَةِ آخِرُهَا. فَقَالَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَسَنَّ اشْتَدَّ عَقْلُهُ، وَاسْتَحْكَمَ رَأْيُهُ، وَذَهَبَ جَهْلُهُ، وَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَسَنَّتْ سَاءَ خُلُقُهَا، وَقُلَّ عَقْلُهَا، وَعَقِمَ رَحِمُهَا، وَاحْتَدَّ لِسَانُهَا. فَقَالَ: صَدَقْتَ خُذْ بِيَدِهَا وَانْصَرِفْ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: أَمَرَ ابْنُ زِيَادٍ لِصَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَسُرِقَتْ، فَقَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا. فَقَالَ أَهْلُهُ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا خَيْرًا ؟ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنُ زِيَادٍ، فَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفَيْنِ آخَرَيْنِ، ثُمَّ وَجَدَ الْأَلْفَيْنِ فَصَارَتْ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، فَكَانَ خَيْرًا.
وَقِيلَ: لِهِنْدَ بِنْتِ أَسْمَاءَ بْنِ خَارِجَةَ - وَكَانَتْ قَدْ تَزَوَّجَتْ بِعِدَّةِ أَزْوَاجٍ مِنْ نُوَّابِ الْعِرَاقِ -: مَنْ أَعَزُّ أَزْوَاجِكِ عِنْدَكِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَيْكِ ؟ فَقَالَتْ: مَا أُكْرِمَ النِّسَاءُ إِكْرَامَ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ وَلَا هَابَ النِّسَاءُ هَيْبَةَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ،

وَوَدِدْتُ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ، فَأَرَى عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ وَأَشْتَفِي مِنْ حَدِيثِهِ وَالنَّظَرِ إِلَيْهِ. وَكَانَ أَبَا عُذْرِهَا وَقَدْ تَزَوَّجَتْ بِالْآخَرِينَ أَيْضًا.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ جَهَرَ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي الْمَكْتُوبَةِ ابْنُ زِيَادٍ. قُلْتُ: يَعْنِي - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - فِي الْكُوفَةِ، فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ لَا يَكْتُبُهُمَا فِي مُصْحَفِهِ، وَكَانَ فُقَهَاءُ الْكُوفَةِ عَنْ كُبَرَاءِ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَأْخُذُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَتْ فِي ابْنِ زِيَادٍ جُرْأَةٌ وَإِقْدَامٌ وَمُبَادَرَةٌ إِلَى مَا لَا يَجُوزُ، وَمَا لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِ. ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَ مُسْلِمٌ، كِلَاهُمَا عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ عَائِذَ بْنَ عَمْرٍو دَخْلَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ. فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: وَهَلْ كَانَ فِيهِمْ نُخَالَةٌ ؟ إِنَّمَا كَانَتِ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ وَفِي غَيْرِهِمْ. وَقَدْ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ دَخَلَ عَلَى مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ يَعُودُهُ فَقَالَ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَنَّهُ قَالَ مَا مِنْ رَجُلٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ مَعْقِلٌ صَلَّى عَلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ وَلَمْ يَشْهَدْ دَفْنَهُ، وَاعْتَذَرَ بِمَا لَيْسَ يُجْدِي شَيْئًا، وَرَكِبَ إِلَى قَصْرِهِ.
وَمِنْ جَرَاءَتِهِ إِقْدَامُهُ عَلَى الْأَمْرِ بِإِحْضَارِ الْحُسَيْنِ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ وَإِنْ قُتِلَ دُونَ ذَلِكَ. وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُ إِلَى سُؤَالِهِ الَّذِي سَأَلَهُ فِيمَا طَلَبَ مِنْ ذَهَابِهِ إِلَىيَزِيدَ، أَوْ إِلَى مَكَّةَ، أَوْ إِلَى أَحَدِ الثُّغُورِ، فَلَمَّا أَشَارَ عَلَيْهِ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ بِأَنَّ الْحَزْمَ أَنْ يُحْضَرَ عِنْدَكَ وَأَنْتَ تُسَيِّرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى حَيْثُ شِئْتَ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ أَوْ غَيْرِهَا، فَوَافَقَ شَمِرًا عَلَى مَا أَشَارَ بِهِ مِنْ إِحْضَارِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَبَى الْحُسَيْنُ أَنْ يَحْضُرَ عِنْدَهُ لِيَقْضِيَ فِيهِ بِمَا يَرَاهُ ابْنُ مَرْجَانَةَ، وَقَدْ تَعِسَ وَخَابَ وَخَسِرَ، فَلَيْسَ لِابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْضُرَ بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ مَرْجَانَةَ الْخَبِيثِ.
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، وَ مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ كُرْدُوسٍ، عَنْ حَاجِبِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَهُ الْقَصْرَ حِينَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ، قَالَ: فَاضْطَرَمَ فِي وَجْهِهِ نَارًا - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - فَقَالَ بِكُمِّهِ هَكَذَا عَلَى وَجْهِهِ، وَقَالَ: لَا تُحَدِّثَنَّ بِهَذَا أَحَدًا.
وَقَالَ شُرَيْكٌ، عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: قَالَتْ مَرْجَانَةُ لِابْنِهَا عُبَيْدِ اللَّهِ: يَا خَبِيثُ، قَتَلْتَ ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا تَرَى الْجَنَّةَ أَبَدًا.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنْ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لَمَّا مَاتَ بَايَعَ النَّاسُ فِي الْمِصْرَيْنِ لِعُبَيْدِ اللَّهِ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ، ثُمَّ خَرَجُوا عَلَيْهِ فَأَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، فَسَارَ إِلَى الشَّامِ فَاجْتَمَعَ بِمَرْوَانَ، وَحَسَّنَ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى الْخِلَافَةَ وَيَدْعُوَ إِلَى نَفْسِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا تَقَدَّمَ مَعَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ. ثُمَّ سَيَّرَهُ مَرْوَانُ فِي جَيْشٍ إِلَى الْعِرَاقِ، فَالْتَقَى بِعَيْنِ الْوَرْدَةِ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْجَيْشِ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُ جَيْشَ التَّوَّابِينَ فَكَسَرَهُمْ، وَاسْتَمَرَّ قَاصِدًا الْكُوفَةَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَتَعَوَّقَ فِي الطَّرِيقِ بِسَبَبِ مَنْ كَانَ يُمَانِعُهُ فِي أَرْضِ الْجَزِيرَةِ مِنَ الْأَعْدَاءِ مِمَّنْ بَايَعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ اتَّفَقَ خُرُوجُ ابْنِ الْأَشْتَرِ إِلَيْهِ فِي سَبْعَةِ آلَافٍ، وَكَانَ مَعَ ابْنِ زِيَادٍ أَضْعَافُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ ظَفَرَ بِهِ ابْنُ الْأَشْتَرِ، فَقَتَلَهُ شَرَّ قِتْلَةٍ، عَلَى شَاطِئِ نَهْرِ الْخَازِرِ قَرِيبًا مِنَ الْمَوْصِلِ بِخَمْسِ مَرَاحِلَ.
قَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ: وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ. قُلْتُ: وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْحُسَيْنُ.
ثُمَّ بَعَثَ ابْنُ الْأَشْتَرِ بِرَأْسِهِ إِلَى الْمُخْتَارِ وَمَعَهُ رَأْسُ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَ شُرَحْبِيلَ بْنِ ذِي الْكَلَاعِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ رُؤَسَاءِ أَصْحَابِهِمْ، فَسُرَّ بِذَلِكَ الْمُخْتَارُ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ

يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ قَالَ: لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ ابْنِ مَرْجَانَةَ وَأَصْحَابِهِ، طُرِحَتْ بَيْنَ يَدِيِ الْمُخْتَارِ، فَجَاءَتْ حَيَّةٌ دَقِيقَةٌ تَخَلَّلَتِ الرُّءُوسَ حَتَّى دَخَلَتْ فِي فَمِ ابْنِ مَرْجَانَةَ وَخَرَجَتْ مِنْ مِنْخَرِهِ، وَدَخَلَتْ فِي مِنْخَرِهِ وَخَرَجَتْ مِنْ فَمِهِ، وَجَعَلَتْ تَدْخُلُ وَتَخْرُجُ مَنْ رَأَسِهُ مِنْ بَيْنِ الرُّءُوسِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظٍ آخَرَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ نُضِّدَتْ فِي الْمَسْجِدِ فِي الرَّحَبَةِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: قَدْ جَاءَتْ، قَدْ جَاءَتْ. فَإِذَا حَيَّةٌ قَدْ جَاءَتْ تَخَلَّلُ الرُّءُوسَ حَتَّى دَخَلَتْ فِي مِنْخَرَيْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَمَكَثَتْ هُنَيْهَةً ثُمَّ خَرَجَتْ فَذَهَبَتْ حَتَّى تَغَيَّبَتْ، ثُمَّ قَالُوا: قَدْ جَاءَتْ، قَدْ جَاءَتْ. فَفَعَلَتْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ بْنُ زَبْرٍ: وَفِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ قَالُوا: فِيهَا قُتِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، وَ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، وَلِيَ قَتْلَهُمَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ، وَبَعَثَ بِرُءُوسِهِمَا إِلَى الْمُخْتَارِ فَبَعَثَ بِهِمَا إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَنُصِبَتْ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَهَكَذَا حَكَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ - زَادَ أَبُو أَحْمَدَ: فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ - وَسَكَتَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ ذَلِكَ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ

ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسِتِّينَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَلَكِنَّ بَعْثَ الرُّءُوسِ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُتَعَذِّرٌ ; لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ كَانَتْ قَدْ قَوِيَتْ وَتَحَقَّقَتْ بَيْنَ الْمُخْتَارِ، وَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَعَمَّا قَلِيلٍ أَمَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَخَاهُ مُصْعَبًا أَنْ يَسِيرَ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ لِحِصَارِ الْمُخْتَارِ وَقِتَالِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَقْتَلُ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيِّ الْكَذَّابِ عَلَى يَدَيْ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ
كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ عَزَلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ نِيَابَةِ الْبَصْرَةِ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيَّ الْمَعْرُوفَ بِالْقُبَاعِ، وَوَلَّاهَا لِأَخِيهِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ ; لِيَكُونَ رِدْءًا وَقَرْنًا وَكُفُؤًا لِلْمُخْتَارِ، فَلَمَّا قَدِمَ مُصْعَبٌ الْبَصْرَةَ دَخْلَهَا مُتَلَثِّمًا فَيَمَّمَ الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا صَعِدَهُ قَالَ النَّاسُ: أَمِيرٌ أَمِيرٌ. فَلَمَّا كَشَفَ اللِّثَامَ عَرَفَهُ النَّاسُ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ، وَجَاءَ الْقُبَاعُ فَجَلَسَ تَحْتَهُ بِدَرَجَةٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ قَامَ مُصْعَبٌ خَطِيبًا، فَاسْتَفْتَحَ ( الْقَصَصَ ) حَتَّى بَلَغَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الشَّامِ أَوِ الْكُوفَةِ، ثُمَّ قَالَ:

وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَأَشَارَ إِلَى الْحِجَازِ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ، إِنَّكُمْ تُلَقِّبُونَ أُمَرَاءَكُمْ، وَقَدْ سَمَّيَتُ نَفْسِي الْجَزَّارَ. فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَفَرِحُوا بِهِ. وَلَمَّا انْهَزَمَ أَهْلُ الْكُوفَةِ حِينَ خَرَجُوا عَلَى الْمُخْتَارِ فَقَهَرَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ، كَانَ لَا يَنْهَزِمُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا قَصَدَ الْبَصْرَةَ، ثُمَّ لَمَّا خَرَجَ الْمُخْتَارُ لِتَلَقِّي ابْنِ الْأَشْتَرِ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّهُ قَتَلَ ابْنَ زِيَادٍ، اغْتَنَمَ مَنْ بَقِيَ بِالْكُوفَةِ مِنْ أَعْدَاءِ الْمُخْتَارِ غَيْبَتَهُ، فَذَهَبُوا إِلَى الْبَصْرَةِ فِرَارًا مِنَ الْمُخْتَارِ ; لِقِلَّةِ دِينِهِ وَكَفْرِهِ وَدَعْوَاهُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ، وَأَنَّهُ قَدَّمُ الْمَوَالِي عَلَى الْأَشْرَافِ. وَاتَّفَقَ أَنَّ ابْنَ الْأَشْتَرِ حِينَ قَتَلَ ابْنَ زِيَادٍ اشْتَغَلَ بِتِلْكَ النَّوَاحِي، فَأَحْرَزَ بِلَادًا وَأَقَالِيمَ وَرَسَاتِيقَ لِنَفْسِهِ، وَاسْتَهَانَ بِالْمُخْتَارِ، فَطَمِعَ مُصْعَبٌ فِيهِ وَبَعَثَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ، وَهُوَ نَائِبُهُمْ عَلَى خُرَاسَانَ، فَقَدِمَ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ وَمَالٍ وَرِجَالٍ وَعَدَدٍ وَعُدَدٍ وَجَيْشٍ كَثِيفٍ، فَفَرِحَ بِهِ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَتَقَوَّى بِهِ مُصْعَبٌ، فَرَكِبَ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَرَكِبُوا فِي الْبَحْرِ وَالْبَرِّ قَاصِدِينَ الْكُوفَةَ.
وَقَدَّمَ مُصْعَبٌ بَيْنَ يَدَيْهِ عَبَّادَ بْنَ الْحُصَيْنِ، وَجَعَلَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ، وَرَتَّبَ الْأُمَرَاءَ

عَلَى رَايَاتِهَا وَقَبَائِلِهَا كَمَالِكِ بْنِ مِسْمَعٍ، وَ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، وَ زِيَادِ بْنِ عُمَرَ، وَ قَيْسِ بْنِ الْهَيْثَمِ وَغَيْرِهِمْ. وَخَرَجَ الْمُخْتَارُ بِعَسْكَرِهِ فَنَزَلَ الْمَذَارَ، وَقَدْ جَعَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ أَبَا كَامِلٍ الشَّاكِرِيَّ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَامِلٍ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَهْبٍ الْجُشَمِيَّ، وَعَلَى الْخَيْلِ وَزِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ السَّلُولِيَّ، وَعَلَى الْمَوَالِي أَبَا عَمْرَةَ صَاحِبَ شُرْطَتِهِ. ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ وَحَثَّهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ، وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْجُيُوشَ، وَرَكِبَ هُوَ وَخَلْقٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُوَ يُبَشِّرُهُمْ بِالنَّصْرِ. فَلَمَّا انْتَهَى مُصْعَبٌ إِلَى قَرِيبِ الْكُوفَةِ لَقِيَتْهُمُ الْكَتَائِبُ الْمُخْتَارِيَّةُ، فَحَمَلَتْ عَلَيْهِمُ الْفُرْسَانُ الزُّبَيْرِيَّةُ، فَمَا لَبِثَتِ الْمُخْتَارِيَّةُ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى هَرَبُوا عَلَى حِمْيَةٍ، وَقَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَخَلْقٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَطَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مَنِ الشِّيعَةِ الْأَغْبِيَاءِ، ثُمَّ انْتَهَتِ الْهَزِيمَةُ إِلَى الْمُخْتَارِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا انْتَهَتْ مُقَدِّمَةُ الْمُخْتَارِ إِلَيْهِ، جَاءَ مُصْعَبٌ فَقِطَعَ الدِّجْلَةَ إِلَى الْكُوفَةِ وَقَدْ حَصَّنَ الْمُخْتَارُ الْقَصْرَ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ، وَخَرَجَ الْمُخْتَارُ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ فَنَزَلَ حَرُورَاءَ، فَلَمَّا قَرُبَ جَيْشُ مُصْعَبٍ مِنْهُ جَهَّزَ إِلَى كُلِّ قَبِيلَةٍ كُرْدُوسًا، فَبَعَثَ إِلَى بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ سَعِيدَ بْنَ مُنْقِذٍ، وَإِلَى عَبْدِ الْقَيْسِ مَالِكَ

بْنَ الْمُنْذِرِ، وَإِلَى الْعَالِيَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْدَةَ، وَإِلَى الْأَزْدِ مُسَافِرَ بْنَ سَعِيدٍ، وَإِلَى بَنِي تَمِيمٍ سُلَيْمَ بْنَ يَزِيدَ الْكِنْدِيَّ، وَإِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ السَّائِبَ بْنَ مَالِكٍ، وَوَقَفَ الْمُخْتَارُ فِي بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا إِلَى اللَّيْلِ ; فَقُتِلَ أَعْيَانُ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ وَقُتِلَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ، وَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَتَفَرَّقَ عَنِ الْمُخْتَارِ بَاقِي أَصْحَابِهِ فَقِيلَ لَهُ: الْقَصْرَ الْقَصْرَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ مِنْهُ وَأَنَا أُرِيدُ أَنَّ أَعُودَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ. ثُمَّ سَارَ إِلَى الْقَصْرِ فَدَخَلَهُ، وَجَاءَهُ مُصْعَبٌ فَفَرَّقَ الْقَبَائِلَ فِي نَوَاحِي الْكُوفَةِ، وَاقْتَسَمُوا الْمَحَالَّ، وَخَلَصُوا إِلَى الْقَصْرِ، وَقَدْ مَنَعُوا الْمُخْتَارَ الْمَادَّةَ وَالْمَاءَ، وَكَانَ الْمُخْتَارُ يَخْرُجُ فَيُقَاتِلُهُمْ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْقَصْرِ. وَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحِصَارُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ الْحِصَارَ لَا يَزِيدُنَا إِلَّا ضَعْفًا، فَانْزِلُوا بِنَا حَتَّى نُقَاتِلَ حَتَّى اللَّيْلِ حَتَّى نَمُوتَ كِرَامًا. فَوَهَنُوا، فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لَا أُعْطِي بِيَدِي. ثُمَّ اغْتَسَلَ وَتَطَيَّبَ وَتَحَنَّطَ وَخَرَجَ، فَقَاتَلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى قُتِلُوا.
وَقِيلَ: بَلْ أَشَارَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَسَاوِرَتِهِ بِأَنْ يَدْخُلَ الْقَصْرَ دَارَ إِمَارَتِهِ فَدَخَلَهُ وَهُوَ مَلُومٌ مَذْمُومٌ، وَعَنْ قَرِيبٍ يَنْفُذُ فِيهِ الْقَدَرُ الْمَحْتُومُ، فَحَاصَرَهُ مُصْعَبٌ فِيهِ وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ، حَتَّى أَصَابَهُمْ مِنْ جَهْدِ الْعَطَشِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ،

وَضَيَّقَ عَلَيْهِمُ الْمَسَالِكَ وَالْمَقَاصِدَ وَانْسَدَّتْ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُ الْحِيَلِ، وَلَيْسَ فِيهِمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ وَلَا حَلِيمٌ، ثُمَّ جَعَلَ الْمُخْتَارُ يُجِيلُ فِكْرَتَهُ وَيُكَرِّرُ رَوِيَّتَهُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ حَلَّ بِهِ، وَاسْتَشَارَ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْمَوَالِي وَالْعَبِيدِ وَلِسَانُ الْقَدَرِ وَالشَّرْعِ يُنَادِيهِ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ثُمَّ قَوَّى عَزْمَهُ قُوَّةُ الشُّجَاعَةِ الْمُرَكَّبَةِ فِيهِ عَلَى أَنْ أَخْرَجَتْهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ مَنْ كَانَ يُحَالِفُهُ وَيُوَالِيهِ، وَرَأَى أَنْ يَمُوتَ عَلَى فَرَسِهِ، حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهَا انْقِضَاءُ آخَرِ نَفَسِهِ، فَنَزَلَ حَمِيَّةً وَغَضَبًا، وَشُجَاعَةً وَكَلَبًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَجِدُ مَنَاصًا وَلَا مَفَرًّا وَلَا مَهَرَبًا، وَلَيْسَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ سِوَى تِسْعَةَ عَشَرَ. وَلَعَلَّهُ إِنْ كَانَ قَدِ اسْتَمَرَّ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ التِّسْعَةَ عَشَرَ الْمُوَكَّلُونَ بِسَقَرَ. وَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْقَصْرِ قَالَ لِأَصْحَابِ مُصْعَبٍ: أَتُؤَمِّنُونِي ؟ قَالُوا: لَا، إِلَّا عَلَى حُكْمِ الْأَمِيرِ. فَقَالَ: إِلَّا حُكْمَ نَفْسِي أَبَدًا. ثُمَّ قَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ شَقِيقَانِ أَخَوَانِ، وَهَمَا طَرَفَةُ، وَ طَرَّافُ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَجَاجَةَ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، فَقَتَلَاهُ بِمَكَانِ الزَّيَّاتِينَ مِنَ الْكُوفَةِ وَاحْتَزَّا رَأْسَهُ وَأَتَيَا بِهِ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ دَخَلَ قَصْرَ الْإِمَارَةِ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا وُضِعَ رَأْسُ ابْنِ زِيَادٍ بَيْنَ يَدَيِ الْمُخْتَارِ، وَكَمَا وُضِعَ

رَأْسُ الْحُسَيْنِ بَيْنَ يَدِيِ ابْنِ زِيَادٍ - وَكَمَا سَيُوضَعُ رَأْسُ مُصْعَبٍ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ - فَلَمَّا وُضِعَ رَأْسُ الْمُخْتَارِ بَيْنَ يَدَيْ مُصْعَبٍ أَمْرَ لَهُمَا بِثَلَاثِينَ أَلْفًا.
وَقَدْ قَتَلَ مُصْعَبٌ جَمَاعَةً مِنَ الْمُخْتَارِيَّةِ وَأَسَرَ مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةِ أَسِيرٍ، فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ مُصْعَبٍ فِي الْوَقْعَةِ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ.
وَأَمَرَ مُصْعَبٌ بِكَفِّ الْمُخْتَارِ فَقُطِعَتْ وَسُمِرَتْ إِلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَزَلْ هُنَالِكَ حَتَّى قَدِمَ الْحَجَّاجُ، فَسَأَلَ عَنْهَا فَقِيلَ لَهُ: هِيَ كَفُّ الْمُخْتَارِ، فَأَمَرَ بِهَا فَرُفِعَتْ وَانْتُزِعَتْ مِنْ هُنَالِكَ ; لِأَنَّ الْمُخْتَارَ كَانَ مِنْ قَبِيلَةِ الْحَجَّاجِ - فَالْمُخْتَارُ هُوَ الْكَذَّابُ وَالْمُبِيرُ الْحَجَّاجُ - وَلِهَذَا أَخَذَ الْحَجَّاجُ بِثَأْرِهِ مِنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَتْلَهُ وَصَلْبَهُ شُهُورًا.
وَقَدْ سَأَلَ مُصْعَبٌ أُمَّ ثَابِتٍ بِنْتَ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ امْرَأَةَ الْمُخْتَارِ عَنْهُ فَقَالَتْ: مَا عَسَى أَنْ أَقُولَ فِيهِ إِلَّا مَا تَقُولُونَ أَنْتُمْ فِيهِ ؟ فَتَرَكَهَا وَاسْتَدْعَى بِزَوْجَتِهِ الْأُخْرَى، وَهِيَ عَمْرَةُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فَقَالَ لَهَا مَا تَقُولِينَ فِيهِ ؟ فَقَالَتْ: رَحِمَهُ اللَّهُ، لَقَدْ كَانَ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. فَسَجَنَهَا وَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ: إِنَّهَا تَقُولُ إِنَّهُ نَبِيٌّ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ أَخْرِجْهَا فَاقْتُلْهَا. فَأَخْرَجَهَا إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ فَضُرِبَتْ ضَرَبَاتٍ حَتَّى مَاتَتْ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ:

إِنَّ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَائِبِ عِنْدِي قَتْلَ بَيْضَاءَ حُرَّةٍ عُطْبُولِ قُتِلَتْ هَكَذَا عَلَى غَيْرِ جُرْمٍ
إِنَّ لِلَّهِ دَرَّهَا مِنْ قَتِيلِ كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا
وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ مُصْعَبًا لَقِيَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ: أَنَا ابْنُ أَخِيكَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: نَعَمْ، أَنْتَ الْقَاتِلُ سَبْعَةَ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ ؟ عِشْ مَا اسْتَطَعْتَ ! فَقَالَ مُصْعَبٌ: إِنَّهُمْ كَانُوا كَفَرَةً سَحَرَةً. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَاللَّهِ لَوْ قَتَلْتَ عِدَّتَهُمْ غَنَمًا مِنْ تُرَاثِ أَبِيكَ لَكَانَ ذَلِكَ سَرَفًا.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ الْكَذَّابِ
هُوَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْدَةَ بْنِ غِيَرَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ الثَّقَفِيُّ، أَسْلَمَ أَبُوهُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ لَمْ يَرَهُ، فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الْغَابَةِ،

وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بَعْثَهُ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فِي قِتَالِ الْفُرْسِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ شَهِيدًا، وَقُتِلَ مَعَهُ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - كَمَا قَدَّمْنَا - وَعُرِفَ ذَلِكَ الْجِسْرُ بِهِ، وَهُوَ جِسْرٌ عَلَى دِجْلَةَ، فَيُقَالُ لَهُ إِلَى الْيَوْمِ جِسْرُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ صَفِيَّةُ بِنْتُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَكَانَتْ مِنَ الصَّالِحَاتِ الْعَابِدَاتِ، وَهِيَ زَوْجَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَهَا مُكْرِمًا وَمُحِبًّا وَمَاتَتْ فِي حَيَاتِهِ. وَأَمَّا أَخُوهَا الْمُخْتَارُ هَذَا فَإِنَّهُ كَانَ أَوَّلًا نَاصِبِيًّا يُبْغِضُ عَلِيًّا بُغْضًا شَدِيدًا، وَكَانَ عِنْدَ عَمِّهِ بِالْمَدَائِنِ، وَكَانَ عَمُّهُ نَائِبَهَا، فَلَمَّا دَخَلَهَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَوْمَ خَذَلَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَهُوَ سَائِرٌ إِلَى الشَّامِ لِقِتَالِ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ مَقْتَلِ أَبِيهِ عَلِيٍّ، فَلَمَّا أَحَسَّ الْحَسَنُ مِنْهُمْ بِالْغَدْرِ، فَرَّ مِنْهُمْ إِلَى الْمَدَائِنِ فِي جَيْشٍ قَلِيلٍ، فَقَالَ الْمُخْتَارُ لِعَمِّهِ: لَوْ أَخَذْتَ الْحَسَنَ فَبَعَثْتَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ لَاتَّخَذْتَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ الْيَدَ الْبَيْضَاءَ أَبَدًا. فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ: بِئْسَ مَا تَأْمُرُنِي بِهِ يَابْنَ أَخِي.
فَمَا زَالَتِ الشِّيعَةُ تُبْغِضُهُ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ بِالْكُوفَةِ مَا كَانَ، وَكَانَ الْمُخْتَارُ مِنَ الْأُمَرَاءِ بِالْكُوفَةِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أَمَا لَأَنْصُرَنَّهُ، فَبَلَغَ ابْنَ زِيَادٍ ذَلِكَ فَحَبْسَهُ بَعْدَمَا ضَرَبَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَأَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ يَشْفَعُ فِيهِ، فَأَرْسَلَ يَزِيدُ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ فَأَطْلَقَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى

الْحِجَازِ فِي عَبَاءَةٍ، فَضَوَى إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، فَقَاتَلَ مَعَهُ حِينَ حَصَرَهُ أَهْلُ الشَّامِ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ بَلَغَ الْمُخْتَارُ مَا أَهْلُ الْعِرَاقِ فِيهِ مِنَ التَّخْبِيطِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَتَرَكَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَأَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ نَائِبِ الْكُوفَةِ فَفَعَلَ، فَسَارَ إِلَيْهَا.
وَكَانَ يُظْهِرُ مَدْحَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْعَلَانِيَةِ وَيَسُبُّهُ فِي السِّرِّ، وَيَمْدَحُ مُحَمَّدَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَيَدْعُو إِلَيْهِ، وَمَا زَالَ حَتَّى اسْتَحْوَذَ عَلَى الْكُوفَةِ بِطَرِيقِ التَّشَيُّعِ وَإِظْهَارِ الْأَخْذِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ الْتَفَّتْ عَلَيْهِ جَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الشِّيعَةِ حَتَّى قَاوَمَ نُوَّابَ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى الْكُوفَةِ، وَأَخْرَجَ عَامِلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِنْهَا، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُ الْمُخْتَارِ بِهَا، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ وَيُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنَ مُطِيعٍ كَانَ مُدَاهِنًا لِبَنِي أُمَيَّةَ، وَقَدْ خَرَجَ مَنَ الْكُوفَةِ، وَأَنَا وَمَنْ بِهَا فِي طَاعَتِكَ، فَصَدَّقَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَدْعُو لَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، وَيُظْهِرُ طَاعَتَهُ.
ثُمَّ شَرَعَ فِي تَتَبُّعِ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ وَمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ بِكَرْبَلَاءَ مِنْ نَاحِيَةِ ابْنِ زِيَادٍ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَظَفِرَ بِرُءُوسِ كِبَارٍ مِنْهُمْ كَعُمَرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَمِيرِ الْجَيْشِ الَّذِينَ قَتَلُوا الْحُسَيْنَ، وَ شَمِرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ أَمِيرِ الْأَلْفِ الَّذِينَ وَلُوا قَتْلَ الْحُسَيْنِ، وَ سِنَانَ بْنَ أَبِي أَنَسٍ، وَ خَوْلِيِّ بْنِ يَزِيدَ الْأَصْبَحِيِّ، وَخَلْقًا غَيْرَ هَؤُلَاءِ، وَمَا زَالَ حَتَّى بَعَثَ سَيْفَ نِقْمَتِهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا

إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، وَهُوَ فِي جَيْشٍ أَعْظَمَ مِنْ جَيْشِ الْمُخْتَارِ بِأَضْعَافٍ، كَانُوا سِتِّينَ أَلْفًا، وَقِيلَ: ثَمَانِينَ أَلْفًا، فَقَتَلَ ابْنُ الْأَشْتَرِ بْنَ زِيَادٍ وَكَسَرَ جَيْشَهُ، وَاحْتَازَ مَا فِي مُعَسْكَرِهِ، - وَاتَّفَقَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ -، ثُمَّ بَعَثَ بِرَأْسِ ابْنِ زِيَادٍ وَرُءُوسِ أَصْحَابِهِ مَعَ الْبِشَارَةِ إِلَى الْمُخْتَارِ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا. ثُمَّ إِنَّ الْمُخْتَارَ بَعْثَ بِرَأْسِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ وَرَأْسِ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ وَمَنْ مَعَهُمَا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ فَأَمَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِهَا فَنُصِبَتْ عَلَى عَقَبَةِ الْحَجُونَ، وَقَدْ كَانُوا نَصَبُوهَا بِالْمَدِينَةِ.
وَطَابَتْ نَفْسُ الْمُخْتَارِ بِالْمُلْكِ وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَدُوٌّ وَلَا مُنَازِعٌ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ تَبَيَّنَ خِدَاعَهُ وَمَكْرَهُ وَسُوءَ مَذْهَبِهِ، فَبَعَثَ أَخَاهُ مُصْعَبًا أَمِيرًا عَلَى الْعِرَاقِ، فَسَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا، وَوَفَدَ إِلَيْهِ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْكُوفَةِ فَلَمْ يَتِمَّ سُرُورُ الْمُخْتَارِ حَتَّى سَارَ إِلَيْهِ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْبَصْرَةِ فِي جَيْشٍ هَائِلٍ فَحَاصَرَهُ بِالْكُوفَةِ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَمَا زَالَ حَتَّى أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُ، فَقَتَلَهُ وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَأَمَرَ بِصَلْبِ كَفِّهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَبَعَثَمُصْعَبٌ بِرَأْسِ الْمُخْتَارِ مَعَ رَجُلٍ مِنَ الشُّرَطِ عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَوَصَلَ مَكَّةَ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَوَجَدَ عَبْدَ اللَّهِ يَتَنَفَّلُ، فَمَا زَالَ يُصَلِّي حَتَّى أَسْحَرَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الْبَرِيدِ الَّذِي جَاءَ بِالرَّأْسِ، فَلَمَّا كَانَ قَرِيبَ الْفَجْرِ قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ ؟ فَأَلْقَى إِلَيْهِ الْكِتَابَ فَقَرَأَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَعِي الرَّأْسُ. فَقَالَ: أَلْقِهِ عَلَى بَابِ

الْمَسْجِدِ. فَأَلْقَاهُ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: جَائِزَتِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: جَائِزَتُكَ الرَّأْسُ الَّذِي جِئْتَ بِهِ تَأْخُذُهُ مَعَكَ إِلَىالْعِرَاقِ.
ثُمَّ زَالَتْ دَوْلَةُ الْمُخْتَارِ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الدُّوَلِ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِزَوَالِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ صَادِقًا، بَلْ كَانَ كَاذِبًا وَكَاهِنًا، وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّ الْوَحْيَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ عَلَى يَدِ جِبْرِيلَ يَأْتِي إِلَيْهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى الْقَارِئُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا السُّدِّيُّ، عَنْ رِفَاعَةَ الْقِتْبَانِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْمُخْتَارِ فَأَلْقَى لِي وِسَادَةً وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ أَخِي جِبْرِيلَ قَامَ عَنْ هَذِهِ لَأَلْقَيْتُهَا لَكَ. قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ. قَالَ: فَذَكَرْتُ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ أَخِي عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَمَّنَ مُؤْمِنًا عَلَى دَمِهِ فَقَتَلَهُ، فَأَنَا مِنَ الْقَاتِلِ بَرِيءٌ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ رَفَاعَةَ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ عَلَى رَأْسِ الْمُخْتَارِ، فَلَمَّا عَرَفْتُ كَذِبَهُ هَمَمْتُ أَنْ أَسُلَّ سَيْفِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَذَكَرْتُ حَدِيثًا حَدَّثْنَاهُ عُمَرُ بْنُ الْحَمِقِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ أَمَّنَ رَجُلًا عَلَى نَفْسِهِ فَقَتَلَهُ أُعْطِيَ لِوَاءَ غَدْرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَ ابْنُ مَاجَهْ

مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهِ. وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا:مَنْ أَمَّنَ رَجُلًا عَلَى دَمٍ فَقَتَلَهُ، فَأَنَا بَرِيءٌ مِنَ الْقَاتِلِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا وَفِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ اخْتِلَافٌ. وَقَدْ قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّ الْمُخْتَارَ يَزْعُمُ أَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيهِ. فَقَالَ: صَدَقَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى الْمُخْتَارِ فَأَكْرَمَنِي وَأَنْزَلَنِي حَتَّى كَانَ يَتَعَاهَدُ مَبِيتِي بِاللَّيْلِ، قَالَ: فَقَالَ لِي: اخْرُجْ فَحَدِّثَ النَّاسَ. قَالَ: فَخَرَجْتُ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا تَقَوُلُ فِي الْوَحْيِ ؟ فَقُلْتُ: الْوَحْيُ وَحْيَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ. وَقَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا قَالَ: فَهَمُّوا بِي أَنْ يَأْخُذُونِي، فَقُلْتُ: مَا لَكُمْ وَذَاكَ، إِنِّي مُفْتِيكُمْ وَضَيْفُكُمْ، فَتَرَكُونِي. وَإِنَّمَا أَرَادَ عِكْرِمَةُ أَنْ يُعَرِّضَ بِالْمُخْتَارِ وَكَذِبِهِ فِي ادِّعَائِهِ أَنَّ الْوَحْيَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، مِنْ طَرِيقِ أُنَيْسَةَ بِنْتِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، أَنَّ أَبَاهَا دَخَلَ

عَلَى الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَامِرٍ لَوْ سَبَقْتَ رَأَيْتَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ. فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: حُقِرْتَ وَتَعِسْتَ، أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، كَذَّابٌ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا ابْنُ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ، أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ دَخْلَ عَلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، بَعْدَمَا قَتَلَ ابْنَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَكِ أَلْحَدَ فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَذَاقَهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، وَفَعَلَ بِهِ وَفَعَلَ، فَقَالَتْ: كَذَبْتَ، كَانَ بَرًّا بِالْوَالِدَيْنِ، صَوَّامًا قَوَّامًا، وَاللَّهِ لَقَدْ أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَأَنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفٍ كَذَّابَانِ الْآخِرُ مِنْهُمَا شَرٌّ مِنَ الْأَوَّلِ وَهُوَ مُبِيرٌ. هَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِهَذَا السَّنَدِ وَاللَّفْظِ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " فِي كِتَابِ الْفَضَائِلِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُكْرَمٍ الْعَمِّيِّ الْبَصْرِيِّ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ شَيْبَانَ، عَنْ أَبِي نَوْفَلٍ عَنْ أَبِي عَقْرَبٍ - وَاسْمُهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ مُسْلِمٍ - عَنْ

أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا. وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ فِي مَقْتَلِ الْحَجَّاجِ وَلَدَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، كَمَا سَيَأْتِي. وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.
وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْكَذَّابَ هُوَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَكَانَ يُظْهِرُ التَّشَيُّعَ وَيُبْطِنُ الْكَهَانَةَ، وَيُسِرُّ إِلَى أَخِصَّائِهِ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، وَلَكِنْ مَا أَدْرِي هَلْ كَانَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ أَمْ لَا ؟ وَكَانَ قَدْ وُضِعَ لَهُ كُرْسِيٌّ يُعَظَّمُ، وَيُحَفُّ بِالرِّجَالِ وَيُسْتَرُ بِالْحَرِيرِ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْبِغَالِ، وَكَانَ يُضَاهِي بِهِ تَابُوتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ ضَالًّا مُضِلًّا، أَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ بَعْدَمَا انْتَقَمَ بِهِ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَهُوَ الْقَتَّالُ وَهُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ، نَائِبُ الْعِرَاقِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، الَّذِي انْتَزَعَ الْعِرَاقَ مِنْ يَدِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْمُخْتَارَ لَمْ يَزَلْ مُظْهِرًا مُوَافَقَةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ حَتَّى قَدِمَ مُصْعَبٌ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي أَوَّلِ سَنَةِ سَبْعٍ وَسِتِّينَ، وَأَظْهَرَ مُخَالَفَتَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ مُصْعَبٌ فَقَاتَلَهُ، وَكَانَ الْمُخْتَارُ فِي نَحْوٍ مَنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَقَدْ حَمَلَ عَلَيْهِ الْمُخْتَارُ مَرَّةً فَهَزَمَهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ جَيْشُ الْمُخْتَارِ حَتَّى جَعَلُوا يَنْصَرِفُونَ إِلَى مُصْعَبٍ وَيَدْعُونَ الْمُخْتَارَ،

وَيَنْقِمُونَ عَلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْكَهَانَةِ وَالْكَذِبِ. فَلَمَّا رَأَى الْمُخْتَارُ ذَلِكَ انْصَرَفَ إِلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ، فَحَاصَرَهُ مُصْعَبٌ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ قَتَلَهُ فِي رَابِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ سَبْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً فِيمَا قِيلَ.

فَصْلٌ ( اسْتِقْرَارُ الْأَمْرِ لِمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِالْكُوفَةِ )
وَلَمَّا اسْتَقَرَّ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِالْكُوفَةِ بَعْثَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ لِيَقْدَمَ عَلَيْهِ، وَبَعَثَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ لِيَقْدَمَ عَلَيْهِ، فَحَارَ ابْنُ الْأَشْتَرِ فِي أَمْرِهِ، وَشَاوَرَ أَصْحَابَهُ إِلَى أَيِّهِمَا يَذْهَبُ، ثُمَّ اتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى بَلَدِهِمُ الْكُوفَةِ، فَقَدِمَ ابْنُ الْأَشْتَرَ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَاحْتَرَمَهُ كَثِيرًا، وَبَعَثَ مُصْعَبٌ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ عَلَى الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ وَأَذْرَبِيجَانَ وَأَرْمِينِيَّةَ - وَكَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْبَصْرَةِ حِينَ خَرَجَ مِنْهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ - وَأَقَامَ هُوَ بِالْكُوفَةِ. ثُمَّ لَمْ تَنْسَلِخُ هَذِهِ السَّنَةُ حَتَّى عَزَلَهُ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنِ الْبَصْرَةِ وَوَلَّى عَلَيْهَا ابْنَهُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ شُجَاعًا جَوَادًا مُخَلِّطًا، يُعْطِي أَحْيَانًا حَتَّى لَا يَدَعَ شَيْئًا، وَيَمْنَعُ أَحْيَانًا مَا لَا يُمْنَعُ مِثْلُهُ، وَظَهَرَتْ خِفَّتُهُ وَطَيْشٌ فِي عَقْلِهِ وَسُرْعَةٌ فِي أَمْرِهِ، فَبَعَثَ الْأَحْنَفُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَعَزَلَهُ وَأَعَادَ إِلَى وِلَايَتِهَا أَخَاهُ مُصْعَبًا مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ وِلَايَةِ الْكُوفَةِ، قَالُوا: وَخَرَجَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِنَ الْبَصْرَةِ بِمَالٍ كَثِيرٍ مِنْ بَيْتِ مَالِهَا فَعَرَضَ لَهُ مَالِكُ بْنُ مِسْمَعٍ، فَقَالَ: لَا نَدَعُكَ تَذْهَبُ بِأَعْطِيَاتِنَا. فَضَمِنَ لَهُ

عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ الْعَطَاءَ، فَكَفَّ عَنْهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ حَمْزَةُ لَمْ يَقْدَمْ عَلَى أَبِيهِ مَكَّةَ بَلْ عَدَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَوْدَعَ ذَلِكَ الْمَالَ رِجَالًا، فَكُلُّهُمْ غَلَّ مَا أَوْدَعَهُ وَجَحَدَهُ، سِوَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَدَّى إِلَيْهِ أَمَانَتَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ أَبَاهُ مَا صَنَعَ، قَالَ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ، أَرَدْتُ أَنْ أُبَاهِيَ بِهِ بَنِي مَرْوَانَ فَنَكَصَ.
وَذَكَرَ أَبُو مِخْنَفٍ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَلِيَ الْبَصْرَةَ سَنَةً كَامِلَةً، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَكَانَ عَامِلُهُ عَلَى الْكُوفَةِ أَخَاهُ مُصْعَبًا، وَعَلَى الْبَصْرَةِ ابْنَهُ حَمْزَةَ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ رَجَعَ إِلَيْهَا أَخُوهُ. وَعَلَى خُرَاسَانَ وَتِلْكَ الْبِلَادِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ السُّلَمِيُّ مِنْ جِهَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْوَلِيدُ بْنُ عَقَبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَ أَبُو الْجَهْمِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْأَنْبِجَانِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَفِيهَا قُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ
فَفِيهَا رَدَّ عَبْدُ اللَّهِ أَخَاهُ مُصْعَبًا إِلَى إِمْرَةِ الْبَصْرَةِ، فَأَتَاهَا فَأَقَامَ بِهَا. وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيَّ ; قُبَاعًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ جَابِرَ بْنَ الْأَسْوَدِ الزُّهْرِيَّ، وَعَزَلَ عَنْهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَشْعَثِ ; لِكَوْنِهِ ضَرَبَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ سِتِّينَ سَوْطًا، فَإِنَّهُ أَرَادَ مِنْهُ أَنْ يُبَايِعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَضَرَبَهُ فَعَزَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ
وَفِيهَا هَلَكَ مَلِكُ الرُّومِ قُسْطَنْطِينُ بْنُ قُسْطَنْطِينَ بِبَلَدِهِ، لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الْأَزَارِقَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ مُصْعَبًا كَانَ قَدْ عَزَلَ عَنْ نَاحِيَةِ فَارِسَ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ، وَكَانَ قَاهِرًا لَهُمْ، وَوَلَّاهُ الْجَزِيرَةَ، وَوَلَّى عَلَى فَارِسَ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ فَثَارُوا عَلَيْهِ فَقَاتَلَهُمْ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَهَرَهُمْ وَكَسَرَهُمْ، وَكَانُوا مَعَ أَمِيرِهِمِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْمَاحُوزِ، فَفَرُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى إِصْطَخْرَ، فَاتَّبَعَهُمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَقَتَلُوا ابْنَهُ، ثُمَّ ظَفِرَ بِهِمْ مَرَّةً أُخْرَى ثُمَّ هَرَبُوا إِلَى بِلَادِ أَصْبَهَانَ، وَنَوَاحِيهَا فَتَقَوَّوْا هُنَالِكَ، وَكَثُرَ عَدَدُهُمْ وَعُدَدُهُمْ، ثُمَّ أَقْبَلُوا يُرِيدُونَ الْبَصْرَةَ، فَمَرُّوا بِبَعْضِ بِلَادِ فَارِسَ، وَتَرَكُوا عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، فَلَمَّا سَمِعَ مُصْعَبٌ بِقُدُومِهِمْ رَكِبَ فِي النَّاسِ، وَجَعَلَ يَلُومُ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بِتَرْكِهِ هَؤُلَاءِ يَجْتَازُونَ بِبِلَادِهِ إِلَى الْبَصْرَةِ وَقَدْ رَكِبَ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ

بْنِ مَعْمَرٍ فِي آثَارِهِمْ، فَبَلَغَ الْخَوَارِجَ أَنَّ مُصْعَبًا أَمَامَهُمْ وَعُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ وَرَاءَهُمْ، فَعَدَلُوا إِلَى الْمَدَائِنِ فَجَعَلُوا يَقْتُلُونَ النِّسَاءَ وَالْوِلْدَانَ، وَيَبْقُرُونَ بُطُونَ الْحَبَالَى، وَيَفْعَلُونَ أَفْعَالًا لَمْ يَفْعَلْهَا غَيْرُهُمْ ; فَقَصَدَهُمْ نَائِبُ الْكُوفَةِ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَمَعَهُ أَهْلُهَا وَجَمَاعَاتٌ مِنْ أَشْرَافِهَا، مِنْهُمُ ابْنُ الْأَشْتَرِ، وَ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِمْ عِنْدَ جِسْرِ الصَّرَاةِ، قَطَعَهُ الْخَوَارِجُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ، فَأَمَرَ الْأَمِيرُ بِإِعَادَتِهِ، فَأُعِيدَ، فَفَرَّتِ الْخَوَارِجُ هَارِبِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاتَّبَعَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مِخْنَفٍ فِي سِتَّةِ آلَافٍ فَمَرُّوا عَلَى الْكُوفَةِ، ثُمَّ صَارُوا إِلَى أَرْضِ أَصْبَهَانَ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ، ثُمَّ أَقْبَلُوا فَحَاصَرُوا عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ شَهْرًا، بِمَدِينَةِ جُبَّا حَتَّى ضَيَّقُوا عَلَى النَّاسِ، فَنَزَلُوا إِلَيْهِمْ فَقَاتَلُوهُمْ فَكَشَفُوهُمْ وَقَتَلُوا أَمِيرَهُمِ الزُّبَيْرَ بْنَ الْمَاحُوزِ، وَغَنِمُوا مَا فِي مُعَسْكَرِهِمْ، وَأَمَّرَتِ الْخَوَارِجُ عَلَيْهِمْ قَطَرِيَّ بْنَ الْفُجَاءَةِ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى بِلَادِ الْأَهْوَازِ، فَكَتَبَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ - وَهُوَ عَلَى الْمَوْصِلِ - أَنَّ يَسِيرَ إِلَى قِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَكَانَ أَبْصَرَ النَّاسَ بِقِتَالِهِمْ، وَبَعَثَ مَكَانَهُ إِلَى الْمَوْصِلِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ فَانْصَرَفَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْأَهْوَازِ فَقَاتَلَ فِيهَا الْخَوَارِجَ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ قِتَالًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ الْقَحْطُ الشَّدِيدُ بِبِلَادِ الشَّامِ ; بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مَعَهُ مِنَ الْغَزْوِ لِضَعْفِهِمْ وَقِلَّةِ طَعَامِهِمْ وَمِيرَتِهِمْ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا قُتِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُرِّ وَكَانَ مَنْ خَبَرِهِ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا شُجَاعًا تَتَقَلَّبُ بِهِ الْأَحْوَالُ وَالْأَيَّامُ وَالْآرَاءُ، حَتَّى صَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ لَا يَنْطَاعُ لِأَحَدٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَلَا لِآلِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ يَمُرُّ عَلَى عَامِلِ الْكُورَةِ مِنَ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهِ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ جَمِيعَ مَا فِي بَيْتِ مَالِهِ مِنَ الْحَوَاصِلِ قَهْرًا، وَيَكْتُبُ لَهُ بَرَاءَةً، وَيَذْهَبُ فَيُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَكَانَ الْخُلَفَاءُ وَالْأُمَرَاءُ يَبْعَثُونَ إِلَيْهِ الْجُيُوشَ فَيَطْرُدُهَا وَيَكْسِرُهَا، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ حَتَّى كَاعَ فِيهِ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعُمَّالُهُ بِبِلَادِ الْعِرَاقِ، ثُمَّ إِنَّهُ وَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَبَعْثَهُ فِي عَشَرَةِ نَفَرٍ، وَقَالَ: ادْخُلِ الْكُوفَةَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ الْجُنُودَ سَتَصِلُ إِلَيْهِمْ سَرِيعًا. فَبَعَثَ فِي السِّرِّ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْ إِخْوَانِهِ فَظَهَرَ عَلَى أَمْرِهِ، فَأَعْلَمَ أَمِيرَ الْكُوفَةِ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ جَيْشًا، فَقَتَلُوهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى الْكُوفَةِ، ثُمَّ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَاسْتَرَاحَ النَّاسُ مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا شَهِدَ مَوْقِفَ عَرَفَةَ أَرْبَعُ رَايَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لَا تَأْتَمُّ بِالْأُخْرَى ; الْوَاحِدَةُ لِمُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَصْحَابِهِ، وَالثَّانِيَةُ لِنَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَالثَّالِثَةُ لِبَنِي أُمَيَّةَ، وَالرَّابِعَةُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَفَعَ رَايَةَ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، ثُمَّ نَجْدَةُ، ثُمَّ بَنُو أُمَيَّةَ، ثُمَّ دَفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَدُفَعَ النَّاسَ مَعَهُ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِيمَنِ انْتَظَرَ دَفْعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَلَكِنَّهُ تَأَخَّرَ دَفْعُهُ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَشْبَهَ بِتَأْخِيرِهِ دَفْعَ الْجَاهِلِيَّةِ، فَدَفَعَ ابْنُ عُمَرَ فَدَفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَتَحَاجَزَ النَّاسُ فِي هَذَا الْعَامِ فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَكَانَ عَلَى نِيَابَةِ الْمَدِينَةِ

لِابْنِ الزُّبَيْرِ جَابِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ، وَعَلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ أَخُوهُ مُصْعَبٌ، وَعَلَى مُلْكِ الشَّامِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْأَوْسِيُّ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ.
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ الْعَدَوِيُّ ابْنِ أَخِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ عَنْ نَحْوِ سَبْعِينَ سَنَةً.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ.
عَدِيُّ بْنُ حَاتِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ سَكَنَ الْكُوفَةَ ثُمَّ سَكَنَ قَرْقِيسْيَاءَ.
زَيْدُ بْنُ أَرَقَمَ بْنِ زَيْدٍ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ، وَابْنُ عَمِّ رَسُولِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ أَبُو الْعَبَّاسِ الْهَاشِمِيُّ بْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمُفَسِّرُ كِتَابِ اللَّهِ وَتُرْجُمَانُهُ، كَانَ يُقَالُ لَهُ: الْحَبْرُ وَالْبَحْرُ، رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَخَذَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأُمَمٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ، وَلَهُ مُفْرَدَاتٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ ; لِاتِّسَاعِ عِلْمِهِ وَكَثْرَةِ فَهْمِهِ وَكَمَالِ عَقْلِهِ وَسِعَةِ فَضْلِهِ وَنُبْلِ أَصْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
وَأُمُّهُ أُمُّ الْفَضْلِ لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ أُخْتُ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ وَالِدُ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ وَهُوَ أَحَدُ إِخْوَةٍ عَشَرَةٍ ذُكُورٍ لِلْعَبَّاسِ مِنْ أُمِّ الْفَضْلِ، وَهُوَ آخِرُهُمْ مَوْلِدًا، وَقَدْ مَاتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ مِنَ الْآخَرِ جِدًّا، كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ.
قَالَ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ الْمَكِّيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ جَاءَ أَبِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَرَى أُمَّ الْفَضْلِ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى حَمْلٍ، فَقَالَ: لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُقِرَّ أَعْيُنَكُمْ " قَالَ: فَأَتَى بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا فِي خِرْقَةٍ فَحَنَّكَنِي بِرِيقِهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا حَنَّكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِيقِهِ غَيْرَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُبَيِّضَ وُجُوهَنَا بِغُلَامٍ فَوَلَدَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: وُلِدَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَامَ الْهِجْرَةِ.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ، مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: وُلِدْتُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ وَنَحْنُ فِي الشِّعْبِ، وَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاحْتَجَّ الْوَاقِدِيُّ بِأَنَّهُ كَانَ قَدْ نَاهَزَ الْحُلُمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَخْتُونٌ، وَكَانُوا لَا يَخْتِنُونَ الْغُلَامَ حَتَّى يَحْتَلِمَ. وَقَالَ شُعْبَةُ، وَ هُشَيْمٌ

وَأَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، مَخْتُونٌ. زَادَ هُشَيْمٌ: وَقَدْ جَمَعْتُ الْمُحْكَمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: وَمَا الْمُحْكَمُ ؟ قَالَ: الْمُفَصَّلُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مَخْتُونٌ. وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَيُؤَيِّدُهُ صِحَّةُ مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، وَرَوَاهُ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فَنَزَلْتُ وَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ. وَثَبَتَ عَنْهُ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ ;

كَانَتْ أُمِّي مِنَ النِّسَاءِ وَكُنْتُ أَنَا مِنَ الْوِلْدَانِ. وَهَاجَرَ مَعَ أَبِيهِ قَبْلَ الْفَتْحِ، فَاتَّفَقَ لُقْيَاهُمَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُحْفَةِ وَهُوَ ذَاهِبٌ لِفَتْحِ مَكَّةَ، فَشَهِدَ الْفَتْحَ وَحُنَيْنًا وَالطَّائِفَ عَامَ ثَمَانٍ، وَقِيلَ: كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَحَجَّةُ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ. وَصَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حِينَئِذٍ وَلَزِمَهُ وَأَخَذَ عَنْهُ وَحَفِظَ، وَضَبَطَ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ وَالْأَحْوَالَ، وَأَخَذَ عَنِ الصَّحَابَةِ عِلْمًا عَظِيمًا مَعَ الْفَهْمِ الثَّاقِبِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْجَمَالِ وَالْمَلَاحَةِ وَالْأَصَالَةِ وَالْبَيَانِ، وَدَعَا لَهُ رَسُولُ الرَّحْمَنِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ الْأَرْكَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَهُ بِأَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ التَّأْوِيلَ، وَأَنْ يُفَقِّهَهُ فِي الدِّينِ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي سَاعِدَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ كَانَ يَدْعُو عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَيُقَرِّبُهُ وَيَقُولُ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاكَ يَوْمًا فَمَسَحَ رَأْسَكَ، وَتَفَلَ فِي فِيكَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ، وَبِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَانْشُرْ مِنْهُ، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَوَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

غُسْلًا فَقَالَ: مَنْ وَضَعَ هَذَا ؟ قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ، وَفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ، ثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ أَبُو يُونُسَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنْ كُرَيْبًا أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آخَرِ اللَّيْلِ فَصَلَّيْتُ خَلْفَهُ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَجَرَّنِي حَتَّى جَعَلَنِي حِذَاءَهُ، فَلَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صِلَاتِهِ خَنَسْتُ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لِي: مَا شَأْنِي أَجْعَلُكَ فِي حِذَائِي فَتَخْنِسُ ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَيَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ حِذَاءَكَ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَالَ: فَأَعْجَبْتُهُ، فَدَعَا اللَّهَ لِي أَنْ يَزِيدَنِي عِلْمًا وَفَهْمًا، قَالَ: ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُهُ يَنْفُخُ، ثُمَّ أَتَاهُ بِلَالٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الصَّلَاةُ. فَقَامَ فَصَلَّى مَا أَعَادَ وُضُوءًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، ثَنَا وَرْقَاءُ، سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي يَزِيدَ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَلَاءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وُضُوءًا، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ: مَنْ وَضَعَ ذَا ؟ فَقِيلَ: ابْنُ عَبَّاسٍ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ أَبِي جَهْضَمٍ مُوسَى بْنِ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَهُ بِالْحِكْمَةِ - وَفِي رِوَايَةٍ بِالْعِلْمِ - مَرَّتَيْنِ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ الْقَاسِمِ الْهَاشِمِيُّ وَآخَرُونَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ النَّخَعِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَيْتُ جِبْرِيلَ مَرَّتَيْنِ وَدَعَا لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِكْمَةِ مَرَّتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ. تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ أَبُو مَالِكٍ النَّخَعِيُّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حُسَيْنٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ، قَالَ: ضَمَّنِي إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَ التِّرْمِذِيُّ، وَ النَّسَائِيُّ، وَ ابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ خَالِدٍ - وَهُوَ ابْنُ مِهْرَانَ

الْحَذَّاءُ - عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، ثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعْطِ ابْنَ عَبَّاسٍ الْحِكْمَةَ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بِنَحْوِ هَذَا. وَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلَهُ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْمُتَّصِلُ هُوَ الصَّحِيحُ، فَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَهْدِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ وَفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، وَ عَفَّانُ، الْمَعْنَى، قَالَا: ثَنَا حَمَّادٌ، ثَنَا عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ يُنَاجِيهِ، قَالَ عَفَّانُ: وَهُوَ كَالْمُعْرِضِ عَنِ الْعَبَّاسِ، فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى ابْنِ عَمِّكَ كَالْمُعْرِضِ عَنِّي ؟ فَقُلْتُ: إِنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ رَجُلٌ

يُنَاجِيهِ. قَالَ عَفَّانُ: قَالَ: أَوَكَانَ عِنْدَهُ أَحَدٌ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ كَانَ عِنْدَكَ أَحَدٌ ; فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ كَانَ عِنْدَكَ رَجُلٌ تُنَاجِيهِ ؟ قَالَ: هَلْ رَأَيْتَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: ذَاكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ الْمَهْدِيِّ عَنْ آبَائِهِ، وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: أَمَا إِنَّكَ سَتُصَابُ فِي بَصَرِكَ فَكَانَ كَذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ صِفَةٍ أُخْرَى لِرُؤْيَتِهِ جِبْرِيلَ
، رَوَاهَا قُتَيْبَةُ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسَرَةَأَنَّ الْعَبَّاسَ بَعَثَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ فِي حَاجَةٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ رَجُلًا، فَرَجَعَ وَلَمْ يُكَلِّمْهُ مِنْ أَجْلِ مَكَانِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَلَقِيَ الْعَبَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ ابْنِي فَوَجَدَ عِنْدَكَ رَجُلًا فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُكَلِّمَكَ فَرَجَعَ وَرَاءَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَمِّ، تَدْرِي مَنْ ذَاكَ الرَّجُلُ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: ذَاكَ جِبْرِيلُ

وَلَنْ يَمُوتَ ابْنُكَ حَتَّى يَذْهَبَ بَصَرُهُ وَيُؤْتَى عِلْمًا وَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ كَذَلِكَ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضَائِلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا هُوَ مُنْكَرٌ جِدًّا أَضْرَبْنَا عَنْ كَثِيرٍ مِنْهَا صَفْحًا، وَذَكَرْنَا مَا فِيهِ مَقْنَعٌ وَكِفَايَةٌ عَمَّا سِوَاهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي بِمَرْوَ، ثَنَا الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمُ الْيَوْمَ كَثِيرٌ. فَقَالَ: يَا عَجَبًا لَكَ يَابْنَ عَبَّاسٍ ! أَتَرَى النَّاسَ يَفْتَقِرُونَ إِلَيْكَ وَفِي النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فِيهِمْ ؟ قَالَ: فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَأَقْبَلْتُ أَنَا أَسْأَلُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ لَيَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ فَآتِي بَابَهُ وَهُوَ قَائِلٌ، فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ يَسْفِي الرِّيحُ عَلَيَّ مِنَ التُّرَابِ، فَيَخْرُجُ فَيَرَانِي فَيَقُولُ: يَابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، مَا جَاءَ بِكَ ؟ هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيكَ ؟ فَأَقُولُ: لَا، أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ. قَالَ: فَأَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ. قَالَ:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهل التأويل يتعرون أمام قانوني الحق والميزان

    بسم الله الرحمن الرحيم خلاصة قانون الحق = أن الله خلق السماوات والارض وما فيهم وما بينهم وما لأجلهم بقدر قام في وقت محدد وزمن مع...