الثلاثاء، 3 أغسطس 2021

31//1 البداية والنهاية تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

 31//1 البداية والنهاية لعماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).....-==

== اتَّفَقَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَمْرٌ عَجِيبٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ انْهَزَمُوا عَنِ السُّلْطَانِ خُوَارِزْمِ شَاهْ فِي بَعْضِ الْمَوَاقِفِ، وَبَقِيَ هُوَ وَمَعَهُ عِصَابَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَتَلَ مِنْهُمُ الْكُفَّارُ مِنَ الْخِطَا مَنْ قَتَلُوا، وَأَسَرُوا خَلْقًا مِنْهُمْ، وَكَانَ السُّلْطَانُ خُوَارِزْمُ شَاهْ فِي جُمْلَةِ مَنْ أُسِرَ، أَسَرَهُ رَجُلٌ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ الْمَلِكُ، وَأَسَرَ مَعَهُ أَمِيرًا يُقَالُ لَهُ: ابْنُ مَسْعُودٍ. فَلَمَّا وَقَعَ ذَلِكَ وَتَرَاجَعَتِ الْعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِيَّةُ إِلَى مَقَرِّهَا، فَقَدُوا مِنْ بَيْنِهِمُ السُّلْطَانَ، فَاخَتَبَطُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَاخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَانْزَعَجَتْ خُرَاسَانُ بِكَمَالِهَا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ السُّلْطَانَ قَدْ قُتِلَ.
وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ السُّلْطَانِ وَذَاكَ الْأَمِيرِ ; فَإِنَّ الْأَمِيرَ قَالَ لِلسُّلْطَانِ: إِنِّي أَرَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَنْ تَتْرُكَ الْمُلْكَ عَنْكَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَتُظْهِرَ أَنَّكَ غُلَامٌ لِي. فَقَبِلَ مِنْهُ مَا أَشَارَ بِهِ، وَجَعَلَ يَخْدُمُهُ، وَيُلْبِسُهُ ثِيَابَهُ، وَيَسْقِيهِ وَيَضَعُ الطَّعَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا يَأْلُو جُهْدًا فِي خِدْمَتِهِ، فَقَالَ الَّذِي أَسَرَهُمَا: إِنِّي أَرَى هَذَا يَخْدُمُكَ، فَمَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ: أَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ الْأَمِيرُ، وَهَذَا غُلَامِي، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْلَا عِلْمُ الْأُمَرَاءِ بِأَنِّي قَدْ أَسَرْتُ أَمِيرًا لَأَطْلَقْتُكَ. فَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا أَخْشَى عَلَى أَهْلِي، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنِّي قَدْ قُتِلْتُ وَيُقِيمُونَ الْمَأْتَمَ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُفَادِيَنِي عَلَى مَالٍ، وَتُرْسِلَ مَنْ يَقْبِضُهُ مِنْهُمْ فَعَلْتَ خَيْرًا. فَقَالَ: نَعَمْ. فَعَيَّنَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ أَهْلِي لَا يَعْرِفُونَ هَذَا، وَلَكِنْ إِنْ رَأَيْتَ أَنْ أُرْسِلَ مَعَهُ غُلَامِي ; لِيُبَشِّرَهُمْ بِحَيَاتِي، وَيَأْمُرَهُمْ بِتَحْصِيلِ الْمَالِ. فَقَالَ: نَعَمْ. فَجَهَّزَ مَعَهُمَا مَنْ يَحْفَظُهُمَا إِلَى مَدِينَةِ خُوَارِزْمَ.
فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنْ مَدِينَةِ خُوَارِزْمَ سَبَقَهُ الْمَلِكُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا رَآهُ النَّاسُ فَرِحُوا فَرَحًا شَدِيدًا، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ فِي سَائِرِ بِلَادِهِ، وَعَادَ الْمُلْكُ إِلَى نِصَابِهِ، وَاسْتَقَرَّ السُّرُورُ

بِإِيَابِهِ، وَأَصْلَحَ مَا كَانَ وَهَى مِنْ مَمْلَكَتِهِ بِسَبَبِ مَا كَانَ اشْتَهَرَ مِنْ عَدَمِهِ، وَحَاصَرَ هَرَاةَ وَأَخَذَهَا عَنْوَةً.
وَأَمَّا الَّذِي كَانَ قَدْ أَسَرَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ يَوْمًا لِابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّ النَّاسَ يَنُوحُونَ أَنَّ خُوَارِزْمَ شَاهْ قَدْ عُدِمَ. فَقَالَ: لَا؛ هُوَ الَّذِي كَانَ فِي أَسْرِكَ. فَقَالَ لَهُ: فَهَلَّا أَعْلَمْتَنِي بِهِ حَتَّى كُنْتُ أَرُدُّهُ مُوَقَّرًا مُعَظَّمًا ! فَقَالَ: خِفْتُكَ عَلَيْهِ. فَقَالَ: سِرْ بِنَا إِلَيْهِ. فَسَارَا إِلَيْهِ فَأَكْرَمَهُمَا إِكْرَامًا زَائِدًا، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمَا.
وَفِيهَا غَدَرَ صَاحِبُ سَمَرْقَنْدَ فَقَتَلَ كُلَّ مَنْ كَانَ بِبَلَدِهِ مِنَ الْخُوَارِزْمِيَّةِ، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يُقْطَعُ قِطْعَتَيْنِ، وَيُعَلَّقُ فِي السُّوقِ كَمَا تُعَلَّقَ الْأَغْنَامُ، وَعَزَمَ عَلَى قَتْلِ زَوْجَتِهِ بِنْتِ خُوَارِزْمِ شَاهْ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ قَتْلِهَا، وَحَصَرَهَا وَحَبَسَهَا فِي قَلْعَةٍ وَضَيَّقَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى الْمَلِكِ خُوَارِزْمَ شَاهْ سَارَ إِلَيْهِ فِي الْجُنُودِ فَنَازَلَهُ وَحَاصَرَ سَمَرْقَنْدَ فَأَخَذَهَا قَهْرًا، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا نَحْوًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَأَنْزَلَ الْمَلِكَ مِنَ الْقَلْعَةِ وَقُتِلَ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُ نَسْلًا وَلَا عَقِبًا، وَاسْتَحْوَذَ خُوَارِزْمُ شَاهْ عَلَى تِلْكَ الْمَمَالِكِ الَّتِي هُنَالِكَ.
وَفِيهَا تَحَارَبَ الْخِطَا وَمَلِكُ التَّتَارِ كَشْلَى خَانْ الْمُتَاخِمُ لِمَمْلَكَةِ الصِّينِ، فَكَتَبَ مَلِكُ الْخِطَا إِلَى خُوَارِزْمِ شَاهْ يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى التَّتَارِ، وَيَقُولُ: مَتَى غَلَبُونَا خَلَصُوا إِلَى بِلَادِكَ. وَكَذَا وَقَعَ. وَكَتَبَ التَّتَارُ إِلَيْهِ أَيْضًا يَسْتَنْصِرُونَهُ عَلَى الْخِطَا وَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ أَعْدَاؤُنَا وَأَعْدَاؤُكَ، فَكُنْ مَعَنَا عَلَيْهِمْ. فَكَتَبَ إِلَى كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يُطَيِّبُ قَلْبَهُ، وَحَضَرَ الْوَقْعَةَ بَيْنَهُمْ وَهُوَ مُتَحَيِّزٌ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ، فَكَانَتِ الدَّائِرَةُ عَلَى الْخِطَا، فَهَلَكُوا إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ. وَغَدَرَ التَّتَارُ مَا كَانُوا عَاهَدُوا عَلَيْهِ خُوَارِزْمَ شَاهْ، فَوَقَعَتْ بَيْنَهُمَا الْوَحْشَةُ الْأَكِيدَةُ، وَتَوَاعَدُوا لِلْقِتَالِ، وَخَافَ مِنْهُمْ خُوَارِزْمُ شَاهْ،

وَخَرَّبَ بِلَادًا كَثِيرَةً مُتَاخِمَةً لِبِلَادِ كَشْلَى خَانْ ; خَوْفًا عَلَيْهَا أَنْ يَمْلِكَهَا، ثُمَّ إِنَّ جِنْكِزْخَانْ خَرَجَ عَلَى كَشْلَى خَانْ، فَاشْتَغَلَ بِمُحَارَبَتِهِ عَنْ مُحَارَبَةِ خُوَارِزْمِ شَاهْ، ثُمَّ وَقَعَ مِنَ الْأُمُورِ الْغَرِيبَةِ مَا سَنَذْكُرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا كَثُرَتْ غَارَاتُ الْفِرِنْجِ مِنْ طَرَابُلُسَ عَلَى نَوَاحِي حِمْصَ فَضَعُفَ صَاحِبُهَا أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الظَّاهِرُ صَاحِبُ حَلَبَ عَسْكَرًا قَوَّاهُ بِهِمْ عَلَى الْفِرِنْجِ.
وَخَرَجَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي الْعَسَاكِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى جُيُوشِ الْجَزِيرَةِ الْعُمَرِيَّةِ فَوَافَوْهُ عَلَى عَكَّا فَحَاصَرَهَا ; لِأَنَّ الْقَبَارِسَةَ كَانُوا قَدْ أَخَذُوا مِنْ أُسْطُولِ الْمُسْلِمِينَ قِطَعًا فِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَطَلَبَ صَاحِبُ عَكَّا الْأَمَانَ وَالصُّلْحَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ الْأُسَارَى، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَسَارَ الْعَادِلُ فَنَزَلَ عَلَى بُحَيْرَةِ قَدَسَ قَرِيبًا مِنْ حِمْصَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى بِلَادِ طَرَابُلُسَ فَأَقَامَ بِهَا اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ وَيَغْنَمُ، وَخَرَّبَ تِلْكَ الْبُلْدَانَ الْأَطْرَابُلُسِيَّةَ، حَتَّى جَنَحَ الْفِرِنْجُ إِلَى الْمُهَادَنَةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مَسْرُورًا مَحْبُورًا.
وَفِيهَا مَلَكَ صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ وَهُوَ الْأَمِيرُ نُصْرَةُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَهْلَوَانِ مَدِينَةَ مَرَاغَةَ ; وَذَلِكَ لِخُلُوِّهَا عَنْ مَلِكٍ قَاهِرٍ، فَإِنَّ مَلِكَهَا مَاتَ، وَقَامَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدٌ لَهُ صَغِيرٌ، فَدَبَّرَ أَمْرَهُ خَادِمٌ لَهُ.
وَفِي غُرَّةِ ذِي الْقَعْدَةِ شَهِدَ مُحْيِي الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْجَوْزِيِّ عِنْدَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الدَّامَغَانِيِّ، فَقَبِلَهُ وَوَلَّاهُ حِسْبَةَ جَانِبَيْ بَغْدَادَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً سَوْدَاءَ بِطَرْحَةٍ كُحْلِيَّةٍ، وَبَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ

جَلَسَ لِلْوَعْظِ مَكَانَ أَبِيهِ أَبِي الْفَرَجِ بِبَابِ بَدْرٍ الشَّرِيفِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَبَعْدَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ مِنْ يَوْمِئِذٍ دَرَّسَ بِمَشْهَدِ أَبِي حَنِيفَةَ ضِيَاءُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ مَسْعُودٍ التُّرْكُسْتَانِيُّ الْحَنَفِيُّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْأَعْيَانُ وَالْأَكَابِرُ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا وَصَلَتِ الرُّسُلُ مِنَ الْخَلِيفَةِ إِلَى الْعَادِلِ بِالْخِلَعِ، فَلَبِسَ هُوَ وَوَلَدَاهُ الْمُعْظَّمُ وَالْأَشْرَفُ وَوَزِيرُهُ صَفِيُّ الدِّينِ بْنُ شُكْرٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْخِلَعَ السَّنِيَّةَ الْخَلِيفِيَّةِ، وَدَخَلُوا إِلَى الْقَلْعَةِ وَقْتَ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ بَابِ الْحَدِيدِ، وَقَرَأَ التَّقْلِيدَ الْوَزِيرُ وَهُوَ قَائِمٌ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِيهَا رُكِّبَتِ السَّاعَاتُ بِمِئْذَنَةِ الْعَرُوسِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَشَرَعُوا فِي بِنَاءِ الدُّرَجِ الَّتِي تُجَاهَ الْمَدْرَسَةِ الْقَيْمَازِيَّةِ.
وَفِيهَا دَرَّسَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْنِ الْقُضَاةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سُلْطَانَ بِالْمَدْرَسَةِ الرَّوَاحِيَّةِ بِدِمَشْقَ.
وَفِيهَا انْتَقَلَ الشَّيْخُ ابْنُ الْحُبَيْرِ الْبَغْدَادِيُّ مِنَ الْحَنْبَلِيَّةِ إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَدَرَّسَ بِمَدْرَسَةِ أَمِّ الْخَلِيفَةِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْأَكَابِرُ وَالْعُلَمَاءُ مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْأَمِيرُ إِيتَامِشُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
أَحَدُ أُمَرَاءِ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ، كَانَ مِنْ سَادَاتِ الْأُمَرَاءِ دِينًا وَعَقْلًا وَنَزَاهَةً وَعِفَّةً، سَقَاهُ بَعْضُ الْكُتَّابِ مِنَ النَّصَارَى سُمًّا، فَمَاتَ

؛ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَ اسْمُ الَّذِي سَقَاهُ: ابْنَ سَاوَى، فَلَمَّا اطَّلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الْحَالِ سَلَّمَ ابْنُ سَاوَى إِلَى غِلْمَانِ إِيتَامِشَ فَشَفَعَ فِيهِ ابْنُ مَهْدِيٍّ الْوَزِيرُ، وَقَالَ: إِنَّ النَّصَارَى قَدْ بَذَلُوا فِيهِ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ عَلَى رَأْسِ الْوَرَقَةِ:
إِنَّ الْأُسُودَ أُسُودَ الْغَابِ هِمَّتُهَا يَوْمَ الْكَرِيهَةِ فِي الْمَسْلُوبِ لَا السَّلَبِ
فَتَسَلَّمَهُ غِلْمَانُ إِيتَامِشَ فَقَتَلُوهُ وَحَرَقُوهُ، وَقَبَضَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ مَهْدِيٍّ الْوَزِيرِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
حَنْبَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَرَجِ بْنِ سَعَادَةَ الرُّصَافِيُّ الْحَنْبَلِيُّ،
الْمُكَبِّرُ بِجَامِعِ الْمَهْدِيِّ، رَاوِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَنِ ابْنِ الْحُصَيْنِ، عَنِ ابْنِ الْمُذْهِبِ عَنِ ابْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ. عُمِّرَ تِسْعِينَ سَنَةً، وَخَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ فَأَسْمَعَهُ بِإِرْبِلَ، وَاسْتَقَدْمَهُ مُلُوكُ دِمَشْقَ إِلَيْهَا، فَسَمِعَ النَّاسُ بِهَا عَلَيْهِ الْمُسْنَدَ، وَكَانَ الْمُعَظَّمُ يُكْرِمُهُ، وَيَأْكُلُ عِنْدَهُ عَلَى السِّمَاطِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، فَتُصِيبُهُ التُّخَمَةُ كَثِيرًا ; لِأَنَّهُ كَانَ ضَيِّقَ الْحَالِ، خَشِنَ الْعَيْشِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ الْكِنْدِيُّ إِذَا دَخَلَ عَلَى الْمُعَظَّمِ يَسْأَلُ عَنْ حَنْبَلٍ فَيَقُولُ الْمُعْظَّمُ: هُوَ مَتْخُومٌ، فَيَقُولُ: أَطْعِمْهُ الْعَدَسَ. فَيَضْحَكُ الْمُعْظَّمُ، ثُمَّ أَعْطَاهُ الْمُعْظَّمُ مَالًا جَزِيلًا، وَرَدَّهُ إِلَى بَغْدَادَ فَتُوفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ عَشْرٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ مَعَهُ ابْنُ طَبَرْزَدَ، فَتَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُ عَنْهُ إِلَى سَنَةِ سَبْعٍ وَسِتِمِائَةٍ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عِيسَى بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبُزُورِيُّ الْوَاعِظُ الْبَغْدَادِيُّ،

سَمِعَ مِنِ ابْنِ أَبِي الْوَقْتِ وَغَيْرِهِ، وَاشْتَغَلَ عَلَى ابْنِ الْجَوْزِيِّ بِالْوَعْظِ، ثُمَّ حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِمُضَاهَاتِهِ وَشَمَخَتْ نَفْسُهُ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ بَابِ النَّصِيرَةِ، ثُمَّ تَزَوَّجَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ - وَقَدْ قَارَبَ السَّبْعِينَ - بِصَبِيَّةٍ، فَاغْتَسَلَ فِي يَوْمٍ بَارِدٍ، فَانْتَفَخَ ذَكَرُهُ، فَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
الْأَمِيرُ زَيْنُ الدِّينِ قَرَاجَا الصَّلَاحِيُّ
صَاحِبُ صَرْخَدَ كَانَتْ لَهُ دَارٌ عِنْدَ بَابِ الصَّغِيرِ عِنْدَ قَنَاةِ الزَّلَّاقَةِ وَتُرْبَتُهُ بِالسَّفْحِ فِي قُبَّةٍ عَلَى جَادَّةِ الطَّرِيقِ عِنْدَ تُرْبَةِ ابْنِ تَمِيرَكَ، وَأَقَرَّ الْعَادِلُ وَلَدَهُ يَعْقُوبَ عَلَى صَرْخَدَ.
عَبْدُ الْعَزِيزِ الطَّبِيبُ
تُوُفِّيَ فَجْأَةً، وَهُوَ وَالِدُ سَعْدِ الدِّينِ الطَّبِيبُ الْأَشْرَفِيُّ، وَفِيهِ يَقُولُ ابْنُ عُنَيْنٍ:
فُرَادَى وَلَا خَلْفَ الْخَطِيبِ جَمَاعَةٌ وَمَوْتٌ وَلَا عَبْدَ الْعَزِيزِ طَبِيبُ
وَفِيهَا تُوَفِّيَ:
الْعَفِيفُ ابْنُ الدَّرَجِيِّ
إِمَامُ مَقْصُورَةِ الْحَنَفِيَّةِ الْغَرْبِيَّةِ بِجَامِعِ بَنِي أُمَيَّةَ.

أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ الْإِرْبِلِيُّ.
كَانَ فَاضِلًا فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ، فِي الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَالْحِسَابِ وَالْفَرَائِضِ وَالْهَنْدَسَةِ وَالْأَدَبِ وَالنَّحْوِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِعُلُومِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنْ شِعْرِهِ الْحَسَنِ الْجَيِّدِ، قَوْلُهُ:
لَا يَدْفَعُ الْمَرَءُ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ وَفِي الْخُطُوبِ إِذَا فَكَّرْتَ مُعْتَبَرُ
فَلَيْسَ يُنْجِي مِنَ الْأَقْدَارِ إِنْ نَزَلَتْ رَأْيٌ وَحَزْمٌ وَلَا خَوْفٌ وَلَا حَذَرُ
فَاسْتَعْمِلِ الصَّبْرَ فِي كُلِّ الْأُمُورِ وَلَا تَجْزَعْ لِشَيْءٍ فَعُقْبَى صَبْرِكَ الظَّفَرُ
كَمْ مَسَّنَا مَرَّةً عُسْرٌ فَصَرَّفَهُ صَرْفُ الزَّمَانِ وَوَالَى بَعْدَهُ يُسْرُ
لَا يَيْأَسِ الْمَرْءُ مِنْ رَوْحِ الْإِلَهِ فَمَا يَيْأَسْ مِنْهُ إِلَا عُصْبَةٌ كَفَرُوا
إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ الدَّهْرَ ذُو دُوَلٍ وَأَنَّ يَوْمَيْهِ ذَا أَمْنٌ وَذَا خَطَرُ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّمِائَةٍ
فِي مُحَرَّمِهَا تَكَامَلَ بِنَاءُ دَارِ الضِّيَافَةِ بِبَغْدَادَ الَّتِي أَنْشَأَهَا النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَادَ لِلْحَاجِّ وَالْمَارَّةِ ; لَهُمُ الضِّيَافَةُ مَا دَامُوا نَازِلِينَ بِهَا، فَإِذَا عَزَمَ أَحَدُهُمْ عَلَى السَّفَرِ مِنْهَا زُوِّدَ وَكُسِيَ وَأُعْطِيَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ دِينَارًا لِلسَّفَرِ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا. وَفِيهَا عَادَ أَبُو الْخَطَّابِ ابْنُ دِحْيَةَ الْكَلْبِيُّ مِنْ رِحْلَتِهِ الْعِرَاقِيَّةِ، فَاجْتَازَ بِالشَّامِ، فَاجْتَمَعَ فِي مَجْلِسِ الْوَزِيرِ صَفِيِّ الدِّينِ بْنِ شُكْرٍ هُوَ وَالشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ أَبُو الْيُمْنِ زَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ الْكِنْدِيُّ شَيْخُ اللُّغَةِ وَالْحَدِيثِ، فَأَوْرَدَ ابْنُ دِحْيَةَ فِي كَلَامِهِ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ " بِفَتْحِ اللَّفْظَتَيْنِ فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: مِنْ وَرَاءُ وَرَاءُ. بِضَمِّهِمَا، فَقَالَ ابْنُ دِحْيَةَ لِلْوَزِيرِ ابْنِ شُكْرٍ: مَنْ ذَا ؟ فَقَالَ: هَذَا الشَّيْخُ أَبُو الْيُمْنِ الْكِنْدِيُّ. فَنَالَ مِنْهُ ابْنُ دِحْيَةَ، وَكَانَ جَرِئِيًا، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هُوَ مِنْ كَلْبٍ فَنَبَحَ. قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ وَكِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ مَحْكِيَّتَانِ، وَحُكِيَ فِيهِمَا الْجَرُّ أَيْضًا.
وَفِيهَا عَادَ فَخْرُ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ خَطِيبُ حَرَّانَ مِنَ الْحَجِّ إِلَى بَغْدَادَ وَجَلَسَ بِبَابِ بَدْرٍ لِلْوَعْظِ، مَكَانَ مُحْيِي الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ، فَقَالَ فِي

كَلَامِهِ ذَلِكَ:
وَابْنُ اللَّبُونَ إِذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ الْبَزْلِ الْقَنَاعِيسِ
كَأَنَّهُ يُعْرِّضُ بِالْمُحْيِي بْنِ الْجَوْزِيِّ، لِكَوْنِهِ شَابًّا ابْنَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ تَاسِعِ الْمُحَرَّمِ دَخَلَ مَمْلُوكٌ إِفْرِنْجِيٌّ مِنْ بَابِ مَقْصُورَةِ جَامِعِ دِمَشْقَ وَهُوَ سَكْرَانُ وَفِي يَدِهِ سَيْفٌ مَسْلُولٌ، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ يَنْتَظِرُونَ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَمَالَ عَلَى النَّاسِ يَضْرِبُهُمْ بِسَيْفِهِ، فَقَتَلَ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، وَضَرَبَ الْمِنْبَرَ بِسَيْفِهِ فَانْكَسَرَ، فَأُخِذَ وَأُودِعَ الْمَارَسْتَانَ، وَشُنِقَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ عَلَى جِسْرِ اللَّبَّادِينَ.
وَفِيهَا عَادَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ السُّهْرَوَرْدِيُّ مِنْ دِمَشْقَ بِهَدَايَا الْمَلِكِ الْعَادِلِ، فَتَلَقَّاهُ الْجَيْشُ، وَمَعَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ لِنَفْسِهِ أَيْضًا، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَقِيرًا زَاهِدًا، فَلَمَّا عَادَ مُنِعَ مِنَ الْوَعْظِ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ الرُّبُطُ الَّتِي يُبَاشِرُهَا، وَوُكِّلَ إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَشَرَعَ فِي تَفْرِيقِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَاسْتَغْنَى مِنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ. فَقَالَ الْمُحْيِي ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مَجْلِسِهِ مَا مَعْنَاهُ: لَا حَاجَةَ بِالرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ أَمْوَالًا مِنْ غَيْرِ حَقِّهَا، وَيَصْرِفَهَا إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا، وَكَانَ تَرْكُهَا أَوْلَى بِهِ مِنْ تَنَاوُلِهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ تَرْتَفِعَ مَنْزِلَتُهُ بِبَذْلِهَا، أَوْ يَعُودَ إِلَى حَالِهِ كَمَا كَانَ، وَلَوْ تُرِكَ عَلَى مَا كَانَ يُبَاشِرُهُ لَمَا بَذَلَهَا، فَلْيَحْذَرِ الْعَبْدُ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّهَا خَدَّاعَةٌ غَرَّارَةٌ تَسْتَرِقُ فُحُولَ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ فَضْلًا عَنِ الْعَوَامِّ وَالْقُوَّادِ. وَقَدْ وَقَعَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِيمَا بَعْدُ؛

فِيمَا وَقَعَ فِيهِ السُّهْرَوَرْدِيُّ وَأَعْظَمَ.
وَفِيهَا قَصَدَتِ الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ حِمْصَ وَعَبَرُوا عَلَى الْعَاصِي بِجِسْرٍ أَعْدُّوهُ فِي بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا أَحَسَّتْ بِهِمُ الْعَسَاكِرُ الْمَنْصُورَةُ رَكِبُوا فِي آثَارِهِمْ، فَهَرَبُوا مِنْهُمْ، فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ غَنِيمَةً جَيِّدَةً.
وَفِيهَا قُتِلَ صَاحِبُ الْجَزِيرَةِ، وَكَانَ مِنْ أَسْوَأِ النَّاسِ سِيرَةً، وَأَرَادَهُمْ سَرِيرَةً، وَهُوَ الْمَلِكُ سَنْجَرُ شَاهْ بْنُ غَازِيِّ بْنِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِيِّ بْنِ آقْ سُنْقُرَ الْأَتَابِكِيُّ، وَكَانَ ابْنَ عَمِّ نُورِ الدِّينِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى قَتْلَهُ وَلَدُهُ غَازِيٌّ، تَوَصَّلَ إِلَيْهِ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْخَلَاءِ سَكْرَانُ، فَضَرَبَهُ بِسِكِّينٍ أَرْبَعَ عَشْرَةَ ضَرْبَةً، ثُمَّ ذَبَحَهُ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ لِيَأْخُذَ الْمُلْكَ مِنْ بَعْدِهِ، فَحَرَمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ، فَبُويِعَ بِالْمُلْكِ لِأَخِيهِ مَحْمُودٍ، وَأُخِذَ غَازِيٌّ هَذَا الْعَاقُّ لِوَالِدِهِ؛ فَقُتِلَ مِنْ يَوْمِهِ، فَسَلَبَهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحَيَاةَ، وَلَكِنْ أَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ظُلْمِ أَبِيهِ وَغَشْمِهِ وَفِسْقِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ الْأَنْعَامِ: 129 ]

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا أَيْضًا
أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَخْتِيَارَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ الْوَاسِطِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمَنْدَائِيِّ.
آخِرُ مَنْ رَوَى مُسْنَدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنِ ابْنِ الْحُصَيْنِ، وَكَانَ مِنْ بَيْتِ فِقْهٍ وَقَضَاءٍ وَدِيَانَةٍ، وَكَانَ ثِقَةً عَدْلًا

مُتَوَرِّعًا فِي النَّقْلِ، وَمِمَّا أَنْشَدَهُ مِنْ حِفْظِهِ:
وَلَوْ أَنَّ لَيْلَى مَطْلِعُ الشَّمْسِ دُونَهَا وَكُنْتُ وَرَاءَ الشَّمْسِ حِينَ تَغِيبُ لَحَدَّثْتُ نَفْسِي بِانْتِظَارِ نَوَالِهَا
وَقَالَ الْمُنَى لِي إِنَّهَا لَقَرِيبُ
قَاضِي الْقُضَاةِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ صَدْرُ الدِّينِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ دِرْبَاسٍ الْمَارَانِيُّ الْكُرْدِيُّ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ وَصَلَ نَجْمُ الدِّينِ خَلِيلٌ شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى بَغْدَادَ فِي الرَّسْلِيَّةِ عَنِ الْعَادِلِ، وَمَعَهُ هَدَايَا كَثِيرَةٌ، وَتَنَاظَرَ هُوَ وَشَيْخُ النِّظَامِيَّةِ مَجْدُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ الرَّبِيعِ فِي مَسْأَلَةِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَالْمَجْنُونِ، وَأَخَذَ الْحَنَفِيُّ يَسْتَدِلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، فَأَجَادَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الَّذِي أَوْرَدَهُ، ثُمَّ خُلِعَ عَلَى الْحَنَفِيِّ وَأَصْحَابِهِ بِسَبَبِ الرِّسَالَةِ، وَكَانَتِ الْمُنَاظَرَةُ بِحَضْرَةِ نَائِبِ الْوَزِيرِ ابْنِ أَمْسِينَا.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ خَامِسِ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَصَلَ الْجَمَالُ يُونُسُ بْنُ بَدْرَانَ الْمِصْرِيُّ رَئِيسُ الشَّافِعِيَّةِ بِدِمَشْقَ إِلَى بَغْدَادَ فِي الرَّسْلِيَّةِ عَنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ، فَتَلَقَّاهُ الْجَيْشُ مَعَ حَاجِبِ الْحُجَّابِ، وَدَخَلَ مَعَهُ ابْنُ أَخِي صَاحِبِ إِرْبِلَ مُظَفَّرُ الدِّينِ كُوكُبُرِي، وَالرِّسَالَةُ تَتَضَمَّنُ الِاعْتِذَارَ عَنْ صَاحِبِ إِرْبِلَ، وَالسُّؤَالَ فِي الرِّضَا عَنْهُ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ.

وَفِيهَا مَلَكَ الْعَادِلُ الْخَابُورَ وَنَصِيبِينَ، وَحَاصَرَ مَدِينَةَ سِنْجَارَ مُدَّةً، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهَا، ثُمَّ صَالَحَ صَاحِبَهَا، وَرَجَعَ عَنْهَا.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ:
الْقَاضِي الْأَسْعَدُ ابْنُ مَمَّاتِي: أَبُو الْمَكَارِمِ أَسْعَدُ بْنُ الْخَطِيرِ أَبِي سَعِيدٍ مُهَذَّبِ بْنِ مِينَا بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي قُدَامَةَ بْنِ أَبِي مَلِيحٍ مَمَّاتِي الْمِصْرِيُّ، الْكَاتِبُ الشَّاعِرُ، أَسْلَمَ فِي الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ، وَتَوَلَّى نَظَرَ الدَّوَاوِينِ بِمِصْرَ مُدَّةً.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: لَهُ فَضَائِلُ عَدِيدَةٌ، وَمُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَنَظَمَ سِيرَةَ صَلَاحِ الدِّينِ، وَكِتَابَ " كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ "، وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ، وَلَمَّا تَوَلَّى الْوَزِيرُ ابْنُ شُكْرٍ هَرَبَ مِنْهُ إِلَى حَلَبَ فَمَاتَ بِهَا، وَلَهُ ثِنْتَانِ وَسِتُّونَ سَنَةً، فَمِنْ شِعْرِهِ فِي ثَقِيلٍ رَآهُ بِدِمَشْقَ:
حَكَى نَهْرَيْنِ وَمَا فِي الْأَرْ ضِ مَنْ يَحْكِيهِمَا أَبَدًا حَكَى فِي خَلْقِهِ ثَوْرَى
وَفِي أَخْلَاقِهِ بَرَدَى
أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ اللَّمْغَانِيُّ، أَحَدُ الْأَعْيَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِبَغْدَادَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَدَرَّسَ بِجَامِعِ

السُّلْطَانِ، وَكَانَ مُعْتَزِلِيًّا فِي الْأُصُولِ، بَارِعًا فِي الْفُرُوعِ، اشْتَغَلَ عَلَى أَبِيهِ وَعَمِّهِ، وَأَتْقَنَ الْخِلَافَ وَعِلْمَ الْمُنَاظَرَةِ، وَقَارَبَ التِّسْعِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْخُرَاسَانِيِّ الْمُحَدِّثُ النَّاسِخُ، كَتَبَ كَثِيرًا مِنَ الْحَدِيثِ، وَجَمَعَ خُطَبًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَخَطُّهُ جَيِّدٌ مَشْهُورٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَبُو الْمَوَاهِبِ مَعْتُوقُ بْنُ مَنِيعِ بْنِ مَوَاهِبَ، الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، قَرَأَ النَّحْوَ وَاللُّغَةَ عَلَى ابْنِ الْخَشَّابِ، وَجَمَعَ خُطَبًا كَانَ يَخْطُبُ مِنْهَا، وَكَانَ شَيْخًا فَاضِلًا أَدِيبًا، لَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
وَلَا تَرْجُو الصَّدَاقَةَ مِنْ عَدُوٍّ يُعَادِي نَفْسَهُ سِرًّا وَجَهْرًا
فَلَوْ أَجْدَتْ مَوَدَّتُهُ انْتِفَاعًا لَكَانَ النَّفْعُ مِنْهُ إِلَيْهِ أَجْرًا
ابْنُ خَرُوفٍ شَارِحُ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ: عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ خَرُوفٍ الْأَنْدَلُسِيُّ النَّحْوِيُّ، شَرَحَ " سِيبَوَيْهِ "، وَقَدَّمَهُ إِلَى صَاحِبِ الْمَغْرِبِ، فَأَعْطَاهُ أَلْفَ دِينَارٍ، وَشَرَحَ جُمَلَ الزَّجَّاجِيِّ، وَكَانَ يَتَنَقَّلُ فِي الْبِلَادِ، وَلَا

يَسْكُنُ إِلَّا فِي الْخَانَاتِ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ وَلَا تَسَرَّى، وَقَدْ تَغَيِّرَ عَقْلُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، فَكَانَ يَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ تُوُفِّيَ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
أَبُو عَلِيٍّ يَحْيَى بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرَّازٍ الْوَاسِطِيُّ الْبَغْدَادِيُّ اشْتَغَلَ بِالنِّظَامِيَّةِ عَلَى ابْنِ فَضْلَانَ، وَأَعَادَ عِنْدَهُ، وَسَافَرَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، فَأَخَذَ عَنْهُ طَرِيقَتَهُ فِي الْخِلَافِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ، ثُمَّ صَارَ مُدَرِّسًا بِالنِّظَامِيَّةِ، وَنَاظِرًا فِي أَوْقَافِهَا، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ لَدَيْهِ عُلُومٌ كَثِيرَةٌ، وَمَعْرِفَةٌ حَسَنَةٌ بِالْمَذْهَبِ، وَلَهُ تَفْسِيرٌ فِي أَرْبَعِ مُجَلَّدَاتٍ كَانَ يُدَرِّسُ مِنْهُ، وَاخْتَصَرَ تَارِيخَ الْخَطِيبِ وَالذَّيْلَ عَلَيْهِ لِابْنِ السَّمْعَانِيِّ، وَقَارَبَ الثَّمَانِينَ. رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ابْنُ الْأَثِيرِ صَاحِبُ جَامِعِ الْأُصُولِ وَالنِّهَايَةِ: الْمُبَارَكُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، مَجْدُ الدِّينِ أَبُو السَّعَادَاتِ الشَّيْبَانِيُّ الْجَزَرِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْأَثِيرِ، وَهُوَ أَخُو الْوَزِيرِ الْأَفْضَلِ ضِيَاءِ الدِّينِ نَصْرِ اللَّهِ، وَأَخُو الْحَافِظِ عِزِّ الدِّينِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيٍّ صَاحِبِ الْكَامِلِ فِي

التَّارِيخِ. وُلِدَ أَبُو السَّعَادَاتِ الْمُبَارَكُ فِي أَحَدِ الرَّبِيعَيْنِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ، وَأَتْقَنَ عُلُومَهُ وَحَرَزَ عُلُومًا جَمَّةً، وَكَانَ مَقَامُهُ بِالْمَوْصِلِ، وَقَدْ جَمَعَ فِي سَائِرِ الْعُلُومِ كُتُبًا مُفِيدَةً، مِنْهَا جَامِعُ الْأُصُولِ السِّتَّةِ; الْمُوَطَّأُ وَالصَّحِيحَانِ وَسُنَنُ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنَ مَاجَهْ فِيهِ، وَلَهُ كِتَابُ النِّهَايَةِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ، وَلَهُ شَرَحُ مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ، وَالتَّفْسِيرُ فِي أَرْبَعِ مُجَلَّدَاتٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ فِي فُنُونٍ شَتَّى.
وَكَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، مُعَظَّمًا عِنْدَ مُلُوكِ الْمَوْصِلِ، فَلَمَّا آلَ الْمُلْكُ إِلَى نُورِ الدِّينِ أَرْسَلَانَ شَاهِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِيِّ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَمْلُوكَهُ لُؤْلُؤًا يَعْرِضُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْزِرَهُ فَأَبَى، فَرَكِبَ السُّلْطَانُ إِلَيْهِ فَامْتَنَعَ أَيْضًا، وَقَالَ لَهُ: قَدْ كَبُرَتْ سِنِّي، وَاشْتَهَرْتُ بِنَشْرِ الْعِلْمِ، وَلَا يَصْلُحُ هَذَا الْأَمْرُ إِلَّا بِشَيْءٍ مِنَ الْعَسْفِ وَالظُّلْمِ، وَلَا يَلِيقُ بِي ذَلِكَ. فَأَعْفَاهُ.
قَالَ أَبُو السَّعَادَاتِ: كُنْتُ أَقْرَأُ عِلْمَ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى سَعِيدِ بْنِ الدَّهَّانِ، وَكَانَ يَأْمُرُنِي بِصَنْعَةِ الشِّعْرِ، فَكُنْتُ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي، فَأَمَرَنِي بِذَلِكَ، فَقُلْتُ: ضَعْ لِي مِثَالًا أَعْمَلُ عَلَيْهِ. فَقَالَ:
جُبِ الْفَلَا مُدْمِنًا إِنْ فَاتَكَ الظَّفَرُ
فَقُلْتُ أَنَا:
وَخُدَّ خَدَّ الثَّرَى وَاللَّيْلُ مُعْتَكِرُ

فَالْعِزُّ فِي صَهَوَاتِ الْخَيْلِ مَرْكَبُهُ وَالْمَجْدُ يُنْتِجْهُ الْإِسْرَاءُ وَالسَّهَرُ
فَقَالَ: أَحْسَنْتَ. ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ، فَأَتْمَمْتُ عَلَيْهَا نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ بَيْتًا. كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَلْخِ ذِي الْحِجَّةِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ تَرْجَمَهُ أَخُوهُ فِي الْكَامِلِ، فَقَالَ: كَانَ عَالِمًا فِي عِدَّةِ عُلُومٍ; مِنْهَا الْفِقْهُ وَعِلْمُ الْأُصُولِ وَالنَّحْوُ وَالْحَدِيثُ وَاللُّغَةُ، وَلَهُ تَصَانِيفُ مَشْهُورَةٌ فِي التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْحِسَابِ وَغَرِيبِ الْحَدِيثِ، وَلَهُ رَسَائِلُ مُدَوَّنَةٌ، وَكَانَ مُفْلِقًا يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ، ذَا دِينٍ مَتِينٍ وَلُزُومِ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ، فَلَقَدْ كَانَ مِنْ مَحَاسِنَ الزَّمَانِ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
الْمَجْدُ الْمُطَرِّزِيُّ النَّحْوِيُّ الْخُوَارَزْمِيُّ، كَانَ إِمَامًا فِي النَّحْوِ، لَهُ فِيهِ تَصَانِيفُ حَسَنَةٌ.
قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الْمُغِيثُ فَتْحُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ الْمَلِكِ الْعَادِلِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ أَخِيهِ الْمُعَظَّمِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ.
وَالْمَلِكُ الْمُؤَيَّدُ مَسْعُودُ بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ بِمَدِينَةِ رَأْسِ الْعَيْنِ، فَحُمِلَ إِلَى

حَلَبَ فَدُفِنَ بِهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ الْمُتَكَلِّمُ، صَاحِبُ التَّفْسِيرِ وَالتَّصَانِيفِ: مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْقُرَشِيُّ التَّيْمِيُّ الْبِكْرِيُّ الْإِمَامُ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو الْمَعَالِي، الْمَعْرُوفُ بِالْفَخْرِ الرَّازِيِّ، وَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ خَطِيبِ الرَّيِّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ أَحَدُ الْمَشَاهِيرِ بِالتَّصَانِيفِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ نَحْوٍ مِنْ مِائَتَيْ مُصَنَّفٍ; مِنْهَا " التَّفْسِيرُ الْحَافِلُ "، وَ " الْمَطَالِبُ الْعَالِيَةُ "، وَ " الْمَبَاحِثُ الْمَشْرِقِيَّةُ "، وَ " الْأَرْبَعِينَ "، وَ " شَرْحُ الْإِشَارَاتِ "، وَغَيْرُهَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَمَذَاهِبِ الْأَوَائِلِ وَأَقْوَالِ النَّاسِ، وَلَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ " الْمَحْصُولُ " وَغَيْرُهُ، وَصَنَّفَ تَرْجَمَةَ الشَّافِعِيِّ فِي مُجَلَّدٍ مُفِيدٍ، وَفِيهِ غَرَائِبُ، وَيُنْسَبُ إِلَيْهِ أَشْيَاءُ عَجِيبَةٌ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ تَرْجَمَتَهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ "، وَقَدْ كَانَ مُعَظَّمًا عِنْدَ مُلُوكِ الْخُوَارَزْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَبُنِيَتْ لَهُ مَدَارِسُ كَثِيرَةٌ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى، وَمَلَكَ مِنَ الذَّهَبِ الْعَيْنِ ثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْمَرَاكِبِ وَالْأَثَاثِ وَالْمَلَابِسِ، وَكَانَ لَهُ خَمْسُونَ مَمْلُوكًا مِنَ التُّرْكِ، وَقَدْ كَانَ يَعْقِدُ مَجْلِسَ الْوَعْظِ فَيَحْضُرُ عِنْدَهُ الْمُلُوكُ وَالْوُزَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْفُقَرَاءُ وَالْعَامَّةُ وَالْغَوْغَاءُ، وَكَانَتْ لَهُ عِبَادَاتٌ وَأَوْرَادٌ، وَقَدْ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَرَّامِيَّةِ فِي أَوْقَاتٍ شَتَّى، فَكَانَ يُبْغِضُهُمْ وَيُبْغِضُونَهُ وَيُبَالِغُ فِي ذَمِّهِمْ وَيُبَالِغُونَ فِي الْحَطِّ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ مَعَ غَزَارَةِ

عِلْمِهِ فِي فَنِّ الْكَلَامِ يَقُولُ: مَنْ لَزِمَ مَذْهَبَ الْعَجَائِزِ كَانَ هُوَ الْفَائِزَ. وَقَدْ ذَكَرْتُ وَصِيَّتَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَأَنَّهُ رَجَعَ فِيهَا إِلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ، وَتَسْلِيمِ مَا وَرَدَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُرَادِ اللَّائِقِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي الذَّيْلِ فِي تَرْجَمَتِهِ: كَانَ يَعِظُ وَيَنَالُ مِنَ الْكَرَّامِيَّةِ، وَيَنَالُونَ مِنْهُ سَبًّا وَتَكْفِيرًا، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ وَضَعُوا عَلَيْهِ مَنْ سَقَاهُ السُّمَّ فَمَاتَ فَفَرِحُوا بِمَوْتِهِ، وَكَانُوا يَرْمُونَهُ بِالْكَبَائِرِ. قَالَ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَلَا كَلَامَ فِي فَضْلِهِ، وَإِنَّمَا الشَّنَاعَاتُ عَلَيْهِ قَائِمَةٌ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا; قَالَ مُحَمَّدٌ التَّازِيُّ - يَعْنِي الْعَرَبِيَّ، يُرِيدُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي الْعَرَبِيَّ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ الرَّازِيُّ - يَعْنِي نَفْسَهُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يُقَرِّرُ الشُّبْهَةَ مِنْ جِهَةِ الْخُصُومِ بِعِبَارَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَيُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَدْنَى إِشَارَةٍ. قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُ خَلَّفَ مِنَ الذَّهَبِ الْعَيْنِ ثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ غَيْرَ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ وَالْعَقَارِ وَالْآلَاتِ، وَخَلَّفَ وَلَدَيْنِ، أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَكَانَ ابْنُهُ الْأَكْبَرُ قَدْ تَجَنَّدَ فِي حَيَاتِهِ وَخَدَمَ السُّلْطَانَ مُحَمَّدَ بْنَ تِكِشَ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " الْكَامِلِ ": وَفِيهَا تُوُفِّيَ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ خَطِيبِ الرَّيِّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ فِي

الْفِقْهِ وَالْأُصُولَيْنِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ إِمَامَ الدُّنْيَا فِي عَصْرِهِ.
وَبَلَغَنِي أَنَّ مَوْلِدَهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
إِلَيْكَ إِلَهَ الْخَلْقِ وَجْهِي وَوِجْهَتِي وَأَنْتَ الَّذِي أَدْعُوكَ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ
وَأَنْتَ غِيَاثِي عِنْدَ كُلِّ مُلِمَّةٍ وَأَنْتَ مَعَاذِي فِي حَيَاتِي وَفِي قَبْرِي
وَرَوَى ذَلِكَ ابْنُ السَّاعِي عَنْ يَاقُوتٍ الْحَمَوِيِّ، عَنِ ابْنٍ لْفَخْرِ الدِّينِ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ: أَنْشَدَنَا:
تَتِمَّةُ أَبْوَابِ السَّعَادَةِ لِلْخَلْقِ بِذِكْرِ جَلَالِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الْحَقِّ
مُدَبِّرِ كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ بِأَسْرِهَا وَمُبْدِعِهَا بِالْعَدْلِ وَالْقَصْدِ وَالصِّدْقِ
أُجِلُّ جَلَالَ اللَّهِ عَنْ شِبْهِ خَلْقِهِ وَأَنْصُرُ هَذَا الدِّينَ فِي الْغَرْبِ وَالشَّرْقِ
إِلَهٌ عَظِيمُ الْفَضْلِ وَالْعَدْلِ وَالْعُلَا هُوَ الْمُرْشِدُ الْمُغْوِي هُوَ الْمُسْعِدُ الْمُشْقِي
وَمِمَّا كَانَ يُنْشِدُهُ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ:
نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ وَأَكْثَرُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُوا
ثُمَّ يَقُولُ: لَقَدِ اخْتَبَرْتُ الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ، فَلَمْ أَجِدْهَا

تَرْوِي غَلِيلًا وَلَا تَشْفِي عَلِيلًا، وَرَأَيْتُ أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ، أَقْرَأُ فِي الْإِثْبَاتِ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [ طَه: 5 ] إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ " فَاطِرٍ: 10 " وَفِي النَّفْيِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " الشُّورَى: 11 " هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا " مَرْيَمَ: 65 ".

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّمِائَةٍ
ذَكَرَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ فِي " الذَّيْلِ " أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَمَالَأَتْ مُلُوكُ الْجَزِيرَةِ; صَاحِبُ الْمَوْصِلِ وَصَاحِبُ سِنْجَارَ، وَصَاحِبُ إِرْبِلَ، وَمَعَهُمُ ابْنُ أَخِيهِ الظَّاهِرُ صَاحِبُ حَلَبَ وَمَلِكُ الرُّومِ أَيْضًا، عَلَى مُخَالَفَةِ الْعَادِلِ وَمُنَابَذَتِهِ وَمُقَاتَلَتِهِ وَاصْطِلَامِ الْمُلْكِ مِنْ يَدِهِ، وَأَنْ تَكُونَ الْخُطْبَةُ لِلْمَلِكِ كِيخُسْرُو بْنِ قِلِيجَ أَرْسَلَانَ صَاحِبِ الرُّومِ، وَأَرْسَلُوا إِلَى الْكُرْجِ لِيَقْدُمُوا لِحِصَارِ خِلَاطَ وَأَخْذِهَا مِنْ يَدِ الْمَلِكِ الْأَوْحَدِ بْنِ الْعَادِلِ، وَوَعَدَهُمُ النَّصْرَ وَالْمُعَاوَنَةَ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَهَذَا بَغْيٌ وَعُدْوَانٌ يَنْهَى اللَّهُ عَنْهُ، فَأَقْبَلَتِ الْكُرْجُ بِمَلِكِهِمْ إِيوَانِي، فَحَاصَرُوا خِلَاطَ، فَضَاقَ بِهِمُ الْأَوْحَدُ ذَرْعًا، وَقَالَ: هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ. فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ تَاسِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ اشْتَدَّ حِصَارُهُمْ لِلْبَلَدِ، وَأَقْبَلَ مَلِكُهُمْ إِيوَانِي وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى جَوَادِهِ وَهُوَ سَكْرَانُ، فَسَقَطَ بِهِ جَوَادُهُ فِي بَعْضِ الْحُفَرِ الَّتِي قَدْ أُعِدَّتْ مَكِيدَةً حَوْلَ الْبَلَدِ، فَبَادَرَ إِلَيْهِ رِجَالُ الْبَلَدِ، فَأَخَذُوهُ أَسِيرًا حَقِيرًا، فَأُسْقِطَ فِي أَيْدِي الْكُرْجِ، فَلَمَّا أُوقِفَ بَيْنَ يَدِيِ الْأَوْحَدِ أَطْلَقَهُ وَمَنَّ عَلَيْهِ، وَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَفَادَاهُ عَلَى مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ وَأَلْفَيْ

أَسِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَسْلِيمِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ قَلْعَةً مُتَاخِمَةً لِبِلَادِ الْأَوْحَدِ، وَأَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ مِنْ أَخِيهِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ مُوسَى، وَأَنْ يَكُونَ عَوْنًا لَهُ عَلَى مَنْ يُحَارِبُهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، فَأُخِذَتِ الْأَيْمَانُ مِنْهُ بِذَلِكَ، وَبَعَثَ الْأَوْحَدُ إِلَى أَبِيهِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالْعَادِلُ نَازِلٌ بِظَاهِرِ حَرَّانَ فِي أَشَدِّ حَيْرَةٍ مِمَّا قَدْ دَهَمَهُ مِنَ الْأَمْرِ الْفَظِيعِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُ هَذَا الْأَمْرُ الْهَائِلُ وَالتَّدْبِيرُ مِنْ عَزِيزٍ حَكِيمٍ، لَمْ يَكُنْ فِي بَالِهِ وَلَا حِسَابِهِ، فَكَادَ يَذْهَلُ فَرَحًا وَسُرُورًا، وَأَجَازَ جَمِيعَ مَا فَعَلَهُ وَلَدُهُ، وَطَارَتِ الْأَخْبَارُ بِمَا وَقَعَ بَيْنَ الْمُلُوكِ، فَخَضَعُوا وَذَلُّوا عِنْدَ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَعْتَذِرُ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ، وَيُحِيلُ عَلَى غَيْرِهِ، فَقَبِلَ مِنْهُمُ اعْتِذَارَاتِهِمْ، وَصَالَحَهُمْ صُلْحًا أَكِيدًا، وَاسْتَقْبَلَ الْمَلِكُ عَقْدًا جَدِيدًا. وَوَفَّى مَلِكُ الْكُرْجِ لِلْأَوْحَدِ بِجَمِيعِ مَا شَرَطَهُ عَلَيْهِ، وَتَزَوَّجَ الْأَشْرَفُ ابْنَتَهُ. وَمِنْ غَرِيبِ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ فِي هَذِهِ الْكَائِنَةِ أَنَّ قِسِّيسَ الْمَلِكِ كَانَ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ لِلْمَلِكِ قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ: اعْلَمْ أَنَّكَ تَدْخُلُ غَدًا إِلَى قَلْعَةِ خِلَاطَ وَلَكِنْ بِزِيٍّ غَيْرِ زِيِّكَ أَذَانَ الْعَصْرِ. فَوَافَقَ دُخُولُهُ إِلَيْهَا أَسِيرًا وَقْتَ أَذَانِ الْعَصْرِ.

ذِكْرُ وَفَاةِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ نُورِ الدِّينِ
أَرْسَلَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ شَاهِ بْنُ عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودِ بْنِ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودِ بْنِ

زَنْكِيِّ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ يَخْطُبُ ابْنَةَ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ، وَأَرْسَلَ وَكِيلَهُ لِقَبُولِ الْعَقْدِ عَلَى ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. فَاتَّفَقَ مَوْتُ نُورِ الدِّينِ وَوَكِيلِهِ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَعُقِدَ الْعَقْدُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كَامِلِهِ كَثِيرًا وَشَكَرَ مِنْهُ وَمِنْ عَدْلِهِ وَشَهَامَتِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ، وَذَكَرَ أَنَّ مُدَّةَ مُلْكِهِ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا. وَأَمَّا أَبُو الْمُظَفَّرِ السِّبْطُ فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَ جَبَّارًا ظَالِمًا بَخِيلًا سَفَّاكًا لِلدِّمَاءِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَامَ فِي الْمُلْكِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ الْقَاهِرُ عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودٌ، وَجَعَلَ تَدْبِيرَ مَمْلَكَتِهِ إِلَى غُلَامِهِ بَدْرِ الدِّينِ لُؤْلُؤٍ الَّذِي صَارَ الْمُلْكُ إِلَيْهِ فِيمَا بَعْدُ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَفِي سَابِعِ شَوَّالٍ شُرِعَ فِي عِمَارَةِ الْمُصَلَّى; بُنِيَ لَهُ أَرْبَعُ جُدُرٍ مُشْرِفَةٍ، وَجُعِلَ لَهُ أَبْوَابٌ صَوْنًا لِمَكَانِهِ مِنَ الْمَيْتَاتِ وَنُزُولِ الْقَوَافِلِ، وَجُعِلَ فِي قِبْلَتِهِ مِحْرَابٌ مِنْ حِجَارَةٍ وَمِنْبَرٌ مِنْ حِجَارَةٍ، وَعُقِدَتْ فَوْقَ ذَلِكَ قُبَّةٌ، ثُمَّ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ عُمِلَ فِي قِبْلَتِهِ رِوَاقَانِ، وَعُمِلَ لَهُ مِنْبَرٌ مِنْ خَشَبٍ، وَرُتِّبَ لَهُ خَطِيبٌ رَاتِبٌ وَإِمَامٌ رَاتِبٌ، وَمَاتَ الْعَادِلُ وَلَمْ يَتِمَّ الرِّوَاقُ الثَّانِي مِنْهُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى يَدِ الْوَزِيرِ صَفِيِّ الدِّينِ بْنِ شُكْرٍ. قَالَ: وَفِي حَادِي عَشَرَ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ جُدِّدَتْ أَبْوَابُ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ مِنْ نَاحِيَةِ بَابِ الْبَرِيدِ بِالنُّحَاسِ الْأَصْفَرِ، وَرُكِّبَتْ فِي أَمَاكِنِهَا.
وَفِي شَوَّالٍ أَيْضًا شُرِعَ فِي إِصْلَاحِ الْفَوَّارَةِ وَالشَّاذِرْوَانِ وَالْبِرْكَةِ وَعُمِلَ عِنْدِهَا مَسْجِدٌ، وَجُعِلَ لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ، وَأَوَّلُ مَنْ تَوَلَّاهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: النَّفِيسُ الْمِصْرِيُّ.

وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: بُوقُ الْجَامِعِ، لِطِيبِ صَوْتِهِ إِذَا قَرَأَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الضَّرِيرِ الْمُصَدَّرِ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ الْكَثِيرُ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا تَوَجَّهَتْ مَرَاكِبُ مِنْ عَكَّا فِي الْبَحْرِ إِلَى ثَغْرِ دِمْيَاطَ وَفِيهَا مَلِكُ قُبْرُسَ الْمُسَمَّى الْبَالَ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فَدَخَلَ الثَّغْرَ لَيْلًا، وَأَغَارَ عَلَى بَعْضِ الْبِلَادِ، فَقَتَلَ وَسَبَى وَغَنِمَ، وَكَرَّ رَاجِعًا، فَرَكِبَ مَرَاكِبَهُ، فَلَمْ يُدْرِكْهُ الطَّلَبُ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَهُ سَابِقَةٌ بِمِثْلِهَا قَبْلَ هَذِهِ، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَتَّفِقْ لِغَيْرِهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَاثَتِ الْفِرِنْجُ بِنَوَاحِي الْقُدْسِ الشَّرِيفِ فَبَرَزَ إِلَيْهِمُ الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ فِي عَسَاكِرِهِ، وَجَلَسَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ قِزُغْلِي الْحَنَفِيُّ، وَهُوَ سِبْطُ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ ابْنُ ابْنَتِهِ رَابِعَةَ، وَهُوَ صَاحِبُ " مِرْآةِ الزَّمَانِ "، وَكَانَ فَاضِلًا فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، حَسَنَ الشَّكْلِ، طَيِّبَ الصَّوْتِ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ فِي الْوَعْظِ جَيِّدًا، وَتُحِبُّهُ الْعَامَّةُ عَلَى صِيتِ جَدِّهِ، وَقَدْ رَحَلَ مِنْ بَغْدَادَ، فَنَزَلَ دِمَشْقَ وَأَكْرَمَهُ مُلُوكُهَا، وَوَلِيَ التَّدَارِيسَ الْكِبَارَ بِهَا، وَكَانَ يَجْلِسُ كُلَّ يَوْمِ سَبْتٍ عِنْدَ بَابِ مَشْهَدِ عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ إِلَى السَّارِيَةِ الَّتِي يَجْلِسُ عِنْدَهَا الْوُعَّاظُ فِي زَمَانِنَا هَذَا، فَكَانَ يَكْثُرُ الْجَمْعُ عِنْدَهُ حَتَّى يَكُونُوا مِنْ بَابِ النَّاطِفَانِيِّينَ إِلَى بَابِ الْمَشْهَدِ وَإِلَى بَابِ السَّاعَاتِ غَيْرَ الْوُقُوفِ، فَحُزِرَ جَمْعُهُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَكَانَ النَّاسُ يَبِيتُونَ لَيْلَةَ السَّبْتِ بِالْجَامِعِ فِي الصَّيْفِ وَيَتْرُكُونَ الْبَسَاتِينَ وَالْفَرَحَ فِي خَتَمَاتٍ وَأَذْكَارٍ لِتَحْصِيلِ الْأَمَاكِنِ بِمِيعَادِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ

وَعْظِهِ خَرَجُوا إِلَى بَسَاتِينِهِمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ كَلَامٌ إِلَّا فِيمَا قَالَ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ.
وَيَحْضُرُ عِنْدَهُ الْأَكَابِرُ، حَتَّى الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ أَبُو الْيُمْنِ الْكِنْدِيُّ كَانَ يَجْلِسُ فِي الْقُبَّةِ الَّتِي عِنْدَ بَابِ الْمَشْهَدِ هُوَ وَوَالِي الْبَلَدِ الْمُعْتَمِدُ وَوَالِي الْبَرِّ ابْنُ ثُمَيْرِكٍ وَغَيْرُهُمْ. فَلَمَّا جَلَسَ يَوْمَ السَّبْتِ خَامِسَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بِالْجَامِعِ - كَمَا ذَكَرْنَا - حَثَّ النَّاسَ عَلَى الْجِهَادِ، وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ مَا كَانَ قَدْ تَحَصَّلَ عِنْدَهُ مِنْ شُعُورِ التَّائِبِينَ، وَقَدْ عَمِلَ مِنْهُ شِكَالَاتٍ يَحْمِلُهَا الرِّجَالُ، فَلَمَّا رَآهَا النَّاسُ ضَجُّوا ضَجَّةً وَاحِدَةً، وَتَبَاكَوْا بُكَاءً كَثِيرًا، وَقَطَّعُوا مِنْ شُعُورِهِمْ نَحْوَهَا، فَلَمَّا انْقَضَى الْمَجْلِسُ، وَنَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ، فَتَلَقَّاهُ الْوَالِي مُبَارِزُ الدِّينِ الْمُعْتَمِدُ إِبْرَاهِيمُ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ، فَمَشَى بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى بَابِ النَّاطِفَانِيِّينَ يُعَضِّدُهُ حَتَّى رَكِبَ فَرَسَهُ، وَالنَّاسُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، فَخَرَجَ مِنْ بَابِ الْفَرَجِ وَبَابِ الْمُصَلَّى، ثُمَّ رَكِبَ مِنَ الْغَدِ فِي النَّاسِ إِلَى الْكُسْوَةِ، وَمَعَهُ خَلَائِقُ كَثِيرُونَ بِنِيَّةِ الْجِهَادِ إِلَى بِلَادِ الْقُدْسِ وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ مَعَهُ ثَلَاثُمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ زَمَلُكَا بِالْعُدَدِ التَّامَّةِ. قَالَ: فَجِئْنَا عَقَبَةَ أَفِيقَ، وَالطَّيْرُ لَا يَتَجَاسَرُ أَنْ يَطِيرَ مِنْ خَوْفِ الْفِرِنْجِ، فَلَمَّا وَصَلْنَا نَابُلُسَ تَلَقَّانَا الْمُعَظَّمُ. قَالَ: وَلَمْ أَكُنِ اجْتَمَعْتُ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى الشِّكَالَاتِ مِنْ شُعُورِ التَّائِبِينَ جَعَلَ يُقَبِّلُهَا، وَيُمَرِّغُهَا عَلَى وَجْهِهِ وَيَبْكِي. وَعَمِلَ أَبُو الْمُظَفَّرِ مِيعَادًا بِنَابُلُسَ، وَحَثَّ عَلَى الْجِهَادِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، ثُمَّ سَارُوا صُحْبَةَ الْمُعَظَّمِ إِلَى نَاحِيَةِ بِلَادِ

الْفِرِنْجِ، فَقَتَلُوا خَلْقًا، وَخَرَّبُوا أَمَاكِنَ كَثِيرَةً، وَغَنِمُوا وَعَادُوا سَالِمِينَ، وَشَرَعَ الْمُعَظَّمُ فِي تَحْصِينِ جَبَلِ الطُّورِ وَبَنَى قَلْعَةً فِيهِ; لِيَكُونَ أَلْبًا عَلَى الْفِرِنْجِ، فَغَرِمَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً فِي ذَلِكَ، فَبَعَثَ الْفِرِنْجُ إِلَى الْعَادِلِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْأَمَانَ وَالْمُصَالَحَةَ، فَهَادَنَهُمْ وَبَطَلَتْ تِلْكَ الْعِمَارَةُ، وَضَاعَ مَا كَانَ الْمُعَظَّمُ غَرِمَ عَلَيْهَا.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ بَانِي الْمَدْرَسَةِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ لِلْقُرَّاءِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قُدَامَةَ، الشَّيْخُ الصَّالِحُ أَبُو عُمَرَ الْمَقْدِسِيُّ، بَانِي الْمَدْرَسَةِ الَّتِي يُقْرَأُ فِيهَا الْقُرْآنُ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَهُوَ أَخُو الشَّيْخِ مُوَفَّقِ الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قُدَامَةَ، وَكَانَ أَبُو عُمَرَ أَسَنَّ مِنْهُ; لِأَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ بَقَرْيَةِ السَّاوَيَا، وَقِيلَ: بِجَمَّاعِيلَ. وَهُوَ رَبَّى الشَّيْخَ مُوَفَّقَ الدِّينِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَزَوَّجَهُ، وَكَانَ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِ، وَهُوَ الَّذِي قَدِمَ بِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ، فَنَزَلُوا بِمَسْجِدِ أَبِي صَالِحٍ، ثُمَّ انْتَقَلُوا مِنْهُ إِلَى السَّفْحِ، وَلَيْسَ بِهِ مِنَ الْعِمَارَةِ شَيْءٌ سِوَى دَيْرِ الْحَوْرَانِيِّ، قَالَ: فَقِيلَ لَنَا: الصَّالِحِيُّونَ. نِسْبَةً إِلَى مَسْجِدِ أَبِي صَالِحٍ، لَا أَنَّا صَالِحُونَ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْبُقْعَةُ مِنْ ذَلِكَ الْحِينِ بِالصَّالِحِيَّةِ نِسْبَةً إِلَيْنَا، فَقَرَأَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ الْقُرْآنَ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي عَمْرٍو، وَحَفِظَ " مُخْتَصَرَ الْخِرَقِيِّ " فِي الْفِقْهِ، وَهُوَ الَّذِي شَرَحَهُ أَخُوهُ، فَكَتَبَ شَرْحَهُ بِيَدِهِ، وَكَتَبَ " تَفْسِيرَ الْبَغَوِيِّ "،

وَ " الْحِلْيَةَ " لِأَبِي نُعَيْمٍ، وَ " الْإِبَانَةَ " لِابْنِ بَطَّةَ، وَكَتَبَ مَصَاحِفَ كَثِيرَةً لِلنَّاسِ وَلِأَهْلِهِ لَا بِأُجْرَةٍ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، وَالتَّهَجُّدِ، يَصُومُ الدَّهْرَ، حَسَنَ الشَّكْلِ، نَحِيلَ الْجِسْمِ، عَلَيْهِ أَنْوَارُ الْعِبَادَةِ، لَا يَزَالُ مُتَبَسِّمًا، وَكَانَ يَقْرَأُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعًا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَيُصَلِّي الضُّحَى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ يَقْرَأُ فِيهِنَّ أَلْفَ مَرَّةٍ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَكَانَ يَزُورُ مَغَارَةَ الدَّمِ فِي كُلِّ يَوْمِ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ، وَيَجْمَعُ فِي طَرِيقِهِ الشِّيحَ، فَيُعْطِيهِ الْأَرَامِلَ وَالْمَسَاكِينَ، وَمَهْمَا تَهَيَّأَ لَهُ مِنْ فُتُوحٍ وَغَيْرِهِ يُؤْثِرُ بِهِ أَهْلَهُ وَالْمَسَاكِينَ، وَكَانَ مُتَقَلِّلًا فِي الْمَلْبَسِ، وَرُبَّمَا مَضَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ لَا يَلْبَسُ فِيهَا سَرَاوِيلَ وَلَا قَمِيصًا. وَكَانَ يَقْطَعُ مِنْ عِمَامَتِهِ قِطَعًا يَتَصَدَّقُ بِهَا أَوْ فِي تَكْمِيلِ كَفَنِ مَنْ يَعُوزُ كَفَنُهُ، وَكَانَ هُوَ وَأَخُوهُ وَابْنُ خَالِهِمُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ وَأَخُوهُ الشَّيْخُ الْعِمَادُ لَا يَنْقَطِعُونَ عَنْ غَزَاةٍ يَخْرُجُ فِيهَا الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ، وَقَدْ حَضَرُوا مَعَهُ فَتْحَ الْقُدْسِ الشَّرِيفِ وَغَيْرِهَا، وَجَاءَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرٍ يَوْمًا إِلَى خَيْمَتِهِمْ لِزِيَارَةِ الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَمَا قَطَعَ صَلَاتَهُ وَلَا أَوْجَزَهَا، بَلِ اسْتَمَرَّ فِيهَا، وَهُوَ الَّذِي شَرَعَ فِي بِنَاءِ الْجَامِعِ أَوَّلًا بِمَالِ رَجُلٍ مِنَ النَّاسِ، فَنَفِدَ مَا كَانَ بِيَدِهِ، وَقَدِ ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ قَامَةً، فَبَعَثَ صَاحِبُ إِرْبِلَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ كُوكُبُرِي مَالًا فَكَمَلَ، وَوَلِيَ خَطَابَتَهُ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ، فَكَانَ يَخْطُبُ بِهِ وَعَلَيْهِ لِبَاسُهُ الضَّعِيفُ، وَعَلَيْهِ أَنْوَارُ الْخَشْيَةِ وَالتَّقْوَى، وَإِنَّمَا كَانَ الْمِنْبَرُ الَّذِي فِيهِ ثَلَاثُ مَرَاقٍ، وَالرَّابِعَةُ لِلْجُلُوسِ كَمَا كَانَ الْمِنْبَرُ النَّبَوِيُّ.

وَقَدْ حَكَى أَبُو الْمُظَفَّرِ أَنَّهُ حَضَرَ يَوْمًا عِنْدَهُ الْجُمُعَةَ، وَكَانَ الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ الْيُونِينِيُّ حَاضِرًا هُنَاكَ، فَلَمَّا انْتَهَى الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ إِلَى الدُّعَاءِ لِلسُّلْطَانِ قَالَ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ عَبْدَكَ الْمَلِكَ الْعَادِلَ سَيْفَ الدِّينِ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَيُّوبَ. فَنَهَضَ الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ وَتَرَكَ الْجُمُعَةَ، فَلَمَّا فَرَغْنَا ذَهَبْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَاذَا نَقَمْتَ؟ فَقَالَ: يَقُولُ لِهَذَا الظَّالِمِ: الْعَادِلَ؟ فَبَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْحَدِيثِ إِذْ أَقْبَلَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ وَمَعَهُ رَغِيفٌ وَخِيَارَتَانِ، فَكَسَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: الصَّلَاةُ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُعِثْتُ فِي زَمَنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ كِسْرَى. فَتَبَسَّمَ الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ، وَمَدَّ يَدَهُ فَأَكَلَ، فَلَمَّا قَامَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ قَالَ لِي: يَا سَيِّدَنَا، مَا ذَا إِلَّا رَجُلٌ صَالِحٌ.
قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ مِنَ الصَّالِحِينَ الْكِبَارِ، وَقَدْ رَأَيْتُهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ أَبِي عُمَرَ بِعَشْرِ سِنِينَ، فَلَمْ يُسَامِحِ الشَّيْخَ أَبَا عُمَرَ فِي تَسَاهُلِهِ مَعَ وَرَعِهِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ مُسَافِرًا لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ، وَعُذْرُ الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ أَنَّ هَذَا قَدْ جَرَى مَجْرَى الْأَعْلَامِ; الْعَادِلِ، الْكَامِلِ، الْأَشْرَفِ، وَنَحْوِهِ، كَمَا يُقَالُ: سَالِمٌ، وَغَانِمٌ، وَمَسْعُودٌ، وَمَحْمُودٌ. وَقَدْ يَكُونُ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ عَلَى الضِّدِّ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ،

وَكَذَلِكَ إِطْلَاقُ الْعَادِلِ وَنَحْوِهِ قَدْ دَخَلَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْمُشْرِكِ، فَهَذَا أَوْلَى.
قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ، وَعَجَبًا لَهُ وَلِأَبِي الْمُظَفَّرِ، ثُمَّ لِأَبِي شَامَةَ فِي قَبُولِ هَذَا وَأَخْذِهِ عَنْهُ مُسَلَّمًا! وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ شَرَعَ أَبُو الْمُظَفَّرِ فِي ذِكْرِ فَضَائِلِ أَبِي عُمَرَ وَكَرَامَاتِهِ وَمَا رَآهُ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَحْوَالِهِ الصَّالِحَةِ، قَالَ: وَكَانَ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، حَسَنَ الْعَقِيدَةِ، مُتَمَسِّكًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ، يُمِرُّهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ طَعْنٍ عَلَى أَئِمَّةِ الدِّينِ وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَنْهَى عَنْ صُحْبَةِ الْمُبْتَدِعِينَ، وَيَأْمُرُ بِصُحْبَةِ الصَّالِحِينَ. قَالَ: رُبَّمَا أَنْشَدَنِي لِنَفْسِهِ فِي ذَلِكَ:
أُوصِيكُمُ بِالْقَوْلِ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْإِتْقَانِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَلَا بِفَانِ
لَكِنْ كَلَامُ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ آيَاتُهُ مُشْرِقَةُ الْمَعَانِي
مَتْلُوَّةٌ لِلَّهِ بِاللِّسَانِ مَحْفُوظَةٌ فِي الصَّدْرِ وَالْجِنَانِ
مَكْتُوبَةٌ فِي الصُّحْفِ بِالْبَنَانِ وَالْقَوْلُ فِي الصِّفَاتِ يَا إِخْوَانِي
كَالذَّاتِ وَالْعِلْمِ مَعَ الْبَيَانِ إِمْرَارُهَا مِنْ غَيْرِ مَا كُفْرَانِ
مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَلَا عُطْلَانِ
قَالَ وَأَنْشَدَنِي لِنَفْسِهِ:
أَلَمْ يَكُ مَلْهَاةً عَنِ اللَّهْوِ أَنَّنِي بَدَا لِيَ شَيْبُ الرَّأْسِ وَالضَّعْفُ وَالْأَلَمْ

أَلَمَّ بِيَ الْخَطْبُ الَّذِي لَوْ بَكَيْتُهُ حَيَاتِي حَتَّى يَذْهَبَ الدَّمْعُ لَمْ أُلَمْ
قَالَ: وَمَرِضَ أَيَّامًا، فَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِمَّا كَانَ يَعْمَلُهُ مِنَ الْأَوْرَادِ، حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ وَقْتَ السَّحَرِ فِي لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَغُسِّلَ بِالدَّيْرِ، وَحُمِلَ إِلَى مَقْبَرَتِهِ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنَ الدَّوْلَةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَّا حَضَرَ جَنَازَتَهُ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَكَانَ الْحَرُّ شَدِيدًا، فَأَظَلَّتِ النَّاسَ سَحَابَةٌ مِنَ الْحَرِّ كَانَ يُسْمَعُ مِنْهَا كَدَوِيِّ النَّحْلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَنْتَهِبُونَ أَكْفَانَهُ، وَقَدْ رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ بِمَرَاثٍ حَسَنَةٍ، وَرُئِيَتْ لَهُ مَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَتَرَكَ مِنَ الْأَوْلَادِ ثَلَاثَةَ ذُكُورٍ; عُمْرَ، وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى، وَالشَّرَفَ عَبْدَ اللَّهِ، وَقَدْ وَلِيَ الْخَطَابَةَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَهُوَ وَالِدُ الْعِزِّ، وَأَحْمَدَ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ الشَّرَفُ عَبْدُ اللَّهِ صَارَتِ الْخَطَابَةُ لِأَخِيهِ شَمْسِ الدِّينِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَرَ، وَكَانَ مِنْ أَوْلَادِ أَبِيهِ الذُّكُورِ، فَهَؤُلَاءِ أَوْلَادُ أَبِيهِ الذُّكُورُ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْإِنَاثِ بَنَاتٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا [ التَّحْرِيمِ: 5 ] قَالَ: وَقَبْرُهُ فِي طَرِيقِ مَغَارَةِ الْجُوعِ فِي الزُّقَاقِ الْمُقَابِلِ لِدَيْرِ الْحَوْرَانِيِّ. رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا.
ابْنُ طَبَرْزَدَ شَيْخُ الْحَدِيثِ: عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَمَّرِ بْنِ يَحْيَى الْمَعْرُوفُ بِأَبِي حَفْصِ بْنِ طَبَرْزَدَ الْبَغْدَادِيُّ الدَّارَقَزِّيُّ، وُلِدَ سَنَةَ عَشْرٍ وَخَمْسِمِائَةٍ،

وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَأَسْمَعَ، وَكَانَ خَلِيعًا ظَرِيفًا مَاجِنًا، وَكَانَ يُؤَدِّبُ الصِّبْيَانَ بِدَارِ الْقَزِّ، قَدِمَ مَعَ حَنْبَلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُكَبِّرِ إِلَى دِمَشْقَ، فَسَمِعَ أَهْلُهَا عَلَيْهِمَا، وَحَصَلَ لَهُمَا أَمْوَالٌ، وَعَادَا إِلَى بَغْدَادَ، فَمَاتَ حَنْبَلٌ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَتَأَخَّرَ هُوَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، فَمَاتَ فِيهَا وَلَهُ سَبْعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَتَرَكَ مَالًا جَيِّدًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ إِلَّا بَيْتُ الْمَالِ، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ أَرْسَلَانُ شَاهْ نُورُ الدِّينِ أَبُو الْحَارِثِ أَرْسَلَانُ شَاهْ بْنُ عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودِ بْنِ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي نُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ سِيرَتِهِ فِي الْحَوَادِثِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَكَانَ شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ شَافِعِيٌّ سِوَاهُ، وَبَنَى لِلشَّافِعِيَّةِ مَدْرَسَةً عَظِيمَةً بِالْمَوْصِلِ، وَبِهَا تُرْبَتُهُ، قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْأَحَدِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ابْنُ سُكَيْنَةَ: عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَلِيٍّ ضِيَاءُ الدِّينِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ سُكَيْنَةَ الصُّوفِيِّ، كَانَ يُعَدُّ مِنَ الْأَبْدَالِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَأَسْمَعَ بِبِلَادٍ شَتَّى، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ صَاحِبًا لِأَبِي الْفَرَجِ بْنِ

الْجَوْزِيِّ مُلَازِمًا لِمَجْلِسِهِ، وَكَانَ يَوْمُ جَنَازَتِهِ مَشْهُودًا; لِكَثْرَةِ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُظَفَّرُ بْنُ شَاشِيرَ الْوَاعِظُ الصُّوفِيُّ الْبَغْدَادِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ يَعِظُ فِي الْأَعْزِيَةِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْقُرَى، وَكَانَ ظَرِيفًا مَطْبُوعًا، قَامَ إِلَيْهِ إِنْسَانٌ وَهُوَ يَعِظُ، فَقَالَ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ: أَنَا مَرِيضٌ جَائِعٌ. فَقَالَ: احْمَدْ رَبَّكَ فَقَدْ عُوفِيتَ. وَاجْتَازَ عَلَى قَصَّابٍ يَبِيعُ لَحْمًا ضَعِيفًا، وَهُوَ يَقُولُ: أَيْنَ مَنْ حَلَفَ لَا يُغْبَنُ؟ فَقَالَ لَهُ: حَتَّى تُحْنِثَهُ؟ قَالَ: وَعَمِلْتُ مَرَّةً مَجْلِسًا بِبَعْقُوبَا، فَجَعَلَ هَذَا يَقُولُ: عِنْدِي لِلشَّيْخِ نِصْفِيَّةٌ، وَهَذَا يَقُولُ مِثْلَهُ، حَتَّى عَدُّوا نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ نِصْفِيَّةً، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: اسْتَغْنَيْتُ اللَّيْلَةَ، فَأَرْجِعُ إِلَى الْبَلَدِ تَاجِرًا. فَلَمَّا أَصْبَحْتُ إِذَا صُبْرَةٌ مِنْ شَعِيرٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَقِيلَ: هَذِهِ النِّصَافِي. وَإِذَا هِيَ مِكْيَلَةٌ يُسَمُّونَهَا النِّصَافِيَ. وَعَمِلْتُ مَرَّةً مَجْلِسًا بِبَاجِسْرَا، فَجَمَعُوا لِي شَيْئًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا شَيْءٌ مِنْ صُوفِ الْجَوَامِيسِ وَقُرُونِهَا، فَقَامَ رَجُلٌ يُنَادِي عَلَيْهَا: كَمْ فِي صُوفِ الشَّيْخِ؟ فَقُلْتُ: لَا حَاجَةَ لِي بِهَذَا، وَأَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْهُ. ذَكَرَهُ أَبُو شَامَةَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْعَادِلُ مُقِيمٌ عَلَى الطُّورِ لِعِمَارَةِ حِصْنِهِ، وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ بِأَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ قَدْ كَسَرَ الْفِرِنْجَ بِطُلَيْطِلَةَ كَسْرَةً عَظِيمَةً، وَرُبَّمَا فَتَحَ الْبَلَدَ عَنْوَةً، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا عَظِيمًا.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ شَدِيدَةٌ هَدَمَتْ بِمِصْرَ وَالْقَاهِرَةِ دُورًا كَثِيرَةً، وَكَذَلِكَ بِمَدِينَةِ الْكَرَكِ وَالشَّوْبَكِ هَدَمَتْ مِنْ قَلْعَتِهَا أَبْرَاجًا، وَمَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصِّبْيَانِ وَالنِّسْوَانِ تَحْتَ الْهَدْمِ. وَرُئِيَ دُخَانٌ نَازِلٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ فِيمَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ عِنْدَ قَبْرِ عَاتِكَةَ غَرْبِيَّ دِمَشْقَ.
وَفِيهَا أَظْهَرَتِ الْبَاطِنِيَّةُ الْإِسْلَامَ، وَأَقَامَتِ الْحُدُودَ عَلَى مَنْ يَتَعَاطَى الْحَرَامَ، وَبَنَوُا الْجَوَامِعَ وَالْمَسَاجِدَ، وَكَتَبُوا إِلَى إِخْوَانِهِمْ بِالشَّامِ بِمِصْيَابَ وَأَمْثَالِهَا بِذَلِكَ، وَكَتَبَ زَعِيمُهُمْ جَلَالُ الدِّينِ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَقَدِمَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ إِلَى بَغْدَادَ لِأَجْلِ الْحَجِّ، فَأُكْرِمُوا وَعُظِّمُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانُوا بِعَرَفَاتٍ ظَفِرَ

وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى قَرِيبٍ لِأَمِيرِ مَكَّةَ قَتَادَةَ الْحُسَيْنِيِّ فَقَتَلَهُ ظَانًّا أَنَّهُ قَتَادَةُ، فَثَارَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ سُودَانِ مَكَّةَ وَرَكْبِ الْعِرَاقِ، وَنُهِبَ الرَّكْبُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ.
وَفِيهَا اشْتَرَى الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ جَوْسَقَ الرَّيْسِ مِنَ النَّيْرَبِ مِنِ ابْنِ عَمِّهِ الظَّافِرِ خَضِرِ بْنِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَبَنَاهُ بِنَاءً حَسَنًا، وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي زَمَانِنَا بِالدَّهْشَةِ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْمَوْصِلِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ وَالْفُنُونِ الْكَثِيرَةِ، كَانَ رَئِيسَ الشَّافِعِيَّةِ بِالْمَوْصِلِ، وَبُعِثَ رَسُولًا إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ مَوْتِ نُورِ الدِّينِ أَرْسَلَانَ، وَكَانَ عِنْدَهُ وَسْوَسَةٌ كَثِيرَةٌ فِي الطَّهَارَةِ، وَكَانَ يُعَامِلُ فِي الْأَمْوَالِ بِمَسْأَلَةِ الْعِينَةِ - وَلَوْ عَكَسَ الْأَمْرَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ - فَلَقِيَهُ يَوْمًا قَضِيبُ الْبَانِ الْمُوَلَّهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا شَيْخُ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ تَغْسِلُ الْعُضْوَ مِنْ

أَعْضَائِكَ بِأَبَارِيقَ مِنَ الْمَاءِ، فَلِمَ لَا تَسْتَنْظِفُ اللُّقْمَةَ الَّتِي تَأْكُلُهَا لِيَسْتَنْظِفَ قَلْبُكَ وَبَاطِنُكَ؟! فَفَهِمَ الشَّيْخُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ وَتَرَكَ الْمُعَامَلَةَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَوْصِلِ فِي رَجَبٍ عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
ابْنُ حَمْدُونَ تَاجُ الدِّينِ أَبُو سَعْدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدُونَ، وَلَدُ صَاحِبِ التَّذْكِرَةِ الْحَمْدُونِيَّةِ، كَانَ فَاضِلًا بَارِعًا، اعْتَنَى بِجَمْعِ الْكُتُبِ الْمَنْسُوبَةِ وَغَيْرِهَا، وَوَلَّاهُ الْخَلِيفَةُ الْمَارَسْتَانَ الْعَضُدِيَّ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَدَائِنِ، وَحُمِلَ إِلَى مَقَابِرِ قُرَيْشٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ صَاحِبُ الرُّومِ خُسْرُوشَاهْ بْنُ قِلِيجَ أَرْسَلَانَ، وَقَامَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ كَيْكَاوُسُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مَلَكَ أَخُوهُ كَيْقُبَاذُ.
صَارِمُ الدِّينِ بُزُغُشُ الْعَادِلِيُّ، نَائِبُ الْقَلْعَةِ بِدِمَشْقَ، مَاتَ فِي صَفَرٍ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ غَرْبِيَّ الْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ، وَهُوَ الَّذِي نَفَى الْحَافِظَ عَبْدَ الْغَنِيِّ الْمُقَدِّسِيَّ إِلَى مِصْرَ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ كَانَ عَقْدُ الْمَجْلِسِ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَامَ عَلَيْهِ ابْنُ الزَّكِيِّ وَالْخَطِيبُ الدَّوْلَعِيُّ، وَقَدْ تُوُفُّوا أَرْبَعَتُهُمْ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ قَامَ عَلَيْهِ، وَاجْتَمَعُوا عِنْدَ رَبِّهِمُ الْحَكَمِ الْعَدْلِ سُبْحَانَهُ.

الْأَمِيرُ فَخْرُ الدِّينِ سَرْكَسُ، وَيُقَالُ لَهُ: جِهَارْكَسُ أَحَدُ أُمَرَاءِ الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ قِبَابُ سَرْكَسَ بِالسَّفْحِ تُجَاهَ تُرْبَةِ خَاتُونَ، وَبِهَا قَبْرُهُ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهُوَ الَّذِي بَنَى الْقَيْسَارِيَّةَ الْكُبْرَى بِالْقَاهِرَةِ الْمَنْسُوبَةَ إِلَيْهِ، وَبَنَى فِي أَعْلَاهَا مَسْجِدًا مُعَلَّقًا وَرَبْعًا، وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ التُّجَّارِ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا لَهَا نَظِيرًا فِي الْبُلْدَانِ فِي حُسْنِهَا وَعِظَمِهَا وَإِحْكَامِ بِنَائِهَا. قَالَ: وَجِهَارْكَسُ بِمَعْنَى أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ نَائِبًا لِلْعَادِلِ عَلَى بَانِيَاسَ وَتِبْنِينَ وَهُونِينَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ تَرَكَ وَلَدًا صَغِيرًا، فَأَقَرَّهُ الْعَادِلُ عَلَى مَا كَانَ يَلِيهِ أَبُوهُ، وَجَعَلَ لَهُ مُدَبِّرًا وَهُوَ الْأَمِيرُ صَارِمُ الدِّينِ خَطْلَبَا التِّبْنِينِيُّ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِهَا بَعْدَ مَوْتِ الصَّبِيِّ إِلَى سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ.
الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الْمُعَمِّرُ الرِّحْلَةُ أَبُو الْقَاسِمِ أَبُو بَكْرٍ أَبُو الْفَتْحِ مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْفُرَاوِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ، سَمِعَ أَبَاهُ وَجَدَّ أَبِيهِ وَغَيْرَهُمَا، وَعَنْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِنَيْسَابُورَ فِي شَعْبَانَ هَذِهِ

السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
قَاسِمُ الدِّينِ التُّرْكُمَانِيُّ الْعُقَيْبِيُّ، وَالِدُ وَالِي الْبَلَدِ، كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا اجْتَمَعَ الْعَادِلُ وَأَوْلَادُهُ; الْكَامِلُ وَالْمُعَظَّمُ وَالْفَائِزُ بِدِمْيَاطَ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ فِي مُقَاتَلَةِ الْفِرِنْجِ، فَاغْتَنَمَ غَيْبَتَهُمْ سَامَةُ الْجَبَلِيُّ أَحَدُ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَتْ بِيَدِهِ قَلْعَةُ عَجْلُونَ وَكَوْكَبٍ، فَسَارَ مُسْرِعًا إِلَى دِمَشْقَ لِيَسْتَلِمَ الْبَلَدَيْنِ، فَأَرْسَلَ الْعَادِلُ فِي إِثْرِهِ وَلَدَهُ الْمُعْظَّمَ صَاحِبَ الشَّامِ فَسَبَقَهُ إِلَى الْقُدْسِ الشَّرِيفِ وَحَمَلَ إِلَيْهِ، فَرَسَمَ عَلَيْهِ فِي كَنِيسَةِ صِهْيُونَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ أَصَابَهُ النِّقْرِسُ، فَشَرَعَ يَرُدُّهُ إِلَى الطَّاعَةِ بِالْمُلَاطَفَةِ، فَلَمْ يَنْفَعْ فِيهِ، فَاسْتَوْلَى عَلَى حَوَاصِلِهِ وَأَمْلَاكِهِ وَأَمْوَالِهِ، وَأَرْسَلَهُ فَاعْتَقَلَهُ بِقَلْعَةِ الْكَرَكِ، وَكَانَ قِيمَةُ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ قَرِيبًا مِنْ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، مِنْ ذَلِكَ دَارُهُ وَحَمَّامُهُ دَاخِلَ بَابِ السَّلَامَةِ، وَدَارُهُ هِيَ الَّتِي جَعَلَهَا الْبَادَرَائِيُّ مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّةِ، وَخَرَّبَ حِصْنَ كَوْكَبٍ، وَنُقِلَتْ حَوَاصِلُهُ إِلَى حِصْنِ الطُّورِ الَّذِي اسْتَجَدَّهُ الْعَادِلُ وَوَلَدُهُ الْمُعَظَّمُ.
وَفِيهَا عُزِلَ الْوَزِيرُ صَفِيُّ الدِّينِ بْنُ شُكْرٍ، وَاحْتِيطَ عَلَى أَمْوَالِهِ وَنُفِيَ إِلَى الشَّرْقِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِنَفْيِ الْحَافِظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ مِنْهَا إِلَى الْمَغْرِبِ، فَتُوُفِّيَ الْحَافِظُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ كِتَابُهُ، وَكَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِنَفْيِهِ إِلَى الشَّرْقِ.

وَفِيهَا اسْتَوْلَى صَاحِبُ قُبْرُسَ لَعَنَهُ اللَّهُ، عَلَى مَدِينَةِ أَنْطَاكِيَةَ، فَحَصَلَ بِسَبَبِهِ شَرٌّ عَظِيمٌ، وَتَمَكَّنَ مِنَ الْغَارَاتِ عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، لَاسِيَّمَا عَلَى التَّرَاكِمِينَ الَّذِينَ حَوْلَ بَلْدَةِ أَنْطَاكِيَةَ ; قَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَنِمَ مِنْ أَغْنَامِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا، فَقَدَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ أَمْكَنَهُمْ مِنْهُ فِي بَعْضِ الْأَوْدِيَةِ، فَقَتَلُوهُ وَطَافُوا بِرَأْسِهِ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ كُلِّهَا، ثُمَّ أَرْسَلُوا رَأْسَهُ إِلَى الْمَلِكِ الْعَادِلِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَطَيْفَ بِهِ هُنَالِكَ، وَهُوَ الَّذِي أَغَارَ عَلَى بِلَادِ مِصْرَ مِنْ ثَغْرِ دِمْيَاطَ مَرَّتَيْنِ، فَقَتَلَ وَسَبَى.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الْأَوْحَدُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ بْنُ الْعَادِلِ صَاحِبُ خِلَاطَ، يُقَالُ: إِنَّهُ قَدْ سَفَكَ الدِّمَاءَ، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ إِلَى أَهْلِهَا، فَقَصَفَ اللَّهُ عُمْرَهُ، وَوَلِيَهَا بَعْدَهُ أَخُوهُ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ مُوسَى بْنُ الْعَادِلِ، وَكَانَ مَحْمُودَ السِّيرَةِ، جَيِّدَ السَّرِيرَةِ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، فَأَحَبُّوهُ كَثِيرًا.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ فَقِيهُ الْحَرَمِ الشَّرِيفِ بِمَكَّةَ، مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي الصَّيْفِ الْيَمَنِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَأَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْقَفْصِيُّ الْمُقْرِئُ الْمُحَدِّثُ، كَتَبَ كَثِيرًا وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدِّيبَاجِيُّ، مِنْ أَهْلِ مَرْوَ، لَهُ كِتَابُ " الْمُحَصَّلِ " فِي شَرْحِ " الْمُفَصَّلِ " لِلزَّمَخْشَرِيِّ فِي النَّحْوِ، كَانَ ثِقَةً عَالِمًا، سَمِعَ الْحَدِيثَ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الزَّاهِدُ الْعَابِدُ أَبُو الثَّنَاءِ مَحْمُودُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَكَارِمَ النَّعَّالُ الْحَنْبَلِيُّ، لَهُ عِبَادَاتٌ وَمُجَاهَدَاتٌ وَسِيَاحَاتٌ، وَبَنَى رِبَاطًا بِبَابِ الْأَزَجِ، يَأْوِي إِلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنَ الْمَقَادِسَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ يُؤْثِرُهُمْ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، وَكَانَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا أَمَرَ الْعَادِلُ أَيَّامَ الْجُمَعِ بِوَضْعِ سَلَاسِلَ عَلَى أَفْوَاهِ الطُّرُقِ إِلَى الْجَامِعِ لِئَلَّا تَصِلَ الْخُيُولُ إِلَى قَرِيبِ الْجَامِعِ صِيَانَةً لِلْمُسْلِمِينَ عَنِ التَّأَذِّي بِهِمْ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ.
وَفِيهَا وُلِدَ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ بْنُ الظَّاهِرِ غَازِيٍّ صَاحِبُ حَلَبَ، وَهُوَ وَالِدُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَاحِبِ دِمَشْقَ، وَاقِفِ النَّاصِرِيَّتَيْنِ الَّذِي أَسَرَهُ هَلَاوُونُ مَلِكُ التَّتَارِ.
وَفِيهَا قَدِمَ بِالْفِيلِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَحَمَلَ هَدِيَّةً إِلَى صَاحِبِ الْكُرْجِ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْهُ، وَمِنْ بَدِيعِ خِلْقَتِهِ.
وَفِيهَا قَدِمَ الْمَلِكُ الظَّافِرُ خَضِرُ بْنُ السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ مِنْ حَلَبَ قَاصِدًا الْحَجَّ، فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ، وَأَكْرَمَهُ ابْنُ عَمِّهِ الْمُعْظَّمُ صَاحِبُ دِمَشْقَ، فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ إِلَّا مَرَاحِلُ يَسِيرَةٌ تَلَقَّتْهُ حَاشِيَةُ الْكَامِلِ صَاحِبِ مِصْرَ، وَصَدُّوهُ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى مَكَّةَ، وَقَالُوا: إِنَّمَا جِئْتَ لِأَخْذِ الْيَمَنِ. فَقَالَ لَهُمْ: قَيِّدُونِي وَذَرُونِي

أَقَضِي الْمَنَاسِكَ. فَقَالُوا: لَيْسَ مَعَنَا مَرْسُومٌ وَإِنَّمَا أُمِرْنَا بِرَدِّكَ وَصَدِّكَ. فَهَمَّ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ بِقِتَالِهِمْ، فَخَافَ مِنْ وُقُوعِ فِتْنَةٍ، فَتَحَلَّلَ مِنْ حَجِّهِ، وَرَجَعَ إِلَى الشَّامِ، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَى مَا فُعِلَ بِهِ، وَتَبَاكَوْا لَمَّا وَدَّعَهُمْ، تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ.
وَفِيهَا وَصَلَ كِتَابٌ مِنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بِخُرَاسَانَ إِلَى الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ الْكِنْدِيِّ يُخْبِرُ فِيهِ أَنَّ السُّلْطَانَ خُوَارَزْمَ شَاهْ مُحَمَّدَ بْنَ تِكِشٍ تَنَكَّرَ فِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ، وَدَخَلَ بِلَادَ التَّتَرِ لِيَكْشِفَ أَخْبَارَهُمْ بِنَفْسِهِ، فَأَنْكَرُوهُمْ فَقَبَضُوا عَلَيْهِمْ، فَضَرَبُوا مِنْهُمُ اثْنَيْنِ حَتَّى مَاتَا، وَلَمْ يُقِرَّا بِمَا جَاءُوا إِلَيْهِ، وَاسْتَوْثَقُوا مِنَ الْمَلِكِ وَصَاحِبِهِ أَسْرًا، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي هَرَبَا، وَرَجَعَ السُّلْطَانُ إِلَى مُعَسْكَرِهِ، فَعَادَ إِلَى مَمْلَكَتِهِ.
قُلْتُ: وَهَذِهِ الْمُكَاتَبَةُ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَسْرِهِ فِي الْمَعْرَكَةِ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْأَمِيرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا ظَهَرَتْ بَلَاطَةٌ وَهُمْ يَحْفِرُونَ فِي خَنْدَقِ حَلَبَ، فَوُجِدَ تَحْتَهَا مِنَ الذَّهَبِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ رَطْلًا، وَمِنَ الْفِضَّةِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ بِالرَّطْلِ الْحَلَبِيِّ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
مُدَرِّسُ مَشْهَدِ أَبِي حَنِيفَةَ وَشَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ بِبَغْدَادَ، الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ عَلِيٍّ التُّرْكِسْتَانِيُّ، وَكَانَ إِلَيْهِ الْمَظَالِمُ، وَدُفِنَ بِالْمَشْهَدِ الْمَذْكُورِ.

وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَخْرُ الدِّينِ الْحَنْبَلِيُّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْمَاشِطَةِ، وَيُقَالُ لَهُ: الْفَخْرُ. غُلَامُ ابْنِ الْمَنِّيِّ. لَهُ تَعْلِيقَةٌ فِي الْخِلَافِ، وَكَانَتْ لَهُ حَلْقَةٌ بِجَامِعِ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ يَلِي النَّظَرَ فِي قَرَايَا الْخَلِيفَةِ، ثُمَّ عَزَلَهُ فَلَزِمَ بَيْتَهُ فَقِيرًا لَا شَيْءَ لَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ مُدَبِّرًا شَيْطَانًا مَرِيدًا، كَثِيرَ الْهِجَاءِ وَالسِّعَايَةِ بِالنَّاسِ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْأَمْرِ بِالْبَاطِلِ، فَقُطِعَ لِسَانُهُ، وَحُبِسَ إِلَى أَنْ مَاتَ.
وَالْوَزِيرُ مُعِزُّ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي سَعِيدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَدِيدَةَ، مِنْ سُلَالَةِ الصَّحَابِيِّ قُطْبَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ الْأَنْصَارِيِّ، وَلِيَ الْوِزَارَةَ لِلنَّاصِرِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْ سِفَارَةِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، فَهَرَبَ إِلَى مَرَاغَةَ، ثُمَّ عَادَ بَعْدَ مَوْتِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، فَأَقَامَ بِبَغْدَادَ مُعَظَّمًا مُحْتَرَمًا، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَسَنْجَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّاصِرِيُّ الْخَلِيفِيُّ
كَانَتْ لَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ وَأَمْلَاكٌ وَإِقْطَاعَاتٌ مُتَّسِعَةٌ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ بَخِيلًا ذَلِيلًا سَاقِطَ النَّفْسِ، اتَّفَقَ أَنَّهُ خَرَجَ أَمِيرَ

الْحَاجِّ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَاعْتَرَضَهُ بَعْضُ الْأَعْرَابِ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، وَكَانَ مَعَ سَنْجَرَ خَمْسُمِائَةِ فَارِسٍ، فَدَخَلَهُ الذُّلُّ مِنَ الْأَعْرَابِيِّ، فَطَلَبَ مِنْهُ الْأَعْرَابِيُّ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَجَبَاهَا سَنْجَرُ مِنَ الْحَجِيجِ، وَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى بَغْدَادَ أَخَذَ الْخَلِيفَةُ مِنْهُ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَدَفْعَهَا إِلَى أَصْحَابِهَا وَعَزَلَهُ، وَوَلَّى طَاشْتِكِينَ مَكَانَهُ.
وَقَاضِي السَّلَّامِيَّةِ
ظَهِيرُ الدِّينِ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَسْكَرٍ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْأَدِيبُ، ذَكَرَهُ الْعِمَادُ فِي " الْخَرِيدَةِ "، وَابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ "، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَأَنْشَدَ مِنْ شِعْرِهِ فِي شَيْخِ زَاوِيَةٍ وَأَصْحَابِهِ، فَقَالَ:
أَلَا قُلْ لِمَكِّيِّ قَوْلَ النَّصُوحِ فَحَقُّ النَّصِيحَةِ أَنْ تُسْتَمَعْ مَتَى سَمِعَ النَّاسُ فِي دِينِهِمْ
بِأَنَّ الْغِنَا سُنَّةٌ تُتَّبَعْ وَأَنْ يَأْكُلَ الْمَرْءُ أَكْلَ الْبَعِيرِ
وَيَرْقُصَ فِي الْجَمْعِ حَتَّى يَقَعْ وَلَوْ كَانَ طَاوِي الْحَشَا جَائِعًا
لَمَا دَارَ مِنْ طَرَبٍ وَاسْتَمَعْ وَقَالُوا سَكِرْنَا بِحُبِّ الْإِلَهِ
وَمَا أَسْكَرَ الْقَوْمَ إِلَّا الْقِصَعْ كَذَاكَ الْحَمِيرُ إِذَا أَخْصَبَتْ
يُنَقِّزُهَا رِيُّهَا وَالشِّبَعْ
وَتَاجُ الْأُمَنَاءِ
أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ

عَسَاكِرَ، مِنْ بَيْتِ الْحَدِيثِ وَالرِّوَايَةِ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ أَخَوَيْهِ زَيْنِ الْأُمَنَاءِ وَالْفَخْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَمِعَ عَمَّيْهِ الْحَافِظَ أَبَا الْقَاسِمِ وَالصَّائِنَ، وَكَانَ صَدِيقًا لِلشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ الْكِنْدِيِّ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْأَحَدِ ثَانِي رَجَبٍ، وَدُفِنَ قِبْلِيَّ مِحْرَابِ مَسْجِدِ الْقَدَمِ.
تَاجُ الْعُلَا النَّسَّابَةُ الْحَلَبِيُّ الْحَسَنِيُّ
اجْتَمَعَ بِآمِدَ بِالشَّيْخِ أَبِي الْخَطَّابِ بْنِ دِحْيَةَ، وَكَانَ يُنْسَبُ إِلَى دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، فَقَالَ لَهُ تَاجُ الْعُلَا: إِنَّ دِحْيَةَ لَمْ يُعْقِبْ. فَرَمَاهُ ابْنُ دِحْيَةَ بِالْكَذِبِ فِي مَسَائِلِهِ الْمَوْصِلِيَّةِ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " الْكَامِلِ ": وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا تُوُفِّيَ الْمُهَذَّبُ الطَّبِيبُ الْمَشْهُورُ.
وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ هَبَلٍ الْمَوْصِلِيُّ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ بِالطِّبِّ، وَلَهُ فِيهِ تَصْنِيفٌ حَسَنٌ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ حَسَنَ الْأَخْلَاقِ.
ابْنُ خَرُوفٍ
شَارِحُ " سِيبَوَيْهِ " وَ " جُمَلِ الزَّجَّاجِيِّ "، هُوَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَضْرَمِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الْإِشْبِيلِيُّ، أَحَدُ الْمَشَاهِيرِ فِي هَذِهِ الصِّنَاعَةِ، وَكُتُبُهُ تَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِهِ وَعِلْمِهِ وَفَضْلِهِ، وَكَانَ شَيْخَهُ فِيهَا ابْنُ طَاهِرٍ، الْمَعْرُوفُ بِالْخِدَبِّ الْأَنْدَلُسِيِّ.

الْجُزُولِيُّ صَاحِبُ الْمُقَدِّمَةِ الْمُسَمَّاةِ بِ " الْقَانُونِ "
هُوَ أَبُو مُوسَى عِيسَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجُزُولِيُّ - بَطْنٌ مِنَ الْبَرْبَرِ - ثُمَّ الْيَزْدَكْتَنِيُّ النَّحْوِيُّ الْمَغْرِبِيُّ مُصَنِّفُ الْمُقَدِّمَةِ الْمَشْهُورَةِ الْبَدِيعَةِ، وَقَدْ شَرَحَهَا هُوَ وَتَلَامِذَتُهُ، وَكُلُّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِتَقْصِيرِهِمْ عَنْ فَهْمِ مُرَادِهِ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا، قَدِمَ دِيَارَ مِصْرَ، وَأَخَذَ عَنِ ابْنِ بِرِّيٍّ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بِلَادِهِ، وَوَلِيَ خَطَابَةَ مَرَّاكُشَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: قَبْلَهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا أَرْسَلَ الْمَلِكُ خُوَارَزْمُ شَاهْ أَمِيرًا مِنْ أَخِصَّاءِ أُمَرَائِهِ عِنْدَهُ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ سِيرَوَانًا، فَصَارَ أَمِيرًا خَاصًّا، فَبَعَثَهُ فِي جَيْشٍ، فَفَتَحَ لَهُ كَرْمَانَ وَمَكْرَانَ، وَإِلَى حُدُودِ بِلَادِ السِّنْدِ، وَخَطَبَ لِخُوَارَزْمِ شَاهْ بِتِلْكَ النَّوَاحِي، وَكَانَ خُوَارَزْمُ شَاهْ لَا يُصَيِّفُ إِلَّا بِنُوَاحِي سَمَرْقَنْدَ خَوْفًا مِنَ التَّتَارِ أَصْحَابِ كَشْلِي خَانَ أَنْ يَتَوَثَّبُوا عَلَى أَطْرَافِ بِلَادِهِ الَّتِي تُتَاخِمُهُمْ.
قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَفِيهَا شَرَعَ فِي تَبْلِيطِ دَاخِلِ الْجَامِعِ، وَبَدَأُوا بِنَاحِيَةِ السَّبْعِ الْكَبِيرِ، وَكَانَتْ أَرْضُ الْجَامِعِ قَبْلَ ذَلِكَ حُفَرًا وَجُوَرًا. فَاسْتَرَاحَ النَّاسُ بِتَبْلِيطِهِ.
وَفِيهَا وُسِّعَ الْخَنْدَقُ مِمَّا يَلِي الْقَيْمَازِيَّةَ، فَأُخْرِبَتْ دُورٌ كَثِيرَةٌ هُنَاكَ، وَحَمَّامُ قَايْمَازَ وَفُرْنٌ كَانَ وَقْفًا عَلَى دَارِ الْحَدِيثِ النُّورِيَّةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَفِيهَا بَنَى الْمُعَظَّمُ الْفُنْدُقَ الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ بِنَاحِيَةِ قَبْرِ عَاتِكَةَ ظَاهِرَ بَابِ الْجَابِيَةِ.

وَفِيهَا أَخَذَ الْمُعَظَّمُ قَلْعَةَ صَرْخَدَ مِنِ ابْنِ قَرَاجَا، وَعَوَّضَهُ عَنْهَا، وَسَلَّمَهَا إِلَى مَمْلُوكِهِ عِزِّ الدِّينِ أَيْبَكٍ الْمُعَظَّمِيِّ، فَثَبَتَتْ فِي يَدِهِ إِلَى أَنِ انْتَزَعَهَا مِنْهُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ.
وَفِيهَا حَجَّ الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ بْنُ الْعَادِلِ، رَكِبَ مِنَ الْكَرَكِ عَلَى الْهُجُنِ فِي حَادِي عَشَرَ ذِي الْقِعْدَةِ، وَمَعَهُ ابْنُ مُوسَكٍ، وَمَمْلُوكُهُ أَيْبَكٌ، عِزُّ الدِّينِ أُسْتَاذُ دَارِهِ وَخَلْقٌ، فَسَارَ عَلَى طَرِيقِ تَبُوكَ وَالْعَلَاءِ، وَبَنَى الْمُعَظَّمُ الْبِرْكَةَ الْمَنْسُوبَةَ إِلَيْهِ، وَمَصَانِعَ أُخَرَ. فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ تَلَقَّاهُ صَاحِبُهَا سَالِمٌ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ مَفَاتِيحَهَا، وَخَدَمَهُ خِدْمَةً تَامَّةً، وَأَمَّا صَاحِبُ مَكَّةَ قَتَادَةُ، فَلَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا، وَلِهَذَا لَمَّا قَضَى نُسُكَهُ، وَكَانَ قَارِنًا، وَأَنْفَقَ فِي الْمُجَاوِرِينَ مَا حَمَلَهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَكَرَّ رَاجِعًا اسْتَصْحَبَ مَعَهُ سَالِمًا صَاحِبَ الْمَدِينَةِ، وَشَكَا إِلَى أَبِيهِ عِنْدَ رَأْسِ الْمَاءِ مَا لَقِيَهُ مِنْ صَاحِبِ مَكَّةَ، فَأَرْسَلَ الْعَادِلُ مَعَ سَالِمٍ جَيْشًا يَطْرُدُونَ صَاحِبَ مَكَّةَ عَنْهَا، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهَا هَرَبَ مِنْهُمْ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالْجِبَالِ وَالْبَرَارِي، وَقَدْ أَثَّرَ الْمُعَظَّمُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِطَرِيقِ الْحِجَازِ آثَارًا حَسَنَةً، أَثَابَهُ اللَّهُ وَتَقَبَّلَ مِنْهُ آمِينَ.
وَفِيهَا تَعَامَلَ أَهْلُ دِمَشْقَ بِالْقَرَاطِيسِ السُّودِ الْعَادِلِيَّةِ، ثُمَّ بَطَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَفَنِيَتْ.
وَفِيهَا مَاتَ صَاحِبُ الْيَمَنِ ابْنُ سَيْفِ الْإِسْلَامِ، فَتَوَلَّاهَا سُلَيْمَانُ بْنُ شَاهِنْشَاهِ بْنِ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ شَاهِنْشَاهِ بْنِ أَيُّوبَ بِاتِّفَاقِ الْأُمَرَاءِ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ الْعَادِلُ إِلَى

ابْنِهِ الْكَامِلِ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا وَلَدَهُ أَقْسِيسَ بْنَ الْكَامِلِ، فَأَرْسَلَهُ فَتَمَلَّكَهَا فَظَلَمَ بِهَا وَفَتَكَ، وَقَتَلَ مِنَ الْأَشْرَافِ نَحْوًا مِنْ ثَمَانِمِائَةٍ، وَأَمَّا مِمَّنْ عَدَاهُمْ فَكَثِيرٌ، وَكَانَ مِنْ أَفْجَرِ الْمُلُوكِ وَأَكْثَرِهِمْ فِسْقًا، وَأَقَلِّهِمْ حَيَاءً وَدِينًا، وَقَدْ ذَكَرُوا عَنْهُ مَا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ الْأَبْدَانُ، وَتُنْكِرُهُ الْقُلُوبُ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ وَغَيْرِهِمْ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرُوسٍ
الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ، أَفْتَى وَنَاظَرَ وَعَدَّلَ عِنْدَ الْحُكَّامِ، ثُمَّ انْسَلَخَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَصَارَ شُرْطِيًّا بِبَابِ النُّوبِيِّ، يَضْرِبُ النَّاسَ وَيُؤْذِيهِمْ غَايَةَ الْأَذَى، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ ضُرِبَ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَأُلْقِيَ فِي دِجْلَةَ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِمَوْتِهِ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ رَجُلًا صَالِحًا.
الرُّكْنُ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ
كَانَ أَبُوهُ صَالِحًا، وَكَانَ هُوَ مُتَّهَمًا بِالْفَلْسَفَةِ وَمُخَاطَبَةِ النُّجُومِ، وَوُجِدَ عِنْدَهُ كُتُبٌ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ وَلِيَ عِدَّةَ وِلَايَاتٍ، وَيُقَالُ لِمِثْلِهِ:
نِعْمَ الْجُدُودُ وَلَكِنْ بِئْسَ مَا نَسَلُوا
رَأَى عَلَيْهِ أَبُوهُ يَوْمًا ثَوْبًا بُخَارِيًّا، فَقَالَ: سَمِعْنَا بِالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَأَمَّا بُخَارِيٌّ وَكَافِرٌ، فَهَذَا شَيْءٌ عَجَبٌ. وَكَانَ مُصَاحِبًا لِأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ

الْجَوْزِيِّ، وَكَانَ الْآخَرُ مُدَبِّرًا فَاسِقًا، وَكَانَا يَجْتَمِعَانِ عَلَى الشَّرَابِ وَالْمُرْدَانِ، قَبَّحَهُمَا اللَّهُ.
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْبَزَّارُ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْأَخْضَرِ الْبَغْدَادِيُّ الْمُحَدِّثُ الْمُكْثِرُ الْحَافِظُ الْمُصَنِّفُ الْمُحَرِّرُ، لَهُ كُتُبٌ مُفِيدَةٌ مُتْقَنَةٌ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَكَانَ يَوْمُ جَنَازَتِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا.
الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْأَنْجَبِ أَبِي الْمَكَارِمِ الْمُفَضَّلِ اللَّخْمِيُّ الْمَقْدِسِيُّ، ثُمَّ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ الْمَالِكِيُّ، سَمِعَ السِّلَفِيَّ وَعَبْدَ الرَّحِيمِ الْمُنْذِرِيَّ، وَكَانَ مُدَرِّسًا لِلْمَالِكِيَّةِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَنَائِبَ الْحُكْمِ بِهَا، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
أَيَا نَفْسُ بِالْمَأْثُورِ عَنْ خَيْرِ مُرْسَلٍ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ تَمَسَّكِي
عَسَاكِ إِذَا بَالَغْتِ فِي نَشْرِ دِينِهِ بِمَا طَابَ مِنْ نَشْرٍ لَهُ أَنْ تَمَسَّكِي
وَخَافِي غَدًا يَوْمَ الْحِسَابِ جَهَنَّمَا إِذَا لَفَحَتْ نِيرَانُهَا أَنْ تَمَسَّكِي
تُوُفِّيَ بِالْقَاهِرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا شُرِعَ فِي بِنَاءِ الْمَدْرَسَةِ الْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ بِدِمَشْقَ، وَفِيهَا عُزِلَ الْقَاضِي الزَّكِيُّ بْنُ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ الزَّكِيِّ، وَفُوِّضَ الْحُكْمُ إِلَى الْقَاضِي جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الْحَرَسْتَانِيِّ، وَهُوَ ابْنُ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً، فَحَكَمَ بِالْعَدْلِ، وَقَضَى بِالْحَقِّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَحْكُمُ بِالْمَدْرَسَةِ الْمُجَاهِدِيَّةِ عِنْدَ الْقَوَّاسِينَ.
وَفِيهَا أَبْطَلَ الْعَادِلُ ضَمَانَ الْخَمْرِ وَالْقِيَانِ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، فَزَالَ عَنِ النَّاسِ شَرٌّ كَثِيرٌ.
وَفِيهَا حَاصَرَ الْأَمِيرُ قَتَادَةُ صَاحِبُ مَكَّةَ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ وَمَنْ بِهَا، وَقَطَعَ نَخْلًا كَثِيرًا، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا، فَكَرَّ خَاسِئًا حَسِيرًا، وَكَانَ صَاحِبُ الْمَدِينَةِ بِالشَّامِ فِي خِدْمَةِ الْعَادِلِ، فَطَلَبَ مِنْهُ النَّجْدَةَ عَلَى أَمِيرِ مَكَّةَ قَتَادَةَ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ جَيْشًا، فَأَسْرَعَ فِي الْأَوْبَةِ، فَمَاتَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَاجْتَمَعَ شَمْلُ الْجَيْشِ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ جَمَّازٍ، فَقَصَدَ مَكَّةَ، فَالْتَقَاهُ أَمِيرُهَا بِالصَّفْرَاءِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا، فَهُزِمَ الْمَكِّيُّونَ، وَغَنِمَ مِنْهُمْ جَمَّازٌ شَيْئًا كَثِيرًا، وَهَرَبَ قَتَادَةُ إِلَى الْيَنْبُعِ، فَسَارُوا إِلَيْهِ، فَحَصَرُوهُ بِهَا، وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ فِيهَا.
وَفِيهَا أَغَارَتِ الْفِرِنْجُ عَلَى بِلَادِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، فَقَتَلُوا وَنَهَبُوا وَسَبَوْا.

وَفِيهَا أَخَذَ مَلِكُ الرُّومِ كَيْكَاوُسُ مَدِينَةَ أَنْطَاكِيَةَ مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ، ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْهُ ابْنُ لَاوُنَ مَلِكُ الْأَرْمَنِ، ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْهُ إِبْرَنْسُ طَرَابُلُسَ.
وَفِيهَا مَلَكَ السُّلْطَانُ خُوَارَزْمُ شَاهْ مُحَمَّدُ بْنُ تِكِشٍ مَدِينَةَ غَزْنَةَ بِغَيْرِ قِتَالٍ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمَلِكِ الْمُعَظَّمِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ حَزِنَ الْخَلِيفَةُ عَلَيْهِ حُزْنًا عَظِيمًا، وَكَذَلِكَ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ لِكَثْرَةِ صَدَقَاتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ بَيْتٌ بِبَغْدَادَ إِلَّا حَزِنُوا عَلَيْهِ، وَكَانَ يَوْمُ جَنَازَتِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَنَاحَ أَهْلُ الْبَلَدِ عَلَيْهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَدُفِنَ عِنْدَ جَدَّتِهِ بِالْقُرْبِ مِنْ قَبْرِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ قُدِمَ بِرَأْسِ مَنْكَلِيٍّ الَّذِي كَانَ قَدْ عَصَى عَلَى الْخَلِيفَةِ وَعَلَى أُسْتَاذِهِ - إِلَى بَغْدَادَ فَطِيفَ بِهَا، وَلَمْ تَتِمَّ فَرْحَتُهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِتَنْغِيصِهَا بِمَوْتِ وَلَدِهِ وَلِيِّ الْعَهْدِ، وَالدُّنْيَا لَا تَسُرُّ بِقَدْرِ مَا تَضُرُّ، وَتَرَكَ وَلَدَيْنِ وَهُمَا; الْمُؤَيَّدُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنُ، وَالْمُوَفَّقُ أَبُو الْفَضْلِ يَحْيَى.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْحَافِظُ عَبْدُ الْقَادِرِ الرُّهَاوِيُّ:
عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،

أَبُو مُحَمَّدٍ، الْحَافِظُ الْكَبِيرُ الْمُحَدِّثُ الْمُخَرِّجُ الْمُفِيدُ الْمُحَرِّرُ الْمُتْقِنُ الْبَارِعُ الْمُصَنِّفُ الْمُفِيدُ، كَانَ مَوْلًى لِبَعْضِ الْمَوَاصِلَةِ، وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحَرَّانِيِّينَ اشْتَغَلَ بِدَارِ الْحَدِيثِ بِالْمَوْصِلِ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى حَرَّانَ وَقَدْ رَحَلَ إِلَى بُلْدَانٍ شَتَّى، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَشَايِخِ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَأَقَامَ بِحَرَّانَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، كَانَ دَيِّنًا صَالِحًا خَيِّرًا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
الْوَجِيهُ الْأَعْمَى، أَبُو بَكْرٍ الْمُبَارَكُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الدَّهَّانِ النَّحْوِيُّ الْوَاسِطِيُّ الْمُلَقَّبُ بِالْوَجِيهِ، وُلِدَ بِوَاسِطَ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ، فَاشْتَغَلَ بِعِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ وَالنَّحْوِ، فَأَتْقَنَ ذَلِكَ، وَحَفِظَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ أَشْعَارِ الْعَرَبِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ حَنْبَلِيًّا، فَانْتَقَلَ إِلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ صَارَ شَافِعِيًّا، وَوَلِيَ تَدْرِيسَ النَّحْوِ بِالنِّظَامِيَّةِ، وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ:
فَمَنْ مُبْلِغًا عَنِّي الْوَجِيهَ رِسَالَةً وَإِنْ كَانَ لَا تُجْدِي لَدَيْهِ الرَّسَائِلُ تَمَذْهَبْتَ لِلنُّعْمَانِ بَعْدَ ابْنِ حَنْبَلٍ
وَذَلِكَ لَمَّا أَعْوَزَتْكَ الْمَآكِلُ وَمَا اخْتَرْتَ رَأْيَ الشَّافِعِيِّ تَدَيُّنًا
وَلَكِنَّمَا تَهْوَى الَّذِي هُوَ حَاصِلُ

وَعَمَّا قَلِيلٍ أَنْتَ لَا شَكَّ صَائِرٌ
إِلَى مَالٍ فَافْطِنْ لِمَا أَنَا قَائِلُ
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
وَكَانَ يَحْفَظُ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْحِكَايَاتِ وَالْأَمْثَالِ وَالْمُلَحِ، وَيَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ وَالتُّرْكِيَّةَ وَالْعَجَمِيَّةَ وَالرُّومِيَّةَ وَالْحَبَشِيَّةَ وَالزِّنْجِيَّةَ، وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي نَظْمِ الشِّعْرِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَلَوْ وَقَعَتْ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ قَطْرَةٌ مِنَ الْمُزْنِ يَوْمًا ثُمَّ شَاءَ لَمَازَهَا
وَلَوْ مَلَكَ الدُّنْيَا فَأَضْحَى مُلُوكُهَا عَبِيدًا لَهُ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ مَا زَهَا
وَلَهُ فِي التَّجْنِيسِ أَيْضًا:
أَطَلْتَ مَلَامِي فِي اجْتِنَابِي لِمَعْشَرٍ طَغَامٍ لِئَامٍ جُودُهُمْ غَيْرُ مُرْتَجَى
تَرَى بَابَهُمْ لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهِمُ عَلَى طَالِبِ الْمَعْرُوفِ إِنْ جَاءَ مُرْتَجَا
حَمَوْا مَا لَهُمْ وَالدِّينُ وَالْعِرْضُ مِنْهُمُ مُبَاحٌ فَمَا يَخْشَوْنَ مِنْ هَجْوِ مَنْ هَجَا
إِذَا شَرَعَ الْأَجْوَادُ فِي الْجُودِ مَنْهَجًا لَهُمْ شَرَعُوا فِي الْبُخْلِ سَبْعِينَ مَنْهَجَا
وَلَهُ مَدَائِحُ حَسَنَةٌ وَأَشْعَارٌ رَائِقَةٌ، وَيَبْتَكِرُ مَعَانِيَ فَائِقَةً، وَرُبَّمَا عَارَضَ شِعْرَ

الْبُحْتُرِيِّ بِمَا يُقَارِبُهُ وَيُدَانِيهِ.
قَالُوا: وَكَانَ الْوَجِيهُ لَا يَغْضَبُ قَطُّ. فَتَرَاهَنَ جَمَاعَةٌ مَعَ وَاحِدٍ أَنَّهُ كَانَ لَهُ كَذَا وَكَذَا إِنْ أَغْضَبَهُ، فَجَاءَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَأَجَابَهُ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: أَخْطَأْتَ أَيُّهَا الشَّيْخُ. فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْجَوَابَ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ لَهُ: أَخْطَأْتَ أَيْضًا. وَأَعَادَ ثَالِثَةً بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ لَهُ: كَذَبْتَ، وَلَعَلَّكَ قَدْ نَسِيتَ النَّحْوَ. فَقَالَ لَهُ الْوَجِيهُ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، فَلَعَلَّكَ لَمْ تَفْهَمْ مَا أَقُولُ لَكَ. فَقَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّكَ تُخْطِئُ. فَقَالَ لَهُ: فَقُلْ مَا عِنْدَكَ لِنَسْتَفِيدَهُ مِنْكَ. فَأَغْلَظَ لَهُ السَّائِلُ فِي الْقَوْلِ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا، وَقَالَ لَهُ الْوَجِيهُ: إِنْ كُنْتَ رَاهَنْتَ فَقَدْ غُلِبْتَ، إِنَّمَا مَثَلُكَ فِي هَذَا كَمَثَلِ الْبَقَّةِ - يَعْنِي النَّامُوسَةَ - سَقَطَتْ عَلَى ظَهْرِ الْفِيلِ، فَلَمَّا أَرَادَتْ أَنْ تَطِيرَ قَالَتْ لَهُ: اسْتَمْسِكْ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَطِيرَ. فَقَالَ لَهَا الْفِيلُ: مَا أَحْسَسْتُ بِكِ حِينَ وَقَعْتِ عَلَيَّ، فَمَا أَحْتَاجُ أَنْ أَسْتَمْسِكَ إِذَا طِرْتِ. كَانَتْ وَفَاتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَعْبَانَ، وَدُفِنَ بِالْوَرْدِيَّةِ.
أَبُو الْفُتُوحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ
التَّاجِرُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْجَلَاجِلِيِّ، كَانَ يَسْكُنُ بِدَارِ الْخِلَافَةِ بِبَغْدَادَ، قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى الرِّوَايَاتِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ إِلَى الْبُلْدَانِ الْمُتَبَايِنَةِ، بَلَغَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ فِي رَمَضَانَ. رَحِمَهُ اللَّهُ.

أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي الْمَعَالِي بْنِ غَنِيمَةَ بْنِ الْحَسَنِ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ مَنِينَا، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَأَسْمَعَهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ عَنْ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ كَمَالُ الدِّينِ مَوْدُودُ بْنُ الشَّاغُورِيِّ الشَّافِعِيُّ
كَانَ يُقْرِئُ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ الْفِقْهَ، وَيَشْرَحُ " التَّنْبِيهَ " لِلطَّلَبَةِ، وَيَتَأَنَّى فِي تَفْهِيمِهِمْ حَتَّى يَفْهَمُوا احْتِسَابًا، تُجَاهَ الْمَقْصُورَةِ. وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ شَمَالِيَّ قُبُورِ الشُّهَدَاءِ، وَعَلَى قَبْرِهِ شِعْرٌ ذَكَرَهُ أَبُو شَامَةَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ
قَالَ أَبُو شَامَةَ: فِيهَا أُحْضِرَتِ الْأَوْتَادُ الْخَشَبُ الْأَرْبَعَةُ لِأَجْلِ قُبَّةِ نَسْرِ الْجَامِعِ، طُولُ كُلِّ وَاحِدٍ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ ذِرَاعًا بِالنَّجَّارِ.
وَفِيهَا شُرِعَ فِي تَجْدِيدِ خَنْدَقِ بَابِ السِّرِّ الْمُقَابِلِ لِدَارِ الطُّعْمِ الْعَتِيقَةِ إِلَى جَانِبِ بَانَاسَ قُلْتُ: وَهِيَ إِصْطَبْلُ السُّلْطَانِ الْيَوْمَ، وَقَدْ نَقَلَ السُّلْطَانُ الْمُعَظَّمُ بِنَفْسِهِ التُّرَابَ، وَمَمَالِيكُهُ تَحْمِلُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الْقَرَبُوسِ الْقِفَافَ مِنَ التُّرَابِ، فَيُفْرِغُونَهَا فِي الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ، وَكَذَلِكَ أَخُوهُ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ وَمَمَالِيكُهُ، يَعْمَلُ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الشَّاغُورِ وَأَهْلِ الْعُقَيْبَةِ، اقْتَتَلُوا بِالرَّحْبَةِ وَالصَّيَارِفِ، فَرَكِبَ الْجَيْشُ مُلْبَسًا، وَجَاءَ السُّلْطَانُ الْمُعَظَّمُ بِنَفْسِهِ، فَحَبَسَ رُءُوسَهُمْ.
وَفِيهَا رُتِّبَ بِالْمُصَلَّى خَطِيبٌ مُسْتَقِلٌّ، وَأَوَّلُ مَنْ بَاشَرَهَا الصَّدْرُ مُعِيدُ الْفَلَكِيَّةِ، ثُمَّ خَطَبَ بَعْدَهُ بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ أَبِي الْيُسْرِ، ثُمَّ بَنُو حَسَّانَ، وَإِلَى الْآنَ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ صَاحِبُ حَلَبَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ غَازِيُّ بْنُ السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ وَأَسَدِّهِمْ سِيرَةً، وَلَكِنْ كَانَ فِيهِ عَسْفٌ وَيُعَاقِبُ عَلَى الذَّنْبِ سَرِيعًا شَدِيدًا، وَكَانَ يُكْرِمُ الْعُلَمَاءَ وَالشُّعَرَاءَ وَالْفُقَرَاءَ، أَقَامَ فِي الْمُلْكِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَحَضَرَ كَثِيرًا مِنَ الْغَزَوَاتِ مَعَ أَبِيهِ، وَكَانَ ذَكِيًّا، لَهُ رَأْيٌ جَيِّدٌ، وَعِبَارَةٌ سَادَّةٌ، وَفِطْنَةٌ حَسَنَةٌ، وَعُمِّرَ أَرْبَعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَعَلَ الْمُلْكَ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ غِيَاثِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَقَدْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ كِبَارٌ، وَلَكِنَّهُ عَهِدَ إِلَى هَذَا مِنْ بَيْنِهِمْ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ بِنْتِ عَمِّهِ الْعَادِلِ، وَأَخْوَالُهُ الْأَشْرَفُ وَالْمُعَظَّمُ وَالْكَامِلُ وَجَدُّهُ الْعَادِلُ لَا يُنَازِعُونَهُ، وَهَكَذَا وَقَعَ سَوَاءً ; بَايَعَ لَهُ جَدُّهُ الْعَادِلُ وَخَالُهُ الْأَشْرَفُ صَاحِبُ حَرَّانَ وَالرُّهَا وَخِلَاطَ، وَهَمَّ الْمُعَظَّمُ بِنَقْضِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ ذَلِكَ، وَقَامَ بِتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ الطَّوَاشِيُّ شِهَابُ الدِّينِ طُغْرِيلُ الرُّومِيُّ الْأَبْيَضُ، وَكَانَ دَيِّنًا عَاقِلًا عَادِلًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْمَشَاهِيرِ:
الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ أَبُو الْيُمْنِ زَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عِصْمَةَ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ، وَحِيدُ عَصْرِهِ وَنَسِيجُ وَحْدِهِ، تَاجُ الدِّينِ

أَبُو الْيُمْنِ الْكِنْدِيُّ، وُلِدَ بِبَغْدَادَ وَنَشَأَ بِهَا، وَاشْتَغَلَ وَحَصَّلَ، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ فَأَقَامَ بِهَا، وَفَاقَ أَهْلَ زَمَانِهِ شَرْقًا وَغَرْبًا فِي النَّحْوِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ، وَعُلُوِّ الْإِسْنَادِ وَحُسْنِ الطَّرِيقَةِ وَالسِّيرَةِ وَحُسْنِ الْعَقِيدَةِ وَالسَّرِيرَةِ. وَانْتَفَعَ بِهِ عُلَمَاءُ عَصْرِهِ، وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ، وَخَضَعُوا لَهُ. وَكَانَ حَنْبَلِيًّا، ثُمَّ صَارَ حَنَفِيًّا. وُلِدَ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَقَرَأَ الْقُرْآنَ بِالرِّوَايَاتِ وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ مِنَ الْحَدِيثِ الْعَالِي عَلَى الشُّيُوخِ الثِّقَاتِ، وَعُنِيَ بِذَلِكَ، وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ وَاللُّغَةَ، وَاشْتَهَرَ بِذَلِكَ، ثُمَّ صَارَ إِلَى الشَّامِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَكَنَ مِصْرَ، وَاجْتَمَعَ بِالْقَاضِي الْفَاضِلِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى دِمَشْقَ فَسَكَنَ بِدَرْبِ الْعَجَمِ مِنْهَا، وَحَظِيَ عِنْدَ الْمُلُوكِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، وَتَرَدَّدَ إِلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَالْمُلُوكُ وَأَبْنَاؤُهُمْ، كَانَ الْأَفْضَلُ بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ - وَهُوَ صَاحِبُ دِمَشْقَ - يَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ فِي مَنْزِلِهِ وَأَخُوهُ الْمُحَسِّنُ، وَكَذَلِكَ الْمُعَظَّمُ فِي أَيَّامِهِ عَلَى مُلْكِ دِمَشْقَ، يَنْزِلُ إِلَيْهِ إِلَى دَرْبِ الْعَجَمِ يَقْرَأُ عَلَيْهِ فِي " الْمُفَصَّلِ " لِلزَّمَخْشَرِيِّ، وَكَانَ الْمُعَظَّمُ يُعْطِي لِمَنْ حَفِظَ " الْمُفَصَّلَ " ثَلَاثِينَ دِينَارًا جَائِزَةً، وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ بِدَرْبِ الْعَجَمِ جَمِيعُ الْمُصَدَّرِينَ بِالْجَامِعِ، كَالشَّيْخِ عَلَمِ الدِّينِ السَّخَاوِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ مُعْطِي، وَالْوَجِيهِ الْبَوْنِيِّ، وَالْفَخْرِ التُّرْكِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ يُثْنِي عَلَيْهِ كَثِيرًا.
قَالَ السَّخَاوِيُّ: كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْعُلُومِ مَا لَا يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ شَرَحْتُ عَلَيْهِ " كِتَابَهُ "، كَانَ اسْمَهُ عَمْرٌو، وَاسْمُ الشَّيْخِ أَبِي الْيُمْنِ زَيْدٌ، فَقُلْتُ فِي ذَلِكَ:

لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ عَمْرٍو مِثْلُهُ وَكَذَا الْكِنْدِيُّ فِي آخِرِ عَصْرٍ فَهُمَا زَيْدٌ وَعَمْرٌو إِنَّمَا
بُنِيَ النَّحْوُ عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرِو
قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَهَذَا كَمَا قَالَ فِيهِ ابْنُ الدَّهَّانِ الْمَذْكُورُ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ:
يَا زَيْدُ زَادَكَ رَبِّي مِنْ مَوَاهِبِهِ نِعَمًا يُقَصِّرُ عَنْ إِدْرَاكِهَا الْأَمَلُ
النَّحْوُ أَنْتَ أَحَقُّ الْعَالَمِينَ بِهِ أَلَيْسَ بِاسْمِكَ فِيهِ يُضْرَبُ الْمَثَلُ
وَلِلسَّخَاوِيِّ فِيهِ قَصِيدَةٌ حَسَنَةٌ، وَكَذَلِكَ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمْ أَبُو الْمُظَفَّرِ سِبْطُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ، فَقَالَ: قَرَأْتُ عَلَيْهِ، وَكَانَ حَسَنَ الْعَقِيدَةِ، ظَرِيفَ الْخُلُقِ طَرِيفًا، لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ مُجَالَسَتِهِ، وَلَهُ النَّوَادِرُ الْعَجِيبَةُ، وَالْخَطُّ الْمَلِيحُ، وَالشِّعْرُ الرَّائِقُ، وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ كَبِيرٌ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ سَادِسَ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ ثَلَاثٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً وَشَهْرٌ وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ ثُمَّ حُمِلَ إِلَى الصَّالِحِيَّةِ، فَدُفِنَ بِهَا.
وَكَانَ قَدْ وَقَفَ كُتُبًا نَفِيسَةً - وَهِيَ سَبْعُمِائَةٍ وَإِحْدَى وَسِتُّونَ مُجَلَّدًا - عَلَى مُعْتَقِهِ نَجِيبِ الدِّينِ يَاقُوتٍ، ثُمَّ عَلَى وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ عَلَى الْعُلَمَاءِ فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَاللُّغَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَجُعِلَتْ فِي خِزَانَةٍ كَبِيرَةٍ بِمَقْصُورَةِ ابْنِ سِنَانَ الْحَنَفِيَّةِ الْمُجَاوِرَةِ لِمَشْهَدِ عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ تَفَرَّقَتْ، وَأُبِيعَ كَثِيرٌ مِنْهَا، وَلَمْ يَبْقَ بِالْخِزَانَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا إِلَّا الْقَلِيلُ، وَهِيَ بِمَقْصُورَةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَانَتْ قَدِيمًا يُقَالُ لَهَا: مَقْصُورَةُ ابْنِ سِنَانَ. وَقَدْ تَرَكَ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نِعْمَةً وَافِرَةً،

وَأَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَمَمَالِيكَ مُتَعَدِّدَةً مِنَ التُّرْكِ، وَقَدْ كَانَ رَقِيقَ الْحَاشِيَةِ، حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، يُعَامِلُ الطَّلَبَةَ مُعَامَلَةً حَسَنَةً، فَلَمَّا كَبُرَ تَرَكَ الْقِيَامَ لَهُمْ، وَأَنْشَأَ اعْتِذَارًا:
تَرَكْتُ قِيَامِي لِلصَّدِيقِ يَزُورُنِي وَلَا ذَنْبَ لِي إِلَّا الْإِطَالَةُ فِي عُمْرِي
فَإِنْ بَلَغُوا مِنْ عَشْرِ تِسْعِينَ نِصْفَهَا تَبَيَّنَ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ لَهُمْ عُذْرِي
وَقَدْ أَسْلَفْنَا شَيْئًا مِنْ قِيلِهِ فِي قَتْلِ عُمَارَةَ الْيَمَنِيِّ فِي الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ، فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْجِنَاسِ، وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ السَّاعِي فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ تَارِيخِهِ أَشْعَارًا حَسَنَةً، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ يَمْدَحُ الْمَلِكَ الْمُظَفَّرَ شَاهِنْشَاهْ:
وِصَالُ الْغَوَانِي كَانَ أَرْوَى وَأَرْوَجَا وَعَصْرُ التَّدَانِي كَانَ أَبْهَى وَأَبْهَجَا
لَيَالِيَ كَانَ الْعُمْرُ أَحْسَنَ شَافِعٍ تَوَلَّى وَكَانَ اللَّهْوُ أَوْضَحَ مَنْهَجَا
بَدَا الشَّيْبُ فَانْجَابَتْ طَمَاعِيَةُ الصِّبَا وَقُبِّحَ لِي مَا كَانَ يَسْتَحْسِنُ الْحِجَا
بُلَهْنِيَةٌ وَلَّتْ كَأَنْ لَمْ أَكُنْ بِهَا بِهَا أَجْتَلِي وَجْهَ النَّعِيمِ مُسَرَّجَا
وَلَا اخْتَلْتُ فِي بُرْدِ الشَّبَابِ مُجَرِّرًا ذُيُولِيَ إِعْجَابًا بِهِ وَتَبَرُّجَا
أُغَازِلُ غَيْدَاءَ الْمَعَاطِفِ طَفْلَةً وَأَغْيَدَ مَعْسُولَ الْمَرَاشِفِ أَدْعَجَا

تَقَضَّتْ لَيَالِيهَا بِطِيبٍ كَأَنَّهُ لِتَقْصِيرِهِ مِنْهُنَّ يَخْتَطِفُ الدُّجَا
فَإِنْ أُمْسِ مَكْرُوبَ الْفُؤَادِ حَزِينَهُ أُعَاقِرُ مِنْ دَنِّ الصَّبَابَةِ مَنْهَجَا
وَحِيدًا عَلَى أَنِّي بِفَضْلِي مُتَيَّمٌ مَرُوعًا بِأَعْدَاءِ الْفَضَائِلِ مُزْعَجَا
فَيَا رُبَّ ذِي وُدٍّ سَرَرْتُ وَسَرَّنِي وَأَبْهَجْتُهُ بِالصَّالِحَاتِ وَأَبْهَجَا
وَيَا رُبَّ نَادٍ قَدْ شَهِدْتُ وَمَاجِدٍ شَدَهْتُ وَخَصْمٍ رُعْتُهُ فَتَلَجْلَجَا
صَدَعْتُ بِفَضْلِي نَقْصَهُ فَتَرَكْتُهُ وَفِي قَلْبِهِ شَجْوٌ وَفِي حَلْقِهِ شَجَى
كَأَنَّ بَيَانِي فِي مَسَامِعِ حُسَّدِي وَقَدْ ضَمَّ أَبْكَارَ الْمَعَانِي وَأَدْرَجَا
حُسَامُ تَقِيِّ الدِّينِ فِي كُلِّ مَارِقٍ يَقُدُّ إِلَى الْأَرْضِ الْكَمِيَّ الْمُدَجَّجَا
وَقَالَ يَمْدَحُ أَخَاهُ عِزَّ الدِّينِ فَرُّخْشَاهْ بْنَ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ:
هَلْ أَنْتَ رَاحِمُ عَبْرَةٍ وَتَدَلُّهِ وَمُجِيرُ صَبٍّ عِنْدَ مَا مِنْهُ دُهِي
هَيْهَاتَ يَرْحَمُ قَاتِلٌ مَقْتُولَهُ وَسِنَانُهُ فِي الْقَلْبِ غَيْرُ مُنَهْنَهِ
مَنْ بَلَّ مِنْ دَاءِ الْغَرَامِ فَإِنَّنِي مُذْ حَلَّ بِيِ مَرَضُ الْهَوَى لَمْ أَنْقَهِ
إِنِّي بُلِيتُ بِحُبِّ أَغْيَدَ سَاحِرٍ بِلِحَاظِهِ رَخْصِ الْبَنَانِ بَرَهْرَهِ

أَبْغِي شِفَاءَ تَدَلُّهِي مِنْ دلِّهِ وَمَتَى يَرِقُّ مُدَلَّلٌ لِمُدَلَّهِ
كَمْ آهَةٍ لِي فِي هَوَاهُ وَأَنَّةٍ لَوْ كَانَ يَنْفَعُنِي عَلَيْهِ تَأَوُّهِي
وَمَآرِبٍ فِي وَصْلِهِ لَوْ أَنَّهَا تُقْضَى لَكَانَتْ عِنْدَ مَبْسِمِهِ الشَّهِي
يَا مُفْرَدًا بِالْحُسْنِ إِنَّكَ مُنْتَهٍ فِيهِ كَمَا أَنَا فِي الصَّبَابَةِ مُنْتَهِي
قَدْ لَامَ فِيكَ مَعَاشِرٌ أَفَأَنْتَهِي بِاللَّوْمِ عَنْ حُبِّ الْحَيَاةِ وَأَنْتَ هِيَ
أَبْكِي لَدَيْهِ فَإِنْ أَحَسَّ بِلَوْعَةٍ وَتَشَهُّقٍ أَوْمَا بِطَرْفِ مُقَهْقِهِ
أَنَا مِنْ مَحَاسِنِهِ وَحَالِي عِنْدَهُ حَيْرَانُ بَيْنَ تَفَكُّرٍ وَتَفَكُّهِ
ضِدَّانِ قَدْ جُمِعَا بَلَفْظٍ وَاحِدٍ لِي فِي هَوَاهُ بِمَعْنَيَيْنِ مُوَجَّهِ
أَوَ لَسْتُ رَبَّ فَضَائِلٍ لَوْ حَازَ أَدْ نَاهَا وَمَا أَزْهَى بِهَا غَيْرِي زُهِي
وَالَّذِي أَنْشَدَهُ تَاجُ الدِّينِ الْكِنْدِيُّ فِي قَتْلِ عُمَارَةَ الْيَمَنِيِّ، حِينَ كَانَ مَالَأَ الْكَفَرَةَ وَالْمُلْحِدِينَ عَلَى قَتْلِ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَعَوْدِ دَوْلَةِ الْفَاطِمِيِّينَ، فَظَهَرَ عَلَى أَمْرِهِ، فَصُلِبَ مَعَ مَنْ صُلِبَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ:
عُمُارَةُ فِي الْإِسْلَامِ أَبْدَى خِيَانَةً وَحَالَفَ فِيهَا بَيْعَةً وَصَلِيبَا
وَأَمْسَى شَرِيكَ الشِّرْكِ فِي بُغْضِ أَحْمَدَ وَأَصْبَحَ فِي حُبِّ الصَّلِيبِ صَلِيبَا
وَكَانَ خَبِيثَ الْمُلْتَقَى إِنْ عَجَمْتَهُ تَجِدْ مِنْهُ عُودًا فِي النِّفَاقِ صَلِيبَا
سَيَلْقَى غَدًا مَا كَانَ يَسْعَى لِأَجْلِهِ وَيُسْقَى صَدِيدًا فِي لَظًى وَصَلِيبَا
وَلَهُ أَيْضًا:

صَحِبْنَا الدَّهْرَ أَيَّامًا حِسَانًا نَعُومُ بِهِنَّ فِي اللَّذَّاتِ عَوْمَا
وَكَانَتْ بَعْدَ مَا وَلَّتْ كَأَنِّي لَدَى نُقْصَانِهَا حُلْمًا وَنَوْمَا
أَنَاخَ بِيَ الْمَشِيبُ فَلَا بَرَاحٌ وَإِنْ أَوْسَعْتُهُ عَتْبًا وَلَوْمَا
نَزِيلٌ لَا يَزَالُ عَلَى التَّنَائِي يَسُوقُ إِلَى الرَّدَى يَوْمًا فَيَوْمَا
وَكُنْتُ أَعُدُّ لِي عَامًا فَعَامَا فَصِرْتُ أَعُدُّ لِي يَوْمًا فَيَوْمَا
الْعِزُّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَافِظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيِّ
وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَأَسْمَعَهُ وَالِدُهُ الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ بِنَفْسِهِ إِلَى بَغْدَادَ، وَقَرَأَ بِهَا مُسْنَدَ أَحْمَدَ، وَكَانَتْ لَهُ حَلْقَةٌ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْمُعَظَّمِ، وَكَانَ صَالِحًا دَيِّنًا وَرِعًا حَافِظًا، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَحِمَ أَبَاهُ.
أَبُو الْفُتُوحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ الْجَلَاجِلِيُّ الْبَغْدَادِيُّ
سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ يَتَرَدَّدُ فِي الرَّسْلِيَّةِ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَالْمَلِكِ الْأَشْرَفِ بْنِ الْعَادِلِ، وَكَانَ عَاقِلًا دَيِّنًا ثِقَةً صَدُوقًا.
الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي زَيْدٍ الْعَلَوِيُّ الْحَسَنِيُّ، نَقِيبُ الطَّالِبِيِّينَ بِالْبَصْرَةِ بَعْدَ أَبِيهِ، كَانَ شَيْخًا أَدِيبًا فَاضِلًا عَالِمًا بِفُنُونٍ كَثِيرَةٍ، لَاسِيَّمَا بِالْأَنْسَابِ وَأَيَّامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا،

يَحْفَظُ كَثِيرًا مِنْهَا، وَكَانَ مِنْ جُلَسَاءِ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ، وَمِنْ لَطِيفِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
لِيَهْنِكَ سَمْعٌ لَا يُلَائِمُهُ الْعَذْلُ وَقَلْبٌ قَرِيحٌ لَا يَمَلُّ وَلَا يَسْلُو
كَأَنَّ عَلَيَّ الْحُبَّ أَمْسَى فَرِيضَةً فَلَيْسَ لِقَلْبِي غَيْرُهُ أَبَدًا شُغْلُ
وَإِنِّي لَأَهْوَى الْهَجْرَ مَا كَانَ أَصْلُهُ دَلَالًا وَلَوْلَا الْهَجْرُ مَا عَذُبَ الْوَصْلُ
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الصُّدُودُ مَلَالَةً فَأَيْسَرُ مَا هَمَّ الْحَبِيبُ بِهِ الْقَتْلُ
أَبُو عَلِيٍّ مَزِيدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَزِيدٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْخَشْكَرِيِّ، الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ مِنْ أَهْلِ النُّعْمَانِيَّةِ، جَمَعَ لِنَفْسِهِ دِيوَانًا، أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ السَّاعِي قِطْعَةً مِنْ شِعْرِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
سَأَلْتُكِ يَوْمَ النَّوَى نَظْرَةً فَلَمْ تَسْمَحِي خَفَرًا لَا سَلَمْ
وَأَعْجَبُ كَيْفَ تَقُولِينَ لَا وَوَجْهُكِ قَدْ خُطَّ فِيهِ نَعَمْ
أَمَا النُّونُ يَا هَذِهِ حَاجِبٌ أَمَا الْعَيْنُ عَيْنٌ أَمَا الْمِيمُ فَمْ
أَبُو الْفَضْلِ رَشْوَانُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ رَشْوَانَ الْكُرْدِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالنَّقْفِ، وُلِدَ بِإِرْبِلَ، وَخَدَمَ جُنْدِيًّا، وَكَانَ أَدِيبًا شَاعِرًا خَدَمَ مَعَ الْمَلِكِ الْعَادِلِ وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
سَلِي عَنِّي الصَّوَارِمَ وَالرِّمَاحَا وَخَيْلًا تَسْبِقُ الْهُوجَ الرِّيَاحَا
وَأُسْدًا جَيْشُهَا سُمْرُ الْعَوَالِي إِذَا مَا الْأُسْدُ حَاوَلَتِ الْكِفَاحَا

فَإِنِّي ثَابِتٌ عَقْلًا وَلُبًّا إِذَا مَا صَائِحٍ فِي الْحَرْبِ صَاحَا
وَأُورِدُ مُهْجَتِي لُجَجَ الْمَنَايَا إِذَا مَاجَتْ وَلَمْ أَخَفِ الْجِرَاحَا
وَكَمْ لَيْلٍ سَهِرْتُ وَبِتُّ فِيهِ أُرَاعِي النَّجْمَ أَرْتَقِبُ الصَّبَاحَا
وَكَمْ فِي فَدْفَدٍ فَرَسِي وَنِضْوِي بِقَائِلَةِ الْهَجِيرِ غَدَا وَرَاحَا
لِعَيْنِكِ فِي الْعَجَاجَةِ مَا أُلَاقِي وَأَثْبُتُ فِي الْكَرِيهَةِ لَا بَرَاحَا
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ هِبَةِ اللَّهِ أَبُو نَصْرٍ النَّحَّاسُ الْوَاسِطِيُّ
كَتَبَ إِلَى السِّبْطِ مِنْ شِعْرِهِ:
وَقَائِلَةٍ لَمَّا عَمَرْتُ وَصَارَ لِي ثَمَانُونَ عَامًا عِشْ كَذَا وَابْقَ وَاسْلَمِ
وَدُمْ وَانْتَشِقْ رُوحَ الْحَيَاةِ فَإِنَّهُ لَأَطْيَبُ مِنْ بَيْتٍ بِصَعْدَةَ مُظْلِمِ
فَقُلْتُ لَهَا عُذْرِي لَدَيْكِ مُمَهَّدٌ بِبَيْتِ زُهَيْرٍ فَاعْمَلِي وَتَعَلَّمِي
سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ ثَمَانِينَ حَوْلًا لَا مَحَالَةَ يَسْأَمِ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِي ثَالِثِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا كَمَلَ تَبْلِيطُ دَاخِلِ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَجَاءَ الْمُعْتَمِدُ مُبَارِزُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ الْمُتَوَلِّي بِدِمَشْقَ، فَوَضَعَ آخِرَ بَلَاطَةٍ مِنْهُ بِيَدِهِ عِنْدَ بَابِ الزِّيَارَةِ، فَرَحًا بِذَلِكَ.
وَفِيهَا زَادَتْ دِجْلَةُ بِبَغْدَادَ زِيَادَةً عَظِيمَةً، وَارْتَفَعَ الْمَاءُ حَتَّى سَاوَى السُّورَ إِلَّا مِقْدَارَ أُصْبُعَيْنِ، ثُمَّ طَفَحَ الْمَاءُ مِنْ فَوْقِهِ، وَأَيْقَنَ النَّاسُ بِالْهَلَكَةِ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا، ثُمَّ مَنَّ اللَّهُ فَتَنَاقَصَ الْمَاءُ، وَذَهَبَتِ الزِّيَادَةُ وَقَدْ بَقِيَتْ بَغْدَادُ تُلُولًا، وَتَهَدَّمَتْ أَكْثَرُ الْبِنَايَاتِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا دَرَّسَ بِالنِّظَامِيَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَضْلَانَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ.

وَفِيهَا سَارَ الصَّدْرُ بْنُ حَمُّوَيْهِ فِي الرَّسْلِيَّةِ إِلَى بَغْدَادَ مِنَ الْعَادِلِ إِلَى الْخَلِيفَةِ.
وَفِيهَا قَدِمَ وَلَدُهُ الْفَخْرُ مِنَ الْكَامِلِ إِلَى أَخِيهِ الْمُعَظَّمِ يَخْطُبُ مِنْهُ ابْنَتَهُ عَلَى ابْنِهِ أَقْسِيسَ صَاحِبِ الْيَمَنِ، فَعُقِدَ الْعَقْدُ بِدِمَشْقَ عَلَى صَدَاقٍ هَائِلٍ.
وَفِيهَا قَدِمَ السُّلْطَانُ عَلَاءُ الدِّينِ خُوَارَزْمُ شَاهْ مُحَمَّدُ بْنُ تِكِشٍ إِلَى هَمَذَانَ قَاصِدًا إِلَى بَغْدَادَ فِي أَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ، وَقِيلَ فِي سِتِّمِائَةِ أَلْفٍ. فَاسْتَعَدَّ لَهُ الْخَلِيفَةُ، وَاسْتَخْدَمَ الْجُيُوشَ الْكَثِيرَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى قَاعِدَةِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْمُلُوكِ السَّلَاجِقَةِ، وَأَنْ يُخْطَبَ لَهُ بِبَغْدَادَ عَلَى مَنَابِرِهَا، فَلَمْ يُجِبْهُ الْخَلِيفَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الشَّيْخَ شِهَابَ الدِّينِ السُّهْرَوَرْدِيَّ، فَلَمَّا وَصَلَ شَاهَدَ عِنْدَهُ مِنَ الْعَظَمَةِ وَكَثْرَةِ الْمُلُوكِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي خَرْكَاهْ مِنْ ذَهَبٍ عَلَى سَرِيرٍ سَاذَجٍ، وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ بُخَارِيٌّ مَا يُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى رَأْسِهِ جَلْدَةٌ مَا تُسَاوِي دِرْهَمًا، فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مِنَ الْكِبْرِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْجُلُوسِ، فَقَامَ إِلَى جَانِبِ السَّرِيرِ، وَأَخَذَ فِي خُطْبَةٍ هَائِلَةٍ، فَذَكَرَ فِيهَا فَضْلَ بَنِي الْعَبَّاسِ وَشَرَفَهُمْ، وَأَوْرَدَ حَدِيثًا فِي النَّهْيِ عَنْ أَذَاهُمْ، وَالتُّرْجُمَانُ يُعِيدُ عَلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ الْمَلِكُ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ فَضْلِ الْخَلِيفَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنِّي إِذَا قَدِمْتُ بَغْدَادَ أَقَمْتُ مَنْ يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَمَا ذَكَرْتَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَذَاهُمْ، فَإِنِّي لَمْ أُوذِ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلَكِنَّ الْخَلِيفَةَ فِي سُجُونِهِ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ

يَتَنَاسَلُونَ فِي السُّجُونِ، فَهُوَ الَّذِي آذَى بَنِي الْعَبَّاسِ. ثُمَّ تَرَكَهُ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ جَوَابًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَانْصَرَفَ السُّهْرَوَرْدِيُّ رَاجِعًا، وَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمَلِكِ وَجُنْدِهِ ثَلْجًا عَظِيمًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى طَمَّ الْخَرَاكِيَ وَالْخِيَامَ وَوَصَلَ إِلَى رُءُوسِ الْأَعْلَامِ، وَتَقَطَّعَتْ أَيْدِي رِجَالٍ وَأَرْجُلُهُمْ، وَعَمَّهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، فَرَدَّهُمُ اللَّهُ خَائِبِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَفِيهَا انْقَضَتِ الْهُدْنَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْعَادِلِ وَالْفِرِنْجِ، وَاتَّفَقَ قُدُومُ الْعَادِلِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَاجْتَمَعَ هُوَ وَوَلَدُهُ الْمُعَظَّمُ بِبَيْسَانَ، فَرَكِبَتِ الْفِرِنْجُ مِنْ عَكَّا وَمَقَدَّمُهُمْ وَصُحْبَتُهُمْ مُلُوكُ السَّوَاحِلِ كُلُّهُمْ، وَسَاقُوا كُلُّهُمْ قَاصِدِينَ مُغَافَصَةَ الْعَادِلِ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ فَرَّ مِنْهُمْ لِكَثْرَةِ جُيُوشِهِمْ وَقِلَّةِ مَنْ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ الْمُعَظَّمُ: إِلَى أَيْنَ يَا أَبَتِ؟ فَشَتَمَهُ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَقَالَ لَهُ: أَقْطَعْتَ الشَّامَ مَمَالِيكَكَ، وَتَرَكْتَ مَنْ يَنْفَعُنِي مِنْ أَبْنَاءِ النَّاسِ. فَتَوَجَّهَ الْعَادِلُ إِلَى دِمَشْقَ، وَكَتَبَ إِلَى وَالِيهَا الْمُعْتَمِدِ لِيُحَصِّنَهَا مِنَ الْفِرِنْجِ، وَيَنْقُلَ إِلَيْهَا مِنَ الْغَلَّاتِ مِنْ دَارَيَّا إِلَى الْقَلْعَةِ، وَيُرْسِلَ الْمَاءَ عَلَى أَرَاضِي دَارَيَّا، وَقَصْرِ حَجَّاجٍ وَالشَّاغُورِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ، وَابْتَهَلُوا إِلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ، وَكَثُرَ الضَّجِيجُ بِالْجَامِعِ، وَأَقْبَلَ السُّلْطَانُ، فَنَزَلَ بِمَرْجِ الصُّفَّرِ، وَأَرْسَلَ إِلَى مُلُوكِ الشَّرْقِ لِيَقْدَمُوا لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ صَاحِبُ حِمْصَ أَسَدُ الدِّينِ شِيرْكُوهْ، فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ فَدَخَلَ مِنْ بَابِ الْفَرَجِ، وَجَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى سِتِّ الشَّامِ بِدَارِهَا عِنْدَ الْمَارَسْتَانِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دَارِهِ، وَلَمَّا قَدِمَ

أَسَدُ الدِّينِ سُرِّيَ عَنِ النَّاسِ وَأَمِنُوا، فَلَمَّا أَصْبَحَ تَوَجَّهَ إِلَى السُّلْطَانِ بِمَرْجِ الصُّفَّرِ، وَأَمَّا الْفِرِنْجُ فَإِنَّهُمْ وَرَدُوا إِلَى بَيْسَانَ، فَنَهَبُوا مَا كَانَ بِهَا مِنَ الْغَلَّاتِ وَالدَّوَابِّ، وَقَتَلُوا وَأَسَرُوا شَيْئًا كَثِيرًا، ثُمَّ عَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا يَقْتُلُونَ وَيَنْهَبُونَ وَيَسُبُّونَ مَا بَيْنَ بَيْسَانَ إِلَى بَانِيَاسَ، وَخَرَجُوا إِلَى أَرَاضِي الْجَوْلَانِ إِلَى نَوَى وَخِسْفِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَرَاضِي، وَسَارَ الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ، فَنَزَلَ عَلَى عَقَبَةِ اللَّبَنِ بَيْنَ الْقُدْسِ وَنَابُلُسَ خَوْفًا عَلَى الْقُدْسِ الشَّرِيفِ، ثُمَّ حَاصَرَ الْفِرِنْجُ حِصْنَ الطُّورِ حِصَارًا هَائِلًا، وَمَانَعَ عَنْهُ الَّذِينَ بِهِ مِنَ الْأَبْطَالِ مُمَانَعَةً هَائِلَةً، ثُمَّ كَرَّ الْفِرِنْجُ رَاجِعِينَ إِلَى عَكَّا، وَجَاءَ الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ إِلَى الطُّورِ، فَخَلَعَ عَلَى الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ بِهِ، وَطَيَّبَ نُفُوسَهُمْ، ثُمَّ اتَّفَقَ هُوَ وَأَبُوهُ عَلَى هَدْمِهِ، كَمَا سَيَأْتِي.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الْعِمَادُ، أَخُو الْحَافِظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ، أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سُرُورٍ، الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ، كَانَ أَصْغَرَ مِنْ أَخِيهِ الْحَافِظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ بِسَنَتَيْنِ، وَقَدِمَ مَعَهُمْ إِلَى دِمَشْقَ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَرَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ مَرَّتَيْنِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا وَرِعًا،

كَثِيرَ الصَّلَاةِ، كَثِيرَ الصِّيَامِ ; يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَكَانَ فَقِيهًا مُفْتِيًا، لَهُ كِتَابُ الْفُرُوقِ، وَصَنَّفَ أَحْكَامًا وَلَمْ يُتِمَّهُ، وَكَانَ يَؤُمُّ بِمِحْرَابِ الْحَنَابِلَةِ مَعَ الشَّيْخِ الْمُوَفَّقِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ بِغَيْرِ مِحْرَابٍ، ثُمَّ وُضِعَ الْمِحْرَابُ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَ يَؤُمُّ بِالنَّاسِ لِقَضَاءِ الْفَوَائِتِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. صَلَّى الْمَغْرِبَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَكَانَ صَائِمًا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ بِدِمَشْقَ، فَأَفْطَرَ ثُمَّ مَاتَ فَجْأَةً، فَصَلَّى عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ عِنْدَ مُصَلَّاهُمْ، ثُمَّ صَعِدُوا بِهِ إِلَى السَّفْحِ، وَكَانَ يَوْمُ مَوْتِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا مِنْ كَثْرَةِ الْخَلْقِ. قَالَ سِبْطُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ: كَانَ الْخَلْقُ مِنَ الْكَهْفِ إِلَى مَغَارَةِ الدَّمِ إِلَى الْمَيْطُورِ، لَوْ بُدِرَ السِّمْسِمُ مَا وَقَعَ إِلَّا عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، فَلَمَّا رَجَعْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَكَّرْتُ فِيهِ، وَقُلْتُ: كَانَ هَذَا رَجُلًا صَالِحًا، رُبَّمَا أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى رَبِّهِ حِينَ وُضِعَ فِي لَحْدِهِ. وَمَرَّ بِذِهْنِي أَبْيَاتُ الثَّوْرِيِّ الَّتِي أَنْشَدَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ:
نَظَرْتُ إِلَى رَبِّي كِفَاحًا فَقَالَ لِي هَنِيئًا رِضَائِي عَنْكَ يَا ابْنَ سَعِيدِ فَقَدْ كُنْتَ قَوَّامًا إِذَا أَقْبَلَ الدُّجَى
بِعَبْرَةِ مُشْتِاقٍ وَقَلْبِ عَمِيدِ فَدُونَكَ فَاخْتَرْ أَيَّ قَصْرٍ أَرَدْتَهُ
وَزُرْنِي فَإِنِّي مِنْكَ غَيْرُ بَعِيدِ
ثُمَّ قُلْتُ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْعِمَادُ رَأَى رَبَّهُ كَمَا رَآهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. فَنِمْتُ

فَرَأَيْتُ الشَّيْخَ الْعِمَادَ فِي الْمَنَامِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ خَضْرَاءُ، وَعِمَامَةٌ خَضْرَاءُ، وَهُوَ فِي مَكَانٍ مُتَّسِعٍ كَأَنَّهُ رَوْضَةٌ، وَهُوَ يَرْقَى فِي دَرَجٍ مُتَّسِعَةٍ، فَقُلْتُ: يَا عِمَادَ الدِّينِ، كَيْفَ بِتَّ فَإِنِّي وَاللَّهِ مُفَكِّرٌ فِيكَ؟ فَنَظَرَ إِلَيَّ وَتَبَسَّمَ عَلَى عَادَتِهِ، ثُمَّ قَالَ:
رَأَيْتُ إِلَهِي حِينَ أُنْزِلْتُ حُفْرَتِي وَفَارَقْتُ أَصْحَابِي وَأَهْلِي وَجِيرَتِي
وَقَالَ جُزِيتَ الْخَيْرَ عَنِّي فَإِنَّنِي رَضِيتُ فَهَا عَفْوِي لَدَيْكَ وَرَحْمَتِي
دَأَبْتَ زَمَانًا تَأْمَلُ الْفَوْزَ وَالرِّضَا فَوُقِّيتَ نِيرَانِي وَلُقِّيتَ جَنَّتِي
قَالَ: فَانْتَبَهْتُ وَأَنَا مَذْعُورٌ، وَكَتَبْتُ الْأَبْيَاتَ.
الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْحَرَسْتَانِيِّ:
عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ بْنُ الْحَرَسْتَانِيِّ، قَاضِي الْقُضَاةِ بِدِمَشْقَ، وُلِدَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ حَرَسْتَا، فَنَزَلَ دَاخِلَ بَابِ تُومَا، وَأَمَّ بِمَسْجِدِ الزَّيْنَبِيِّ، وَنَشَأَ وَلَدُهُ هَذَا نَشْأَةً حَسَنَةً، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَشَارَكَ الْحَافِظَ ابْنَ عَسَاكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ شُيُوخِهِ، وَكَانَ يَجْلِسُ لِإِسْمَاعِ الْحَدِيثِ بِمَقْصُورَةِ الْخَضِرِ، وَعِنْدَهَا كَانَ يُصَلِّي دَائِمًا، لَا تَفُوتُهُ الْجَمَاعَةُ بِالْجَامِعِ، وَكَانَ

مَنْزِلُهُ بِالْحُوَيْرَةِ، وَدَرَسَ بِالْمُجَاهِدِيَّةِ، وَعُمِّرَ دَهْرًا طَوِيلًا عَلَى هَذَا الْقَدَمِ الصَّالِحِ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ عَنِ ابْنِ أَبِي عَصْرُونَ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَلَزِمَ بَيْتَهُ وَصَلَاتَهُ بِالْجَامِعِ، ثُمَّ عَزَلَ الْعَادِلُ الْقَاضِيَ ابْنَ الزَّكِيِّ الطَّاهِرَ بْنَ مُحْيِي الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْقُرَشِيَّ، وَأَلْزَمَ الْقَاضِي جَمَالَ الدِّينِ بْنَ الْحَرَسْتَانِيِّ هَذَا بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ، وَلَهُ ثِنْتَانِ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَأَعْطَاهُ تَدْرِيسَ الْعَزِيزِيَّةِ. وَأَخَذَ التَّقْوِيَةَ أَيْضًا مِنِ ابْنِ الزَّكِيِّ، وَوَلَّاهَا فَخْرَ الدِّينِ بْنَ عَسَاكِرَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْقَهَ مِنِ ابْنِ الْحَرَسْتَانِيِّ، كَانَ يَحْفَظُ الْوَسِيطَ لِلْغَزَّالِيِّ. وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَعْدَلِ الْقُضَاةِ وَأَقْوَمِهِمْ بِالْحَقِّ، لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. وَكَانَ ابْنُهُ عِمَادُ الدِّينِ يَخْطُبُ بِجَامِعِ دِمَشْقَ وَوَلِيَ مَشْيَخَةَ الْأَشْرَفِيَّةِ يَنُوبُ عَنْهُ، وَكَانَ الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ يَجْلِسُ لِلْحُكْمِ بِمَدْرَسَتِهِ الْمُجَاهِدِيَّةِ، وَكَانَ السُّلْطَانُ قَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ طَرَّاحَةً وَمَسْنَدًا لِأَجْلِ أَنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَكَانَ ابْنُهُ يَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِذَا قَامَ أَبُوهُ جَلَسَ هُوَ مَكَانَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ عَزَلَ ابْنَهُ عَنْ نِيَابَتِهِ لِشَيْءٍ بَلَغَهُ عَنْهُ، وَاسْتَنَابَ شَمْسَ الدِّينِ بْنَ الشِّيرَازِيِّ، وَكَانَ يَجْلِسُ تُجَاهَهُ فِي شَرْقِيِّ الْإِيوَانِ، وَاسْتَنَابَ مَعَهُ شَمْسَ الدِّينِ ابْنَ سُنِّيِّ الدَّوْلَةِ، وَبُنِيَتْ لَهُ دَكَّةٌ فِي الزَّاوِيَةِ الْقِبْلِيَّةِ بِغَرْبِ الْمَدْرَسَةِ، وَاسْتَنَابَ شَرَفَ الدِّينِ بْنَ الْمَوْصِلِيِّ الْحَنَفِيَّ، فَكَانَ يَجْلِسُ فِي مِحْرَابِ

الْمَدْرَسَةِ، وَاسْتَمَرَّ حَاكِمًا سَنَتَيْنِ وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتِ رَابِعَ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَلَهُ خَمْسٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، ثُمَّ دُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ.
الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْهَكَّارِيُّ، بَانِي الْمَدْرَسَةِ الَّتِي بِالْقُدْسِ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ، يَتَمَنَّى الشَّهَادَةَ دَائِمًا، فَقَتَلَهُ الْفِرِنْجُ بِحِصْنِ الطُّورِ هَذِهِ السَّنَةَ، فَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِمَامِلَا، وَتُرْبَتُهُ تُزَارُ إِلَى الْآنَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشُّجَاعُ مَحْمُودٌ الْمَعْرُوفُ بِالدِّمَاغِ
كَانَ مِنْ أَصْدِقَاءِ الْعَادِلِ يُضْحِكُهُ، فَحَصَّلَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، كَانَتْ دَارُهُ دَاخِلَ بَابِ الْفَرَجِ، فَجَعَلَتْهَا زَوْجَتُهُ عَائِشَةُ مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَوَقَفَتْ عَلَيْهَا أَوْقَافًا دَارَّةً. رَحِمَهَا اللَّهُ.
الشَّيْخَةُ الصَّالِحَةُ الْعَابِدَةُ الزَّاهِدَةُ
شَيْخَةُ الْعَالِمَاتِ بِدِمَشْقَ، وَتُلَقَّبُ بِدُهْنِ اللَّوْزِ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ بِنْتُ بُورِيحَانَ، وَهِيَ آخِرُ بَنَاتِهِ وَفَاةً، وَجَعَلَتْ أَمْوَالَهَا وَقْفًا عَلَى تُرْبَةِ أُخْتِهَا بِنْتِ صَفِيَّةَ الْمَشْهُورَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْعَادِلُ بِمَرْجِ الصُّفَّرِ لِمُنَاجَزَةِ الْفِرِنْجِ، وَأَمَرَ وَلَدَهُ الْمُعَظَّمَ بِتَخْرِيبِ حِصْنِ الطُّورِ، فَخَرَّبَهُ وَنَقَلَ مَا فِيهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ إِلَى الْبُلْدَانِ خَوْفًا مِنَ الْفِرِنْجِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ نَزَلَتِ الْفِرِنْجُ عَلَى دِمْيَاطَ وَأَخَذُوا بُرْجَ السِّلْسِلَةِ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَكَانَ حِصْنًا مَنِيعًا، وَهُوَ قُفْلُ بِلَادِ مِصْرَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا الْتَقَى الْمُعَظَّمُ وَالْفِرِنْجُ عَلَى الْقَيْمُونِ، فَكَسَرَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا، وَأَسَرَ مِنَ الدَّاوِيَّةِ مِائَةً، فَأَدْخَلَهُمْ إِلَى الْقُدْسِ مُنَكَّسَةً أَعْلَامُهُمْ.
وَفِيهَا جَرَتْ خُطُوبٌ كَثِيرَةٌ بِبَلَدِ الْمَوْصِلِ بِسَبَبِ مَوْتِ مُلُوكِهَا أَوْلَادِ قَرَا أَرْسَلَانَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَتَغَلَّبَ غُلَامُ أَبِيهِمْ بَدْرُ الدِّينِ لُؤْلُؤٌ عَلَى الْأُمُورِ، وَيُذْكَرُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَقْتُلُهُمْ فِي الْبَاطِنِ لِيَسْتَحْوِذَ هُوَ عَلَى الْأُمُورِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا أَقْبَلَ مَلِكُ الرُّومِ كَيْكَاوُسُ بْنُ كَيْخُسْرُو يُرِيدُ أَخْذَ مَمْلَكَةِ حَلَبَ،

وَسَاعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ الْأَفْضَلُ بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ صَاحِبُ سُمَيْسَاطَ، فَصَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ مُوسَى بْنُ الْعَادِلِ، وَقَهَرَ مَلِكَ الرُّومِ، وَكَسَرَ جَيْشَهُ، وَرَدَّهُ خَائِبًا.
وَفِيهَا تَمَلَّكَ الْأَشْرَفُ مَدِينَةَ سِنْجَارَ مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الْمَمَالِكِ هُنَالِكَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيُّوبَ، فَأَخَذَتِ الْفِرِنْجُ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - ثَغْرَ دِمْيَاطَ، ثُمَّ رَكِبُوا، وَقَصَدُوا بِلَادَ مِصْرَ مِنْ ثَغْرِ دِمْيَاطَ، فَحَاصَرُوهُ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَالْكَامِلُ مُحَمَّدٌ يُقَاتِلُهُمْ وَيُمَانِعُهُمْ وَيَصُدُّهُمْ عَمَّا يُرِيدُونَهُ، فَتَمَلَّكُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بُرْجَ السِّلْسِلَةِ، وَهُوَ كَالْقُفْلِ عَلَى دِيَارِ مِصْرَ، وَصِفَتُهُ فِي وَسَطِ جَزِيرَةٍ فِي النِّيلِ عِنْدَ انْتِهَائِهِ إِلَى الْبَحْرِ، وَمِنْ هَذَا الْبُرْجِ إِلَى دِمْيَاطَ - وَهُوَ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ وَحَافَّةِ النِّيلِ - سِلْسِلَةٌ، وَمِنْهُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ وَعَلَيْهِ الْجِسْرُ - سِلْسِلَةٌ أُخْرَى، لِيَمْنَعَ دُخُولَ الْمَرَاكِبِ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى النَّيْلِ، فَلَا يُمْكِنُ الدُّخُولُ، فَلَمَّا مَلَكَتِ الْفِرِنْجُ هَذَا الْبُرْجَ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِدِيَارِ مِصْرَ وَغَيْرِهَا، وَحِينَ وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى الْمَلِكِ الْعَادِلِ وَهُوَ بِمَرْجِ الصُّفَّرِ، تَأَوَّهَ لِذَلِكَ تَأَوُّهًا شَدِيدًا، وَدَقَّ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِهِ أَسَفًا وَحُزْنًا، وَمَرِضَ مِنْ سَاعَتِهِ مَرَضَ الْمَوْتِ لِأَمْرٍ يُرِيدُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ سَابِعَ جُمَادَى الْآخِرَةِ تُوُفِّيَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَرْيَةِ عَالِقِينَ، فَجَاءَ وَلَدُهُ الْمُعَظَّمُ مُسْرِعًا، فَجَمَعَ حَوَاصِلَهُ، وَأَرْسَلَهُ فِي

مِحَفَّةٍ، وَمَعَهُ خَادِمٌ بِصِفَةِ أَنَّ السُّلْطَانَ مَرِيضٌ، وَكُلَّمَا جَاءَ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ لِيُسَلِّمَ عَلَيْهِ بَلَّغَهُمْ عَنْهُ الطَّوَاشِيُّ ; يَعْنِي لِضَعْفِ السُّلْطَانِ عَنِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا انْتُهِيَ بِهِ إِلَى الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ دُفِنَ بِهَا مُدَّةً، ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى تُرْبَتِهِ بِمَدْرَسَةِ الْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ. وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ سَيْفُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ شَاذِي مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ وَأَجْوَدِهِمْ سِيرَةً، وَأَحْسَنِهِمْ سَرِيرَةً، دَيِّنًا عَاقِلًا صَبُورًا وَقُورًا، أَبْطَلَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْخُمُورَ وَالْمَعَازِفَ مِنْ مَمَالِكِهِ كُلِّهَا، وَقَدْ كَانَتْ مُمْتَدَّةً مِنْ أَقْصَى بِلَادِ مِصْرَ وَالْيَمَنِ وَالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ إِلَى هَمَذَانَ كُلِّهَا، أَخَذَهَا بَعْدَ أَخِيهِ صَلَاحِ الدِّينِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَسِوَى حَلَبَ، فَإِنَّهُ أَقَرَّهَا بِيَدِ ابْنِ أَخِيهِ الظَّاهِرِ غَازِيٍّ ; لِأَنَّهُ زَوْجُ ابْنَتِهِ صَفِيَّةَ السِّتِّ خَاتُونَ. وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَلِيمًا صَفُوحًا، صَبُورًا عَلَى الْأَذَى، كَثِيرَ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ، وَحَضَرَ مَعَ أَخِيهِ مَوَاقِفَهُ كُلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا، وَلَهُ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ. وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَاسِكَ الْيَدِ، وَقَدْ أَنْفَقَ فِي عَامِ الْغَلَاءِ بِمِصْرَ أَمْوَالًا عَظِيمَةً جِدًّا، وَتَصَدَّقَ عَلَى أَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ أَبْنَاءِ النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا، ثُمَّ فِي الْعَامِ بَعْدَهُ فِي الْفَنَاءِ كَفَّنَ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ مِنَ الْغُرَبَاءِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ فِي أَيَّامِ مَرَضِهِ، حَتَّى كَانَ يَخْلَعُ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ وَبِمَرْكُوبِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْأَكْلِ، مُمَتَّعًا بِصِحَّتِهِ وَعَافِيَتِهِ مَعَ كَثْرَةِ صِيَامِهِ، يَأْكُلُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ أَكَلَاتٍ جَيِّدَةً، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا يَأْكُلُ وَقْتَ النَّوْمِ رَطْلًا بِالدِمَشْقِيِّ مِنَ الْحَلْوَى السُّكَّرِيَّةِ الْيَابِسَةِ، وَكَانَ يَعْتَرِيهِ مَرَضٌ فِي أَنْفِهِ فِي زَمَنِ الْوَرْدِ، وَكَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِقَامَةِ بِدِمَشْقَ حَتَّى يَفْرُغَ زَمَنُ الْوَرْدِ، فَكَانَ يُضْرَبُ لَهُ الْوِطَاقُ بِمَرْجِ الصُّفَّرِ، ثُمَّ

يَدْخُلُ الْبَلَدَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَتُوُفِّيَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَنْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
وَكَانَ لَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ جَمَاعَةٌ; مُحَمَّدٌ الْكَامِلُ صَاحِبُ مِصْرَ، وَعِيسَى الْمُعَظَّمُ صَاحِبُ دِمَشْقَ، وَمُوسَى الْأَشْرَفُ صَاحِبُ الْجَزِيرَةِ وَخِلَاطَ وَحَرَّانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْأَوْحَدُ أَيُّوبُ وَمَاتَ قَبْلَهُ، وَالْفَائِزُ إِبْرَاهِيمُ، وَالْمُظَفَّرُ غَازِيٌّ صَاحِبُ الرَّهَا، وَالْعَزِيزُ عُثْمَانُ، وَالْأَمْجَدُ حَسَنٌ، وَهُمَا شَقِيقَا الْمُعَظَّمِ، وَالْمُغِيثُ مَحْمُودٌ، وَالْحَافِظُ أَرْسَلَانُ صَاحِبُ جَعْبَرٍ، وَالصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ، وَالْقَاهِرُ إِسْحَاقُ، وَمُجِيرُ الدِّينِ يَعْقُوبُ، وَقُطْبُ الدِّينِ أَحْمَدُ، وَخَلِيلٌ، وَكَانَ أَصْغَرَهُمْ، وَتَقِيُّ الدِّينِ عَبَّاسٌ، وَكَانَ آخِرَهُمْ وَفَاةً، بَقِيَ إِلَى سَنَةِ سِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَ لَهُ بَنَاتٌ أَشْهَرُهُنَّ السِّتُّ صَفِيَّةُ خَاتُونَ زَوْجَةُ الظَّاهِرِ غَازِيٍّ صَاحِبِ حَلَبَ، وَأُمُّ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ وَالِدِ النَّاصِرِ يُوسُفَ الَّذِي مَلَكَ دِمَشْقَ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ النَّاصِرِيَّتَانِ بِدِمَشْقَ وَالْجَبَلِ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُ هُولَاوُو كَمَا سَيَأْتِي.

صِفَةُ أَخْذِ الْفِرِنْجِ دِمْيَاطَ
لَمَّا انْتَهَى الْخَبَرُ بِمَوْتِ الْعَادِلِ إِلَى ابْنِهِ مُحَمَّدٍ الْكَامِلِ، وَهُوَ بِثَغْرِ دِمْيَاطَ مُرَابِطٌ الْفِرِنْجَ، أَضْعَفَ ذَلِكَ أَعْضَادَ الْمُسْلِمِينَ وَفَشِلُوا، ثُمَّ بَلَغَ الْكَامِلَ خَبَرٌ آخَرُ أَنَّ الْأَمِيرَ أَحْمَدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْمَشْطُوبِ، وَكَانَ أَكْبَرَ أَمِيرٍ بِمِصْرَ، قَدْ أَرَادَ أَنْ يُبَايِعَ لِلْفَائِزِ عِوَضًا عَنِ الْكَامِلِ، فَسَاقَ وَحْدَهُ جَرِيدَةً مِنْ دِمْيَاطَ قَاصِدًا إِلَى مِصْرَ لِاسْتِدْرَاكِ هَذَا الْخَطْبِ الْجَسِيمِ، فَلَمَّا فَقَدَهُ الْجَيْشُ مِنْ بَيْنِهِمُ انْحَلَّ نِظَامُهُمْ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَكْبَرُ مِمَّا بَلَغَهُمْ، فَرَكِبُوا وَرَاءَهُ، فَدَخَلَتِ الْفِرِنْجُ بِأَمَانٍ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى مُعَسْكَرِ الْكَامِلِ وَأَثْقَالِهِ وَحَوَاصِلِ الْجَيْشِ، فَوَقَعَ أَمْرٌ عَظِيمٌ جِدًّا، وَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَدَخَلَ

الْكَامِلُ مِصْرَ، فَلَمْ يَقَعْ مِمَّا ظَنَّهُ شَيْءٌ، وَهَرَبَ مِنْهُ ابْنُ الْمَشْطُوبِ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ رَكِبَ مِنْ فَوْرِهِ فِي الْجَيْشِ إِلَى الْفِرِنْجِ، فَإِذَا الْأَمْرُ قَدْ تَزَايَدَ وَقَدْ تَمَكَّنُوا هُنَالِكَ مِنَ الْبُلْدَانِ، وَقَتَلُوا خَلْقًا، وَغَنِمُوا شَيْئًا كَثِيرًا، وَعَاثَتْ هُنَاكَ الْأَعْرَابُ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ بِبِلَادِ دِمْيَاطَ، فَكَانُوا أَضَرَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَنَزَلَ الْكَامِلُ تُجَاهَهُمْ يُمَانِعُهُمْ عَنْ دُخُولِهِمْ إِلَى الْقَاهِرَةِ وَمِصْرِهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانَ يُمَانِعُهُمْ عَنْ دُخُولِ الثَّغْرِ; وَكَتَبَ إِلَى إِخْوَتِهِ يَسْتَحِثُّهُمْ وَيَسْتَنْجِدُ بِهِمْ، وَيَقُولُ: الْوَحَاءَ الْوَحَاءَ، الْعَجَلَ الْعَجَلَ، أَدْرِكُوا الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ أَنْ تَمْلِكَ الْفِرِنْجُ جَمِيعَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَأَقْبَلَتِ الْعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِيَّةُ إِلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ أَخُوهُ الْأَشْرَفُ مُوسَى صَاحِبُ الْجَزِيرَةِ، بَيَّضَ اللَّهُ وَجْهَهُ، ثُمَّ الْمُعَظَّمُ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَعَ الْفِرِنْجِ مَا سَنَذْكُرُ بَعْدَ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا وَلِيَ حِسْبَةَ بَغْدَادَ الصَّاحِبُ مُحْيِي الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَعْمَلُ مِيعَادَ الْوَعْظِ عَلَى قَاعِدَةِ أَبِيهِ، وَشُكِرَتْ مُبَاشَرَتُهُ لِلْحِسْبَةِ.
وَفِيهَا فُوِّضَ إِلَى الْمُعَظَّمِ النَّظَرُ فِي التُّرْبَةِ الْبَدْرِيَّةِ تُجَاهَ الشِّبْلِيَّةِ عِنْدَ الْجِسْرِ الَّذِي عَلَى ثَوْرَا، وَيُقَالُ لَهُ: جِسْرُ كُحَيْلٍ، وَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى بَدْرِ الدِّينِ حَسَنِ بْنِ الدَّايَةِ، كَانَ هُوَ وَإِخْوَتُهُ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ.
قُلْتُ: وَقَدْ جُعِلَتْ فِي حُدُودِ الْأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ جَامِعًا فِيهِ خُطْبَةُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ السُّلْطَانُ عَلَاءُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ تِكِشٍ إِلَى الْمَلِكِ الْعَادِلِ وَهُوَ مُخَيِّمٌ

بِمَرْجِ الصُّفَّرِ، فَرَدَّ إِلَيْهِ مَعَ الرَّسُولِ خَطِيبَ دِمَشْقَ جَمَالَ الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ الدَّوْلَعِيَّ، وَاسْتُنِيبَ عَنْهُ فِي الْخَطَابَةِ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ عُمَرُ بْنُ يُوسُفَ خَطِيبُ بَيْتِ الْآبَارِ، فَأَقَامَ بِالْعَزِيزِيَّةِ يُبَاشِرُ عَنْهُ، حَتَّى قَدِمَ مَوْتُ الْعَادِلِ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الْقَاهِرُ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، فَأُقِيمَ ابْنُهُ الصَّغِيرُ مَكَانَهُ، ثُمَّ قُتِلَ، وَتَشَتَّتَ شَمْلُ الْبَيْتِ الْأَتَابَكِيِّ، وَتَغَلَّبَ عَلَى الْأُمُورِ بَدْرُ الدِّينِ لُؤْلُؤٌ غُلَامُ أَبِيهِمْ نُورِ الدِّينِ أَرْسَلَانَ.
وَفِيهَا كَانَ عَوْدُ الْوَزِيرِ صَفِيُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ شُكْرٍ مِنْ آمِدَ إِلَى دِمَشْقَ بَعْدَ مَوْتِ الْعَادِلِ، فَعَمِلَ فِيهِ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ السَّخَاوِيُّ مَقَامَةً يَمْدَحُهُ فِيهَا وَيُبَالِغُ فِي شُكْرِهِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ مُتَوَاضِعًا يُحِبُّ الْفُقَهَاءَ، وَيُسَلِّمُ عَلَى النَّاسِ إِذَا اجْتَازَ بِهِمْ، وَهُوَ رَاكِبٌ فِي أُبَّهَةِ وِزَارَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ نُكِبَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَامِلَ هُوَ الَّذِي كَانَ سَبَبَ طَرْدِهِ وَإِبْعَادِهِ، كَتَبَ إِلَى أَخِيهِ الْمُعَظَّمِ فِيهِ، فَاحْتَاطَ عَلَى أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَعَزَلَ ابْنَهُ عَنِ النَّظَرِ بِالدَّوَاوِينِ، وَقَدْ كَانَ يَنُوبُ عَنْ أَبِيهِ فِي مُدَّةِ غَيْبَتِهِ.
وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا أَعَادَ الْمُعَظَّمُ ضَمَانَ الْقِيَانِ وَالْخُمُورِ وَالْمُغَنِّيَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ الَّتِي كَانَ أَبُوهُ قَدْ أَبْطَلَهَا، بِحَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَتَجَاسَرُ أَنْ يَنْقُلَ خَمْرًا إِلَى دِمَشْقَ إِلَّا بِالْحِيلَةِ الْخَفِيَّةِ، وَاعْتَذَرَ الْمُعَظَّمُ فِي صُنْعِهِ هَذَا الْمُنْكَرَ بِقِلَّةِ الْأَمْوَالِ عَلَى الْجُنْدِ، وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَى النَّفَقَاتِ فِي قِتَالِ الْفِرِنْجِ.

وَمَا اسْتَشْعَرَ أَنَّ هَذَا الصَّنِيعَ يُدِيلُ عَلَيْهِمُ الْأَعْدَاءَ، وَيُمَكِّنُ فِيهِمُ الدَّاءَ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ:
السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيُّوبَ، كَمَا تَقَدَّمَ
الْقَاضِي شَرَفُ الدِّينِ أَبُو طَالِبٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْنِ الْقُضَاةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سُلْطَانِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عَلِيٍّ الْقُرَشِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، مِنْ بَنِي عَمِّ ابْنِ الزَّكِيِّ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَرَسَ بِالشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ وَبِالرَّوَاحِيَةِ أَيْضًا، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ عَنِ ابْنِ عَمِّهِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ الزَّكِيِّ، وَتُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ عِنْدَ مَسْجِدِ الْقَدَمِ.
أَبُو سُلَيْمَانَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْغَنَائِمِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى الْمُلْهَمِيُّ الضَّرِيرُ الْبَغْدَادِيُّ، كَانَ يُنْسَبُ إِلَى عِلْمِ الْأَوَائِلِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتَسَتَّرُ بِمَذْهَبِ الظَّاهِرِيَّةِ; قَالَ فِيهِ ابْنُ السَّاعِي: الدَّاوُدِيُّ مَذْهَبًا، الْمَعَرِّيُّ أَدَبًا وَاعْتِقَادًا،

وَمِنْ شَعْرِهِ:
إِلَى الرَّحْمَنِ أَشْكُو مَا أُلَاقِي غَدَاةَ غَدَوْا عَلَى هَوْجِ النِّيَاقِ سَأَلْتُكُمُ بِمَنْ زَمَّ الْمَطَايَا
أَمَرَّ بِكُمْ أَمَرُّ مَنَ الْفِرَاقِ وَهَلْ دَاءٌ أَشَدُّ مِنَ التَّنَائِي
وَهَلْ عَيْشٌ أَلَذُّ مِنَ التَّلَاقِ
قَاضِي قُضَاةِ بَغْدَادَ عِمَادُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الدَّامَغَانِيِّ الْحَنَفِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَتَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِبَغْدَادَ مَرَّتَيْنِ نَحْوًا مِنْ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ، عَارِفًا بِالْحِسَابِ وَالْفَرَائِضِ وَقِسْمَةِ التَّرِكَاتِ.
أَبُو الْيُمْنِ نَجَاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَبَشِيُّ الشَّرَابِيُّ
نَجْمُ الدِّينِ مَوْلَى الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ، وَكَانَ لَا يُفَارِقُ الْخَلِيفَةَ، وَكَانَ يُسَمَّى سَلْمَانَ دَارِ الْخِلَافَةِ، فَلَمَّا مَاتَ وَجَدَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ وَجَدًا عَظِيمًا، وَكَانَ يَوْمُ جَنَازَتِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا، كَانَ بَيْنَ يَدَيِ النَّعْشِ مِائَةُ بَقَرَةٍ وَأَلْفُ شَاةٍ وَأَحْمَالٌ مِنَ التَّمْرِ وَالْخُبْزِ وَالْمَاوَرْدِ، وَقَدْ صَلَّى عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ بِنَفْسِهِ تَحْتَ التَّاجِ، وَتَصَدَّقَ عَنْهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ عَلَى الْمَشَاهِدِ،

وَمِثْلِهَا عَلَى الْمُجَاوِرِينَ بِالْحَرَمَيْنِ، وَأَعْتَقَ مَمَالِيكَهُ، وَوَقَفَ عَنْهُ خَمْسَمِائَةِ مُجَلَّدٍ.
أَبُو الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بْنُ عُلْوَانَ بْنِ مُهَاجِرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُهَاجِرٍ الْمَوْصِلِيُّ
تَفَقَّهَ بِالنِّظَامِيَّةِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَسَادَ أَهْلَ وَقْتِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْفَتْوَى وَالتَّدْرِيسِ بِمَدْرَسَةِ بَدْرِ الدِّينِ لُؤْلُؤٍ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ صَالِحًا دَيِّنًا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَبُو الطِّيبِ رِزْقُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَلِيفَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ رِزْقِ اللَّهِ بْنِ غَانِمِ بْنِ غَنَّامٍ الْمَاحُوزِيُّ
الْمُحَدِّثُ الْجَوَّالُ الرَّحَّالُ الثِّقَةُ الْحَافِظُ الْأَدِيبُ الشَّاعِرُ.
أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ بُرَنْقَشَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعِمَادِيُّ
كَانَ مِنْ أُمَرَاءِ سِنْجَارَ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ مَوَالِي الْمَلِكِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ صَاحِبِهَا، وَكَانَ أَحْمَدُ هَذَا أَدِيبًا شَاعِرًا، ذَا مَالٍ جَزِيلٍ وَأَمْلَاكٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدِ احْتَاطَ عَلَى أَمْوَالِهِ قُطْبُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ، وَأَوْدَعَهُ سِجْنًا، فَنُسِيَ فِيهِ، وَمَاتَ كَمَدًا، وَمِنْ شِعْرِهِ:
تَقُولُ وَقَدْ وَدَّعْتُهَا وَدُمُوعُهَا عَلَى نَحْرِهَا مِنْ خَشْيَةِ الْبَيْنِ تَلْتَقِي
مَضَى أَكْثَرُ الْعُمْرِ الَّذِي كَانَ نَافِعًا رُوَيْدَكَ فَاعْمَلْ صَالِحًا فِي الَّذِي بَقِي

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا أَمَرَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الْجَوْزِيِّ مُحْتَسِبُ بَغْدَادَ بِإِزَالَةِ الْمُنْكَرَاتِ وَكَسْرِ الْمَلَاهِي، فَفَعَلَ ذَلِكَ هَذِهِ السَّنَةَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
ظُهُورُ جِنْكِزْخَانَ وَجُنُودِهِ وَعُبُورُهُمْ نَهْرَ جَيْحُونَ
وَفِيهَا عَبَرَتِ التَّتَارُ نَهْرَ جَيْحُونَ صُحْبَةَ مَلِكِهِمْ جِنْكِزْخَانَ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَكَانُوا يَسْكُنُونَ جِبَالَ طَمْغَاجَ مِنْ أَرْضِ الصِّينِ، وَلُغَتُهُمْ مُخَالِفَةٌ لِلُغَةِ سَائِرِ التَّتَارِ، وَهُمْ مِنْ أَشْجَعِهِمْ وَأَصْبَرِهِمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَسَبَبُ دُخُولِهِمْ نَهْرَ جَيْحُونَ أَنَّ جِنْكِزْخَانَ بَعَثَ تُجَّارًا لَهُ، وَمَعَهُمْ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ إِلَى بِلَادِ خُوَارَزْمَ شَاهْ يَتَبَضَّعُونَ لَهُ ثِيَابًا لِلْكُسْوَةِ، فَكَتَبَ نَائِبُهَا إِلَى خُوَارَزْمَ شَاهْ يَذْكُرُ لَهُ مَا مَعَهُمْ مِنْ كَثْرَةِ الْأَمْوَالِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِقَتْلِهِمْ، وَبِأَخْذِ مَا مَعَهُمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ جِنْكِزْخَانُ وَأَرْسَلَ يَتَهَدَّدُ خُوَارَزْمَ شَاهْ، فَأَشَارَ مَنْ أَشَارَ عَلَى خُوَارَزْمَ شَاهْ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي شُغْلٍ بِقِتَالِ كَشْلِي خَانَ، فَنَهَبَ خُوَارَزْمُ شَاهْ أَمْوَالَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيهِمْ وَأَطْفَالَهُمْ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ مَحْرُوبِينَ، فَاقْتَتَلُوا مَعَهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ قِتَالًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، أُولَئِكَ يُقَاتِلُونَ عَنْ حَرِيمِهِمْ، وَالْمُسْلِمُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مَتَى وَلَّوِا اسْتَأْصَلُوهُمْ، فَقُتِلَ مِنَ

الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، حَتَّى إِنَّ الْخُيُولَ كَانَتْ تَزْلَقُ فِي الدِّمَاءِ، وَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَمِنَ التَّتَارِ أَضْعَافُ ذَلِكَ، ثُمَّ تَحَاجَزَ الْفَرِيقَانِ، وَوَلَّى كُلٌّ مِنْهُمْ إِلَى بِلَادِهِ، وَلَجَأَ خُوَارَزْمُ شَاهْ وَأَصْحَابُهُ إِلَى بُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ، فَحَصَّنَهَا وَبَالَغَ فِي كَثْرَةِ مَنْ تَرَكَ فِيهَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَرَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ لِيُجَهِّزَ الْجُيُوشَ الْكَثِيرَةَ، فَقَصَدَتِ التَّتَارُ بُخَارَى وَبِهَا عِشْرُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، فَحَاصَرَهَا جِنْكِزْخَانُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَطَلَبَ مِنْهُ أَهْلُهَا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَدَخَلَهَا فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِيهِمْ مَكْرًا وَخَدِيعَةً، وَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ الْقَلْعَةُ، فَحَاصَرَهَا وَاسْتَعْمَلَ أَهْلَ الْبَلَدِ فِي طَمِّ خَنْدَقِهَا، وَكَانَ التَّتَارُ يَأْتُونَ بِالْمَنَابِرِ وَالرَّبَعَاتِ، فَيَطْرَحُونَهَا فِي الْخَنْدَقِ يَطُمُّونَهُ بِهَا، فَفَتَحَهَا قَسْرًا فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَقَتَلَ مَنْ كَانَ بِهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْبَلَدِ فَاصْطَفَى أَمْوَالَ تُجَّارِهَا، وَأَبَاحَهَا لِجُنْدِهِ، فَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَسَرُوا الذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ، وَفَعَلُوا مَعَهُنَّ الْفَوَاحِشَ بِحَضْرَةِ أَهْلِيهِنَّ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَاتَلَ دُونَ حَرِيمِهِ حَتَّى قُتِلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُسِرَ فَعُذِّبَ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَكَثُرَ الْبُكَاءُ وَالضَّجِيجُ بِالْبَلَدِ، ثُمَّ أَلْقَتِ التَّتَارُ النَّارَ فِي دُورِ بُخَارَى وَمَدَارِسِهَا وَمَسَاجِدِهَا، فَاحْتَرَقَتْ حَتَّى صَارَتْ بِلَاقِعَ خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا، ثُمَّ كَرُّوا رَاجِعِينَ عَنْهَا قَاصِدِينَ سَمَرْقَنْدَ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ. فِيهَا مَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ هَذِهِ السَّنَةِ خُرِّبَ سُورُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ - عَمَّرَهُ اللَّهُ بِذِكْرِهِ -

أَمَرَ بِذَلِكَ الْمُعَظَّمُ خَوْفًا مِنَ اسْتِيلَاءِ الْفِرِنْجِ عَلَيْهِ، بَعْدَ مَشُورَةِ مَنْ أَشَارَ بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْفِرِنْجَ إِذَا تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ جَعَلُوهُ وَسِيلَةً إِلَى أَخْذِ الشَّامِ جَمِيعِهِ، فَشَرَعَ فِي تَخْرِيبِ السُّورِ فِي أَوَّلِ يَوْمِ الْمُحَرَّمِ، فَهَرَبَ مِنْهُ أَهْلُهُ خَوْفًا مِنَ الْفِرِنْجِ أَنْ يَهْجُمُوا عَلَيْهِمْ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَتَرَكُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَثَاثَهُمْ، وَتَمَزَّقُوا فِي الْبِلَادِ كُلَّ مُمَزَّقٍ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ أُبِيعَ الْقِنْطَارُ مِنَ الزَّيْتِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَرَطْلِ النُّحَاسِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ، وَضَجَّ النَّاسُ وَابْتَهَلُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَفِي الْأَقْصَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَهْجُو الْمُعَظَّمَ فِي ذَلِكَ:
فِي رَجَبٍ حُلِّلَ الْمُحَرَّمْ وَأُخْرِبَ الْقُدْسُ فِي الْمُحَرَّمْ
وَفِيهَا اسْتَحْوَذَتِ الْفِرِنْجُ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، عَلَى مَدِينَةِ دِمْيَاطَ، وَدَخَلُوهَا بِالْأَمَانِ، فَغَدَرُوا بِأَهْلِهَا، وَقَتَلُوا رِجَالَهَا، وَسَبَوْا نِسَاءَهَا وَأَطْفَالَهَا، وَفَجَرُوا بِالنِّسَاءِ، وَبَعَثُوا بِمِنْبَرِ الْجَامِعِ وَالرَّبَعَاتِ وَرُءُوسِ الْقَتْلَى إِلَى الْجَزَائِرِ، وَجَعَلُوا الْجَامِعَ كَنِيسَةً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ " الْأَنْعَامِ: 112 ".
وَفِيهَا تَغَيَّظَ السُّلْطَانُ الْمُعَظَّمُ عَلَى الْقَاضِي زَكِيِّ الدِّينِ بْنِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ الزَّكِيِّ قَاضِي الْبَلَدِ. وَسَبَبُهُ أَنَّ عَمَّتَهُ سِتَّ الشَّامِ بِنْتَ أَيُّوبَ كَانَتْ قَدْ مَرِضَتْ فِي دَارِهَا الَّتِي جَعَلَتْهَا بَعْدَهَا مَدْرَسَةً، فَأَرْسَلَتْ إِلَى الْقَاضِي لِتُوصِيَ إِلَيْهِ، فَذَهَبَ إِلَيْهَا

بِشُهُودٍ مَعَهُ، فَكَتَبَ الْوَصِيَّةَ كَمَا قَالَتْ، فَقَالَ الْمُعَظَّمُ: يَذْهَبُ إِلَى عَمَّتِي بِغَيْرِ إِذْنِي، وَيَسْمَعُ هُوَ وَالشُّهُودُ كَلَامَهَا! وَاتَّفَقَ أَنَّ الْقَاضِيَ طَلَبَ مِنْ جَابِي الْعَزِيزِيَّةِ حِسَابَهَا، وَضَرَبَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالْمَقَارِعِ، وَكَانَ الْمُعَظَّمُ يُبْغِضُ هَذَا الْقَاضِيَ مِنْ أَيَّامِ أَبِيهِ الْعَادِلِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَرْسَلَ الْمُعَظَّمُ إِلَى الْقَاضِي بِبُقْجَةٍ فِيهَا قَبَاءٌ وَكَلُّوتَةٌ; الْقَبَاءُ أَبْيَضُ وَالْكَلُّوتَةُ صَفْرَاءُ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَا حَمْرَاوَيْنِ مُدَرَّنَيْنِ، وَحَلَفَ الرَّسُولُ عَنِ السُّلْطَانِ لَيَلْبَسَنَّهُمَا وَيَحْكُمُ بَيْنَ الْخُصُومِ فِيهِمَا، وَكَانَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ أَنْ جَاءَتْهُ الرِّسَالَةُ بِهَذَا، وَهُوَ فِي دِهْلِيزِ دَارِهِ الَّتِي بِبَابِ الْبَرِيدِ وَهُوَ مُنْتَصِبٌ لِلْحُكْمِ، فَلَمْ يَقْدِرْ إِلَّا أَنْ لَبِسَهُمَا، وَحَكَمَ فِيهِمَا، ثُمَّ دَخَلَ دَارَهُ، وَاسْتَقْبَلَ مَرَضَ مَوْتِهِ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي صَفَرٍ مِنَ السَّنَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَهَا، وَكَانَ الشَّرَفُ بْنُ عُنَيْنٍ الزُّرَعِيُّ الشَّاعِرُ قَدْ أَظْهَرَ النُّسُكَ وَالتَّعَبُّدَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ اعْتَكَفَ بِالْجَامِعِ أَيْضًا. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُعَظَّمُ بِخَمْرٍ وَنَرْدٍ لِيَشْتَغِلَ بِهِمَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عُنَيْنٍ:
يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ سُنَّةً أَحْدَثْتَهَا تَبْقَى عَلَى الْآبَادِ
تَجْرِي الْمُلُوكُ عَلَى طَرِيقِكَ بَعْدَهَا خَلْعُ الْقُضَاةِ وَتُحْفَةُ الزُّهَّادِ
وَقَدْ كَانَ نُوَّابُ ابْنِ الزَّكِيِّ أَرْبَعَةً; شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الشِّيرَازِيِّ إِمَامُ مَشْهَدِ عَلَيٍّ، كَانَ يَحْكُمُ بِهِ فِي الشُّبَّاكِ، وَرُبَّمَا بَرَزَ إِلَى طَرَفِ الرِّوَاقِ تُجَاهَ الْبَلَاطَةِ السَّوْدَاءِ، وَشَمْسُ الدِّينِ بْنُ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ، كَانَ يَحْكُمُ فِي الشُّبَّاكِ الَّذِي فِي

الْكَلَّاسَةِ تُجَاهَ تُرْبَةِ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ عِنْدَ بَابِ الْغَزَّالِيَّةِ، وَجَمَالُ الدِّينِ الْمِصْرِيُّ وَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ، كَانَ يَحْكُمُ فِي الشُّبَّاكِ الْكَمَالِيِّ بِمَشْهَدِ عُثْمَانَ، وَشَرَفُ الدِّينِ الْمَوْصِلِيُّ الْحَنَفِيُّ كَانَ يَحْكُمُ بِالْمَدْرَسَةِ الطَّرْخَانِيَّةِ بَجَيْرُونَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
سِتُّ الشَّامِ
وَاقِفَةُ الْمَدْرَسَتَيْنِ الْبَرَّانِيَّةِ وَالْجَوَّانِيَّةِ الْخَاتُونُ الْجَلِيلَةُ سِتُّ الشَّامِ بِنْتُ أَيُّوبَ بْنِ شَاذِي، أُخْتُ الْمُلُوكِ وَعَمَّةُ أَوْلَادِهِمْ، كَانَ لَهَا مِنَ الْمُلُوكِ الْمَحَارِمِ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ مَلِكًا، مِنْهُمْ شَقِيقُهَا الْمُعَظَّمُ تَوْرَانُ شَاهْ بْنُ أَيُّوبَ صَاحِبُ الْيَمَنِ، وَهُوَ مَدْفُونٌ عِنْدَهَا فِي تُرْبَتِهَا فِي الْقَبْرِ الْقِبْلِيِّ مِنَ الثَّلَاثَةِ، وَفِي الْأَوْسَطِ مِنْهَا زَوْجُهَا وَابْنُ عَمِّهَا نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أَسَدِ الدِّينِ شِيرْكُوهْ بْنِ شَاذِي صَاحِبُ حِمْصَ، وَكَانَتْ قَدْ تَزَوَّجَتْهُ بَعْدَ أَبِي ابْنِهَا حُسَامِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ لَاجِينَ، وَهِيَ وَابْنُهَا حُسَامُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ فِي الْقَبْرِ الثَّالِثِ، وَهُوَ الَّذِي يَلِي مَكَانَ الدَّرْسِ، وَيُقَالُ لِلتُّرْبَةِ وَالْمَدْرَسَةِ: الْحُسَامِيَّةُ، نِسْبَةً إِلَى ابْنِهَا هَذَا حُسَامِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ لَاجِينَ.

وَكَانَتْ سِتُّ الشَّامِ مِنْ أَكْثَرِ النِّسَاءِ صَدَقَةً وَإِحْسَانًا إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ، وَكَانَتْ تَعْمَلُ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي دَارِهَا بِأُلُوفٍ مِنَ الذَّهَبِ أَشْرِبَةً وَأَدْوِيَةً وَعَقَاقِيرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَتُفَرِّقُهُ عَلَى النَّاسِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُا يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرَ النَّهَارِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فِي دَارِهَا الَّتِي جَعَلَتْهَا مَدْرَسَةً، وَهِيَ عِنْدَ الْمَارَسْتَانِ، وَهِيَ الشَّامِيَّةُ الْجَوَّانِيَّةُ، وَنُقِلَتْ مِنْهَا إِلَى تُرْبَتِهَا بِالشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهَا عَظِيمَةً حَافِلَةً، رَحِمَهَا اللَّهُ.
أَبُو الْبَقَاءِ صَاحِبُ " الْإِعْرَابِ " وَ " اللُّبَابِ "
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، الشَّيْخُ أَبُو الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيُّ الضَّرِيرُ النَّحْوِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، صَاحِبُ إِعْرَابِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ، وَكِتَابِ " اللُّبَابِ " فِي النَّحْوِ، وَلَهُ حَوَاشٍ عَلَى " الْمَقَامَاتِ "، وَ " مُفَصَّلِ الزَّمَخْشَرِيِّ "، " وَدِيوَانِ الْمُتَنَبِّي "، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَهُ فِي الْحِسَابِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ صَالِحًا دَيِّنًا، مَاتَ وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ إِمَامًا فِي اللُّغَةِ وَالْحِسَابِ وَالنَّحْوِ، فَقِيهًا مُنَاظِرًا عَارِفًا بِالْأَصْلَيْنِ وَالْفِقْهِ، وَحَكَى الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ عَنْهُ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي شَرْحِ " الْمَقَامَاتِ " أَنَّ عَنْقَاءَ مُغْرِبًا كَانَتْ تَأْتِي إِلَى جَبَلٍ شَاهِقٍ عِنْدَ أَصْحَابِ الرَّسِّ، فَرُبَّمَا اخْتَطَفَتْ بَعْضَ أَوْلَادِهِمْ، فَشَكَوْهَا إِلَى نَبِيِّهِمْ حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ، فَدَعَا عَلَيْهَا فَهَلَكَتْ. قَالَ: وَكَانَ وَجْهُهَا كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ، وَفِيهَا شَبَهٌ مِنْ كُلِّ طَائِرٍ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كِتَابِ " رَبِيعِ الْأَبْرَارِ "

أَنَّهَا كَانَتْ فِي زَمَنِ مُوسَى لَهَا أَرْبَعَةُ أَجْنِحَةٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَوَجْهٌ كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ، وَفِيهَا شَبَهٌ كَثِيرٌ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ، وَأَنَّهَا تَأَخَّرَتْ إِلَى زَمَنِ خَالِدِ بْنِ سِنَانَ الْعَبْسِيِّ الَّذِي كَانَ فِي الْفَتْرَةِ، فَدَعَا عَلَيْهَا فَهَلَكَتْ. وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّ الْمُعِزَّ الْفَاطِمِيَّ جِيءَ إِلَيْهِ بِطَائِرٍ غَرِيبِ الشَّكْلِ مِنَ الصَّعِيدِ، يُقَالُ لَهُ: عَنْقَاءُ مُغْرِبٌ.
قُلْتُ: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ خَالِدِ بْنِ سِنَانَ وَحَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ كَانَ فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ، وَكَانَ صَالِحًا، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
الْحَافِظُ عِمَادُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ، عَلِيُّ بْنُ الْحَافِظِ بَهَاءِ الدِّينِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْقَاسِمِ بْنِ الْحَافِظِ الْكَبِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَسَاكِرَ الدِّمَشْقِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ فَمَاتَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَمِنْ لَطِيفِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ فِي الْمِرْوَحَةِ:
وَمِرْوَحَةٌ تُرَوِّحُ كُلَّ هَمٍّ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ لَابُدَّ مِنْهَا حَزِيرَانٌ وَتَمُّوزٌ وَآبٌ
وَفِي أَيْلُولَ يُغْنِى اللَّهُ عَنْهَا
ابْنُ الدَّوَامِيِّ الشَّاعِرُ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ السَّاعِي جُمْلَةً صَالِحَةً مِنْ شِعْرِهِ.

وَسَعِيدُ بْنُ الرَّزَّازِ، وَكَانَ أَحَدَ الْمُعَدِّلِينَ بِبَغْدَادَ، وَسَمِعَ الْبُخَارِيَّ مِنْ أَبِي الْوَقْتِ.
وَأَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَرْوَزِيُّ الْأَصْلِ الْهَمَذَانَيُّ الْمَوْلِدِ الْبَغْدَادِيُّ الْمَنْشَأِ وَالْوَفَاةِ، كَانَ حَسَنَ الشَّكْلِ، كَامِلَ الْأَوْصَافِ، لَهُ خَطٌّ حَسَنٌ، وَيَعْرِفُ فُنُونًا كَثِيرَةً مِنَ الْعُلُومِ، شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ، وَيَتَكَلَّمُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
أَرَى قِسَمَ الْأَرْزَاقِ أَعْجَبَ قِسْمَةٍ لِذِي دَعَةٍ مُثْرٍ وَمُكْدٍ بِهِ الْكَدُّ
وَأَحْمَقُ ذُو مَالٍ وَأَحْمَقُ مُعْدِمٌ وَعَقْلٌ بِلَا حَظٍّ وَعَقْلٌ لَهُ جَدُّ
يَعُمُّ الْغِنَى وَالْفَقْرُ ذَا الْجَهْلِ وَالْحِجَا وَلِلَّهِ مِنْ قَبْلُ الْأُمُورُ وَمِنْ بَعْدُ
أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ الْقَاسِمِ
ابْنُ الْمُفَرِّجِ بْنِ دِرْعِ بْنِ الْخَضِرِ الشَّافِعِيُّ، الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ التِّكْرِيتِيُّ، قَاضِيهَا، ثُمَّ دَرَسَ بِنِظَامِيَّةِ بَغْدَادَ، وَكَانَ مُتْقِنًا لِعُلُومٍ كَثِيرَةٍ; مِنْهَا التَّفْسِيرُ وَالْفِقْهُ وَالْأَدَبُ وَالنَّحْوُ وَاللُّغَةُ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ،

وَجَمَعَ لِنَفْسِهِ تَارِيخًا حَسَنًا، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
لَابُدَّ لِلْمَرْءِ مِنْ ضِيقٍ وَمِنْ سَعَةٍ وَمِنْ سُرُورٍ يُوَافِيهِ وَمِنْ حَزَنِ
وَاللَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ شُكْرَ نِعْمَتِهِ مَا دَامَ فِيهَا وَيَبْغِي الصَّبْرَ فِي الْمِحَنِ
فَكُنْ مَعَ اللَّهِ فِي الْحَالَيْنِ مُعْتَنِقًا فَرْضَيْكَ هَذِينِ فِي سِرٍّ وَفِي عَلَنِ
فَمَا عَلَى شِدَّةٍ يَبْقَى الزَّمَانُ فَكُنْ جَلْدًا وَلَا نِعْمَةٌ تَبْقَى عَلَى الزَّمَنِ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
لَوْ كَانَ قَاضِي الْهَوَى عَلَيَّ وَلِي مَا جَارَ فِي الْحُكْمِ مَنْ عَلَيَّ وَلِي
يَا يُوسُفِيَّ الْجَمَالِ عَبْدُكَ لَمْ تَبْقَ لَهُ حِيلَةٌ مِنَ الْحِيَلِ
إِنْ كَانَ قُدَّ الْقَمِيصُ مِنْ دُبُرٍ فَفِيكَ قُدَّ الْفُؤَادُ مِنْ قُبُلِ
صَاحِبُ " الْجَوَاهِرِ "
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ جَلَالُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَجْمِ بْنِ شَاسِ بْنِ نِزَارِ بْنِ عَشَائِرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شَاسٍ الْجُذَامِيُّ السَّعْدِيُّ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ، مُصَنِّفُ كِتَابِ " الْجَوَاهِرِ الثَّمِينَةِ فِي مَذْهَبِ عَالِمِ الْمَدِينَةِ "، وَهُوَ مِنْ أَكْثَرِ الْكُتُبِ فَوَائِدَ فِي الْفُرُوعِ، رَتَّبَهُ عَلَى طَرِيقَةِ " الْوَجِيزِ " لِلْغَزَّالِيِّ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى غَزَارَةِ عِلْمِهِ وَفَضْلِهِ، وَالطَّائِفَةُ الْمَالِكِيَّةُ بِمِصْرَ عَاكِفَةٌ عَلَيْهِ لِحُسْنِهِ وَكَثْرَةِ فَوَائِدِهِ، وَكَانَ مُدَرِّسًا بِمِصْرَ، وَتُوُفِّيَ بِدِمْيَاطَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَمَّ الْبَلَاءُ، وَعَظُمَ الْعَزَاءُ بِجِنْكِزْخَانَ الْمُسَمَّى بِتَمُوجِينَ، لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ التَّتَارِ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمْ، وَامْتَدَّ إِفْسَادُهُمْ مِنْ أَقْصَى بِلَادِ الصِّينِ إِلَى أَنْ وَصَلُوا بِلَادَ الْعِرَاقِ وَمَا حَوْلَهَا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى إِرْبِلَ وَأَعْمَالِهَا، فَمَلَكُوا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ - وَهِيَ هَذِهِ السَّنَةُ - سَائِرَ الْمَمَالِكِ إِلَّا الْعِرَاقَ وَالْجَزِيرَةَ وَالشَّامَ وَمِصْرَ، وَقَهَرُوا جَمِيعَ الطَّوَائِفِ الَّتِي بِتِلْكَ النَّوَاحِي; الْخُوَارَزْمِيَّةِ وَالْقَفْجَاقِ وَالْكُرْجِ وَاللَّانِ وَالْخَزَرِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَتَلُوا فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ فِي بُلْدَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ كِبَارٍ وَصِغَارٍ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَدْخُلُوا بَلَدًا إِلَّا قَتَلُوا جَمِيعَ مَنْ فِيهِ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ وَالرِّجَالِ، وَكَثِيرًا مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، وَأَتْلَفُوا مَا فِيهِ بِالنَّهْبِ إِنِ احْتَاجُوا إِلَيْهِ، وَبِالْحَرِيقِ إِنْ لَمْ يَحْتَاجُوا إِلَيْهِ، حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ الْحَرِيرَ الْكَثِيرَ الَّذِي يَعْجِزُونَ عَنْ حَمْلِهِ فَيُطْلِقُونَ فِيهِ النَّارَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَيُخَرِّبُونَ الْمَنَازِلَ، وَمَا عَجَزُوا عَنْ تَخْرِيبِهِ أَحْرَقُوهُ، وَأَكْثَرُ مَا يُحْرِقُونَ الْمَسَاجِدَ وَالْجَوَامِعَ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانُوا يَأْخُذُونَ الْأُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيُقَاتِلُونَ بِهِمْ، وَيُحَاصِرُونَ بِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَنْصَحُوا فِي الْقِتَالِ قَتَلُوهُمْ.

وَقَدْ بَسَطَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كَامِلِهِ خَبَرَهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَسْطًا حَسَنًا مُفَصَّلًا، وَقَدَّمَ عَلَى ذَلِكَ كَلَامًا هَائِلًا فِي تَعْظِيمِ هَذَا الْخَطْبِ الْعَجِيبِ. قَالَ: فَنَقُولُ هَذَا فَصْلٌ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ الْحَادِثَةِ الْعُظْمَى وَالْمُصِيبَةِ الْكُبْرَى الَّتِي عَقِمَتِ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي عَنْ مِثْلِهَا، عَمَّتِ الْخَلَائِقَ، وَخَصَّتِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْعَالَمَ مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَإِلَى الْآنَ، لَمْ يُبْتَلَوْا بِمِثْلِهَا، لَكَانَ صَادِقًا; فَإِنَّ التَّوَارِيخَ لَمْ تَتَضَمَّنْ مَا يُقَارِبُهَا وَلَا مَا يُدَانِيهَا، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَذْكُرُونَ مِنَ الْحَوَادِثِ مَا فَعَلَ بُخْتُنَصَّرُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْقَتْلِ وَتَخْرِيبِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَمَا الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا خَرَّبَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاعِينُ مِنَ الْبِلَادِ، الَّتِي كَلُّ مَدِينَةٍ مِنْهَا أَضْعَافُ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ؟ وَمَا بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ قُتِلُوا؟ فَإِنَّ أَهْلَ مَدِينَةٍ وَاحِدَةٍ مِمَّنْ قُتِلُوا أَكْثَرُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَعَلَّ الْخَلَائِقَ لَا يَرَوْنَ مِثْلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ إِلَى أَنْ يَنْقَرِضَ الْعَالَمُ وَتَفْنَى الدُّنْيَا إِلَّا يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَأَمَّا الدَّجَّالُ فَإِنَّهُ يُبْقِي عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ وَيُهْلِكُ مَنْ خَالَفَهُ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُبْقُوا عَلَى أَحَدٍ، بَلْ قَتَلُوا الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، وَشَقُّوا بُطُونَ الْحَوَامِلِ، وَقَتَلُوا الْأَجِنَّةَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، لِهَذِهِ الْحَادِثَةِ الَّتِي اسْتَطَارَ شَرَرُهَا وَعَمَّ ضَرَرُهَا، وَسَارَتْ فِي الْبِلَادِ كَالسَّحَابِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فَإِنَّ قَوْمًا خَرَجُوا مِنْ أَطْرَافِ الصِّينِ، فَقَصَدُوا بِلَادَ تُرْكِسْتَانَ مِثْلَ كَاشْغَرَ وَبَلَاسَاغُونَ، ثُمَّ مِنْهَا إِلَى بِلَادِ مَا وَرَاءِ النَّهْرِ مِثْلِ سَمَرْقَنْدَ وَبُخَارَى وَغَيْرِهِمَا، فَيَمْلِكُونَهَا وَيَفْعَلُونَ بِأَهْلِهَا مَا نَذْكُرُهُ، ثُمَّ تَعْبُرُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى خُرَاسَانَ، فَيَفْرَغُونَ مِنْهَا مُلْكًا وَتَخْرِيبًا وَقَتْلًا وَنَهْبًا، ثُمَّ يُجَاوِزُونَهَا إِلَى الرَّيِّ وَهَمَذَانَ وَبَلَدِ الْجَبَلِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْبِلَادِ إِلَى

حَدِّ الْعِرَاقِ، ثُمَّ يَقْصِدُونَ بِلَادَ أَذْرَبِيجَانَ وَأَرَّانَ، وَيُخَرِّبُونَهَا وَيَقْتُلُونَ أَكْثَرَ أَهْلِهَا، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ النَّادِرُ فِي أَقَلِّ مِنْ سَنَةٍ، هَذَا مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ.
ثُمَّ سَارُوا إِلَى دَرْبَنْدَ شَرْوَانَ، فَمَلَكُوا مُدُنَهُ، وَلَمْ يَسْلَمْ غَيْرُ قَلْعَتِهِ الَّتِي بِهَا مَلِكُهُمْ، وَعَبَرُوا عِنْدَهَا إِلَى بَلَدِ اللَّانِ وَاللَّكْزِ، وَمَنْ فِي ذَلِكَ الصَّقْعِ مِنَ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَأَوْسَعُوهُمْ قَتْلًا وَنَهْبًا وَتَخْرِيبًا، ثُمَّ قَصَدُوا بِلَادَ قَفْجَاقَ، وَهُمْ مِنْ أَكْثَرِ التُّرْكِ عَدَدًا، فَقَتَلُوا كُلَّ مَنْ وَقَفَ لَهُمْ، وَهَرَبَ الْبَاقُونَ إِلَى الْغِيَاضِ، وَمَلَكُوا عَلَيْهِمْ بِلَادَهُمْ. وَسَارَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى إِلَى غَزْنَةَ وَأَعْمَالِهَا وَمَا يُجَاوِرُهَا مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ وَسِجِسْتَانَ وَكَرْمَانَ، فَفَعَلُوا فِيهَا مِثْلَ أَفْعَالِ هَؤُلَاءِ وَأَشَدَّ.
هَذَا مَا لَمْ يُطْرِقِ الْأَسْمَاعَ مِثْلُهُ، فَإِنَّ الْإِسْكَنْدَرَ الَّذِي اتَّفَقَ الْمُؤَرِّخُونَ عَلَى أَنَّهُ مَلَكَ الدُّنْيَا، لَمْ يَمْلِكْهَا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، إِنَّمَا مَلَكَهَا فِي نَحْوِ عَشْرِ سِنِينَ، وَلَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا، بَلْ رَضِيَ مِنَ النَّاسِ بِالطَّاعَةِ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ مَلَكُوا أَكْثَرَ الْمَعْمُورِ مِنَ الْأَرْضِ وَأَطْيَبَهُ وَأَحْسَنَهُ عِمَارَةً وَأَكْثَرَهُ أَهْلًا، وَأَعْدَلَهُمْ أَخْلَاقًا وَسِيرَةً فِي نَحْوِ سَنَةٍ، وَلَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ الَّتِي لَمْ يَطْرُقُوهَا بَقَاءٌ إِلَّا وَهُوَ خَائِفٌ مُتَرَقِّبٌ وُصُولَهُمْ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ إِذَا طَلَعَتْ، وَلَا يُحَرِّمُونَ شَيْئًا، وَيَأْكُلُونَ مَا وَجَدُوهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالْمَيْتَاتِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ: وَإِنَّمَا اسْتَقَامَ لَهُمْ هَذَا الْأَمْرُ لِعَدَمِ الْمَانِعِ; لِأَنَّ السُّلْطَانَ خُوَارَزْمَ شَاهْ مُحَمَّدًا كَانَ قَدْ قَتَلَ الْمُلُوكَ مِنْ سَائِرِ الْمَمَالِكِ، وَاسْتَقَلَّ بِالْأُمُورِ، فَلَمَّا انْهَزَمَ مِنْهُمْ

فِي الْعَامِ الْمَاضِي، وَضَعُفَ عَنْهُمْ، وَسَاقُوا وَرَاءَهُ فَهَرَبَ، فَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ، وَهَلَكَ فِي بَعْضِ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، خَلَتِ الْبِلَادُ، وَلَمْ يَبْقَ لَهَا مَنْ يَحْمِيهَا لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
ثُمَّ شَرَعَ فِي تَفْصِيلِ مَا ذَكَرَهُ مُجْمَلًا، فَذَكَرَ أَوَّلًا مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي الْعَامِ الْمَاضِي مِنْ بَعْثِ جِنْكِزْخَانَ أُولَئِكَ التُّجَّارَ بِمَالٍ لَهُ يَأْتُونَهُ بِثَمَنِهِ كُسْوَةً وَلِبَاسًا، وَأَخَذَ خُوَارَزْمُ شَاهْ تِلْكَ الْأَمْوَالَ، فَحَنِقَ عَلَيْهِ جِنْكِزْخَانُ، وَأَرْسَلَ يَتَهَدَّدُهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ خُوَارَزْمُ شَاهْ بِنَفْسِهِ وَجُنُودِهِ، فَوَجَدَ التَّتَارَ مَشْغُولِينَ بِقِتَالِ كَشْلِي خَانَ، فَنَهَبَ أَثْقَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَطْفَالَهُمْ، فَرَجَعُوا وَقَدِ انْتَصَرُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ وَازْدَادُوا حَنَقًا وَغَيْظًا، فَتَوَاقَعُوا هُمْ وَإِيَّاهُ مَعَ ابْنِ جِنْكِزْخَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ تَحَاجَزُوا، وَرَجَعَ خُوَارَزْمُ شَاهْ إِلَى أَطْرَافِ بِلَادِهِ فَحَصَّنَهَا، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى مَقَرِّ مُلْكِهِ وَهِيَ مَدِينَةُ خُوَارَزْمَ، فَأَقْبَلَ جِنْكِزْخَانُ، فَحَصَرَ بُخَارَى كَمَا ذَكَرْنَا، فَافْتَتَحَهَا صُلْحًا، وَغَدَرَ بِأَهْلِهَا حَتَّى افْتَتَحَ قَلْعَتَهَا قَهْرًا، وَقَتَلَ الْجَمِيعَ، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ وَسَبَى النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، وَخَرَّبَ الدُّورَ وَالْمَحَالَّ، وَقَدْ كَانَ بِهَا عِشْرُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا.
ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى سَمَرْقَنْدَ فَحَاصَرَهَا فِي أَوَّلِ مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَبِهَا خَمْسُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ مِنَ الْجُنْدِ فَنَكَلُوا، وَبَرَزَ إِلَيْهِمْ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْعَامَّةِ، فَقُتِلَ الْجَمِيعُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَلْقَى إِلَيْهِ الْخَمْسُونَ أَلْفًا السَّلَمَ، فَسَلَبَهُمْ سِلَاحَهُمْ، وَمَا يَمْتَنِعُونَ بِهِ، وَقَتَلَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَاسْتَبَاحَ الْبَلَدَ، فَقَتَلَ الْجَمِيعَ، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ، وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ، وَحَرَقَهُ وَتَرَكَهُ بِلَاقِعَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَأَقَامَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - هُنَالِكَ وَأَرْسَلَ السَّرَايَا إِلَى الْبُلْدَانِ، فَأَرْسَلَ سَرِيَّةً إِلَى بِلَادِ خُرَاسَانَ، وَتُسَمِّيهَا التَّتَارُ الْمُغَرِّبَةَ، وَأَرْسَلَ أُخْرَى وَرَاءَ خُوَارَزْمَ شَاهْ، وَكَانُوا عِشْرِينَ أَلْفًا، قَالَ: اطْلُبُوهُ فَأَدْرِكُوهُ وَلَوْ تَعَلَّقَ بِالسَّمَاءِ.

فَسَاقُوا فِي طَلَبِهِ، فَأَدْرَكُوهُ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ نَهْرُ جَيْحُونَ، وَهُوَ آمِنٌ بِسَبَبِهِ، فَلَمْ يَجِدُوا سُفُنًا، فَعَمِلُوا لَهُمْ أَحْوَاضًا يَحْمِلُونَ عَلَيْهَا الْأَسْلِحَةَ، وَيُرْسِلُ أَحَدُهُمْ فَرَسَهُ، وَيَأْخُذُ بِذَنَبِهَا، فَتَجُرُّهُ الْفَرَسُ بِالْمَاءِ، وَهُوَ يَجُرُّ الْحَوْضَ الَّذِي فِيهِ سِلَاحُهُ، حَتَّى صَارُوا كُلُّهُمْ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ خُوَارَزْمُ شَاهْ إِلَّا وَقَدْ خَالَطُوهُ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ إِلَى نَيْسَابُورَ، ثُمَّ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَهُمْ فِي أَثَرِهِ لَا يُمْهِلُونَهُ حَتَّى يَجْمَعَ لَهُمْ، فَصَارَ كُلَّمَا أَتَى بَلَدًا لِيَجْتَمِعَ فِيهِ عَسَاكِرُهُ يُدْرِكُونَهُ، فَيَهْرُبُ مِنْهُمْ، حَتَّى رَكِبَ فِي بَحْرِ طَبَرِسْتَانَ، وَسَارَ إِلَى قَلْعَةٍ فِي جَزِيرَةٍ فِيهِ، فَكَانَتْ فِيهَا وَفَاتُهُ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يُعْرَفُ بَعْدَ رُكُوبِهِ فِي الْبَحْرِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، بَلْ ذَهَبَ فَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ وَلَا كَيْفَ سَلَكَ، وَلَا إِلَى أَيِّ مَفَرٍّ هَرَبَ. وَمَلَكَتِ التَّتَارُ حَوَاصِلَهُ، فَوَجَدُوا فِي خِزَانَتِهِ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَلْفَ حِمْلٍ مِنَ الْأَطْلَسِ، وَعِشْرِينَ أَلْفَ فَرَسٍ وَبَغْلٍ، وَمِنَ الْغِلْمَانِ وَالْجَوَارِي وَالْخِيَامِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَانَ لَهُ عَشَرَةُ آلَافِ مَمْلُوكٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِثْلُ مَلِكٍ، فَتَمَزَّقَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ، وَقَدْ كَانَ خُوَارَزْمُ شَاهْ فَقِيهًا حَنَفِيًّا فَاضِلًا، لَهُ مُشَارَكَاتٌ فِي فُنُونٍ مِنَ الْعِلْمِ، يَفْهَمُ جَيِّدًا، وَمَلَكَ بِلَادًا مُتَّسِعَةً وَمَمَالِكَ مُتَعَدِّدَةً إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَشُهُورًا، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ مُلُوكِ بَنِي سَلْجُوقَ أَكْبَرُ حُرْمَةً وَلَا أَعْظَمُ مُلْكًا مِنْهُ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَتْ هِمَّتُهُ فِي الْمُلْكِ لَا فِي اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَلِذَلِكَ قَهَرَ الْمُلُوكَ بِتِلْكَ الْأَرَاضِي، وَأَحَلَّ بِالْخِطَا بَأْسًا شَدِيدًا، حَتَّى لَمْ يَبْقَ بِبِلَادِ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَكَذَلِكَ عِرَاقُ الْعَجَمِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَمَالِكِ سُلْطَانٌ سِوَاهُ، وَجَمِيعُ الْبِلَادِ تَحْتَ يَدِ نُوَّابِهِ. ثُمَّ سَارُوا إِلَى مَازَنْدَرَانَ، وَقِلَاعُهَا مِنْ أَمْنَعِ الْقِلَاعِ، بِحَيْثُ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ

يَفْتَتِحُوهَا إِلَّا فِي سَنَةِ تِسْعِينَ فِي أَيَّامِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَفَتَحَهَا هَؤُلَاءِ فِي أَيْسَرِ مُدَّةٍ، وَنَهَبُوا مَا فِيهَا، وَقَتَلُوا أَهَالِيَهَا، وَسَبَوْا وَأَحْرَقُوا، ثُمَّ تَرَحَّلُوا عَنْهَا نَحْوَ الرَّيِّ، فَوَجَدُوا فِي الطَّرِيقِ أُمَّ خُوَارَزْمَ شَاهْ، وَمَعَهَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، فَأَخَذُوهَا وَفِيهَا كُلُّ غَرِيبٍ وَنَفِيسٍ مِمَّا لَمْ يُشَاهَدْ مِثْلُهُ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ قَصَدُوا الرَّيَّ فَدَخَلُوهَا عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا، فَقَتَلُوهُمْ وَنَهَبُوهُمْ وَسَبَوْهُمْ وَأَسَرُوهُمْ.
ثُمَّ سَارُوا إِلَى هَمَذَانَ فَمَلَكُوهَا، ثُمَّ إِلَى زَنْجَانَ، فَقَتَلُوا وَسَبَوْا، ثُمَّ قَصَدُوا قَزْوِينَ فَنَهَبُوهَا، وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، ثُمَّ تَيَمَّمُوا بِلَادَ أَذْرَبِيجَانَ، فَصَالَحَهُمْ مَلِكُهَا أُوزْبَكُ بْنُ الْبَهْلَوَانِ عَلَى مَالٍ حَمَلَهُ إِلَيْهِمْ; لِشُغْلِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ السُّكْرِ وَارْتِكَابِ السَّيِّئَاتِ وَالِانْهِمَاكِ عَلَى الشَّهَوَاتِ، فَتَرَكُوهُ وَسَارُوا إِلَى مُوقَانَ، فَقَاتَلَهُمُ الْكُرْجُ فِي عَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، فَلَمْ يَقِفُوا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى انْهَزَمَتِ الْكُرْجُ، وَقَتَلَتِ التَّتَارُ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ قَصَدُوا تَفْلِيسَ، وَهِيَ أَكْبَرُ مُدُنِ الْكُرْجِ، وَاجْتَمَعَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الْكُرْجُ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِمْ بِحَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِمْ، فَكَسَرَتْهُمُ التَّتَارُ مَرَّةً ثَانِيَةً أَقْبَحَ كَسْرَةٍ وَأَشْنَعَهَا.
وَهَاهُنَا قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَلَقَدْ جَرَى لِهَؤُلَاءِ التَّتَرِ مَا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ; طَائِفَةٌ تَخْرُجُ مِنْ حُدُودِ الصِّينِ لَا تَنْقَضِي عَلَيْهِمْ سَنَةٌ حَتَّى يَصِلَ بَعْضُهُمْ إِلَى حُدُودِ بِلَادِ أَرْمِينِيَّةَ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ، وَيُجَاوِزُونَ الْعِرَاقَ مِنْ نَاحِيَةِ هَمَذَانَ، وَتَاللَّهِ لَا أَشُكُّ أَنَّ مَنْ يَجِيءُ بَعْدَنَا إِذَا بَعُدَ الْعَهْدُ، وَيَرَى هَذِهِ الْحَادِثَةَ مَسْطُورَةً يُنْكِرُهَا وَيَسْتَبْعِدُهَا، وَالْحَقُّ بِيَدِهِ، فَمَتَى اسْتَبْعَدَ ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْ أَنَّنَا سَطَرْنَا نَحْنُ وَكُلُّ مَنْ جَمَعَ التَّارِيخَ فِي أَزَمَانِنَا هَذِهِ

فِي وَقْتٍ كُلُّ مَنْ فِيهِ يَعْلَمُ هَذِهِ الْحَادِثَةَ، قَدِ اسْتَوَى فِي مَعْرِفَتِهَا الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ لِشُهْرَتِهَا، يَسَّرَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْإِسْلَامِ مَنْ يَحْفَظُهُمْ وَيَحُوطُهُمْ، فَلَقَدْ دُفِعُوا مِنَ الْعَدْوِ إِلَى عَظِيمٍ، وَمِنَ الْمُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَنْ لَا تَتَعَدَّى هِمَّتُهُ بَطْنَهُ وَفَرْجَهُ، وَقَدْ عُدِمَ سُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ خُوَارَزْمُ شَاهْ.
قَالَ: وَانْقَضَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُمْ فِي بِلَادِ الْكُرْجِ، فَلَمَّا رَأَوْا مِنْهُمْ مُمَانَعَةً وَمُقَاتَلَةً يَطُولُ عَلَيْهِمْ بِهَا الْمَطَالُ عَدَلُوا إِلَى غَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ عَادَتُهُمْ، فَسَارُوا إِلَى تِبْرِيزَ فَصَالَحَهُمْ أَهْلُهَا بِمَالٍ. ثُمَّ سَارُوا إِلَى مَرَاغَةَ، فَحَصَرُوهَا وَنَصَبُوا عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، وَتَتَرَّسُوا بِالْأُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى الْبَلَدِ امْرَأَةٌ، وَ لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً فَفَتَحُوا الْبَلَدَ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهِ خَلْقًا لَا يَعْلَمُ عِدَّتَهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَغَنِمُوا مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا، وَسَبَوْا وَأَسَرُوا عَلَى عَادَتِهِمْ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ لَعْنَةً تُدْخِلُهُمْ نَارَ جَهَنَّمَ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَخَافُونَ مِنْهُمْ خَوْفًا عَظِيمًا جِدًّا حَتَّى إِنَّهُ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَى دَرْبٍ مِنْ هَذِهِ الْبَلَدِ وَبِهِ مِائَةُ رَجُلٍ لَمْ يَسْتَطِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ، وَمَا زَالَ يَقْتُلُهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ حَتَّى قُتِلَ الْجَمِيعُ، وَلَمْ يَرْفَعْ مِنْهُمْ أَحَدٌ يَدَهُ إِلَيْهِ، وَنَهَبَ ذَلِكَ الدَّرْبَ وَحْدَهُ. وَدَخَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ فِي زِيِّ رَجُلٍ بَيْتًا، فَقَتَلَتْ كُلَّ مَنْ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ وَحْدَهَا، ثُمَّ اسْتَشْعَرَ أَسِيرٌ مَعَهَا أَنَّهَا امْرَأَةٌ، فَقَتَلَهَا، لَعَنَهَا اللَّهُ.
ثُمَّ قَصَدُوا مَدِينَةَ إِرْبِلَ، فَضَاقَ الْمُسْلِمُونَ لِذَلِكَ ذَرْعًا، وَقَالَ أَهْلُ تِلْكَ النَّوَاحِي: هَذَا أَمْرٌ عَصِيبٌ. وَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى أَهْلِ الْمَوْصِلِ وَالْمَلِكِ الْأَشْرَفِ صَاحِبِ الْجَزِيرَةِ يَقُولُ: إِنِّي قَدْ جَهَّزْتُ عَسْكَرًا، فَكُونُوا مَعَهُ لِقِتَالِ هَؤُلَاءِ التَّتَرِ.

فَأَرْسَلَ الْأَشْرَفُ يَعْتَذِرُ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِأَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ نَحْوَ أَخِيهِ الْكَامِلِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِسَبَبِ مَا قَدْ دَهَمَ الْمُسْلِمِينَ هُنَاكَ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَأَخْذِهِمْ دِمْيَاطَ الَّتِي قَدْ أَشْرَفُوا بِأَخْذِهِمْ لَهَا عَلَى أَخْذِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ قَاطِبَةً، وَكَانَ أَخُوهُ الْمُعَظَّمُ قَدْ قَدِمَ عَلَيْهِ إِلَى حَرَّانَ يَسْتَنْجِدُهُ لِأَخِيهِمَا الْكَامِلِ لِيَتَحَاجَزُوا الْفِرِنْجَ بِدِمْيَاطَ، وَهُوَ عَلَى أُهْبَةِ الْمَسِيرِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى مُظَفَّرِ الدِّينِ صَاحِبِ إِرْبِلَ لِيَكُونَ هُوَ الْمُقَدَّمَ عَلَى الْعَسَاكِرِ الَّتِي يَبْعَثُهَا الْخَلِيفَةُ، وَهِيَ عَشَرَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ، فَلَمْ يَقْدِمْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ غَيْرُ ثَمَانِمِائَةِ فَارِسٍ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعُوا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ بِأَنْ صَرَفَ هِمَّةَ التَّتَارِ إِلَى نَاحِيَةِ هَمَذَانَ، فَصَالَحَهُمْ أَهْلُهَا، وَتَرَكَ التَّتَرُ عِنْدَهُمْ شِحْنَةً، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى شِحْنَتِهِمْ، فَرَجَعُوا إِلَيْهِمْ، فَحَاصَرُوهُمْ حَتَّى فَتَحُوهَا قَسْرًا، وَقَتَلُوا أَهْلَهَا عَنْ آخِرِهِمْ.
ثُمَّ سَارُوا إِلَى أَذْرَبِيجَانَ فَفَتَحُوا أَرْدَبِيلَ ثُمَّ تِبْرِيزَ ثُمَّ إِلَى بَيْلَقَانَ، فَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا، وَحَرَّقُوهَا، وَكَانُوا يَفْجُرُونَ بِالنِّسَاءِ، ثُمَّ يَقْتُلُونَهُنَّ وَيَشُقُّونَ بُطُونَهُنَّ عَنِ الْأَجِنَّةِ.
ثُمَّ عَادُوا إِلَى بِلَادِ الْكُرْجِ، وَقَدِ اسْتَعَدَّتْ لَهُمُ الْكُرْجُ، فَاقْتَتَلُوا مَعَهُمْ، فَكَسَرُوهُمْ أَيْضًا كَسْرَةً فَظِيعَةً، ثُمَّ فَتَحُوا بُلْدَانًا كَثِيرَةً يَقْتُلُونَ أَهْلَهَا، وَيَسْبُونَ نِسَاءَهَا، وَيَأْسِرُونَ مِنَ الرِّجَالِ مَا يُقَاتِلُونَ بِهِمُ الْحُصُونَ، يَجْعَلُونَهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ تُرْسًا يَتَّقُونَ بِهِمُ الرَّمْيَ وَغَيْرَهُ، وَمَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ.
ثُمَّ سَارُوا إِلَى بِلَادِ اللَّانِ وَالْقَفْجَاقِ، فَاقْتَتَلُوا مَعَهُمْ قِتَالًا عَظِيمًا، فَكَسَرُوهُمْ وَقَصَدُوا

أَكْبَرَ مَدَائِنِ الْقَفْجَاقِ، وَهِيَ مَدِينَةُ سُودَاقَ، وَفِيهَا مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالثِّيَابِ وَالتَّجَائِرِ مِنَ الْبُرْطَاسِيِّ وَالْقُنْدُزِ وَالسِّنْجَابِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، وَلَجَأَتِ الْقَفْجَاقُ إِلَى بِلَادِ الرُّوسِ، وَكَانُوا نَصَارَى، فَاتَّفَقُوا مَعَهُمْ عَلَى قِتَالِ التَّتَارِ، فَالْتَقَوْا مَعَهُمْ، فَكَسَرَتْهُمُ التَّتَارُ كَسْرَةً فَظِيعَةً مُنْكَرَةً جِدًّا، ثُمَّ سَارُوا نَحْوَ بُلْغَارَ فِي حُدُودِ الْعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَفَرَغُوا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى نَحْوِ مَلِكِهِمْ جِنْكِزْخَانَ، لَعَنَهُ اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ.
هَذَا مَا فَعَلَتْهُ هَذِهِ السَّرِيَّةُ الْمُغَرِّبَةُ. وَكَانَ جِنْكِزْخَانُ قَدْ أَرْسَلَ سَرَيَّةً فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى تِرْمِذَ فَأَخَذَتْهَا، وَأُخْرَى إِلَى فَرْغَانَةَ فَمَلَكُوهَا، وَجَهَّزَ جَيْشًا آخَرَ نَحْوَ خُرَاسَانَ، فَحَاصَرُوا بَلْخَ، فَصَالَحَهُمْ أَهْلُهَا، وَكَذَلِكَ صَالَحُوا مُدُنًا كَثِيرَةً أُخْرَى حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الطَّالَقَانِ، فَأَعْجَزَتْهُمْ قَلْعَتُهَا، وَكَانَتْ حَصِينَةً، فَحَاصَرُوهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ حَتَّى عَجَزُوا، فَكَتَبُوا إِلَى جِنْكِزْخَانَ، فَقَدِمَ بِنَفْسِهِ، فَحَاصَرَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أُخْرَى حَتَّى فَتَحَهَا قَهْرًا، ثُمَّ قَتَلَ كُلَّ مَنْ فِيهَا وَكُلَّ مَنْ فِي الْبَلَدِ بِكَمَالِهِ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ.
ثُمَّ قَصَدُوا مَدِينَةَ مَرْوَ مَعَ جِنْكِزْخَانَ، وَقَدْ عَسْكَرَ بِظَاهِرِهَا نَحْوٌ مَنْ مِائَتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا مَعَهُ قِتَالًا عَظِيمًا حَتَّى انْكَسَرَ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ثُمَّ حَصَرُوا الْبَلَدَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَاسْتَنْزَلُوا نَائِبَهَا خَدِيعَةً، ثُمَّ غَدَرُوا بِهِ وَبِأَهْلِ الْبَلَدِ، فَقَتَلُوهُمْ وَغَنِمُوهُمْ

وَسَبَوْهُمْ، وَعَاقَبُوهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ، حَتَّى إِنَّهُمْ قَتَلُوا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ.
ثُمَّ سَارُوا إِلَى نَيْسَابُورَ، فَفَعَلُوا فِيهَا قَرِيبًا مِمَّا فَعَلُوا بِأَهْلِ مَرْوَ، ثُمَّ إِلَى طُوسَ، فَقَتَلُوا وَخَرَّبُوا مَشْهَدَ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى وَالرَّشِيدِ، وَتَرَكُوهُ خَرَابًا، ثُمَّ سَارُوا إِلَى هَرَاةَ، فَقَتَلُوا خَلْقًا وَاسْتَنَابُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ سَارُوا إِلَى غَزْنَةَ، فَقَاتَلَهُمْ جَلَالُ الدِّينِ بْنُ خُوَارَزْمِ شَاهْ فَكَسَرَهُمْ، فَعَادُوا إِلَى هَرَاةَ، فَإِذَا أَهْلُهَا قَدْ نَقَضُوا، فَقَتَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى مَلِكِهِمْ جِنْكِزْخَانَ - لَعَنَهُ اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ -، وَأَرْسَلَ جِنْكِزْخَانُ طَائِفَةً أُخْرَى إِلَى مَدِينَةِ خُوَارَزْمَ، فَحَاصَرُوهَا حَتَّى فَتَحُوا الْبَلَدَ قَهْرًا، فَقَتَلُوا مَنْ فِيهَا قَتْلًا ذَرِيعًا، وَنَهَبُوهَا وَسَبَوْا أَهْلَهَا، وَأَرْسَلُوا الْجِسْرَ الَّذِي يَمْنَعُ مَاءَ جَيْحُونَ عَنْهَا، فَغَرِقَتْ دُورُهَا، وَهَلَكَ جَمِيعُ أَهْلِهَا.
ثُمَّ عَادُوا إِلَى مَلِكِهِمْ جِنْكِزْخَانَ، وَهُوَ مُخَيِّمٌ عَلَى الطَّالَقَانِ فَجَهَّزَ مِنْهُمْ طَائِفَةً إِلَى غَزْنَةَ، فَاقْتَتَلَ مَعَهُمْ جَلَالُ الدِّينِ بْنُ خُوَارَزْمِ شَاهْ، فَكَسَرَهُمْ جَلَالُ الدِّينِ كَسْرَةً عَظِيمَةً، وَاسْتَنْقَذَ مِنْهُمْ خَلْقًا مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى جِنْكِزْخَانَ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَبْرُزَ بِنَفْسِهِ لِقِتَالِهِ، فَقَصَدَهُ جِنْكِزْخَانُ فَتَوَاجَهَا، وَقَدْ تَفَرَّقَ عَلَى جَلَالِ الدِّينِ بَعْضُ جَيْشِهِ، وَلَمْ يَبْقَ بُدٌّ مِنَ الْقِتَالِ، فَاقْتَتَلُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهَا قَبْلَهَا مِنْ قِتَالِهِمْ، ثُمَّ ضَعُفَ أَصْحَابُ السُّلْطَانِ جَلَالِ الدِّينِ بْنِ خُوَارَزْمَ شَاهْ، فَذَهَبُوا فَرَكِبُوا فِي بَحْرِ الْهِنْدِ، فَسَارَتِ التَّتَارُ إِلَى غَزْنَةَ، فَأَخَذُوهَا بِلَا كُلْفَةٍ وَلَا مُمَانَعَةٍ، كُلُّ هَذَا أَوْ أَكْثَرُهُ وَقَعَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا تَرَكَ الْأَشْرَفُ مُوسَى بْنُ الْعَادِلِ لِأَخِيهِ شِهَابِ الدِّينِ

غَازِيٍّ مُلْكَ خِلَاطَ وَمَيَّافَارِقِينَ وَبِلَادَ أَرْمِينِيَّةَ وَحَانِي، وَاعْتَاضَ بِالرُّهَا وَسَرُوجَ، وَذَلِكَ لِاشْتِغَالِهِ عَنْ حِفْظِ تِلْكَ النَّوَاحِي بِمُسَاعَدَةِ أَخِيهِ الْكَامِلِ وَنُصْرَتِهِ عَلَى الْفِرِنْجِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا هَبَّتْ رِيَاحٌ بِبَغْدَادَ، وَجَاءَتْ بُرُوقٌ، وَسُمِعَتْ رُعُودٌ شَدِيدَةٌ، وَسَقَطَتْ صَاعِقَةٌ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ عَلَى الْمَنَارَةِ الْمُجَاوِرَةِ لِغَرْوِ مَعِينَ فَثَلَمَتْهَا، ثُمَّ أُصْلِحَتْ، وَغَارَتِ الصَّاعِقَةُ فِي الْأَرْضِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ نُصِبَ مِحْرَابُ الْحَنَابِلَةِ بِالرِّوَاقِ الثَّالِثِ الْغَرْبِيِّ مِنْ جَامِعِ دِمَشْقَ بَعْدَ مُمَانَعَةٍ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ لَهُمْ، وَلَكِنْ سَاعَدَهُمْ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ فِي نَصْبِهِ لَهُمْ، وَهُوَ الْأَمِيرُ رُكْنُ الدِّينِ الْمُعَظَّمِيُّ، وَصَلَّى فِيهِ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ قُدَامَةَ.
قُلْتُ: ثُمَّ رُفِعَ فِي حُدُودِ سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَعُوِّضُوا عَنْهُ بِالْمِحْرَابِ الْغَرْبِيِّ عِنْدَ بَابِ الزِّيَارَةِ، كَمَا عُوِّضَ الْحَنَفِيَّةُ عَنْ مِحْرَابِهِمُ الَّذِي كَانَ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنَ الْجَامِعِ بِالْمِحْرَابِ الْمُجَدَّدِ لَهُمْ شَرْقِيَّ بَابِ الزِّيَارَةِ، حِينَ جُدِّدَ الْحَائِطُ الَّذِي هُوَ فِيهِ فِي الْأَيَّامِ التُّنْكُزِيَّةِ، عَلَى يَدَيْ نَاظِرِ الْجَامِعِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ مَرَاجِلَ، أَثَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا قَتَلَ صَاحِبُ سِنْجَارَ أَخَاهُ، فَمَلَكَهَا مُسْتَقِلًّا بِهَا الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ بْنُ الْعَادِلِ.
وَفِيهَا نَافَقَ الْأَمِيرُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ الْمَشْطُوبِ عَلَى الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ، وَكَانَ قَدْ

آوَاهُ، وَحَفِظَهُ مِنْ أَذَى أَخِيهِ الْكَامِلِ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُبَايِعَ لِلْفَائِزِ، ثُمَّ إِنَّهُ سَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا فِي بِلَادِ الْجَزِيرَةِ فَسَجَنَهُ الْأَشْرَفُ حَتَّى مَاتَ كَمَدًا وَذُلًّا وَعُرْيًا.
وَفِيهَا أَوْقَعَ الْكَامِلُ بالْفِرِنْجِ الَّذِينَ عَلَى دِمْيَاطَ بَأْسًا شَدِيدًا، فَقَتَلَ مِنْهُمْ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَأَخَذَ خُيُولَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمُعَظَّمُ الْمُعْتَمِدَ مُبَارِزَ الدِّينِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ وِلَايَةِ دِمَشْقَ وَوَلَّاهَا لِلْعَزِيزِ خَلِيلٍ، وَلَمَّا خَرَجَ الْحَاجُّ إِلَى مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى، كَانَ أَمِيرَهُمُ الْمُعْتَمِدَ، فَحَصَلَ بِهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَفَّ عَبِيدَ مَكَّةَ عَنْ نَهْبِ الْحُجَّاجِ بَعْدَ قَتْلِهِمْ أَمِيرَ حَاجِّ الْعِرَاقِيِّينَ آقْبَاشَ النَّاصِرِيَّ، وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ الْأُمَرَاءِ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ، وَأَخَصِّهِمْ عِنْدَهُ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدِمَ مَعَهُ بِخِلَعٍ لِلْأَمِيرِ حُسَيْنِ بْنِ أَبِي عَزِيزٍ قَتَادَةَ بْنِ إِدْرِيسَ بْنِ مُطَاعِنِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْعَلَوِيِّ الْحَسَنِيِّ الزَّيْدِيِّ بِوِلَايَتِهِ لِإِمْرَةِ مَكَّةَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَنَازَعَ فِي ذَلِكَ رَاجِحٌ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَوْلَادِ قَتَادَةَ، وَقَالَ: لَا يَتَأَمَّرُ عَلَيْهَا غَيْرِي. فَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ أَفْضَى الْحَالُ إِلَى قَتْلِ آقْبَاشَ غَلَطًا. وَقَدْ كَانَ قَتَادَةُ مِنْ أَكَابِرِ الْأَشْرَافِ الْحَسَنِيِّينَ الزَّيْدِيِّينَ، وَكَانَ عَادِلًا مُنْصِفًا مُنَعَّمًا، نِقْمَةً عَلَى عَبِيدِ مَكَّةَ وَالْمُفْسِدِينَ بِهَا، ثُمَّ عَكَسَ هَذَا السَّيْرَ، فَظَلَمَ وَجَدَّدَ الْمُكُوسَ، وَنَهَبَ الْحَاجَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَدَهُ حَسَنًا، فَقَتَلَهُ وَقَتَلَ عَمَّهُ وَأَخَاهُ أَيْضًا، فَلِهَذَا لَمْ يُمْهِلِ اللَّهُ حَسَنًا هَذَا، بَلْ سَلَبَهُ الْمُلْكَ، وَشَرَّدَهُ فِي الْبِلَادِ، وَقِيلَ: بَلْ قُتِلَ كَمَا ذَكَرْنَا. وَكَانَ قَتَادَةُ شَيْخًا

طَوِيلًا مَهِيبًا لَا يَخَافُ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ، وَيَرَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْأَمْرِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ يَوَدُّ لَوْ حَضَرَ عِنْدَهُ لِيُكْرِمَهُ، وَكَانَ يَأْبَى مِنْ ذَلِكَ وَيَمْتَنِعُ مِنْهُ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَلَمْ يَفِدْ إِلَى أَحَدٍ قَطُّ، وَلَا ذَلَّ لْخَلِيفَةٍ وَلَا مَلِكٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ مَرَّةً يَسْتَدْعِيهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ:
وَلِي كَفُّ ضِرْغَامٍ أُذِلُّ بِبَطْشِهَا وَأَشْرِي بِهَا بَيْنَ الْوَرَى وَأَبِيعُ تَظَلُّ مُلُوكُ الْأَرْضِ تَلْثُمُ ظَهْرَهَا
وَفِي وَسْطِهَا لِلْمُجْدِبِينَ رَبِيعُ أَأَجْعَلُهَا تَحْتَ الرَّحَى ثُمَّ أَبْتَغِى
خَلَاصًا لَهَا إِنِّي إِذًا لَرَقِيعُ وَمَا أَنَا إِلَّا الْمِسْكُ فِي كُلِّ بُقْعَةٍ
يَضُوعُ وَأَمَّا عِنْدَكُمْ فَيَضِيعُ
وَقَدْ بَلَغَ مِنَ السِّنِّ سَبْعِينَ سَنَةً، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ وَفَاتَهُ فِي سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْمَلِكُ الْفَائِزُ
غِيَاثُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَادِلِ، كَانَ قَدِ انْتَظَمَ لَهُ الْأَمْرُ فِي الْمُلْكِ بَعْدَ أَبِيهِ، عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى يَدَيِ الْأَمِيرِ عِمَادِ الدِّينِ بْنِ الْمَشْطُوبِ، لَوْلَا أَنَّ الْكَامِلَ تَدَارَكَ ذَلِكَ سَرِيعًا، ثُمَّ أَرْسَلَهُ أَخُوهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى أَخِيهِمَا الْأَشْرَفِ مُوسَى يَسْتَحِثُّهُ فِي سُرْعَةِ الْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ بِسَبَبِ الْفِرِنْجِ، فَمَاتَ بَيْنَ سِنْجَارَ

وَالْمَوْصِلِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ سُمَّ، فَرُدَّ إِلَى سِنْجَارَ، فَدُفِنَ بِهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
شَيْخُ الشُّيُوخِ صَدْرُ الدِّينِ
أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ شَيْخِ الشُّيُوخِ عِمَادِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ حَمُّوَيْهِ الْجُوَيْنِيُّ، مِنْ بَيْتِ رِيَاسَةٍ وَإِمْرَةٍ عِنْدَ بَنِي أَيُّوبَ، وَقَدْ كَانَ صَدْرُ الدِّينِ هَذَا فَقِيهًا فَاضِلًا، دَرَسَ بِالشَّافِعِيِّ وَبِمَشْهَدِ الْحُسَيْنِ، وَوَلِيَ مَشْيَخَةَ سَعِيدِ السُّعَدَاءِ وَالنَّظَرَ فِيهَا، وَكَانَتْ لَهُ حُرْمَةٌ وَافِرَةٌ عِنْدَ الْمُلُوكِ، أَرْسَلَهُ الْكَامِلُ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَسْتَنْصِرُهُ عَلَى الْفِرِنْجِ، فَمَاتَ بِالْمَوْصِلِ بِالْإِسْهَالِ، وَدُفِنَ بِهَا عِنْدَ قَضِيبِ الْبَانِ عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
صَاحِبُ حَمَاةَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ، وَكَانَ فَاضِلًا لَهُ تَارِيخٌ فِي عَشْرِ مُجَلَّدَاتٍ سَمَّاهُ الْمِضْمَارَ، وَكَانَ شُجَاعًا فَارِسًا، فَقَامَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ وَالِدُهُ النَّاصِرُ قِلِيجُ أَرْسَلَانَ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْهَا الْكَامِلُ، وَحَبَسَهُ حَتَّى مَاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَوَلَّى أَخَاهُ الْمُظَفَّرَ بْنَ الْمَنْصُورِ.
صَاحِبُ آمِدَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ نَاصِرُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَرَا أَرْسَلَانَ بْنِ أُرْتُقَ، وَكَانَ شُجَاعًا مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ، وَكَانَ مُصَاحِبًا لِلْأَشْرَفِ

مُوسَى بْنِ الْعَادِلِ يَجِيءُ إِلَى خِدْمَتِهِ مِرَارًا، وَمَلَكَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ الْمَلِكُ الْمَسْعُودُ، وَكَانَ بَخِيلًا فَاسِقًا، فَأَخَذَ الْكَامِلُ آمِدَ، وَحَبَسَهُ بِمِصْرَ ثُمَّ أَطْلَقَهُ، فَأَخَذَ أَمْوَالَهُ، وَسَارَ إِلَى التَّتَارِ فَأُخِذَتْ مِنْهُ.
الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ الْيُونِينِيُّ
الْمُلَقَّبُ أَسَدَ الشَّامِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ، مِنْ قَرْيَةٍ بِبَعْلَبَكَّ، يُقَالُ لَهَا: يُونِينُ. وَكَانَتْ لَهُ زَاوِيَةٌ يُقْصَدُ فِيهَا لِلزِّيَارَةِ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْكِبَارِ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِبَادَةِ وَالرِّيَاضَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. لَهُ هِمَّةٌ عَالِيَةٌ فِي الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ كَانَ لَا يَقْتَنِي شَيْئًا، وَلَا يَمْلِكُ مَالًا وَلَا ثِيَابًا، بَلْ يَلْبَسُ عَارِيَةً، وَلَا يَتَجَاوَزُ قَمِيصًا فِي الصَّيْفِ، وَفَرْوَةً فَوْقَهُ فِي الشِّتَاءِ، وَعَلَى رَأْسِهِ قُبَّعًا مِنْ جُلُودِ الْمَعْزِ، شَعْرُهُ إِلَى ظَاهِرٍ، وَكَانَ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ غَزَاةٍ مِنَ الْغَزَوَاتِ، وَيَرْمِي عَنْ قَوْسٍ زِنَتُهُ ثَمَانُونَ رَطْلًا، وَكَانَ يُجَاوِرُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ بِجَبَلِ لُبْنَانَ، وَيَأْتِي فِي الشِّتَاءِ إِلَى عُيُونِ الْفَاسِرْيَا فِي سَفْحِ الْجَبَلِ الْمُطِلِّ عَلَى قَرْيَةِ دُومَةَ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، لِأَجْلِ سُخُونَةِ الْمَاءِ، فَيَقْصِدُهُ النَّاسُ لِلزِّيَارَةِ هُنَاكَ، وَيَجِيءُ تَارَةً إِلَى دِمَشْقَ، فَيَنْزِلُ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ عِنْدَ الْمَقَادِسَةِ، وَكَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ

وَمُكَاشَفَاتٌ صَالِحَةٌ. وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: أَسَدُ الشَّامِ.
حَكَى الشَّيْخُ أَبُو الْمُظَفَّرِ سِبْطُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ عَنِ الْقَاضِي جَمَالِ الدِّينِ يَعْقُوبَ الْحَاكِمِ بِكَرَكِ الْبِقَاعِ، أَنَّهُ شَاهَدَ مَرَّةً الشَّيْخَ عَبْدَ اللَّهِ، وَهُوَ يَتَوَضَّأُ مِنْ ثَوْرَا عِنْدَ الْجِسْرِ الْأَبْيَضِ، إِذْ مَرَّ نَصْرَانِيٌّ وَمَعَهُ حِمْلُ بَغْلٍ خَمْرًا، فَعَثَرَتِ الدَّابَّةُ عِنْدَ الْجِسْرِ، فَسَقَطَ الْحِمْلُ فَرَأَى الشَّيْخَ وَقَدْ فَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ، وَلَا يَعِرِفُهُ، وَاسْتَعَانَ بِهِ عَلَى رَفْعِ الْحِمْلِ، فَاسْتَدْعَانِي الشَّيْخُ فَقَالَ: تَعَالَ يَا فَقِيهُ فَتُسَاعِدَنَا عَلَى تَحْمِيلِ ذَلِكَ الْحِمْلِ عَلَى الدَّابَّةِ، وَذَهَبَ النَّصْرَانِيُّ، فَتَعَجَّبْتُ مِنْ ذَلِكَ وَتَبِعْتُ الْحِمْلَ، وَأَنَا ذَاهِبٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَانْتَهَى بِهِ إِلَى الْعُقَيْبَةِ، فَأَوْرَدَهُ إِلَى الْخَمَّارِ بِهَا، فَإِذَا هُوَ خَلٌّ، فَقَالَ لَهُ الْخَمَّارُ: وَيْحَكَ هَذَا خَلٌّ. فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: أَنَا أَعْرِفُ مِنْ أَيْنَ أُتِيتُ، ثُمَّ رَبَطَ الدَّابَّةَ فِي الْخَانِ، وَرَجَعَ إِلَى الصَّالِحِيَّةِ، فَسَأَلَ عَنِ الشَّيْخِ، فَعَرَفَهُ فَجَاءَ إِلَيْهِ، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ.
وَلَهُ أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَانَ لَا يَقُومُ لِأَحَدٍ دَخَلَ إِلَيْهِ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَكَانَ الْأَمْجَدُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَقُولُ لَهُ: يَا مُجَيْدُ، فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا. وَيَأْمُرُهُ بِمَا يَأْمُرُهُ، وَيَنْهَاهُ عَمَّا يَنْهَاهُ عَنْهُ، وَهُوَ يَمْتَثِلُ جَمِيعَ مَا يَقُولُهُ لَهُ; وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِصِدْقِهِ فِي زُهْدِهِ وَوَرَعِهِ وَطَرِيقِهِ. وَكَانَ يَقْبَلُ الْفَتُوحَ وَلَا يَدَّخِرُ مِنْهُ شَيْئًا لِغَدٍ، وَإِذَا اشْتَدَّ جُوعُهُ أَخَذَ مِنْ وَرَقِ

اللَّوْزِ، فَفَرَكَهُ وَاسْتَفَّهُ، وَيَشْرَبُ فَوْقَهُ الْمَاءَ الْبَارِدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يَحُجُّ فِي بَعْضِ السِّنِينَ فِي الْهَوَاءِ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا لِطَائِفَةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الزُّهَّادِ وَصَالِحِي الْعِبَادَ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُذْكَرُ عَنْهُ هَذَا حَبِيبٌ الْعَجَمِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَجْمَعِينَ -.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ جُمُعَةٍ مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ صَلَّى الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ الْيُونِينِيُّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ بِجَامِعِ بَعْلَبَكَّ، وَكَانَ قَدْ دَخَلَ الْحَمَّامَ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَهُوَ سَوِيٌّ صَحِيحٌ، فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ، قَالَ لِلشَّيْخِ دَاوُدَ الْمُؤَذِّنِ وَكَانَ يُغَسِّلُ الْمَوْتَى: انْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ غَدًا. ثُمَّ صَعِدَ الشَّيْخُ إِلَى زَاوِيَتِهِ، فَبَاتَ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَيَتَذَكَّرُ أَصْحَابَهُ وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ وَلَوْ بِأَدْنَى شَيْءٍ، وَيَدْعُو لَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَ وَقْتُ الصُّبْحِ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ، ثُمَّ اسْتَنَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ وَفِي يَدِهِ سُبْحَةٌ، فَمَاتَ وَهُوَ كَذَلِكَ جَالَسٌ لَمْ يَسْقُطْ، وَلَمْ تَسْقُطِ السُّبْحَةُ مِنْ يَدِهِ، فَلَمَّا انْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى الْمَلِكِ الْأَمْجَدِ صَاحِبِ بَعْلَبَكَّ، جَاءَ إِلَيْهِ، فَعَايَنَهُ كَذَلِكَ، فَقَالَ: لَوْ بَنَيْنَا عَلَيْهِ بُنْيَانًا هَكَذَا; لِيُشَاهِدَ النَّاسُ مِنْهُ آيَةً. فَقِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا مِنَ السُّنَّةِ. فَنُحِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَدُفِنَ تَحْتَ اللَّوْزَةِ الَّتِي كَانَ يَجْلِسُ تَحْتَهَا يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى، رَحِمَهُ اللَّهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَقَدْ جَاوَزَ ثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَكَانَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْفَقِيهُ الْيُونِينِيُّ مِنْ جُمْلَةِ تَلَامِيذِهِ، وَمِمَّنْ يَلُوذُ بِهِ، وَهُوَ

جَدُّ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ بِمَدِينَةِ بَعْلَبَكَّ.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمُجَلِّيُّ الْمَوْصِلِيُّ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْجُهَنِيِّ، شَابٌّ فَاضِلٌ، وَلِيَ كِتَابَةَ الْإِنْشَاءِ لِبَدْرِ الدِّينِ لُؤْلُؤٍ زَعِيمِ الْمَوْصِلِ، وَمِنْ شِعْرِهِ:
نَفْسِي فِدَاءُ الَّذِي فَكَّرْتُ فِيهِ وَقَدْ غَدَوْتُ أَغْرَقُ فِي بَحْرٍ مِنَ الْعَجَبِ يَبْدُو بِلَيْلٍ عَلَى صُبْحٍ عَلَى قَمَرِ
عَلَى قَضِيبٍ عَلَى وَهْمٍ عَلَى كَثَبِ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا اسْتَوْلَتِ التَّتَارُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْبُلْدَانِ كَمَرَاغَةَ وَهَمَذَانَ وَأَرْدَبِيلَ وَتِبْرِيزَ وَكَنْجَةَ، وَقَتَلُوا أَهَالِيَهَا، وَنَهَبُوا مَا فِيهَا، وَاسْتَأْسَرُوا ذَرَارِيَّهَا، وَاقْتَرَبُوا مِنْ بَغْدَادَ، فَانْزَعَجَ الْخَلِيفَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَحَصَّنَ بَغْدَادَ، وَاسْتَخْدَمَ الْأَجْنَادَ، وَقَنَتَ النَّاسُ فِي الصَّلَوَاتِ وَالْأَوْرَادِ.
وَفِيهَا قَهَرُوا الْكُرْجَ وَاللَّانَ، ثُمَّ قَاتَلُوا الْقَفْجَاقَ، فَكَسَرُوهُمْ، وَكَذَلِكَ الرُّوسَ، وَيَنْهَبُونَ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ هَؤُلَاءِ، وَيَسْبُونَ ذَرَارِيَّهُمْ وَنِسَاءَهُمْ.
وَفِيهَا سَارَ الْمُعَظَّمُ إِلَى أَخِيهِ الْأَشْرَفِ، فَاسْتَعْطَفَهُ عَلَى أَخِيهِ الْكَامِلِ، وَكَانَ فِي نَفْسِهِ مَوجِدَةٌ عَلَيْهِ، فَأَزَالَهَا وَسَارَا جَمِيعًا نَحْوَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِمُعَاوَنَةِ الْكَامِلِ عَلَى الْفِرِنْجِ الَّذِينَ قَدْ أَخَذُوا ثَغْرَ دِمْيَاطَ، وَاسْتَحْكَمَ أَمْرُهُمْ هُنَالِكَ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَجَمِيعَ مَا كَانَ صَلَاحُ الدِّينِ فَتَحَهُ مِنْ بِلَادِ السَّاحِلِ، وَيَتْرُكُوا دِمْيَاطَ، فَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ،

وَلَمْ يَفْعَلُوا، فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَقْوَاتُ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ مَرَاكِبُ فِيهَا مِيرَةٌ لَهُمْ، فَأَخَذَهَا الْأُسْطُولُ الْبَحْرِيُّ، وَأُرْسِلَتِ الْمِيَاهُ عَلَى أَرَاضِي دِمْيَاطَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَحَصَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى حَتَّى اضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِ الْأَمَاكِنِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَثَابُوا إِلَى الْمُصَالَحَةِ بِلَا مُعَاوَضَةٍ، فَجَاءَ مُقَدِّمُوهُمْ إِلَيْهِ، وَعِنْدَهُ أَخَوَاهُ الْمُعَظَّمُ عِيسَى وَمُوسَى الْأَشْرَفُ، وَكَانَا قَائِمَيْنِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا وَأَمْرًا مَحْمُودًا، فَوَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى مَا أَرَادَ الْكَامِلُ مُحَمَّدٌ، بَيَّضَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَمُلُوكُ الْفِرِنْجِ وَالْعَسَاكِرُ كُلُّهَا وَاقِفَةٌ بِحَضْرَتِهِ، وَمَدَّ سِمَاطًا عَظِيمًا، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَقَامَ رَاجِحٌ الْحِلِّيُّ الشَّاعِرُ فَأَنْشَدَ:
هَنِيئًا فَإِنَّ السَّعْدَ رَاحَ مُخَلَّدَا وَقَدْ أَنْجَزَ الرَّحْمَنُ بِالنَّصْرِ مَوْعِدَا حَبَانَا إِلَهُ الْخَلْقِ فَتْحًا بَدَا لَنَا
مُبِينًا وَإِنْعَامًا وَعِزًّا مُؤَبَّدَا تَهَلَّلَ وَجْهُ الدَّهْرِ بَعْدَ قُطُوبِهِ
وَأَصْبَحَ وَجْهُ الشِّرْكِ بِالظُّلْمِ أَسْوَدَا وَلَمَّا طَغَى الْبَحْرُ الْخِضَمُّ بِأَهْلِهِ الْطُّ
غَاةِ وَأَضْحَى بِالْمَرَاكِبِ مُزْبِدَا أَقَامَ لْهَذَا الدِّينِ مَنْ سَلَّ عَزْمَهُ
صَقِيلًا كَمَا سُلَّ الْحُسَامُ مُجَرَّدَا فَلَمْ يَنْجُ إِلَّا كُلُّ شِلْوٍ مُجَدَّلٍ
ثَوَى مِنْهُمُ أَوْ مَنْ تَرَاهُ مْقَيَّدَا وَنَادَى لِسَانُ الْكَوْنِ فِي الْأَرْضِ رَافِعًا
عَقِيرَتَهُ فِي الْخَافِقَيْنِ وَمُنْشِدَا أَعُبَّادَ عِيسَى إِنَّ عِيسَى وَحِزْبَهُ
وَمُوسَى جَمِيعًا يَخْدُمُونَ مُحَمَّدَا
قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُ أَشَارَ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى الْمُعَظَّمِ عِيسَى وَالْأَشْرَفِ

مُوسَى وَالْكَامِلِ مُحَمَّدٍ. قَالَ وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ شَيْءٍ اتَّفَقَ. وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ تَاسِعَ عَشَرَ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَتَرَاجَعَتِ الْفِرِنْجُ إِلَى عَكَّا وَغَيْرِهَا مِنَ الْبُلْدَانِ، وَرَجَعَ الْمُعَظَّمُ إِلَى الشَّامِ، وَاصْطَلَحَ الْأَشْرَفُ وَالْكَامِلُ عَلَى أَخِيهِمَا الْمُعَظَّمِ.
وَفِيهَا وَلَّى الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ قَضَاءَ دِمَشْقَ لِجَمَالِ الدِّينِ الْمِصْرِيِّ الَّذِي كَانَ وَكِيلَ بَيْتِ الْمَالِ بِهَا، وَكَانَ فَاضِلًا بَارِعًا، يَجْلِسُ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ قَبْلَ الصَّلَاةِ بِالْعَادِلِيَّةِ وَبَعْدَ فَرَاغِهَا لِإِثْبَاتِ الْمَحَاضِرِ، وَيَحْضُرُ عِنْدَهُ فِي الْمَدْرَسَةِ جَمِيعُ الشُّهُودِ مِنْ كُلِّ الْمَرَاكِزِ حَتَّى يَتَيَسَّرَ عَلَى النَّاسِ إِثْبَاتُ كُتُبِهِمْ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
يَاقُوتٌ الْكَاتِبُ الْمَوْصِلِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ
أَمِينُ الدِّينِ الْمَشْهُورُ بِطَرِيقَةِ ابْنِ الْبَوَّابِ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ مَنْ يُقَارِبُهُ، وَكَانَتْ لَدَيْهِ فَضَائِلُ جَمَّةٌ، وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَكَانَ نِعْمَ الرَّجُلُ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ نَجِيبُ الدِّينِ الْوَاسِطِيُّ قَصِيدَةً يَمْدَحُهُ بِهَا:
جَامِعٌ شَارِدَ الْعُلُومِ وَلَوْلَا هُ لَكَانَتْ أُمُّ الْفَضَائِلِ ثَكْلَى ذُو يَرَاعٍ تَخَافُ زُبْيَتَهُ الْأُسْ
دُ وَتَعْنُو لَهُ الْكَتَائِبُ ذُلَّا

وَإِذَا افْتَرَّ ثَغْرُهُ عَنْ سَوَادٍ
فِي بَيَاضٍ فَالْبِيضُ وَالسُّمْرُ خَجْلَى أَنْتَ بَدْرٌ وَالْكَاتِبُ ابْنُ هِلَالٍ
كَأَبِيهِ لَا فَخْرَ فِيمَنْ تَوَلَّى إِنْ يَكُنْ أَوَّلًا فَإِنَّكَ بِالتَّفْ
ضِيلِ أَوْلَى فَقَدْ سَبَقْتَ وَصَلَّى
جَلَالُ الدِّينِ الْحَسَنُ
مِنْ أَوْلَادِ الْحَسَنِ بْنِ الصَّبَّاحِ مُقَدَّمِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، وَكَانَ قَدْ أَظْهَرَ فِي قَوْمِهِ شَعَائِرَ الْإِسْلَامِ، وَحِفْظَ الْحُدُودِ وَالْمُحَرَّمَاتِ وَالْقِيَامَ فِيهَا بِالزَّوَاجِرِ الشَّرْعِيَّةِ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ
شِهَابُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفِ بْنِ رَاجِحٍ الْمَقْدِسِيُّ، الْحَنْبَلِيُّ الزَّاهِدُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ، كَانَ يَقْرَأُ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْحَدِيثَ النَّبَوِيَّ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى أَسْفَلِ مِنْبَرِ الْخَطَابَةِ بِالْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ وَرَحَلَ وَحَفِظَ مَقَامَاتِ الْحَرِيرِيِّ فِي خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَكَانَتْ لَهُ فُنُونٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ ظَرِيفًا مَطْبُوعًا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَالْخَطِيبُ مُوَفَّقُ الدِّينِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عُمَرُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ بْنِ كَامِلٍ الْمَقْدِسِيُّ، خَطِيبُ بَيْتِ الْآبَارِ، وَقَدْ نَابَ فِي دِمَشْقَ عَنِ الْخَطِيبِ جَمَالِ الدِّينِ الدَّوْلَعِيِّ حِينَ سَارَ فِي الرَّسْلِيَّةِ إِلَى خُوَارَزْمَ شَاهْ، حَتَّى عَادَ.
الْمُحَدِّثُ الْبَارِعُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو طَاهِرٍ، إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُحْسِنِ

بْنِ الْأَنْمَاطِيِّ، قَرَأَ الْحَدِيثَ، وَرَحَلَ وَكَتَبَهُ، وَكَانَ حَسَنَ الْخَطِّ مُتْقِنًا فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ، حَافِظًا لَهُ، وَكَانَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ الصَّلَاحِ يُثْنِي عَلَيْهِ وَيَمْدَحُهُ، وَكَانَتْ كُتُبُهُ بِالْبَيْتِ الْغَرْبِيِّ مِنَ الْكَلَّاسَةِ الَّذِي كَانَ لِلْمَلِكِ الْمُحَسَّنِ بْنِ صَلَاحِ الدِّينِ، ثُمَّ أُخِذَ مِنِ ابْنِ الْأَنْمَاطِيِّ، وَسُلِّمَ إِلَى الشَّيْخِ عَبْدِ الصَّمَدِ الدَّكَائِيِّ، وَاسْتَمَرَّ بِيَدِ أَصْحَابِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ، وَبِبَابِ النَّصْرِ الشَّيْخُ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ عَسَاكِرَ، وَبِالْمَقْبَرَةِ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ الْمِصْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
أَبُو الْغَيْثِ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي طَاهِرِ بْنِ كُلَيْبٍ، بْنِ مُقْبِلٍ الضَّرِيرُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، أَقَامَ بِبَغْدَادَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وَكَانَتْ لَدَيْهِ فَضَائِلُ وَلَهُ رَسَائِلُ، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
إِذَا كُنْتُمُ لِلنَّاسِ أَهْلَ سِيَاسَةٍ فَسُوسُوا كِرَامَ النَّاسِ بِالْجُودِ وَالْبَذْلِ
وَسُوسُوا لِئَامَ النَّاسِ بِالذُّلِّ يَصْلُحُوا عَلَيْهِ فَإِنَّ الذُّلَ أَصْلَحُ لِلنَّذْلِ
أَبُو الْعِزِّ مُشَرَّفُ بْنُ عَلِيِّ، بْنِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ كَامِلٍ الْخَالِصِيُّ الْمُقْرِئُ الضَّرِيرُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ بِالنِّظَامِيَّةِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ، وَأَنْشَدَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو الْحَلَبِيِّ:

تَمَثَّلْتُمُ لِي وَالدِّيَارُ بَعِيدَةٌ فَخُيِّلَ لِي أَنَّ الْفُؤَادَ لَكُمْ مَعْنَى
وَنَاجَاكُمُ قَلْبِي عَنِ الْبُعْدِ بَيْنَنَا فَأَوْحَشْتُمُ لَفْظًا وَآنَسْتُمُ مَعْنَى
أَبُو سُلَيْمَانَ دَاوُدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْجِيلِيُّ
أَحَدُ الْمُعِيدِينَ بِالْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ، وَمِمَّا أَنْشَدَهُ:
أَيَا جَامِعًا أَمْسِكْ عَنَانَكَ مُقْصِرًا فَإِنَّ مَطَايَا الدَّهْرِ تَكْبُو وَتَقْصُرُ
سَتَقْرَعُ سِنًّا أَوْ تَعَضُّ نَدَامَةً يَدَيْكَ إِذَا خَانَ الزَّمَانُ وَتُبْصِرُ
وَيَلْقَاكَ رُشْدٌ بَعْدَ غَيِّكَ وَاعِظٌ وَلَكِنَّهُ يَلْقَاكَ وَالْأَمْرُ مُدْبِرُ
أَبُو الْمُظَفَّرِ عَبْدُ الْوَدُودِ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ الْمُبَارَكِ، بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ بْنِ الْحَسَنِ، الْوَاسِطِيُّ الْأَصْلِ الْبَغْدَادِيُّ الدَّارِ وَالْمَوْلِدِ، كَمَالُ الدِّينِ الْمَعْرُوفُ وَالِدُهُ بِالْمُجِيرِ، تَفَقَّهَ عَلَى أَبِيهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ عِلْمَ الْكَلَامِ، وَدَرَسَ بِمَدْرَسَتِهِ عِنْدَ بَابِ الْأَزَجِ، وَوَكَّلَهُ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ، وَاشْتَهَرَ بِالدِّيَانَةِ وَالْأَمَانَةِ، وَبَاشَرَ مَنَاصِبَ كِبَارًا، وَحَجَّ مِرَارًا عَدِيدَةً، وَكَانَ مُتَوَاضِعًا حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، وَكَانَ يَقُولُ:
وَمَا تَرَكَتْ سِتٌّ وَسِتُّونَ حِجَّةً لَنَا حُجَّةً أَنْ نَرْكَبَ اللَّهْوَ مَرْكَبَا
وَكَانَ يُنْشِدُ:
الْعِلْمُ يَأْتِي كُلَّ ذِي خَفْضٍ وَيَأْبَى كُلَّ آبِي
كَالْمَاءِ يَنْزِلُ فِي الْوِهَا دِ وَلَيْسَ يَصْعَدُ فِي الرَّوَابِي

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا نُقِلَ تَابُوتُ الْعَادِلِ مِنَ الْقَلْعَةِ إِلَى تُرْبَتِهِ بِالْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ، فَصُلِّيَ عَلَيْهِ أَوَّلًا تَحْتَ النَّسْرِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، ثُمَّ جَاءُوا بِهِ إِلَى التُّرْبَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَدُفِنَ بِهَا، وَلَمْ تَكُنِ الْمَدْرَسَةُ كَمَلَتْ بَعْدُ، وَقَدْ تَكَامَلَ بِنَاؤُهَا فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ أَيْضًا، وَذَكَرَ الدَّرْسَ بِهَا الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ الْمِصْرِيُّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ السُّلْطَانُ الْمُعَظَّمُ، فَجَلَسَ فِي الصَّدْرِ، وَعَنْ شِمَالِهِ الْقَاضِي، وَعَنْ يَمِينِهِ جَمَالُ الدِّينِ الْحَصِيرِيُّ شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَانَ فِي الْمَجْلِسِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ الصَّلَاحِ إِمَامُ السُّلْطَانِ، وَالشَّيْخُ سَيْفُ الدِّينِ الْآمِدِيُّ إِلَى جَانِبِ الْمُدَرِّسِ، وَإِلَى جَانِبِهِ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ، وَيَلِيهِ النَّجْمُ خَلِيلٌ قَاضِي الْعَسْكَرِ، وَتَحْتَ الْحَصِيرِيِّ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الشِّيرَازِيِّ، وَتَحْتَهُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ، وَفِيهِ خَلْقٌ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَكَابِرِ، وَفِيهِمْ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ عَسَاكِرَ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ الصَّدْرَ الْبَكْرِيَّ مُحْتَسِبَ دِمَشْقَ إِلَى جَلَالِ الدِّينِ

ابْنِ خُوَارَزْمَ شَاهْ يَسْتَعِينُهُ عَلَى أَخَوَيْهِ الْكَامِلِ وَالْأَشْرَفِ اللَّذَيْنِ قَدْ تَمَالَآ عَلَيْهِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَلَمَّا عَادَ الصَّدْرُ الْمَذْكُورُ أَضَافَ إِلَيْهِ مَشْيَخَةَ الشُّيُوخِ.
وَحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْمَلِكُ الْمَسْعُودُ أَقْسِيسُ بْنُ الْكَامِلِ صَاحِبُ الْيَمَنِ، فَبَدَتْ مِنْهُ أَفْعَالٌ نَاقِصَةٌ بِالْحَرَمِ مِنْ سُكْرٍ وَرَشْقِ حَمَامِ الْمَسْجِدِ بِالْبُنْدُقِ مِنْ أَعْلَى قُبَّةِ زَمْزَمَ، وَكَانَ إِذَا نَامَ فِي دَارِ الْإِمَارَةِ يُضْرَبُ الطَّائِفُونَ بِالْمَسْعَى بِأَطْرَافِ السُّيُوفِ لِئَلَّا يُشَوِّشُوا عَلَيْهِ وَهُوَ نَوِمٌ سَكِرٌ، قَبَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَكِنْ كَانَ مَعَ هَذَا كُلِّهِ مَهِيبًا مُحْتَرَمًا، وَالْبِلَادُ بِهِ آمِنَةٌ مُطَمْئِنَةٌ، وَقَدْ كَانَ يَرْفَعُ سَنْجَقَ أَبِيهِ يَوْمَ عَرَفَةَ عَلَى سَنْجَقِ الْخَلِيفَةِ، فَجَرَى بِسَبَبِ ذَلِكَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمَا مُكِّنَ مِنْ طُلُوعِهِ وَصُعُودِهِ إِلَى الْجَبَلِ إِلَّا فِي آخِرِ النَّهَارِ بَعْدَ جُهْدٍ جَهِيدٍ.
وَفِيهَا كَانَ بِالشَّامِ جَرَادٌ كَثِيرٌ أَكَلَ الزَّرْعَ وَالثِّمَارَ وَالْأَشْجَارَ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ الْقَفْجَاقِ وَالْكُرْجِ، وَقِتَالٌ كَثِيرٌ بِسَبَبِ ضِيقِ بِلَادِ الْقَفْجَاقِ عَلَيْهِمْ.
وَفِيهَا وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ فَضْلَانَ، وَلَبِسَ الْخُلْعَةَ فِي دَارِ نَائِبِ الْوِزَارَةِ مُؤَيِّدِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقُمِّيِّ بِحَضْرَةِ الْأَعْيَانِ وَالْكُبَرَاءِ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بِحَضْرَتِهِمْ، وَسَاقَهُ ابْنُ السَّاعِي بِحُرُوفِهِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ دَاوُدَ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْمُلَقَّبُ بِالْمُحِبِّ، اسْتَقَلَّ بِالنِّظَامِيَّةِ دَهْرًا، وَاشْتَغَلَ بِهَا، وَكَانَ فَاضِلًا دَيِّنًا صَالِحًا، وَمِمَّا أَنْشَدَهُ مِنَ الشِّعْرِ قَوْلُهُ:
الْفَرْقَدَانِ كِلَاهُمَا شَهِدَا لَهُ وَالْبَدْرُ لَيْلَةَ تِمِّهِ بِسُهَادِهِ دَنِفٌ إِذَا اعْتَبَقَ الظَّلَامُ تَضَرَّمَتْ
نَارُ الْجَوَى فِي صَدْرِهِ وَفُؤَادِهِ فَجَرَتْ مَدَامِعُ جَفْنِهِ فِي خَدِّهِ
مِثْلَ الْمَسِيلِ يَسِيلُ مِنْ أَطْوَادِهِ شَوْقًا إِلَى مُضْنِيهِ لَمْ أَرَ هَكَذَا
مَشْتَاقَ مُضْنِي جِسْمِهِ بِبِعَادِهِ لَيْتَ الَّذِي أَضْنَاهُ سِحْرُ جُفُونِهِ
قَبْلَ الْمَمَاتِ يَكُونُ مِنْ عُوَّادِهِ
أَبُو طَالِبٍ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْيَعْقُوبِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، أَحَدُ الْمُعِيدِينَ بِبَغْدَادَ، كَانَ شَيْخًا مَلِيحَ الشَّيْبَةِ، جَمِيلَ الْوَجْهِ، كَانَ يَلِي بَعْضَ الْأَوْقَافِ، وَمِمَّا أَنْشَدَهُ لِبَعْضِ الْفُضَلَاءِ:
لَحَمْلُ تِهَامَةٍ وَجِبَالِ أُحْدٍ وَمَاءُ الْبَحْرِ يُنْقَلُ بِالزَّبِيلِ
وَنَقْلُ الصَّخْرِ فَوْقَ الظَّهْرِ يَوْمًا لَأَهْوَنُ مِنْ مُجَالَسَةِ الثَّقِيلِ

وَلِبَعْضِهِمْ أَيْضًا وَهُوَ مِمَّا أَنْشَدَهُ الْمَذْكُورُ:
وَإِذَا مَضَى لِلْمَرْءِ مِنْ أَعْوَامِهِ خَمْسُونَ وَهْوَ إِلَى التُّقَى لَا يَجْنَحُ
عَكَفَتْ عَلَيْهِ الْمُخْزِيَاتُ بِقَوْلِهَا حَالَفْتَنَا فَأَقِمْ كَذَا لَا تَبْرَحُ
وَإِذَا رَأَى الشَّيْطَانُ غُرَّةَ وَجْهِهِ حَيَّا وَقَالَ فَدَيْتُ مَنْ لَا يُفْلِحُ
اتَّفَقَ أَنَّهُ طُولِبَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَالِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَاسْتَعْمَلَ شَيْئًا مِنَ الْأَفْيُونِ الْمِصْرِيِّ، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ، وَدُفِنَ بِالْوَرْدِيَّةِ. وَفِيهَا تُوُفِّيَ قُطْبُ الدِّينِ الْعَادِلُ بْنُ الْعَادِلِ، بِالْفَيُّومِ، وَنُقِلَ إِلَى الْقَاهِرَةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِمَامُ الْحَنَابِلَةِ بِمَكَّةَ الشَّيْخُ نَصْرُ بْنُ أَبِي الْفَرَجِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْحُصَرِيِّ جَاوَرَ بِمَكَّةَ مُدَّةً، ثُمَّ سَاقَتْهُ الْمَنِيَّةُ إِلَى الْيَمَنِ، فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ
وَفِيهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ:
الشِّهَابُ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ نَجْمِ بْنِ الْحَنْبَلِيِّ
أَخُو الْبَهَاءِ وَالنَّاصِحِ، وَكَانَ فَقِيهًا مُنَاظِرًا بَصِيرًا بِالْمُحَاكَمَاتِ، وَهُوَ الَّذِي أَخْرَجَ مَسْجِدَ الْوَزِيرِ مِنْ يَدِ الشَّيْخِ عَلَمِ الدِّينِ السَّخَاوِيِّ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا عَادَ الْأَشْرَفُ مُوسَى بْنُ الْعَادِلِ مِنْ عِنْدِ أَخِيهِ الْكَامِلِ صَاحِبِ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ، فَتَلَقَّاهُ أَخُوهُ الْمُعَظَّمُ، وَقَدْ فَهِمَ أَنَّهُمَا تَمَالَآ عَلَيْهِ، فَبَاتَ لَيْلَةً بِدِمَشْقَ وَسَارَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، وَلَمْ يَشْعُرْ أَخُوهُ بِذَلِكَ، فَسَارَ إِلَى بِلَادِهِ، فَوَجَدَ أَخَاهُ الشِّهَابَ غَازِيًّا الَّذِي اسْتَنَابَهُ عَلَى خِلَاطَ وَمَيَّافَارِقِينَ قَدْ قَوِيَ رَأْسُهُ، وَكَاتَبَهُ الْمُعَظَّمُ وَصَاحِبُ إِرْبِلَ، وَحَسَّنُوا لَهُ مُخَالَفَةَ الْأَشْرَفِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْأَشْرَفُ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْبَلْ، فَجَمَعَ لَهُ الْعَسَاكِرَ لِيُقَاتِلَهُ.
وَفِيهَا سَارَ أَقْسِيسُ الْمَلِكُ الْمَسْعُودُ صَاحِبُ الْيَمَنِ بْنُ الْكَامِلِ مِنَ الْيَمَنِ إِلَى مَكَّةَ، شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَقَاتَلَهُ ابْنُ قَتَادَةَ بِبَطْنِ مَكَّةَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ، فَهَزَمَهُ أَقْسِيسُ وَشَرَّدَهُ، وَاسْتَقَلَّ بِمُلْكِ مَكَّةَ مَعَ الْيَمَنِ، وَجَرَتْ أُمُورٌ فَظِيعَةٌ، وَتَشَرَّدَ حَسَنُ بْنُ قَتَادَةَ قَاتِلُ أَبِيهِ وَعَمِّهِ وَأَخِيهِ فِي تِلْكَ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ قُدَامَةَ الْمَقْدِسِيُّ
مُصَنِّفُ " الْمُغْنِي " فِي الْفِقْهِ،

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قُدَامَةَ، الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ، إِمَامٌ عَالِمٌ بَارِعٌ، لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِهِ بَلْ وَلَا قَبْلَ دَهْرِهِ بِمُدَّةٍ، أَفْقَهُ مِنْهُ، وُلِدَ بْجَمَّاعِيلَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَقَدِمَ مَعَ أَهْلِهِ إِلَى دِمَشْقَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْعِرَاقِ; إِحْدَاهُمَا فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ مَعَ ابْنِ خَالَتِهِ الْحَافِظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ، وَالْأُخْرَى سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ، وَحَجَّ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، وَتَفَقَّهَ بِبَغْدَادَ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَبَرَعَ وَأَفْتَى وَنَاظَرَ، وَتَبَحَّرَ فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، مَعَ زُهْدٍ وَعِبَادَةٍ، وَوَرَعٍ وَتَوَاضُعٍ، وَحُسْنِ أَخْلَاقٍ، وُجُودٍ وَحَيَاءٍ وَحُسْنِ سَمْتٍ، وَنُورٍ وَبَهَاءٍ، وَكَثْرَةِ تِلَاوَةٍ وَصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَقِيَامٍ، وَطَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ وَاتِّبَاعٍ لِلسَّلَفِ الصَّالِحِ، وَكَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ وَمُكَاشَفَاتٌ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إِنْ لَمْ يَكُنِ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، فَلَا أَعْلَمُ لِلَّهِ وَلِيًّا.
وَكَانَ يَؤُمُّ النَّاسَ لِلصَّلَاةِ فِي مِحْرَابِ الْحَنَابِلَةِ هُوَ وَالشَّيْخُ الْعِمَادُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهل التأويل يتعرون أمام قانوني الحق والميزان

    بسم الله الرحمن الرحيم خلاصة قانون الحق = أن الله خلق السماوات والارض وما فيهم وما بينهم وما لأجلهم بقدر قام في وقت محدد وزمن مع...