وَقَالَ
الْمَدَائِنِيُّ: أُتِيَ الْحَجَّاجُ بِأَسِيرَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ
الْأَشْعَثِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّ لِي عِنْدَكَ
يَدًا. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: ذَكَرَ ابْنُ الْأَشْعَثِ يَوْمًا أُمَّكَ،
فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ. فَقَالَ: وَمَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ قَالَ: صَاحِبِي هَذَا.
فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَفْعَلَ كَمَا فَعَلَ؟
قَالَ: بُغْضُكَ. قَالَ: أَطْلِقُوا هَذَا لِصِدْقِهِ، وَهَذَا لِفِعْلِهِ،
فَأَطْلَقُوهُمَا.
وَحَكَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْحَجَّاجَ نَادَى فِي الْبَلَدِ; أَنَّ مَنْ خَرَجَ
بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ مِنْ بَيْتِهِ قُتِلَ، فَأُتِيَ لَيْلَةً بِرَجُلٍ،
فَقَالَ: مَا أَخْرَجَكَ مِنْ بَيْتِكَ هَذِهِ السَّاعَةَ مِنْ بَعْدِ مَا
سَمِعْتَ الْمُنَادِيَ؟ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَا أَكْذِبُ الْأَمِيرَ،
إِنَّ أُمِّي مَرِيضَةٌ هَالِكَةٌ، وَأَنَا عِنْدَهَا مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ،
فَلَمَّا كَانَ السَّاعَةُ أَفَاقَتْ، وَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَعْزِمُ
عَلَيْكَ بِحَقِّي عَلَيْكَ إِلَّا مَضَيْتَ إِلَى أَهْلِكَ وَأَوْلَادِكَ،
فَإِنَّهُمْ مَغْمُومُونَ بِتَخَلُّفِكَ عَنْهُمْ. فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهَا،
فَأَخَذَنِي الْعَسَسُ وَأَتَوْا بِي إِلَيْكَ. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: نَنْهَاكُمْ
وَتَعْصُونَنَا. ثُمَّ أَمَرَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. قَالَ: ثُمَّ أُتِيَ بِآخَرَ،
فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: مَا أَخْرَجَكَ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ
مَا أَكْذِبُكَ، إِنَّهُ كَانَ عِنْدِي
لِرَجُلٍ
دَرَاهِمُ فَأَقْعَدَنِي عَلَى بَابِهِ وَلَزِمَنِي، وَقَالَ: لَا أُفَارِقُكَ
إِلَّا بِحَقِّي. فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّاعَةُ دَخَلَ إِلَى مَنْزِلِهِ،
وَأَغْلَقَ بَابَهُ، وَتَرَكَنِي عَلَى بَابِهِ، فَجَاءَنِي طَائِفُكَ فَأَخَذَنِي
إِلَيْكَ. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: اضْرِبُوا عُنُقَهُ. قَالَ: ثُمَّ أُتِيَ بِآخَرَ،
فَقَالَ لَهُ: مَا أَخْرَجَكَ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فَقَالَ: كُنْتُ أَشْرَبُ مَعَ
قَوْمٍ، فَلَمَّا سَكِرْتُ خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِمْ وَأَنَا لَا أَدْرِي،
فَأَخَذُونِي إِلَيْكَ. فَقَالَ الْحَجَّاجُ لِرَجُلٍ كَانَ عِنْدَهُ: مَا أَرَاهُ
إِلَّا صَادَقًا. ثُمَّ قَالَ: خَلُّوا سَبِيلَهُ. فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ الْأَعْرَابِيِّ فِيمَا بَلَغَهُ أَنَّهُ
كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: جَحْدَرُ بْنُ مَالِكٍ. وَكَانَ
فَاتِكًا بِأَرْضِ الْيَمَامَةِ، فَأَرْسَلَ الْحَجَّاجُ إِلَى نَائِبِهَا يُؤَنِّبُهُ
وَيَلُومُهُ عَلَى عَدَمِ أَخْذِهِ، فَمَا زَالَ نَائِبُهَا فِي طَلَبِهِ حَتَّى
أَسَرَهُ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: مَا
حَمَلَكَ عَلَى مَا كُنْتَ تَصْنَعُهُ؟ فَقَالَ: جَرَاءَةُ الْجَنَانِ، وَجَفَاءُ
السُّلْطَانِ، وَكَلْبُ الزَّمَانِ، وَلَوِ اخْتَبَرَنِي الْأَمِيرُ لَوَجَدَنِي
مِنْ صَالِحِ الْأَعْوَانِ، وَبُهْمِ الْفُرْسَانِ، وَلَوَجَدَنِي مِنْ أَصْلَحِ
رَعِيَّتِهِ، وَذَلِكَ أَنِّي مَا لَقِيتُ فَارِسًا قَطُّ إِلَّا كُنْتُ عَلَيْهِ
فِي نَفْسِي مُقْتَدِرًا. فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: إِنَّا قَاذِفُوكَ فِي
حَائِرٍ فِيهِ أَسَدٌ عَاقِرٌ، فَإِنْ قَتَلَكَ كَفَانَا مُؤْنَتَكَ، وَإِنْ
قَتَلْتَهُ
خَلَّيْنَا
سَبِيلَكَ. ثُمَّ أَوْدَعَهُ السِّجْنَ مُقَيَّدًا مَغْلُولَةً يَدُهُ الْيُمْنَى
إِلَى عُنُقِهِ، وَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى نَائِبِهِ بِكَسْكَرَ أَنْ يَبْعَثَ
إِلَيْهِ بِأَسَدٍ عَظِيمٍ ضَارٍ، وَقَدْ قَالَ جَحْدَرٌ هَذَا فِي مَحْبَسِهِ
هَذَا أَشْعَارًا يَتَحَزَّنُ فِيهَا عَلَى امْرَأَتِهِ سُلَيْمَى أَمِّ عَمْرٍو،
يَقُولُ فِي بَعْضِهَا:
أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْرٍو وَإِيَّانَا فَذَاكَ بِنَا تَدَانِي
بَلَى وَنَرَى الْهِلَالَ كَمَا تَرَاهُ وَيَعْلُوهَا النَّهَارُ إِذَا عَلَانِي
إِذَا جَاوَزْتُمَا نَخَلَاتِ حَجْرٍ وَأَوْدِيَةَ الْيَمَامَةِ فَانْعَيَانِي
وَقُولَا جَحْدَرٌ أَمْسَى رَهِينًا يُحَاذِرُ وَقْعَ مَصْقُولٍ يَمَانِي
فَلَمَّا قَدِمَ الْأَسَدُ عَلَى الْحَجَّاجِ أَمَرَ بِهِ فَجُوِّعَ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ، ثُمَّ أُبْرِزَ إِلَى حَائِرٍ وَهُوَ الْبُسْتَانُ وَأَمَرَ بِجَحْدَرٍ،
فَأُخْرِجَ فِي قُيُودِهِ وَيَدُهُ الْيُمْنَى مَغْلُولَةٌ بِحَالِهَا، وَأُعْطِيَ
سَيْفًا فِي يَدِهِ الْيُسْرَى، وَخُلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَسَدِ، وَجَلَسَ
الْحَجَّاجُ وَأَصْحَابُهُ فِي مَنْظَرَةٍ، وَأَقْبَلَ جَحْدَرٌ نَحْوَ الْأَسَدِ،
وَهُوَ يَقُولُ:
لَيْثٌ وَلَيْثٌ فِي مَجَالِ ضَنْكِ كِلَاهُمَا ذُو أَنَفٍ وَمَحْكِ
وَشِدَّةٍ فِي نَفْسِهِ وَفَتْكِ إِنْ يَكْشِفِ اللَّهُ قِنَاعَ الشَّكِّ
فَهْوَ أَحَقُّ مَنْزِلٍ بِتَرْكِ
فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ الْأَسَدُ زَأَرَ زَأْرَةً شَدِيدَةً، وَتَمَطَّى
وَأَقْبَلَ نَحْوَهُ، فَلَمَّا صَارَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ رُمْحٍ وَثَبَ الْأَسَدُ
عَلَىجَحْدَرٍ وَثْبَةً شَدِيدَةً، فَتَلَقَّاهُ جَحْدَرٌ بِالسَّيْفِ، فَضَرَبَهُ
ضَرْبَةً حَتَّى خَالَطَ ذُبَابُ السَّيْفِ لَهَوَاتِهِ، فَخَرَّ الْأَسَدُ
كَأَنَّهُ خَيْمَةٌ قَدْ
صَرَعَتْهَا
الرِّيحُ، مِنْ شِدَّةِ الضَّرْبَةِ، وَسَقَطَ جَحْدَرٌ مِنْ شِدَّةِ وَثْبَةِ
الْأَسَدِ; وَشِدَّةِ مَوْضِعِ الْقُيُودِ عَلَيْهِ، فَكَبَّرَ الْحَجَّاجُ
وَكَبَّرَ أَصْحَابُهُ، وَأَنْشَأَ جَحْدَرٌ يَقُولُ:
يَا جُمْلُ إِنَّكِ لَوْ رَأَيْتِ كَرِيهَتِي فِي يَوْمِ هَوْلٍ مُسْدِفٍ
وَعَجَاجِ
وَتَقَدُّمِي لِلَّيْثِ أَرْسُفُ مُوَثَقًا كَيْمَا أُثَاوِرَهُ عَلَى الْأَحْرَاجِ
شَثْنٌ بَرَاثِنُهُ كَأَنَّ نُيُوبَهُ زُرْقُ الْمَعَاوِلِ أَوْ شِبَاهُ زُجَاجِ
يَسْمُو بِنَاظِرَتَيْنِ تَحْسَبُ فِيهِمَا لَهَبًا أَحَدُّهُمَا شُعَاعُ سِرَاجِ
وَكَأَنَّمَا خِيطَتْ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ بَرْقَاءُ أَوْ خِرَقٌ مِنَ الدِّيبَاجِ
لَعَلِمْتِ أَنِّي ذُو حِفَاظٍ مَاجِدٌ مِنْ نَسْلِ أَقْوَامٍ ذَوِي أَبْرَاجِ
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَقَالَ:
عَلِمَ النِّسَاءُ بِأَنَّنِي لَا أَنْثَنِي إِذْ لَا يَثِقْنَ بِغَيْرَةِ
الْأَزْوَاجِ
وَعَلِمْتُ أَنِّي إِنْ كَرِهْتُ نِزَالَهُ أَنِّي مِنَ الْحَجَّاجِ لَسْتُ
بِنَاجِ
فَعِنْدَ ذَلِكَ خَيَّرَهُ الْحَجَّاجُ إِنْ شَاءَ أَقَامَ عِنْدَهُ، وَإِنْ شَاءَ
انْطَلَقَ إِلَى بِلَادِهِ، فَاخْتَارَ الْمَقَامَ عِنْدَ الْحَجَّاجِ، فَأَحْسَنَ
جَائِزَتَهُ وَأَعْطَاهُ أَمْوَالًا.
وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ مَعَ فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ يَلْحَنُ فِي حُرُوفٍ
مِنَ الْقُرْآنِ أَنْكَرَهَا يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ; مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ
يُبْدِلُ " إِنِ " الْمَكْسُورَةَ بِ " أَنِ "
الْمَفْتُوحَةِ، وَعَكْسُهُ،
وَكَانَ
يَقْرَأُ: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: أَحَبَّ
إِلَيْكُمْ ( التَّوْبَةِ: 24 ) فَيَقْرَؤُهَا بِرَفْعِ " أَحَبَّ ".
وَأَنْكَرَ يَوْمًا أَنْ يَكُونَ الْحُسَيْنُ مِنْ ذُرِّيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِكَوْنِهِ ابْنَ بِنْتِهِ، فَقَالَ لَهُ
يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ: كَذَبْتَ. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: لَتَأْتِيَنِّي عَلَى مَا
قُلْتَ بِبَيِّنَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ. فَقَالَ:
قَالَ اللَّهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِلَى قَوْلِهِ:
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى ( الْأَنْعَامِ: 84، 85 ) فَعِيسَى مِنْ
ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ إِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ مَرْيَمَ،
وَالْحُسَيْنُ ابْنُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ الْحَجَّاجُ: صَدَقْتَ. وَنَفَاهُ إِلَى خُرَاسَانَ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ
يَسْأَلُهُ عَنْ أَمْسِ وَالْيَوْمَ وَغَدٍ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ: أَكَانَ
خُوَيْلِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عِنْدَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَكَتَبَ
الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ: أَمَّا أَمْسِ فَأَجَلٌ، وَأَمَّا الْيَوْمَ
فَعَمَلٌ، وَأَمَّا غَدًا فَأَمَلٌ.
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ، عَنْ أَبِي
عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى قَالَ: لَمَّا قَتَلَ الْحَجَّاجُ ابْنَ
الْأَشْعَثِ، وَصَفَتْ لَهُ الْعِرَاقُ وَسَّعَ عَلَى النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ،
فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنَّكَ تُنْفِقُ فِي الْيَوْمِ مَا لَا يُنْفِقُهُ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأُسْبُوعِ، وَتُنْفِقُ فِي الْأُسْبُوعِ مَا لَا يُنْفِقُهُ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الشَّهْرِ، ثُمَّ قَالَ مُنْشِدًا:
عَلَيْكَ
بِتَقْوَى اللَّهِ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ وَكُنْ لِوَعِيدِ اللَّهِ تَخْشَى
وَتَضْرَعُ
وَوَفِّرْ خَرَاجَ الْمُسْلِمِينَ وَفَيْئَهُمْ وَكُنْ لَهُمُ حِصْنًا تُجِيرُ
وَتَمْنَعُ
فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ:
لَعَمْرِي لَقَدْ جَاءَ الرَّسُولُ بِكُتْبِكُمْ قَرَاطِيسَ تُمْلَى ثُمَّ تُطْوَى
فَتُطْبَعُ
كِتَابٌ أَتَانِي فِيهِ لِينٌ وَغِلْظَةٌ وَذُكِّرْتُ وَالذِّكْرَى لِذِي اللُّبِّ
تَنْفَعُ
وَكَانَتْ أُمُورٌ تَعْتَرِينِي كَثِيرَةٌ فَأَرْضَخُ أَوْ أَعْتَلُّ حِينًا
فَأَمْنَعُ
إِذَا كُنْتُ سَوْطًا مِنْ عَذَابٍ عَلَيْهِمُ وَلَمْ يَكُ عِنْدِي بِالْمَنَافِعِ
مَطْمَعُ
أَيَرْضَى بِذَاكَ النَّاسُ أَوْ يَسْخَطُونَهُ أَمُ احْمَدُ فِيهِمْ أَمْ أُلَامُ
فَأُقْذَعُ
وَكَانَتْ بِلَادٌ جِئْتُهَا حِينَ جِئْتُهَا بِهَا كُلُّ نِيرَانِ الْعَدَاوَةِ
تَلْمَعُ
فَقَاسَيْتُ مِنْهَا مَا عَلِمْتَ وَلَمْ أَزَلْ أُصَارِعُ حَتَّى كِدْتُ
بِالْمَوْتِ أُصْرَعُ
وَكَمْ أَرَجَفُوا مِنْ رَجْفَةٍ قَدْ سَمِعْتُهَا وَلَوْ كَانَ غَيْرِي طَارَ
مِمَّا يُرَوَّعُ
وَكُنْتُ إِذَا هَمُّوا بِإِحْدَى قَنَاتِهِمْ حَسَرْتُ لَهُمْ رَأْسِي وَلَا
أَتَقَنَّعُ
فَلَوْ لَمْ يَذُدْ عَنِّي صَنَادِيدُ مِنْهُمُ تُقَسِّمُ أَعْضَائِي ذِئَابٌ
وَأَضْبُعُ
قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ أَنِ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ. وَقَالَ
التَّوْزِيُّ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَوْرِدِ الْجُمَحِيِّ، قَالَ: أُتِيَ
الْحَجَّاجُ بِسَارِقٍ، فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ كُنْتَ غَنِيًّا أَنْ يَأْتِيَكَ
الْحُكْمُ، فَيُبْطِلَ عَلَيْكَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِكَ. فَقَالَ الرَّجُلُ:
إِذَا قَلَّ ذَاتُ الْيَدِ سَخَتِ النَّفْسُ بِالْمَتَالِفِ. قَالَ: صَدَقْتَ، وَاللَّهِ
لَوْ كَانَ حُسْنُ اعْتِذَارٍ يُبْطِلُ
حَدًّا
لَكُنْتُ لَهُ مُوضِعًا، يَا غُلَامُ، سَيْفٌ صَارِمٌ وَرَجُلٌ قَاطِعٌ. فَقَطَعَ
يَدَهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ مُجَاهِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَهْمِ، عَنِ
الْفَرَّاءِ قَالَ: تَغَدَّى الْحَجَّاجُ يَوْمًا مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ، فَلَمَّا انْقَضَى غَدَاؤُهُمَا دَعَاهُ الْوَلِيدُ إِلَى شُرْبِ
النَّبِيذِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الْحَلَالُ مَا أَحْلَلْتَ،
وَلَكِنِّي أَنْهَى عَنْهُ أَهْلَ عَمَلِي، وَأَكْرَهُ أَنْ أُخَالِفَ قَوْلَ
الْعَبْدِ الصَّالِحِ: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ
عَنْهُ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، عَنْ أَشْيَاخِهِ، قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ
إِلَى الْحَجَّاجِ يَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي إِسْرَافِهِ فِي صَرْفِ الْأَمْوَالِ
وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ وَنَحْنُ
خُزَّانُهُ، وَسِيَّانَ مَنْعُ حَقٍّ وَإِعْطَاءُ بَاطِلٍ. وَكَتَبَ فِي أَسْفَلِ
الْكِتَابِ:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَتْرُكْ أُمُورًا كَرِهْتَهَا وَتَطْلُبْ رِضَائِي فِي الَّذِي
أَنَا طَالِبُهْ
وَتَخْشَى الَّذِي يَخْشَاهُ مِثْلُكَ هَارِبًا إِلَى اللَّهِ مِنْهُ ضَيَّعَ
الدُّرَّ جَالِبُهْ
فَإِنْ تَرَ مِنِّي غَفْلَةً قُرَشِيَّةً فَيَا رُبَّمَا قَدْ غَصَّ بِالْمَاءِ
شَارِبُهْ
وَإِنْ تَرَ مِنِّي وَثْبَةً أُمَوِيَّةً فَهَذَا وَهَذَا كُلُّهُ أَنَا صَاحِبُهْ
فَلَا تَعْدُ مَا يَأْتِيكَ مِنِّي فَإِنْ تَعُدْ تَقُمْ فَاعْلَمَنْ يَوْمًا
عَلَيْكَ نَوَادِبُهْ
فَلَمَّا قَرَأَهُ الْحَجَّاجُ كَتَبَ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ جَاءَنِي كِتَابُ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، يَذْكُرُ فِيهِ سَرَفِي فِي الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ،
فَوَاللَّهِ مَا بَالَغْتُ فِي عُقُوبَةِ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ وَلَا قَضَيْتُ
حَقَّ أَهْلِ الطَّاعَةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ سَرَفًا فَلْيُحِدَّ لِي أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ حَدًّا أَنْتَهِي
إِلَيْهِ،
وَلَا أَتَجَاوَزُهُ. وَكَتَبَ فِي أَسْفَلِ الْكِتَابِ:
إِذَا أَنَا لَمْ أَطْلُبْ رِضَاكَ وَأَتَّقِي أَذَاكَ فَيَوْمِي لَا تَوَارَتْ
كَوَاكِبُهْ
إِذَا قَارَفَ الْحَجَّاجُ فِيكَ خَطِيئَةً فَقَامَتْ عَلَيْهِ فِي الصَّبَاحِ
نَوَادِبُهْ
أُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتَ مِنْ ذِي هَوَادَةٍ وَمَنْ لَمْ تُسَالِمْهُ فَإِنِّي
مُحَارِبُهْ
إِذَا أَنَا لَمْ أُدْنِ الشَّفِيقَ لِنُصْحِهِ وَأُقْصِ الَّذِي تَسْرِي إِلَيَّ
عَقَارِبُهْ
فَمَنْ يَتَّقِي يَوْمِي وَيَرْجُو إذًا غَدِي عَلَى مَا أَرَى وَالدَّهْرُ جَمٌّ
عَجَائِبُهْ
وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لِلْغَازِ
بْنِ رَبِيعَةَ أَنْ يَسْأَلَ الْحَجَّاجَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ; هَلْ
يَجِدُ فِي نَفْسِهِ مِمَّا أَصَابَ مِنَ الدِّمَاءِ شَيْئًا؟ فَسَأَلَهُ كَمَا
أَمَرَهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيلُبْنَانَ أَوْ سَنِيرًا
ذَهَبًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَكَانَ مَا أَبْلَانِي اللَّهُ مِنَ
الطَّاعَةِ.
فَصْلٌ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الْكَلِمَاتِ النَّاقِصَةِ وَالْجَرَاءَةِ
الْبَالِغَةِ
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، ثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ
عَاصِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ:
اتَّقَوْا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ لَيْسَ فِيهَا
مَثْنَوِيَّةٌ
وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا لَيْسَ فِيهَا مَثْنَوِيَّةٌ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
عَبْدِ الْمَلِكِ، وَاللَّهِ لَوْ أَمَرْتُ النَّاسَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ بَابِ
الْمَسْجِدِ فَخَرَجُوا مِنْ بَابٍ آخَرَ لَحَلَّتْ لِي دِمَاؤُهُمْ
وَأَمْوَالُهُمْ، وَاللَّهِ لَوْ أَخَذْتُ رَبِيعَةَ بِمُضَرَ لَكَانَ ذَلِكَ لِي
مِنَ اللَّهِ حَلَالًا، وَمَا عَذِيرِي مِنْ عَبْدِ هُذَيْلٍ يَزْعُمُ أَنَّ
قُرْآنَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا هِيَ إِلَّا رَجَزٌ مِنْ رَجَزِ
الْأَعْرَابِ مَا أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَعَذِيرِي مِنْ هَذِهِ الْحَمْرَاءِ، يَزْعُمُ أَحَدُهُمْ يَرْمِي
بِالْحَجَرِ فَيَقُولُ: إِلَى أَنْ يَقَعَ الْحَجَرُ حَدَثَ أَمْرٌ. فَوَاللَّهِ
لَأَدَعَنَّهُمْ كَالْأَمْسِ الدَّابِرِ. قَالَ: فَذَكَرْتُهُ لِلْأَعْمَشِ،
فَقَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ سَمِعْتُهُ مِنْهُ.
وَرْوَرَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ،
عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ
وَالْأَعْمَشِ، أَنَّهُمَا سَمِعَا الْحَجَّاجَ قَبَّحَهُ اللَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ،
وَفِيهِ: وَاللَّهِ لَوْ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ،
فَخَرَجْتُمْ مِنْ هَذَا الْبَابِ، لَحَلَّتْ لِي دِمَاؤُكُمْ، وَلَا أَجِدُ
أَحَدًا يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ،
وَلَأَحُكَّنَّهَا مِنَ الْمُصْحَفِ وَلَوْ بِضِلْعِ خِنْزِيرٍ.
وَرْوَرَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ بِنَحْوِهِ وَفِي
بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَاللَّهِ لَوْ أَدْرَكْتُ عَبْدَ هُذَيْلٍ لَضَرَبْتُ
عُنُقَهُ. وَهَذَا مِنْ جَرَاءَةِ الْحَجَّاجِ - قَبَّحَهُ اللَّهُ -
وَإِقْدَامِهِ
عَلَى الْكَلَامِ السَّيِّئِ وَالدِّمَاءِ الْحَرَامِ. وَإِنَّمَا نَقَمَ عَلَى
قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِكَوْنِهِ خَالَفَ الْقِرَاءَةَ
عَلَى الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ، الَّذِي جَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ عُثْمَانَ
وَمُوَافِقِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُبَشِّرٍ، عَنْ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ،
عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا الصَّلْتُ بْنُ دِينَارٍ، سَمِعْتُ
الْحَجَّاجَ عَلَى مِنْبَرِ وَاسِطٍ يَقُولُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ، لَوْ أَدْرَكْتُهُ لَأَسْقَيْتُ الْأَرْضَ مِنْ دَمِهِ.
قَالَ: وَسَمِعْتُهُ عَلَى مِنْبَرِ وَاسِطٍ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: وَهَبْ لِي
مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي قَالَ: وَاللَّهِ إِنْ كَانَ
سُلَيْمَانُ لَحَسُودًا. وَهَذِهِ جَرَاءَةٌ عَظِيمَةٌ تُفْضِي بِهِ إِلَى
الْكُفْرِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ، وَأَبْعَدَهُ وَأَقْصَاهُ.
وَمِنِ الطَّامَّاتِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ الطَّالْقَانِيُّ، ثَنَا جَرِيرٌ ( ح ). وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ
حَرْبٍ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ بَزِيعِ بْنِ خَالِدٍ الضَّبِّيِّ،
قَالَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ يَخْطُبُ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: رَسُولُ
أَحَدِكُمْ فِي حَاجَتِهِ أَكْرَمُ عَلَيْهِ أَمْ خَلِيفَتُهُ فِي أَهْلِهِ؟
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أُصَلِّيَ خَلْفَكَ صَلَاةً
أَبَدًا، وَإِنْ وَجَدْتُ قَوْمًا يُجَاهِدُونَكَ لَأُجَاهِدَنَّكَ مَعَهُمْ.
زَادَ إِسْحَاقُ فِي حَدِيثِهِ: فَقَاتَلَ فِي الْجَمَاجِمِ حَتَّى قُتِلَ. فَإِنْ
صَحَّ هَذَا عَنْهُ فَظَاهِرُهُ
كُفْرٌ
إِنْ أَرَادَ تَفْضِيلَ مَنْصِبَ الْخِلَافَةِ عَلَى الرِّسَالَةِ، أَوْ أَرَادَ
أَنَّ الْخَلِيفَةَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الرَّسُولِ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ، ثَنَا أَبُو حَفْصٍ
الثَّقَفِيُّ، قَالَ: خَطَبَ الْحَجَّاجُ يَوْمًا فَأَقْبَلَ عَنْ يَمِينِهِ
فَقَالَ: أَلَا إِنَّ الْحَجَّاجَ كَافِرٌ، ثُمَّ أَطْرَقَ فَقَالَ: إِنَّ
الْحَجَّاجَ كَافِرٌ. ثُمَّ أَطْرَقَ فَأَقْبَلَ عَنْ يَسَارِهِ فَقَالَ: أَلَا
إِنَّ الْحَجَّاجَ كَافِرٌ. فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ: كَافِرٌ يَا
أَهْلَ الْعِرَاقِ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى.
وَقَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ: ثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، ثَنَا ضَمْرَةُ،
ثَنَا ابْنُ شَوْذَبٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: بَيْنَمَا الْحَجَّاجُ
يَخْطُبُنَا يَوْمًا، إِذْ قَالَ: الْحَجَّاجُ كَافِرٌ. قُلْنَا: مَا لَهُ؟ أَيُّ
شَيْءٍ يُرِيدُ؟ قَالَ: الْحَجَّاجُ كَافِرٌ بِيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ وَالْبَغْلَةِ
الشَّهْبَاءِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا
لِلْحَجَّاجِ: إِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ يَعْرِفُ عَيْبَ نَفْسِهِ،
فَصِفْ لِي عَيْبَ نَفْسِكَ. فَقَالَ: اعْفِنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَأَبَى، فَقَالَ: أَنَا لَجُوجٌ حَقُودٌ حَسُودٌ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَا
فِي الشَّيْطَانِ شَرٌّ مِمَّا ذَكَرْتَ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: إذًا
بَيْنَكَ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ نَسَبٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ نِقْمَةً عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ بِمَا
سَلَفَ لَهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالْخُرُوجِ عَلَى الْأَئِمَّةِ، وَخُذْلَانِهِمْ
لَهُمْ، وَعِصْيَانِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ، وَالِافْتِيَاتِ
عَلَيْهِمْ.
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
صَالِحٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ
مَنْ حَدَّثَهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ حَصَبُوا أَمِيرَهُمْ
فَخَرَجَ غَضْبَانَ، فَصَلَّى لَنَا صَلَاةً، فَسَهَا فِيهَا حَتَّى جَعَلَ
النَّاسُ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ. فَلَمَّا سَلَّمَ
أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: مَنْ هَاهُنَا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ؟ فَقَامَ
رَجُلٌ، ثُمَّ قَامَ آخَرُ، ثُمَّ قُمْتُ أَنَا ثَالِثًا أَوْ رَابِعًا، فَقَالَ:
يَا أَهْلَ الشَّامِ، اسْتَعِدُّوا لِأَهْلِ الْعِرَاقِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ
قَدْ بَاضَ فِيهِمْ وَفَرَّخَ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ قَدْ لَبَسُوا عَلَيْهِمْ
فَالْبِسْ عَلَيْهِمْ، وَعَجِّلْ عَلَيْهِمْ بِالْغُلَامِ الثَّقَفِيِّ، يَحْكُمُ
فِيهِمْ بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَقْبَلُ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَلَا
يَتَجَاوَزُ عَنْ مُسِيئِهِمْ. وَقَدْ رَوَيْنَاهُ فِي كِتَابِ " مُسْنَدِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ " مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَذْبَةَ الْحِمَّصِيِّ، عَنْ
عُمَرَ مِثْلَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مَالِكِ
بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
اللَّهُمَّ كَمَا ائْتَمَنْتُهُمْ فَخَانُونِي وَنَصَحْتُ لَهُمْ فَغَشُّونِي،
فَسَلِّطْ عَلَيْهِمْ فَتَى ثَقِيفٍ الذَّيَّالَ الْمَيَّالَ يَأْكُلُ
خَضِرَتَهَا، وَيَلْبَسُ فَرْوَتَهَا، وَيَحْكُمُ فِيهَا بِحُكْمِ
الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ: يَقُولُ الْحَسَنُ: وَمَا خُلِقَ الْحَجَّاجُ يَوْمَئِذٍ.
وَرَوَاهُ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ
مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ
الْحَدَثَانِ،
عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: الشَّابُّ الذَّيَّالُ أَمِيرُ الْمِصْرَيْنِ،
يَلْبَسُ فَرْوَتَهَا، وَيَأْكُلُ خَضِرَتَهَا وَيَقْتُلُ أَشْرَافَ أَهْلِهَا،
يَشْتَدُّ مِنْهُ الْفَرَقُ، وَيَكْثُرُ مِنْهُ الْأَرَقُ، وَيُسَلِّطُهُ اللَّهُ
عَلَى شِيعَتِهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ ":
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْعُودٍ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ
هَارُونَ، أَنْبَأَ الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي
ثَابِتٍ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ لِرَجُلٍ: لَا مِتَّ حَتَّى تُدْرِكَ فَتَى
ثَقِيفٍ. قِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا فَتَى ثَقِيفٍ؟ قَالَ:
لَيُقَالَنَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: اكْفِنَا زَاوِيَةً مِنْ زَوَايَا
جَهَنَّمَ. رَجُلٌ يَمْلِكُ عِشْرِينَ أَوْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ - سَنَةً، لَا
يَدَعُ لِلَّهِ مَعْصِيَةً إِلَّا ارْتَكَبَهَا، حَتَّى لَوْ لَمْ يَبْقَ إِلَّا
مَعْصِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بَابٌ مُغْلَقٌ لَكَسَرَهُ
حَتَّى يَرْتَكِبَهَا، يَقْتُلُ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا، ثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى السَّدِّيُّ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ
الْأَجْلَحِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ عُمَرَ بْنِ سِنَانٍ
الْجَدَلِيَّةِ قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى عَلِيٍّ
فَرَدَّهُ قُنْبُرٌ فَأَدْمَى أَنْفَهُ، فَخَرَجَ عَلِيٌّ فَقَالَ: مَا لَكَ
وَلَهُ يَا أَشْعَثُ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَوْ بِعَبْدِ ثَقِيفٍ
تَمَرَّسْتَ
لَاقْشَعَرَّتْ شُعَيْرَاتُ اسْتِكَ. قِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
وَمَنْ عَبْدُ ثَقِيفٍ؟ قَالَ: غُلَامٌ يَلِيهِمْ لَا يُبْقِي أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ
الْعَرَبِ إِلَّا أَلْبَسَهُمْ ذُلًّا. قِيلَ: كَمْ يَمْلِكُ؟ قَالَ: عِشْرِينَ
إِنْ بَلَغَ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ، أَنْبَأَ الْحُسَيْنُ بْنُ
الْحَسَنِ بْنِ أَيُّوبَ، ثَنَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ يُوسُفَ التِّنِّيسِيُّ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ يَحْيَى الْغَسَّانِيُّ قَالَ:
قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَوْ جَاءَتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِخَبِيثِهَا
وَجِئْنَا بِالْحَجَّاجِ لَغَلَبْنَاهُمْ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ،
عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النُّجُودِ أَنَّهُ قَالَ: مَا بَقِيَتْ لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ حُرْمَةٌ إِلَّا وَقَدِ ارْتَكَبَهَا الْحَجَّاجُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ:إِنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا، وَقَدْ
ذَكَرْنَا شَأْنَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، وَهُوَ الْكَذَّابُ
الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ كَانَ يُظْهِرُ الرَّفْضَ أَوَّلًا،
وَيُبْطِنُ الْكُفْرَ الْمَحْضَ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَهُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ
يُوسُفَ هَذَا، وَقَدْ كَانَ نَاصِبِيًّا يُبْغِضُ عَلِيًّا وَشِيعَتَهُ فِي هَوَى
آلِ مَرْوَانَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا مِقْدَامًا عَلَى
سَفْكِ الدِّمَاءِ بِأَدْنَى شُبْهَةٍ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَلْفَاظٌ بَشِعَةٌ شَنِيعَةٌ ظَاهِرُهَا الْكُفْرُ كَمَا
قَدَّمْنَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَابَ مِنْهَا وَأَقْلَعَ عَنْهَا، وَإِلَّا فَهُوَ
بَاقٍ فِي عُهْدَتِهَا، وَلَكِنْ قَدْ يُخْشَى أَنَّهَا رُوِيَتْ عَنْهُ بِنَوْعٍ
مِنْ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ; فَإِنَّ الشِّيعَةَ كَانُوا
يُبْغِضُونَهُ
جِدًّا لِوُجُوهٍ، وَرُبَّمَا حَرَّفُوا عَلَيْهِ بَعْضَ الْكَلِمِ، وَزَادُوا
فِيمَا يَحْكُونَهُ عَنْهُ بَشَاعَاتٍ وَشَنَاعَاتٍ.
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَتَدَيَّنُ بِتَرْكِ الْمُسْكِرِ،
وَكَانَ يُكْثِرُ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ، وَيَتَجَنَّبُ الْمَحَارِمَ، وَلَمْ
يَشْتَهِرْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ التَّلَطُّخِ بِالْفُرُوجِ، وَإِنْ كَانَ
مُتَسَرِّعًا فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ. فَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَسَائِرِهَا، وَخَفِيَّاتِ الصُّدُورِ وَضَمَائِرِهَا.
وَقَالَ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجُرَيْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
طَرَارَا الْبَغْدَادِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْأَنْبَارِيُّ،
ثَنَا أَبِي، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ، ثَنَا عَوَانَةُ بْنُ الْحَكَمِ الْكَلْبِيُّ، قَالَ:
دَخَلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، فَلَمَّا وَقَفَ
بَيْنَ يَدَيْهِ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: إِيهٍ إِيهٍ يَا أُنَيْسُ، يَوْمٌ
لَكَ مَعَ عَلِيٍّ، وَيَوْمٌ لَكَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَيَوْمٌ لَكَ مَعَ
ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَاللَّهِ لَأَسْتَأْصِلَنَّكَ كَمَا تُسْتَأْصَلُ
الشَّأْفَةُ، وَلَأَدْمَغَنَّكَ كَمَا تُدْمَغُ الصَّمْغَةُ. فَقَالَ أَنَسٌ:
إِيَّايَ يَعْنِي الْأَمِيرُ أَصْلَحَهُ اللَّهُ؟ قَالَ: إِيَّاكَ، سَكَّ اللَّهُ
سَمْعَكَ. قَالَ أَنَسٌ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاللَّهِ
لَوْلَا الصِّبْيَةُ الصِّغَارُ مَا بَالَيْتُ
أَيَّ
قِتْلَةٍ قُتِلْتُ، وَلَا أَيَّ مِيتَةٍ مِتُّ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ
الْحَجَّاجِ فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُخْبِرُهُ بِمَا
قَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ، فَلَمَّا قَرَأَ عَبْدُ الْمَلِكِ كِتَابَ أَنَسٍ
اسْتَشَاطَ غَضَبًا، وَصَفَّقَ عَجَبًا، وَتَعَاظَمَ ذَلِكَ مِنَ الْحَجَّاجِ،
وَكَانَ كِتَابُ أَنَسٍ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، مِنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَمَّا بَعْدُ; فَإِنَّ
الْحَجَّاجَ قَالَ لِي هُجْرًا، وَأَسْمَعَنِي نُكْرًا، وَلَمْ أَكُنْ لِذَلِكَ
أَهْلًا، فَخُذْ لِي عَلَى يَدَيْهِ، فَإِنِّي أَمُتُّ بِخِدْمَتِي رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصُحْبَتِي إِيَّاهُ، وَالسَّلَامُ
عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
فَبَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
الْمُهَاجِرِ وَكَانَ مُصَادِقًا لِلْحَجَّاجِ فَقَالَ لَهُ: دُونَكَ كِتَابَيَّ
هَذَيْنِ فَخُذْهُمَا، وَارْكَبِ الْبَرِيدَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَابْدَأْ بِأَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَادْفَعْ كِتَابِي إِلَيْهِ، وَأَبْلِغْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: يَا
أَبَا حَمْزَةَ، قَدْ كَتَبْتُ إِلَى الْحَجَّاجِ الْمَلْعُونِ كِتَابًا، إِذَا
قَرَأَهُ كَانَ أَطْوَعَ لَكَ مِنْ أَمَتِكَ. وَكَانَ كِتَابُ عَبْدِ الْمَلِكِ
إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ،
إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ خَادِمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَمَّا بَعْدُ; فَقَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ، وَفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ
مِنْ شِكَايَتِكَ الْحَجَّاجَ، وَمَا سَلَّطْتُهُ عَلَيْكَ، وَلَا أَمَرْتُهُ
بِالْإِسَاءَةِ إِلَيْكَ، فَإِنْ عَادَ لِمِثْلِهَا اكْتُبْ إِلَيَّ بِذَلِكَ
أُنْزِلْ بِهِ عُقُوبَتِي، وَتَحْسُنْ لَكَ مَعُونَتِي، وَالسَّلَامُ.
فَلَمَّا قَرَأَ أَنَسٌ كِتَابَهُ وَأُخْبِرَ بِرِسَالَتِهِ قَالَ: جَزَى اللَّهُ
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِّي خَيْرًا، وَعَافَاهُ وَكَفَاهُ، وَكَافَأَهُ
بِالْجَنَّةِ، فَهَذَا كَانَ ظَنِّي بِهِ وَالرَّجَاءَ مِنْهُ.
فَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ لِأَنَسٍ:
يَا
أَبَا حَمْزَةَ، إِنَّ الْحَجَّاجَ عَامِلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ بِكَ
عَنْهُ غِنًى، وَلَا بِأَهْلِ بَيْتِكَ، وَلَوْ جُعِلَ لَكَ فِي جَامِعَةٍ ثُمَّ
دُفِعَ إِلَيْكَ لَقَدَرَ أَنْ يَضُرَّ وَيَنْفَعَ، فَقَارِبْهُ وَدَارِهِ; تَعِشْ
مَعَهُ بِخَيْرٍ وَسَلَامٍ. فَقَالَ أَنَسٌ: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ
خَرَجَ إِسْمَاعِيلُ مِنْ عِنْدِهِ فَدَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ، فَلَمَّا رَآهُ
الْحَجَّاجُ قَالَ: مَرْحَبًا بِرَجُلٍ أُحِبُّهُ وَكُنْتُ أُحِبُّ لِقَاءَهُ.
فَقَالَ إِسْمَاعِيلُ: أَنَا وَاللَّهِ كُنْتُ أُحِبُّ لِقَاءَكَ فِي غَيْرِ مَا
أَتَيْتُكَ بِهِ. فَتَغَيَّرَ لَوْنُ الْحَجَّاجِ، وَقَالَ: مَا أَتَيْتَنِي بِهِ؟
قَالَ: فَارَقْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ أَشَدُّ النَّاسِ عَلَيْكَ
غَضَبًا، وَمِنْكَ بُعْدًا. قَالَ: فَاسْتَوَى الْحَجَّاجُ جَالِسًا مَرْعُوبًا
فَرَمَى إِلَيْهِ إِسْمَاعِيلُ بِالطُّومَارِ، فَجَعَلَ الْحَجَّاجُ يَنْظُرُ
فِيهِ مَرَّةً وَيَعْرَقُ، وَيَنْظُرُ إِلَى إِسْمَاعِيلَ أُخْرَى، فَلَمَّا
نَقَضَهُ قَالَ: قُمْ بِنَا إِلَى أَبِي حَمْزَةَ نَعْتَذِرُ إِلَيْهِ
وَنَتَرَضَّاهُ. فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ: لَا تَعْجَلْ. فَقَالَ: كَيْفَ لَا
أَعْجَلُ، وَقَدْ أَتَيْتَنِي بِآبِدَةٍ؟
وَكَانَ فِي الطُّومَارِ: إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ: بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، أَمَّا بَعْدُ; فَإِنَّكَ عَبْدٌ
طَمَتْ بِكَ الْأُمُورُ فَسَمَوْتَ فِيهَا، وَعَدَوْتَ طَوْرَكَ، وَجَاوَزْتَ
قَدْرَكَ، وَرَكِبْتَ دَاهِيَةً إِدًّا، وَأَرَدْتَ أَنْ تَبُورَنِي، فَإِنْ
سَوَّغْتُكَهَا مَضَيْتَ قُدُمًا، وَإِنْ لَمْ أُسَوِّغْهَا
رَجَعْتَ
الْقَهْقَرَى، فَلَعَنَكَ اللَّهُ عَبْدًا أَخْفَشَ الْعَيْنَيْنِ، مَنْقُوصَ
الْجَاعِرَتَيْنِ، أَنَسِيتَ مَكَاسِبَ آبَائِكَ بِالطَّائِفِ، وَحَفْرَهُمُ
الْآبَارَ، وَنَقْلَهُمُ الصُّخُورَ عَلَى ظُهُورِهِمْ فِي الْمَنَاهِلِ؟ يَا
ابْنَ الْمُسْتَفْرِمَةِ بِعُجْمِ الزَّبِيبِ، وَاللَّهِ لَأَغْمِزَنَّكَ غَمْزَ
اللَّيْثِ الثَّعْلَبَ، وَالصَّقْرَ الْأَرْنَبَ، وَثَبْتَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا،
فَلَمْ تَقْبَلْ لَهُ إِحْسَانَهُ، وَلَمْ تَجَاوَزْ لَهُ إِسَاءَتَهُ، جُرْأَةً
مِنْكَ عَلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَاسْتِخْفَافًا مِنْكَ بِالْعَهْدِ،
وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى رَأَتْ رَجُلًا خَدَمَ عُزَيْرَ
بْنَ عِزْرَا وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ لَعَظَّمَتْهُ وَشَرَّفَتْهُ
وَأَكْرَمَتْهُ، فَكَيْفَ وَهَذَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَ سِنِينَ، يُطْلِعُهُ عَلَى سِرِّهِ،
وَيُشَاوِرُهُ فِي أَمْرِهِ، ثُمَّ هُوَ مَعَ هَذَا بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا
أَصْحَابِهِ، فَإِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي هَذَا فَكُنْ أَطْوَعَ لَهُ مِنْ خُفِّهِ
وَنَعْلِهِ، وَإِلَّا أَتَاكَ مِنِّي سَهْمٌ مُثْكَلٌ بِحَتْفٍ قَاضٍ، وَلِكُلِّ
نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ ابْنُ طَرَارَا عَلَى مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنَ
الْغَرِيبِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ،
عَنِ الزُّبَيْرِ يَعْنِي ابْنَ عَدِيٍّ قَالَ:شَكَوْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ مَا نَلْقَى مِنَ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: اصْبِرُوا; فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي
عَلَيْكُمْ عَامٌ أَوْ يَوْمٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى
تَلْقَوْا رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ،
عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ أَنَسٍ،
قَالَ: لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ
الْحَدِيثَ. قُلْتُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَرْوِي هَذَا الْحَدِيثَ بِالْمَعْنَى
فَيَقُولُ: كُلُّ عَامٍ تَرْذُلُونَ. وَهَذَا اللَّفْظُ لَا أَصْلَ لَهُ،
وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ قَالَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُصَلُّونَ فِيهِ عَلَى
الْحَجَّاجِ. وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
أَبِي السَّفْرِ قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَاللَّهِ لَئِنْ بَقِيتُمْ
لَتَمَنَّوُنَّ الْحَجَّاجَ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قِيلَ لِلْحَسَنِ: إِنَّكَ
تَقُولُ: الْآخِرُ شَرٌّ مِنَ الْأَوَّلِ. وَهَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
بَعْدَ الْحَجَّاجِ. فَقَالَ الْحَسَنُ: لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ تَنْفِيسَاتٍ.
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ بَعَثَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْحَسَنِ وَقَدْ
هَمَّ بِهِ، فَلَمَّا قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: يَا حَجَّاجُ، كَمْ بَيْنَكَ
وَبَيْنَ آدَمَ مِنْ أَبٍ؟ قَالَ: كَثِيرٌ. قَالَ: فَأَيْنَ
هُمْ
؟ قَالَ: مَاتُوا. قَالَ: فَنَكَّسَ الْحَجَّاجُ رَأْسَهُ، وَخَرَجَ الْحَسَنُ.
وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: إِنَّ الْحَجَّاجَ أَرَادَ قَتْلَ الْحَسَنِ
مِرَارًا، فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهُ. وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ مَعَهُ مُنَاظَرَاتٍ،
عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَرَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِ، وَكَانَ
يَنْهَى أَصْحَابَ ابْنِ الْأَشْعَثِ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا خَرَجَ مَعَهُمْ
مُكْرَهًا، كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ نِقْمَةٌ،
فَلَا تُقَابَلُ نِقْمَةُ اللَّهِ بِالسَّيْفِ، وَعَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ وَالسَّكِينَةِ
وَالتَّضَرُّعِ.
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْخَضِرِ، عَنِ ابْنِ عَائِشَةَ
قَالَ: أُتِيَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِرَجُلٍ مِنَ الْخَوَارِجِ،
فَقِيلَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ فَأَثْنَى خَيْرًا، قَالَ:
فَعُثْمَانَ؟ فَأَثْنَى خَيْرًا، حَتَّى قِيلَ لَهُ: فَمَا تَقُولُ فِي عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ؟ فَقَالَ: الْآنَ جَاءَتِ الْمَسْأَلَةُ، مَا أَقُولُ
فِي رَجُلٍ الْحَجَّاجُ خَطِيئَةٌ مِنْ خَطَايَاهُ؟
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِيِّ، قَالَ: أُتِيَ
الْحَجَّاجُ بِامْرَأَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُهَا وَهِيَ لَا
تَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَلَا تَرُدُّ عَلَيْهِ كَلَامًا، فَقَالَ لَهَا بَعْضُ
الشُّرَطِ: يُكَلِّمُكِ الْأَمِيرُ وَأَنْتِ مُعْرِضَةٌ عَنْهُ؟ فَقَالَتْ: إِنِّي
لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ
إِلَيْهِ. فَأَمَرَ بِهَا فَقُتِلَتْ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ كَيْفِيَّةَ مَقْتَلِ
الْحَجَّاجِ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمَا دَارَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْكَلَامِ
وَالْمُرَاجَعَةِ.
وَقَدْ
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا أَبُو ظَفَرٍ، ثَنَا جَعْفَرُ
بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ بِسْطَامَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قِيلَ
لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: خَرَجْتَ عَلَى الْحَجَّاجِ؟ قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ
مَا خَرَجْتُ عَلَيْهِ حَتَّى كَفَرَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ بَعْدَهُ
إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا اسْمُهُ مَاهَانُ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ قَبْلَهُ خَلْقًا
كَثِيرًا، أَكْثَرُهُمْ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ.
وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ
سَلْمٍ الْبَلْخِيُّ، ثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ،
قَالَ: أَحْصَوْا مَا قَتَلَ الْحَجَّاجُ صَبْرًا فَبَلَغَ مِائَةَ أَلْفٍ
وَعِشْرِينَ أَلْفًا. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عَبَّادِ
بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ قَحْذَمٍ، قَالَ: أَطْلَقَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ أَحَدًا وَثَمَانِينَ أَلْفَ أَسِيرٍ، وَعُرِضَتِ
السُّجُونُ بَعْدَ الْحَجَّاجِ فَوَجَدُوا فِيهَا ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا،
لَمْ يَجِبْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ قَطْعٌ وَلَا صَلْبٌ، وَكَانَ فِي مَنْ حُبِسَ
أَعْرَابِيٌّ وُجِدَ يَبُولُ فِي أَصْلِ رَبَضِ مَدِينَةِ وَاسِطٍ، وَكَانَ فِي
مَنْ أُطْلِقُ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
إِذَا نَحْنُ جَاوَزْنَا مَدِينَةَ وَاسِطٍ خَرَيْنَا وَصَلَّيْنَا بِغَيْرِ حِسَابِ
وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ مَعَ هَذَا الْعُنْفِ الشَّدِيدِ لَا يَسْتَخْرِجُ مِنْ
خَرَاجِ الْعِرَاقِ كَبِيرَ أَمْرٍ. قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَإِبْرَاهِيمُ
الْحَرْبِيُّ: ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْخٍ، ثَنَا
صَالِحُ
بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَوْ تَخَابَثَتِ
الْأُمَمُ وَجِئْنَا بِالْحَجَّاجِ لَغَلَبْنَاهُمْ، وَمَا كَانَ يَصْلُحُ
لِدُنْيَا وَلَا لِآخِرَةٍ، لَقَدْ وَلِيَ الْعِرَاقَ وَهُوَ أَوْفَرُ مَا يَكُونُ
فِي الْعِمَارَةِ، فَأَخَسَّ بِهِ حَتَّى صَيَّرَهُ إِلَى أَرْبَعِينَ أَلْفَ
أَلْفٍ، وَلَقَدْ أُدِّيَ إِلَيَّ فِي عَامِي هَذَا ثَمَانُونَ أَلْفَ أَلْفٍ،
وَإِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ رَجَوْتُ أَنْ يُؤَدَّى إِلَيَّ مَا أُدِّيَ إِلَى
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ; مِائَةُ أَلْفِ أَلْفٍ وَعَشَرَةُ آلَافِ أَلْفٍ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُقْرِئِ: ثَنَا أَبُو عَرُوبَةَ، ثَنَا عَمْرُو
بْنُ عُثْمَانَ، ثَنَا أَبِي سَمِعْتُ جَدِّي قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَسْتَنُّ بِسَنَنِ
الْحَجَّاجِ فَلَا تَسْتَنَّ بِسَنَنِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الصَّلَاةَ
لِغَيْرِ وَقْتِهَا، وَيَأْخُذُ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ حَقِّهَا، وَكَانَ لِمَا
سِوَى ذَلِكَ أَضْيَعَ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَسَدٍ، ثَنَا ضَمْرَةُ،
عَنِ الرَّيَّانِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
بِآلِ أَبِي عَقِيلٍ أَهْلِ بَيْتِ الْحَجَّاجِ إِلَى صَاحِبِ الْيَمَنِ، وَكَتَبَ
إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ بَعَثْتُ بِآلِ أَبِي عَقِيلٍ وَهُمْ
شَرُّ بَيْتٍ فِي الْعَرَبِ، فَفَرِّقْهُمْ فِي الْعَمَلِ عَلَى قَدْرِ
هَوَانِهِمْ عَلَى اللَّهِ وَعَلَيْنَا، وَعَلَيْكَ السَّلَامُ. وَإِنَّمَا
نَفَاهُمْ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُخَيْمِرَةَ يَقُولُ: كَانَ
الْحَجَّاجُ يَنْقُضُ
عُرَى
الْإِسْلَامِ. وَذَكَرَ حِكَايَةً. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ
عَاصِمٍ: لَمْ يُبْقِ لِلَّهِ حُرْمَةً إِلَّا ارْتَكَبَهَا الْحَجَّاجُ بْنُ
يُوسُفَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عِيسَى الرَّمْلِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ:
اخْتَلَفُوا فِي الْحَجَّاجِ، فَسَأَلُوا مُجَاهِدًا، فَقَالَ: تَسْأَلُونِي عَنِ
الشَّيْخِ الْكَافِرِ؟
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْحَجَّاجُ مُؤْمِنٌ
بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، كَافِرٌ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. كَذَا قَالَ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ
أَبِيهِ، قَالَ: عَجَبًا لِإِخْوَانِنَا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ; يُسَمُّونَ
الْحَجَّاجَ مُؤْمِنًا ! وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ: سَمِعْتُ أَبَا
وَائِلٍ يُسْأَلُ عَنِ الْحَجَّاجِ: أَتَشْهَدُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟
قَالَ: أَتَأْمُرُونِي أَنْ أَشْهَدَ عَلَى اللَّهِ الْعَظِيمِ. وَقَالَ
الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، سَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ لَعْنِ الْحَجَّاجِ
أَوْ بَعْضِ الْجَبَابِرَةِ، فَقَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: أَلَا لَعْنَةُ
اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( هُودٍ: 18 ) ؟ وَبِهِ; قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَكَفَى
بِالرَّجُلِ عَمًى أَنْ يَعْمَى عَنْ أَمْرِ الْحَجَّاجِ.
وَقَالَ سَلَامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ: لَأَنَا لِلْحَجَّاجِ أَرْجَى مِنِّي
لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ; لَأَنَّ الْحَجَّاجَ قَتَلَ
النَّاسَ
عَلَى الدُّنْيَا، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ أَحْدَثَ لِلنَّاسِ بِدْعَةً، فَقَتَلَ
النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَالَ الزِّبْرِقَانُ: سَبَبْتُ الْحَجَّاجَ
يَوْمًا عِنْدَ أَبِي وَائِلٍ، فَقَالَ: لَا تَسُبُّهُ; لَعَلَّهُ قَالَ يَوْمًا:
اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي. فَيَرْحَمُهُ، إِيَّاكَ وَمُجَالَسَةَ مَنْ يَقُولُ:
أَرَأَيْتَ أَرَأَيْتَ. وَقَالَ عَوْفٌ: ذُكِرَ الْحَجَّاجُ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ، فَقَالَ: مِسْكِينٌ أَبُو مُحَمَّدٍ; إِنْ يُعَذِّبْهُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ فَبِذَنْبِهِ، وَإِنْ يَغْفِرْ لَهُ فَهَنِيئًا لَهُ، وَإِنْ يَلْقَ
اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، فَقَدْ أَصَابَ الذُّنُوبَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ.
فَقِيلَ لَهُ: مَا الْقَلْبُ السَّلِيمُ؟ قَالَ: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ
حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ حَقٌّ قَائِمَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي
الْقُبُورِ.
وَقَالَ أَبُو قَاسِمٍ الْبَغَوِيُّ: ثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ،
قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: اشْهَدْ عَلَى الْحَجَّاجِ وَعَلَى
أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّهُمَا فِي النَّارِ. قَالَ: لَا، إِذَا أَقَرَّا
بِالتَّوْحِيدِ. وَقَالَ الرِّيَاشِيُّ: حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الْأَزْرَقُ، عَنِ
السِّرِّيِّ بْنِ يَحْيَى قَالَ: مَرَّ الْحَجَّاجُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ فَسَمِعَ
اسْتِغَاثَةً، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ لَهُ: أَهْلُ السُّجُونِ يَقُولُونَ:
قَتَلَنَا الْحَرُّ. فَقَالَ: قُولُوا لَهُمْ: اخْسَئُوا فِيهَا
وَلَا
تُكَلِّمُونَ. قَالَ: فَمَا عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا أَقَلَّ مِنْ جُمُعَةٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُهُ وَهُوَ يَأْتِي الْجُمُعَةَ، وَقَدْ كَادَ
يَهْلِكُ مِنَ الْعِلَّةِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: لَمَّا مَرِضَ الْحَجَّاجُ
أَرْجَفَ النَّاسُ بِمَوْتِهِ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنْ طَائِفَةً مِنْ
أَهْلِ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمْ، فَقَالُوا: مَاتَ
الْحَجَّاجُ، وَمَاتَ الْحَجَّاجُ. فَمَهْ، وَهَلْ يَرْجُو الْحَجَّاجُ الْخَيْرَ
إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ؟ وَاللَّهُ مَا يَسُرُّنِي أَنْ لَا أَمُوتَ وَأَنَّ لِيَ
الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَمَا رَأَيْتُ اللَّهَ رَضِيَ التَّخْلِيدَ إِلَّا
لِأَهْوَنِ خَلْقِهِ عَلَيْهِ إِبْلِيسَ، قَالَ اللَّهُ لَهُ: إِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ [ الْأَعْرَافِ: 15 ]. فَأَنْظَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ،
وَلَقَدْ دَعَا اللَّهُ الْعَبْدَ الصَّالِحَ، فَقَالَ: وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ ص: 35 ]. فَأَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا
الْبَقَاءَ، فَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ أَيُّهَا الرَّجُلُ، وَكُلُّكُمْ ذَلِكَ
الرَّجُلُ، كَأَنِّي وَاللَّهِ بِكُلِّ حَيٍّ مِنْكُمْ مَيِّتًا، وَبِكُلِّ رَطْبٍ
يَابِسًا، ثُمَّ نُقِلَ فِي ثِيَابِ أَكْفَانِهِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ طُولًا
فِي ذِرَاعٍ عَرْضًا، فَأَكَلَتِ الْأَرْضُ لَحْمَهُ، وَمَصَّتْ صَدِيدَهُ،
وَانْصَرَفَ الْحَبِيبُ مِنْ وَلَدِهِ يَقْسِمُ الْحَبِيبَ مِنْ مَالِهِ، إِنَّ
الَّذِينَ يَعْقِلُونَ يَعْقِلُونَ مَا أَقُولُ. ثُمَّ نَزَلَ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى الْغَسَّانِيُّ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَالَ:
مَا حَسَدْتُ الْحَجَّاجَ عَدُوَّ اللَّهِ عَلَى شَيْءٍ
حَسَدِي
إِيَّاهُ عَلَى حُبِّهِ الْقُرْآنَ وَإِعْطَائِهِ أَهْلَهُ، وَقَوْلِهِ حِينَ
حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، فَإِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ
أَنَّكَ لَا تَفْعَلُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: كَانَ
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يُبْغِضُ الْحَجَّاجَ، فَنَفَسَ عَلَيْهِ
بِكَلِمَةٍ قَالَهَا عِنْدَ الْمَوْتِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي فَإِنَّهُمْ
زَعَمُوا أَنَّكَ لَا تَفْعَلُ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ،
قَالَ: قِيلَ لِلْحَسَنِ: إِنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ عِنْدَ الْمَوْتِ كَذَا وَكَذَا
قَالَ: أَقَالَهَا؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: عَسَى. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ
الْمُبَرِّدُ، عَنِ الرِّيَاشِيِّ، عَنِ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتِ
الْحَجَّاجَ الْوَفَاةُ أَنْشَأَ يَقُولُ:
يَا رَبِّ قَدْ حَلَفَ الْأَعْدَاءُ وَاجْتَهَدُوا بِأَنَّنِي رَجُلٌ مِنْ
سَاكِنِي النَّارِ
أَيَحْلِفُونَ عَلَى عَمْيَاءَ وَيْحَهُمُ مَا عِلْمُهُمْ بِعَظِيمِ الْعَفْوِ
غَفَّارِ
قَالَ: فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ الْحَسَنُ فَقَالَ: تَاللَّهِ إِنْ نَجَا فَبِهِمَا.
وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ:
إِنَّ الْمَوَالِيَ إِذَا شَابَتْ عَبِيدُهُمْ فِي رِقِّهِمْ عَتَقُوهُمْ عِتْقَ
أَبْرَارِ
وَأَنْتَ يَا خَالِقِي أَوْلَى بِذَا كَرَمًا قَدْ شِبْتُ فِي الرِّقِّ
فَاعْتِقْنِي مِنَ النَّارِ
وَقَالَ
ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ، قَالَ:
لَمَّا مَاتَ الْحَجَّاجُ لَمْ يُعْلَمْ بِمَوْتِهِ حَتَّى أَشْرَفَتْ جَارِيَةٌ
فَبَكَتْ، فَقَالَتْ: أَلَا إِنَّ مُطْعِمَ الطَّعَامِ وَمُفَلِّقَ الْهَامِ،
وَسَيِّدَ أَهْلِ الشَّامِ قَدْ مَاتَ، ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ:
الْيَوْمَ يَرْحَمُنَا مَنْ كَانَ يَغْبِطُنَا وَالْيَوْمَ يَأْمَنُنَا مَنْ كَانَ
يَخْشَانَا
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ
أَنَّهُ أُخْبِرَ بِمَوْتِ الْحَجَّاجِ مِرَارًا، فَلَمَّا تَحَقَّقَ وَفَاتَهُ
قَالَ: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ ( الْأَنْعَامِ: 45 ).
وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْحَسَنَ لَمَّا بُشِّرَ بِمَوْتِ الْحَجَّاجِ
سَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ مُخْتَفِيًا فَظَهَرَ، وَقَالَ:
اللَّهُمَّ أَمَتَّهُ فَأَذْهِبْ عَنَّا سُنَّتَهُ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي
سُلَيْمَانَ: لَمَّا أَخْبَرْتُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ بِمَوْتِ الْحَجَّاجِ
بَكَى مِنَ الْفَرَحِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا
سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْخٍ، ثَنَا صَالِحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: قَالَ
زِيَادُ بْنُ الرَّبِيعِ الْحَارِثِيُّ لِأَهْلِ السِّجْنِ: يَمُوتُ الْحَجَّاجُ
فِي مَرَضِهِ هَذَا فِي لَيْلَةِ كَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ
اللَّيْلَةُ لَمْ يَنَمْ أَهْلُ السِّجْنِ فَرَحًا، جَلَسُوا يَنْتَظِرُونَ حَتَّى
سَمِعُوا الْوَاعِيَةَ، وَذَلِكَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ
رَمَضَانَ، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ. وَقِيلَ: فِي
شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ.
وَكَانَ عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ خَمْسًا وَخَمْسِينَ سَنَةً; لِأَنَّ مَوْلِدَهُ
كَانَ عَامَ الْجَمَاعَةِ سَنَةَ أَرْبَعِينَ. وَقِيلَ: بَعْدَهَا بِسَنَةٍ.
وَقِيلَ: قَبْلَهَا بِسَنَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَاتَ بِوَاسِطٍ، وَعُفِيَ قَبْرُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ الْمَاءُ لِكَيْلَا
يُنْبَشَ وَيُحْرَقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: مَا كَانَ أَعْجَبَ الْحَجَّاجَ، مَا تَرَكَ إِلَّا
ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
قَرِيبٍ، ثَنَا عَمِّي قَالَ: زَعَمُوا أَنَّ الْحَجَّاجَ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ
إِلَّا ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَمُصْحَفًا، وَسَيْفًا، وَسَرْجًا، وَرَحْلًا،
وَمِائَةَ دِرْعٍ مَوْقُوفَةٍ. وَقَالَ شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ: حَدَّثَنِي عَمِّي
يَزِيدُ بْنُ حَوْشَبٍ قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ
فَقَالَ: حَدِّثْنِي بِوَصِيَّةِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ. فَقُلْتُ: اعْفِنِي
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: حَدِّثْنِي بِهَا. فَقُلْتُ: بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ،
أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ،
وَأَنْ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ إِلَّا طَاعَةَ
الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَيْهَا يَحْيَا، وَعَلَيْهَا يَمُوتُ،
وَعَلَيْهَا يُبْعَثُ، وَأَوْصَى بِتِسْعِمِائَةِ دِرْعٍ حَدِيدٍ; سِتِّمِائَةٍ
مِنْهَا لِمُنَافِقِي أَهْلِ الْعِرَاقِ يَغْزُونَ بِهَا، وَثَلَاثِمِائَةٍ
لِلتُّرْكِ. قَالَ: فَرَفَعَ أَبُو جَعْفَرٍ رَأْسَهُ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ
الطُّوسِيِّ وَكَانَ قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ فَقَالَ: هَذِهِ وَاللَّهِ
الشِّيعَةُ لَا شِيعَتُكُمْ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ الْحَجَّاجَ فِي الْمَنَامِ
فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: قَتَلَنِي بِكُلِّ قَتْلَةٍ قَتَلْتُ
بِهَا إِنْسَانًا. قَالَ: ثُمَّ رَأَيْتُهُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَقُلْتُ:
يَا
أَبَا مُحَمَّدٍ، مَا صَنَعَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: يَا مَاصَّ بَظْرِ أُمِّهِ،
أَمَا سَأَلْتَ عَنْ هَذَا عَامَ أَوَّلَ؟ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ كُنْتُ
عِنْدَ الرَّشِيدِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، رَأَيْتُ الْحَجَّاجَ الْبَارِحَةَ فِي النَّوْمِ، قَالَ: فِي
أَيِّ زِيٍّ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: فِي زِيٍّ قَبِيحٍ. فَقُلْتُ لَهُ: مَا فَعَلَ
اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: مَا أَنْتَ وَذَاكَ يَا مَاصَّ بَظْرِ أُمِّهِ؟ فَقَالَ
هَارُونُ: صَدَقْتَ وَاللَّهِ، أَنْتَ رَأَيْتَ الْحَجَّاجَ حَقًّا، مَا كَانَ
أَبُو مُحَمَّدٍ لِيَدَعَ صَرَامَتَهُ حَيًّا وَمَيِّتًا.
وَقَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ: ثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، ثَنَا ضَمْرَةُ،
ثَنَا ابْنُ شَوْذَبٍ، عَنْ أَشْعَثَ الْحُدَّانِيِّ. قَالَ: رَأَيْتُ الْحَجَّاجَ
فِي الْمَنَامِ فِي حَالَةٍ سَيِّئَةٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ مَا صَنَعَ
بِكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: مَا قَتَلْتُ أَحَدًا قِتْلَةً إِلَّا قَتَلَنِي بِهَا. فَقُلْتُ:
ثُمَّ مَهْ. قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ بِي إِلَى النَّارِ. قُلْتُ: ثُمَّ مَهْ. قَالَ:
ثُمَّ أَرْجُو مَا يَرْجُو أَهْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: وَكَانَ
ابْنُ سِيرِينَ يَقُولُ: إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ الْحَسَنَ
فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَيُخْلِفَنَّ اللَّهُ رَجَاءَهُ فِيهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ
الدَّارَانِيَّ يَقُولُ: كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَا يَجْلِسُ مَجْلِسًا
إِلَّا ذَكَرَ فِيهِ الْحَجَّاجَ فَدَعَا عَلَيْهِ، قَالَ: فَرَآهُ
فِي
مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الْحَجَّاجُ؟ قَالَ: أَنَا الْحَجَّاجُ. قَالَ:
مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: قُتِلْتُ بِكُلِّ قَتِيلٍ قَتَلْتُهُ، ثُمَّ
عُزِلْتُ مَعَ الْمُوَحِّدِينَ. قَالَ: فَأَمْسَكَ الْحَسَنُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ
شَتْمِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ
قَالَ: كُنَّا إِذَا حَضَرْنَا جِنَازَةً، أَوْ سَمِعْنَا بِمَيِّتٍ عُرِفَ ذَلِكَ
فِينَا أَيَّامًا; لِأَنَّا قَدْ عَرَفْنَا أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ أَمْرٌ صَيَّرَهُ
إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ، وَإِنَّكُمْ فِي جَنَائِزِكُمْ
تَتَحَدَّثُونَ بِأَحَادِيثَ دُنْيَاكُمْ. وَقَالَ: لَا يَسْتَقِيمُ رَأْيٌ إِلَّا
بِرِوَايَةٍ، وَلَا رِوَايَةٌ إِلَّا بِرَأْيٍ.
وَقَالَ: إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَتَهَاوَنُ بِالتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى
فَاغْسِلْ يَدَيْكَ مِنْ فَلَاحِهِ.
وَقَالَ إِنِّي لَأَرَى الشَّيْءَ مِمَّا يُعَابُ فَلَا يَمْنَعُنِي مِنْ عَيْبِهِ
إِلَّا مَخَافَةُ أَنْ أُبْتَلَى بِهِ. وَبَكَى عِنْدَ مَوْتِهِ فَقِيلَ لَهُ: مَا
يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: انْتِظَارُ مَلَكِ الْمَوْتِ، مَا أَدْرِي يُبَشِّرُنِي
بِجَنَّةٍ، أَوْ بِنَارٍ.
الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ
كُنْيَتُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ، كَانَ الْمُقَدَّمَ عَلَى إِخْوَتِهِ فِي الْفَضْلِ،
وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالِاخْتِلَافِ وَالْفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ، وَكَانَ
مِنْ
ظُرَفَاءِ
بَنِي هَاشِمٍ وَعُقَلَائِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَقِبٌ. قَالَ أَيُّوبُ
السِّخْتِيَانِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْإِرْجَاءِ.
وَكَتَبَ فِي ذَلِكَ رِسَالَةً ثُمَّ نَدِمَ عَلَيْهَا.
وَقَالَ غَيْرُهُمْ: كَانَ يَتَوَقَّفُ فِي عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ،
وَالزُّبَيْرِ، فَلَا يَتَوَلَّاهُمْ، وَلَا يَذُمُّهُمْ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ
أَبَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ ضَرَبَهُ فَشَجَّهُ، وَقَالَ: وَيْحَكَ،
أَلَا تَتَوَلَّى أَبَاكَ عَلِيًّا؟
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ.
وَقَالَ خَلِيفَةُ: تُوُفِّيَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ
وَأُمُّهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَهِيَ أُخْتُ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لِأُمِّهِ، وَكَانَ حُمَيْدٌ فَقِيهًا نَبِيلًا عَالِمًا،
لَهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ.
مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ
تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ.
وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ لَهُمْ تَرَاجِمُ فِي كِتَابِ " التَّكْمِيلِ ".
وَفِيهَا
كَانَ مَوْتُ الْحَجَّاجِ بِوَاسِطٍ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ مَبْسُوطًا
مُسْتَقْصًى، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ
الْمَدَائِنِيِّ، وَجَمَاعَةٍ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ كَانَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَتِسْعِينَ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ
وَفِيهَا فَتَحَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، كَاشْغَرَ
مِنْ أَرْضِ الصِّينِ، وَبَعَثَ إِلَى مَلِكِ الصِّينِ رُسُلًا يَتَهَدَّدُهُ
وَيَتَوَعَّدُهُ، وَيُقْسِمُ بِاللَّهِ لَا يَرْجِعُ حَتَّى يَطَأَ بِلَادَهُ،
وَيَخْتِمَ مُلُوكَهُمْ وَأَشْرَافَهُمْ، وَيَأْخُذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ، أَوْ
يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، فَدَخَلَ الرُّسُلُ عَلَى الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ
فِيهَا وَهُوَ فِي مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ يُقَالُ: إِنَّ عَلَيْهَا تِسْعِينَ بَابًا
فِي سُورِهَا الْمُحِيطِ بِهَا يُقَالُ لَهَا: خَانُ بَالِقَ. مِنْ أَعْظَمِ
الْمُدُنِ، وَأَكْثَرِهَا رَيْعًا، وَمُعَامَلَاتٍ وَأَمْوَالًا، حَتَّى قِيلَ:
إِنَّ بِلَادَ الْهِنْدِ مَعَ اتِّسَاعِهَا كَالشَّامَةِ فِي مُلْكِ الصِّينِ.
وَالصِّينُ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى أَنْ يُسَافِرُوا فِي مُلْكِ غَيْرِهِمْ;
لِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ وَمَتَاعِهِمْ، وَغَيْرُهُمْ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمْ;
لِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَتَاعِ وَالدُّنْيَا الْمُتَّسِعَةِ، وَسَائِرُ مُلُوكِ
تِلْكَ الْبِلَادِ تُؤَدِّي إِلَى مَلِكِ الصِّينَ الْخَرَاجَ; لِقَهْرِهِ
وَكَثْرَةِ جُنْدِهِ وَعُدَدِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الرُّسُلَ لَمَّا دَخَلُوا عَلَى مَلِكِ الصِّينِ وَجَدُوا
مَمْلَكَةً عَظِيمَةً، وَجُنْدًا كَثِيرًا، وَمَدِينَةً حَصِينَةً ذَاتَ أَنْهَارٍ
وَأَسْوَاقٍ، وَحُسْنٍ وَبَهَاءٍ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فِي قَلْعَةٍ عَظِيمَةٍ
حَصِينَةٍ، بِقَدْرِ مَدِينَةٍ كَبِيرَةٍ، فَقَالَ لَهُمْ مَلِكُ الصِّينِ: مَا
أَنْتُمْ؟ وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ رَسُولٍ عَلَيْهِمْ هُبَيْرَةُ فَقَالَ
الْمَلِكُ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ: مَا أَنْتُمْ وَمَا تُرِيدُونَ؟
فَقَالُوا: نَحْنُ رُسُلُ قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ يَدْعُوكَ إِلَى
الْإِسْلَامِ، فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلْ
فَالْجِزْيَةُ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَالْحَرْبُ. فَغَضِبَ الْمَلِكُ، وَأَمَرَ
بِهِمْ إِلَى دَارٍ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ دَعَاهُمْ فَقَالَ لَهُمْ: كَيْفَ
تَكُونُونَ فِي عِبَادَةِ إِلَهِكُمْ؟ فَصَلَّوُا الصَّلَاةَ عَلَى عَادَتِهِمْ،
فَلَمَّا رَكَعُوا وَسَجَدُوا ضَحِكَ مِنْهُمْ، فَقَالَ: كَيْفَ تَكُونُونَ فِي بُيُوتِكُمْ؟
فَلَبِسُوا ثِيَابَ مِهَنِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ. فَلَمَّا كَانَ
مِنَ الْغَدِ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: كَيْفَ تَدْخُلُونَ عَلَى
مُلُوكِكُمْ؟ فَلَبِسُوا الْوَشْيَ وَالْعَمَائِمَ وَالْمَطَارِفَ، وَدَخَلُوا
عَلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُمْ: ارْجِعُوا. فَرَجَعُوا فَقَالَ الْمَلِكُ
لِأَصْحَابِهِ: كَيْفَ رَأَيْتُمْ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالُوا: هَذِهِ أَشْبَهُ
بِهَيْئَةِ الرِّجَالِ مِنْ تِلْكَ الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَهُمْ أُولَئِكَ.
فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ:
كَيْفَ تَلْقَوْنَ عَدُوَّكُمْ ؟ فَشَدُّوا عَلَيْهِمْ سِلَاحَهُمْ وَلَبِسُوا
الْمَغَافِرَ وَالْبَيْضَ، وَتَقَلَّدُوا السُّيُوفَ، وَتَنْكَبُّوا الْقِسِيَّ،
وَأَخَذُوا الرِّمَاحَ، وَرَكِبُوا خُيُولَهُمْ وَمَضَوْا، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ
مَلِكُالصِّينِ فَرَأَى أَمْثَالَ الْجِبَالِ مُقْبِلَةً، فَلَمَّا قَرُبُوا
مِنْهُ رَكَزُوا رِمَاحَهُمْ، ثُمَّ أَقْبَلُوا نَحْوَهُ مُشَمِّرِينَ، فَقِيلَ
لَهُمْ: ارْجِعُوا وَذَلِكَ لِمَا دَخَلَ قُلُوبَ أَهْلِ الصِّينِ مِنَ الْخَوْفِ
مِنْهُمْ فَانْصَرَفُوا فَرَكِبُوا خُيُولَهُمْ، وَاخْتَلَجُوا رِمَاحَهُمْ، ثُمَّ
سَاقُوا خُيُولَهُمْ، كَأَنَّهُمْ يَتَطَارَدُونَ بِهَا، فَقَالَ الْمَلِكُ
لِأَصْحَابِهِ: كَيْفَ تَرَوْنَهُمْ ؟ فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هَؤُلَاءِ
قَطُّ.
فَلَمَّا أَمْسَوْا بَعَثَ إِلَيْهِمُ الْمَلِكُ; أَنِ ابْعَثُوا إِلَيَّ
زَعِيمَكُمْ وَأَفْضَلَكُمْ. فَبَعَثُوا إِلَيْهِ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ لَهُ
الْمَلِكُ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ: قَدْ رَأَيْتُمْ عِظَمَ مُلْكِي، وَلَيْسَ
أَحَدٌ يَمْنَعُكُمْ مِنِّي وَأَنْتُمْ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْضَةِ فِي كَفِّي،
وَأَنَا سَائِلُكُ عَنْ أَمْرٍ فَإِنْ لَمْ تَصْدُقْنِي قَتَلْتُكَ. فَقَالَ:
سَلْ. فَقَالَ الْمَلِكُ: لِمَ صَنَعْتُمْ مَا صَنَعْتُمْ مِنْ زِيٍّ أَوَّلَ
يَوْمٍ وَالثَّانِيَ وَالثَّالِثَ؟ فَقَالَ: أَمَّا زِيُّنَا أَوَّلَ يَوْمٍ
فَهُوَ لِبَاسُنَا فِي أَهْلِنَا وَنِسَائِنَا، وَطِيبُنَا عِنْدَهُمْ،
وَأَمَّا
مَا فَعَلْنَا ثَانِيَ يَوْمٍ فَهُوَ زِيُّنَا إِذَا دَخَلْنَا عَلَى مُلُوكِنَا،
وَأَمَّا زِيُّنَا ثَالِثَ يَوْمٍ فَهُوَ إِذَا لَقِينَا عَدُوَّنَا، فَقَالَ
الْمَلِكُ: مَا أَحْسَنَ مَا دَبَّرْتُمْ دَهْرَكُمْ! انْصَرِفُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ
يَعْنِي قُتَيْبَةَ وَقُولُوا لَهُ: يَنْصَرِفُ رَاجِعًا عَنْ بِلَادِي; فَإِنِّي
قَدْ عَرَفْتُ حِرْصَهُ وَقِلَّةَ أَصْحَابِهِ، وَإِلَّا بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ مَنْ
يُهْلِكُكُمْ عَنْ آخِرِكُمْ. فَقَالَ لَهُ هُبَيْرَةُ: تَقُولُ لِقُتَيْبَةَ
هَذَا؟ فَكَيْفَ يَكُونُ قَلِيلَ الْأَصْحَابِ مَنْ أَوَّلُ خَيْلِهِ فِي
بِلَادِكَ وَآخِرُهَا فِي مَنَابِتِ الزَّيْتُونِ؟! وَكَيْفَ يَكُونُ حَرِيصًا
مَنْ خَلَّفَ الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَيْهَا، وَغَزَاكَ فِي بِلَادِكَ؟! وَأَمَّا
تَخْوِيفُكَ إِيَّانَا بِالْقَتْلِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ لَنَا أَجَلًا إِذَا
حَضَرَ، فَأَكْرَمُهَا عِنْدَنَا الْقَتْلُ فَلَسْنَا نَكْرَهُهُ وَلَا نَخَافُهُ.
فَقَالَ الْمَلِكُ: فَمَا الَّذِي يُرْضِي صَاحِبَكُمْ؟ فَقَالَ: قَدْ حَلَفَ
أَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَطَأَ أَرْضَكَ، وَيَخْتِمَ مُلُوكَكَ، وَيَجْبِيَ
الْجِزْيَةَ مِنْ بِلَادِكَ. فَقَالَ الْمَلِكُ: أَنَا أَبِرُّ يَمِينَهُ
وَأُخْرِجُهُ مِنْهَا; أُرْسِلُ إِلَيْهِ بِتُرَابٍ مِنْ أَرْضِي، وَأَرْبَعِ
غِلْمَانٍ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، وَأُرْسِلُ إِلَيْهِ ذَهَبًا كَثِيرًا،
وَحَرِيرًا وَثِيَابًا صِينِيَّةً لَا تُقَوَّمُ، وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ قَدْرَهَا،
ثُمَّ جَرَتْ لَهُمْ مَعَهُ مُقَاوَلَاتٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ شَرَعَ يَتَهَدَّدُهُمْ
فَتَهَدَّدُوهُ، وَيَتَوَعَّدَهُمْ فَتَوَعَّدُوهُ، ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى
أَنْ بَعَثَ صِحَافًا مَنْ ذَهَبٍ مُتَّسِعَةً، فِيهَا تُرَابٌ مِنْ أَرْضِهِ
لِيَطَأَهُ قُتَيْبَةُ، وَبَعَثَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ
الْمُلُوكِ لِيَخْتِمَ رِقَابَهُمْ، وَبَعَثَ بِمَالٍ جَزِيلٍ لِيَبِرَّ بِيَمِينِ
قُتَيْبَةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ بَعَثَ أَرْبَعَمِائَةٍ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ
الْمُلُوكِ.
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى قُتَيْبَةَ مَا أَرْسَلَهُ مَلِكُ الصِّينِ قَبِلَ ذَلِكَ
مِنْهُ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدِ انْتَهَى إِلَيْهِ خَبَرُ مَوْتِ
الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَانْكَسَرَتْ
هِمَّتُهُ لِذَلِكَ، وَقَدْ عَزَمَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِيُّ عَلَى
عَدَمِ مُبَايَعَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَرَادَ الدَّعْوَةَ
إِلَى نَفْسِهِ; لِمَا تَحْتَ يَدِهِ مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَلِمَا فَتَحَ مِنَ
الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ، فَلَمْ
يُمْكِنْهُ
ذَلِكَ، ثُمَّ قُتِلَ فِي آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى،
فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّهُ مَا كُسِرَتْ لَهُ رَايَةٌ. وَكَانَ مِنَ
الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاجْتَمَعَ لَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ مَا
لَمْ يَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ.
وَفِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الصَّائِفَةَ، وَغَزَا
الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ الرُّومَ، فَفَتَحَ طُولَسَ وَالْمَرْزُبَانَيْنِ
مِنْ بِلَادِ الرُّومِ.
وَفِيهَا تَكَامَلَ بِنَاءُ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ بِدِمَشْقَ عَلَى يَدِ
بَانِيهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ، جَزَاهُ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرَ الْجَزَاءِ، وَكَانَ
أَصْلُ مَوْضِعِ هَذَا الْجَامِعِ قَدِيمًا مَعْبَدًا بَنَتْهُ الْيُونَانُ
الْكُلْدَانِيُّونَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمُرُونَ دِمَشْقَ، وَهُمُ الَّذِينَ
وَضَعُوهَا وَعَمَرُوهَا أَوَّلًا; فَهُمْ أَوَّلُ مَنْ بَنَاهَا، وَقَدْ كَانُوا
يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ الْمُتَحَيِّرَةَ; وَهِيَ الْقَمَرُ فِي
السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَعُطَارِدُ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، وَالزُّهْرَةُ فِي
السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، وَالشَّمْسُ فِي الرَّابِعَةِ، وَالْمِرِّيخُ فِي
الْخَامِسَةِ، وَالْمُشْتَرِي فِي السَّادِسَةِ، وَزُحَلُ فِي السَّابِعَةِ.
وَكَانُوا قَدْ صَوَّرُوا عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ دِمَشْقَ هَيْكَلًا
لِكَوْكَبٍ مِنْ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، وَكَانَتْ أَبْوَابُ دِمَشْقَ
سَبْعَةً، وَضَعُوهَا قَصْدًا لِذَلِكَ، فَنَصَبُوا هَيَاكِلَ سَبْعَةً لِكُلِّ
كَوْكَبٍ هَيْكَلٌ، وَكَانَ لَهُمْ عِنْدَ كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ دِمَشْقَ
عِيدٌ فِي السَّنَةِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ وَضَعُوا الْأَرْصَادَ،
وَتَكَلَّمُوا عَلَى حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ وَاتِّصَالَاتِهَا وَمُقَارَنَتِهَا،
وَبَنَوْا دِمَشْقَ، وَاخْتَارُوا لَهَا هَذِهِ الْبُقْعَةَ إِلَى جَانِبِ
الْمَاءِ الْوَارِدِ مِنْ بَيْنِ هَذَيْنِ
الْجَبَلَيْنِ،
وَصَرَّفُوهُ أَنْهَارًا تَجْرِي إِلَى الْأَمَاكِنِ الْمُرْتَفِعَةِ
وَالْمُنْخَفِضَةِ، وَسَلَكُوا الْمَاءَ فِي أَفْنَاءِ أَبْنِيَةِ الدُّورِ
بِدِمَشْقَ، فَكَانَتْ دِمَشْقُ فِي أَيَّامِهِمْ مِنْ أَحْسَنِ الْمُدُنِ، بَلْ
هِيَ أَحْسَنُهَا لِمَا فِيهَا مِنَ التَّصَارِيفِ الْعَجِيبَةِ.
وَبَنَوْا هَذَا الْمَعْبَدَ وَهُوَ الْجَامِعُ الْيَوْمَ إِلَى جِهَةِ الْقُطْبِ،
وَكَانُوا يُصَلُّونَ إِلَى الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ، وَكَانَتْ مَحَارِيبُهُ
تُجَاهَ الشَّمَالِ، وَكَانَ بَابُ مَعْبَدِهِمْ يُفْتَحُ إِلَى جِهَةِ
الْقِبْلَةِ، خَلْفَ الْمِحْرَابِ الْيَوْمَ، كَمَا شَاهَدْنَا ذَلِكَ عِيَانًا،
وَرَأَيْنَا مَحَارِيبَهُمْ إِلَى جِهَةِ الْقُطْبِ، وَرَأَيْنَا الْبَابَ، وَهُوَ
بَابٌ حَسَنٌ، مَبْنِيٌّ بِحِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ، وَعَلَيْهِ كِتَابٌ
بِخَطِّهِمْ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ بَابَانِ صَغِيرَانِ بِالنِّسْبَةِ
إِلَيْهِ، وَكَانَ غَرْبِيَّ الْمَعْبَدِ قَصْرٌ مُنِيفٌ جِدًّا، تَحْمِلُهُ
هَذِهِ الْأَعْمِدَةُ الَّتِي بِبَابِ الْبَرِيدِ، وَشَرْقِيَّ الْمَعْبَدِ قَصْرُ
جَيْرُونَ الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ مَلِكَهُمْ وَكَانَ هُنَاكَ دَارَانِ
عَظِيمَتَانِ مُعَدَّتَانِ لِمَنْ يَتَمَلَّكُ دِمَشْقَ قَدِيمًا مِنْهُمْ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ مَعَ الْمَعْبَدِ ثَلَاثُ دُورٍ عَظِيمَةٍ لِلْمُلُوكِ،
وَيُحِيطُ بِهَذِهِ الدُّورِ وَالْمَعْبَدِ سُورٌ وَاحِدٌ عَالٍ مُنِيفٌ،
بِحِجَارَةٍ كِبَارٍ مَنْحُوتَةٍ; وَهُنَّ دَارُ الْمُطْبِقِ، وَدَارُ الْخَيْلِ،
وَدَارٌ كَانَتْ تَكُونُ مَكَانَ الْخَضْرَاءِ الَّتِي بَنَاهَا مُعَاوِيَةُ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِيمَا حَكَاهُ عَنْ كُتُبِ بَعْضِ
الْأَوَائِلِ: إِنَّهُمْ مَكَثُوا يَأْخُذُونَ الطَّالِعَ لِبِنَاءِ دِمَشْقَ،
وَهَذِهِ الْأَمَاكِنَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَدْ حَفَرُوا أَسَاسَ
الْجُدْرَانِ حَتَّى وَافَاهُمُ الْوَقْتُ الَّذِي طَلَعَ فِيهِ الْكَوْكَبَانِ
اللَّذَانِ أَرَادُوا أَنَّ الْمَسْجِدَ
لَا
يَخْرُبُ أَبَدًا وَلَا تَخْلُو مِنْهُ الْعِبَادَةُ، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ إِذَا
بُنِيَتْ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ دَارَ الْمَلِكِ وَالسَّلْطَنَةِ. قُلْتُ:
أَمَّا الْمَعْبَدُ فَلَمْ يَخْلُ مِنَ الْعِبَادَةِ. قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ:
لَا يَخْلُو مِنْهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ.
وَأَمَّا دَارُ الْمَلِكِ الَّتِي هِيَ الْخَضْرَاءُ فَقَدْ جَدَّدَ بِنَاءَهَا
مُعَاوِيَةُ، ثُمَّ أُحْرِقَتْ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
كَمَا سَنَذْكُرُهُ فَبَادَتْ وَصَارَتْ مَسَاكِنَ ضُعَفَاءِ النَّاسِ
وَأَرَاذِلِهِمْ فِي الْغَالِبِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْيُونَانَ اسْتَمَرُّوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي
ذَكَّرْنَاهَا بِدِمَشْقَ مُدَدًا طَوِيلَةً، تَزِيدُ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ
سَنَةٍ، حَتَّى إِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ بَنَى جُدْرَانَ هَذَا
الْمَعْبَدِ الْأَرْبَعَةَ هُودٌ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ كَانَ
هُودٌ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ.
وَقَدْ وَرَدَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، دِمَشْقَ وَنَزَلَ
شَمَالِيَّهَا عِنْدَ بَرْزَةَ، وَقَاتَلَ هُنَاكَ قَوْمًا مِنْ أَعْدَائِهِ
فَظَفِرَ بِهِمْ، وَنَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ مَقَامُهُ
لِمُقَاتَلَتِهِمْ عِنْدَ بَرْزَةَ. فَهَذَا الْمَكَانُ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ
بِهَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ يَأْثِرُونَهُ كَابِرًا
عَنْ كَابِرٍ، وَإِلَى زَمَانِنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَتْ دِمَشْقُ إِذْ ذَاكَ عَامِرَةً آهِلَةً بِمَنْ فِيهَا مِنَ الْيُونَانِ،
وَكَانُوا خَلْقًا لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ; وَهُمْ خُصَمَاءُ الْخَلِيلِ،
وَقَدْ نَاظَرَهُمْ الْخَلِيلُ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ وَالْكَوَاكِبَ
وَغَيْرَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ،
وَفِي قِصَّةِ
إِبْرَاهِيمَ
الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ كِتَابِنَا هَذَا " الْبِدَايَةِ
وَالنِّهَايَةِ "، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْيُونَانَ لَمْ يَزَالُوا يَعْمُرُونَ دِمَشْقَ
وَيَبْنُونَ فِيهَا وَفِي مُعَامَلَاتِهَا مِنْ أَرْضِ حَوْرَانَ وَالْبِقَاعِ
وَبَعْلَبَكَّ وَغَيْرِهَا الْبِنَايَاتِ الْهَائِلَةَ الْغَرِيبَةَ الْعَجِيبَةَ،
حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِمُدَّةٍ نَحْوٍ مَنْ ثَلَاثِمِائَةِ
سَنَةٍ تَنَصَّرَ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى يَدِ الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ بْنِ
قُسْطَنْطِينَ، الَّذِي بَنَى الْمَدِينَةَ الْمَشْهُورَةَ فِي بِلَادِ الرُّومِ
الَّتِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ، وَهِيَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، وَهُوَ الَّذِي وَضَعَ
لَهُمُ الْقَوَانِينَ، وَقَدْ كَانَ أَوَّلًا هُوَ وَقَوْمُهُ وَغَالِبُ أَهْلِ
الْأَرْضِ يُونَانًا، وَوَضَعَتْ لَهُ بَطَارِكَةُ النَّصَارَى دِينًا مُخْتَرَعًا
مُرَكَّبًا مِنْ أَصْلِ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ مَمْزُوجًا بِشَيْءٍ مِنْ
عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَصَلَّوْا بِهِ إِلَى الشَّرْقِ، وَزَادُوا فِي
الصِّيَامِ، وَأَحَلُّوا الْخِنْزِيرَ، وَعَلَّمُوا أَوْلَادَهُمُ الْأَمَانَةَ
الْكَبِيرَةَ فِيمَا يَزْعُمُونَ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ خِيَانَةٌ
كَبِيرَةٌ، وَجِنَايَةٌ كَثِيرَةٌ حَقِيرَةٌ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ فِي الْحَجْمِ
صَغِيرَةٌ حَقِيرَةٌ نَقِيرَةٌ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ
وَبَيَّنَّاهُ. فَبَنَى لَهُمْ هَذَا الْمَلِكُ، الَّذِي يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ
الطَّائِفَةُ الْمَلَكِيَّةُ مِنَ النَّصَارَى كَنَائِسَ كَثِيرَةً فِي دِمَشْقَ
وَفِي غَيْرِهَا، حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُ بُنِيَ فِي زَمَانِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ
أَلْفَ كَنِيسَةً، وَأُوقِفَ عَلَيْهَا أَوْقَافًا دَارَّةً، مِنْ ذَلِكَ
كَنِيسَةُ
بَيْتِ
لَحْمٍ وَقُمَامَةَ بِالْقُدْسِ، بَنَتْهَا أُمُّ هَيْلَانَةَ
الْفَنْدَقَانِيَّةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ يَعْنِي النَّصَارَى حَوَّلُوا بِنَاءَ هَذَا
الْمَعْبَدِ الَّذِي هُوَ بِدِمَشْقَ مُعَظَّمًا عِنْدَ الْيُونَانِ، فَجَعَلُوهُ
كَنِيسَةً، وَبَنَوْا لَهُ الْمَذَابِحَ فِي شَرْقِيِّهِ، وَسَمَّوْهُ كَنِيسَةَ
مَرْيُحَنَّا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: كَنِيسَةُ يُوحَنَّا. وَبَنَوْا
بِدِمَشْقَ كَنَائِسَ كَثِيرَةً غَيْرَهَا مُسْتَأْنَفَةً.
وَاسْتَمَرَّ النَّصَارَى عَلَى دِينِهِمْ هَذَا بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهَا نَحْوًا
مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ
مَا ذَكَرْنَا بَعْضَهُ فِي كِتَابِ السِّيرَةِ، مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. وَقَدْ
بَعَثَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ فِي
زَمَانِهِ وَهُوَ قَيْصَرُ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاسْمُهُ هِرَقْلُ يَدْعُوهُ إِلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ مِنْ مُرَاجَعَتِهِ وَمُخَاطَبَتِهِ إِلَى أَبِي
سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ مَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ بَعَثَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمَرَاءَهُ الثَّلَاثَةَ; زَيْدَ بْنَ
حَارِثَةَ مَوْلَاهُ، وَجَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ
رَوَاحَةَ، إِلَى الْبَلْقَاءِ مِنْ تُخُومِ الشَّامِ فَبَعَثَ الرُّومُ
إِلَيْهِمْ جَيْشًا كَثِيرًا، فَقَتَلُوا هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءَ وَجَمَاعَةً
مِمَّنْ مَعَهُمْ مِنَ الْجَيْشِ فَعَزَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى قِتَالِ الرُّومِ وَدُخُولِ الشَّامِ عَامَ تَبُوكَ، ثُمَّ رَجَعَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ عَامَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ الْحَرِّ وَضَعْفِ الْحَالِ وَضِيقِهِ
عَلَى النَّاسِ.
ثُمَّ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ الصِّدِّيقُ الْجُيُوشَ إِلَى الشَّامِ وَإِلَى الْعِرَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا هَذَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الشَّامَ بِكَمَالِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ مَدِينَةُ دِمَشْقَ بِأَعْمَالِهَا، وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ فَتْحِهَا. فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْيَدُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَيْهَا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ رَحْمَتَهُ فِيهَا، وَسَاقَ بِرَّهُ إِلَيْهَا، وَكَتَبَ أَمِيرُ الْحَرْبِ إِذْ ذَاكَ، وَهُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَقِيلَ: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ لِأَهْلِ دِمَشْقَ كِتَابَ أَمَانٍ، وَأَقَرُّوا أَيْدِيَ النَّصَارَى عَلَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ كَنِيسَةً، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ نِصْفَ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهَا كَنِيسَةَ مَرْيُحَنَّا، بِحُكْمِ أَنَّ الْبَلَدَ فَتَحَهُ خَالِدٌ مِنَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ بِالسَّيْفِ، وَأَخَذَتِ النَّصَارَى الْأَمَانَ مِنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَكَانَ عَلَى بَابِ الْجَابِيَةِ الصُّلْحُ، فَاخْتَلَفُوا، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ جَعَلُوا نِصْفَ الْبَلَدِ صُلْحًا، وَنِصْفَهُ عَنْوَةً، فَأَخَذُوا نِصْفَ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ الشَّرْقِيَّ، فَجَعَلَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ مَسْجِدًا وَكَانَ قَدْ صَارَتْ إِلَيْهِ إِمْرَةُ الشَّامِ; لِعَزْلِ عُمَرَ خَالِدًا وَتَوْلِيَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى فِي هَذَا الْمَسْجِدِ أَبُو عُبَيْدَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ الصَّحَابَةُ بَعْدَهُ فِي الْبُقْعَةِ الشَّرْقِيَّةِ مِنْهُ; الَّتِي يُقَالُ لَهَا: مِحْرَابُ الصَّحَابَةِ. وَلَكِنْ لَمْ يَكُنِ الْجِدَارُ مَفْتُوحًا بِمِحْرَابٍ مَحْنِيٍّ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ عِنْدَ هَذِهِ الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَلِيدَ هُوَ الَّذِي فَتَقَ الْمَحَارِيبَ فِي الْجِدَارِ الْقِبْلِيِّ. وَقَدْ كَرِهَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّلَاةَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَحَارِيبِ،
وَجَعَلُوهُ
مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ وَالنَّصَارَى يَدْخُلُونَ
هَذَا الْمَعْبَدَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ بَابُ الْمَعْبَدِ الْأَصْلِيُّ
الَّذِي كَانَ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، مَكَانَ الْمِحْرَابِ الْكَبِيرِ الَّذِي
فِي الْمَقْصُورَةِ الْيَوْمَ، فَيَنْصَرِفُ النَّصَارَى إِلَى جِهَةِ الْغَرْبِ
إِلَى كَنِيسَتِهِمْ، وَيَأْخُذُ الْمُسْلِمُونَ يَمْنَةً إِلَى مَسْجِدِهِمْ،
وَلَا يَسْتَطِيعُ النَّصَارَى أَنْ يَجْهَرُوا بِقِرَاءَةِ كِتَابِهِمْ، وَلَا
يَضْرِبُوا بِنَاقُوسِهِمْ; إِجْلَالًا لِلصَّحَابَةِ وَمَهَابَةً وَخَوْفًا.
وَقَدْ بَنَى مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي أَيَّامِ وِلَايَتِهِ عَلَى
الشَّامِ دَارَ الْإِمَارَةِ قِبْلِيَّ الْمَسْجِدِ الَّذِي كَانَ لِلصَّحَابَةِ،
وَبَنَى فِيهَا قُبَّةً خَضْرَاءً، فَعُرِفَتِ الدَّارُ بِكَمَالِهَا بِهَا،
فَسَكَنَهَا مُعَاوِيَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً كَمَا قَدَّمْنَا.
ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ
شَطْرَيْنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى، مِنْ سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ
إِلَى سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا، وَقَدْ صَارَتِ
الْخِلَافَةُ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا،
فَعَزَمَ الْوَلِيدُ عَلَى أَخْذِ بَقِيَّةِ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ وَإِضَافَتِهَا
إِلَى مَا بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا، وَجَعْلِ الْجَمِيعِ مَسْجِدًا
وَاحِدًا; وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ يَتَأَذَّى بِسَمَاعِ
قِرَاءَةِ النَّصَارَى لِلْإِنْجِيلِ، وَرَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ فِي صَلَوَاتِهِمْ،
فَأَحَبَّ أَنْ يُبْعِدَهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُضِيفَ ذَلِكَ
الْمَكَانَ إِلَى هَذَا، فَيُكَبِّرَ بِهِ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ، فَطَلَبَ
النَّصَارَى، وَسَأَلَ مِنْهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا لَهُ عَنْ هَذَا الْمَكَانِ،
وَيُعَوِّضَهُمْ إِقْطَاعَاتٍ كَثِيرَةً، وَعَرَضَهَا عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يُقِرَّ
لَهُمْ أَرْبَعَ كَنَائِسَ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْعَهْدِ; وَهِيَ كَنِيسَةُ مَرْيَمَ،
وَكَنِيسَةُ
الْمُصَلِّبَةِ دَاخِلَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ، وَكَنِيسَةُ تَلِّ الْجُبْنِ،
وَكَنِيسَةُ حُمَيْدِ بْنِ دُرَّةَ الَّتِي بِدَرْبِ الصَّقِيلِ، فَأَبَوْا ذَلِكَ
أَشَدَّ الْإِبَاءِ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِعَهْدِكُمْ. فَأَتَوْا بِعَهْدِهِمُ
الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ، فَقُرِئَ بِحَضْرَةِ الْوَلِيدِ،
فَإِذَا كَنِيسَةُ تُومَا الَّتِي كَانَتْ خَارِجَ بَابِ تُومَا عِنْدَ النَّهْرِ
لَمْ تَدْخُلْ فِي الْعَهْدِ، وَكَانَتْ فِيمَا يُقَالُ أَكْبَرَ مِنْ كَنِيسَةِ
مَرْيُحَنَّا، فَقَالَ الْوَلِيدُ: أَنَا أَهْدِمُهَا وَأَجْعَلُهَا مَسْجِدًا.
فَقَالُوا: بَلْ يَتْرُكُهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا ذَكَرَ مِنَ
الْكَنَائِسِ، وَنَحْنُ نَرْضَى بِأَخْذِ بَقِيَّةِ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ
فَأَقَرَّهُمْ عَلَى تِلْكَ الْكَنَائِسِ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ بَقِيَّةَ هَذِهِ
الْكَنِيسَةِ. هَذَا قَوْلٌ.
وَيُقَالُ: إِنَّ الْوَلِيدَ لَمَّا أَهَمَّهُ ذَلِكَ وَعَرَضَ مَا عَرَضَ عَلَى
النَّصَارَى فَأَبَوْا مِنْ قَبُولِهِ، دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ،
فَأَرْشَدَهُ إِلَى أَنْ يَقِيسَ مِنْ بَابِ الشَّرْقِيِّ وَمِنْ بَابِ الْجَابِيَةِ،
فَوَجَدَ مُنْتَصَفَ ذَلِكَ عِنْدَ سُوقِ الرَّيْحَانِ تَقْرِيبًا; فَإِذَا
الْكَنِيسَةُ الْمُنَازَعُ فِيهَا قَدْ دَخَلَتْ فِي الْعَنْوَةِ، فَأَخَذَهَا.
وَحُكِيَ عَنِ الْمُغِيرَةِ مَوْلَى الْوَلِيدِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْوَلِيدِ
فَوَجَدْتُهُ مَهْمُومًا، فَقُلْتُ: مَا لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
مَهْمُومًا؟ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ ضَاقَ
بِهِمُ
الْمَسْجِدُ، فَأَحْضَرْتُ النَّصَارَى وَبَذَلْتُ لَهُمُ الْأَمْوَالَ فِي
بَقِيَّةِ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ; لِأُضِيفَهَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَتَّسِعَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ فَأَبَوْا. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
عِنْدِي مَا يُزِيلُ هَمَّكَ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قُلْتُ: إِنَّ الصَّحَابَةَ
لَمَّا أَخَذُوا دِمَشْقَ دَخَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ بَابِ الشَّرْقِيِّ
بِالسَّيْفِ، فَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُ الْبَلَدِ بِذَلِكَ فَزِعُوا إِلَى أَبِي
عُبَيْدَةَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَفَتَحُوا لَهُ بَابَ
الْجَابِيَةِ، فَدَخَلَ مِنْهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِالصُّلْحِ، فَنَحْنُ
نُمَاسِحُهُمْ إِلَى أَيِّ مَوْضِعٍ بَلَغَ السَّيْفُ أَخَذْنَاهُ، وَمَا
بِالصُّلْحِ تَرَكْنَاهُ بِأَيْدِيهِمْ، وَأَرْجُو أَنْ تُدْخَلَ الْكَنِيسَةُ
كُلُّهَا فِي الْعَنْوَةِ، فَتَدْخُلَ فِي الْمَسْجِدِ. فَقَالَ الْوَلِيدُ:
فَرَّجْتَ عَنِّي، فَتَوَلَّ أَنْتَ ذَلِكَ بِنَفْسِكَ. فَتَوَلَّاهُ الْمُغِيرَةُ
وَمَسَحَ مِنَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ إِلَى نَحْوِ بَابِ الْجَابِيَةِ إِلَى سُوقِ
الرَّيْحَانِ; فَوَجَدَ السَّيْفَ لَمْ يَزَلْ عَمَّالًا حَتَّى جَاوَزَ
الْقَنْطَرَةَ الْكَبِيرَةَ بِأَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ وَكَسْرٍ، فَدَخَلَتِ
الْكَنِيسَةُ فِي الْمَسْجِدِ. فَأَرْسَلَ الْوَلِيدُ إِلَى النَّصَارَى
فَأَخْبَرَهُمْ، وَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْكَنِيسَةَ كُلَّهَا دَخَلَتْ فِي
الْعَنْوَةِ فَهِيَ لَنَا دُونَكُمْ. فَقَالُوا: إِنَّكَ أَوَّلًا دَفَعْتَ
إِلَيْنَا الْأَمْوَالَ وَأَقْطَعْتَنَا الْإِقْطَاعَاتِ فَأَبَيْنَا، فَمِنْ
إِحْسَانِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُصَالِحَنَا فَيُبْقِيَ لَنَا هَذِهِ
الْكَنَائِسَ الْأَرْبَعَةَ بِأَيْدِينَا، وَنَحْنُ نَتْرُكُ لَهُ بَقِيَّةَ
هَذِهِ الْكَنِيسَةِ. فَصَالَحَهُمْ عَلَى إِبْقَاءِ هَذِهِ الْأَرْبَعِ كَنَائِسَ
بِأَيْدِيهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ عَوَّضَهُمْ مِنْهَا كَنِيسَةً عِنْدَ حَمَّامِ الْقَاسِمِ
عِنْدَ بَابِ الْفَرَادِيسِ، فَسَمَّوْهَا مَرْيُحَنَّا بِاسْمِ تِلْكَ
الْكَنِيسَةِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهُمْ، وَأَخَذُوا شَاهِدَهَا فَوَضَعُوهُ
فَوْقَ الَّتِي أَخَذُوهَا بَدَلَهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ أَمَرَ الْوَلِيدُ بِإِحْضَارِ آلَاتِ الْهَدْمِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْأُمَرَاءُ وَالْكُبَرَاءُ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّاسِ، وَجَاءَ إِلَيْهِ أَسَاقِفَةُ النَّصَارَى وَقَسَاوِسَتُهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّا نَجِدُ فِي كُتُبِنَا أَنَّ مَنْ يَهْدِمُ هَذِهِ الْكَنِيسَةَ يُجَنُّ. فَقَالَ: أَنَا أُحِبُّ أَنْ أُجَنَّ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَوَاللَّهِ لَا يَهْدِمُ فِيهَا أَحَدٌ شَيْئًا قَبْلِي، ثُمَّ صَعِدَ الْمَنَارَةَ الشَّرْقِيَّةَ ذَاتِ الْأَضَالِعِ الْمَعْرُوفَةِ بِالسَّاعَاتِ وَكَانَتْ صَوْمَعَةً هَائِلَةً فِيهَا رَاهِبٌ مُعَظَّمٌ عِنْدَهُمْ، فَأَمَرَهُ الْوَلِيدُ بِالنُّزُولِ مِنْهَا، فَأَكْبَرَ الرَّاهِبُ ذَلِكَ، فَأَخَذَ الْوَلِيدُ بِقَفَاهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَدْفَعُهُ حَتَّى أَحْدَرَهُ مِنْهَا، ثُمَّ صَعِدَ الْوَلِيدُ عَلَى أَعْلَى مَكَانٍ فِي الْكَنِيسَةِ; فَوْقَ الْمَذْبَحِ الْأَكْبَرِ مِنْهَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ الشَّاهِدَ; وَهُوَ تِمْثَالٌ فِي أَعْلَى الْكَنِيسَةِ، فَقَالَ لَهُ الرُّهْبَانُ: احْذَرِ الشَّاهِدَ. فَقَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَا أَضَعُ فَأْسِي فِي رَأْسِ الشَّاهِدِ. ثُمَّ كَبَّرَ وَضَرَبَهُ فَهَدَمَهُ، وَكَانَ عَلَى الْوَلِيدِ قَبَاءٌ لَوْنُهُ أَصْفَرُ سَفَرْجَلِيٌّ، قَدْ غَرَزَ أَذْيَالَهُ فِي الْمِنْطَقَةِ، ثُمَّ أَخَذَ فَأْسًا فِي يَدِهِ فَضَرَبَ بِهَا فِي أَعْلَى حَجَرٍ فَأَلْقَاهُ، فَتَبَادَرَ الْأُمَرَاءُ إِلَى الْهَدْمِ، وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، وَصَرَخَتِ النَّصَارَى بِالْعَوِيلِ عَلَى دَرَجِ جَيْرُونَ، وَكَانُوا قَدِ اجْتَمَعُوا هُنَالِكَ، فَأَمَرَ الْوَلِيدُ أَمِيرَ الشُّرَطَةِ وَهُوَ أَبُو نَاتِلٍ رِيَاحٌ الْغَسَّانِيُّ أَنْ يَضْرِبَهُمْ حَتَّى يَذْهَبُوا مِنْ
هُنَالِكَ،
فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَهَدَمَ الْوَلِيدُ وَالْأُمَرَاءُ جَمِيعَ مَا جَدَّدَهُ
النَّصَارَى فِي تَرْبِيعِ هَذَا الْمَكَانِ; مِنَ الْمَذَابِحِ وَالْأَبْنِيَةِ
وَالْحَنَايَا، حَتَّى بَقِيَ صَرْحَةً مُرَبَّعَةً، ثُمَّ شَرَعَ فِي بِنَائِهِ
بِفِكْرَةٍ جَيِّدَةٍ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْحَسَنَةِ الْأَنِيقَةِ، الَّتِي
لَمْ يَشْتَهِرْ مِثْلُهَا قَبْلَهَا، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ وَنُشِيرُ إِلَيْهِ.
وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْوَلِيدُ فِي بِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ خَلْقًا كَثِيرًا
مِنَ الصُّنَّاعِ وَالْمُهَنْدِسِينَ وَالْفَعَلَةِ، وَكَانَ الْمُسْتَحِثُّ عَلَى
عِمَارَتِهِ أَخُوهُ وَوَلِيُّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْوَلِيدَ بَعَثَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يَطْلُبُ
مِنْهُ صُنَّاعًا فِي الرُّخَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ; لِيَسْتَعِينَ بِهِمْ عَلَى
عِمَارَةِ هَذَا الْمَسْجِدِ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَأَرْسَلَ يَتَوَعَّدُهُ; لَئِنْ
لَمْ يَفْعَلْ لَيَغْزُوَنَّ بِلَادَهُ بِالْجُيُوشِ، وَلَيُخَرِّبَنَ كُلَّ
كَنِيسَةٍ فِي بِلَادِهِ، حَتَّى كَنِيسَةَ الْقُدْسِ، وَكَنِيسَةَ الرُّهَا،
وَسَائِرَ آثَارِ الرُّومِ، فَبَعَثَ مَلِكُ الرُّومِ إِلَيْهِ صُنَّاعًا
كَثِيرَةً جِدًّا; مِائَتَيْ صَانِعٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَقُولُ: إِنْ كَانَ
أَبُوكَ فَهِمَ هَذَا الَّذِي تَصْنَعُهُ وَتَرَكَهُ، فَإِنَّهُ لَوَصْمَةٌ
عَلَيْكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهِمَهُ وَفَهِمْتَهُ أَنْتَ، فَإِنَّهُ لَوَصْمَةٌ
عَلَيْهِ.
فَلَمَّا وَصَلَ ذَلِكَ الْكِتَابُ إِلَى الْوَلِيدِ أَرَادَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ
ذَلِكَ، وَاجْتَمَعَ
النَّاسُ
عِنْدَهُ لِذَلِكَ، وَكَانَ فِيهِمُ الْفَرَزْدَقُ الشَّاعِرُ، فَقَالَ: أَنَا
أُجِيبُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ
الْوَلِيدُ: وَمَا هُوَ وَيْحَكَ؟ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا، وَسُلَيْمَانُ
هُوَ ابْنُ دَاوُدَ، فَفَهَّمَهُ اللَّهُ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ أَبُوهُ. فَأَعْجَبَ
ذَلِكَ الْوَلِيدَ، فَأَرْسَلَ بِهِ جَوَابًا إِلَى مَلِكِ الرُّومِ. وَقَدْ قَالَ
الْفَرَزْدَقُ فِي ذَلِكَ:
فَرَّقْتَ بَيْنَ النَّصَارَى فِي كَنَائِسِهِمْ وَالْعَابِدِينَ مَعَ
الْأَسْحَارِ وَالْعَتَمِ وَهُمْ جَمِيعًا إِذَا صَلَّوْا وَأَوْجُهُهُمْ
شَتَّى إِذَا سَجَدُوا لِلَّهِ وَالصَّنَمِ وَكَيْفَ يَجْتَمِعُ النَّاقُوسُ
يَضْرِبُهُ
أَهْلُ الصَّلِيبِ مَعَ الْقُرَّاءِ لَمْ تَنَمِ فُهِّمْتَ تَحْوِيلَهَا عَنْهُمْ
كَمَا فَهِمَا
إِذْ يَحْكُمَانِ لَهُمْ فِي الْحَرْثِ وَالْغَنَمِ دَاوُدُ وَالْمَلِكُ
الْمَهْدِيُّ إِذْ جَزَّا
أَوْلَادَهَا وَاجْتِزَازُ الصُّوفِ بِالْجَلَمِ فَهَّمَكَ اللَّهُ تَحْوِيلًا
لِبَيْعَتِهِمْ
عَنْ مَسْجِدٍ فِيهِ يُتْلَى طَيِّبُ الْكَلِمِ مَا مِنْ أَبٍ حَمَلَتْهُ الْأَرْضُ
نَعْلَمُهُ
خَيْرٌ بَنِينَ وَلَا خَيْرٌ مِنَ الْحَكَمِ
قَالَ
الْحَافِظُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ دُحَيْمٌ الدِّمَشْقِيُّ: بَنَى
الْوَلِيدُ مَا كَانَ دَاخِلَ حِيطَانِ الْمَسْجِدِ، وَزَادَ فِي سَمْكِ
الْحِيطَانِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الْخُشَنِيُّ: إِنَّ هُودًا، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
هُوَ الَّذِي بَنَى الْحَائِطَ الْقِبْلِيَّ مِنْ مَسْجِدِ دِمَشْقَ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا أَرَادَ الْوَلِيدُ بِنَاءَ الْقُبَّةِ الَّتِي وَسَطَ
الرِّوَاقَاتِ وَهِيَ قُبَّةُ النَّسْرِ، وَهُوَ اسْمٌ حَادِثٌ لَهَا،
وَكَأَنَّهُمْ شَبَّهُوهَا بِالنَّسْرِ فِي شَكْلِهِ; لِأَنَّ الرِّوَاقَاتِ عَنْ
يَمِينِهَا وَشِمَالِهَا كَالْأَجْنِحَةِ لَهَا حَفَرُوا لِأَرْكَانِهَا، حَتَّى
وَصَلُوا إِلَى الْمَاءِ وَشَرِبُوا مِنْهُ مَاءً عَذْبًا زُلَالًا، ثُمَّ
إِنَّهُمْ وَضَعُوا فِيهِ جِرَارَ الْكَرْمِ، وَبَنَوْا فَوْقَهَا بِالْحِجَارَةِ
فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْأَرْكَانُ بَنَوْا عَلَيْهَا الْقُبَّةَ فَسَقَطَتْ،
فَقَالَ الْوَلِيدُ لِبَعْضِ الْمُهَنْدِسِينَ: أُرِيدُ أَنْ تَبْنِيَ لِي أَنْتَ
هَذِهِ الْقُبَّةَ. فَقَالَ: عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ
أَنْ لَا يَبْنِيَهَا أَحَدٌ غَيْرِي. فَفَعَلَ، فَبَنَى الْأَرْكَانَ ثُمَّ
غَلَّفَهَا بِالْبَوَارِي، وَغَابَ عَنْهَا سَنَةً كَامِلَةً لَا يَدْرِي
الْوَلِيدُ أَيْنَ ذَهَبَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ السَّنَةِ حَضَرَ، فَهَمَّ بِهِ
الْوَلِيدُ، فَأَخَذَهُ وَمَعَهُ رُءُوسُ النَّاسِ، فَكَشَفَ الْبَوَارِيَ عَنِ
الْأَرْكَانِ; فَإِذَا هِيَ قَدْ هَبَطَتْ بَعْدَ ارْتِفَاعِهَا حَتَّى سَاوَتِ
الْأَرْضَ، فَقَالَ لَهُ: مِنْ هَذَا أُتِيتَ. ثُمَّ
بَنَاهَا
فَانْعَقَدَتْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ الْوَلِيدُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْضَةَ الْقُبَّةِ مِنْ
ذَهَبٍ خَالِصٍ; لِيُعَظِّمَ بِذَلِكَ شَأْنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُ
الْمِعْمَارُ: إِنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ؟ فَضَرَبَهُ خَمْسِينَ سَوْطًا
وَقَالَ لَهُ: وَيْلَكَ أَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَتَزْعُمُ أَنِّي
أَعْجَزُ عَنْهُ، وَخَرَاجُ الْأَرْضِ وَأَمْوَالُهَا تُجْبَى إِلَيَّ؟ قَالَ:
نَعَمْ، أَنَا أُبَيِّنُ لَكَ ذَلِكَ. قَالَ: فَبَيِّنْ ذَلِكَ. قَالَ: اضْرِبْ
لَبِنَةً وَاحِدَةً مِنَ الذَّهَبِ وَقِسْ عَلَيْهَا مَا تُرِيدُ هَذِهِ الْقُبَّةُ
مِنْ ذَلِكَ. فَأَمَرَ الْوَلِيدُ، فَأُحْضِرَ مِنَ الذَّهَبِ مَا سُبِكَ بِهِ
لَبِنَةٌ; فَإِذَا هِيَ قَدْ دَخَلَهَا أُلُوفٌ مِنَ الذَّهَبِ، فَقَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا نُرِيدُ مِنْ هَذِهِ كَذَا وَكَذَا أَلْفِ
لَبِنَةً، فَإِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَا يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ عَمِلْنَاهُ. فَلَمَّا
تَحَقَّقَ الْوَلِيدُ صِحَّةَ قَوْلِهِ أَطْلَقَ لَهُ خَمْسِينَ دِينَارًا، ثُمَّ
عَقَدَهَا عَلَى مَا أَشَارَ بِهِ الْمِعْمَارُ.
وَلَمَّا سَقَفَ الْوَلِيدُ الْجَامِعَ جَعَلُوا سَقْفَهُ جَمَلُونَاتٍ،
وَبَاطِنَهَا مُسَطَّحًا مُقَرْنَصًا بِالذَّهَبِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ:
أَتْعَبْتَ النَّاسَ بَعْدَكَ فِي تَطْيِينِ أَسْطِحَةِ هَذَا الْمَسْجِدِ فِي
كُلِّ عَامٍ. فَأَمَرَ الْوَلِيدُ أَنْ يُجْمَعَ مَا فِي بِلَادِهِ مِنَ
الرَّصَاصِ; لِيَجْعَلَهُ
عِوَضَ
الطِّينِ، وَيَكُونَ أَخَفَّ عَلَى السُّقُوفِ، فَجَمَعَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ
مِنَ الشَّامِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَقَالِيمِ، فَعَازُوا، فَإِذَا عِنْدَ
امْرَأَةٍ مِنْهُ قَنَاطِيرُ مُقَنْطَرَةٌ، فَسَاوَمُوهَا فِيهِ، فَأَبَتْ أَنْ
تَبِيعَهُ إِلَّا بِوَزْنِهِ فِضَّةً، فَكَتَبُوا إِلَى الْوَلِيدِ فَقَالَ:
اشْتَرُوهُ مِنْهَا، وَلَوْ بِوَزْنِهِ فِضَّةً. فَلَمَّا بَذَلُوا لَهَا ذَلِكَ
قَالَتْ: أَمَا إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ لِلَّهِ يَكُونُ فِي
سَقْفِ هَذَا الْمَسْجِدِ. فَكَتَبُوا عَلَى أَلْوَاحِهَا بِطَابَعٍ: " لِلَّهِ
". وَيُقَالُ: إِنَّهَا كَانَتْ إِسْرَائِيلِيَّةً، وَإِنَّهُ كُتِبَ عَلَى
الْأَلْوَاحِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهَا: هَذَا مَا أَعْطَتْهُ
الْإِسْرَائِيلِيَّةُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ: سَمِعْتُ الْمَشَايِخَ يَقُولُونَ: مَا تَمَّ
بِنَاءُ مَسْجِدِ دِمَشْقَ إِلَّا بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، لَقَدْ كَانَ يَفْضُلُ
عِنْدَ الرَّجُلِ مِنَ الْقَوَمَةِ يَعْنُونَ الْفَعَلَةَ الْفَأْسَ وَرَأْسَ
الْمِسْمَارِ، فَيَجِيءُ حَتَّى يَضَعَهُ فِي الْخِزَانَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِ الدَّمَاشِقَةِ: لَيْسَ فِي الْجَامِعِ مِنَ الرُّخَامِ
شَيْءٌ إِلَّا الرُّخَامَتَانِ اللَّتَانِ فِي الْمَقَامِ مِنْ عَرْشِ بِلْقِيسَ،
وَالْبَاقِي كُلُّهُ مَرْمَرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اشْتَرَى الْوَلِيدُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ الْعَمُودَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ اللَّذَيْنِ تَحْتَ النَّسْرِ،
مِنْ
حَرْبِ بْنِ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ
دِينَارٍ.
وَقَالَ دُحَيْمٌ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، ثَنَا مَرْوَانُ بْنُ جَنَاحٍ،
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَرْخَمٍ.
وَقَالَ أَبُو قُصَيٍّ، عَنْ دُحَيْمٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ مُهَاجِرٍ الْأَنْصَارِيِّ: إِنَّهُمْ حَسَبُوا مَا أَنْفَقَهُ
الْوَلِيدُ عَلَى الْكَرْمَةِ الَّتِي فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ; فَإِذَا هُوَ
سَبْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَقَالَ أَبُو قُصَيٍّ، أُنْفِقَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ أَرْبَعُمِائَةِ
صُنْدُوقٍ، فِي كُلِّ صُنْدُوقٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَفِي
رِوَايَةٍ: فِي كُلِّ صُنْدُوقٍ ثَمَانِيَةً وَعِشْرُونَ أَلْفَ دِينَارٍ. قُلْتُ:
فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ ذَلِكَ خَمْسَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ،
وَسِتَّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمَصْرُوفُ فِي
عِمَارَةِ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ أَحَدَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ،
وَمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو قُصَيٍّ: وَأَتَى الْحَرَسِيُّ إِلَى الْوَلِيدِ فَقَالَ: يَا
أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أَنْفَقَ الْوَلِيدُ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهَا. فَنُودِيَ فِي النَّاسِ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَصَعِدَ الْوَلِيدُ الْمِنْبَرَ، وَقَالَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكُمْ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ: أَنْفَقَ الْوَلِيدُ بُيُوتَ الْأَمْوَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهَا. ثُمَّ قَالَ: يَا عَمْرُو بْنَ مُهَاجِرٍ، قُمْ فَأَحْضِرْ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ. فَحُمِلَتْ عَلَى الْبِغَالِ إِلَى الْجَامِعِ، وَبُسِطَتْ لَهَا الْأَنْطَاعُ تَحْتَ الْقُبَّةِ، ثُمَّ أُفْرِغَ عَلَيْهَا الْمَالُ ذَهَبًا صَبِيبًا، وَفِضَّةً خَالِصَةً حَتَّى صَارَتْ كُوَمًا، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ لَا يَرَى الرَّجُلَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَهَذَا شَيْءٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ جِيءَ بِالْقَبَّانِينَ فَوُزِنَتِ الْأَمْوَالُ; فَإِذَا هِيَ تَكْفِي النَّاسَ ثَلَاثَ سِنِينَ مُسْتَقْبَلَةً وَفِي رِوَايَةٍ: سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً مُسْتَقْبَلَةً لَوْ لَمْ يُدْخِلْ لِلنَّاسِ شَيْءٌ بِالْكُلِّيَّةِ فَفَرِحَ النَّاسُ وَكَبَّرُو ا، وَحَمِدُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ الْوَلِيدُ: يَا أَهْلَ دِمَشْقَ، إِنَّكُمْ تَفْخَرُونَ عَلَى النَّاسِ بِأَرْبَعٍ; بِهَوَائِكُمْ، وَمَائِكُمْ، وَفَاكِهَتِكُمْ، وَحَمَّامَاتِكُمْ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَزِيدَكُمْ خَامِسَةً، وَهِيَ هَذَا الْجَامِعُ، فَاحْمَدُوا اللَّهَ تَعَالَى. وَانْصَرَفُوا شَاكِرِينَ دَاعِينَ.
وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: كَانَ فِي قِبْلَةِ جَامِعِ دِمَشْقَ ثَلَاثُ صَفَائِحَ مُذَهَّبَةٍ
بِلَازُورْدَ، فِي كُلٍّ مِنْهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللَّهُ
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا
إِيَّاهُ، رَبُّنَا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَدِينُنَا الْإِسْلَامُ، وَنَبِيُّنَا
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَمَرَ بِبُنْيَانِ هَذَا الْمَسْجِدِ،
وَهَدْمِ الْكَنِيسَةَ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ، عَبْدُ اللَّهِ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ الْوَلِيدُ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ. وَفِي
صَفِيحَةٍ أُخْرَى رَابِعَةٍ مِنْ تِلْكَ الصَّفَائِحِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [ الْفَاتِحَةِ: 2
- 4 ] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، ثُمَّ النَّازِعَاتِ، ثُمَّ عَبَسَ، ثُمَّ إِذَا
الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [ التَّكْوِيرِ: 1 ].
قَالُوا: ثُمَّ مُحِيَتْ بَعْدَ مَجِيءِ الْمَأْمُونِ إِلَى دِمَشْقَ. وَذَكَرُوا
أَنَّ أَرْضَهُ كَانَتْ مُفَضَّضَةً كُلَّهَا، وَأَنَّ الرُّخَامَ كَانَ فِي
جُدْرَانِهِ إِلَى قَامَاتٍ، وَفَوْقَ الرُّخَامِ كَرْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ ذَهَبٍ،
وَفَوْقَ الْكَرْمَةِ الْفُصُوصُ الْمُذَهَّبَةُ وَالْخُضْرُ وَالْحُمْرُ
وَالزُّرْقُ وَالْبِيضُ، قَدْ صَوَّرُوا بِهَا سَائِرَ الْبُلْدَانِ
الْمَشْهُورَةِ: الْكَعْبَةَ فَوْقَ الْمِحْرَابِ، وَسَائِرَ الْأَقَالِيمِ
يَمْنَةً وَيَسْرَةً، وَصَوَّرُوا مَا فِي الْبُلْدَانِ مِنَ الْأَشْجَارِ
الْحَسَنَةِ الْمُثْمِرَةِ وَالْمُزْهِرَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَسَقْفُهُ
مُقَرْنَصٌ بِالذَّهَبِ، وَالسَّلَاسِلُ الْمُعَلَّقَةُ فِيهِ جَمِيعُهَا مِنْ
ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَأَنْوَارُ الشُّمُوعِ فِي أَمَاكِنِهِ مُفَرَّقَةٌ.
قَالَ:
وَكَانَ فِي مِحْرَابِ الصَّحَابَةِ بَرْنِيَّةٌ; حَجَرٌ مِنْ بَلُّورٍ وَيُقَالُ:
بَلْ كَانَتْ حَجَرًا مِنْ جَوْهَرٍ، وَهِيَ الدُّرَّةُ، وَكَانَتْ تُسَمَّى
الْقَلِيلَةَ، وَكَانَتْ إِذَا طَفِئَتِ الْقَنَادِيلُ تُضِيءُ لِمَنْ هُنَاكَ
بِنُورِهَا، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ الْأَمِينِ بْنِ الرَّشِيدِ وَكَانَ يُحِبُّ
الْبَلُّورَ، وَقِيلَ: الْجَوْهَرَ بَعَثَ إِلَى سُلَيْمَانَ وَإِلَى شُرَطَةِ
دِمَشْقَ أَنْ يَبْعَثَ بِهَا إِلَيْهِ، فَسَرَقَهَا، وَسَيَّرَهَا إِلَى
الْأَمِينِ، فَلَمَّا وَلِيَ الْمَأْمُونُ رَدَّهَا إِلَى دِمَشْقَ; لِيُشَنِّعَ
بِذَلِكَ عَلَى الْأَمِينِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: ثُمَّ ذَهَبَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَجُعِلَ مَكَانَهَا
بَرْنِيَّةٌ مِنْ زُجَاجٍ. قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتُ تِلْكَ الْبَرْنِيَّةَ ثُمَّ
انْكَسَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمْ يُجْعَلْ مَكَانَهَا شَيْءٌ. قَالُوا:
وَكَانَتِ الْأَبْوَابُ الشَّارِعَةُ مِنْ دَاخِلِ الصَّحْنِ لَيْسَ عَلَيْهَا
أَغْلَاقٌ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَيْهَا السُّتُورُ مُرْخَاةً، وَكَذَلِكَ
السُّتُورُ عَلَى سَائِرِ جُدْرَانِهِ إِلَى حَدِّ الْكَرْمَةِ الَّتِي فَوْقَهَا
الْفُصُوصُ الْمُذَهَّبَةُ، وَرُءُوسُ الْأَعْمِدَةِ مَطْلِيَّةٌ بِالذَّهَبِ
الْخَالِصِ الْكَثِيرِ، وَعَمِلُوا لَهُ شُرُفَاتٍ تُحِيطُ بِهِ، وَبَنَى
الْوَلِيدُ الْمَنَارَةَ الشَّمَالِيَّةَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: مِئْذَنَةُ
الْعَرُوسِ. فَأَمَّا الشَّرْقِيَّةُ وَالْغَرْبِيَّةُ فَكَانَتَا فِيهِ قَبْلَ
ذَلِكَ بِدُهُورٍ مُتَطَاوِلَةٍ، وَقَدْ كَانَ فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْ هَذَا
الْمَعْبَدِ صَوْمَعَةٌ شَاهِقَةٌ جِدًّا، بَنَتْهَا الْيُونَانُ لِلرَّصْدِ،
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ سَقَطَتِ الشَّمَالِيَّتَانِ وَبَقِيَتِ الْقِبْلِيَّتَانِ
إِلَى الْآنَ، وَقَدْ أُحْرِقَ بَعْضُ الشَّرْقِيَّةِ بَعْدَ
الْأَرْبَعِينَ
وَسَبْعِمِائَةٍ، فَنُقِضَتْ وَجُدِّدَ بِنَاؤُهَا مِنْ أَمْوَالِ النَّصَارَى،
حَيْثُ اتُّهِمُوا بِحَرِيقِهَا، فَقَامَتْ عَلَى أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ بَيْضَاءَ
بِذَاتِهَا وَهِيَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، الْمَنَارَةُ الشَّرْقِيَّةُ الَّتِي
يَنْزِلُ عَلَيْهَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بَعْدَ خُرُوجِ
الدَّجَّالِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "، عَنِ
النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ.
قُلْتُ: ثُمَّ أُحْرِقَ أَعْلَى هَذِهِ الْمَنَارَةِ وَجُدِّدَتْ، وَكَانَ
أَعْلَاهَا مِنْ خَشَبٍ، فَبُنِيَتْ بِحِجَارَةٍ كُلُّهَا فِي آخِرِ السَّبْعِينَ
وَسَبْعِمِائَةٍ، فَصَارَتْ كُلُّهَا مَبْنِيَّةً بِالْحِجَارَةِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْجَامِعَ الْأُمَوِيَّ لَمَّا كَمُلَ بِنَاؤُهُ لَمْ
يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بِنَاءٌ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَلَا أَبْهَى وَلَا
أَجَلَّ مِنْهُ، بِحَيْثُ إِنَّهُ إِذَا نَظَرَ النَّاظِرُ إِلَيْهِ، أَوْ إِلَى
أَيِّ جِهَةٍ مِنْهُ أَوْ إِلَى أَيِّ بُقْعَةٍ أَوْ مَكَانٍ مِنْهُ، تَحَيَّرَ
فِيمَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ; لِحُسْنِهِ جَمِيعِهِ، وَلَا يَمَلُّ نَاظِرُهُ، بَلْ
كُلَّمَا أَدْمَنَ النَّظَرَ، بَانَتْ لَهُ أُعْجُوبَةٌ لَيْسَتْ كَالْأُخْرَى.
وَكَانَتْ فِيهِ طِلَّسْمَاتٌ مِنْ أَيَّامِ الْيُونَانَ، فَلَا يَدْخُلُ هَذِهِ
الْبُقْعَةَ شَيْءٌ مِنَ الْحَشَرَاتِ بِالْكُلِّيَّةِ; لَا مِنَ الْحَيَّاتِ،
وَلَا مِنَ الْعَقَارِبِ، وَلَا الْخَنَافِسِ، وَلَا الْعَنَاكِيبِ، وَيُقَالُ:
وَلَا الْعَصَافِيرُ أَيْضًا تُعَشِّشُ فِيهِ، وَلَا الْحَمَامُ، وَلَا شَيْءٌ
مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ.
وَأَكْثَرُ
هَذِهِ الطِلَّسْمَاتِ أَوْ كُلُّهَا كَانَتْ مُودَعَةً فِي سَقْفِ الْجَامِعِ،
مِمَّا يَلِي السُّبْعَ، فَأُحْرِقَتْ لَمَّا وَقَعَ فِيهِ الْحَرِيقُ، وَكَانَ ذَلِكَ
لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ، سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فِي دَوْلَةِ الْفَاطِمِيِّينَ، كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي
مَوْضِعِهِ.
وَقَدْ كَانَتْ بِدِمَشْقَ طِلَّسْمَاتٌ وَضَعَتْهَا الْيُونَانُ، بَعْضُهَا بَاقٍ
إِلَى يَوْمِنَا هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَمِنْ ذَلِكَ، الْعَمُودُ الَّذِي فِي رَأْسِهِ مِثْلُ الْكُرَةِ بِسُوقِ
الشَّعِيرِ عِنْدَ قَنْطَرَةِ أُمِّ حَكِيمٍ، وَهَذَا الْمَكَانُ يُعْرَفُ
الْيَوْمَ بِالْعَلَبِيِّينَ، ذَكَرَ مَشَايِخُ دِمَشْقَ أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ
الْيُونَانِ لِعُسْرِ بَوْلِ الْحَيَوَانِ، فَإِذَا دَارُوا بِالْحَيَوَانِ حَوْلَ
هَذَا الْعَمُودِ ثَلَاثَ دَوْرَاتٍ انْطَلَقَ بَوْلُهُ، وَذَلِكَ مُجَرَّبٌ
عِنْدَ الْيُونَانِ.
وَمَا زَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَعْمَلُ فِي تَكْمِلَةِ الْجَامِعِ
الْأُمَوِيِّ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ مُدَّةَ وِلَايَتِهِ، وَجُدِّدَتْ لَهُ فِيهِ
الْمَقْصُورَةُ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَزَمَ
عَلَى
أَنْ يُجَرِّدَ مَا فِيهِ مِنَ الذَّهَبِ، وَيَقْلَعُ السَّلَاسِلَ وَالرُّخَامَ
وَالْفُسَيْفِسَاءَ، وَيَرُدَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ،
وَيُطَيِّنَهُ مَكَانَ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ،
وَاجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ إِلَيْهِ، وَقَالَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْقَسْرِيُّ: أَنَا أُكَلِّمُهُ لَكُمْ. فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَالَ خَالِدٌ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلَغَنَا أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ كَذَا وَكَذَا.
قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ خَالِدٌ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَقَالَ عُمَرُ: وَلِمَ يَا ابْنَ الْكَافِرَةِ؟ وَكَانَتْ أُمُّهُ نَصْرَانِيَّةً
رُومِيَّةً أُمَّ وَلَدٍ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ كَانَتْ
كَافِرَةً، فَقَدْ وَلَدَتْ رَجُلًا مُؤْمِنًا. فَقَالَ: صَدَقْتَ. وَاسْتَحْيَا
عُمَرُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: فَلِمَ قُلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ; لِأَنَّ غَالِبَ مَا فِيهِ مِنَ الرُّخَامِ إِنَّمَا حَمَلَهُ
الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْأَقَالِيمِ، وَلَيْسَ هُوَ
لِبَيْتِ الْمَالِ. فَأَطْرَقَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالُوا: وَاتَّفَقَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ قُدُومُ جَمَاعَةٍ مِنْ بِلَادِ
الرُّومِ رُسُلًا مِنْ عِنْدِ مَلِكِهِمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ بَابِ
الْبَرِيدِ، وَانْتَهَوْا إِلَى الْبَابِ الْكَبِيرِ الَّذِي تَحْتَ النَّسْرِ،
وَرَأَوْا مَا بَهَرَ عُقُولَهُمْ مِنْ حُسْنِ ذَلِكَ الْجَامِعِ الْبَاهِرِ،
وَالزَّخْرَفَةِ الَّتِي لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا صَعِقَ كَبِيرُهُمْ، وَخَرَّ
مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَحَمَلُوهُ إِلَى مَنْزِلِهِمْ، فَبَقِيَ أَيَّامًا
مُدْنِفًا، فَلَمَّا تَمَاثَلَ سَأَلُوهُ عَمَّا عَرَضَ لَهُ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ
أَظُنُّ أَنْ يَبْنِيَ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَ هَذَا الْبِنَاءِ، وَكُنْتُ أَعْتَقِدُ
أَنَّ مُدَّتَهُمْ تَكُونُ أَقْصَرَ مِنْ هَذَا. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ
بْنَ
عَبْدِ
الْعَزِيزِ قَالَ: أَوَإِنَّ هَذَا لَغَيْظُ الْكُفَّارِ؟ دَعُوهُ.
وَسَأَلَتِ النَّصَارَى فِي أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ يَعْقِدَ
لَهُمْ مَجْلِسًا فِي شَأْنِ مَا كَانَ أَخَذَهُ الْوَلِيدُ مِنْهُمْ وَكَانَ
عُمَرُ عَادِلًا، فَأَرَادَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ أَخَذَهُ
الْوَلِيدُ مِنْهُمْ فَأَدْخَلَهُ فِي الْجَامِعِ، ثُمَّ حَقَّقَ عُمَرُ
الْقَضِيَّةَ، ثُمَّ نَظَرَ فَإِذَا الْكَنَائِسُ الَّتِي هِيَ خَارِجُ الْبَلَدِ
لَمْ تَدْخُلْ فِي الصُّلْحِ الَّذِي كَتَبَهُ لَهُمُ الصَّحَابَةُ; مِثْلَ
كَنِيسَةِ دَيْرِ مُرَّانَ، وَكَنِيسَةِ الرَّاهِبِ، وَكَنِيسَةِ تُومَا، خَارِجَ
بَابِ تُومَا، وَسَائِرِ الْكَنَائِسِ الَّتِي بِقُرَى الْحَوَاجِزِ، فَخَيَّرَهُمْ
بَيْنَ رَدِّ مَا سَأَلُوهُ، وَتَخْرِيبِ هَذِهِ الْكَنَائِسِ كُلِّهَا، أَوْ
تَبْقَى تِلْكَ الْكَنَائِسُ وَيَطِيبُوا نَفْسًا لِلْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ
الْبُقْعَةِ، فَاتَّفَقَتْ آرَاؤُهُمْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى إِبْقَاءِ
تِلْكَ الْكَنَائِسِ، وَيَكْتُبُ لَهُمْ كِتَابَ أَمَانٍ بِهَا، وَيَطِيبُوا
نَفْسًا بِهَذِهِ الْبُقْعَةِ، فَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابَ أَمَانٍ بِهَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْجَامِعَ الْأُمَوِيَّ كَانَ حِينَ تَكَامَلَ بِنَاؤُهُ
لَيْسَ لَهُ فِي الدُّنْيَا نَظِيرٌ فِي حُسْنِهِ وَبَهْجَتِهِ.
قَالَ الْفَرَزْدَقُ: أَهْلُ دِمَشْقَ فِي بَلَدِهِمْ قَصْرٌ مِنْ قُصُورِ
الْجَنَّةِ، يَعْنِي بِهِ الْجَامِعَ الْأُمَوِيَّ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ
ابْنِ ثَوْبَانَ: مَا
يَنْبَغِي
أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَشَدَّ شَوْقًا إِلَى الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ;
لِمَا يَرَوْنَ مِنْ حُسْنِ مَسْجِدِهَا.
قَالُوا: وَلَمَّا دَخَلَ الْمَهْدِيُّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْعَبَّاسِيُّ
دِمَشْقَ يُرِيدُ زِيَارَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، نَظَرَ إِلَى جَامِعِ دِمَشْقَ
فَقَالَ لِكَاتِبِهِ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ الْأَشْعَرِيِّ: سَبَقَنَا بَنُو
أُمَيَّةَ بِثَلَاثٍ; بِهَذَا الْمَسْجِدِ، لَا أَعْلَمُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ
مِثْلَهُ، وَبِنُبْلِ الْمَوَالِي، وَبِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، لَا
يَكُونُ وَاللَّهِ فِينَا مِثْلُهُ أَبَدًا. ثُمَّ لَمَّا أَتَى بَيْتَ
الْمَقْدِسِ فَنَظَرَ إِلَى الصَّخْرَةِ وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ
هُوَ الَّذِي بَنَاهَا قَالَ لِكَاتِبِهِ: وَهَذِهِ رَابِعَةٌ.
وَلَمَّا دَخَلَ الْمَأْمُونُ دِمَشْقَ فَنَظَرَ إِلَى جَامِعِهَا، وَكَانَ مَعَهُ
أَخُوهُ الْمُعْتَصِمُ، وَقَاضِيهِ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ، قَالَ: مَا أَعْجَبُ
مَا فِيهِ؟ فَقَالَ أَخُوهُ: هَذِهِ الْأَذْهَابُ الَّتِي فِيهِ. وَقَالَ يَحْيَى
بْنُ أَكْثَمَ: هَذَا الرُّخَامُ، وَهَذِهِ الْعُقَدُ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ:
إِنَّمَا أَعْجَبُ مِنْ حُسْنِ بُنْيَانِهِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ مُتَقَدِّمٍ.
ثُمَّ قَالَ الْمَأْمُونُ لِقَاسِمٍ
التَّمَّارِ:
أَخْبِرْنِي بِاسْمٍ حَسَنٍ أُسَمِّي بِهِ جَارِيَتِي هَذِهِ. فَقَالَ: سَمِّهَا
مَسْجِدَ دِمَشْقَ; فَإِنَّهُ أَحْسَنُ شَيْءٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنِ
الشَّافِعِيِّ قَالَ: عَجَائِبُ الدُّنْيَا خَمْسَةٌ; أَحَدُهَا مَنَارَتُكُمْ
هَذِهِ يَعْنِي مَنَارَةَ ذِي الْقَرْنَيْنِ الَّتِي بِإِسْكَنْدَرِيَّةَ
وَالثَّانِيَةُ أَصْحَابُ الرَّقِيمِ; وَهْمُ بِالرُّومِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا،
أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَالثَّالِثَةُ مِرْآةٌ بِبَابِ الْأَنْدَلُسِ
عَلَى بَابِ مَدِينَتِهَا، يَجْلِسُ الرَّجُلُ تَحْتَهَا، فَيَنْظُرُ فِيهَا
صَاحِبَهُ مِنْ مَسَافَةِ مِائَةِ فَرْسَخٍ، وَالرَّابِعُ مَسْجِدُ دِمَشْقَ وَمَا
يُوصَفُ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، وَالْخَامِسُ الرُّخَامُ وَالْفُسَيْفِسَاءُ;
فَإِنَّهُ لَا يُدْرَى لَهُمَا مَوْضِعٌ، وَيُقَالُ: إِنَّ الرُّخَامَ مَعْجُونٌ،
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَذُوبُ عَلَى النَّارِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي اللَّيْثِ الْكَاتِبُ
وَكَانَ قَدِمَ دِمَشْقَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فِي
رِسَالَةٍ لَهُ قَالَ: ثُمَّ أُمِرْنَا بِالِانْتِقَالِ إِلَى الْبَلَدِ،
فَانْتَقَلْتُ مِنْهُ إِلَى بَلَدٍ تَمَّتْ مَحَاسِنُهُ، وَوَافَقَ ظَاهِرَهُ
بَاطِنُهُ، أَزِقَّتُهُ
أَرِجَةٌ،
وَشَوَارِعُهُ فَرِجَةٌ، فَحَيْثُ مَا شِئْتَ شَمَمْتَ طِيبًا، وَأَيْنَ سَعَيْتَ
رَأَيْتَ مَنْظَرًا عَجِيبًا، وَأَفْضَيْتُ إِلَى جَامِعِهِ، فَشَاهَدْتُ مِنْهُ
مَا لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَةِ الْوَاصِفِ أَنْ يَصِفَهُ، وَلَا الرَّائِي أَنْ
يُعَرِّفَهُ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ بِكْرُ الدَّهْرِ، وَنَادِرَةُ الْوَقْتِ،
وَأُعْجُوبَةُ الزَّمَانِ، وَغَرِيبَةُ الْأَوْقَاتِ، وَلَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ،
عَزَّ وَجَلَّ، بِهِ ذِكْرًا يُدْرَسُ، وَخَلَّفَ بِهِ أَمْرًا لَا يَخْفَى وَلَا
يَدْرُسُ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِبَعْضِ
الْمُحَدِّثِينَ فِي جَامِعِ دِمَشْقَ، عَمَّرَهُ اللَّهُ بِذِكْرِهِ:
دِمَشْقُ قَدْ شَاعَ حُسْنُ جَامِعِهَا وَمَا حَوَتْهُ رُبَى مَرَابِعِهَا
بَدِيعَةُ الْحَسَنِ فِي الْكَمَالِ لِمَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ مِنْ بَدَائِعِهَا
طَيِّبَةٌ أَرْضُهَا مُبَارَكَةٌ بِالْيُمْنِ وَالسَّعْدِ أَخْذُ طَالِعِهَا
جَامِعُهَا جَامِعُ الْمَحَاسِنِ قَدْ فَاقَتْ بِهِ الْمُدْنَ فِي جَوَامِعِهَا
بَنِيَّةٌ بِالْإِتْقَانِ قَدْ وُضِعَتْ لَا ضَيَّعَ اللَّهُ سَعْيَ وَاضِعِهَا
تُذْكَرُ فِي فَضْلِهِ وَرِفْعَتِهِ أَخْبَارُ صِدْقٍ رَاقَتْ لِسَامِعِهَا
قَدْ كَانَ قَبْلَ الْحَرِيقِ مَدْهَشَةً فَغَيَّرَتْهُ نَارٌ بِلَافِعِهَا
فَأَذْهَبَتْ
بِالْحَرِيقِ بَهْجَتَهُ فَلَيْسَ يُرْجَى إِيَابُ رَاجِعِهَا
إِذَا تَفَكَّرْتَ فِي الْفُصُوصِ وَمَا فِيهَا تَيَقَّنْتَ حِذْقَ رَاصِعِهَا
أَشْجَارُهَا لَا تَزَالُ مُثْمِرَةً لَا تَذْهَبُ الرِّيحُ مِنْ مَدَافِعِهَا
كَأَنَّهَا مِنْ زُمُرُّدٍ غُرِسَتْ فِي أَرْضِ تِبْرٍ تَغْشَى بِفَاقِعِهَا
فِيهَا ثِمَارٌ تَخَالُهَا يَنَعَتْ وَلَيْسَ يُخْشَى فَسَادُ يَانِعِهَا
تُقْطَفُ بِاللَّحْظِ لَا بِجَارِحَةِ الْ أَيْدِي وَلَا تُجْتَنَى لِبَائِعِهَا
وَتَحْتَهَا مِنْ رُخَامِهِ قِطَعٌ لَا قَطَّعَ اللَّهُ كَفَّ قَاطِعِهَا
أَحْكَمَ تَرْخِيمَهَا الْمُرَخِّمُ قَدْ بَانَ عَلَيْهَا إِحْكَامُ صَانِعِهَا
وَإِنْ تَفَكَّرْتَ فِي قَنَاطِرِهِ وَسَقْفِهِ بَانَ حِذْقُ رَافِعِهَا
وَإِنْ تَبَيَّنْتَ حُسْنَ قُبَّتِهِ تَحَيَّرَ اللُّبُّ فِي أَضَالِعِهَا
تَخْتَرِقُ الرِّيحُ فِي مَخَارِمِهَا عَصْفًا فَتَقْوَى عَلَى زَعَازِعِهَا
وَأَرْضُهُ بِالرُّخَامِ قَدْ فُرِشَتْ يَنْفَسِحُ الطَّرْفُ فِي مَوَاضِعِهَا
مَجَالِسُ الْعِلْمِ فِيهِ مُتْقَنَةٌ يَنْشَرِحُ الصَّدْرُ فِي مَجَامِعِهَا
وَكُلُّ
بَابٍ عَلَيْهِ مَطْهَرَةٌ قَدْ أَمِنَ النَّاسُ دَفْعَ مَانِعِهَا
يَرْتَفِقُ الْخَلْقُ مِنْ مَرَافِقِهَا وَلَا يَصُدُّونَ عَنْ مَنَافِعِهَا
وَلَا تَزَالُ الْمِيَاهُ جَارِيَةً فِيهَا لِمَا شُقَّ مِنْ مَشَارِعِهَا
وَسُوقُهَا لَا تَزَالُ آهِلَةً لِيَزْدَحِمَ النَّاسُ فِي شَوَارِعِهَا
لِمَا يَشَاءُونَ مِنْ فَوَاكِهِهَا وَمَا يُرِيدُونَ مِنْ بَضَائِعِهَا
كَأَنَّهَا جَنَّةٌ مُعَجَّلَةٌ فِي الْأَرْضِ لَوْلَا سُرَى فَجَائِعِهَا
دَامَتْ بِرَغْمِ الْعِدَى مُسَلَّمَةً وَحَاطَهَا اللَّهُ مِنْ قَوَارِعِهَا
فَصْلٌ فِيمَا رُوِيَ فِي جَامِعِ دِمَشْقَ مِنَ الْآثَارِ
وَمَا وَرَدَ فِي فَضْلِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّادَةِ
الْأَخْيَارِ
رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالتِّينِ قَالَ:
هُوَ مَسْجِدُ دِمَشْقَ. وَالزَّيْتُونِ قَالَ: هُوَ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَطُورِ سِنِينَ حَيْثُ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ
وَهُوَ مَكَّةُ.
وَنَقَلَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ، عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّهُمْ
قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالتِّينِ هُوَ مَسْجِدُ دِمَشْقَ. رَوَاهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ.
وَقَالَ
صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ زَيْدِ بْنِ وَاقَدٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ الْكِلَابِيِّ، قَالَ: قَالَ كَعْبُ
الْأَحْبَارِ: لَيُبْنَيَنَّ فِي دِمَشْقَ مَسْجِدٌ يَبْقَى بَعْدَ خَرَابِ
الدُّنْيَا أَرْبَعِينَ عَامًا.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاتِكَةِ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: أَوْحَى
اللَّهُ تَعَالَى إِلَى جَبَلِ قَاسِيُونَ أَنْ هَبْ ظِلَّكَ وَبَرَكَتَكَ إِلَى
جَبَلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: فَفَعَلَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَمَا
إِذْ فَعَلْتَ فَإِنِّي سَأَبْنِي لِي فِي حِضْنِكَ بَيْتًا أُعْبَدُ فِيهِ بَعْدَ
خَرَابِ الدُّنْيَا أَرْبَعِينَ عَامًا، وَلَا تَذْهَبُ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي
حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْكَ ظِلَّكَ وَبَرَكَتَكَ. قَالَ: فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ
بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ الضَّعِيفِ الْمُتَضَرِّعِ.
وَقَالَ دُحَيْمٌ: حِيطَانُ الْمَسْجِدِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ بِنَاءِ هُودٍ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا كَانَ مِنَ الْفُسَيْفِسَاءِ إِلَى فَوْقَ فَهُوَ مِنْ
بِنَاءِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ يَعْنِي أَنَّهُ رَفَعَ الْجِدَارَ
فَعَلَّاهُ مِنْ حَدِّ الرُّخَامِ وَالْكَرْمَةِ إِلَى فَوْقَ. وَقَالَ غَيْرُهُ:
إِنَّمَا بَنَى هُودٌ الْجِدَارَ الْقِبْلِيَّ فَقَطْ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَرَجِ، الْمَعْرُوفُ
بِابْنِ الْبِرَامِيِّ،
الدِّمَشْقِيُّ:
ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْوَانَ، سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
مُلَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَحْيَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ قَالَ: كَانَ خَارِجَ بَابِ
السَّاعَاتِ صَخْرَةٌ يُوضَعُ عَلَيْهَا الْقُرْبَانُ، فَمَا تُقُبِّلَ مِنْهُ
جَاءَتْ نَارٌ فَأَكَلَتْهُ، وَمَا لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ.
قُلْتُ: وَهَذِهِ الصَّخْرَةُ نُقِلَتْ إِلَى دَاخِلِ بَابِ السَّاعَاتِ، وَهِيَ
مَوْجُودَةٌ إِلَى الْآنَ، وَبَعْضُ الْعَامَّةِ يَزْعُمُ أَنَّهَا الصَّخْرَةُ
الَّتِي وَضَعَ عَلَيْهَا ابْنَا آدَمَ قُرْبَانَهُمَا، فَتُقُبِّلَ مِنْ
أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الْخُشَنِيُّ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ صَلَّى
فِي مَوْضِعِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَهَذَا مُنْقَطِعٌ.
قُلْتُ: وَمُنْكَرٌ جِدًّا، وَلَا يَثْبُتُ أَيْضًا لَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ،
وَلَا مِنْ غَيْرِهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبِرَامِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ
بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ
أَبِيهِ، أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ تَقَدَّمَ إِلَى الْقُوَّامِ
لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُصَلِّيَ اللَّيْلَةَ
فِي الْمَسْجِدِ، فَلَا تَتْرُكُوا فِيهِ أَحَدًا حَتَّى أُصَلِّيَ اللَّيْلَةَ.
ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى بَابَ السَّاعَاتِ، فَاسْتَفْتَحَ الْبَابَ فَفُتِحَ لَهُ،
فَإِذَا رَجُلٌ
قَائِمٌ
بَيْنَ بَابِ السَّاعَاتِ، وَبَابِ الْخَضْرَاءِ الَّذِي يَلِي الْمَقْصُورَةَ
يُصَلِّي، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى بَابِ الْخَضْرَاءِ مِنْهُ إِلَى بَابِ
السَّاعَاتِ، فَقَالَ لِلْقُوَّامِ: أَلَمْ آمُرْكُمْ أَنْ لَا تَتْرُكُوا أَحَدًا
اللَّيْلَةَ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ؟ فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يُصَلِّي كُلَّ لَيْلَةٍ
فِي الْمَسْجِدِ. فِي إِسْنَادِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ وَصِحَّتِهَا نَظَرٌ، وَلَا
يَثْبُتُ بِمِثْلِهَا وُجُودُ الْخَضِرِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَا صَلَاتُهُ فِي
هَذَا الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدِ اشْتُهِرَ فِي الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ أَنَّ الزَّاوِيَةَ
الْقِبْلِيَّةَ عِنْدَ بَابِ الْمِئْذَنَةِ الْغَرْبِيَّةِ تُسَمَّى زَاوِيَةَ
الْخَضِرِ، وَمَا أَدْرِي مَا سَبَبُ ذَلِكَ، وَالَّذِي ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ
صَلَاةُ الصَّحَابَةِ فِيهِ، وَأَوَّلُ مَنْ صَلَّى فِيهِ إِمَامًا أَبُو
عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَهُوَ أَمِيرُ الْأُمَرَاءِ بِالشَّامِ، وَأَحَدُ
الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ،
وَصَلَّى فِيهِ خَلْقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، لَكِنْ قَبْلَ أَنْ يُغَيِّرَهُ
الْوَلِيدُ إِلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَأَمَّا بَعْدَ أَنْ غُيِّرَ إِلَى هَذَا
الشَّكْلِ فَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ، فَإِنَّهُ وَرَدَ دِمَشْقَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ، وَهُوَ
يَبْنِي فِي هَذَا الْجَامِعِ، فَصَلَّى فِيهِ أَنَسٌ وَرَاءَ الْوَلِيدِ،
وَأَنْكَرَ أَنَسٌ عَلَى الْوَلِيدِ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا،
كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ أَنَسٍ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ سَنَةَ
ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ.
وَسَيُصَلِّي فِيهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إِذَا نَزَلَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ،
إِذَا خَرَجَ الدَّجَّالُ
وَعَمَّتِ
الْبَلْوَى بِهِ، وَانْحَصَرَ النَّاسُ مِنْهُ بِدِمَشْقَ، فَيَنْزِلُ مَسِيحُ
الْهُدَى فَيَقْتُلُ مَسِيحَ الضَّلَالَةِ، وَيَكُونُ نُزُولُهُ عَلَى
الْمَنَارَةِ الشَّرْقِيَّةِ بِدِمَشْقَ وَقْتَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَيَأْتِي
وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَيَقُولُ لَهُ إِمَامُ النَّاسِ: تَقَدَّمْ يَا
رُوحَ اللَّهِ. فَيَقُولُ: إِنَّمَا أُقِيمَتْ لَكَ. فَيُصَلِّي عِيسَى تِلْكَ
الصَّلَاةَ خَلْفَ رَجُلٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. يُقَالُ إِنَّهُ الْمَهْدِيُّ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ يَخْرُجُ عِيسَى بِالنَّاسِ، فَيُدْرِكُ الدَّجَّالَ عِنْدَ عَقَبَةِ
أَفِيقَ، وَقِيلَ: بِبَابِ لُدٍّ. فَيَقْتُلُهُ بِيَدِهِ هُنَالِكَ. وَقَدْ
ذَكَرْنَا ذَلِكَ مَبْسُوطًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ( النِّسَاءِ: 159 )، وَفِي
الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لَيَنْزِلَنَّ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، وَإِمَامًا
عَادِلًا، فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ،
وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ وَالْبَلَدُ مُحَصَّنٌ
مِنَ الدَّجَّالِ، وَيَكُونُ نُزُولُهُ عَلَى الْمَنَارَةِ الشَّرْقِيَّةِ
بِدِمَشْقَ وَهِيَ هَذِهِ الْمَنَارَةُ الْمَبْنِيَّةُ فِي زَمَانِنَا مِنْ
أَمْوَالِ النَّصَارَى; حَيْثُ أَحْرَقُوهَا فَجُدِّدَتْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ثُمَّ
يَكُونُ نُزُولُ عِيسَى حَتْفًا لَهُمْ، وَهَلَاكًا وَدَمَارًا عَلَيْهِمْ،
يَنْزِلُ بَيْنَ مَلَكَيْنِ وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى
مَنَاكِبِهِمَا،
وَعَلَيْهِ مَهْرُودَتَانِ وَفِي رِوَايَةٍ: مُمَصَّرَتَانِ يَقْطُرُ رَأْسُهُ
مَاءً، كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ، وَذَلِكَ وَقْتَ الْفَجْرِ، فَيَنْزِلُ
مِنَ الْمَنَارَةِ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي
الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ بِدِمَشْقَ، وَهُوَ هَذَا الْجَامِعُ.
وَمَا وَقَعَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ رِوَايَةِ النَّوَّاسِ بْنِ
سَمْعَانَ الْكِلَابِيُّ: فَيَنْزِلُ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ
دِمَشْقَ كَأَنَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَرْوِيٌّ بِالْمَعْنَى بِحَسَبِ مَا
فَهِمَهُ الرَّاوِي، وَإِنَّمَا هُوَ يَنْزِلُ عَلَى الْمَنَارَةِ الشَّرْقِيَّةِ
بِدِمَشْقَ، وَقَدْ أُخْبِرْتُ - وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ إِلَّا الْآنَ - أَنَّهُ
كَذَلِكَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَعْضِ الْمُصَنَّفَاتِ،
وَاللَّهُ الْمَسْئُولُ الْمَأْمُولُ أَنْ يُوَفِّقَنِي، فَيُوقِفَنِي عَلَى
هَذِهِ اللَّفْظَةِ.
وَلَيْسَ فِي الْبَلَدِ مَنَارَةٌ تُعْرَفُ بِالشَّرْقِيَّةِ سِوَى هَذِهِ، وَهِيَ
بَيْضَاءُ بِنَفْسِهَا، وَلَا يُعْرَفُ فِي بِلَادِ الشَّامِ مَنَارَةٌ أَحْسَنُ
مِنْهَا، وَلَا أَبْهَى وَلَا أَعْلَى مِنْهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
الْكَلَامُ
عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِرَأْسِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقَدٍ قَالَ: وَكَّلَنِي الْوَلِيدُ
عَلَى الْعُمَّالِ فِي بِنَاءِ جَامِعِ دِمَشْقَ فَوَجَدْنَا فِيهِ مَغَارَةً،
فَعَرَّفْنَا الْوَلِيدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ وَافَانَا وَبَيْنَ
يَدَيْهِ الشَّمْعُ، فَنَزَلَ فَإِذَا هِيَ كَنِيسَةٌ لَطِيفَةٌ ثَلَاثَةُ
أَذْرُعٍ فِي ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، وَإِذَا فِيهَا صُنْدُوقٌ، فَفَتَحَ
الصُّنْدُوقَ فَإِذَا فِيهِ سَفَطٌ، وَفِي السَّفَطِ رَأْسُ يَحْيَى بْنِ
زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: هَذَا رَأْسُ يَحْيَى
بْنِ زَكَرِيَّا. فَأَمَرَ بِهِ الْوَلِيدُ فَرُدَّ إِلَى الْمَكَانِ. وَقَالَ:
اجْعَلُوا الْعَمُودَ الَّذِي فَوْقَهُ مُغَيَّرًا مِنْ بَيْنِ الْأَعْمِدَةِ.
فَجُعِلَ عَلَيْهِ عَمُودٌ مُسَفَّطَ الرَّأْسِ.
وَفِي رِوَايَةٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقَدٍ: أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ كَانَ
تَحْتَ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْقُبَّةِ يَعْنِي قَبْلَ أَنْ تُبْنَى قَالَ:
وَكَانَ عَلَى الرَّأْسِ شَعْرٌ وَبَشَرٌ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقَدٍ، قَالَ: حَضَرْتُ
رَأْسَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، وَقَدْ أُخْرِجَ مِنَ اللِّيطَةِ الْقِبْلِيَّةِ
الشَّرْقِيَّةِ الَّتِي عِنْدَ مَجْلِسِ بُجَيْلَةَ، فَوُضِعَ تَحْتَ عَمُودِ
السِّبْطِ السَّكَاسِكِ.
قَالَ
الْأَوْزَاعِيُّ، وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: هُوَ الْعَمُودُ الرَّابِعُ
الْمُسَفَّطُ.
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبِرَامِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ، عَنْ حَبِيبٍ الْمُؤَذِّنِ، عَنْ أَبِي زِيَادٍ، وَأَبِي أُمَيَّةَ
الشَّعْبَانِيَّيْنِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: صَلَاةٌ فِي
مَسْجِدِ دِمَشْقَ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ صَلَاةٍ. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُسْهِرٍ، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ
نَافِعٍ مَوْلَى أَمِّ عَمْرٍو بِنْتِ مَرْوَانَ عَنْ أَبِيهِ وَفِي رِوَايَةٍ:
عَنْ رَجُلٍ قَدْ سَمَّاهُ أَنَّ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ خَرَجَ مِنْ بَابِ
الْمَسْجِدِ الَّذِي يَلِي بَابَ جَيْرُونَ فَلَقِيَهُ كَعْبُ الْأَحْبَارِ،
فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ وَاثِلَةُ: أُرِيدُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. فَقَالَ:
تَعَالَ حَتَّى أُرِيَكَ مَوْضِعًا فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، مَنْ صَلَّى فِيهِ
فَكَأَنَّمَا صَلَّى فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَذَهَبَ بِهِ فَأَرَاهُ مَا بَيْنَ
الْبَابِ الْأَصْفَرِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْوَالِي إِلَى الْحَنِيَّةِ
يَعْنِي الْقَنْطَرَةَ الْغَرْبِيَّةَ فَقَالَ: مَنْ صَلَّى فِيمَا بَيْنَ
هَذَيْنِ فَكَأَنَّمَا صَلَّى فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَقَالَ وَاثِلَةُ: إِنَّهُ
لَمَجْلِسِي وَمَجْلِسُ قَوْمِي. قَالَ كَعْبٌ: هُوَ ذَاكَ. وَهَذَا أَيْضًا
غَرِيبٌ جِدًّا وَمُنْكَرٌ، وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَى مِثْلِهِ.
وَعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ بِبِنَاءِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ
وَجَدُوا
فِي حَائِطِ الْمَسْجِدِ الْقِبْلِيِّ لَوْحًا مِنْ حَجَرٍ فِيهِ كِتَابٌ نَقْشٌ،
فَأَتَوْا بِهِ الْوَلِيدَ، فَبَعَثَ إِلَى الرُّومِ، فَلَمْ يَسْتَخْرِجُوهُ،
ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الْعِبْرَانِيِّينَ، فَلَمْ يَسْتَخْرِجُوهُ، ثُمَّ بَعَثَ
إِلَى مَنْ كَانَ بِدِمَشْقَ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَشْبَانِ، فَلَمْ
يَسْتَخْرِجُوهُ. فَدُلَّ عَلَى وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ،
فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَخْبَرَهُ بِمَوْضِعِ ذَلِكَ اللَّوْحِ، فَوَجَدُوهُ
فِي ذَلِكَ الْحَائِطِ وَيُقَالُ: إِنْ ذَلِكَ الْحَائِطَ بَنَاهُ هُودٌ عَلَيْهِ
السَّلَامُ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ وَهْبٌ حَرَّكَ رَأْسَهُ وَقَرَأَهُ فَإِذَا
هُوَ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ابْنَ آدَمَ، لَوْ رَأَيْتَ يَسِيرَ مَا
بَقِيَ مِنْ أَجَلِكَ، لَزَهَدْتَ فِي طُولِ مَا تَرْجُو مِنْ أَمَلِكَ،
وَإِنَّمَا تَلْقَى نَدَمَكَ. لَوْ قَدْ زَلَّتْ بِكَ قَدَمُكَ، وَأَسْلَمَكَ
أَهْلُكَ وَحَشَمُكَ، وَانْصَرَفَ عَنْكَ الْحَبِيبُ، وَوَدَّعَكَ الْقَرِيبُ،
ثُمَّ صِرْتَ تُدْعَى فَلَا تُجِيبُ، فَلَا أَنْتَ إِلَى أَهْلِكَ عَائِدٌ، وَلَا
فِي عَمَلِكَ زَائِدٌ، فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَبْلَ
الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ، قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ بِكَ أَجَلُكَ، وَتُنْزَعَ
مِنْكَ رُوحُكَ، فَلَا يَنْفَعُكَ مَالٌ جَمَعْتَهُ، وَلَا وَلَدٌ وَلَدْتَهُ،
وَلَا أَخٌ تَرَكْتَهُ، ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى بَرْزَخِ الثَّرَى، وَمُجَاوَرَةِ
الْمَوْتَى، فَاغْتَنِمِ الْحَيَاةَ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَالْقُوَّةَ قَبْلَ
الضَّعْفِ، وَالصِّحَّةَ قَبْلَ السَّقَمِ، قَبْلَ أَنْ تُؤْخَذَ بِالْكَظْمِ،
وَيُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ
الْعَمَلِ.
وَكُتِبَ فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ السُّلَمِيِّ، عَنْ
عَبْدِ الْعَزِيزِ التَّمِيمِيِّ، أَنْبَأَنَا تَمَّامٌ الرَّازِيُّ، أَنْبَأَنَا
ابْنُ الْبِرَامِيِّ، سَمِعْتُ أَبَا مَرْوَانَ عَبْدَ الرَّحِيمِ بْنَ عُمَرَ
الْمَازِنِيَّ، يَقُولُ: لَمَّا كَانَ فِي أَيَّامِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ وَبِنَائِهِ الْمَسْجِدَ احْتَفَرُوا فِيهِ مَوْضِعًا، فَوَجَدُوا بَابًا
مِنْ حِجَارَةٍ مُغْلَقًا، فَلَمْ يَفْتَحُوهُ، وَأَعْلَمُوا بِهِ الْوَلِيدَ،
فَخَرَجَ مِنْ دَارِهِ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ، وَفُتِحَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِذَا
دَاخِلُهُ مَغَارَةٌ فِيهَا تَمْثَالُ إِنْسَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ عَلَى فَرَسٍ مِنْ
حِجَارَةٍ فِي يَدِ التَّمْثَالِ الْوَاحِدَةِ الدُّرَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِي
الْمِحْرَابِ، وَيَدُهُ الْأُخْرَى مَقْبُوضَةٌ، فَأَمَرَ بِهَا فَكُسِرَتْ،
فَإِذَا فِيهَا حَبَّتَانِ; حَبَّةُ قَمْحٍ وَحَبَّةُ شَعِيرٍ، فَسَأَلَ عَنْ
ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ: لَوْ تَرَكْتَ الْكَفَّ لَمْ تَكْسِرْهَا لَمْ يُسَوِّسْ فِي
هَذَا الْبَلَدِ قَمْحٌ وَلَا شَعِيرٌ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَحْمَدُ الْوَرَّاقُ، وَكَانَ قَدْ عُمِّرَ مِائَةَ سَنَةٍ:
سَمِعْتُ بَعْضَ الشُّيُوخِ يَقُولُ: لَمَّا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ دِمَشْقَ
وَجَدُوا عَلَى الْعَمُودِ الَّذِي عَلَى الْمِقْسِلَّاطِ عَلَى السَّفُّودِ
الْحَدِيدِ الَّذِي فِي أَعْلَاهُ صَنَمًا مَادًّا يَدَهُ بِكَفٍّ مُطْبَقَةٍ،
فَكَسَرُوهُ، فَإِذَا فِي يَدِهِ حَبَّةُ قَمْحٍ، فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ
لَهُمْ: هَذِهِ الْحَبَّةُ الْقَمْحِ جَعَلَهَا حُكَمَاءُ الْيُونَانِ فِي كَفِّ
هَذَا الصَّنَمِ طِلَّسْمًا، حَتَّى لَا يُسَوِّسَ الْقَمْحُ،
وَلَوْ
أَقَامَ سِنِينَ كَثِيرَةً.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَا هَذَا السَّفُّودَ عَلَى قَنَاطِرِ
كَنِيسَةِ الْمِقْسِلَّاطِ، فَلَمَّا هُدِمَتِ الْقَنَاطِرُ ذَهَبَ. قُلْتُ:
كَنِيسَةُ الْمِقْسِلَّاطِ كَانَتْ مَبْنِيَّةً فَوْقَ الْقَنَاطِرِ الَّتِي فِي
السُّوقِ الْكَبِيرِ، عِنْدَ الصَّابُونِيِّينَ وَالْعَطَّارِينَ الْيَوْمَ،
وَعِنْدَهَا اجْتَمَعَتْ جُيُوشُ الْإِسْلَامِ يَوْمَ فَتْحِ دِمَشْقَ، دَخَلَ
أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْ بَابِ الْجَابِيَةِ، وَخَالِدٌ مِنَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ،
وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ بَابِ الْجَابِيَةِ الصَّغِيرِ، كَمَا
قَدَّمْنَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ التَّمِيمِيُّ، عَنْ أَبِي نَصْرٍ عَبْدِ الْوَهَّابِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ: سَمِعْتُ جَمَاعَةً مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ
دِمَشْقَ يَقُولُونَ: إِنَّ فِي سَقْفِ مَسْجِدِ الْجَامِعِ طَلَاسِمَ عَمِلَهَا
الْحُكَمَاءُ فِي السَّقْفِ، مِمَّا يَلِي الْحَائِطَ الْقِبْلِيَّ، فِيهَا
طَلَاسِمُ لِلصَّنُونِيَّاتِ، لَا تَدْخُلُهُ وَلَا تُعَشِّشُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ
الْأَوْسَاخِ الَّتِي تَكُونُ مِنْهَا، وَلَا يَدْخُلُهُ غُرَابٌ، وَطِلَّسْمٌ
لِلْفَأْرِ وَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ مَا أَبْصَرَ النَّاسُ مِنْ هَذَا
شَيْئًا إِلَّا الْفَأْرَ، وَيُشَكُّ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُدِمَ طِلَّسْمُهَا
وَطِلَّسْمٌ لِلْعَنْكَبُوتِ
حَتَّى
لَا يَنْسِجَ فِي زَوَايَاهُ، فَيَرْكَبُهُ الْغُبَارُ وَالْوَسَخُ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَسَمِعْتُ جَدِّي أَبَا الْفَضْلِ يَحْيَى
بْنَ عَلِيٍّ الْقَاضِيَ، يَذْكُرُ أَنَّهُ أَدْرَكَ فِي الْجَامِعِ قَبْلَ
حَرِيقِهِ طِلَّسْمَاتٍ لِسَائِرِ الْحَشَرَاتِ، مُعَلَّقَةً فِي السَّقْفِ فَوْقَ
الْبَطَائِنِ مِمَّا يَلِي السُّبْعَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ فِي
الْجَامِعِ شَيْءٌ مِنَ الْحَشَرَاتِ قَبْلَ الْحَرِيقِ، فَلَمَّا احْتَرَقَتِ
الطِّلَّسْمَاتُ وُجِدَتْ، وَكَانَ حَرِيقُ الْجَامِعِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ
شَعْبَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
وَقَدْ كَانَتْ بِدِمَشْقَ طِلَّسْمَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا سِوَى
الْعَمُودِ الَّذِي بِسُوقِ الْعَلَبِيِّينَ الْيَوْمَ الَّذِي فِي أَعْلَاهُ
مِثْلُ الْكُرَةِ الْعَظِيمَةِ، وَهُوَ لِعُسْرِ بَوْلِ الدَّوَابِّ إِذَا دَارُوا
بِالدَّابَّةِ حَوْلَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ انْطَلَقَ.
وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: إِنَّمَا هَذَا قَبْرُ مُشْرِكٍ مُتَمَرِّدٍ مَدْفُونٌ
هُنَالِكَ يُعَذَّبُ، فَإِذَا سَمِعَتِ الدَّابَّةُ صِيَاحَهُ فَزِعَتْ
فَانْطَلَقَ طَبْعُهَا. قَالَ: وَلِهَذَا يَذْهَبُونَ بِالدَّوَابِّ إِلَى
مَقَابِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِذَا مَغَلَتْ فَيَنْطَلِقُ طِبَاعُهَا
وَتَرُوثُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهَا تَسْمَعُ أَصْوَاتَهُمْ وَهُمْ
يُعَذَّبُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ
السَّاعَاتِ الَّتِي عَلَى بَابِهِ
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ زَبْرٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ
بَابُ الْجَامِعِ الْقِبْلِيُّ بَابَ السَّاعَاتِ; لِأَنَّهُ عُمِلَ هُنَاكَ
بِرْكَارُ السَّاعَاتِ; يُعْلَمُ بِهَا كُلُّ سَاعَةٍ تَمْضِي مِنَ النَّهَارِ،
عَلَيْهَا عَصَافِيرُ مِنْ نُحَاسٍ، وَحَيَّةٌ مِنْ نُحَاسٍ، وَغُرَابٌ، فَإِذَا
تَمَّتِ السَّاعَةُ خَرَجَتِ الْحَيَّةُ فَصَفَّرَتِ الْعَصَافِيرُ، وَصَاحَ
الْغُرَابُ، وَسَقَطَتْ حَصَاةٌ فِي الطَّسْتِ فَيَعْلَمُ النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ
ذَهَبَ مِنَ النَّهَارِ سَاعَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِهَا.
قُلْتُ: هَذَا يَحْتَمِلُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ; إِمَّا أَنَّ السَّاعَاتِ كَانَتْ
فِي الْبَابِ الْقِبْلِيِّ مِنَ الْجَامِعِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بَابُ
الزِّيَادَةِ، وَلَكِنْ قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مُحْدَثٌ بَعْدَ بِنَاءِ الْجَامِعِ،
وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ أَنَّ السَّاعَاتِ كَانَتْ عِنْدَهُ فِي زَمَنِ الْقَاضِي
ابْنِ زَبْرٍ. وَإِمَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنَ
الْجَامِعِ، فِي حَائِطِهِ الْقِبْلِيِّ بَابٌ آخَرُ فِي مُحَاذَاةِ بَابِ
الزِّيَادَةِ، وَعِنْدَهُ السَّاعَاتُ، ثُمَّ نُقِلَتْ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ إِلَى
بَابِ الْوَرَّاقِينَ الْيَوْمَ; وَهُوَ بَابُ الْجَامِعِ مِنَ الشَّرْقِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قُلْتُ: فَأَمَّا الْقُبَّةُ الَّتِي فِي وَسَطِ صَحْنِ الْجَامِعِ الَّتِي فِيهَا
الْمَاءُ الْجَارِي، وَتَقُولُ
الْعَامَّةُ
لَهَا: قُبَّةُ أَبِي نُوَاسٍ. فَكَانَ بِنَاؤُهَا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، أَرَّخَ ذَلِكَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ خَطِّ بَعْضِ
الدَّمَاشِقَةِ، وَأَمَّا الْقُبَّةُ الْغَرْبِيَّةُ الْعَالِيَةُ الَّتِي فِي
صَحْنِ الْجَامِعِ، الَّتِي يُقَالُ لَهَا: قُبَّةُ عَائِشَةَ. فَسَمِعْتُ
شَيْخَنَا الذَّهَبِيَّ يَقُولُ: إِنَّهَا إِنَّمَا بُنِيَتْ فِي حُدُودِ سَنَةِ سِتِّينَ
وَمِائَةٍ، فِي أَيَّامِ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ الْعَبَّاسِيِّ،
وَجَعَلُوهَا لِحَوَاصِلِ الْجَامِعَ وَكُتُبِ أَوْقَافِهِ. وَأَمَّا الْقُبَّةُ
الشَّرْقِيَّةُ الَّتِي عَلَى بَابِ مَشْهَدِ عَلِيٍّ فَيُقَالُ: إِنَّهَا
بُنِيَتْ فِي زَمَنِ الْحَاكِمِ الْعُبَيْدِيِّ فِي حُدُودِ سَنَةِ
أَرْبَعِمِائَةٍ.
وَأَمَّا الْفَوَّارَةُ الَّتِي تَحْتَ دُرْجِ جَيْرُونَ فَعَمِلَهَا الشَّرِيفُ
فَخْرُ الدَّوْلَةِ أَبُو يَعْلَى حَمْزَةُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْعَبَّاسِ
الْحُسَيْنِيُّ، وَكَأَنَّهُ كَانَ نَاظِرَ الْجَامِعِ، وَجَرَّ إِلَيْهَا
قِطْعَةً مِنْ حَجَرٍ كَبِيرٍ مِنْ قَصْرِ حَجَّاجٍ، وَأَجْرَى فِيهَا الْمَاءَ
لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ
سَبْعَ عَشَرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَعُمِلَتْ حَوْلَهَا قَنَاطِرُ، وَعُقِدَ عَلَيْهَا
قُبَّةٌ، ثُمَّ سَقَطَتِ الْقُبَّةُ بِسَبَبِ جِمَالٍ تَحَاكَّتْ عِنْدَهَا
وَازْدَحَمَتْ، وَذَلِكَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ،
فَأُعِيدَتْ، ثُمَّ سَقَطَتْ أَعْمِدَتُهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنْ حَرِيقِ
اللَّبَّادِينَ وَدَارِ الْحِجَارَةِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ. ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
قُلْتُ: وَأَمَّا الْقَصْعَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي الْفَوَّارَةِ، فَمَا زَالَتْ
وَسَطَهَا، وَقَدْ أَدْرَكْتُهَا
كَذَلِكَ،
ثُمَّ رُفِعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَكَانَ بِطَهَّارَةِ جَيْرُونَ قَصْعَةٌ أُخْرَى مِثْلُهَا، فَلَمْ تَزَلْ بِهَا،
ثُمَّ لَمَّا انْهَدَمَتِ اللَّبَّادِينَ بِسَبَبِ حَرِيقِ النَّصَارَى فِي سَنَةِ
إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، اسْتُؤْنِفَ بِنَاءُ الطَّهَارَةِ عَلَى وَجْهٍ
آخَرَ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَتْ، وَذَهَبَتْ تِلْكَ الْقَصْعَةُ فَلَمْ يَبْقَ
لَهَا أَثَرٌ، ثُمَّ عُمِلَ الشَّاذِرْوَانُ الَّذِي هُوَ شَرْقِيُّ فَوَّارَةِ
جَيْرُونَ بَعْدَ الْخَمْسِمِائَةِ، أَظُنُّهُ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ
وَخَمْسِمِائَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ ابْتِدَاءِ أَمْرِ السُّبْعِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: ثَنَا أَبُو عَامِرٍ مُوسَى بْنُ عَامِرٍ
الْمُرِّيُّ، ثَنَا الْوَلِيدُ هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو
الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ: الدِّرَاسَةُ مُحْدَثَةٌ،
أَحْدَثَهَا هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ فِي قَدْمَتِهِ عَلَى
عَبْدِ الْمَلِكِ، فَحَجَبَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، فَجَلَسَ بَعْدَ الصُّبْحِ فِي
مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَسَمِعَ قِرَاءَةً، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَأُخْبِرَ أَنَّ
عَبْدَ الْمَلِكِ يَقْرَأُ فِي الْخَضْرَاءِ، فَقَرَأَ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
فَجَعَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَقْرَأُ بِقِرَاءَةِ هِشَامٍ، فَقَرَأَ بِقِرَاءَتِهِ
مَوْلًى لَهُ، فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مَنْ يَلِيهِ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ، فَقَرَءُوا
بِقِرَاءَتِهِ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ خَطِيبُ دِمَشْقَ: ثَنَا أَيُّوبُ بْنُ حَسَّانَ،
ثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ،
ثَنَا
خَالِدُ بْنُ دِهْقَانَ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الْقِرَاءَةَ فِي مَسْجِدِ
دِمَشْقَ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ
الْمَخْزُومِيُّ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الْقِرَاءَةَ بِفِلَسْطِينَ الْوَلِيدُ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُرَشِيُّ.
قُلْتُ: هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ هَذَا كَانَ نَائِبًا عَلَى الْمَدِينَةِ
النَّبَوِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي ضَرَبَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ لَمَّا
امْتَنَعَ مِنَ الْبَيْعَةِ لِلْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَبْلَ أَنْ
يَمُوتَ أَبُوهُ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْهَا الْوَلِيدُ، وَوَلَّى عَلَيْهَا عُمَرَ
بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ حَضَرَ هَذَا السُّبْعَ جَمَاعَاتٌ مِنْ سَادَاتِ السَّلَفِ مِنَ
التَّابِعِينَ بِدِمَشْقَ; مِنْهُمْ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ،
وَمَوْلَاهُ رَافِعٌ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ
وَكَانَ مُكْتِبًا لِأَوْلَادِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَقَدْ وَلِيَ
إِمْرَةَ إِفْرِيقِيَّةَ لِهِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَابْنَاهُ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ وَمَرْوَانُ.
وَحَضَرَهُ مِنَ الْقُضَاةِ أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْخَوْلَانِيُّ، وَنُمَيْرُ بْنُ أَوْسٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي
الْهَمْدَانِيِّ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَارِبِيُّ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَبِيدٍ الْأَسَدِيُّ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْحُفَّاظِ الْمُقْرِئِينَ، أَبُو
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ مُعَاوِيَةَ،
وَمَكْحُولٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى الْأَشْدَقُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْعَلَاءِ بْنِ زَبْرٍ، وَأَبُو إِدْرِيسَ الْأَصْغَرُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عِرَاكٍ،
وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَامِرٍ الْيَحْصُبِيُّ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ
وَيَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ الذِّمَارِيُّ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ النُّعْمَانِ
الْمُزَنِيُّ، وَأَنَسُ بْنُ أُنَيْسٍ الْعُذْرِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ بَزِيعٍ
الْقَارِئُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْخُشَنِيُّ، وَنَمْرَانُ أَوْ هَزَّانُ
بْنُ حَكِيمٍ الْقُرَشِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ
الْأَزْدِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ عُبَيْدَةَ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ، وَعَيَّاشُ
بْنُ دِينَارٍ وَغَيْرُهُمْ، هَكَذَا أَوْرَدَهُمُ ابْنُ عَسَاكِرَ. قَالَ: وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَرِهَ اجْتِمَاعَهُمْ وَأَنْكَرَهُ، وَلَا وَجْهَ
لِإِنْكَارِهِ.
ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ
عُثْمَانَ، ثَنَا الْوَلِيدُ هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْعَلَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَرْزَبٍ
يُنْكِرُ الدِّرَاسَةَ، وَيَقُولُ: مَا رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ، وَقَدْ
أَدْرَكْتُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَكَانَ الضَّحَّاكُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمِيرًا
عَلَى دِمَشْقَ، فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
فَصْلٌ
( فِي ابْتِدَاءِ عِمَارَةِ جَامِعِ دِمَشْقَ )
كَانَ ابْتِدَاءُ عِمَارَةِ جَامِعِ دِمَشْقَ فِي أَوَاخِرَ سَنَةِ سِتٍّ
وَثَمَانِينَ; هُدِمَتِ الْكَنِيسَةُ الَّتِي كَانَتْ مَوْضِعَهُ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ مِنْهَا، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الْهَدْمِ، شَرَعُوا فِي الْبِنَاءِ،
وَتَكَامَلَ فِي عَشْرِ سِنِينَ، فَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
أَعْنِي سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ بَانِيهِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقَدْ بَقِيَتْ
فِيهِ بَقَايَا، فَكَمَّلَهَا أَخُوهُ سُلَيْمَانُ، كَمَا ذَكَرْنَا.
فَأَمَّا قَوْلُ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ: سَأَلْتُ هِشَامَ بْنَ عَمَّارٍ عَنْ
قِصَّةِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ وَهَذِهِ الْكَنِيسَةِ قَالَ: كَانَ الْوَلِيدُ قَالَ
لِلنَّصَارَى مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ: مَا شِئْتُمْ، إِنَّا أَخَذْنَا كَنِيسَةَ
تُومَا عَنْوَةً وَكَنِيسَةَ الدَّاخِلَةِ صُلْحًا، فَأَنَا أَهْدِمُ كَنِيسَةَ
تُومَا؟ قَالَ هِشَامٌ: وَتِلْكَ أَكْبَرُ مِنْ هَذِهِ الدَّاخِلَةِ، قَالَ:
فَرَضُوا أَنْ أَهْدِمَ كَنِيسَةَ الدَّاخِلَةِ، وَأُدْخِلَهَا فِي الْمَسْجِدِ.
قَالَ: وَكَانَ بَابُهَا قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ الْيَوْمَ، وَهُوَ الْمِحْرَابُ
الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ قَالَ: وَهَدْمُ الْكَنِيسَةِ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ
الْوَلِيدِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَمَكَثُوا فِي بِنَائِهِ سَبْعَ سِنِينَ،
حَتَّى مَاتَ الْوَلِيدُ، وَلَمْ يُتِمَّ بِنَاءَهُ، فَأَتَمَّهُ هِشَامٌ مِنْ
بَعْدِهِ. فَفِيهِ فَوَائِدُ، وَفِيهِ غَلَطٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ
مَكَثُوا فِي بِنَائِهِ سَبْعَ سِنِينَ. وَالصَّوَابُ: عَشْرَ سِنِينَ، فَإِنَّهُ
لَا خِلَافَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ تُوُفِّيَ فِي
هَذِهِ
السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَقَدْ حَكَى أَبُو جَعْفَرِ بْنُ
جَرِيرٍ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعَ أَهْلِ السِّيَرِ. وَقَوْلُهُ: لَمْ يَتِمَّ
بِنَاؤُهُ فِي زَمَنِ الْوَلِيدِ. بَلْ قَدْ تَمَّ، وَلَكِنْ بَقِيَتْ بَقِيَّاتٌ
مِنَ الزَّخْرَفَةِ، فَأَكْمَلَهَا أَخُوهُ سُلَيْمَانُ لَا هِشَامٌ، وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بَانِي جَامِعِ دِمَشْقَ،
وَذِكْرُ وَفَاتِهِ فِي هَذَا الْعَامِ
هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي
الْعاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، أَبُو
الْعَبَّاسِ الْأُمَوِيُّ، بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَبِيهِ بِعَهْدٍ
مِنْهُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِهِ
وَالْوَلِيَّ مِنْ بَعْدِهِ، وَأُمُّهُ وَلَّادَةُ بِنْتُ الْعَبَّاسِ بْنِ
جُزِيِّ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهَيْرٍ الْعَبْسِيِّ. وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ
خَمْسِينَ، وَكَانَ أَبَوَاهُ يُتْرِفَانِهِ، فَشَبَّ بِلَا أَدَبٍ، وَكَانَ لَا يُحْسِنُ
الْعَرَبِيَّةَ، وَكَانَ طَوِيلًا أَسْمَرَ، بِهِ أَثَرُ جُدَرِيٍّ، أَفْطَسَ
الْأَنْفِ سَائِلَهُ، وَكَانَ إِذَا مَشَى يَتَوَكَّفُ فِي الْمِشْيَةِ أَيْ
يَتَبَخْتَرُ وَكَانَ جَمِيلًا، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ دَمِيمًا، قَدْ شَابَ فِي
مُقَدَّمِ لِحْيَتِهِ، وَقَدْ رَأَى سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ وَسَمِعَ أَنَسَ بْنَ
مَالِكٍ; لَمَّا قَدِمَ
عَلَيْهِ
سَأَلَهُ مَاذَا سَمِعَ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةَ؟ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ
أَنَسٍ، وَسَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، وَحَكَى عَنِ الزُّهْرِيِّ
وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ أَرَادَ أَنْ يَعْهَدَ إِلَيْهِ ثُمَّ
تَوَقَّفَ; لِأَنَّهُ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، فَجَمَعَ الْوَلِيدُ جَمَاعَةً
مِنْ أَهْلِ النَّحْوِ عِنْدَهُ فَأَقَامُوا سَنَةً، وَقِيلَ: سِتَّةَ أَشْهُرٍ.
فَخَرَجَ يَوْمَ خَرَجَ أَجْهَلَ مِمَّا كَانَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: قَدْ
أُجْهِدَ وَأُعْذِرَ.
وَقِيلَ: إِنَّ أَبَاهُ عَبْدَ الْمَلِكِ أَوْصَاهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَقَالَ
لَهُ: لَا أَلْفَيَنَّكَ إِذَا مِتُّ، تَجْلِسُ تَعْصِرُ عَيْنَيْكَ، وَتَحِنُّ
حَنِينَ الْأَمَةِ، وَلَكِنْ شَمِّرْ وَائْتَزِرْ وَدَلِّنِي فِي حُفْرَتِي
وَخَلِّنِي وَشَأْنِي، وَادْعُ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ; فَمَنْ قَالَ
بِرَأْسِهِ هَكَذَا فَقُلْ بِسَيْفِكَ هَكَذَا.
وَقَالَ اللَّيْثُ: وَفِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسَبْعَيْنِ غَزَا الْوَلِيدُ بِلَادَ
الرُّومِ، وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَيْضًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: غَزَا فِي
الَّتِي قَبْلَهَا، وَفِي الَّتِي بَعْدَهَا بِلَادَ مَلَطْيَةَ وَغَيْرَهَا.
وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: أُؤْمِنُ بِاللَّهِ مُخْلِصًا. وَقِيلَ: كَانَ
نَقْشُهُ: يَا وَلِيدُ إِنَّكَ مَيِّتٌ. وَيُقَالُ: إِنَّ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ
بِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ: قَالَ لِي الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ يَوْمًا: فِي كَمْ تَخْتِمُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: فِي كَذَا وَكَذَا.
فَقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى شُغْلِهِ يَخْتِمُهُ فِي
كُلِّ
ثَلَاثٍ. وَقِيلَ: فِي كُلِّ سَبْعٍ. قَالَ: وَكَانَ يَقْرَأُ فِي شَهْرِ
رَمَضَانَ سَبْعَ عَشْرَةَ خَتْمَةً. قَالَ إِبْرَاهِيمُ، رَحِمَهُ اللَّهُ:
الْوَلِيدُ ! وَأَيْنَ مِثْلُهُ؟ بَنَى مَسْجِدَ دِمَشْقَ وَكَانَ يُعْطِينِي
قِصَاعَ الْفِضَّةِ، فَأُقَسِّمُهَا عَلَى قُرَّاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجَ الْوَلِيدُ
يَوْمًا مِنَ الْبَابِ الْأَصْغَرِ، فَرَأَى رَجُلًا عِنْدَ الْمِئْذَنَةِ
الشَّرْقِيَّةِ يَأْكُلُ شَيْئًا، فَأَتَاهُ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ
يَأْكُلُ خُبْزًا وَتُرَابًا، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ:
الْقُنُوعُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَذَهَبَ إِلَى مَجْلِسِهِ، ثُمَّ
اسْتَدْعَى بِهِ، فَقَالَ: إِنْ لَكَ لَشَأْنًا، فَأَخْبِرْنِي بِهِ وَإِلَّا
ضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاكَ. فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
كُنْتُ رَجُلًا جَمَّالًا، فَبَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ مِنْ مَرْجِ الصُّفَّرِ
قَاصِدًا إِلَى الْكُسْوَةِ إِذْ زَرَتَنِي الْبَوْلُ، فَعَدَلْتُ إِلَى خَرِبَةٍ
لِأَبُولَ، فَإِذَا سَرَبٌ فَحَفَرْتُهُ فَإِذَا مَالٌ صَبِيبٌ، فَمَلَأْتُ مِنْهُ
غَرَائِرِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ أَقُودُ بِرَوَاحِلِي، وَإِذَا بِمِخْلَاةٍ مَعِي
فِيهَا طَعَامٌ فَأَلْقَيْتُهُ مِنْهَا، وَقُلْتُ: إِنِّي سَآتِي الْكُسْوَةَ،
وَرَجَعْتُ إِلَى الْخَرِبَةِ، لِأَمْلَأَ تِلْكَ الْمِخْلَاةَ مِنْ ذَلِكَ
الْمَالِ، فَلَمْ أَهْتَدِ إِلَى الْمَكَانِ بَعْدَ الْجَهْدِ فِي الطَّلَبِ،
فَلَمَّا أَيِسْتُ رَجَعْتُ إِلَى الرَّوَاحِلِ فَلَمْ أَجِدْهَا وَلَمْ أَجِدِ
الطَّعَامَ، فَآلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَنِّي لَا آكُلُ إِلَّا خُبْزًا وَتُرَابًا.
قَالَ: فَهَلْ لَكَ عِيَالٌ؟ قَالَ:
نَعَمْ.
فَفَرَضَ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ.
قَالَ ابْنُ جَابِرٍ: وَبَلَغَنَا أَنَّ تِلْكَ الرَّوَاحِلَ سَارَتْ حَتَّى
أَتَتْ بَيْتَ الْمَالِ، فَتَسَلَّمَهَا خَازِنُهُ فَوَضَعَهَا فِي بَيْتِ
الْمَالِ.
وَقَالَ نُمَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّمْعَانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ قَوْمَ
لُوطٍ فِي الْقُرْآنِ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا يَفْعَلُ هَذَا.
قَالُوا: وَكَانَ الْوَلِيدُ لَحَّانًا. كَمَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ
الْوَلِيدَ خَطَبَ يَوْمًا، فَقَرَأَ فِي خُطْبَتِهِ: يَا لَيْتَهَا كَانَتِ
الْقَاضِيَةَ [ الْحَاقَّةِ: 27 ] فَضَمَّ التَّاءَ مِنْ لَيْتَهَا فَقَالَ عُمَرُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَا لَيْتَهَا كَانَتْ عَلَيْكَ وَأَرَاحَنَا اللَّهُ
مِنْكَ. وَكَانَ يَقُولُ: يَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ: إِنَّكَ لَرَجُلٌ
لَوْلَا أَنَّكَ تَلْحَنُ. فَقَالَ: وَهَذَا ابْنُكَ الْوَلِيدُ يَلْحَنُ.
فَقَالَ: لَكِنَّ ابْنِي سُلَيْمَانَ لَا يَلْحَنُ. فَقَالَ الرَّجُلُ: وَأَخِي
أَبُو فُلَانٍ لَا يَلْحَنُ.
قَالَ
ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنِي عُمَرُ، ثَنَا عَلِيٌّ يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ
الْمَدَائِنِيَّ قَالَ: كَانَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عِنْدَ أَهْلِ
الشَّامِ أَفْضَلَ خَلَائِفِهِمْ، بَنَى الْمَسَاجِدَ بِدِمَشْقَ، وَوَضَعَ
الْمَنَارَ، وَأَعْطَى النَّاسَ وَأَعْطَى الْمَجْذُومِينَ، وَقَالَ لَهُمْ: لَا
تَسْأَلُوا النَّاسَ، وَأَعْطَى كُلَّ مُقْعَدٍ خَادِمًا، وَكُلَّ ضَرِيرٍ
قَائِدًا، وَفَتَحَ فِي وِلَايَتِهِ فُتُوحَاتٍ كَثِيرَةً عِظَامًا، فَفَتَحَ
الْهِنْدَ وَالسِّنْدَ وَالْأَنْدَلُسَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ. قَالَ: وَكَانَ مَعَ
هَذَا يَمُرُّ بِالْبَقَّالِ فَيَأْخُذُ حُزْمَةَ الْبَقْلِ بِيَدِهِ، وَيَقُولُ:
بِكَمْ تَبِيعُ هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِفَلْسٍ. فَيَقُولُ: زِدْ فِيهَا فَإِنَّكَ
تَرْبَحُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يَبَرُّ حَمَلَةَ الْقُرْآنِ وَيُكْرِمُهُمْ، وَيَقْضِي
عَنْهُمْ دُيُونَهُمْ.
قَالُوا: وَكَانَتْ هِمَّةُ الْوَلِيدِ فِي الْبِنَاءِ وَكَانَ النَّاسُ كَذَلِكَ;
يَلْقَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ، فَيَقُولُ: مَاذَا بَنَيْتَ ؟ مَاذَا عَمَرْتَ ؟
وَكَانَتْ هِمَّةُ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ فِي النِّسَاءِ، فَكَانَ النَّاسُ
كَذَلِكَ; يَلْقَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ، فَيَقُولُ: كَمْ تَزَوَّجْتَ؟ مَاذَا
عِنْدَكَ مِنَ السَّرَارِيِّ؟ وَكَانَتْ هِمَّةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ، فَكَانَ النَّاسُ
كَذَلِكَ; يَلْقَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: كَمْ وِرْدُكَ؟ كَمْ تَقْرَأُ
كُلَّ يَوْمٍ؟ مَاذَا صَلَّيْتَ الْبَارِحَةَ؟.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ الْوَلِيدُ جَبَّارًا ذَا سَطْوَةٍ شَدِيدَةٍ لَا
يَتَوَقَّفُ إِذَا غَضِبَ،
لَجُوجًا،
كَثِيرَ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ، مِطْلَاقًا، يُقَالُ: إِنَّهُ تَزَوَّجَ ثَلَاثًا
وَسِتِّينَ امْرَأَةً غَيْرَ الْإِمَاءِ.
قُلْتُ: وَقَدْ يُرَادُ بِهَذَا الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ الْفَاسِقُ لَا
الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بَانِي الْجَامِعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: بَنَى الْوَلِيدُ الْجَامِعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَلَمْ
يَكُنْ لَهُ فِي الدُّنْيَا نَظِيرٌ، وَبَنَى صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَقَدَ
عَلَيْهَا الْقُبَّةَ، وَبَنَى مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَوَسَّعَهُ، حَتَّى دَخَلَتِ الْحُجْرَةُ الَّتِي فِيهَا الْقَبْرُ
فِيهِ، وَلَهُ آثَارٌ حِسَانٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
يَوْمِ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ السِّيَرِ. وَقَالَ عَمْرُو
بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ وَجَمَاعَةٌ: كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتِ
لِلنِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ - وَقِيلَ: ثَلَاثٍ،
وَقِيلَ: تِسْعٍ، وَقِيلَ: أَرْبَعٍ - وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدَيْرِ مُرَّانَ، فَحُمِلَ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ
حَتَّى دُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ، وَقِيلَ: بِمَقَابِرِ بَابِ
الْفَرَادِيسِ. حَكَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَكَانَ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ; لِأَنَّ أَخَاهُ
سُلَيْمَانَ كَانَ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَقِيلَ: صَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ
عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَقِيلَ: بَلْ صَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ سُلَيْمَانُ.
وَالصَّحِيحُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهُوَ
الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَى قَبْرِهِ، وَقَالَ حِينَ أَنْزَلَهُ: لَتَنْزِلَنَّهُ
غَيْرَ مُوَسَّدٍ وَلَا مُمَهَّدٍ، قَدْ خَلَّفْتَ الْأَسْبَابَ، وَفَارَقْتَ
الْأَحْبَابَ، وَسَكَنْتَ التُّرَابَ، وَوَاجَهْتَ الْحِسَابَ، فَقِيرًا إِلَى مَا
تُقْدِمُ عَلَيْهِ، غَنِيًّا عَمَّا تُخَلِّفُ.
وَجَاءَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ
أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمَّا وَضَعَ الْوَلِيدَ فِي لَحْدِهِ ارْتَكَضَ فِي
أَكْفَانِهِ، وَجُمِعَتْ رِجْلَاهُ إِلَى عُنُقِهِ.
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ تِسْعَ سِنِينَ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ عَلَى الْمَشْهُورِ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ تِسْعَةَ عَشَرَ وَلَدًا
ذَكَرًا; وَهُمْ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَمُحَمَّدٌ، وَالْعَبَّاسُ، وَإِبْرَاهِيمُ،
وَتَمَّامٌ، وَخَالِدٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَمُبَشِّرٌ، وَمَسْرُورٌ، وَأَبُو
عُبَيْدَةَ، وَصَدَقَةُ، وَمَنْصُورٌ، وَمَرْوَانُ، وَعَنْبَسَةُ، وَعُمَرُ،
وَرَوْحٌ، وَبِشْرٌ، وَيَزِيدُ، وَيَحْيَى، فَأُمُّ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَمُحَمَّدٍ; أُمُّ الْبَنِينَ بِنْتُ عَمِّهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ،
وَأُمُّ أَبِي عُبَيْدَةَ فَزَارِيَّةٌ، وَسَائِرُهُمْ مِنْ أُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ
شَتَّى.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَقَدْ رَثَاهُ جَرِيرٌ فَقَالَ:
يَا
عَيْنُ جُودِي بِدَمْعٍ هَاجَهُ الذِّكَرُ فَمَا لِدَمْعِكِ بَعْدَ الْيَوْمِ مُدَّخَرُ
إِنَّ الْخَلِيفَةَ قَدْ وَارَتْ شَمَائِلَهُ
غَبْرَاءُ مُلْحَدَةٌ فِي جَوْلِهَا زَوَرُ أَضْحَى بَنُوهُ وَقَدْ جَلَّتْ
مُصِيبَتُهُمْ
مِثْلَ النُّجُومِ هَوَى مِنْ بَيْنِهَا الْقَمَرُ كَانُوا جَمِيعًا فَلَمْ
يَدْفَعْ مَنِيَّتَهُ
عَبْدُ الْعَزِيزِ وَلَا رَوْحٌ وَلَا عُمْرَ
وَمِمَّنْ هَلَكَ أَيَّامَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ:
زِيَادُ بْنُ جَارِيَةَ التَّمِيمِيُّ الدِّمَشْقِيُّ
كَانَتْ دَارُهُ غَرْبِيَّ قَصْرِ الثَّقَفِيِّينَ. رَوَى عَنْ حَبِيبِ بْنِ
مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيِّ فِي النَّهْيِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ لِمَنْ لَهُ مَا
يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ، وَفِي النَّفْلِ. وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ
صُحْبَةً، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَابِعِيٌّ. رَوَى عَنْهُ عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ،
وَمَكْحُولٌ، وَيُونُسُ بْنُ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ، وَمَعَ هَذَا قَالَ فِيهِ
أَبُو حَاتِمٍ: شَيْخٌ مَجْهُولٌ. وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ.
رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى
مَسْجِدِ دِمَشْقَ وَقَدْ أُخِّرَتِ الصَّلَاةُ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا بَعَثَ
اللَّهُ نَبِيًّا بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَكُمْ
بِهَذِهِ الصَّلَاةِ هَذَا الْوَقْتَ. قَالَ: فَأُخِذَ فَأُدْخِلَ الْخَضْرَاءَ
فَقُطِعَ رَأْسُهُ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ.
عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ
أَبُو مُحَمَّدٍ، كَانَ قَاضِيَ الْمَدِينَةِ وَكَانَ شَرِيفًا، كَثِيرَ
الْمَعْرُوفِ، جَوَادًا، مُمَدَّحًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
خِلَافَةُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ الْوَلِيدِ يَوْمَ مَاتَ،
وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ
وَتِسْعِينَ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ بِالرَّمْلَةِ، وَكَانَ وَلِيُّ الْعَهْدِ مِنْ
بَعْدِ أَخِيهِ عَنْ وَصِيَّةِ أَبِيهِمَا عَبْدِ الْمَلِكِ.
وَقَدْ كَانَ الْوَلِيدُ قَدْ عَزَمَ قَبْلَ مَوْتِهِ عَلَى خَلْعِ أَخِيهِ
سُلَيْمَانَ، وَأَنْ يَجْعَلَ وِلَايَةَ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ طَاوَعَهُ عَلَى
ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ
وَقَدْ أَنْشَدَ فِي ذَلِكَ جَرِيرٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ قَصَائِدَ
فَلَمْ يَنْتَظِمْ ذَلِكَ لَهُ حَتَّى مَاتَ، وَانْعَقَدَتِ الْبَيْعَةُ إِلَى
سُلَيْمَانَ، فَخَافَهُ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ وَعَزَمَ عَلَى أَنْ لَا
يُبَايِعَهُ، فَعَزَلَهُ سُلَيْمَانُ، وَوَلَّى عَلَى إِمْرَةِ الْعِرَاقِ ثُمَّ
خُرَاسَانَ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ; فَأَعَادَهُ إِلَى إِمْرَتِهَا بَعْدَ
عَشْرِ سِنِينَ، وَأَمَرَهُ بِمُعَاقَبَةِ آلِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، وَكَانَ
الْحَجَّاجُ هُوَ الَّذِي عَزَلَ يَزِيدَ عَنْ خُرَاسَانَ.
وَلِسَبْعٍ
بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ سُلَيْمَانُ عَنْ إِمْرَةِ
الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ حَيَّانَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا أَبَا بَكْرِ بْنَ
مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَكَانَ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ.
وَقَدْ كَانَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ حِينَ بَلَغَهُ وِلَايَةُ سُلَيْمَانَ
الْخِلَافَةَ كَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا يُعَزِّيهِ فِي أَخِيهِ، وَيُهَنِّئُهُ
بِوِلَايَتِهِ، وَيَذْكُرُ فِيهِ بَلَاءَهُ وَعَنَاءَهُ وَقِتَالَهُ وَهَيْبَتَهُ
فِي صُدُورِ الْأَعْدَاءِ، وَمَا فَتَحَ اللَّهُ مِنَ الْبِلَادِ وَالْمُدُنِ
وَالْأَقَالِيمِ الْكِبَارِ عَلَى يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ لَهُ عَلَى مِثْلِ مَا
كَانَ لِلْوَلِيدِ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالنَّصِيحَةِ، إِنْ لَمْ
يَعْزِلْهُ عَنْ خُرَاسَانَ وَنَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ يَزِيدَ بْنِ
الْمُهَلَّبِ، ثُمَّ كَتَبَ كِتَابًا ثَانِيًا يَذْكُرُ فِيهِ مَا فَعَلَ مِنَ
الْقِتَالِ وَالْفُتُوحَاتِ وَهَيْبَتَهُ فِي صُدُورِ الْمُلُوكِ وَالْأَعَاجِمِ،
وَيَذُمُّ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ أَيْضًا، وَيُقْسِمُ فِيهِ لَئِنْ عَزَلَهُ
وَوَلَّى يَزِيدَ لَيَخْلَعَنَّ سُلَيْمَانَ عَنِ الْخِلَافَةِ، وَكَتَبَ كِتَابًا
ثَالِثًا فِيهِ خَلْعُ سُلَيْمَانَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَبَعَثَ بِهَا مَعَ
الْبَرِيدِ، وَقَالَ لَهُ: ادْفَعْ إِلَيْهِ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ فَإِنْ
قَرَأَهُ وَدَفَعَهُ إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ فَادْفَعْ إِلَيْهِ
الثَّانِيَ، فَإِنْ قَرَأَهُ وَدَفَعَهُ إِلَى يَزِيدَ، فَادْفَعْ إِلَيْهِ
الثَّالِثَ، فَلَمَّا قَرَأَ سُلَيْمَانُ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ وَاتَّفَقَ
حُضُورُ يَزِيدَ عِنْدَ سُلَيْمَانَ دَفَعَهُ إِلَى يَزِيدَ، فَقَرَأَهُ،
فَنَاوَلَهُ الْبَرِيدُ الْكِتَابَ الثَّانِيَ، فَقَرَأَهُ وَدَفَعَهُ إِلَى
يَزِيدَ، فَنَاوَلَهُ الْبَرِيدُ الْكِتَابَ الثَّالِثَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ
التَّصْرِيحُ بِعَزْلِهِ وَخَلْعِهِ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ ثُمَّ خَتَمَهُ
وَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ وَلَمْ يَدْفَعْهُ إِلَى يَزِيدَ، وَأَمَرَ بِإِنْزَالِ
الْبَرِيدِ فِي دَارِ الضِّيَافَةِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ بَعَثَ إِلَى
الْبَرِيدِ فَأَحْضَرَهُ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ ذَهَبًا وَكِتَابًا فِيهِ وِلَايَةُ
قُتَيْبَةَ عَلَى خُرَاسَانَ، وَأَرْسَلَ مَعَ ذَلِكَ الْبَرِيدِ بَرِيدًا آخَرَ
مِنْ جِهَتِهِ لِيُقَرِّرَهُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا وَصَلَا بِلَادَ خُرَاسَانَ
بَلَغَهُمَا أَنَّ قُتَيْبَةَ قَدْ خَلَعَ الْخَلِيفَةَ،
فَدَفَعَ
بَرِيدُ سُلَيْمَانَ الْكِتَابَ الَّذِي مَعَهُ إِلَى بَرِيدِ قُتَيْبَةَ، ثُمَّ
بَلَغَهُمَا مَقْتَلُ قُتَيْبَةَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ بَرِيدُ سُلَيْمَانَ.
ذِكْرُ سَبَبِ مَقْتَلِ قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ
وَذَلِكَ أَنَّهُ جَمَعَ الْجُنْدَ وَالْجُيُوشَ، وَعَزَمَ عَلَى خَلْعِ
سُلَيْمَانَ وَتَركِ طَاعَتِهِ، وَذَكَرَ لَهُمْ هِمَّتَهُ وَفُتُوحَهُ وَعَدْلَهُ
فِيهِمْ، وَدَفْعَهُ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ
مَقَالَتِهِ، لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى مَقَالَتِهِ، فَشَرَعَ فِي
تَأْنِيبِهِمْ وَذَمِّهِمْ، قَبِيلَةً قَبِيلَةً، وَطَائِفَةً طَائِفَةً،
فَغَضِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ وَنَفَرُوا عَنْهُ وَتَفَرَّقُوا، وَعَمِلُوا عَلَى
مُخَالَفَتِهِ وَسَعَوْا فِي قَتْلِهِ، وَكَانَ الْقَائِمُ بِأَعْبَاءِ ذَلِكَ
رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: وَكِيعُ بْنُ أَبِي سُودٍ، فَجَمَعَ جُمُوعًا كَثِيرَةً
ثُمَّ نَاهَضَهُ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى قَتَلَهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَتَلَ مَعَهُ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ إِخْوَتِهِ
وَأَبْنَاءِ إِخْوَتِهِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ سِوَى ضِرَارِ بْنِ مُسْلِمٍ
وَكَانَتْ أُمُّهُ الْغَرَّاءَ بِنْتَ ضِرَارِ بْنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ مَعْبَدِ
بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، فَحَمَتْهُ أَخْوَالُهُ وَعَمْرُو بْنُ مُسْلِمٍ،
وَكَانَ عَامِلَ الْجَوْزَجَانِ. وَقُتِلَ قُتَيْبَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ
وَعَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَصَالِحٌ وَبَشَّارٌ، وَهَؤُلَاءِ أَبْنَاءُ
مُسْلِمٍ، وَأَرْبَعَةٌ مِنْ أَبْنَائِهِمْ فَقَتَلَهُمْ كُلَّهُمْ وَكِيعُ بْنُ
سُودٍ.
وَقَدْ كَانَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُصَيْنِ بْنِ رَبِيعَةَ
أَبُو حَفْصٍ الْبَاهِلِيُّ، مِنْ سَادَاتِ الْأُمَرَاءِ وَخِيَارِهِمْ، وَكَانَ
مِنَ الْقَادَةِ النُّجَبَاءِ الْكُبَرَاءِ، وَالشُّجْعَانِ وَذَوِي
الْحُرُوبِ
وَالْفُتُوحَاتِ السَّعِيدَةِ، وَالْآرَاءِ الْحَمِيدَةِ، وَقَدْ هَدَى اللَّهُ
عَلَى يَدَيْهِ خَلْقًا لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ، فَأَسْلَمُوا وَدَانُوا
لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفَتَحَ مِنَ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ الْكِبَارِ
وَالْمُدُنِ الْعِظَامِ شَيْئًا كَثِيرًا، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا
مُبَيَّنًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُضِيعُ سَعْيَهُ، وَلَا يُخَيِّبُ
تَعَبَهُ وَجِهَادَهُ.
وَلَكِنْ زَلَّ زَلَّةً كَانَ فِيهَا حَتْفُهُ، وَفَعَلَ فَعْلَةً رَغِمَ فِيهَا
أَنْفُهُ، وَخَلَعَ الطَّاعَةَ فَبَادَرَتْ إِلَيْهِ الْمَنِيَّةُ، وَفَارَقَ
الْجَمَاعَةَ، فَمَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، لَكِنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ
الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا قَدْ يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ مِنْ
سَيِّئَاتِهِ، وَيَمْحُو بِهَا عَنْهُ مِنْ خَطِيَّاتِهِ، وَاللَّهُ يُسَامِحُهُ
وَيَعْفُو عَنْهُ، وَيَتَقَبَّلُ مِنْهُ مَا كَانَ يُكَابِدُهُ مِنْ مُنَاجَزَةِ
الْأَعْدَاءِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِفَرْغَانَةَ مِنْ أَقْصَى بِلَادِ خُرَاسَانَ فِي ذِي
الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعُونَ
سَنَةً، وَكَانَ أَبُوهُ أَبُو صَالِحٍ مِمَّنْ قُتِلَ مَعَ مُصْعَبِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ عَلَى خُرَاسَانَ عَشْرَ سِنِينَ،
وَاسْتَفَادَ وَأَفَادَ فِيهَا خَيْرًا كَثِيرًا، وَقَدْ رَثَاهُ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ جُمَانَةَ الْبَاهِلِيُّ فَقَالَ:
كَأَنَّ أَبَا حَفْصٍ قُتَيْبَةَ لَمْ يَسِرْ بِجَيْشٍ إِلَى جَيْشٍ وَلَمْ يَعْلُ
مِنْبَرَا وَلَمْ تَخْفِقِ الرَّايَاتُ وَالْقَوْمُ حَوْلَهُ
وُقُوفٌ وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُ النَّاسُ عَسْكَرَا دَعَتْهُ الْمَنَايَا
فَاسْتَجَابَ لِرَبِّهِ
وَرَاحَ إِلَى الْجَنَّاتِ عَفًّا مُطَهَّرَا فَمَا رُزِئَ الْإِسْلَامُ بَعْدَ
مُحَمَّدٍ
بِمَثَلِ أَبِي حَفْصٍ فَبَكِّيهِ عَبْهَرَا
وَلَقَدْ
بَالَغَ هَذَا الشَّاعِرُ فِي بَيْتِهِ الْأَخِيرِ، وَعَبْهَرُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ.
وَقَالَ الطِّرْمَاحُ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا قُتَيْبَةُ
عَلَى يَدِ وَكِيعِ بْنِ أَبِي سُودٍ:
لَوْلَا فَوَارِسُ مَذْحِجِ ابْنَةِ مَذْحِجِ وَالْأَزْدُ زُعْزِعَ وَاسْتُبِيحَ
الْعَسْكَرُ
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْبِلَادُ وَلَمْ يَؤُبْ مِنْهُمْ إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ
مُخَبِّرُ
وَاسْتَضْلَعَتْ عُقَدُ الْجَمَاعَةِ وَازْدَرَى أَمْرُ الْخَلِيفَةِ وَاسْتُحِلَّ
الْمُنْكَرُ
قَوْمٌ هُمُو قَتَلُوا قُتَيْبَةَ عَنْوَةً وَالْخَيْلُ جَانِحَةٌ عَلَيْهَا
الْعِثْيَرُ
بِالْمَرْجِ مَرْجِ الصِّينِ حَيْثُ تَبَيَّنَتْ مُضَرُ الْعِرَاقِ مَنِ
الْأَعَزُّ الْأَكْبَرُ
إِذْ حَالَفَتْ جَزَعًا رَبِيعَةُ كُلُّهَا وَتَفَرَّقَتْ مُضَرٌ وَمَنْ
يَتَمَضَّرُ
وَتَقَدَّمَتْ أَزْدُ الْعِرَاقِ وَمَذْحِجٌ لِلْمَوْتِ يَجْمَعُهَا أَبُوهَا
الْأَكْبَرُ
قَحْطَانُ تَضْرِبُ رَأْسَ كُلَّ مُدَجَّجٍ تَحْمِي بَصَائِرَهُنَّ إِذْ لَا
تُبْصِرُ
وَالْأَزْدُ تَعْلَمُ أَنَّ تَحْتَ لِوَائِهَا مُلْكًا قُرَاسِيَةً وَمَوْتٌ
أَحْمَرُ
فَبِعِزِّنَا نُصِرَ النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ وَبِنَا تَثَبَّتَ فِي دِمَشْقَ
الْمِنْبَرُ
وَقَدْ بَسَطَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ بَسَطًا كَثِيرًا وَذَكَرَ
أَشْعَارًا كَثِيرَةً جِدًّا.
وَقَالَ
الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَقَالَ جَرِيرٌ فِي قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ وَسَامَحَهُ:
نَدِمْتُمْ عَلَى قَتْلِ الْأَغَرِّ ابْنِ مُسْلِمٍ وَأَنْتُمْ إِذَا لَاقَيْتُمُ
اللَّهَ أَنْدَمُ
لَقَدْ كُنْتُمُ مِنْ غَزْوِهِ فِي غَنِيمَةٍ وَأَنْتُمْ لِمَنْ لَاقَيْتُمُ
الْيَوْمَ مَغْنَمُ
عَلَى أَنَّهُ أَفْضَى إِلَى حُورِ جَنَّةٍ وَتُطْبِقُ بِالْبَلْوَى عَلَيْكُمْ
جَهَنَّمُ
قَالَ: وَقَدْ وَلِيَ مِنْ أَوْلَادِهِ وَذُرِّيَّتِهِ جَمَاعَةٌ الْإِمْرَةَ فِي
الْبُلْدَانِ، فَمِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ سَلْمِ بْنِ قُتَيْبَةَ بْنِ
مُسْلِمٍ، وَكَانَ جَوَادًا مُمَدَّحًا، رَثَاهُ حِينَ مَاتَ أَبُو عَمْرٍو
أَشْجَعُ بْنُ عَمْرٍو السُّلَمِيُّ الرِّقِّيُّ نَزِيلُ الْبَصْرَةِ بِقَوْلِهِ:
مَضَى ابْنُ سَعِيدٍ حِينَ لَمْ يَبْقَ مَشْرِقٌ وَلَا مَغْرِبٌ إِلَّا لَهُ فِيهِ
مَادِحُ
وَمَا كُنْتُ أَدْرِي مَا فَوَاضِلُ كَفِّهِ عَلَى النَّاسِ حَتَّى غَيَّبَتْهُ
الصَّفَائِحُ
وَأَصْبَحَ فِي لَحْدٍ مِنَ الْأَرْضِ ضَيِّقٍ وَكَانَتْ بِهِ حَيًّا تَضِيقُ
الصَّحَاصِحُ
سَأُبْكِيكَ مَا فَاضَتْ دُمُوعِي فَإِنْ تَغِضْ فَحَسْبُكَ مِنِّي مَا تُجِنُّ
الْجَوَانِحُ
فَمَا
أَنَا مِنْ رُزْءٍ وَإِنْ جَلَّ جَازِعٌ وَلَا بِسُرُورٍ بَعْدَ مَوْتِكَ فَارِحُ
كَأَنْ لَمْ يَمُتْ حَيٌّ سِوَاكَ وَلَمْ تَقُمْ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَيْكَ
النَّوَائِحُ
لَئِنْ حَسُنَتْ فِيكَ الْمَرَاثِي وَذِكْرُهَا لَقَدْ حَسُنَتْ مِنْ قَبْلُ فِيكَ
الْمَدَائِحُ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ الْمَرَاثِي، وَهِيَ فِي
الْحَمَاسَةِ. ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى بَاهِلَةَ، وَأَنَّهَا قَبِيلَةٌ مَرْذُولَةٌ
عِنْدَ الْعَرَبِ، قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْمَجَامِيعِ أَنَّ
الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَتَكَافَأُ دِمَاؤُنَا؟
قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْ قَتَلْتَ رَجُلًا مِنْ بَاهِلَةَ لَقَتَلْتُكَ بِهِ وَقِيلَ
لِبَعْضِ الْعَرَبِ: أَيَسُرُّكَ أَنْ تَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَأَنْتَ بَاهِلِيٌّ؟
قَالَ: بِشَرْطِ أَنْ لَا يَعْلَمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ بِذَلِكَ. وَسَأَلَ بَعْضُ
الْأَعْرَابِ رَجُلًا: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ بَاهِلَةَ. فَجَعَلَ يَرْثِي
لَهُ. فَقَالَ: وَأَزِيدُكَ أَنِّي لَسْتُ مِنَ الصَّمِيمِ وَإِنَّمَا أَنَا مِنْ
مَوَالِيهِمْ. فَجَعَلَ يُقَبِّلُ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، فَقَالَ: وَلِمَ تَفْعَلُ
هَذَا؟ فَقَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا ابْتَلَاكَ بِهَذِهِ الرَّزِيَّةِ
فِي الدُّنْيَا إِلَّا لِيُعَوِّضَكَ الْجَنَّةَ فِي الْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ قُرَّةُ بْنُ شَرِيكٍ
الْقَيْسِيُّ أَمِيرُ مِصْرَ مِنْ جِهَةِ الْوَلِيدِ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ
أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَكَانَ هُوَ الْأَمِيرَ
عَلَى الْمَدِينَةِ وَعَلَى مَكَّةَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
خَالِدِ
بْنِ أُسَيْدٍ، وَعَلَى حَرْبِ الْعِرَاقِ وَصَلَاتِهَا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، وَعَلَى خَرَاجِهَا صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَلَى نِيَابَةِ الْبَصْرَةِ لِيَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيُّ، وَعَلَى قَضَائِهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُذَيْنَةَ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُوسَى، وَعَلَى حَرْبِ خُرَاسَانَ وَكِيعُ بْنُ أَبِي سُودٍ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ
وَفِيهَا جَهَّزَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْجُيُوشَ إِلَى
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. وَفِيهَا أَمَّرَ ابْنَهُ دَاوُدَ عَلَى الصَّائِفَةِ،
فَفَتَحَ حِصْنَ الْمَرْأَةِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرْضَ
الْوَضَّاحِيَّةِ فَافْتَتَحَ الْحِصْنَ الَّذِي فَتَحَهُ الْوَضَّاحُ صَاحِبُ
الْوَضَّاحِيَّةِ.
وَفِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ أَيْضًا بَرْجَمَةَ، فَفَتَحَ حُصُونًا، وَبَرْجَمَةَ،
وَحِصْنَ الْحَدِيدِ وَسَرْدَوْسَلَ، وَشَتَّى بِأَرْضِ الرُّومِ.
وَفِيهَا غَزَا عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ الْفَزَارِيُّ فِي الْبَحْرِ أَرْضَ
الرُّومِ وَشَتَّى بِهَا. وَفِيهَا قُتِلَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُوسَى بْنِ
نُصَيْرٍ، وَقَدِمَ بِرَأْسِهِ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ حَبِيبُ
بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ الْفِهْرِيُّ.
وَفِيهَا وَلَّى سُلَيْمَانُ نِيَابَةَ خُرَاسَانَ لِيَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ،
مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ إِمْرَةِ الْعِرَاقِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ
أَنَّ وَكِيعَ بْنَ أَبِي سُودٍ لَمَّا قُتِلَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ
وَذُرِّيَّتُهُ، بَعَثَ بِرَأْسِ قُتَيْبَةَ إِلَى سُلَيْمَانَ فَحَظِيَ عِنْدَهُ،
وَكَتَبَ لَهُ بِإِمْرَةِ خُرَاسَانَ فَبَعَثَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَهْتَمِ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ;
لِيُحَسِّنَ عِنْدَهُ أَمْرَ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ فِي إِمْرَةِ خُرَاسَانَ
وَيَنْتَقِصُ عِنْدَهُ
وَكِيعَ
بْنَ أَبِي سُودٍ، فَسَارَ ابْنُ الْأَهْتَمِ وَكَانَ ذَا دَهَاءٍ وَمَكْرٍ إِلَى
سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى عَزَلَ وَكِيعًا
عَنْ خُرَاسَانَ وَوَلَّى عَلَيْهَا يَزِيدَ مَعَ إِمْرَةِ الْعِرَاقِ، وَبَعَثَ
بِعَهْدِهِ مَعَ ابْنِ الْأَهْتَمِ فَسَارَ فِي سَبْعٍ حَتَّى جَاءَ يَزِيدَ،
فَأَعْطَاهُ عَهْدَ خُرَاسَانَ مَعَ الْعِرَاقِ، وَكَانَ يَزِيدُ وَعَدَهُ
بِمِائَةِ أَلْفٍ فَلَمْ يَفِ لَهُ بِهَا، وَبَعَثَ يَزِيدُ ابْنَهُ مَخْلَدًا
بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى خُرَاسَانَ وَمَعَهُ كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ;
مَضْمُونُهُ أَنَّ قَيْسًا زَعَمُوا أَنَّ قُتَيْبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ لَمْ يَكُنْ
خَلَعَ الطَّاعَةَ، فَإِنْ كَانَ وَكِيعٌ قَدْ تَعَرَّضَ لَهُ وَثَارَ عَلَيْهِ
بِسَبَبِ أَنَّهُ خَلَعَ وَلَمْ يَكُنْ خَلَعَ فَقَيِّدْهُ، وَابْعَثْ بِهِ
إِلَيَّ. فَتَقَدَّمَ مَخْلَدٌ فَأَخَذَ وَكِيعًا فَعَاقَبَهُ، وَحَبَسَهُ قَبْلَ
أَنْ يَجِيءَ أَبُوهُ، فَكَانَتْ إِمْرَةُ وَكِيعِ بْنِ أَبِي سُودٍ عَلَى
خُرَاسَانَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ عَشْرَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ قَدِمَ يَزِيدُ بْنُ
الْمُهَلَّبِ فَتَسَلَّمَ خُرَاسَانَ وَأَقَامَ بِهَا، وَاسْتَنَابَ فِي
الْبِلَادِ نُوَّابًا، ذَكَرَهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ
قَالَ: وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَنُوَّابُ
الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، غَيْرَ أَنَّ خُرَاسَانَ
عُزِلَ عَنْهَا وَكِيعُ بْنُ أَبِي سُودٍ، وَوَلِيَهَا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ
بْنِ أَبِي صُفْرَةَ مَعَ الْعِرَاقِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ
بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ. رَوَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ
مَرْفُوعًا: مَنْ عَالَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَهُمْ
وَلَيْلَتَهُمْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَعْفَرٍ، عَنْ عَلِيٍّ فِي دُعَاءِ الْكَرْبِ، وَعَنْ زَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ
بِنْتِ الْحُسَيْنِ، وَعَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَجَمَاعَةٌ. وَفَدَ عَلَى
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَأَكْرَمَهُ وَنَصَرَهُ عَلَى الْحَجَّاجِ،
وَأَقَرَّهُ وَحْدَهُ عَلَى وِلَايَةِ صَدَقَةِ عَلِيٍّ. وَقَدْ تَرْجَمَهُ
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فَأَحْسَنَ، وَذَكَرَ عَنْهُ آثَارًا تَدُلُّ عَلَى
سِيَادَتِهِ وَعِلْمِهِ وَتَسَنُّنِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: إِنَّ
الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِالْمَدِينَةِ: إِنَّ
الْحَسَنَ بْنَ الْحَسَنِ كَاتَبَ أَهْلَ الْعِرَاقِ، فَإِذَا جَاءَكَ كِتَابِي
هَذَا فَاجْلِدْهُ مِائَةَ ضَرْبَةٍ، وَقِفْهُ لِلنَّاسِ، وَلَا أُرَانِي إِلَّا
قَاتِلَهُ. فَأَرْسَلَ خَلْفَهُ فَعَلَّمَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ كَلِمَاتِ
الْكَرْبِ، فَقَالَهَا حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ فَنَجَّاهُ اللَّهُ مِنْهُمْ،
وَهِيَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ
السَّبْعِ وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. تُوُفِّيَ
بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ خَوْلَةَ بِنْتَ مَنْظُورٍ الْفَزَارِيِّ.
وَقَالَ
يَوْمًا لِرَجُلٍ مِنَ الرَّافِضَةِ: وَاللَّهِ إِنَّ قَتْلَكَ لَقُرْبَةٌ إِلَى
اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنَّكَ تَمْزَحُ. فَقَالَ:
وَاللَّهِ مَا هَذَا مِنِّي بِمَزْحٍ وَلَكِنَّهُ الْجِدُّ. وَقَالَ لَهُ آخَرُ
مِنْهُمْ: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ؟ فَقَالَ: بَلَى، وَلَوْ أَرَادَ
الْخِلَافَةَ لَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، اعْلَمُوا أَنَّ
هَذَا وَلِيُّ أَمْرِكُمْ وَهُوَ الْقَائِمُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي، فَاسْمَعُوا
لَهُ وَأَطِيعُوا، وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ اخْتَارَ عَلِيًّا
لِهَذَا الْأَمْرِ ثُمَّ تَرَكَهُ عَلِيٌّ لَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تَرَكَ أَمْرَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَقَالَ لَهُمْ أَيْضًا: وَاللَّهِ لَئِنْ وُلِّينَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْئًا
لَنُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ، ثُمَّ لَا نَقْبَلُ
لَكُمْ تَوْبَةً، وَيْلَكُمْ غَرَرْتُمُونَا مِنْ أَنْفُسِنَا، وَيَلْكُمْ لَوْ
كَانَتِ الْقَرَابَةُ تَنْفَعُ بِلَا عَمَلٍ لَنَفَعَتْ أَبَاهُ وَأُمَّهُ. فَلَوْ
كَانَ مَا تَقُولُونَ فِينَا حَقًّا لَكَانَ آبَاؤُنَا إِذْ لَمْ يُعْلِمُونَا بِذَلِكَ
قَدْ ظَلَمُونَا وَكَتَمُوا عَنَّا أَفْضَلَ الْأُمُورِ، وَاللَّهِ إِنِّي
لَأَخْشَى أَنْ يُضَاعَفَ لِلْعَاصِي مِنَّا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ، كَمَا إِنِّي
لَأَرْجُوَ لِلْمُحْسِنِ مِنَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ،
وَيْلَكُمْ أَحِبُّونَا إِنْ أَطَعْنَا اللَّهَ، وَأَبْغِضُونَا إِنْ عَصَيْنَا
اللَّهَ.
مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ اللَّخْمِيُّ
مَوْلَاهُمْ، كَانَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ
مِنْهُمْ،
وَقِيلَ: كَانَ مَوْلًى لِبَنِي أُمَيَّةَ. افْتَتَحَ بِلَادَ الْمَغْرِبِ،
وَغَنِمَ مِنْهَا أَمْوَالًا لَا تُعَدُّ وَلَا تُوصَفُ، وَلَهُ بِهَا مَقَامَاتٌ
مَشْهُورَةٌ هَائِلَةٌ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ أَعْرَجَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ
وُلِدَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ. وَأَصْلُهُ مِنْ عَيْنِ التَّمْرِ، وَقِيلَ:
إِنَّهُ مِنْ إِرَاشَةَ مِنْ بَلِيٍّ. سُبِيَ أَبُوهُ مِنْ جَبَلِ الْخَلِيلِ مِنَ
الشَّامِ فِي أَيَّامِ الصِّدِّيقِ، وَكَانَ اسْمُ أَبِيهِ نَصْرًا فَصُغِّرَ.
رَوَى عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ،
وَيَزِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ الْيَحْصُبِيُّ. وَوَلِيَ غَزْوَ الْبَحْرِ لِمُعَاوِيَةَ،
فَغَزَا قُبْرُصَ، وَبَنَى هُنَالِكَ حُصُونًا كَالْمَاغُوصَةِ وَحِصْنِ يَانِسَ
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُصُونِ الَّتِي بَنَاهَا بِقُبْرُصَ وَكَانَ نَائِبَ
مُعَاوِيَةَ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ فَتَحَهَا مُعَاوِيَةُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ
وَعِشْرِينَ. وَشَهِدَ مَرْجَ رَاهِطٍ مَعَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، فَلَمَّا
قُتِلَ الضَّحَّاكُ لَجَأَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ إِلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
مَرْوَانَ، ثُمَّ لَمَّا دَخَلَ مَرْوَانُ بِلَادَ مِصْرَ كَانَ مَعَهُ فَتَرَكَهُ
عِنْدَ ابْنِهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ لَمَّا أَخَذَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِلَادَ
الْعِرَاقِ جَعَلَهُ وَزِيرًا عِنْدَ أَخِيهِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ.
وَكَانَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ هَذَا ذَا رَأْيٍ وَتَدْبِيرٍ وَحَزْمٍ وَخِبْرَةٍ
بِالْحَرْبِ. قَالَ الْفَسَوِيُّ: وَلِيَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ إِمْرَةَ بِلَادِ
إِفْرِيقِيَّةَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ، فَافْتَتَحَ
بِلَادًا
كَثِيرَةً. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ افْتَتَحَ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ، وَهِيَ
بِلَادٌ ذَاتُ مُدُنٍ وَقُرًى وَرِيفٍ، فَسَبَى مِنْهَا وَمِنْ غَيْرِهَا خَلْقًا
كَثِيرًا، وَغَنِمَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ
النَّفِيسَةِ شَيْئًا لَا يُحْصَى وَلَا يُعَدُّ، وَأَمَّا الْآلَاتُ وَالْمَتَاعُ
وَالدَّوَابُّ فَشَيْءٌ لَا يُدْرَى مَا هُوَ، وَسَبَى مِنَ الْغِلْمَانِ
الْحِسَانِ وَالنِّسَاءِ الْحِسَانِ شَيْئًا كَثِيرًا، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ
يَسْبِ أَحَدٌ مِثْلَهُ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَأَسْلَمَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ عَلَى
يَدَيْهِ، وَبَثَّ فِيهِمُ الدِّينَ وَالْقُرْآنَ، وَكَانَ إِذَا سَارَ إِلَى
مَكَانٍ، تُحْمَلُ الْأَمْوَالُ مَعَهُ عَلَى الْعَجَلِ لِكَثْرَتِهَا وَعَجْزِ
الدَّوَابِّ عَنْهَا.
وَقَدْ كَانَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ هَذَا يَفْتَحُ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ،
وَقُتَيْبَةُ يَفْتَحُ فِي بِلَادِ الْمَشْرِقِ، فَجَزَاهُمَا اللَّهُ خَيْرًا،
فَكِلَاهُمَا فَتَحَ مِنَ الْأَقَالِيمِ وَالْبُلْدَانِ شَيْئًا كَثِيرًا،
وَلَكِنَّ مُوسَى بْنَ نُصَيْرٍ حَظِيَ بِأَشْيَاءَ لَمْ يَحْظَ بِهَا قُتَيْبَةُ،
حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا فَتَحَ الْأَنْدَلُسَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ:
ابْعَثْ مَعِي رِجَالًا حَتَّى أَدُلَّكَ عَلَى كَنْزٍ عَظِيمٍ، فَبَعَثَ مَعَهُ
رِجَالًا فَأَتَى بِهِمْ إِلَى مَكَانٍ، فَقَالَ: احْفِرُوا. فَحَفَرُوا فَأَفْضَى
بِهِمُ الْحَفْرُ إِلَى قَاعَةٍ عَظِيمَةٍ ذَاتِ لَوَاوِينَ حَسَنَةٍ، فَوَجَدُوا
هُنَاكَ مِنَ الْيَوَاقِيتِ وَالْجَوَاهِرِ وَالزَّبَرْجَدِ مَا أَبْهَتَهُمْ،
وَأَمَّا الذَّهَبُ فَشَيْءٌ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ، وَوَجَدُوا فِي ذَلِكَ
الْمَوْضِعِ الطَّنَافِسَ، الطِّنْفِسَةُ مِنْهَا مَنْسُوجَةٌ بِقُضْبَانِ
الذَّهَبِ، مَنْظُومَةٌ بِاللُّؤْلُؤِ الْغَالِي الْمُفْتَخِرِ، وَالطِّنْفِسَةُ
مَنْظُومَةٌ بِالْجَوْهَرِ الْمُثَمَّنِ، وَالْيَوَاقِيتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا
نَظِيرٌ فِي شَكْلِهَا
وَحُسْنِهَا
وَصِفَاتِهَا. وَلَقَدْ سُمِعَ يَوْمَئِذٍ مُنَادٍ يُنَادِي لَا يَرَوْنَ
شَخْصَهُ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ قَدْ فُتِحَ عَلَيْكُمْ بَابٌ مِنْ
أَبْوَابِ جَهَنَّمَ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ وَجَدُوا فِي هَذَا
الْكَنْزِ مَائِدَةَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الَّتِي كَانَ يَأْكُلُ عَلَيْهَا.
وَقَدْ جَمَعَ أَخْبَارَهُ وَمَا جَرَى لَهُ فِي حُرُوبِهِ وَغَزَوَاتِهِ رَجُلٌ
مِنْ ذُرِّيَّتِهِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو مُعَاوِيَةَ مُعَارِكُ بْنُ مَرْوَانَ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ النُّصَيْرِيُّ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَأَلَ
مُوسَى بْنَ نُصَيْرٍ حِينَ قَدِمَ دِمَشْقَ أَيَّامَ الْوَلِيدِ عَنْ أَعْجَبِ
شَيْءٍ رَآهُ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ: انْتَهَيْنَا مَرَّةً إِلَى جَزِيرَةٍ
فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ جَرَّةً خَضْرَاءَ مَخْتُومَةً عَلَيْهَا
بِخَاتَمِسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَأَمَرْتُ
بِأَرْبَعَةٍ مِنْهَا فَأُخْرِجَتْ، وَأَمَرْتُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا فَنُقِبَتْ
فَإِذَا شَيْطَانٌ يَنْفُضُ رَأْسَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ
بِالنُّبُوَّةِ لَا أَعُودُ بَعْدَهَا أُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ. قَالَ: ثُمَّ
نَظَرَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَرَى بِهَا سُلَيْمَانَ وَمُلْكَهُ. فَانْسَاخَ
فِي الْأَرْضِ فَذَهَبَ، قَالَ: فَأَمَرْتُ بِالثَّلَاثِ الْبَوَاقِي فَرُدَّتْ إِلَى
مَكَانِهَا.
وَقَدِ
اسْتَسْقَى مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ حِينَ
أَقْحَطُوا بِإِفْرِيقِيَّةَ، فَأَمَرَهُمْ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَبْلَ
الِاسْتِسْقَاءِ، ثُمَّ خَرَجَ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَيَّزَ أَهْلَ الذِّمَّةِ عَنِ
الْمُسْلِمِينَ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْبَهَائِمِ وَأَوْلَادِهَا ثُمَّ أَمَرَ
بِرَفْعِ الضَّجِيجِ وَالْبُكَاءِ، وَهُوَ يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى
انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ نَزَلَ فَقِيلَ لَهُ: أَلَا دَعَوْتَ لِأَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: هَذَا مَوْطِنٌ لَا يُذْكَرُ فِيهِ إِلَّا اللَّهُ.
فَسَقَاهُمُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، لَمَّا قَالَ ذَلِكَ.
وَقَدْ وَفَدَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي
آخِرِ أَيَّامِهِ، فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ وَالْوَلِيدُ عَلَى الْمِنْبَرِ،
وَقَدْ لَبِسَ مُوسَى ثِيَابًا حَسَنَةً وَهَيْئَةً حَسَنَةً، وَمَعَهُ ثَلَاثُونَ
مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ وَالْأَشْبَانِ، وَقَدْ أَلْبَسَهُمْ تِيجَانَ
الْمُلُوكِ مَعَ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْخَدَمِ وَالْحَشَمِ وَالْأُبَّهَةِ
الْعَظِيمَةِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمْ الْوَلِيدُ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ
عَلَى مِنْبَرِ جَامِعِ دِمَشْقَ بُهِتَ إِلَيْهِمْ، لِمَا رَأَى عَلَيْهِمْ مِنَ
الْحَرِيرِ
وَالْجَوَاهِرِ وَالزِّينَةِ الْبَالِغَةِ، وَجَاءَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ
فَسَلَّمَ عَلَى الْوَلِيدِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَمَرَ أُولَئِكَ
فَوَقَفُوا عَنْ يَمِينِ الْمِنْبَرِ وَشِمَالِهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ الْوَلِيدُ،
وَشَكَرَهُ عَلَى مَا أَيَّدَهُ بِهِ وَوَسَّعَ مُلْكَهُ، وَأَطَالَ الدُّعَاءَ
وَالتَّحْمِيدَ وَالشُّكْرَ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ نَزَلَ
فَصَلَّى بِالنَّاسِ، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِمُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ فَأَحْسَنَ
جَائِزَتَهُ وَأَعْطَاهُ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَانَ مُوسَى قَدْ قَدِمَ مَعَهُ
بِمَائِدَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، الَّتِي كَانَ
يَأْكُلُ عَلَيْهَا وَكَانَتْ مِنْ خَلِيطَيْنِ، ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَعَلَيْهَا
ثَلَاثَةُ أَطْوَاقِ لُؤْلُؤٍ وَجَوْهَرٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، وَجَدَهَا فِي
مَدِينَةِ طُلَيْطِلَةَ مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ مَعَ أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ،
وَقِيلَ: إِنَّهُ بَعَثَ ابْنَهُ مَرْوَانَ عَلَى جَيْشٍ، فَأَصَابَ مِنَ
السَّبْيِ مِائَةَ أَلْفِ رَأْسٍ، وَبَعَثَ ابْنَ أَخِيهِ فِي جَيْشٍ، فَأَصَابَ
مِائَةَ أَلْفِ رَأْسٍ أَيْضًا مِنَ الْبَرْبَرِ، فَلَمَّا جَاءَ كِتَابُهُ إِلَى
الْوَلِيدِ وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ خُمُسَ الْغَنَائِمِ أَرْبَعُونَ أَلْفَ رَأْسٍ.
قَالَ النَّاسُ: إِنَّ هَذَا أَحْمَقُ، مِنْ أَيْنَ لَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفَ
رَأْسٍ خُمُسُ الْغَنَائِمِ؟ فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَأَرْسَلَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ
رَأْسٍ وَهِيَ خُمُسُ مَا غَنِمَ، وَلَمْ يُسْمَعْ فِي الْإِسْلَامِ بِمِثْلِ
سَبَايَا مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ أَمِيرِ الْمَغْرِبِ.
وَقَدْ جَرَتْ لَهُ عَجَائِبُ فِي فَتْحِهِ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ، وَقَالَ: لَوِ
انْقَادَ النَّاسُ لِي لَقُدْتُهُمْ حَتَّى أَفْتَحَ بِهِمْ مَدِينَةَ رُومِيَّةَ
وَهِيَ الْمَدِينَةُ الْعُظْمَى فِي بِلَادِ الْفِرِنْجِ ثُمَّ لَيَفْتَحَنَّهَا
اللَّهُ عَلَى يَدَيَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمَّا قَدِمَ عَلَى
الْوَلِيدِ قَدِمَ مَعَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا مِنَ السَّبْيِ غَيْرَ مَا
ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ خُمُسُ مَا كَانَ غَنِمَهُ فِي آخِرِ غَزَاةٍ غَزَاهَا
بِبِلَادِ
الْمَغْرِبِ،
وَقَدِمَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالتُّحَفِ وَاللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ مَا
لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ.
وَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا بِدِمَشْقَ حَتَّى مَاتَ الْوَلِيدُ وَتَوَلَّى
سُلَيْمَانُ، وَكَانَ عَاتِبًا عَلَى مُوسَ ى فَحَبَسَهُ عِنْدَهُ، وَطَالَبَهُ
بِأَمْوَالٍ عَظِيمَةٍ. وَلَمْ يَزَلْ فِي يَدِهِ حَتَّى حَجَّ سُلَيْمَانُ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ وَأَخَذَهُ مَعَهُ فَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: بِوَادِي
الْقُرَى. وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ، وَقِيلَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ
وَتِسْعِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ
فَفِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ أَخَاهُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ لِغَزْوِ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَرَاءَ الْجَيْشِ الَّذِينَ هُمْ بِهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا
وَمَعَهُ جَيْشٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ الْتَفَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْجَيْشُ الَّذِينَ
هُمْ هُنَاكَ، وَقَدْ أَمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَ الْجَيْشِ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ
عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ مُدَّيْنِ مِنْ طَعَامٍ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا
جَمَعُوا ذَلِكَ، فَإِذَا هُوَ أَمْثَالُ الْجِبَالِ فَقَالَ لَهُمْ مَسْلَمَةُ:
اتْرُكُوا هَذَا الطَّعَامَ وَكُلُوا مِمَّا تَجِدُونَهُ فِي بِلَادِهِمْ،
وَازْرَعُوا فِي أَمَاكِنِ الزَّرْعِ وَاسْتَغِلُّوهُ، وَابْنُوا لَكُمْ بُيُوتًا
مِنْ خَشَبٍ، فَإِنَّا لَا نَرْجِعُ عَنْ هَذِهِ الْبَلَدِ حَتَّى نَفْتَحَهَا
إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدْ دَاخَلَ مَسْلَمَةَ رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى يُقَالُ لَهُ: إِلْيُونَ.
وَوَاطَأَهُ فِي الْبَاطِنِ لِيَأْخُذَ لَهُ بِلَادَ الرُّومِ، فَظَهَرَ مِنْهُ
نُصْحٌ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تُوُفِّيَ مَلِكُ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَدَخَلَ إِلْيُونَ فِي رِسَالَةٍ مِنْ مَسْلَمَةَ، وَقَدْ
خَافَتْهُ الرُّومُ خَوْفًا شَدِيدًا، فَلَمَّا دَخَلَ إِلَيْهِمْ إِلْيُونُ
قَالُوا لَهُ: رُدَّهُ عَنَّا وَنَحْنُ نُمَلِّكُكَ عَلَيْنَا. فَخَرَجَ
فَأَعْمَلَ الْحِيلَةَ فِي الْغَدْرِ وَالْمَكْرِ، وَلَمْ يَزَلْ قَبَّحَهُ
اللَّهُ حَتَّى أَحْرَقَ ذَلِكَ الطَّعَامَ الَّذِي لِلْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ قَالَ لِمَسْلَمَةَ: إِنَّهُمْ مَا دَامُوا يَرَوْنَ هَذَا الطَّعَامَ
عِنْدَكَ يَظُنُّونَ أَنَّكَ تُطَاوِلُهُمْ فِي الْقِتَالِ، فَلَوْ أَحْرَقْتَهُ
لَتَحَقَّقُوا مِنْكَ الْعَزْمَ، وَسَلَّمُوا لَكَ الْبَلَدَ سَرِيعًا، فَأَمَرَ
مَسْلَمَةُ
بِالطَّعَامِ
فَأُحْرِقَ، ثُمَّ انْشَمَرَ إِلْيُونُ فِي السُّفُنِ وَأَخَذَ مَا أَمْكَنَهُ
مِنْ أَمْتِعَةِ الْجَيْشِ فِي اللَّيْلِ، وَأَصْبَحَ وَهُوَ بِالْبَلَدِ
مُحَارِبًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَظْهَرَ الْعَدَاوَةَ الْأَكِيدَةَ، وَتَحَصَّنَ
بِالْبَلَدِ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الرُّومُ، وَضَاقَ الْحَالُ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى أَكَلُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا التُّرَابَ، فَلَمْ يَزَلْ
ذَلِكَ دَأْبَهُمْ حَتَّى جَاءَتْهُمْ وَفَاةُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
وَتَوْلِيَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي، فَكَرُّوا
رَاجِعِينَ إِلَى الشَّامِ وَقَدْ جُهِدُوا جَهْدًا شَدِيدًا، لَكِنْ لَمْ
يَرْجِعْ مَسْلَمَةُ حَتَّى بَنَى مَسْجِدًا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ شَدِيدَ
الْبِنَاءِ مُحْكَمًا، رَحْبَ الْفِنَاءِ، شَاهِقًا فِي السَّمَاءِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا وَلِيَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرَادَ
الْإِقَامَةَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ أَرْسَلَ الْعَسَاكِرَ إِلَى
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ بِأَنْ يَفْتَحَ
مَا دُونَهَا مِنَ الْمُدُنِ وَالرَّسَاتِيقِ وَالْحُصُونِ، حَتَّى يَبْلُغَ
الْمَدِينَةَ فَلَا يَأْتِيَهَا إِلَّا وَقَدْ هُدِمَتْ حُصُونُهَا وَوَهَنَتْ
قُوَّتُهَا، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا مَانِعٌ،
فَيُعْطُوا بِأَيْدِيهِمْ وَيُسَلِّمُوا لَكَ الْبَلَدَ، ثُمَّ اسْتَشَارَ أَخَاهُ
مَسْلَمَةَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَدَعَ مَا دُونَهَا مِنَ الْبِلَادِ
وَيَفْتَحَهَا عَنْوَةً، فَمَتَى مَا فُتِحَتْ فَإِنَّ بَاقِيَ مَا دُونَهَا مِنَ
الْبِلَادِ وَالْحُصُونِ بِيَدِكَ. فَقَالَ سُلَيْمَانُ: هَذَا هُوَ الرَّأْيُ.
ثُمَّ أَخَذَ فِي تَجْهِيزِ الْجُيُوشِ مِنَ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ فَجَهَّزَ
فِي الْبَرِّ مِائَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَفِي الْبَحْرِ مِائَةً وَعِشْرِينَ
أَلْفًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ وَأَخْرَجَ لَهُمُ الْأَعْطِيَةَ وَأَنْفَقَ فِيهِمُ
الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ وَأَعْلَمَهُمْ بِغَزْو الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ
وَالْإِقَامَةِ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ يَفْتَحُوهَا، ثُمَّ سَارَ سُلَيْمَانُ مِنْ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَدَخَلَ دِمَشْقَ وَقَدِ اجْتَمَعَتْ لَهُ الْعَسَاكِرُ
فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَخَاهُ مَسْلَمَةَ، ثُمَّ قَالَ:
سِيرُوا
عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، وَعَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالصَّبْرِ
وَالتَّنَاصُحِ وَالتَّنَاصُفِ. ثُمَّ سَارَ سُلَيْمَانُ حَتَّى نَزَلَ مَرْجَ
دَابِقٍ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ أَيْضًا مِنَ الْمُطَّوِّعَةِ
الْمُحْتَسِبِينَ أُجُورَهُمْ عَلَى اللَّهِ، فَاجْتَمَعَ لَهُ جُنْدٌ عَظِيمٌ
لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، ثُمَّ أَمَرَ مَسْلَمَةَ أَنْ يَرْحَلَ بِالْجُيُوشِ وَأَخَذَ
مَعَهُ إِلْيُونَ الرُّومِيَّ الْمَرْعَشِيَّ، ثُمَّ سَارُوا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَحَاصَرَهَا إِلَى أَنْ بَرَّحَ بِهِمْ، وَعَرَضَ
أَهْلُهَا الْجِزْيَةَ عَلَى مَسْلَمَةَ، فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَفْتَحَهَا
عَنْوَةً، قَالُوا: فَابْعَثْ إِلَيْنَا إِلْيُونَ نُشَاوِرْهُ. فَأَرْسَلَهُ
إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: رُدَّ هَذِهِ الْعَسَاكِرَ عَنَّا وَنَحْنُ نُعْطِيكَ
وَنُمَلِّكُكَ عَلَيْنَا. فَرَجَعَ إِلَى مَسْلَمَةَ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ
أَجَابُوا إِلَى فَتْحِهَا غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَفْتَحُونَهَا مَا لَمْ تَنَحَّ
عَنْهُمْ. فَقَالَ مَسْلَمَةُ: إِنِّي أَخْشَى غَدْرَكَ، فَحَلَفَ لَهُ أَنْ
يَدْفَعَ إِلَيْهِ مَفَاتِيحَهَا وَمَا فِيهَا، فَلَمَّا تَنَحَّى عَنْهُمْ
أَخَذُوا فِي تَرْمِيمِ مَا تَهَدَّمَ مِنْ أَسْوَارِهَا وَاسْتَعَدُّوا
لِلْحِصَارِ. وَغَدَرَ إِلْيُونُ بِالْمُسْلِمِينَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَخَذَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ الْعَهْدَ لِوَلَدِهِ أَيُّوبَ أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ مِنْ
بَعْدِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ مَرْوَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ، فَعَدَلَ عَنْ وِلَايَةِ أَخِيهِ يَزِيدَ إِلَى وِلَايَةِ وَلَدِهِ
أَيُّوبَ، وَتَرَبَّصَ بِأَخِيهِ الدَّوَائِرَ فَمَاتَ أَيُّوبُ فِي حَيَاةِ
أَبِيهِ، فَبَايَعَ سُلَيْمَانُ لِابْنِ عَمِّهِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَنِعْمَ مَا فَعَلَ. وَفِيهَا
فُتِحَتْ مَدِينَةُ الصَّقَالِبَةِ. قَالَ
الْوَاقِدِيُّ:
وَقَدْ أَغَارَتِ الْبُرْجَانُ عَلَى جَيْشِ مَسْلَمَةَ وَهُوَ فِي قِلَّةٍ مِنَ
النَّاسِ، فِي هَذِهِ السَّنَةِ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ جَيْشًا فَقَاتَلَ
الْبُرْجَانَ حَتَّى هَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ دِهِسْتَانَ مِنْ أَرْضِ
الصِّينِ فَحَاصَرَهَا وَقَاتَلَ عِنْدَهَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَلَمْ يَزَلْ
حَتَّى تَسَلَّمَهَا، وَقَتَلَ مِنَ التُّرْكِ الَّذِينَ بِهَا أَرْبَعَةَ آلَافٍ
صَبْرًا، وَأَخَذَ مِنْهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَثَاثِ وَالْأَمْتِعَةِ مَا
لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ كَثْرَةً وَقِيمَةً وَحُسْنًا، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا
إِلَى جُرْجَانَ فَاسْتَجَاشَ صَاحِبُهَا بِالدَّيْلَمِ، فَقَدِمُوا لِنَجْدَتِهِ
فَقَاتَلَهُمْ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَقَاتَلُوهُ، فَحَمَلَ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ الْجُعَفِيُّ وَكَانَ فَارِسًا شُجَاعًا
بَاهِرًا عَلَى مَلِكِ الدَّيْلَمِ فَقَتَلَهُ وَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ، وَلَقَدْ بَارَزَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ هَذَا يَوْمًا بَعْضَ فُرْسَانِ التُّرْكِ،
فَضَرَبَهُ التُّرْكِيُّ بِالسَّيْفِ عَلَى الْبَيْضَةِ فَنَشِبَ فِيهَا،
وَضَرَبَهُ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ
وَسَيْفُهُ يَقْطُرُ دَمًا وَسَيْفُ التُّرْكِيِّ نَاشِبٌ فِي خَوْذَتِهِ،
فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا
أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ قَالُوا: ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ.
فَقَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ لَوْلَا انْهِمَاكُهُ فِي الشَّرَابِ. ثُمَّ صَمَّمَ
يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ عَلَى مُحَاصَرَةِ جُرْجَانَ وَمَا زَالَ يُضَيِّقُ
عَلَى صَاحِبِهَا حَتَّى صَالَحَهُ عَلَى سَبْعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ
وَأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِائَتَيْ أَلْفِ ثَوْبٍ، وَأَرْبَعِمِائَةِ
حِمَارٍ مُوَقَّرَةٍ زَعْفَرَانًا، وَأَرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ، عَلَى رَأْسِ كُلِّ
رَجُلٍ تُرْسٌ،
عَلَى
التُّرْسِ طَيْلَسَانُ، وَجَامٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَسَرَقَةٌ مِنْ حَرِيرٍ.
وَهَذِهِ الْمَدِينَةُ كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ قَدِ افْتَتَحَهَا صُلْحًا
عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا الْخَرَاجَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَكَانُوا يَحْمِلُونَ فِي
كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفٍ، وَفِي سَنَةٍ مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَفِي بَعْضِ
السِّنِينَ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ، وَيَمْنَعُونَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ،
ثُمَّ امْتَنَعُوا جُمْلَةً وَكَفَرُوا، فَغَزَاهُمْ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ
وَرَدَّهَا صُلْحًا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ.
قَالُوا: وَأَصَابَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ مِنْ جُرْجَانَ أَمْوَالًا
كَثِيرَةً جِدًّا، فَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهَا تَاجٌ فِيهِ جَوَاهِرُ نَفِيسَةٌ،
فَقَالَ: أَتَرَوْنَ أَحَدًا يَزْهَدُ فِي هَذَا؟ قَالُوا: لَا. فَدَعَا بِمُحَمَّدِ
بْنِ وَاسْعٍ وَكَانَ فِي الْجَيْشِ مُغَازِيًا فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَخْذَ
التَّاجِ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ
لَتَأْخُذَنَّهُ. فَأَخَذَهُ وَخَرَجَ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ، فَأَمَرَ يَزِيدُ
رَجُلًا أَنْ يَتْبَعَهُ فَيَنْظُرَ مَاذَا يَصْنَعُ بِالتَّاجِ؟ فَمَرَّ
بِسَائِلٍ، فَطَلَبَ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَعْطَاهُ التَّاجَ بِكَمَالِهِ
وَانْصَرَفَ. فَبَعَثَ يَزِيدُ إِلَى ذَلِكَ السَّائِلِ فَأَخَذَ مِنْهُ التَّاجَ
وَعَوَّضَهُ عَنْهُ مَالًا كَثِيرًا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ
الْهُذَلِيُّ: كَانَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَلَى خَزَائِنِ يَزِيدَ بْنِ
الْمُهَلَّبِ فَرَفَعُوا إِلَيْهِ أَنَّهُ أَخَذَ خَرِيطَةً فِيهَا مِائَةُ
دِينَارٍ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ: نَعَمْ. وَأَحْضَرَهَا، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ:
هِيَ لَكَ. ثُمَّ اسْتَدْعَى
الَّذِي
وَشَى بِهِ فَشَتَمَهُ.
فَقَالَ فِي ذَلِكَ الْقُطَامِيُّ الْكَلْبِيُّ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا لِسِنَانِ
بْنِ مُكَمَّلٍ النُّمَيْرِيِّ:
لَقَدْ بَاعَ شَهْرٌ دِينَهُ بِخَرِيطَةٍ فَمَنْ يَأْمَنُ الْقُرَّاءَ بَعْدَكَ
يَا شَهْرُ أَخَذْتَ بِهِ شَيْئًا طَفِيفًا وَبِعْتَهُ
مِنِ ابْنِ جَوَنْبُوذَ انَّ هَذَا هُوَ الْغَدْرُ
وَقَالَ مُرَّةُ النَّخَعِيُّ:
يَا ابْنَ الْمُهَلَّبِ مَا أَرَدْتَ إِلَى امْرِئٍ لَوْلَاكَ كَانَ كَصَالِحِ
الْقُرَّاءِ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَيُقَالُ: إِنَّ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ كَانَ فِي
غَزْوَةِ جُرْجَانَ فِي مِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، مِنْهُمْ سِتُّونَ
أَلْفًا مِنْ جَيْشِ الشَّامِ أَثَابَهُمُ اللَّهُ، وَقَدْ تَمَهَّدَتْ تِلْكَ
الْبِلَادُ بِفَتْحِ جُرْجَانَ وَسَلَكَتِ الطُّرُقُ، وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ
مُخَوِّفَةً جِدًّا، ثُمَّ عَزَمَ يَزِيدُ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى طَبَرِسْتَانَ
وَقَدِمَ بَيْنَ يَدَيْهِ سَرِيَّةٌ هِيَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ سُرَاةِ
النَّاسِ، فَلَمَّا الْتَقَوُا اقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَقُتِلَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَعْرَكَةِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ثُمَّ عَزَمَ يَزِيدُ عَلَى فَتْحِ الْبِلَادِ لَا
مَحَالَةَ، وَمَا زَالَ حَتَّى صَالَحَهُ صَاحِبُهَا وَهُوَ الْإِصْبَهْبَذُ
بِمَالٍ كَثِيرٍ; سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ فِي كُلِّ عَامٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الْمَتَاعِ وَالرَّقِيقِ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ
كَانَ إِمَامًا حُجَّةً، وَكَانَ مُؤَدِّبَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَلَهُ
رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ عَنْ جَمَاعَاتٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
أَبُو الْحَفْصِ النَّخَعِيُّ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ
وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرَاجِمَهُمْ فِي " التَّكْمِيلِ ". وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ وَقِيلَ: بَقِينَ مِنْ
صَفَرٍ مِنْهَا، عَنْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: عَنْ ثَلَاثٍ
وَأَرْبَعِينَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُجَاوِزِ الْأَرْبَعِينَ. وَكَانَتْ
خِلَافَتُهُ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَزَعَمَ أَبُو أَحْمَدَ
الْحَاكِمُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ
مِنْ رَمَضَانَ مِنْهَا، وَأَنَّهُ اسْتَكْمَلَ فِي خِلَافَتِهِ ثَلَاثَ سِنِينَ
وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ تِسْعٌ
وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الْقَوْلُ
الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ
أَبِي الْعاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ أَبُو
أَيُّوبَ.
كَانَ مَوْلِدُهُ بِالْمَدِينَةِ فِي بَنِي جَزِيلَةَ، وَنَشَأَ بِالشَّامِ عِنْدَ
أَبِيهِ، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جِدِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ، رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ
ابْنِهِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْهُ. وَرَوَى عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ هُنَيْدَةَ أَنَّهُ
صَحِبَ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ إِلَى الْغَابَةِ، قَالَ: فَسَكَتُّ، فَقَالَ لِي
ابْنُ عُمَرَ: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ: كُنْتُ أَتَمَنَّى، فَهَلْ تَتَمَنَّى يَا
أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ لِي أُحُدًا هَذَا ذَهَبًا
أَعْلَمُ عَدَدَهُ وَأُخْرِجُ زَكَاتَهُ مَا كَرِهْتُ ذَلِكَ، أَوْ قَالَ: مَا
خَشِيتُ أَنْ يَضُرَّنِي. رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، عَنْ
أَبِي صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ
مُسَافِرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَكَانَتْ دَارُهُ بِدِمَشْقَ مَوْضِعَ
مِيضَأَةِ جَيْرُونَ الْآنَ فِي تِلْكَ السَّاحَةِ جَمِيعِهَا، وَبَنَى دَارًا
كَبِيرَةً مِمَّا يَلِي بَابَ الصَّغِيرِ مَوْضِعَ الدَّرْبِ الْمَعْرُوفِ
بِدَرْبِ مُحْرِزٍ وَجَعَلَهَا دَارَ الْإِمَارَةِ وَعَمِلَ فِيهَا قُبَّةً
صَفْرَاءَ تَشْبِيهًا بِالْقُبَّةِ الْخَضْرَاءِ. قَالَ: وَكَانَ فَصِيحًا
مُؤْثِرًا لِلْعَدْلِ مُحِبًّا لِلْغَزْوِ، وَقَدْ أَنْفَذَ الْجَيْشَ لِحِصَارِ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ حَتَّى صَالَحُوهُمْ عَلَى بِنَاءِ الْجَامِعِ بِهَا.
وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الصُّولِيُّ، أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ جَمَعَ بَنِيهِ
الْوَلِيدَ وَسُلَيْمَانَ وَمَسْلَمَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاسْتَقْرَأَهُمُ
الْقُرْآنَ فَأَجَادُوا الْقِرَاءَةَ، ثُمَّ اسْتَنْشَدَهُمُ الشِّعْرَ
فَأَجَادُوا، غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ يُكْمِلُوا أَوْ يُحْكِمُوا شِعْرَ
الْأَعْشَى، فَلَامَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: لِيُنْشِدْنِي كُلُّ رَجُلٍ
مِنْكُمْ أَرَقَّ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ وَلَا يُفْحِشُ، هَاتِ يَا وَلِيدُ:
فَقَالَ الْوَلِيدُ:
مَا مَرْكَبٌ وَرُكُوبُ الْخَيْلِ يُعْجِبُنِي كَمَرْكَبٍ بَيْنَ دُمْلُوجٍ
وَخَلْخَالِ
فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَهَلْ يَكُونُ مِنَ الشِّعْرِ أَرَفْثُ مِنْ هَذَا؟
هَاتِ
يَا
سُلَيْمَانَ، فَقَالَ:
حَبَّذَا رَجْعُهَا يَدَيْهَا إِلَيْهَا فِي يَدِى دِرْعُهَا تَحُلُّ الْإِزَارَا
فَقَالَ: لَمْ تُصِبْ، هَاتِ يَا مَسْلَمَةُ، فَأَنْشَدَهُ قَوْلَ امْرِئِ
الْقَيْسِ:
وَمَا ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إِلَّا لِتَضْرِبِي بِسَهْمَيْكِ فِي أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ
فَقَالَ: كَذَبَ امْرُؤُ الْقَيْسِ وَلَمْ يُصِبْ، إِذَا ذَرَفَتْ عَيْنَاهَا
بِالْوَجْدِ فَمَا بَقِيَ إِلَّا اللِّقَاءُ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لِلْعَاشِقِ
أَنْ يَقْتَضِيَ مِنْهَا الْجَفَاءَ وَيَكْسُوَهَا الْمَوَدَّةَ. ثُمَّ قَالَ:
أَنَا مُؤَجِّلُكُمْ فِي هَذَا الْبَيْتِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَمَنْ أَتَانِي
بِهِ فَلَهُ حُكْمُهُ أَيْ مَهْمَا طَلَبَ أَعْطَيْتُهُ فَنَهَضُوا مِنْ عِنْدِهِ،
فَبَيْنَمَا سُلَيْمَانُ فِي مَوْكِبٍ إِذَا هُوَ بِأَعْرَابِيٍّ يَسُوقُ إِبِلَهُ
وَهُوَ يَقُولُ:
لَوْ حَزَّ بِالسَّيْفِ رَأْسِي فِي مَوَدَّتِهَا لَمَالَ يَهْوِي سَرِيعًا
نَحْوَهَا رَأْسِي
فَأَمَرَ سُلَيْمَانُ بِالْأَعْرَابِيِّ فَاعْتُقِلَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى أَبِيهِ
فَقَالَ: قَدْ جِئْتُكَ بِمَا سَأَلْتَ. فَقَالَ: هَاتِ. فَأَنْشَدَهُ الْبَيْتَ،
فَقَالَ: أَحْسَنْتَ، وَأَنَّى لَكَ هَذَا؟ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ الْأَعْرَابِيِّ،
فَقَالَ: سَلْ حَاجَتَكَ وَلَا تَنْسَ صَاحِبَكَ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ قَدْ عَهِدْتَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِكَ لِلْوَلِيدِ،
وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ. فَأَجَابَهُ
إِلَى ذَلِكَ، وَبَعَثَهُ عَلَى الْحَجِّ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ،
وَأَطْلَقَ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَعْطَاهَا سُلَيْمَانُ لِذَلِكَ
الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ الْبَيْتَ مِنَ الشِّعْرِ، فَلَمَّا مَاتَ
أَبُوهُ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَصَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى
أَخِيهِالْوَلِيدِ، كَانَ بَيْنَ
يَدَيْهِ
كَالْوَزِيرِ وَالْمُشِيرِ، وَكَانَ هُوَ الْمُسْتَحِثَّ عَلَى عِمَارَةِ جَامِعِ
دِمَشْقَ فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَخُوهُ الْوَلِيدُ يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ
جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ
بِالرَّمْلَةِ، فَلَمَّا أَقْبَلَ تَلَقَّاهُ الْأُمَرَاءُ وَوُجُوهُ النَّاسِ،
وَقِيلَ: إِنَّهُمْ سَارُوا إِلَيْهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَبَايَعُوهُ
هُنَاكَ. وَعَزَمَ عَلَى الْإِقَامَةِ بِالْقُدْسِ، وَأَتَتْهُ الْوُفُودُ إِلَى
بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَلَمْ يَرَوْا وِفَادَةً، فَكَانَ يَجْلِسُ فِي قُبَّةٍ فِي
صَحْنِ الْمَسْجِدِ مِمَّا يَلِي الصَّخْرَةَ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ، وَتَجْلِسُ
أَكَابِرُ النَّاسِ عَلَى الْكَرَاسِيِّ وَتُقَسَّمُ فِيهِمُ الْأَمْوَالُ، ثُمَّ
عَزَمَ عَلَى الْمَجِيءِ إِلَى دِمَشْقَ فَدَخَلَهَا وَكَمَّلَ عِمَارَةَ
الْجَامِعِ.
وَفِي أَيَّامِهِ جُدِّدَتِ الْمَقْصُورَةُ، وَاتَّخَذَ ابْنَ عَمِّهِ عُمَرَ بْنَ
عَبْدِ الْعَزِيزِ مُسْتَشَارًا وَوَزِيرًا، وَقَالَ لَهُ: إِنَّا قَدْ وُلِّينَا
مَا تَرَى، وَلَيْسَ لَنَا عِلْمٌ بِتَدْبِيرِهِ، فَمَا رَأَيْتَ مِنْ مَصْلَحَةِ
الْعَامَّةِ فَمُرْ بِهِ فَلْيُكْتَبْ. وَكَانَ مِنْ ذَلِكَ عَزْلُ نُوَّابِ
الْحَجَّاجِ، وَإِخْرَاجُ أَهْلِ السُّجُونِ مِنْهَا، وَإِطْلَاقُ الْأُسَرَاءِ
وَبَذْلُ الْأَعْطِيَةِ بِالْعِرَاقِ وَرَدُّ الصَّلَاةِ إِلَى مِيقَاتِهَا
الْأَوَّلِ، بَعْدَ مَا كَانَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ يُؤَخِّرُونَهَا إِلَى آخَرِ
وَقْتِهَا، مَعَ أُمُورٍ حَسَنَةٍ كَانَ يَسْمَعُهَا مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَأَمَرَ بِغَزْوِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَبَعَثَ إِلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ
وَالْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ فِي الْبَرِّ نَحْوًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ
وَعِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَبَعَثَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ وَإِفْرِيقِيَّةَ
أَلْفَ مَرْكَبٍ فِي الْبَحْرِ، عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَعَلَى
جَمَاعَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ أَخُوهُ مَسْلَمَةُ وَمَعَهُ ابْنُهُ دَاوُدُ بْنُ
سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ،
وَذَلِكَ
كُلُّهُ عَنْ مَشُورَةِ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ، حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِ
الْمَغْرِبِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قَدِمَ فِي أَيَّامِ أَخِيهِ الْوَلِيدِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ الْكُوفِيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَوْنٍ الْأَسَدِيِّ، قَالَ: أَوَّلُ
كَلَامٍ تَكَلَّمَ بِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حِينَ وَلِيَ
الْخِلَافَةَ أَنْ قَالَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَا شَاءَ صَنَعَ، وَمَا شَاءَ رَفَعَ، وَمَا شَاءَ
وَضَعَ، وَمَنْ شَاءَ أَعْطَى، وَمَنْ شَاءَ مَنَعَ، إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ
غُرُورٍ، وَمَنْزِلُ بَاطِلٍ، وَزِينَةُ تَقَلُّبٍ، تُضْحِكُ بَاكِيًا، وَتُبْكِي
ضَاحِكًا، وَتُخِيفُ آمِنًا، وَتُؤَمِّنُ خَائِفًا، تُفْقِرُ مُثْرِيهَا،
وَتُثْرِي فَقِيرَهَا، مَيَّالَةٌ لَاعِبَةٌ بِأَهْلِهَا، يَا عِبَادَ اللَّهِ،
اتَّخِذُوا كِتَابَ اللَّهِ إِمَامًا وَارْضَوْا بِهِ حَكَمًا وَاجْعَلُوهُ لَكُمْ
قَائِدًا فَإِنَّهُ نَاسِخٌ لِمَا قَبْلَهُ وَلَنْ يَنْسَخْهُ كِتَابٌ بَعْدَهُ
اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَجْلُو كَيْدَ الشَّيْطَانِ
وَضَغَائِنَهُ كَمَا يَجْلُو ضَوْءُ الصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِدْبَارَ اللَّيْلِ
إِذَا عَسْعَسَ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي
مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ
الْمَلِكِ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: فَضْلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ
كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ
بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَخْطُبُنَا كُلَّ جُمُعَةٍ لَا يَدَعُ أَنْ يَقُولَ فِي
خُطْبَتِهِ: وَإِنَّمَا أَهْلُ الدُّنْيَا
عَلَى
رَحِيلٍ، لَمْ تَمْضِ بِهِمْ نِيَّةٌ، وَلَمْ تَطْمَئِنَّ لَهُمْ دَارٌ حَتَّى
يَأْتِيَ أَمْرُ وَعْدِ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَذَلِكَ لَا يَدُومُ
نَعِيمُهَا، وَلَا تُؤْمَنُ فَجَائِعُهَا، وَلَا يُتَّقَى مِنْ شَرِّ أَهْلِهَا
ثُمَّ يَتْلُو: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا
كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [
الشُّعَرَاءِ: 205 207 ].
وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ أَنَّ نَقْشَ خَاتَمِهِ: آمَنْتُ بِاللَّهِ مُخْلِصًا.
وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ سَلَمَةَ بْنِ الْعَيَّارِ
الْفَزَارِيِّ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: يَرْحَمُ اللَّهُ
سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، افْتَتَحَ خِلَافَتَهُ بِخَيْرٍ، وَخَتَمَهَا
بِخَيْرٍ; افْتَتَحَهَا بِإِحْيَائِهِ الصَّلَاةَ لِمَوَاقِيتِهَا، وَخَتَمَهَا
بِاسْتِخْلَافِهِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
قَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ أَنَّهُ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي
سَنَةِ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَهُوَ خَلِيفَةٌ.
قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ قَالَ الشَّعْبِيُّ: حَجَّ سُلَيْمَانُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا
رَأَى
النَّاسَ بِالْمَوْسِمِ، قَالَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَلَا تَرَى
هَذَا الْخَلْقَ الَّذِي لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَسَعُ
رِزْقَهُمْ غِيْرُهُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَؤُلَاءِ رَعِيَّتُكَ
الْيَوْمَ وَهُمْ غَدًا خُصَمَاؤُكَ. فَبَكَى سُلَيْمَانُ بُكَاءً شَدِيدًا ثُمَّ
قَالَ: بِاللَّهِ أَسْتَعِينُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا جَرِيرٌ
عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي
سَفَرٍ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَصَابَتْهُمُ السَّمَاءُ
بِرَعْدٍ وَبَرْقٍ وَظُلْمَةٍ وَرِيحٍ شَدِيدَةٍ، حَتَّى فَزِعُوا لِذَلِكَ،
وَجَعَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَضْحَكُ فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: مَا
أَضْحَكَكَ يَا عُمَرُ؟ أَمَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ آثَارُ رَحْمَتِهِ فِيهِ شَدَائِدُ مَا تَرَى، فَكَيْفَ
بِآثَارِ سَخَطِهِ وَغَضَبِهِ؟!
وَمِنْ كَلَامِهِ الْحَسَنِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، قَوْلُهُ: الصَّمْتُ مَنَامُ
الْعَقْلِ وَالنُّطْقُ يَقَظَتُهُ وَلَا يَتِمُّ هَذَا إِلَّا بِهَذَا.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ، فَأَعْجَبَهُ مَنْطِقُهُ، ثُمَّ فَتَّشَهُ
فَلَمْ يَحْمَدْ عَقْلَهُ، فَقَالَ: فَضْلُ مَنْطِقِ الرَّجُلِ عَلَى عَقْلِهِ
خُدْعَةٌ، وَفَضْلُ عَقْلِهِ عَلَى مَنْطِقِهِ هُجْنَةٌ، وَخَيْرُ ذَلِكَ مَا
أَشْبَهَ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَقَالَ: الْعَاقِلُ أَحْرَصُ عَلَى إِقَامَةِ
لِسَانِهِ
مِنْهُ عَلَى طَلَبِ مَعَاشِهِ. وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فَأَحْسَنَ
قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَسْكُتَ فَيُحْسِنَ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ سَكَتَ فَأَحْسَنَ
قَادِرًا عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ فَيُحْسِنَ.
وَمِنْ شِعْرِهِ يَتَسَلَّى عَنْ صَدِيقٍ لَهُ مَاتَ:
وَهَوَّنَ وَجْدِي فِي شَرَاحِيلَ أَنَّنِي مَتَى شِئْتُ لَاقَيْتُ امْرَءًا مَاتَ
صَاحِبُهْ
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا:
وَمِنْ شِيمَتِي أَنْ لَا أُفَارِقَ صَاحِبِي وَإِنْ مَلَّنِي إِلَّا سَأَلْتُ
لَهُ رُشْدَا
وَإِنْ دَامَ لِي بِالْوُدِّ دُمْتُ وَلَمْ أَكُنْ كَآخَرِ لَا يَرْعَى ذِمَامًا
وَلَا عَهْدَا
وَسَمِعَ سُلَيْمَانُ لَيْلَةً صَوْتَ غِنَاءٍ فِي مُعَسْكَرِهِ، فَلَمْ يَزَلْ
يَفْحَصُ حَتَّى أَتَى بِهِمْ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: إِنَّ الْفَرَسَ لَيَصْهَلُ
فَتَسْتَوْدِقُ لَهُ الرَّمَكَةُ، وَإِنَّ الْجَمَلَ لَيَخْطِرُ فَتَضْبَعُ لَهُ
النَّاقَةُ، وَإِنَّ التَّيْسَ لَيَنِبُ، فَكَشَرَتْ لَهُ الْعَنْزُ، وَإِنَّ
الرَّجُلَ لَيَتَغَنَّى فَتَشْتَاقُ لَهُ الْمَرْأَةُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ
لِيَخْصُوَهُمْ. فَيُقَالُ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ
عَبْدِ
الْعَزِيزِ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهَا مُثْلَةٌ. فَتَرَكَهُمْ.
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ خَصَى أَحَدَهُمْ ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَصْلِ الْغِنَاءِ
فَقِيلَ: إِنَّهُ بِالْمَدِينَةِ. فَكَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِهَا وَهُوَ أَبُو
بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ يَأْمُرُهُ أَنْ يَخْصِيَ مَنْ
عِنْدَهُ مِنَ الْمُغَنِّينَ الْمُخَنَّثِينَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى سُلَيْمَانَ، فَدَعَاهُ إِلَى
أَكْلِ الْفَالُوذَجِ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَكْلَهَا يَزِيدُ فِي الدِّمَاغِ.
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ
يَكُونَ رَأْسُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَ رَأْسِ الْبَغْلِ.
وَذَكَرُوا أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ نَهِمًا فِي الْأَكْلِ، وَقَدْ نَقَلُوا
عَنْهُ أَشْيَاءَ فِي ذَلِكَ غَرِيبَةً; فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ اصْطَبَحَ فِي
بَعْضِ الْأَيَّامِ بِأَرْبَعِينَ دَجَاجَةً مَشْوِيَّةً، وَأَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ
كُلْوَةً بِشَحْمِهَا، وَثَمَانِينَ جَرْدَقَةً، ثُمَّ أَكَلَ مَعَ النَّاسِ عَلَى
الْعَادَةِ فِي السِّمَاطِ الْعَامِّ.
وَدَخَلَ
ذَاتَ يَوْمٍ بُسْتَانًا لَهُ قَدْ أَمَرَ قَيِّمَهُ أَنْ يَحْبِسَ ثِمَارَهُ،
وَقُطِفَتْ لَهُ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ، فَأَكَلَ الْقَوْمُ، وَاسْتَمَرَّ هُوَ
يَأْكُلُ أَكْلًا ذَرِيعًا مِنْ تِلْكَ الْفَوَاكِهِ، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِشَاةٍ
مَشْوِيَّةٍ فَأَكَلَهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْفَاكِهَةِ، ثُمَّ أُتِيَ
بِدَجَاجَتَيْنِ فَأَكَلَهُمَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْفَاكِهَةِ، ثُمَّ أُتِيَ
بِقَعْبٍ يَقْعُدُ فِيهِ الرَّجُلُ مَمْلُوءًا بِسَوِيقٍ وَسَمْنٍ وَسُكَّرٍ،
فَأَكَلَهُ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، وَأُتِيَ بِالسِّمَاطِ، فَمَا
فَقَدَ مِنْ أَكْلِهِ شَيْئًا.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عَرَضَتْ لَهُ حُمَّى أَدَّتْهُ إِلَى الْمَوْتِ. وَقَدْ
قِيلَ: إِنَّ سَبَبَ مَرَضِهِ كَانَ مِنْ أَكْلِ أَرْبَعِمِائَةِ بَيْضَةٍ،
وَسَلَّتَيْنِ مِنْ تِينٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ الْفَضْلُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ لَبِسَ فِي يَوْمِ
جُمُعَةٍ حُلَّةً صَفْرَاءَ، ثُمَّ نَزَعَهَا وَلَبِسَ بَدَلَهَا حُلَّةً
خَضْرَاءَ، وَاعْتَمَّ بِعِمَامَةٍ خَضْرَاءَ، وَجَلَسَ عَلَى فِرَاشٍ أَخْضَرَ،
وَقَدْ بُسِطَ مَا حَوْلَهُ بِالْخُضْرَةِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي الْمِرْآةِ
فَأَعْجَبَهُ حُسْنُهُ، وَشَمَّرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ وَقَالَ: أَنَا الْخَلِيفَةُ
الشَّابُّ.
وَقِيلَ:
إِنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ مِنْ فَرْقِهِ إِلَى قَدَمِهِ وَيَقُولُ:
أَنَا الْمَلِكُ الشَّابُّ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ فِيهَا وَيَقُولُ: كَانَ مُحَمَّدٌ
نَبِيًّا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ صِدِّيقًا،
وَكَانَ عُمَرُ فَارُوقًا، وَكَانَ عُثْمَانُ حَيِيًّا، وَكَانَ عَلِيٌّ شُجَاعًا،
وَكَانَ مُعَاوِيَةُ حَلِيمًا، وَكَانَ يَزِيدُ صَبُورًا، وَكَانَ عَبْدُ
الْمَلِكِ سَائِسًا، وَكَانَ الْوَلِيدُ جَبَّارًا، وَأَنَا الْمَلِكُ الشَّابُّ.
قَالُوا: فَمَا دَارَ عَلَيْهِ شَهْرٌ وَفِي رِوَايَةٍ: جُمُعَةٌ حَتَّى مَاتَ.
قَالُوا: وَلَمَّا حُمَّ شَرَعَ يَتَوَضَّأُ، فَدَعَا بِجَارِيَةٍ، فَصَبَّتْ
عَلَيْهِ مَاءَ الْوُضُوءِ، ثُمَّ أَنْشَدَتْهُ:
أَنْتَ نِعْمَ الْمَتَاعُ لَوْ كُنْتَ تَبْقَى غَيْرَ أَنْ لَا بَقَاءَ
لِلْإِنْسَانِ
لَيْسَ فِيمَا عَلِمْتُهُ فِيكَ عَيْبٌ كَانَ فِي النَّاسِ غَيْرَ أَنَّكَ فَانِ
قَالُوا: فَصَاحَ بِهَا وَقَالَ: عَزَّتْنِي فِي نَفْسِي. وَصَرَفَهَا ثُمَّ
أَمَرَ خَالَهُ الْوَلِيدَ
بْنَ
الْقَعْقَاعِ الْعَنْسِيَّ أَنْ يَصُبَّ عَلَيْهِ وَقَالَ:
قَرِّبْ وُضُوءَكَ يَا وَلِيدُ فَإِنَّمَا هَذِي الْحَيَاةُ تَعِلَّةٌ وَمَتَاعُ
فَقَالَ الْوَلِيدُ:
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ فِي حَيَاتِكَ صَالِحًا فَالدَّهْرُ فِيهِ فُرْقَةٌ
وَجِمَاعُ
وَيُرْوَى أَنَّ الْجَارِيَةَ لَمَّا جَاءَتْهُ بِالطَّسْتِ، جَعَلَتْ تَضْطَرِبُ
مِنَ الْحُمَّى فَقَالَ: أَيْنَ فُلَانَةُ؟ فَقَالَتْ: مَحْمُومَةٌ. قَالَ:
فَفُلَانَةُ؟ قَالَتْ: مَحْمُومَةٌ. وَكَانَ بِمَرْجِ دَابِقٍ مِنْ أَرْضِ
قِنَّسْرِينَ فَأَمَرَ خَالَهُ فَوَضَّأَهُ، ثُمَّ خَرَجَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ،
فَأَخَذَتْهُ بُحَّةٌ فِي الْخُطْبَةِ، ثُمَّ نَزَلَ وَقَدْ أَصَابَتْهُ
الْحُمَّى، فَاسْتَمَرَّ فِيهَا حَتَّى مَاتَ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَصَابَهُ ذَاتُ الْجَنْبِ، فَمَاتَ بِهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَكَانَ قَدْ أَقْسَمَ أَنَّهُ لَا يَبْرَحُ دَابِقًا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ
الْخَبَرُ بِفَتْحِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ أَوْ يَمُوتَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَمَاتَ
قَبْلَ ذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
قَالُوا:
وَجَعَلَ يَلْهَجُ فِي مَرَضِهِ وَيَقُولُ:
إِنْ بَنِيَّ صِبْيَةٌ صِغَارُ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ لَهُ كِبَارُ
فَيَقُولُ لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ يَقُولُ:
إِنَّ بَنِيَّ صِبْيَةٌ صَيْفِيُّونَ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ لَهُ شِتْوِيُّونَ
وَيُرْوَى أَنَّ هَذَا آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ آخِرَ مَا
تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: أَسْأَلُكَ مُنْقَلَبًا كَرِيمًا. ثُمَّ قَضَى.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ وَكَانَ وَزِيرَ صِدْقٍ
لِبَنِي أُمَيَّةَ قَالَ: اسْتَشَارَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ
مَرِيضٌ أَنْ يُوَلِّيَ ابْنًا لَهُ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، فَقُلْتُ:
إِنَّ مِمَّا يَحْفَظُ الْخَلِيفَةَ فِي قَبْرِهِ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
مِنْ بَعْدِهِ الرَّجُلَ الصَّالِحَ، ثُمَّ شَاوَرَنِي فِي وِلَايَةِ ابْنِهِ
دَاوُدَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ غَائِبٌ عَنْكَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَلَا
تَدْرِي أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ؟ فَقَالَ: فَمَنْ تَرَى؟ فَقُلْتُ: رَأْيَكَ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ؟ فَقُلْتُ: أَعْلَمُهُ وَاللَّهِ خَيِّرًا فَاضِلًا مُسْلِمًا.
فَقَالَ: هُوَ وَاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَتَخَوَّفُ إِخْوَتِي لَا
يَرْضُونَ بِذَلِكَ. فَأَشَارَ رَجَاءٌ أَنْ يَجْعَلَ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ
الْمَلِكِ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
لِيُرْضِيَ
بِذَلِكَ بَنِي مَرْوَانَ، فَكَتَبَ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ
سُلَيْمَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، إِنِّي قَدْ
وَلَّيْتُكَ الْخِلَافَةَ مِنْ بَعْدِي، وَمِنْ بَعْدِهِ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ
الْمَلِكِ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَخْتَلِفُوا
فَيُطْمَعَ فِيكُمْ.
وَخَتَمَ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبِ بْنِ حَامِدٍ الْعَبْسِيِّ صَاحِبِ
الشُّرَطَةِ، فَقَالَ لَهُ: اجْمَعْ أَهْلَ بَيْتِي، فَمُرْهُمْ فَلْيُبَايِعُوا
عَلَى مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مَخْتُومًا، فَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ فَاضْرِبْ
عُنُقَهُ، فَاجْتَمَعُوا وَدَخَلَ رِجَالٌ مِنْهُمْ فَسَلَّمُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ،
فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا الْكِتَابُ عَهْدِي إِلَيْكُمْ فَاسْمَعُوا لَهُ
وَأَطِيعُوا وَبَايِعُوا مَنْ وَلَّيْتُ فِيهِ. فَبَايَعُوا رَجُلًا رَجُلًا.
قَالَ رَجَاءٌ: فَلَمَّا تَفَرَّقُوا جَاءَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَحُرْمَتِي وَمَوَدَّتِي إِلَّا أَعْلَمْتَنِي إِنْ
كَانَ كَتَبَ لِي ذَلِكَ حَتَّى أَسْتَعْفِيَهُ الْآنَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ حَالٌ
لَا أَقْدِرُ فِيهَا عَلَى مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ السَّاعَةَ! فَقُلْتُ: وَاللَّهِ
لَا أُخْبِرُكَ حَرْفًا وَاحِدًا. قَالَ: وَلَقِيَنِي هِشَامُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ فَقَالَ: يَا رَجَاءُ، إِنَّ لِي بِكَ حُرْمَةً وَمَوَدَّةً قَدِيمَةً،
فَأَخْبِرْنِي هَذَا الْأَمْرَ، فَإِنْ كَانَ إِلَيَّ عَلِمْتُ، وَإِنْ كَانَ
إِلَى غَيْرِي تَكَلَّمْتُ،
فَمَا
مِثْلِي قُصِّرَ بِهِ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أُخْبِرُكَ حَرْفًا وَاحِدًا
مِمَّا أَسَرَّ إِلَيَّ.
قَالَ رَجَاءٌ: وَدَخَلْتُ عَلَى سُلَيْمَانَ، فَإِذَا هُوَ يَمُوتُ، فَجَعَلْتُ
إِذَا أَخَذَتْهُ السَّكْرَةُ مِنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ أَحُرِّفُهُ إِلَى
الْقِبْلَةِ، فَإِذَا أَفَاقَ يَقُولُ: لَمْ يَأْنِ لِذَلِكَ بَعْدُ يَا رَجَاءُ.
فَفَعَلْتُ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ قَالَ: مِنَ الْآنَ
يَا رَجَاءُ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ شَيْئًا، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: فَحَرَّفْتُهُ
إِلَى الْقِبْلَةِ وَمَاتَ، فَغَطَّيْتُهُ بِقَطِيفَةٍ خَضْرَاءَ، وَأَغْلَقْتُ
الْبَابَ عَلَيْهِ، وَأَرْسَلْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ حَامِدٍ، فَجَمَعَ النَّاسَ
فِي مَسْجِدِ دَابِقٍ فَقُلْتُ: بَايِعُوا لِمَنْ فِي هَذَا الْكِتَابِ.
فَقَالُوا: قَدْ بَايَعْنَا. فَقُلْتُ: بَايِعُوا ثَانِيَةً. فَفَعَلُوا، ثُمَّ
قُلْتُ: قُومُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ فَقَدْ مَاتَ. وَقَرَأْتُ الْكِتَابَ
عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى ذِكْرِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
تَغَيَّرَتْ وُجُوهُ بَنِي مَرْوَانَ، فَلَمَّا قَرَأْتُ: وَإِنَّ يَزِيدَ بْنَ
عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ بَعْدِهِ، تَرَاجَعُوا بَعْضَ الشَّيْءِ، وَنَادَى هِشَامٌ:
لَا نُبَايِعُهُ أَبَدًا. فَقُلْتُ: أَضْرِبُ وَاللَّهِ عُنُقَكَ، قُمْ فَبَايِعْ.
وَنَهَضَ النَّاسُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ فِي مُؤَخَّرِ
الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ. وَلَمْ تَحْمِلْهُ رِجْلَاهُ حَتَّى أَخَذُوا بِضَبْعَيْهِ،
فَأَصْعَدُوهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَسَكَتَ حِينًا، فَقَالَ رَجَاءُ بْنُ
حَيْوَةَ: أَلَا تَقُومُونَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَتُبَايِعُوهُ!
فَنَهَضَ الْقَوْمُ فَبَايَعُوهُ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ هِشَامٌ فَصَعِدَ
الْمِنْبَرَ لِيُبَايِعَ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ. فَقَالَ عُمَرُ: نَعَمْ! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،
الَّذِي صِرْتُ أَنَا وَأَنْتَ نَتَنَازَعُ هَذَا الْأَمْرَ. ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ
النَّاسَ خُطْبَةً
بَلِيغَةً
وَبَايَعُوهُ، فَكَانَ مِمَّا قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ لَسْتُ
بِمُبْتَدِعٍ وَلَكِنِّي مُتَّبِعٌ، وَإِنَّ مَنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَمْصَارِ
وَالْمُدُنِ إِنْ هُمْ أَطَاعُوا كَمَا أَطَعْتُمْ فَأَنَا وَالِيكُمْ، وَإِنْ
هُمْ أَبَوْا فَلَسْتُ لَكُمْ بِوَالٍ.
ثُمَّ نَزَلَ فَشَرَعُوا فِي جِهَازِ سُلَيْمَانَ.
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: فَلَمْ يَفْرَغُوا مِنْهُ حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ،
فَصَلَّى عُمَرُ بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ ثُمَّ صَلَّى عَلَى سُلَيْمَانَ
وَدُفِنَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ عُمَرُ أُتِيَ بِمَرَاكِبِ
الْخِلَافَةِ فَلَمْ يَرْكَبْهَا، وَرَكِبَ دَابَّتَهُ، ثُمَّ سَارَ مَعَ النَّاسِ
حَتَّى أَتَوْا دِمَشْقَ فَمَالُوا بِهِ نَحْوَ دَارِ الْخِلَافَةِ فَقَالَ: لَا
أَنْزِلُ إِلَّا فِي مَنْزِلِي حَتَّى تَفْرُغَ دَارُ أَبِي أَيُّوبَ،
فَاسْتُحْسِنَ ذَلِكَ مِنْهُ، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِالْكَاتِبِ، فَجَعَلَ يُمْلِي
عَلَيْهِ نُسْخَةَ الْكِتَابِ الَّذِي يُبَايِعُ عَلَيْهِ الْأَمْصَارَ قَالَ
رَجَاءٌ: فَمَا رَأَيْتُ أَفْصَحَ مِنْهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ وَفَاةُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ بِدَابِقٍ مِنْ أَرْضِ قِنَّسْرِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِعَشْرِ
لَيَالٍ خَلَتْ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، عَلَى رَأْسِ سَنَتَيْنِ
وَتِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا مِنْ مُتَوَفَّى الْوَلِيدِ. وَكَذَا
قَالَ الْجُمْهُورُ
فِي
تَارِيخِ وَفَاتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لِعَشَرٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ.
وَقَالُوا: كَانَتْ وِلَايَتُهُ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، زَادَ
بَعْضُهُمْ إِلَّا خَمْسَةَ أَيَّامٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُ الْحَاكِمِ أَبِي أَحْمَدَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
لِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، وَكَانَتْ
خِلَافَتُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ،
وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. فَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ، وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا وَقَدْ خَالَفَهُ الْجُمْهُورُ فِي كُلِّ مَا
قَالَهُ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ فَقِيلَ: بِثَلَاثٍ.
وَقِيلَ: بِخَمْسٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالُوا: وَكَانَ طَوِيلًا جَمِيلًا أَبْيَضَ نَحِيفًا، حَسَنَ الْوَجْهِ،
مَقْرُونَ الْحَاجِبَيْنِ، وَكَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ،
وَيَرْجِعُ إِلَى دِينٍ وَخَيْرٍ وَمَحَبَّةٍ لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ، وَاتِّبَاعِ
الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَإِظْهَارِ الشَّرَائِعِ الْإِسْلَامِيَّةِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ آلَى عَلَى نَفْسِهِ حِينَ خَرَجَ مِنْ دِمَشْقَ
إِلَى مَرْجِ دَابِقٍ وَدَابِقٌ قَرِيبَةٌ مِنْ بِلَادِ حَلَبٍ وَقَدْ جُهِّزَتِ
الْجُيُوشُ إِلَى مَدِينَةِ الرُّومِ الْعُظْمَى الْمُسَمَّاةُ
بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ أَنْ لَا يَرْجِعَ إِلَى دِمَشْقَ حَتَّى تُفْتَحَ أَوْ
يَمُوتَ. فَمَاتَ هُنَالِكَ كَمَا ذَكَرْنَا فَحَصَلَ لَهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ
أَجْرُ الرِّبَاطِ
فِي
سَبِيلِ اللَّهِ، فَهُوَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، مِمَّنْ يُجْرَى لَهُ ثَوَابُهُ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ شَرَاحِيلَ بْنِ
عُبَيْدَةَ بْنِ قَيْسٍ الْعُقَيْلِيِّ مَا مَضْمُونُهُ، أَنَّ مَسْلَمَةَ بْنَ
عَبْدِ الْمَلِكِ لَمَّا ضَيَّقَ بِمُحَاصَرَتِهِ عَلَى أَهْلِ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَتَتَبَّعَ الْمَسَالِكَ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى أَكْثَرِ
مَا هُنَالِكَ مِنَ الْمَمَالِكِ، كَتَبَ إِلْيُونُ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى مَلِكِ
الْبُرْجَانِ يَسْتَنْصِرُهُ عَلَى مَسْلَمَةَ، وَيَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ
الْقَوْمَ لَيْسَ لَهُمْ هِمَّةٌ إِلَّا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِهِمْ،
الْأَقْرَبُ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ، وَإِنَّهُمْ مَتَى فَرَغُوا مِنِّي خَلَصُوا
إِلَيْكَ، فَمَهْمَا كُنْتَ صَانِعًا حِينَئِذٍ فَاصْنَعْهُ الْآنَ. فَعِنْدَ
ذَلِكَ شَرَعَ لَعَنَهُ اللَّهُ فِي الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ، فَكَتَبَ إِلَى
مَسْلَمَةَ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ إِلْيُونَ كَتَبَ إِلَيَّ يَسْتَنْصِرُنِي
عَلَيْكَ، وَأَنَا مَعَكَ فَمُرْنِي بِمَا شِئْتَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَسْلَمَةُ:
إِنِّي لَا أُرِيدُ مِنْكَ رِجَالًا وَلَا عُدَدًا وَلَكِنْ أَرْسِلْ إِلَيَّ
بِالْمِيرَةِ، فَقَدْ قَلَّ مَا عِنْدَنَا مِنَ الْأَزْوَادِ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنِّي قَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ بِسُوقٍ عَظِيمَةٍ إِلَى
مَكَانِ كَذَا وَكَذَا،
فَأَرْسِلْ
مَنْ يَتَسَلَّمُهَا وَيَشْتَرِي مِنْهَا.
فَأَذِنَ مَسْلَمَةُ لِمَنْ شَاءَ مِنَ الْجَيْشِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى هُنَاكَ
فَيَشْتَرِي لَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَذَهَبَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فَوَجَدُوا
هُنَالِكَ سُوقًا هَائِلَةً، فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَضَائِعِ وَالْأَمْتِعَةِ
وَالْأَطْعِمَةِ، فَأَقْبَلُوا يَشْتَرُونَ، وَاشْتَغَلُوا بِذَلِكَ، وَلَا
يَشْعُرُونَ بِمَا أَرْصَدَ لَهُمُ الْخَبِيثُ مِنَ الْكَمَائِنِ بَيْنَ تِلْكَ
الْجِبَالِ الَّتِي هُنَالِكَ، فَخَرَجُوا عَلَيْهِمْ بَغْتَةً، فَقَتَلُوا
خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَسَرُوا آخَرِينَ، وَمَا رَجَعَ إِلَى
مَسْلَمَةَ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
فَكَتَبَ مَسْلَمَةُ بِذَلِكَ إِلَى أَخِيهِ سُلَيْمَانَ يُخْبِرُهُ بِمَا وَقَعَ
مِنْ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ جَيْشًا كَثِيفًا صُحْبَةَ شَرَاحِيلَ بْنِ عُبَيْدَةَ
هَذَا، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْبُرُوا خَلِيجَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ أَوَّلًا
فَيُقَاتِلُوا مَلِكَ الْبُرْجَانِ، ثُمَّ يَعُودُوا إِلَى مَسْلَمَةَ فَذَهَبُوا
إِلَى بِلَادِ الْبُرْجَانِ وَقَطَعُوا إِلَيْهِمْ تِلْكَ الْخُلْجَانِ
فَاقْتَتَلُوا مَعَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِإِذْنِ
اللَّهِ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَسَبَوْا وَأَسَرُوا خَلْقًا
كَثِيرًا، وَخَلَّصُوا أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ تَحَيَّزُوا إِلَى
مَسْلَمَةَ، فَكَانُوا عِنْدَهُ حَتَّى اسْتَقْدَمَ الْجَمِيعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيز; خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ غَائِلَةِ الرُّومِ وَبِلَادِهِمْ، وَمِنْ
ضِيقِ الْعَيْشِ، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ هُنَالِكَ مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ.
أَثَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
خِلَافَةُ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِعَشْرٍ
مَضَيْنَ وَقِيلَ: بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ
تِسْعٍ وَتِسْعِينَ يَوْمَ مَاتَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَهْدٍ
مِنْهُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْ عُمَرَ كَمَا قَدَّمْنَا وَقَدْ ظَهَرَتْ
عَلَيْهِ مَخَايِلُ الْوَرَعِ وَالدِّينِ وَالتَّقَشُّفِ وَالصِّيَانَةِ
وَالنَّزَاهَةِ مِنْ أَوَّلِ حَرَكَةٍ بَدَتْ مِنْهُ; حَيْثُ أَعْرَضَ عَنْ
رُكُوبِ مَرَاكِبِ الْخِلَافَةِ، وَهِيَ الْخُيُولُ الْحِسَانُ الْجِيَادُ
الْمُعَدَّةُ لَهَا وَالِاجْتِزَاءُ بِمَرْكُوبِهِ الَّذِي كَانَ يَرْكَبُهُ،
وَسُكْنَى مَنْزِلِهِ رَغْبَةً عَنْ مَنْزِلِ الْخِلَافَةِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ
خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ لِي نَفْسًا
تَوَّاقَةً لَا تُعْطَى شَيْئًا إِلَّا تَاقَتْ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ،
وَإِنِّي لَمَّا أُعْطِيتُ الْخِلَافَةَ تَاقَتْ نَفْسِي إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى
مِنْهَا وَهِيَ الْجَنَّةُ; فَأَعِينُونِي عَلَيْهَا يَرْحَمْكُمُ اللَّهُ.
وَسَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ عِنْدَ وَفَاتِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَانَ مِمَّا بَادَرَ إِلَيْهِ عُمَرُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَنْ بَعَثَ إِلَى
مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ
بِأَرْضِ الرُّومِ مُحَاصِرُو الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَقَدِ اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ
الْحَالُ وَضَاقَ عَلَيْهِمُ الْمَجَالُ; لِأَنَّهُمْ عَسْكَرٌ كَثِيرٌ فَكَتَبَ
إِلَيْهِمْ يَأْمُرُهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى الشَّامِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ،
وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِطَعَامٍ كَثِيرٍ وَخُيُولٍ كَثِيرَةٍ عِتَاقٍ يُقَالُ: خَمْسُمِائَةِ
فَرَسٍ. فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ.
وَفِي
هَذِهِ السَّنَةِ أَغَارَتِ التُّرْكُ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ فَقَتَلُوا خَلْقًا
كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ حَاتِمَ بْنَ النُّعْمَانِ الْبَاهِلِيَّ، فَقَتَلَ أُولَئِكَ
الْأَتْرَاكَ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الْيَسِيرُ، وَبَعَثَ مِنْهُمْ
أُسَارَى إِلَى عُمَرَ وَهُوَ بِخُنَاصِرَةَ. وَقَدْ كَانَ الْمُؤَذِّنُونَ
يُذَكِّرُونَهُ بَعْدَ أَذَانِهِمْ بِاقْتِرَابِ الْوَقْتِ وَضِيقِهِ لِئَلَّا
يُؤَخِّرَهَا كَمَا كَانَ يُؤَخِّرُهَا مَنْ كَانَ قَبْلَهُ لِكَثْرَةِ
الْأَشْغَالِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ حَرِيزِ بْنِ عُثْمَانَ الرَّحْبِيِّ
الْحِمْصِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ مُؤَذِّنِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ
عَلَى الْفَلَاحِ، الصَّلَاةُ قَدْ قَارَبَتْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عُمَرُ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ عَنْ إِمْرَةِ
الْعِرَاقِ، وَبَعَثَ عَدِيَّ بْنَ أَرْطَاةَ الْفَزَارِيَّ عَلَى إِمْرَةِ
الْبَصْرَةِ، فَاسْتَقْضَى عَلَيْهَا الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ، فَاسْتَعْفَاهُ
فَأَعْفَاهُ، وَاسْتَقْضَى مَكَانَهُ إِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الذَّكِيَّ الْمَشْهُورَ،
وَبَعَثَ عَلَى إِمْرَةِ الْكُوفَةِ وَأَرْضِهَا عَبْدَ الْحَمِيدِ بْنَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، وَضَمَّ إِلَيْهِ أَبَا الزِّنَادِ
كَاتِبًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْضَى عَلَيْهَا عَامِرًا الشَّعْبِيَّ. قَالَ
الْوَاقِدِيُّ: فَلَمْ يَزَلْ قَاضِيًا عَلَيْهَا مُدَّةَ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَجَعَلَ عَلَى إِمْرَةِ خُرَاسَانَ الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
الْحَكَمِيَّ، وَكَانَ نَائِبَ مَكَّةَ
عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ، وَعَلَى إِمْرَةِ
الْمَدِينَةِ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَهُوَ
الَّذِي حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَعَزَلَ عَنْ إِمْرَةِ مِصْرَ
عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ رِفَاعَةَ وَوَلَّى عَلَيْهَا أَيُّوبَ بْنَ شُرَحْبِيلَ
وَجَعَلَ الْفُتْيَا إِلَى جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ
وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يُفْتُونَ
النَّاسَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ إِسْمَاعِيلَ
بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيَّ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ وَأَسْلَمَ فِي
وِلَايَتِهِ عَلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْبَرْبَرِ.
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ
تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ يُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْإِرْجَاءِ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ قَالَ: تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ
وَتِسْعِينَ. وَذَكَرَ خَلِيفَةُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَذَكَرَ شَيْخُنَا الذَّهَبِيُّ فِي الْأَعْلَامِ أَنَّهُ
تُوُفِّيَ هَذَا الْعَامَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ كَمَا تَقَدَّمَ.
عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزِ بْنِ جُنَادَةَ بْنِ وَهْبٍ الْقُرَشِيُّ
الْجُمَحِيُّ الْمَكِّيُّ، نَزِيلُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى
عَنْ زَوْجِ أُمِّهِ أَبِي مَحْذُورَةَ الْمُؤَذِّنِ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ
وَأَبِي سَعِيدٍ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَعَنْهُ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ
وَمَكْحُولٌ وَحَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ وَالزُّهْرِيُّ وَآخَرُونَ. وَقَدْ
وَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ حَتَّى
قَالَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ: إِنْ يَفْخَرَ عَلَيْنَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ
بِعَابِدِهِمْ ابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّا نَفْخَرُ عَلَيْهِمْ بِعَابِدِنَا عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ. وَقَالَ بَعْضُ وَلَدِهِ: كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ
كُلَّ جُمُعَةٍ، وَكَانَ يُفْرَشُ لَهُ الْفِرَاشُ فَلَا يَنَامُ عَلَيْهِ.
قَالُوا: وَكَانَ صَمُوتًا مُعْتَزِلًا لِلْفِتَنِ. وَكَانَ لَا يَتْرُكُ
الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا يَذْكُرُ شَيْئًا
مِنْ خِصَالِهِ الْمَحْمُودَةِ. وَرَأَى عَلَى بَعْضِ الْأُمَرَاءِ حُلَّةً مِنْ
حَرِيرٍ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنَّمَا أَلْبَسُهَا مِنْ أَجْلِ
هَؤُلَاءِ وَأَشَارَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
فَقَالَ لَهُ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ: لَا تَعْدِلْ بِخَوْفِكَ مِنَ اللَّهِ خَوْفَ
أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: مَنْ كَانَ مُقْتَدِيًا فَلْيَقْتَدِ بِمِثْلِهِ،
فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِلُّ أُمَّةً فِيهَا مِثْلُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُوُفِّيَ
أَيَّامَ الْوَلِيدِ. وَقَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: تُوُفِّيَ أَيَّامَ
عُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَذَكَرَ الذَّهَبِيُّ فِي " الْأَعْلَامِ "
أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدِ بْنِ عُقْبَةَ
أَبُو نُعَيْمٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَشْهَلِيُّ الْمَدَنِيُّ، وُلِدَ فِي حَيَاةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى عَنْهُ أَحَادِيثَ، لَكِنْ
حُكْمُهَا الْإِرْسَالُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَهُ صُحْبَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ
أَسَنُّ مِنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ قِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ
وَقِيلَ: سَبْعٍ وَتِسْعِينَ.
وَذَكَرَ الذَّهَبِيُّ فِي " الْأَعْلَامِ " أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي
هَذَا الْعَامِ، أَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْيَقِينِ.
نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ
ابْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلٍ، الْقُرَشِيُّ النَّوْفَلِيُّ الْمَدَنِيُّ،
رَوَى
عَنْ أَبِيهِ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَالْعَبَّاسِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ،
وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ
وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ ثِقَةً عَابِدًا يَحُجُّ مَاشِيًا، وَمَرْكُوبُهُ يُقَادُ
مَعَهُ، قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ
بِالْمَدِينَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
كُرَيْبُ بْنُ مُسْلِمٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ عِنْدَهُ حِمْلُ كُتُبٍ، وَكَانَ مِنَ
الثِّقَاتِ الْمَشْهُورِينَ بِالْخَيْرِ وَالدِّيَانَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ
كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ قُرَيْشٍ وَأَشْرَافِهَا، وَلَهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرةٌ،
تُوَفِّيَ فِي الْمَدِينَةِ وَدُفِنَ فِي الْبَقِيعِ.
مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ
لَهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ يَعْقِلُ مَجَّةً مَجَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ، وَعُمْرُهُ أَرْبَعُ سِنِينَ، تُوُفِّيَ
وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً بِالْمَدِينَةِ.
مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، الْفَقِيهُ الزَّاهِدُ، لَهُ رِوَايَاتٌ،
كَانَ
لَا يُفَضَّلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فِي زَمَانِهِ، وَكَانَ عَابِدًا وَرِعًا زَاهِدًا
كَثِيرَ الْخُشُوعِ وَقِيلَ: إِنَّهُ وَقَعَ فِي دَارِهِ حَرِيقٌ فَأَطْفَئُوهُ،
وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ، وَلَهُ مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ، رَحِمَهُ
اللَّهُ. قُلْتُ: وَانْهَدَمَتْ مَرَّةً نَاحِيَةٌ مِنَ الْمَسْجِدِ فَفَزِعَ
أَهْلُ السُّوقِ لِهَدَّتِهَا، وَإِنَّهُ لَفِي الْمَسْجِدِ فِي صَلَاتِهِ فَمَا
الْتَفَتَ.
وَقَالَ ابْنُهُ: رَأَيْتُهُ سَاجِدًا، وَهُوَ يَقُولُ: مَتَى أَلْقَاكَ وَأَنْتَ
عَنِّي رَاضٍ؟ ثُمَّ يَذْهَبُ فِي الدُّعَاءِ ثُمَّ يَقُولُ: مَتَى أَلْقَاكَ
وَأَنْتَ عَنِّي رَاضٍ؟ وَكَانَ إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ كَأَنَّهُ فِي
الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ.
حَنَشُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الصَّنْعَانِيُّ
كَانَ وَالِيَ إِفْرِيقِيَّةَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ وَبِإِفْرِيقِيَّةَ تُوَفِّيَ
غَازِيًا، وَلَهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنُ الضَّحَّاكِ، الْأَنْصَارِيُّ الْمَدَنِيُّ
الْفَقِيهُ، كَانَ يُفْتِي بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ مِنْ فُقَهَائِهَا
الْمَعْدُودِينَ، كَانَ عَالِمًا بِالْفَرَائِضِ وَتَقْسِيمِ الْمَوَارِيثِ،
وَهُوَ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ مَدَارُ الْفَتْوَى عَلَى
قَوْلِهِمْ.
سَنَةُ
مِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ، أَنْبَأَ وَرْقَاءُ،
عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ دَجَاجَةَ
قَالَ: دَخَلَ أَبُو مَسْعُودٍ عَلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: أَنْتَ الْقَائِلُ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ
مِائَةُ عَامٍ وَعَلَى الْأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ ؟ إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِائَةُ
عَامٍ وَعَلَى الْأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ مِمَّنْ هُوَ حَيٌّ وَإِنَّ رَخَاءَ
هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ الْمِائَةِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لَهُ: يَا
فَرُّوخُ، أَنْتَ الْقَائِلُ: لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِائَةُ سَنَةٍ وَعَلَى
الْأَرْضِ عَيْنٌ تَطْرِفُ؟ أَخْطَأَتِ اسْتُكَ الْحُفْرَةَ، إِنَّمَا قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ
مِائَةُ سَنَةٍ وَعَلَى الْأَرْضِ عَيْنٌ تَطْرِفُ مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ حَيٌّ
وَإِنَّمَا رَخَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفَرَجُهَا بَعْدَ الْمِائَةِ. تَفَرَّدَ
بِهِ.
وَهَكَذَا جَاءَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ: فَوَهَلَ
النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تِلْكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ انْخِرَامَ قَرْنِهِ.
وَفِيهَا خَرَجَتْ خَارِجَةٌ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ بِالْعِرَاقِ، فَبَعَثَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
إِلَى
عَبْدِ الْحَمِيدِ نَائِبِ الْكُوفَةِ يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى
الْحَقِّ، وَيَتَلَطَّفَ بِهِمْ، وَلَا يُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا فَكَسَرَهُمُ
الْحَرُورِيَّةُ، فَبَعَثَ عُمَرُ إِلَيْهِ يَلُومُهُ عَلَى جَيْشِهِ، وَأَرْسَلَ
عُمَرُ ابْنَ عَمِّهِ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنَ الْجَزِيرَةِ إِلَى
حَرْبِهِمْ، فَأَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ، وَقَدْ أَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى كَبِيرِ
الْخَوَارِجِ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: بِسْطَامُ يَقُولُ لَهُ: مَا أَخْرَجَكَ
عَلَيَّ؟ فَإِنْ كُنْتَ خَرَجْتَ غَضَبًا لِلَّهِ فَأَنَا أَحَقُّ بِذَلِكَ
مِنْكَ، وَلَسْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنِّي، وَهَلُمَّ أُنَاظِرْكَ; فَإِنْ
رَأَيْتَ حَقًّا اتَّبَعْتَهُ، وَإِنْ أَبْدَيْتَ حَقًّا نَظَرْنَا فِيهِ.
فَبَعَثَ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَيْهِ فَاخْتَارَ مِنْهُمْ عُمَرُ
رَجُلَيْنِ فَسَأَلَهُمَا: مَاذَا تَنْقِمُونَ؟ فَقَالَا: جَعْلَكَ يَزِيدَ بْنَ
عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ بَعْدِكَ. فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَجْعَلْهُ أَبَدًا،
وَإِنَّمَا جَعَلَهُ غَيْرِي. قَالَا: فَكَيْفَ تَرْضَى بِهِ أَمِينًا لِلْأُمَّةِ
مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ: أَنْظِرْنِي ثَلَاثَةً. فَيُقَالُ: إِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ
دَسَّتْ إِلَيْهِ سُمًّا فَقَتَلُوهُ; خَشْيَةَ أَنْ يَخْرُجَ الْأَمْرُ مِنْ
أَيْدِيهِمْ، وَيَمْنَعَهُمُ الْأَمْوَالَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا عُمَرُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ هِشَامٍ
الْمُعَيْطِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ
الصَّائِفَةِ.
وَفِيهَا وَلَّى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عُمَرَ بْنَ هُبَيْرَةَ
الْجَزِيرَةَ، فَسَارَ إِلَيْهَا.
وَفِيهَا حُمِلَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
مِنَ الْعِرَاقِ; أَرْسَلَهُ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ نَائِبُ الْبَصْرَةِ وَقَدْ
كَانَ أَظْهَرَ الِامْتِنَاعَ مَعَ مُوسَى بْنِ وَجِيهٍ، وَكَانَ عُمَرُ يُبْغِضُ
يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَيَقُولُ: هَؤُلَاءِ جَبَابِرَةٌ وَلَا
أُحِبُّ
مِثْلَهُمْ.
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى عُمَرَ طَالَبَهُ بِمَا قِبَلَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي
كَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَى سُلَيْمَانَ أَنَّهَا حَاصِلَةٌ عِنْدَهُ، فَقَالَ
إِنَّمَا كَتَبْتُ ذَلِكَ لِأُرْهِبَ الْأَعْدَاءَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنِي
وَبَيْنَ سُلَيْمَانَ شَيْءٌ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَكَانَتِي عِنْدَهُ. فَقَالَ لَهُ
عُمَرُ: لَا أَسْمَعُ مِنْكَ هَذَا، وَلَسْتُ أُطْلِقُكَ حَتَّى تُؤَدِّيَ
أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَرَ بِسَجْنِهِ.
وَكَانَ عُمَرُ قَدْ بَعَثَ عَلَى إِمْرَةِ خُرَاسَانَ الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ الْحَكَمِيَّ عِوَضَهُ وَقَدِمَ وَلَدُ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ
مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ قَدْ مَنَّ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِوِلَايَتِكَ عَلَيْهَا فَلَا
نَكُونَنَّ أَشْقَى النَّاسِ بِكَ، فَعَلَامَ تَحْبِسُ هَذَا الشَّيْخَ وَأَنَا
أَقُومُ بِمَا تُصَالِحُنِي عَنْهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَا أُصَالِحُكَ عَنْهُ
إِلَّا أَنْ تَقُومَ بِجَمِيعِ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ إِنْ كَانَتْ لَكَ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ بِمَا تَقُولُ وَإِلَّا
فَاقْبَلْ يَمِينَهُ أَوْ فَصَالِحْنِي عَنْهُ. فَقَالَ: لَا آخُذُ مِنْهُ إِلَّا
جَمِيعَ مَا عِنْدَهُ، فَخَرَجَ مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ، فَلَمْ
يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ مَخْلَدٌ، فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: هُوَ خَيْرٌ مِنْ أَبِيهِ.
ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ أَمَرَ بِأَنْ يَلْبَسَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ جُبَّةً
مِنْ صُوفٍ، وَيَرْكَبَ عَلَى بَعِيرٍ وَيَذْهَبُوا إِلَى جَزِيرَةِ دَهْلَكَ
الَّتِي كَانَ يُنْفَى إِلَيْهَا الْفُسَّاقُ، فَشَفَعُوا فِيهِ، فَرَدَّهُ إِلَى
السِّجْنِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى مَرِضَ عُمَرُ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ
فِيهِ، فَهَرَبَ
مِنَ
السِّجْنِ وَهُوَ مَرِيضٌ، وَعَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ،
وَبِذَلِكَ كَتَبَ إِلَيْهِ، كَمَا سَيَأْتِي، وَأَظُنُّهُ كَانَ عَالِمًا أَنَّ
عُمَرَ قَدْ سُقِيَ سُمًّا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَمَضَانَ مِنْهَا عَزَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيَّ عَنْ إِمْرَةِ
خُرَاسَانَ بَعْدَ سَنَةٍ وَخَمْسَةِ أَشْهُرٍ; وَإِنَّمَا عَزَلَهُ لِأَنَّهُ
كَانَ يَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنَ الْكُفَّارِ وَيَقُولُ:
أَنْتُمْ إِنَّمَا تُسْلِمُونَ فِرَارًا مِنْهَا. فَامْتَنَعُوا مِنَ الْإِسْلَامِ
وَثَبَتُوا عَلَى دِينِهِمْ وَأَدَّوُا الْجِزْيَةَ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاعِيًا وَلَمْ يَبْعَثْهُ جَابِيًا. وَعَزَلَهُ
وَوَلَّى بَدَلَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ نُعَيْمٍ الْقُشَيْرِيَّ عَلَى
الْحَرْبِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الْخَرَاجِ.
وَفِيهَا كَتَبَ عُمَرُ إِلَى عُمَّالِهِ يَأْمُرُهُمْ بِالْخَيْرِ وَيَنْهَاهُمْ
عَنِ الشَّرِّ وَيُبَيِّنُ لَهُمُ الْحَقَّ، وَيُوَضِّحُهُ لَهُمْ، وَيَعِظُهُمْ
فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَيُخَوِّفُهُمْ بَأْسَ اللَّهِ وَانْتِقَامَهُ
فَكَانَ فِيمَا كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُعَيْمٍ الْقُشَيْرِيِّ:
أَمَّا بَعْدُ، فَكُنْ عَبْدًا لِلَّهِ نَاصِحًا لِلَّهِ فِي عِبَادِهِ، وَلَا
تَأْخُذْكَ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، فَإِنَّ اللَّهَ أَوْلَى بِكَ مِنَ
النَّاسِ وَحَقَّهُ عَلَيْكَ أَعْظَمُ، وَلَا تُوَلِّيَنَّ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ
الْمُسْلِمِينَ إِلَّا الْمَعْرُوفَ بِالنَّصِيحَةِ لَهُمْ، وَالتَّوْفِيرِ
عَلَيْهِمْ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيمَا اسْتُرْعِيَ، وَإِيَّاكَ أَنْ يَكُونَ
مَيْلُكَ مَيْلًا إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ; فَإِنَّ اللَّهَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ
خَافِيَةٌ وَلَا تَذْهَبَنَّ عَنِ اللَّهِ مَذْهَبًا; فَإِنَّهُ لَا مَلْجَأَ مِنَ
اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ. وَكَتَبَ مِثْلَ ذَلِكَ مَوَاعِظَ كَثِيرَةً إِلَى
الْعُمَّالِ.
وَقَالَ
الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ": وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَدِيِّ بْنِ
عَدِيٍّ: إِنَّ لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَحُدُودًا وَسُنَنًا، مَنِ
اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ
يَسْتَكْمِلِ الْإِيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى
تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ بُدُوُّ دَعْوَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ
وَذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَكَانَ
مُقِيمًا بِأَرْضِ الشُّرَاةِ بَعَثَ مِنْ جِهَتِهِ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ:
مَيْسَرَةُ. إِلَى الْعِرَاقِ وَأَرْسَلَ طَائِفَةً أُخْرَى وَهُمْ; مُحَمَّدُ
بْنُ خُنَيْسٍ وَأَبُو عِكْرِمَةَ السَّرَّاجُ وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ
وَحَيَّانُ الْعَطَّارُ خَالُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَلَمَةَ إِلَى خُرَاسَانَ
وَعَلَيْهَا يَوْمئِذٍ الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيُّ قَبْلَ أَنْ
يُعْزَلَ فِي رَمَضَانَ وَأَمَرَهُمْ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ، وَإِلَى أَهْلِ
بَيْتِهِ فَلَقُوا مَنْ لَقُوا ثُمَّ انْصَرَفُوا بِكُتُبِ مَنِ اسْتَجَابَ
مِنْهُمْ إِلَى مَيْسَرَةَ، الَّذِي بِالْعِرَاقِ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيٍّ فَفَرِحَ بِهَا وَاسْتَبْشَرَ وَسَرَّهُ وَكَانَ مَبَادِئَ أَمْرٍ
قَدْ كَتَبَ اللَّهُ إِتْمَامَهُ وَأَوَّلَ رَأْيٍ قَدْ أَحْكَمَ اللَّهُ
إِبْرَامَهُ،
وَذَلِكَ
أَنَّ دَوْلَةَ بَنِي أُمَيَّةَ قَدْ بَانَ عَلَيْهَا مَخَايِلُ الْوَهْنِ
وَالضَّعْفِ، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَمَا
سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَقَدِ اخْتَارَ أَبُو مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ لِمُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيٍّ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَهُمْ; سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ
الْخُزَاعِيُّ وَلَاهِزُ بْنُ قُرَيْظٍ التَّمِيمِيُّ وَقَحْطَبَةُ بْنُ شَبِيبٍ
الطَّائِيُّ وَمُوسَى بْنُ كَعْبٍ التَّمِيمِيُّ وَخَالِدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
أَبُو دَاوُدَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ شَيْبَانَ بْنِ ذَهَبٍ وَالْقَاسِمُ بْنُ
مُجَاشِعٍ التَّمِيمِيُّ وَعِمْرَانُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو النَّجْمِ مَوْلًى
لِآلِ أَبِي مُعَيْطٍ وَمَالِكُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيُّ وَطَلْحَةُ بْنُ
زُرَيْقٍ الْخُزَاعِيُّ وَعَمْرُو بْنُ أَعْيَنَ أَبُو حَمْزَةَ مَوْلًى
لِخُزَاعَةَ وَشِبْلُ بْنُ طَهْمَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْهَرَوِيُّ مَوْلًى لِبَنِي
حَنِيفَةَ وَعِيسَى ابْنُ أَعْيَنَ مَوْلَى خُزَاعَةَ أَيْضًا. وَاخْتَارَ
مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا أَيْضًا. وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ
كِتَابًا يَكُونُ مِثَالًا وَسِيرَةً يَقْتَدُونَ بِهَا وَيَسِيرُونَ بِهَا.
وَقَدْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبُو بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ نَائِبُ الْمَدِينَةِ. وَالنُّوَّابُ عَلَى الْأَمْصَارِ هُمُ
الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا سِوَى مَنْ ذَكَرْنَا مِمَّنْ عُزِلَ
وَتَوَلَّى غَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمْ يَحُجَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ
لِشُغْلِهِ بِالْأُمُورِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُبْرِدُ الْبَرِيدَ إِلَى
الْمَدِينَةِ فَيَقُولُ لَهُ: سَلِّمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِّي. وَسَيَأْتِي بِإِسْنَادِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
سَالِمُ
بْنُ أَبِي الْجَعْدِ الْأَشْجَعِيُّ مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ أَخُو زِيَادٍ
وَعَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَعِمْرَانُ وَمُسْلِمٌ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ
جَلِيلٌ رَوَى عَنْ ثَوْبَانَ وَجَابِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ
قَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ وَآخَرُونَ وَكَانَ ثِقَةً نَبِيلًا جَلِيلًا، تُوُفِّيَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ
الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ الْمَدَنِيُّ وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَآهُ وَحَدَّثَ عَنْ أَبِيهِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ
وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمُعَاوِيَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ الزُّهْرِيُّ
وَأَبُو حَازِمٍ وَجَمَاعَةٌ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ مِنْ عِلْيَةِ الْأَنْصَارِ
وَعُلَمَائِهِمْ وَمِنْ أَبْنَاءِ الَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا. وَقَالَ يُوسُفُ
بْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: آخِرُ خَرْجَةٍ خَرَجَهَا
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الْجُمُعَةِ، حَصَبَهُ
النَّاسُ وَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ يَوْمَئِذٍ
أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ. قَالُوا: تُوُفِّيَ سَنَةَ مِائَةٍ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَبُو
الزَّاهِرِيَّةِ حُدَيْرُ بْنُ كُرَيْبٍ الْحِمْصِيُّ
تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ سَمِعَ أَبَا أُمَامَةَ صَدَى بْنَ عَجْلَانَ وَعَبْدَ اللَّهِ
بْنَ بُسْرٍ وَيُقَالُ أَنَّهُ أَدْرَكَ أَبَا الدَّرْدَاءِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ
رِوَايَتَهُ عَنْهُ وَعَنْ حُذَيْفَةَ مُرْسَلَةٌ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ
جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ.
وَمِنْ أَغْرَبِ مَا رُوِيَ عَنْهُ قَوْلُ قُتَيْبَةَ: ثَنَا شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ
عَنْ حُمَيْدِ بْنِ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ قَالَ: أَغْفَيْتُ فِي صَخْرَةِ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ فَجَاءَتِ السَّدَنَةُ، فَأَغْلَقُوا عَلَيَّ الْبَابَ، فَمَا
انْتَبَهْتُ إِلَّا بِتَسْبِيحِ الْمَلَائِكَةِ فَوَثَبْتُ مَذْعُورًا، فَإِذَا
الْمَلَائِكَةُ صُفُوفٌ; فَدَخَلْتُ مَعَهُمْ فِي الصَّفِّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ،
وَغَيْرُهُ: مَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ.
أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ
ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو اللَّيْثِيُّ الْكِنَانِيُّ صَحَابِيٌّ وَهُوَ
آخِرُ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَاةً
بِالْإِجْمَاعِ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
رَآهُ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنِهِ وَذَكَرَ صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ
وَمُعَاذٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَحَدَّثَ عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَعَمْرُو
بْنُ دِينَارٍ وَأَبُو الزُّبَيْرِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ. وَكَانَ مِنْ
أَنْصَارِ
عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ شَهِدَ مَعَهُ حُرُوبَهُ كُلَّهَا لَكِنْ نَقِمَ بَعْضُهُمْ
عَلَيْهِ كَوْنَهُ كَانَ مَعَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ وَيُقَالُ:
إِنَّهُ كَانَ حَامِلَ رَايَتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ
فَقَالَ لَهُ: مَا أَبْقَى لَكَ الدَّهْرُ مِنْ ثَكْلِكَ عَلِيًّا؟ فَقَالَ:
ثُكْلَ الْعَجُوزِ الْمِقْلَاتِ وَالشَّيْخِ الرَّقُوبِ. قَالَ: كَيْفَ حُبُّكَ
لَهُ؟ قَالَ: حُبُّ أُمِّ مُوسَى لِمُوسَى وَإِلَى اللَّهِ أَشْكُو التَّقْصِيرَ.
قِيلَ: إِنَّهُ أَدْرَكَ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثَمَانَ سِنِينَ وَمَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ
وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ مُسْلِمُ
بْنُ الْحَجَّاجِ: وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ مُطْلَقًا وَمَاتَ سَنَةَ
مِائَةٍ.
أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدَيُّ
وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَلٍّ الْبَصْرِيُّ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ
وَحَجَّ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ مَرَّتَيْنِ، وَأَسْلَمَ فِي حَيَاةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرَهُ، وَأَدَّى فِي
زَمَانِهِ الزَّكَاةَ ثَلَاثَ سِنِينَ إِلَى عُمَّالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; وَمِثْلُ هَذَا يُسَمِّيهِ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ مُخَضْرَمًا.
وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَمِعَ
مِنْهُ وَمِنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَخَلْقٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَصَحِبَ
سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى دَفَنَهُ. وَرَوَى
عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ، مِنْهُمْ أَيُّوبُ وَحُمَيْدٌ
الطَّوِيلُ وَسُلَيْمَانُ بْنُ طَرْخَانَ التَّيْمِيُّ. وَقَالَ عَاصِمٌ
الْأَحْوَلُ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَدْرَكْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَغُوثَ;
صَنَمًا مِنْ رَصَاصٍ يُحْمَلُ عَلَى جَمَلٍ أَجْرَدَ،
فَإِذَا بَلَغَ وَادِيَا بَرَكَ فِيهِ فَيَقُولُونَ: قَدْ رِضَى رَبُّكُمْ لَكُمْ هَذَا الْوَادِيَ فَيَنْزِلُونَ فِيهِ. قَالَ: وَسَمِعْتُهُ وَقَدْ قِيلَ لَهُ: أَدْرَكْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ أَسْلَمْتُ عَلَى عَهْدِهِ وَأَدَّيْتُ إِلَيْهِ الزَّكَاةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَمْ أَلْقَهُ وَشَهِدْتُ الْيَرْمُوكَ وَالْقَادِسِيَّةَ وَجَلُولَاءَ وَنَهَاوَنْدَ وَتُسْتَرَ وَأَذْرَبِيجَانَ وَرُسْتُمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ الْبَشِيرَ إِلَى عُمَرَ فِي فَتْحِ نَهَاوَنْدَ. قَالُوا: وَكَانَ أَبُو عُثْمَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا; يَسْرُدُ الصَّوْمَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ لَا يَتْرُكُهُ وَكَانَ يُصَلِّي حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ. وَحَجَّ سِتِّينَ مَرَّةً مَا بَيْنَ حِجَّةٍ وَعُمْرَةٍ. قَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: إِنِّي لَأَحْسَبُهُ لَا يُصِيبُ ذَنْبًا; لِأَنَّهُ كَانَ لَيْلَهُ قَائِمًا وَنَهَارَهُ صَائِمًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ يَقُولُ: أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ وَمَا مِنِّي شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ أَنْكَرْتُهُ خَلَا أَمَلِي فَإِنِّي أَجِدُهُ كَمَا هُوَ. وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ حِينَ يَذْكُرُنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: فَنَقُولُ لَهُ: مِنْ أَيْنَ تَعْلَمُ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [ الْبَقَرَةِ: 152 ] فَإِذَا ذَكَرْتُ اللَّهَ ذَكَرَنِي. قَالَ: وَكُنَّا إِذَا دَعَوْنَا اللَّهَ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَقَالَ
رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قَالُوا: وَعَاشَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ
سَنَةً. وَقِيلَ: وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَهُ هُشَيْمٌ وَغَيْرُهُ. قَالَ
الْمَدَائِنِيُّ وَغَيْرُهُ: تُوُفِّيَ سَنَةَ مِائَةٍ. وَقَالَ الْفَلَّاسُ:
تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ. وَالصَّحِيحُ سَنَةَ مِائَةٍ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ
يَفْضُلُ عَلَى وَالِدِهِ فِي الْعِبَادَةِ وَالِانْقِطَاعِ عَنِ النَّاسِ، وَلَهُ
كَلِمَاتٌ حِسَانٌ مَعَ أَبِيهِ وَوَعْظِهِ إِيَّاهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ هَرَبُ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ مِنَ السِّجْنِ حِينَ بَلَغَهُ
مَرَضُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَوَاعَدَ غِلْمَانِهِ يَلْقَوْنَهُ
بِالْخَيْلِ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ وَقِيلَ: بِإِبِلٍ لَهُ. ثُمَّ نَزَلَ مِنْ
مَحْبَسِهِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ وَامْرَأَتُهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ الْفُرَاتِ
الْعَامِرِيَّةُ فَلَمَّا جَاءَهُ غِلْمَانُهُ رَكِبَ رَوَاحِلَهُ وَسَارَ،
وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِنِّي وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ مِنْ
سِجْنِكَ إِلَّا حِينَ بَلَغَنِي مَرَضُكَ وَلَوْ رَجَوْتُ حَيَاتَكَ مَا خَرَجْتُ
وَلَكِنِّي خَشِيتُ مِنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ; فَإِنَّهُ يَتَوَعَّدُنِي
بِالْقَتْلِ. وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَقُولُ: لَئِنْ وُلِّيتُ
لَأَقْطَعَنَّ مِنْ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ طَائِفَةً. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا
وُلِّيَ الْعِرَاقَ عَاقَبَ أَصْهَارَهُ آلَ أَبِي عَقِيلٍ، وَهُمْ بَيْتُ
الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
مُزَوَّجًا بِبِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ أَخِي الْحَجَّاجِ، وَلَهُ مِنْهَا
ابْنُهُ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ الْفَاسِقُ الْمَقْتُولُ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ
هَرَبَ مِنَ السِّجْنِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ يُرِيدُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ
سُوءًا فَاكْفِهِمْ شَرَّهُ، وَارْدُدْ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ.
ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْمَرَضُ يَتَزَايَدُ بِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَتَّى
مَاتَ وَهُوَ بِخُنَاصِرَةَ مِنْ دَيْرِ سَمْعَانَ بَيْنَ حَمَاةَ وَحَلَبَ فِي
يَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَقِيلَ: فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ
رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَةٍ عَنْ تِسْعٍ
وَثَلَاثِينَ
سَنَةً
وَأَشْهُرٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ بِأَشْهُرٍ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ فِيمَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ سَنَتَيْنِ وَخَمْسَةَ
أَشْهُرٍ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ حَكَمًا مُقْسِطًا وَإِمَامًا عَادِلًا
وَرِعًا دَيِّنًا، لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأُمَوِيِّ الْإِمَامِ
الْمَشْهُورِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ
هُوَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي
الْعاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ أَبُو حَفْصٍ
الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأُمُّهُ أُمُّ عَاصِمٍ
لَيْلَى بِنْتُ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَيُقَالُ لَهُ: أَشَجُّ
بَنِي مَرْوَانَ. وَكَانَ يُقَالُ: الْأَشَجُّ وَالنَّاقِصُ أَعْدَلَا بَنِي
مَرْوَانَ. فَهَذَا هُوَ الْأَشَجُّ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ النَّاقِصِ.
كَانَ عُمَرُ تَابِعِيًّا جَلِيلًا، رَوَى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَالسَّائِبِ
بْنِ يَزِيدَ، وَيُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَيُوسُفُ صَحَابِيٌّ
صَغِيرٌ. وَرَوَى عَنْ خَلْقٍ مِنَ
التَّابِعِينَ.
وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ
بْنُ حَنْبَلٍ: لَا أَرَى قَوْلَ أَحَدٍ مِنَ التَّابِعِينَ حُجَّةً إِلَّا قَوْلَ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ ابْنِ عَمِّهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ عَنْ عَهْدٍ مِنْهُ لَهُ بِذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَيُقَالُ: كَانَ
مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِمِصْرَ. قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ:
سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْإِخْوَةِ، وَلَكِنِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ
أَبَوَيْهِ; أَبُو بَكْرٍ وَعَاصِمٌ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
خَيْثَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ
قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَحْبِيلَ بْنِ
حَسَنَةَ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَجُلًا رَأَى فِي الْمَنَامِ لَيْلَةَ وُلِدَ عُمَرُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَوْ لَيْلَةَ وَلِيَ الْخِلَافَةَ شَكَّ أَبُو بَكْرٍ
أَنَّ مُنَادِيًا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يُنَادِي: أَتَاكُمُ اللِّينُ
وَالدِّينُ، وَإِظْهَارُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الْمُصَلِّينَ. فَقُلْتُ:
وَمَنْ هُوَ؟ فَنَزَلَ فَكَتَبَ فِي الْأَرْضِ: عُمَرُ. وَقَالَ آدَمُ بْنُ أَبِي
إِيَاسٍ: ثَنَا ضَمْرَةُ، ثَنَا أَبُو عَلِيٍّ ثَرْوَانُ مَوْلَى
عُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: دَخَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى
إِصْطَبْلِ أَبِيهِ وَهُوَ غُلَامٌ، فَضَرَبَهُ فَرَسٌ فَشَجَّهُ، فَجَعَلَ
أَبُوهُ يَمْسَحُ عَنْهُ الدَّمَ، وَيَقُولُ: إِنْ كُنْتَ أَشَجَّ بَنِي أُمَيَّةَ
إِنَّكَ إِذًا لَسَعِيدٌ. رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ
هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ عَنْ ضَمْرَةَ. وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ ثَنَا
ضِمَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي قُبَيْلٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بَكَى، وَهُوَ غُلَامٌ صَغِيرٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أُمَّهُ فَأَرْسَلَتْ
إِلَيْهِ فَقَالَتْ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: ذَكَرْتُ الْمَوْتَ. فَبَكَتْ أُمُّهُ.
وَكَانَ قَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَهُوَ غُلَامٌ صَغِيرٌ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ
عُثْمَانَ الْحِزَامِيُّ: كَانَ أَبُوهُ قَدْ جَعَلَهُ عِنْدَ صَالِحِ بْنِ
كَيْسَانَ يُؤَدِّبُهُ، فَلَمَّا حَجَّ أَبُوهُ اجْتَازَ بِهِ فِي الْمَدِينَةِ
فَسَأَلَهُ عَنْهُ، فَقَالَ: مَا خَبَرْتُ أَحَدًا اللَّهُ أَعْظَمُ فِي صَدْرِهِ
مِنْ هَذَا الْغُلَامِ.
وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَأَخَّرَ
عَنِ الصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ يَوْمًا، فَقَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ مَا
شَغَلَكَ؟ فَقَالَ: كَانَتْ مُرَجِّلَتِي تُسَكِّنُ شَعْرِي. فَقَالَ لَهُ:
أَقَدَّمْتَ ذَلِكَ عَلَى الصَّلَاةِ؟ وَكَتَبَ إِلَى أَبِيهِ، وَهُوَ عَلَى
مِصْرَ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ أَبُوهُ رَسُولًا فَلَمْ يُكَلِّمْهُ حَتَّى
حَلَقَ رَأْسَهُ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَخْتَلِفُ إِلَى
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَسْمَعُ مِنْهُ، فَبَلَغَ عُبَيْدَ اللَّهِ
أَنَّ عُمَرَ يَنْتَقِصُ
عَلِيًّا،
فَلَمَّا أَتَاهُ عُمَرُ أَعْرَضَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْهُ، وَقَامَ يُصَلِّي
فَجَلَسَ عُمَرُ يَنْتَظِرُهُ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَى عُمَرَ مُغْضَبًا،
وَقَالَ لَهُ: مَتَى بَلَغَكَ أَنَّ اللَّهَ سَخِطَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ بَعْدَ
أَنْ رَضِيَ عَنْهُمْ؟ قَالَ: فَفَهِمَهَا عُمَرُ، وَقَالَ: مَعْذِرَةً إِلَى
اللَّهِ ثُمَّ إِلَيْكَ، وَاللَّهِ لَا أَعُودُ. قَالَ: فَمَا سُمِعَ بَعْدَ
ذَلِكَ يَذْكُرُ عَلِيًّا إِلَّا بِخَيْرٍ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا أَبِي ثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ قَالَ: دَخَلَ عَلَيْنَا عُمَرُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ هَذَا الْبَابِ يَعْنِي بَابًا مِنْ أَبْوَابِ
مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ
الْقَوْمِ: بَعَثَ إِلَيْنَا الْفَاسِقُ بِابْنِهِ هَذَا يَتَعَلَّمُ الْفَرَائِضَ
وَالسُّنَنَ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ لَنْ يَمُوتَ حَتَّى يَكُونَ خَلِيفَةً وَيَسِيرُ
بِسِيرَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. قَالَ دَاوُدُ: فَوَاللَّهِ مَا مَاتَ حَتَّى
رَأَيْنَا ذَلِكَ فِيهِ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنِي الْعُتْبِيُّ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ
مَا اسْتُبْيِنَ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِرْصُهُ عَلَى الْعِلْمِ
وَرَغْبَتُهُ فِي الْأَدَبِ - أَنَّ أَبَاهُ وَلِيَ مِصْرَ وَهُوَ حَدِيثُ
السِّنِّ، يُشَكُّ فِي بُلُوغِهِ، فَأَرَادَ إِخْرَاجَهُ مَعَهُ، فَقَالَ: يَا
أَبَهْ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ لَعَلَّهُ يَكُونُ أَنْفَعَ لِي وَلَكَ؟ تُرَحِّلُنِي
إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَقْعُدُ إِلَى فُقَهَاءِ أَهْلِهَا وَأَتَأَدَّبُ بِآدَابِهِمْ.
فَوَجَّهَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَعَدَ مَعَ مَشَايِخِ قُرَيْشٍ، وَتَجَنَّبَ
شَبَابَهُمْ، وَمَا زَالَ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى اشْتَهَرَ ذِكْرُهُ، فَلَمَّا
مَاتَ أَبُوهُ أَخَذَهُ عَمُّهُ
أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَخَلَطَهُ بِوَلَدِهِ،
وَقَدَّمَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَزَوَّجَهُ بِابْنَتِهِ فَاطِمَةَ، وَهِيَ
الَّتِي يَقُولُ فِيهَا الشَّاعِرُ:
بِنْتُ الْخَلِيفَةِ وَالْخَلِيفَةُ جَدُّهَا أُخْتُ الْخَلَائِفِ وَالْخَلِيفَةُ
زَوْجُهَا
قَالَ: وَلَا نَعْرِفُ امْرَأَةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا
سِوَاهَا.
قَالَ الْعُتْبِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ حَاسِدُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
يَنْقِمُ عَلَيْهِ شَيْئًا سِوَى مُتَابَعَتِهِ فِي النِّعْمَةِ، وَالِاخْتِيَالِ
فِي الْمِشْيَةِ. وَقَدْ قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: الْكَامِلُ مَنْ عُدَّتْ
هَفَوَاتُهُ، وَلَا تُعَدُّ إِلَّا مِنْ قِلَّةٍ.
وَدَخَلَ يَوْمًا عَلَى عَمِّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَهُوَ يَتَجَانَفُ فِي
مِشْيَتِهِ فَقَالَ لَهُ: يَا عُمَرُ، مَا لَكَ تَمْشِي غَيْرَ مِشْيَتِكَ؟ قَالَ:
إِنَّ فِيَّ جُرْحًا. فَقَالَ: وَأَيْنَ هُوَ مِنْ جَسَدِكَ؟ قَالَ: بَيْنَ
الرَّانِفَةِ وَالصَّفَنِ يَعْنِي بَيْنَ طَرَفِ الْأَلْيَةِ وَجِلْدَةِ
الْخِصْيَةِ فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِرَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ: بِاللَّهِ لَوْ
رَجُلٌ مِنْ قَوْمِكَ سُئِلَ عَنْ هَذَا مَا أَجَابَ هَذَا الْجَوَابَ.
قَالُوا: وَلَمَّا مَاتَ عَمُّهُ عَبْدُ الْمَلِكِ حَزِنَ عَلَيْهِ، وَلَبِسَ
الْمُسُوحَ تَحْتَ ثِيَابِهِ سَبْعِينَ يَوْمًا. وَلَمَّا وَلِيَ الْوَلِيدُ
عَامَلَهُ بِمَا كَانَ أَبُوهُ يُعَامِلُهُ بِهِ، وَوَلَّاهُ الْمَدِينَةَ
وَمَكَّةَ وَالطَّائِفَ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثٍ
وَتِسْعِينَ، وَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَسَنَةَ
تِسْعِينَ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْوَلِيدُ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، ثُمَّ
حَجَّ بِالنَّاسِ عُمَرُ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ.
وَبَنَى
فِي مُدَّةِ وِلَايَتِهِ هَذِهِ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَوَسَّعَهُ عَنْ أَمْرِ الْوَلِيدِ لَهُ بِذَلِكَ، فَدَخَلَ فِيهِ
قَبْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانَ فِي هَذِهِ
الْمُدَّةِ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ مُعَاشَرَةً، وَأَعْدَلِهِمْ سِيرَةً; كَانَ
إِذَا وَقَعَ لَهُ أَمْرٌ مُشْكِلٌ جَمَعَ فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِ،
وَقَدْ عَيَّنَ عَشَرَةً مِنْهُمْ، وَكَانَ لَا يَقْطَعُ أَمْرًا بِدُونِهِمْ أَوْ
مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ، وَهُمْ: عُرْوَةُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُتْبَةَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
هِشَامٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي خَثْمَةَ وَسُلَيْمَانُ بْنُ
يَسَارٍ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ.
وَكَانَ لَا يَخْرُجُ عَنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَقَدْ كَانَ سَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيِّبِ لَا يَأْتِي أَحَدًا مِنَ الْخُلَفَاءِ وَكَانَ يَأْتِي إِلَى
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ
عَبْدِ الْجَبَّارِ الْأَيْلِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ:
قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَبِهَا ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَغَيْرُهُ وَقَدْ نَدَبَهُمْ
عُمَرُ يَوْمَئِذٍ رَأْيًا.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي قَادِمٌ الْبَرْبَرِيُّ،
أَنَّهُ ذَاكَرَ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ شَيْئًا مِنْ قَضَايَا
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِذْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ
رَبِيعَةُ: كَأَنَّكَ تَقُولُ: أَخْطَأَ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَخْطَأَ
قَطُّ. وَثَبَتَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ:
مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ أَشْبَهَ صَلَاةَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْفَتَى يَعْنِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
حِينَ كَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ.
قَالُوا: وَكَانَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَيُخَفِّفُ الْقِيَامَ
وَالْقُعُودَ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: أَنَّهُ كَانَ يُسَبِّحُ فِي الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ عَشْرًا عَشْرًا. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ
أَبِي النَّضْرِ الْمَدِينِيِّ، قَالَ: لَقِيتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ خَارِجًا
مِنْ عِنْدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقُلْتُ لَهُ: مِنْ عِنْدِ عُمَرَ
خَرَجْتَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: تُعَلِّمُونَهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقُلْتُ:
هُوَ وَاللَّهِ أَعْلَمُكُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَتَيْنَاهُ نُعَلِّمُهُ فَمَا
بَرِحْنَا حَتَّى تَعَلَّمْنَا مِنْهُ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ كَانَتِ
الْعُلَمَاءُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَلَامِذَةً. وَفِي رِوَايَةٍ:
قَالَ مَيْمُونٌ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُعَلِّمَ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ كَانَ قَدْ صَحِبَ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ
عَبَّاسٍ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى
الْجَزِيرَةِ قَالَ: مَا الْتَمَسْنَا عِلْمَ شَيْءٍ إِلَّا وَجَدْنَا عُمَرَ بْنَ
عَبْدِ الْعَزِيزِ أَعْلَمَ النَّاسِ بِأَصْلِهِ وَفَرْعِهِ، وَمَا كَانَ
الْعُلَمَاءُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَّا تَلَامِذَةً.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ: رَأَيْتُ أَبِي تَوَاقَفَ هُوَ وَعُمَرُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ
بَعْدَ
صَلَاةِ الْعِشَاءِ حَتَّى أَصْبَحْنَا، فَلَمَّا افْتَرَقَا قُلْتُ: يَا أَبَهْ،
مَنْ هَذَا الرَّجُلُ ؟ قَالَ: هَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ مِنْ
صَالِحِي هَذَا الْبَيْتِ، يَعْنِي بَنِي أُمَيَّةَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
كَثِيرٍ قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا كَانَ بَدْءُ إِنَابَتِكَ؟
قَالَ: أَرَدْتُ ضَرْبَ غُلَامٍ لِي فَقَالَ لِي: اذْكُرْ لَيْلَةً صَبِيحَتُهَا
يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: لَمَّا عُزِلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ
الْمَدِينَةِ يَعْنِي فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَخَرَجَ مِنْهَا الْتَفَتَ
إِلَيْهَا وَبَكَى، وَقَالَ لِمَوْلَاهُ: يَا مُزَاحِمُ، نَخْشَى أَنْ نَكُونَ
مِمَّنْ نَفَتِ الْمَدِينَةُ. يَعْنِي أَنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا
يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ، وَتَنْصَعُ طِيبَهَا.
قُلْتُ: خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ فَنَزَلَ بِمَكَانٍ قَرِيبٍ مِنْهَا يُقَالُ
لَهُ: السُّوَيْدَاءُ حِينًا، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ عَلَى بَنِي عَمِّهِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ قَالَ:
سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: خَرَجْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ
وَمَا مِنْ رَجُلٍ أَعْلَمَ مِنِّي، فَلَمَّا قَدِمْتُ الشَّامَ نَسِيتُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: سَهِرْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ: كُلُّ مَا
حَدَّثْتَ
فَقَدْ سَمِعْتُهُ، وَلَكِنْ حَفِظْتَ وَنَسِيتُ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ عَنْ عَقِيلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ:
قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعَثَ إِلَيَّ الْوَلِيدُ ذَاتَ سَاعَةٍ
مِنَ الظَّهِيرَةِ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ عَابِسٌ، فَأَشَارَ إِلَيَّ
أَنِ اجْلِسْ فَجَلَسَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِيمَنْ يَسُبُّ
الْخُلَفَاءَ أَيُقْتَلُ ؟ فَسَكَتُّ ثُمَّ عَادَ فَسَكَتُّ ثُمَّ عَادَ،
فَقُلْتُ: أَقَتَلَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ سَبَّ.
فَقُلْتُ: يُنَكَّلُ بِهِ. فَغَضِبَ وَانْصَرَفَ إِلَى أَهْلِهِ، وَقَالَ لِي
ابْنُ الرَّيَّانِ السَّيَّافُ: اذْهَبْ. قَالَ: فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ وَمَا
تَهُبُّ رِيحٌ إِلَّا وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ رَسُولٌ يَرُدُّنِي إِلَيْهِ.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ زُفَرَ: أَقْبَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَمَعَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى
مُعَسْكَرِ سُلَيْمَانَ وَفِيهِ تِلْكَ الْخُيُولُ وَالْجِمَالُ وَالْبِغَالُ
وَالْأَثْقَالُ وَالرِّجَالُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: مَا تَقُولُ يَا عُمَرُ فِي
هَذَا؟ فَقَالَ: أَرَى دُنْيَا يَأْكُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَأَنْتَ الْمَسْئُولُ
عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنَ الْمُعَسْكَرِ إِذَا غُرَابٌ قَدْ
أَخَذَ لُقْمَةً فِي فِيهِ مِنْ فُسْطَاطِ سُلَيْمَانَ وَهُوَ طَائِرٌ بِهَا
وَنَعَبَ نَعْبَةً، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا يَا عُمَرُ؟
فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ: مَا ظَنُّكَ أَنَّهُ يَقُولُ؟ قَالَ: كَأَنَّهُ
يَقُولُ: مَنْ أَيْنَ جَاءَتْ؟ وَأَيْنَ يُذْهَبُ بِهَا؟ فَقَالَ لَهُ
سُلَيْمَانُ:
مَا أَعْجَبَكَ!! فَقَالَ عُمَرُ: أَعْجَبُ مِنِّي مَنْ عَرَفَ اللَّهَ فَعَصَاهُ،
وَمَنْ عَرَفَ الشَّيْطَانَ فَأَطَاعَهُ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمَّا وَقَفَ سُلَيْمَانُ وَعُمَرُ بِعَرَفَةَ وَجَعَلَ
سُلَيْمَانُ يَعْجَبُ مِنْ كَثْرَةِ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هَؤُلَاءِ
رَعِيَّتُكَ الْيَوْمَ وَأَنْتَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ غَدًا. وَفِي رِوَايَةٍ:
وَهُمْ خُصَمَاؤُكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَبَكَى سُلَيْمَانُ وَقَالَ: بِاللَّهِ
أَسْتَعِينُ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَصَابَهُمْ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ
رَعْدٌ شَدِيدٌ وَبَرْقٌ وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ فَجَعَلَ عُمَرُ يَضْحَكُ مِنْ
ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: أَتَضْحَكُ وَنَحْنُ فِيمَا تَرَى؟ فَقَالَ:
نَعَمْ، هَذِهِ آثَارُ رَحْمَتِهِ وَنَحْنُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَكَيْفَ
بِآثَارِ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ؟
وَذَكَرَ الْإِمَامُ مَالِكٌ أَنَّ سُلَيْمَانَ وَعُمَرَ تَقَاوَلَا مَرَّةً،
فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ فِي جُمْلَةِ الْكَلَامِ: كَذَبْتَ. فَقَالَ: تَقُولُ
لِي: كَذَبْتَ ؟ وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ مُنْذُ عَرَفْتُ أَنَّ الْكَذِبَ يَضُرُّ
أَهْلَهُ. ثُمَّ هَجَرَهُ عُمَرُ وَعَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ إِلَى مِصْرَ، فَلَمْ
يُمَكِّنْهُ سُلَيْمَانُ ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ فَصَالَحَهُ، وَقَالَ لَهُ: مَا
عَرَضَ لِي أَمْرٌ يَهُمُّنِي إِلَّا خَطَرْتَ عَلَى بَالِي.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ
الْوَفَاةُ، أَوْصَى بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، فَانْتَظَمَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
فَصْلٌ
( مَنَاقِبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ )
قَالَ: أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ،
قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَا عَجَبًا ! يَزْعُمُ النَّاسُ أَنَّ الدُّنْيَا لَا
تَنْقَضِي حَتَّى يَلِيَ رَجُلٌ مِنْ آلِ عُمَرَ يَعْمَلُ بِمِثْلِ عَمَلِ عُمَرَ.
قَالَ: فَكَانُوا يَرَوْنَهُ بِلَالَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:
وَكَانَ بِوَجْهِهِ أَثَرٌ، فَلَمْ يَكُنْ هُوَ، وَإِذَا هُوَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَأُمُّهُ ابْنَةُ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَ الْحَاكِمُ، أَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ
عَلِيٍّ الْمَقْرِيُّ، ثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ
الْحَمِيدِ بْنِ لَاحِقٍ، عَنْ جُوَيْرِيَّةَ بْنِ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ،
قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: إِنَّ مِنْ وَلَدِي
رَجُلًا بِوَجْهِهِ شَيْنٌ يَلِي، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا.
قَالَ نَافِعٌ مِنْ قَبْلِهِ: وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ.
وَرَوَاهُ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ:
كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَيْتَ شِعْرِي، مَنْ هَذَا الَّذِي مِنْ وَلَدِ
عُمَرَ فِي وَجْهِهِ عَلَامَةٌ يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا ؟ وَقَالَ: وُهَيْبُ
بْنُ الْوَرْدِ: بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ كَأَنَّ رَجُلًا دَخَلَ مِنْ
بَابِ بَنِي
شَيْبَةَ،
وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وُلِّيَ عَلَيْكُمْ كِتَابُ اللَّهِ.
فَقُلْتُ: مَنْ ؟ فَأَشَارَ إِلَى ظَهْرِهِ، فَإِذَا مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: عُ مَ
رُ. قَالَ: فَجَاءَتْ بَيْعَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَالَ بَقِيَّةُ،
عَنْ عِيسَى بْنِ أَبِي رَزِينٍ، حَدَّثَنِي الْخُزَاعِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فَقَالَ لَهُ: " إِنَّكَ سَتَلِي أَمْرَ
أُمَّتِي فَزَعْ عَنِ الدَّمِ، فَإِنَّ اسْمَكَ فِي النَّاسِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَاسْمُكَ عِنْدَ اللَّهِ جَابِرٌ ".
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُقْرِيِّ: ثَنَا أَبُو عَرُوبَةَ الْحُسَيْنُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ مَوْدُودٍ الْحَرَّانِيُّ، ثَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْوَزَّانُ، ثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، ثَنَا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ
رَبَاحِ بْنِ عُبَيْدَةَ، قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى
الصَّلَاةِ، وَشَيْخٌ مُتَوَكِّئٌ عَلَى يَدِهِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنَّ
هَذَا الشَّيْخَ جَافٌّ، فَلَمَّا صَلَّى وَدَخَلَ لَحِقْتُهُ، فَقُلْتُ: أَصْلَحَ
اللَّهُ الْأَمِيرَ، مَنِ الشَّيْخُ الَّذِي كَانَ مُتَّكِئًا عَلَى يَدِكَ ؟
فَقَالَ: يَا رَبَاحُ رَأَيْتَهُ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: مَا أَحْسَبُكَ يَا
رَبَاحُ إِلَّا رَجُلًا صَالِحًا، ذَاكَ أَخِي الْخَضِرُ، أَتَانِي فَأَعْلَمَنِي
أَنِّي سَأَلِي أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنِّي سَأَعْدِلُ فِيهَا.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُمَيْرٍ، ثَنَا ضَمْرَةُ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْلَةَ، عَنْ أَبِي الْأَعْيَسِ، قَالَ: كُنْتُ
جَالِسًا مَعَ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ،
فَجَاءَ
شَابٌّ عَلَيْهِ مُقَطَّعَاتٌ، فَأَخَذَ بِيَدِ خَالِدٍ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْنَا
مِنْ عَيْنٍ ؟ فَقَالَ أَبُو الْأَعْيَسِ: فَقُلْتُ: عَلَيْكُمَا مِنَ اللَّهِ
عَيْنٌ بَصِيرَةٌ وَأُذُنٌ سَمِيعَةٌ، قَالَ: فَتَرَقْرَقَتْ عَيْنَا الْفَتَى.
فَأَرْسَلَ يَدَهُ مِنْ يَدِ خَالِدٍ وَوَلَّى، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ:
هَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنُ أَخِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ،
وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّهُ إِمَامَ هُدًى. قُلْتُ: قَدْ كَانَ
عِنْدَ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ شَيْءٌ جَيِّدٌ مِنْ أَخْبَارِ
الْأَوَائِلِ وَأَقْوَالِهِمْ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ
لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ عَزَمَ أَنْ يَكْتُبَ الْعَهْدَ بِاسْمِ أَحَدِ
أَوْلَادِهِ، فَمَا زَالَ بِهِ وَزِيرُهُ الصَّادِقُ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ حَتَّى
صَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ
لِأَصْلَحِ النَّاسِ لَهُمْ، فَأَلْهَمَ اللَّهُ الْخَلِيفَةَ رُشْدَهُ، فَعَيَّنَ
لَهَا ابْنَ عَمِّهِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَجَوَّدَ رَأْيَهُ رَجَاءُ
بْنُ حَيْوَةَ وَصَوَّبَهُ، فَكَتَبَ سُلَيْمَانُ الْعَهْدَ فِي صَحِيفَةٍ،
وَخَتَمَهَا، وَلَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ عُمَرُ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي مَرْوَانَ
سِوَى سُلَيْمَانَ وَرَجَاءٍ، ثُمَّ أَمَرَ صَاحِبَ الشُّرَطَةِ بِإِحْضَارِ
الْأُمَرَاءِ، وَرُءُوسِ النَّاسِ مِنْ بَنِي مَرْوَانَ وَغَيْرِهِمْ، فَبَايَعُوا
سُلَيْمَانَ عَلَى مَا فِي الصَّحِيفَةِ الْمَخْتُومَةِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، ثُمَّ
لَمَّا مَاتَ الْخَلِيفَةُ اسْتَدْعَاهُمْ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ فَبَايَعُوا
ثَانِيَةً، قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا مَوْتَ الْخَلِيفَةِ، ثُمَّ فَتَحَهَا
فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ، فَإِذَا فِيهَا الْبَيْعَةُ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، فَأَخَذُوهُ فَأَجْلَسُوهُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَبَايَعُوهُ،
فَانْعَقَدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مِثْلِ هَذَا الصَّنِيعِ فِي الرَّجُلِ يُوصِي
الْوَصِيَّةَ فِي كِتَابٍ وَيُشْهِدُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْرَأَ
عَلَى الشُّهُودِ، ثُمَّ يَشْهَدُونَ عَلَى مَا فِيهِ فَيَنْفُذُ،
فَسَوَّغَ
ذَلِكَ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ; قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ
الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجُرَيْرِيُّ: أَجَازَ ذَلِكَ وَأَمْضَاهُ
وَأَنْفَذَ الْحُكْمَ بِهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْحِجَازِ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ،
وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْمَخْزُومِيِّ، وَمَكْحُولٍ، وَنُمَيْرِ بْنِ
أَوْسٍ، وَزُرْعَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّامِ.
وَحَكَى نَحْوَ ذَلِكَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ
وَقُضَاةِ جُنْدِهِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فِي مَنْ وَافَقَهُ مِنْ
فُقَهَاءِ أَهْلِ مِصْرَ وَالْمَغْرِبِ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ أَهْلِ
الْبَصْرَةِ وَقُضَاتِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَعَنْ سَوَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَمُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيِّ فِي مَنْ سَلَكَ
سَبِيلَهُمْ. وَأَخَذَ بِهَذَا عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ،
مِنْهُمْ: أَبُو عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.
قُلْتُ: وَقَدِ اعْتَنَى بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ".
قَالَ الْمُعَافَى: وَأَبَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ،
مِنْهُمْ: إِبْرَاهِيمُ، وَحَمَّادٌ، وَالْحَسَنُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ،
وَأَبِي ثَوْرٍ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ شَيْخِنَا أَبِي جَعْفَرٍ، وَكَانَ بَعْضُ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِالْعِرَاقِ يَذْهَبُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. قَالَ
الْجَرِيرِيُّ: وَإِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ نَذْهَبُ.
وَتَقَدَّمَ
أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا رَجَعَ مِنْ جِنَازَةِ سُلَيْمَانَ
أُتِيَ بِمَرَاكِبِ الْخِلَافَةِ لِيَرْكَبَهَا، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ،
وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
فَلَوْلَا التُّقَى ثُمَّ النُّهَى خَشْيَةَ الرَّدَى لَعَاصَيْتُ فِي حُبِّ
الصِّبَا كُلَّ زَاجِرِ قَضَى مَا قَضَى فِيمَا مَضَى ثُمَّ لَا تَرَى
لَهُ صَبْوَةً أُخْرَى اللَّيَالِي الْغَوَابِرِ
ثُمَّ قَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، قَدِّمُوا إِلَيَّ
بَغْلَتِي. ثُمَّ أَمَرَ بِبَيْعِ تِلْكَ الْمَرَاكِبِ الْخَلِيفِيَّةِ فِي مَنْ
يُرِيدُ، وَكَانَتْ مِنَ الْخُيُولِ الْجِيَادِ الْمُثَمَّنَةِ، فَبَاعَهَا
وَجَعَلَ أَثْمَانَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ.
قَالُوا: فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الْجِنَازَةِ، وَقَدْ بَايَعَهُ النَّاسُ،
وَاسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ بِاسْمِهِ، انْقَلَبَ وَهُوَ مُغْتَمٌّ مَهْمُومٌ،
فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: مَا لَكَ هَكَذَا مُغْتَمًّا مَهْمُومًا، وَلَيْسَ هَذَا
بِوَقْتِ هَذَا ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ ! وَمَا لِي لَا أَغْتَمُّ، وَلَيْسَ أَحَدٌ
مِنْ أَهْلِ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا وَهُوَ
يُطَالِبُنِي بِحَقِّهِ ; أَنْ أُؤَدِّيَهُ إِلَيْهِ، كَتَبَ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ
أَوْ لَمْ يَكْتُبْ، طَلَبَهُ مِنِّي أَوْ لَمْ يَطْلُبْ. قَالُوا: ثُمَّ إِنَّهُ
خَيَّرَ امْرَأَتَهُ فَاطِمَةَ بَيْنَ أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا
فَرَاغَ لَهُ إِلَيْهَا، وَبَيْنَ أَنْ تَلْحَقَ بِأَهْلِهَا، فَبَكَتْ وَبَكَى
جَوَارِيهَا لِبُكَائِهَا، فَسُمِعَتْ ضَجَّةٌ فِي دَارِهِ، ثُمَّ اخْتَارَتْ
مُقَامَهَا مَعَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، رَحِمَهَا اللَّهُ. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ:
تَفَرَّغْ لَنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَنْشَأَ يَقُولُ
قَدْ جَاءَ شُغْلٌ شَاغِلٌ وَعَدَلْتُ عَنْ طُرُقِ السَّلَامَهْ
ذَهَبَ الْفَرَاغُ فَلَا فَرَا غَ لَنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَهْ
وَقَالَ
الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، عَنْ سَلَّامِ
بْنِ سُلَيْمٍ، قَالَ: لَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ صَعِدَ
الْمِنْبَرَ، وَكَانَ أَوَّلَ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا حَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى
عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ صَحِبَنَا فَلْيَصْحَبْنَا
بِخَمْسٍ، وَإِلَّا فَلْيُفَارِقْنَا ; يَرْفَعُ إِلَيْنَا حَاجَةَ مَنْ لَا
يَسْتَطِيعُ رَفْعَهَا، وَيُعِينُنَا عَلَى الْخَيْرِ بِجُهْدِهِ، وَيَدُلُّنَا
مِنَ الْخَيْرِ عَلَى مَا لَا نَهْتَدِي إِلَيْهِ، وَلَا يَغْتَابَنَّ عِنْدَنَا
الرَّعِيَّةَ، وَلَا يَعْرِضَنَّ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ. فَانْقَشَعَ عَنْهُ
الشُّعَرَاءُ وَالْخُطَبَاءُ، وَثَبَتَ مَعَهُ الْفُقَهَاءُ وَالزُّهَّادُ،
وَقَالُوا: مَا يَسَعُنَا أَنْ نُفَارِقَ هَذَا الرَّجُلَ حَتَّى يُخَالِفَ
فِعْلُهُ قَوْلَهُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
بَعَثَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَرَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ وَسَالِمِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ تَرَوْنَ مَا ابْتُلِيتُ بِهِ وَمَا قَدْ
نَزَلَ بِي، فَمَا عِنْدَكُمْ ؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: اجْعَلِ الشَّيْخَ
أَبًا، وَالشَّابَّ أَخًا، وَالصَّغِيرَ وَلَدًا، فَبِرَّ أَبَاكَ، وَصِلْ
أَخَاكَ، وَتَعَطَّفْ عَلَى وَلَدِكَ. وَقَالَ رَجَاءٌ: ارْضَ لِلنَّاسِ مَا
تَرْضَى لِنَفْسِكَ، وَمَا كَرِهْتَ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكَ فَلَا تَأْتِهِ
إِلَيْهِمْ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ أَوَّلُ خَلِيفَةٍ تَمُوتُ. وَقَالَ سَالِمٌ
اجْعَلِ الْأَمْرَ يَوْمًا وَاحِدًا صُمْ فِيهِ عَنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا،
وَاجْعَلْ آخِرَ فِطْرِكَ فِيهِ الْمَوْتَ، فَكَأَنْ قَدْ. فَقَالَ عُمَرُ: لَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَقَالَ
غَيْرُهُ: خَطَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَوْمًا النَّاسَ فَقَالَ، وَقَدْ
خَنَقَتْهُ الْعَبْرَةُ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَصْلِحُوا آخِرَتَكُمْ تَصْلُحْ
لَكُمْ دُنْيَاكُمْ، وَأَصْلِحُوا سَرَائِرَكُمْ تَصْلُحْ لَكُمْ عَلَانِيَتُكُمْ،
وَاللَّهِ إِنَّ عَبْدًا لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ أَبٌ إِلَّا قَدْ مَاتَ،
إِنَّهُ لَمُعْرَقٌ لَهُ فِي الْمَوْتِ. وَقَالَ فِي بَعْضِ خُطَبِهِ: كَمْ مِنْ
عَامِرٍ مُؤَنَّقٍ عَمَّا قَلِيلٍ يَخْرُبُ، وَكَمْ مِنْ مُقِيمٍ مُغْتَبِطٍ
عَمَّا قَلِيلٍ يَظْعَنُ، فَأَحْسِنُوا - رَحِمَكُمُ اللَّهُ - مِنَ الدُّنْيَا
الرِّحْلَةَ بِأَحْسَنِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ النَّقْلَةِ، بَيْنَمَا ابْنُ
آدَمَ فِي الدُّنْيَا يُنَافِسُ فِيهَا قَرِيرَ الْعَيْنِ قَانِعًا، إِذْ دَعَاهُ
اللَّهُ بِقَدَرِهِ وَرَمَاهُ بِيَوْمِ حَتْفِهِ، فَسَلَبَهُ آثَارَهُ
وَدُنْيَاهُ، وَصَيَّرَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ مَصَانِعَهُ وَمَغْنَاهُ، إِنَّ
الدُّنْيَا لَا تَسُرُّ بِقَدْرِ مَا تَضُرُّ، تَسُرُّ قَلِيلًا، وَتُحْزِنُ طَوِيلًا.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُهَاجِرٍ، قَالَ: لَمَّا
اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَامَ فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَا كِتَابَ بَعْدَ
الْقُرْآنِ، وَلَا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنِّي
لَسْتُ بِقَاضٍ وَلَكِنِّي مُنْفِذٌ، وَإِنِّي لَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ وَلَكِنِّي
مُتَّبِعٌ، إِنَّ الرَّجُلَ الْهَارِبَ مِنَ الْإِمَامِ الظَّالِمِ لَيْسَ
بِظَالِمٍ، أَلَا إِنَّ الْإِمَامَ الظَّالِمَ هُوَ الْعَاصِي، أَلَا لَا طَاعَةَ
لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ
عَزَّ
وَجَلَّ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: وَإِنِّي لَسْتُ بِخَيْرٍ مِنْ
أَحَدٍ مِنْكُمْ وَلَكِنِّي أَثْقَلُكُمْ حِمْلًا، أَلَا لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ
فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، أَلَا هَلْ أَسْمَعْتُ ؟
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الْحَلْوَانِيُّ،
ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعَيْبِ
بْنِ صَفْوَانَ، حَدَّثَنِي ابْنٌ لِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: كَانَ آخِرُ
خُطْبَةً خَطَبَهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى،
عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكُمْ لَمْ تُخْلَقُوا عَبَثًا، وَلَنْ
تُتْرَكُوا سُدًى، وَإِنَّ لَكُمْ مَعَادًا يَنْزِلُ اللَّهُ فِيهِ لِلْحُكْمِ
فِيكُمْ وَالْفَصْلِ بَيْنَكُمْ، فَخَابَ وَخَسِرَ مَنْ خَرَجَ مِنْ رَحْمَةِ
اللَّهِ، وَحُرِمَ جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، أَلَمْ
تَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ غَدًا إِلَّا مَنْ حَذِرَ الْيَوْمَ الْآخِرَ
وَخَافَهُ، وَبَاعَ نَافِدًا بِبَاقٍ، وَقَلِيلًا بِكَثِيرٍ، وَخَوْفًا بِأَمَانٍ
؟ أَلَا تَرَوْنَ أَنَّكُمْ فِي أَسْلَابِ الْهَالِكِينَ، وَسَيَكُونُ مِنْ
بَعْدِكُمْ لِلْبَاقِينَ، كَذَلِكَ حَتَّى نُرَدَّ إِلَى خَيْرِ الْوَارِثِينَ ؟
ثُمَّ إِنَّكُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ تُشَيِّعُونَ غَادِيًا وَرَائِحًا إِلَى اللَّهِ،
قَدْ قَضَى نَحْبَهُ حَتَّى تُغَيِّبُوهُ فِي صَدْعٍ مِنَ الْأَرْضِ، فِي بَطْنِ
صَدْعٍ غَيْرِ مُوَسَّدٍ وَلَا مُمَهَّدٍ، قَدْ فَارَقَ الْأَحْبَابَ، وَبَاشَرَ
التُّرَابَ، وَوَاجَهَ الْحِسَابَ، فَهُوَ مُرْتَهَنٌ بِعَمَلِهِ، غَنِيٌّ عَمَّا
تَرَكَ، فَقِيرٌ إِلَى مَا قَدَّمَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ قَبْلَ انْقِضَاءِ
مُرَاقَبَتِهِ وَنُزُولِ الْمَوْتِ بِكُمْ، أَمَا إِنِّي أَقُولُ هَذَا. ثُمَّ
وَضَعَ طَرْفَ رِدَائِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ. وَفِي
رِوَايَةٍ: وَايْمِ اللَّهِ، إِنِّي لَأَقُولَ قَوْلِي هَذَا، وَمَا أَعْلَمُ
عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنَ الذُّنُوبِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ نَفْسِي،
وَلَكِنَّهَا سُنَنٌ مِنَ اللَّهِ عَادِلَةٌ ; أَمَرَ
فِيهَا
بِطَاعَتِهِ، وَنَهَى فِيهَا عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ، وَوَضَعَ
كُمَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فَبَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، فَمَا عَادَ
لِمَجْلِسِهِ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ،
وَهُوَ يَقُولُ: " ادْنُ يَا عُمَرُ ". قَالَ: فَدَنَوْتُ حَتَّى
خَشِيتُ أَنْ أُصِيبَهُ، فَقَالَ: " إِذَا وُلِّيتَ فَاعْمَلْ نَحْوًا مِنْ
عَمَلِ هَذَيْنِ ". وَإِذَا كَهْلَانِ قَدِ اكْتَنَفَاهُ، فَقُلْتُ: وَمَنْ
هَذَانِ ؟ قَالَ: " هَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَهَذَا عُمَرُ ". وَرُوِّينَا
أَنَّهُ قَالَ لِسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ اكْتُبْ لِي سِيرَةَ
عُمَرَ حَتَّى أَعْمَلَ بِهَا، فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ: إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ
ذَلِكَ. قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالَ: إِنَّكَ إِنْ عَمِلْتَ بِهَا كُنْتَ أَفْضَلَ مِنْ
عُمَرَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَجِدُ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا، وَأَنْتَ لَا تَجِدُ
مَنْ يُعِينُكَ عَلَى الْخَيْرِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: آمَنْتُ بِاللَّهِ. وَفِي رِوَايَةٍ:
الْوَفَاءُ عَزِيزٌ. وَقَدْ جَمَعَ يَوْمًا رُءُوسَ النَّاسِ فَخَطَبَهُمْ،
فَقَالَ: إِنَّ فَدَكَ كَانَتْ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَضَعُهَا حَيْثُ أَرَاهُ اللَّهُ، ثُمَّ وَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ،
وَعُمَرُ كَذَلِكَ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَمَا أَدْرِي مَا قَالَ فِي عُثْمَانَ.
قَالَ: ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ أَقْطَعَهَا فَحَصَلَ لِي مِنْهَا نَصِيبٌ،
وَوَهَبَنِي الْوَلِيدُ وَسُلَيْمَانُ نَصِيبَهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ مَالِي
شَيْءٌ أَرَدَّ عَلَيَّ مِنْهَا، وَقَدْ رَدَدْتُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ عَلَى
مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. قَالَ: فَيَئِسَ النَّاسُ عِنْدَ
ذَلِكَ
مِنَ الْمَظَالِمِ، ثُمَّ أَخَذَ أَمْوَالَ جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ
فَرَدَّهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَسَمَّاهَا أَمْوَالُ الْمَظَالِمِ،
فَاسْتَشْفَعُوا إِلَيْهِ بِالنَّاسِ، وَتَوَسَّلُوا إِلَيْهِ بِعَمَّتِهِ
فَاطِمَةَ بِنْتِ مَرْوَانَ فَلَمْ يَنْجَعْ فِيهِ وَلَمْ يَرُدُّهُ عَنِ الْحَقِّ
شَيْءٌ، وَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَتَدَعُنِّي، وَإِلَّا ذَهَبْتُ إِلَى مَكَّةَ
فَنَزَلْتُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ لِأَحَقِّ النَّاسِ بِهِ. وَقَالَ: وَاللَّهِ
لَوْ أَقَمْتُ فِيكُمْ خَمْسِينَ عَامًا مَا أَقَمْتُ فِيكُمْ مَا أُرِيدُ مِنَ
الْعَدْلِ، وَإِنِّي لَأُرِيدُ الْأَمْرَ فَمَا أُنْفِذُهُ إِلَّا مَعَ طَمَعٍ
مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تَسْكُنَ قُلُوبُهُمْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبِ
بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَهْدِيٌّ فَهُوَ
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ طَاوُسٌ: هُوَ مَهْدِيٌّ وَلَيْسَ بِهِ،
إِنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْعَدْلَ كُلَّهُ، إِذَا كَانَ الْمَهْدِيُّ تِيبَ
عَلَى الْمُسِيءِ مِنْ إِسَاءَتِهِ، وَزِيدَ الْمُحْسِنُ فِي إِحْسَانِهِ، سَمْحٌ
بِالْمَالِ، شَدِيدٌ عَلَى الْعُمَّالِ، رَحِيمٌ بِالْمَسَاكِينِ، وَقَالَ
مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: الْخُلَفَاءُ أَبُو بَكْرٍ وَالْعُمَرَانِ. فَقِيلَ
لَهُ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ قَدْ عَرَفْنَاهُمَا، فَمَنْ عُمَرُ الْآخَرُ ؟
قَالَ: يُوشِكُ إِنْ عِشْتَ أَنْ تَعْرِفَهُ. يُرِيدُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ أَشَجُّ بَنِي
مَرْوَانَ. وَقَالَ عَبَّادٌ السَّمَّاكُ وَكَانَ يُجَالِسُ
سُفْيَانَ
الثَّوْرِيَّ: سَمِعْتُ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: الْخُلَفَاءُ خَمْسَةٌ ; أَبُو
بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِ
وَاحِدٍ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ
الْعَدْلِ، وَأَحَدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ.
وَذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ فِي الْأَئِمَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِينَ جَاءَ
فِيهِمُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: لَا يَزَالُ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا
حَتَّى يَكُونَ فِيهِمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ ".
وَقَدِ اجْتَهَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُدَّةِ وِلَايَتِهِ مَعَ قِصَرِهَا حَتَّى
رَدَّ الْمَظَالِمَ، وَصَرَفَ إِلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَكَانَ مُنَادِيهِ
فِي كُلِّ يَوْمٍ يُنَادِي: أَيْنَ الْغَارِمُونَ ؟ أَيْنَ النَّاكِحُونَ ؟ أَيْنَ
الْمَسَاكِينُ ؟ أَيْنَ الْيَتَامَى ؟ حَتَّى أَغْنَى كُلًّا مِنْ هَؤُلَاءِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ هُوَ أَوْ مُعَاوِيَةُ بْنُ
أَبِي سُفْيَانَ ؟ فَفَضَّلَ بَعْضُهُمْ عُمَرَ لِسِيرَتِهِ وَمَعْدَلَتِهِ
وَزُهْدِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَفَضَّلَ آخَرُونَ مُعَاوِيَةَ لِسَابِقَتِهِ
وَصُحْبَتِهِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيَوْمٌ شَهِدَهُ مُعَاوِيَةُ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَأَيَّامِهِ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " أَنَّ عُمَرَ
بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ يُعْجِبُهُ جَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِي زَوْجَتِهِ
فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَكَانَ يَسْأَلُهَا إِيَّاهَا ; إِمَّا
بَيْعًا أَوْ هِبَةً، فَكَانَتْ تَأْبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَلَمَّا وَلِيَ
الْخِلَافَةَ أَلْبَسَتْهَا وَطَيَّبَتْهَا وَأَهْدَتْهَا إِلَيْهِ
وَوَهَبَتْهَا
لَهُ، فَلَمَّا أَخْلَتْهَا بِهِ أَعْرَضَ عَنْهَا، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَصَدَفَ
عَنْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: يَا سَيِّدِي، فَأَيْنَ مَا كَانَ يَظْهَرُ لِي مِنْ
مَحَبَّتِكَ إِيَّايَ ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ مَحَبَّتَكِ لَبَاقِيَةٌ كَمَا
هِيَ، وَلَكِنْ لَا حَاجَةَ لِي فِي النِّسَاءِ، فَقَدْ جَاءَنِي أَمْرٌ شَغَلَنِي
عَنْكِ، وَعَنْ غَيْرِكِ. ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ أَصْلِهَا، وَمِنْ أَيْنَ
جَلَبُوهَا، فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ أَبِي أَصَابَ جِنَايَةً
بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَصَادَرَهُ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ فَأُخِذْتُ فِي
الْجِنَايَةِ، وَبَعَثَ بِي إِلَى الْوَلِيدِ فَوَهَبَنِي الْوَلِيدُ لِأُخْتِهِ
فَاطِمَةَ زَوْجَتِكَ، فَأَهْدَتْنِي إِلَيْكَ. فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، كِدْنَا وَاللَّهِ نَفْتَضِحُ وَنَهْلَكُ، ثُمَّ
أَمَرَ بِرَدِّهَا مُكَرَّمَةً إِلَى بِلَادِهَا وَأَهْلِهَا.
وَقَالَتْ زَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي
مُصَلَّاهُ وَاضِعًا خَدَّهُ عَلَى يَدِهِ، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى خَدَّيْهِ،
فَقُلْتُ: مَا لَكَ ؟ فَقَالَ: وَيْحَكِ يَا فَاطِمَةُ، إِنِّي قَدْ وُلِّيتُ مِنْ
أَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا وُلِّيتُ، فَتَفَكَّرْتُ فِي الْفَقِيرِ الْجَائِعِ،
وَالْمَرِيضِ الضَّائِعِ، وَالْعَارِي الْمَجْهُودِ، وَالْيَتِيمِ الْمَكْسُورِ،
وَالْأَرْمَلَةِ الْوَحِيدَةِ، وَالْمَظْلُومِ الْمَقْهُورِ، وَالْغَرِيبِ،
وَالْأَسِيرِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَذِي الْعِيَالِ الْكَثِيرِ وَالْمَالِ
الْقَلِيلِ، وَأَشْبَاهِهِمْ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَأَطْرَافِ الْبِلَادِ،
فَعَلِمْتُ أَنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ سَيَسْأَلُنِي عَنْهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ خَصْمِي دُونَهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَخَشِيتُ أَنْ لَا يَثْبُتَ لِي حُجَّةٌ عِنْدَ خُصُومَتِهِ،
فَرَحِمْتُ نَفْسِي فَبَكَيْتُ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَلَّانِي
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عِمَالَةً، ثُمَّ قَالَ لِي: إِذَا جَاءَكَ كِتَابٌ
مِنِّي
عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ فَاضْرِبْ بِهِ الْأَرْضَ. وَكَتَبَ إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: إِذَا دَعَتْكَ قُدْرَتُكَ عَلَى النَّاسِ إِلَى ظُلْمِهِمْ، فَاذْكُرْ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْكَ، وَنَفَادَ مَا تَأْتِي إِلَيْهِمْ، وَبَقَاءَ مَا يَأْتُونَ إِلَيْكَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ عَاصِمٍ، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ: إِنَّ لِلْإِسْلَامِ سُنَنًا وَشَرَائِعَ وَفَرَائِضَ،