الأحد، 1 أغسطس 2021

3/17 البداية والنهاية تأليف: عماد الدين أبي الفدا...

 

مِنْهُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: فَنَظَرْتُ إِلَى الْمَلِكِ جُرْجِيرَ مِنْ وَرَاءِ الصُّفُوفِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى بِرْذَوْنٍ وَجَارِيَتَانِ تُظِلَّانِهِ بِرِيشِ الطَّوَاوِيسِ، فَذَهَبْتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَبْعَثَ مَعِيَ مَنْ يَحْمِي ظَهْرِي وَأَقْصِدُ الْمَلِكَ، فَجَهَّزَ مَعِي جَمَاعَةً مِنَ الشُّجْعَانِ. قَالَ: فَأَمَرَ بِهِمْ فَحَمَوْا ظَهْرِي، وَذَهَبْتُ حَتَّى اخْتَرَقْتُ الصُّفُوفَ إِلَيْهِ - وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنِّي فِي رِسَالَةٍ إِلَى الْمَلِكِ - فَلَمَّا اقْتَرَبْتُ مِنْهُ أَحَسَّ مِنِّي الشَّرَّ فَفَرَّ عَلَى بِرْذَوْنِهِ، فَلَحِقْتُهُ فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي، وَذَفَفْتُ عَلَيْهِ بِسَيْفِي، وَأَخَذْتُ رَأْسَهُ فَنَصَبْتُهُ عَلَى رَأْسِ الرُّمْحِ، وَكَبَّرْتُ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْبَرْبَرُ فَرِقُوا وَفَرُّوا كَفِرَارِ الْقَطَا، وَأَتْبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، فَغَنِمُوا غَنَائِمَ جَمَّةً، وَأَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَسَبْيًا عَظِيمًا، وَذَلِكَ بِبَلَدٍ يُقَالُ لَهُ: سُبَيْطِلَةُ. عَلَى يَوْمَيْنِ مِنَ الْقَيْرَوَانِ. فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ مَوْقِفٍ اشْتَهَرَ فِيهِ أَمْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ وَأَصْحَابِهِمَا أَجْمَعِينَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ افْتُتِحَتْ إِصْطَخْرُ ثَانِيَةً عَلَى يَدَيْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ قِنَّسْرِينَ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مُعَاوِيَةُ قُبْرُسَ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ. وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: غَزَاهَا مُعَاوِيَةُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ فَتْحُ قُبْرُسَ
فَفِيهَا ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فَتْحَ قُبْرُسَ تَبَعًا لِلْوَاقِدِيِّ وَهِيَ جَزِيرَةٌ غَرْبِيُّ بِلَادِ الشَّامِ فِي الْبَحْرِ مُخْلَصَةٌ وَحْدَهَا، وَلَهَا ذَنَبٌ مُسْتَطِيلٌ إِلَى نَحْوِ السَّاحِلِ مِمَّا يَلِي دِمَشْقَ، وَغَرْبِيُّهَا أَعْرَضُهَا، وَفِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمَعَادِنُ، وَهِيَ بَلَدٌ جَيِّدٌ، وَكَانَ فَتْحُهَا عَلَى يَدَيْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، رَكِبَ إِلَيْهَا فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَعَهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَزَوْجَتُهُ أُمُّ حَرَامٍ بِنْتُ مِلْحَانَ الَّتِي تَقَدَّمَ حَدِيثُهَا فِي ذَلِكَ حِينَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي بَيْتِهَا ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ فَقَالَتْ: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ: " أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ ". فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: " أَنْتِ مِنْهُمْ ". ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: " أَنْتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ ". فَكَانَتْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَمَاتَتْ بِهَا، وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ عِبَارَةً عَنْ غَزْوَةِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ بَعْدَ هَذَا، كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ رَكِبَ الْبَحْرَ فِي مَرَاكِبَ فَقَصَدَ الْجَزِيرَةَ الْمَعْرُوفَةَ بِقُبْرُسَ، وَمَعَهُ جَيْشٌ عَظِيمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ بِأَمْرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَهُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ سُؤَالِهِ إِيَّاهُ. وَقَدْ كَانَ سَأَلَ فِي ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَأَبَى أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ حَمْلِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذَا الْخَلْقِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَوِ اضْطَرَبَ

لَهَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ أَلَحَّ مُعَاوِيَةُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَأَذِنَ لَهُ، فَرَكِبَ فِي الْمَرَاكِبِ فَانْتَهَى إِلَيْهَا، وَوَافَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ إِلَيْهَا مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَالْتَقَيَا عَلَى أَهْلِهَا فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا، وَسَبَوْا سَبَايَا كَثِيرَةً، وَغَنِمُوا مَالًا جَزِيلًا جَيِّدًا. وَلَمَّا جِيءَ بِالْأُسَارَى جَعَلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ: أَتَبْكِي وَهَذَا يَوْمٌ أَعَزَّ اللَّهُ فِيهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنَّ هَذِهِ كَانَتْ أُمَّةً قَاهِرَةً لَهُمْ مُلْكٌ فَلَمَّا ضَيَّعُوا أَمْرَ اللَّهِ صَيَّرَهُمْ إِلَى مَا تَرَى سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السِّبَاءَ، وَإِذَا سُلِّطَ عَلَى قَوْمٍ السِّبَاءُ فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ. وَقَالَ: مَا أَهْوَنَ الْعِبَادَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذَا تَرَكُوا أَمْرَهُ ! ثُمَّ صَالَحَهُمْ مُعَاوِيَةُ عَلَى سَبْعَةِ آلَافِ دِينَارٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَهَادَنَهُمْ.
فَلَمَّا أَرَادُوا الْخُرُوجَ مِنْهَا قُدِّمَتْ لِأُمِّ حَرَامٍ بَغْلَةٌ لِتَرْكَبَهَا، فَسَقَطَتْ عَنْهَا فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا فَمَاتَتْ هُنَاكَ. فَقَبْرُهَا هُنَالِكَ يُعَظِّمُونَهُ وَيَسْتَسْقُونَ بِهِ، وَيَقُولُونَ: قَبْرُ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ سُورِيَةَ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ. وَتَزَوَّجَ عُثْمَانُ نَائِلَةَ بِنْتَ الْفَرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةَ، وَكَانَتْ نَصْرَانِيَّةً فَأَسْلَمَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، وَفِيهَا بَنَى عُثْمَانُ دَارَهُ - بِالْمَدِينَةِ الزَّوْرَاءَ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ
فِيهَا عَزَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ عَنِ الْبَصْرَةِ، بَعْدَ عِمَالَةِ سِتِّ سِنِينَ. وَقِيلَ: ثَلَاثٍ. وَأَمَّرَ عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَهُوَ ابْنُ خَالِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ جُنْدِ أَبِي مُوسَى وَجُنْدِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَأَقَامَ بِهَا سِتَّ سِنِينَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ افْتَتَحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ فَارِسَ، فِي قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ وَأَبِي مَعْشَرٍ. زَعَمَ سَيْفٌ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا وَسَّعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَنَاهُ بِالْقَصَّةِ - وَهِيَ الْكِلْسُ، كَانَ يُؤْتَى بِهِ مِنْ بَطْنِ نَخْلٍ - وَالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ حِجَارَةً مُرَصَّصَةً، وَسُقُفَهُ بِالسَّاجِ، وَجَعَلَ طُولَهُ سِتِّينَ وَمِائَةَ ذِرَاعٍ، وَعَرْضَهُ خَمْسِينَ وَمِائَةَ ذِرَاعٍ، وَجَعَلَ أَبْوَابَهُ سِتَّةً؛ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. ابْتَدَأَ بِنَاءَهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا. وَفِيهِ حَجَّ بِالنَّاسِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَضُرِبَ لَهُ بِمِنًى فُسْطَاطًا، فَكَانَ أَوَّلَ فُسْطَاطٍ ضَرَبَهُ عُثْمَانُ بِمِنًى، وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ عَامَهُ هَذَا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ كَعَلِيٍّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، حَتَّى قَالَ ابْنُ

مَسْعُودٍ: لَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ. وَقَدْ نَاظَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِيمَا فَعَلَهُ، فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ. فَقَالَ لَهُ: وَلَكَ أَهْلٌ بِالْمَدِينَةِ، وَإِنَّكَ تَقُومُ حَيْثُ أَهْلُكَ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: وَإِنَّ لِي مَالًا بِالطَّائِفِ أُرِيدُ أَنْ أَطَّلِعَهُ بَعْدَ الصَّدَرِ. قَالَ: إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الطَّائِفِ مَسِيرَةَ ثَلَاثٍ. فَقَالَ: وَإِنَّ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ قَالُوا: إِنَّ الصَّلَاةَ بِالْحَضَرِ رَكْعَتَانِ. فَرُبَّمَا رَأَوْنِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَيَحْتَجُّونَ بِي. فَقَالَ لَهُ: قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَالنَّاسُ يَوْمَئِذٍ الْإِسْلَامُ فِيهِمْ قَلِيلٌ، وَكَانَ يُصَلِّي هَاهُنَا رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي هَاهُنَا رَكْعَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَصَلَّيْتَ أَنْتَ رَكْعَتَيْنِ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِكَ: قَالَ: فَسَكَتَ عُثْمَانُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ رَأَيْتُهُ.

سَنَةُ ثَلَاثِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا افْتَتَحَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ طَبَرِسْتَانَ فِي قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ وَأَبِي مَعْشَرٍ وَالْمَدَائِنِيِّ، وَقَالَ: هُوَ أَوَّلُ مَنْ غَزَاهَا. وَزَعَمَ سَيْفٌ أَنَّهُمْ كَانُوا صَالَحُوا سُوَيْدَ بْنَ مُقَرِّنٍ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى أَنْ لَا يَغْزُوَهَا عَلَى مَالٍ بَذَلَهُ لَهُ إِصْبَهْبَذُهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَذَكَرَ الْمَدَائِنِيُّ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ رَكِبَ فِي جَيْشٍ فِيهِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَالْعَبَادِلَةُ الْأَرْبَعَةُ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، فِي خَلْقٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَسَارَ بِهِمْ فَمَرَّ عَلَى بُلْدَانٍ شَتَّى، فَصَالَحُوهُ عَلَى أَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَلَدٍ بِمُعَامَلَةِ جُرْجَانَ تُسَمَّى طَمِيسَةَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَقَاتَلُوهُ حَتَّى احْتَاجُوا إِلَى صَلَاةِ الْخَوْفِ، فَسَأَلَ حُذَيْفَةَ: كَيْفَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَأَخْبَرَهُ، فَصَلَّى كَمَا أَخْبَرَهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَهْلُ ذَلِكَ الْحِصْنِ الْأَمَانَ، فَأَعْطَاهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَقْتُلَ مِنْهُمْ رَجُلًا وَاحِدًا، فَفَتَحُوا الْحِصْنَ فَقَتَلَهُمْ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا، وَاحْتَوَى عَلَى مَا كَانَ فِي الْحِصْنِ، فَأَصَابَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي نَهْدٍ سَفَطًا مَقْفُولًا فَاسْتَدْعَى بِهِ سَعِيدٌ، فَفَتَحُوهُ فَإِذَا فِيهِ خِرْقَةٌ سَوْدَاءُ مُدْرَجَةٌ، فَنَشَرُوهَا فَإِذَا فِيهَا خِرْقَةٌ حَمْرَاءُ، فَنَشَرُوهَا، وَإِذَا دَاخَلَهَا خِرْقَةٌ صَفْرَاءُ، وَفِيهَا أَيْرَانِ كُمَيْتٍ وَوَرْدٌ. فَقَالَ شَاعِرٌ يَهْجُو بِهِمَا بَنِي نَهْدٍ:

آبَ الْكِرَامُ بِالسَّبَايَا غَنِيمَةً وَفَازَ بَنُو نَهْدٍ بِأَيْرَيْنِ فِي سَفَطْ كُمَيْتٍ وَوَرْدٍ وَافِرَيْنِ كِلَاهُمَا
فَظَنُّوهُمَا غُنْمًا فَنَاهِيكَ مِنْ غَلَطْ
قَالُوا: ثُمَّ نَقَضَ أَهْلُ جُرْجَانَ مَا كَانَ صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَامْتَنَعُوا عَنْ أَدَاءِ الْمَالِ الَّذِي ضَرَبَهُ عَلَيْهِمْ - وَكَانَ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ. وَقِيلَ: مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ - ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ عَنِ الْكُوفَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَكَانَ سَبَبُ عَزْلِهِ أَنَّهُ صَلَّى بِأَهْلِ الْكُوفَةِ الصُّبْحَ أَرْبَعًا، ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ: أَزِيدُكُمْ ؟ فَقَالَ قَائِلٌ: مَا زِلْنَا مِنْكَ مُنْذُ الْيَوْمِ فِي زِيَادَةٍ. ثُمَّ إِنَّهُ تَصَدَّى لَهُ جَمَاعَةٌ يُقَالُ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ شَنَآنٌ، فَشَكَوْهُ إِلَى عُثْمَانَ، وَشَهِدَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّؤُهَا، فَأَمَرَ عُثْمَانُ بِإِحْضَارِهِ وَأَمَرَ بِجَلْدِهِ - فَيُقَالُ: إِنَّ عَلِيًّا نَزَعَ عَنْهُ حُلَّتَهُ، وَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصَ جَلَدَهُ بَيْنَ يَدَيْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - وَعَزَلَهُ وَأَمَّرَ مَكَانَهُ عَلَى الْكُوفَةِ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَقَطَ خَاتَمُ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ يَدِ عُثْمَانَ فِي بِئْرِ أَرِيسٍ، وَهِيَ عَلَى مِيلَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَهِيَ مِنْ أَقَلِّ الْآبَارِ مَاءً، فَلَمْ يُدْرَكْ خَبَرُهُ بَعْدَ بَذْلِ مَالٍ جَزِيلٍ، وَالِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِهِ، حَتَّى السَّاعَةَ، فَاسْتَخْلَفَ عُثْمَانُ بَعْدَهُ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، وَنَقَشَ عَلَيْهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ ذَهَبَ الْخَاتَمُ فَلَا يُدْرَى مَنْ أَخَذَهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا حَدِيثًا طَوِيلًا فِي اتِّخَاذِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَاتَمًا مَنْ

ذَهَبٍ، ثُمَّ مِنْ فِضَّةٍ، وَبَعَثِهِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ إِلَى كِسْرَى، ثُمَّ دِحْيَةَ إِلَى قَيْصَرَ، وَأَنَّ الْخَاتَمَ كَانَ فِي يَدِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ فِي يَدِ عُمَرَ، ثُمَّ فِي يَدِ عُثْمَانَ سِتَّ سِنِينَ، ثُمَّ إِنَّهُ وَقَعَ فِي بِئْرِ أَرِيسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا فِي " الصَّحِيحِ ".
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَأَبِي ذَرٍّ بِالشَّامِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ أَنْكَرَ عَلَى مُعَاوِيَةَ بَعْضَ الْأُمُورِ، وَكَانَ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَقْتَنِي مَالًا مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، وَيَمْنَعُ أَنْ يَدَّخِرَ فَوْقَ الْقُوتِ، وَيُوجِبُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ، وَيَتَأَوَّلُ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [ التَّوْبَةِ: 34 ]. فَيَنْهَاهُ مُعَاوِيَةُ عَنْ إِشَاعَةِ ذَلِكَ فَلَا يَمْتَنِعُ، فَبَعَثَ يَشْكُوهُ إِلَى عُثْمَانَ، فَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى أَبِي ذَرٍّ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ، فَقَدِمَهَا، فَلَامَهُ عُثْمَانُ عَلَى بَعْضِ مَا صَدَرَ مِنْهُ، وَاسْتَرْجَعَهُ فَلَمْ يَرْجِعْ، فَأَمَرَهُ بِالْمَقَامِ بِالرَّبَذَةِ - وَهِيَ شَرْقِيُّ الْمَدِينَةِ - وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا، وَقَالَ:إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِي: إِذَا بَلَغَ الْبِنَاءُ سَلْعًا فَاخْرُجْ مِنْهَا. وَقَدْ بَلَغَ الْبِنَاءُ سَلْعًا، فَأَذِنَ لَهُ عُثْمَانُ بِالْمَقَامِ بِالرَّبَذَةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَاهَدَ الْمَدِينَةَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ حَتَّى لَا يَرْتَدَّ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ هِجْرَتِهِ، فَفَعَلَ فَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا بِهَا حَتَّى مَاتَ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ زَادَ عُثْمَانُ النِّدَاءَ الثَّالِثَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الزَّوْرَاءِ.

فَصْلٌ ( فِيمَنْ تُوَفِّي فِي هَذِهِ السَّنَةِ )
وَمِمَّنْ ذَكَرَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ -

أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثِينَ - أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فِيمَا صَحَّحَهُ الْوَاقِدِيُّ.
جَبَّارُ بْنُ صَخْرِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَنْسَاءَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، عَقَبِيٌّ بَدْرِيٌّ، وَقَدْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى خَيْبَرَ خَارِصًا، وَقَدْ تُوُفِّيَ عَنْ سِتِّينَ سَنَةً.
حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ اللَّخْمِيُّ، حَلِيفُ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَهُوَ الَّذِي كَانَ كَتَبَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ يُعْلِمُهُمْ بِعَزْمِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ، فَعَذَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ، ثُمَّ بَعَثَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِرِسَالَةٍ إِلَى الْمُقَوْقِسِ مَلِكِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ.
الطُّفَيْلُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطِّلِبِ، أَخُو عُبَيْدَةَ وَحُصَيْنٍ، شَهِدَ بَدْرًا. قَالَ: سَعِيدُ بْنُ عُمَيْرٍ: تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ عُمَرَ الْمَازِنِيُّ، أَبُو الْحَارِثِ - وَقِيلَ: أَبُو يَحْيَى - الْأَنْصَارِيُّ. شَهِدَ بَدْرًا وَكَانَ عَلَى الْخُمُسِ يَوْمَئِذٍ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَظْعُونٍ، أَخُو عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَشَهِدَ بَدْرًا.

عِيَاضُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي شَدَّادِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالٍ، أَبُو سَعْدٍ الْقُرَشِيُّ الْفِهْرِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا.
مَسْعُودُ بْنُ رَبِيعَةَ وَقِيلَ: ابْنُ الرَّبِيعِ. أَبُو عَمْرٍو الْقَارِي، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، تُوُفِّيَ عَنْ نَيِّفٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
مَعْمَرُ بْنُ أَبِي سَرْحِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالٍ الْقُرَشِيُّ، أَبُو سَعْدٍ الْفِهْرِيُّ. وَقِيلَ: اسْمُهُ عَمْرٌو. بَدْرِيٌّ قَدِيمُ الصُّحْبَةِ.
أَبُو أُسَيْدٍ مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ، قَالَ الْفَلَّاسُ: مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتِّينَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ
فَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ الصَّوَارِي، وَغَزْوَةُ الْأَسَاوِدَةِ فِي الْبَحْرِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ. وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: كَانَتْ غَزْوَةُ الصَّوَارِي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ. وَمُلَخَّصُ ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ وَسَيْفٌ وَغَيْرُهُمَا، أَنَّ الشَّامَ كَانَ قَدْ جُمِعَ نِيَابَتُهُ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ لِسَنَتَيْنِ مَضَتَا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ أَحْرَزَهُ غَايَةَ الْحِفْظِ وَحَمَى حَوْزَتَهُ، وَمَعَ هَذَا لَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ غَزْوَةٌ فِي بِلَادِ الرُّومِ فِي زَمَنِ الصَّيْفِ - وَلِهَذَا يُسَمُّونَ هَذِهِ الْغَزْوَةَ الصَّائِفَةَ - فَيَقْتُلُونَ خَلْقًا وَيَأْسِرُونَ آخَرِينَ، وَيَفْتَحُونَ حُصُونًا، وَيَغْنَمُونَ أَمْوَالًا، وَيُرْعِبُونَ الْأَعْدَاءَ، فَلَمَّا أَصَابَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ مَنْ أَصَابَ مِنَ الْفِرِنْجِ وَالْبَرْبَرِ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ وَالْأَنْدَلُسِ، حَمِيَتِ الرُّومُ وَاجْتَمَعَتْ عَلَى قُسْطَنْطِينَ بْنِ هِرَقْلَ، وَسَارُوا إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي جَمْعٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ مُنْذُ كَانَ الْإِسْلَامُ خَرَجُوا فِي خَمْسِمِائَةِ مَرْكَبٍ، وَقَصَدُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ فِي أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ. فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ بَاتَ الرُّومُ يُقَسْقِسُونَ وَيُصَلِّبُونَ، وَبَاتَ الْمُسْلِمُونَ يَقْرَءُونَ وَيُصَلُّونَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا صَفَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ أَصْحَابَهُ صُفُوفًا فِي الْمَرَاكِبِ، وَأَمَرَهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ. قَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ ذَلِكَ: فَأَقْبَلُوا إِلَيْنَا فِي أَمْرٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَرَاكِبِ، وَتَعْدَادِ صَوَارِيهَا، وَكَانَتِ الرِّيحُ لَهُمْ وَعَلَيْنَا فَأَرْسَيْنَا ثُمَّ سَكَنَتِ الرِّيحُ عَنَّا، فَقُلْنَا لَهُمْ:

إِنْ شِئْتُمْ خَرَجْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمَاتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا وَمِنْكُمْ. قَالَ: فَنَخِرُوا نَخِرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَقَالُوا: الْمَاءَ الْمَاءَ. قَالَ: فَدَنَوْنَا مِنْهُمْ وَرَبَطْنَا سُفُنَنَا بِسُفُنِهِمْ. ثُمَّ اجْتَلَدْنَا وَإِيَّاهُمْ بِالسُّيُوفِ يَثِبُ الرِّجَالُ عَلَى الرِّجَالِ بِالسُّيُوفِ وَالْخَنَاجِرِ، وَضَرَبَتِ الْأَمْوَاجُ فِي عُيُونِ تِلْكَ السُّفُنِ حَتَّى أَلْجَأَتْهَا إِلَى السَّاحِلِ، وَأَلْقَتِ الْأَمْوَاجُ جُثَثَ الرِّجَالِ إِلَى السَّاحِلِ حَتَّى صَارَتْ مِثْلَ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ، وَغَلَبَ الدَّمُ عَلَى لَوْنِ الْمَاءِ، وَصَبَرَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ صَبْرًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ قَطُّ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ وَمِنَ الرُّومِ أَضْعَافُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهَرَبَ قُسْطَنْطِينُ وَجَيْشُهُ - وَقَدْ قَلُّوا جِدًّا - وَبِهِ جِرَاحَاتٌ شَدِيدَةٌ كَثِيرَةٌ مَكَثَ حِينًا يُدَاوَى مِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ بِذَاتِ الصَّوَارِي أَيَّامًا، ثُمَّ رَجَعَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مُظَفَّرًا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَحَدَّثَنِي مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَأَظْهَرَا عَيْبَ عُثْمَانَ، وَمَا غَيَّرَ وَمَا خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَيَقُولَانِ: دَمُهُ حَلَالٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ سَعْدٍ - وَكَانَ قَدِ ارْتَدَّ وَكَفَرَ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَأَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَمَهُ - وَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَقْوَامًا وَاسْتَعْمَلَهُمْ عُثْمَانُ وَنَزَعَ الصَّحَابَةَ وَاسْتَعْمَلَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ. فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ فَقَالَ: لَا تَرْكَبَا مَعَنَا. فَرَكِبَا فِي مَرْكَبٍ مَا فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَقُوُا الْعَدُوَّ فَكَانَا أَنْكَلَ الْمُسْلِمِينَ قِتَالًا، فَقِيلَ

لَهُمَا فِي ذَلِكَ فَقَالَا: كَيْفَ نُقَاتِلُ مَعَ رَجُلٍ لَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُحَكِّمَهُ ؟ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ فَنَهَاهُمَا أَشَدَّ النَّهْيِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْلَا أَنِّي لَا أَدْرِي مَا يُوَافِقُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِعَاقَبْتُكُمَا وَحَبَسْتُكُمَا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَتْ أَرْمِينِيَةُ عَلَى يَدَيْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ كِسْرَى مَلِكُ الْفُرْسِ.

كَيْفِيَّةُ قَتْلِ كِسْرَى مِلِكِ الْفُرْسِ وَهُوَ يَزْدَجِرْدُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هَرَبَ يَزْدَجِرْدُ مِنْ كِرْمَانَ فِي جَمَاعَةٍ يَسِيرَةٍ إِلَى مَرْوَ، فَسَأَلَ مِنْ بَعْضِ أَهْلِهَا مَالًا فَمَنَعُوهُ وَخَافُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَبَعَثُوا إِلَى التُّرْكِ يَسْتَنْصِرُونَهُمْ عَلَيْهِ، فَأَتَوْهُ فَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ وَهَرَبَ هُوَ حَتَّى أَتَى مَنْزِلَ رَجُلٍ يَنْقُرُ الْأَرْحِيَةَ عَلَى شَطٍّ، فَأَوَى إِلَيْهِ لَيْلًا فَلَمَّا نَامَ قَتَلَهُ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: لَمَّا هَرَبَ بَعْدَ قَتْلِ أَصْحَابِهِ انْطَلَقَ مَاشِيًا وَعَلَيْهِ تَاجُهُ وَمِنْطَقَتُهُ وَسَيْفُهُ، فَانْتَهَى إِلَى مَنْزِلِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَنْقُرُ الْأَرْحِيَةَ فَجَلَسَ عِنْدَهُ، فَاسْتَغْفَلَهُ وَقَتَلَهُ وَأَخَذَ مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَجَاءَتِ التُّرْكُ فِي طَلَبِهِ فَوَجَدُوهُ قَدْ قَتَلَهُ وَأَخَذَ حَاصِلَهُ، فَقَتَلُوا ذَلِكَ الرَّجُلَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَ كِسْرَى، وَوَضَعُوا

كِسْرَى فِي تَابُوتٍ وَحَمَلُوهُ إِلَى إِصْطَخْرَ، وَقَدْ كَانَ يَزْدَجِرْدُ وَطِئَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ مَرْوَ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ، فَحَمَلَتْ مِنْهُ، وَوَضَعَتْ بَعْدَ قَتْلِهِ غُلَامًا ذَاهِبَ الشِّقِّ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْغُلَامُ الْمُخَدَّجُ، وَكَانَ لَهُ نَسْلٌ وَعَقِبٌ فِي خُرَاسَانَ، وَقَدْ سَبَى قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ جَارِيَتَيْنِ مَنْ نَسْلِهِ، فَبَعَثَ بِإِحْدَاهُمَا إِلَى الْحَجَّاجِ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنَهُ يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، الْمُلَقَّبَ بِالنَّاقِصِ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ: إِنَّ يَزْدَجِرْدَ لَمَّا انْهَزَمَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ عَقَرَ جَوَادَهُ، وَذَهَبَ مَاشِيًا حَتَّى دَخَلَ رَحًى عَلَى شَطِّ نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ: الْمَرْغَابُ، فَمَكَثَ فِيهِ لَيْلَتَيْنِ وَالْعَدُوُّ فِي طَلَبِهِ فَلَمْ يُدْرَ أَيْنَ هُوَ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُ الرَّحَى فَرَأَى كِسْرَى وَعَلَيْهِ أُبَّهَتُهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَنْتَ ؟ إِنْسِيٌّ أَمْ جِنِّيٌّ ؟ قَالَ: إِنْسِيٌّ، فَهَلْ عِنْدَكَ طَعَامٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَتَاهُ بِطَعَامٍ فَقَالَ: إِنِّي مُزَمْزِمٌ فَأْتِنِي بِمَا أُزَمْزِمُ بِهِ. قَالَ: فَذَهَبَ الطَّحَّانُ إِلَى أُسْوَارٍ مِنَ الْأَسَاوِرَةِ فَطَلَبَ مِنْهُ مَا يُزَمْزِمُ بِهِ. قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ ؟ قَالَ: عِنْدِي رَجُلٌ لَمْ أَرَ مَثَلَهُ قَطُّ وَقَدْ طَلَبَ مِنِّي هَذَا. فَذَهَبَ بِهِ الْأُسْوَارُ إِلَى مَلِكِ الْبَلَدِ - مَرْوَ - وَاسْمُهُ مَاهَوَيْهِ بْنُ بَابَاهُ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ، فَقَالَ: هُوَ يَزْدَجِرْدُ، اذْهَبُوا فَجِيئُونِي بِرَأْسِهِ. فَذَهَبُوا مَعَ الطَّحَّانِ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْ دَارِ الرَّحَى هَابُوا أَنْ يَقْتُلُوهُ وَتَدَافَعُوا، وَقَالُوا لِلطَّحَّانِ: ادْخُلْ أَنْتَ فَاقْتُلْهُ، فَدَخَلَ فَوَجَدَهُ نَائِمًا، فَأَخَذَ حَجَرًا فَشَدَخَ بِهِ رَأْسَهُ، ثُمَّ احْتَزَّهُ، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِمْ، وَأَلْقَى جَسَدَهُ فِي النَّهْرِ،

فَخَرَجَتِ الْعَامَّةُ إِلَى الطَّحَّانِ فَقَتَلُوهُ، وَخَرَجَ أُسْقُفٌ فَأَخَذَ جَسَدَهُ مِنَ النَّهْرِ وَجَعَلَهُ فِي تَابُوتٍ وَحَمَلَهُ إِلَى إِصْطَخْرَ فَوَضَعَهُ فِي نَاوُوسٍ.
وَيُرْوَى أَنَّهُ مَكَثَ فِي مَنْزِلِ ذَلِكَ الطَّحَّانِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَأْكُلُ حَتَّى رَقَّ لَهُ وَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ يَا مِسْكِينُ أَلَا تَأْكُلُ ؟ وَأَتَاهُ بِطَعَامٍ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آكُلَ إِلَّا بِزَمْزَمَةٍ. فَقَالَ لَهُ: كُلْ وَأَنَا أُزَمْزِمُ لَكَ. فَسَأَلَ أَنْ يَأْتِيَهُ بِمُزَمْزِمٍ، فَلَمَّا ذَهَبَ يَطْلُبُ لَهُ مِنْ بَعْضِ الْأَسَاوِرَةِ شَمُّوا رَائِحَةَ الْمِسْكِ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَأَنْكَرُوا رَائِحَةَ الْمِسْكِ مِنْهُ، فَسَأَلُوهُ، فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي رَجُلًا مِنْ صِفَتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ. فَعَرَفُوهُ وَقَصَدُوهُ مَعَ الطَّحَّانِ، وَتَقَدَّمَ الطَّحَّانُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، وَهَمَّ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَعَرَفَ يَزْدَجِرْدُ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ خُذْ خَاتَمِي وَسِوَارِي وَمِنْطَقَتِي وَدَعْنِي أَذْهَبُ مِنْ هَاهُنَا. فَقَالَ: لَا، أَعْطِنِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَأَنَا أُطْلِقُكَ. فَزَادَهُ إِحْدَى قُرْطَيْهِ مِنْ أُذُنَيْهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ حَتَّى يُعْطِيَهُ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ إِذْ دَهَمَهُمُ الْجُنْدُ، فَلَمَّا أَحَاطُوا بِهِ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ قَالَ: وَيْحَكُمْ لَا تَقْتُلُونِي فَإِنَّا نَجِدُ فِي كُتُبِنَا أَنَّ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى قَتْلِ الْمُلُوكِ عَاقَبَهُ اللَّهُ بِالْحَرِيقِ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا هُوَ قَادِمٌ عَلَيْهِ، فَلَا تَقْتُلُونِي وَاذْهَبُوا بِي إِلَى الْمَلِكِ أَوْ إِلَى الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَحْيُونَ مِنْ قَتْلِ الْمُلُوكِ. فَأَبَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ فَسَلَبُوهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُلِيِّ، فَجَعَلُوهُ فِي جِرَابٍ وَخَنَقُوهُ بِوَتَرٍ وَأَلْقَوْهُ فِي النَّهْرِ، فَتَعَلَّقَ بِعُودٍ فَأَخَذَهُ أُسْقُفٌ - وَاسْمُهُ إِيلِيَا - فَحَنَّ عَلَيْهِ؛ لِمَا كَانَ مِنْ أَسْلَافِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَى النَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا بِبِلَادِهِمْ، فَوَضَعَهُ فِي تَابُوتٍ وَدَفَنَهُ

فِي نَاوُوسٍ. ثُمَّ حَمَلَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُلِيِّ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَفُقِدَ قُرْطٌ مِنْ حُلِيِّهِ، فَبَعَثَ إِلَى دِهْقَانِ تِلْكَ الْبِلَادِ فَأَغْرَمَهُ ذَلِكَ.
وَكَانَ مُلْكُ يَزْدَجِرْدَ عِشْرِينَ سَنَةً؛ مِنْهَا أَرْبَعُ سِنِينَ فِي دَعَةٍ وَبَاقِي ذَلِكَ هَارِبًا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ خَوْفًا مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. وَهُوَ آخِرُ مُلُوكِ الْفُرْسِ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ كِتَابُ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَزَّقَهُ فَدَعَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يُمَزَّقَ كُلَّ مُمَزَّقٍ فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَحَ ابْنُ عَامِرٍ فُتُوحَاتٍ كَثِيرَةً كَانَ قَدْ نَقَضَ أَهْلُهَا مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الصُّلْحِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا فَتَحَ عَنْوَةً، وَمِنْ ذَلِكَ مَا فَتَحَ صُلْحًا، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمَدَائِنِ - وَهِيَ مَرْوُ - عَلَى أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ، وَقِيلَ: عَلَى سِتَّةِ آلَافِ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ
وَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بِلَادَ الرُّومِ حَتَّى بَلَغَ الْمَضِيقَ مَضِيقَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ عَاتِكَةُ - وَيُقَالُ: فَاطِمَةُ - بِنْتُ قَرَظَةَ بْنِ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ.
وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ عَلَى جَيْشٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَغْزُوَ الْبَابَ، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَبِيعَةَ نَائِبِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ بِمُسَاعَدَتِهِ، فَسَارَ حَتَّى بَلَغَ بَلَنْجَرَ، فَحَصَرُوهَا وَنُصِبَتْ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقُ وَالْعَرَّادَاتُ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ بَلَنْجَرَ خَرَجُوا إِلَيْهِمْ وَعَاوَنَهُمُ التُّرْكُ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا - وَكَانَتِ التُّرْكُ تَهَابُ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ حَتَّى اجْتَرَءُوا عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ - فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ الْتَقَوْا مَعَهُمْ، فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَبِيعَةَ - وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: ذُو النُّورِ - وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ فَافْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ؛ فَفِرْقَةٌ ذَهَبَتْ عَلَى بِلَادِ الْخَزَرِ، وَفِرْقَةٌ سَلَكُوا نَاحِيَةَ جِيلَانَ وَجُرْجَانَ، وَفِي هَؤُلَاءِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ. وَأَخَذَتِ التُّرْكُ جَسَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَبِيعَةَ - وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَشُجْعَانِهِمْ - فَدَفَنُوهُ فِي بِلَادِهِمْ فَهُمْ يَسْتَسْقُونَ عِنْدَهُ إِلَى الْيَوْمِ، وَلَمَّا

قُتِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَبِيعَةَ، اسْتَعْمَلَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ عَلَى ذَلِكَ الْجَيْشِ سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأَمَدَّهُمْ عُثْمَانُ بِأَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَتَنَازَعَ حَبِيبُ وَسَلْمَانُ فِي الْإِمْرَةِ حَتَّى اخْتَلَفَا، فَكَانَ أَوَّلَ اخْتِلَافٍ وَقَعَ بَيْنَ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ، حَتَّى قَالَ فِي ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَهُوَ أَوْسٌ:
فَإِنْ تَضْرِبُوا سَلْمَانَ نَضْرِبْ حَبِيبَكُمْ وَإِنْ تَرْحَلُوا نَحْوَ ابْنِ عَفَّانَ نَرْحَلِ وَإِنْ تُقْسِطُوا فَالثَّغْرُ ثَغْرُ أَمِيرِنَا
وَهَذَا أَمِيرٌ فِي الْكَتَائِبِ مُقْبِلُ وَنَحْنُ وُلَاةُ الثَّغْرِ كُنَّا حُمَاتَهُ
لَيَالِيَ نَرْمِي كُلَّ ثَغْرِ وَنُنْكِلِ
وَفِيهَا فَتَحَ ابْنُ عَامِرٍ مَرْوَ الرُّوذِ وَالطَّالِقَانَ وَالْفَارِيَابَ وَالْجُوزَجَانَ وَطَخَارِسْتَانَ. فَأَمَّا مَرْوُ الرُّوذِ فَبَعَثَ إِلَيْهَا ابْنُ عَامِرٍ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ فَحَصَرَهَا، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى كَسَرَهُمْ فَاضْطَرَّهُمْ إِلَى حِصْنِهِمْ، ثُمَّ صَالَحُوهُ عَلَى مَالٍ جَزِيلٍ، وَعَلَى أَنْ يَضْرِبَ عَلَى أَرَاضِي الرَّعِيَّةِ الْخَرَاجَ، وَيَدَعَ الْأَرْضَ الَّتِي كَانَ أَقْطَعُهَا كِسْرَى لِوَالِدِ الْمَرْزُبَانِ، صَاحِبِ مَرْوَ، حِينَ قَتَلَ الْحَيَّةَ الَّتِي كَانَتْ تَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى النَّاسِ وَتَأْكُلُهُمْ، فَصَالَحَهُمُ الْأَحْنَفُ عَلَى

ذَلِكَ، وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابَ صُلْحٍ بِذَلِكَ، ثُمَّ بَعَثَ الْأَحْنَفُ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ إِلَى الْجُوزَجَانِ فَفَتَحَهَا بَعْدَ قِتَالٍ وَقَعَ بَيْنَهُمْ، قُتِلَ فِيهِ خَلْقٌ مِنْ شُجْعَانِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نُصِرُوا، فَقَالَ فِي ذَلِكَ كُثَيِّرٌ النَّهْشَلِيُّ قَصِيدَةً طَوِيلَةً فِيهَا:
سَقَى مُزْنَ السَّحَابِ إِذَا اسْتَهَلَّتْ مَصَارِعَ فِتْيَةٍ بِالْجُوزَجَانِ
إِلَى الْقَصْرَيْنِ مِنْ رُسْتَاقِ خُوطٍ أَبَادَهُمُ هُنَاكَ الْأَقْرَعَانِ
ثُمَّ سَارَ الْأَحْنَفُ مِنْ مَرْوِ الرُّوذِ إِلَى بَلْخَ فَحَاصَرَهُمْ حَتَّى صَالَحُوهُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ، وَاسْتَنَابَ ابْنَ عَمِّهِ أُسَيْدَ بْنَ الْمُتَشَمِّسِ عَلَى قَبْضِ الْمَالِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ يُرِيدُ الْجِهَادَ، وَدَهَمَهُ الشِّتَاءُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَشَاءُونَ ؟ فَقَالُوا: قَدْ قَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ:
إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ
فَأَمَرَ الْأَحْنَفُ بِالرَّحِيلِ إِلَى بَلْخَ، فَأَقَامَ بِهَا مُدَّةَ الشِّتَاءِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى ابْنِ

عَامِرٍ، فَقِيلَ لِابْنِ عَامِرٍ: مَا فُتِحَ عَلَى أَحَدٍ مَا فُتِحَ عَلَيْكَ؛ فَارِسُ وَكِرْمَانُ وَسِجِسْتَانُ وَعَامَّةُ خُرَاسَانَ. فَقَالَ: لَا جَرَمَ، لَأَجْعَلَنَّ شُكْرِي لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ أَنْ أُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ مِنْ مَوْقِفِي هَذَا مُشَمِّرًا. فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مِنْ نَيْسَابُورَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ لَامَهُ عَلَى إِحْرَامِهِ مِنْ خُرَاسَانَ.
وَفِيهَا أَقْبَلَ قَارِنُ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا فَالْتَقَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَجَعَلَ لَهُمْ مُقَدِّمَةً سِتَّمِائَةِ رَجُلٍ، وَأَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى رَأْسِ رُمْحِهِ نَارًا، وَأَقْبَلُوا إِلَيْهِمْ فِي وَسَطِ اللَّيْلِ فَبَيَّتُوهُمْ فَثَارُوا إِلَيْهِمْ فَنَاوَشَتْهُمُ الْمُقَدِّمَةُ فَاشْتَغَلُوا بِهِمْ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَاتَّقَعُوا هُمْ وَإِيَّاهُمْ، فَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ مُدْبِرِينَ، وَأَتْبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ مَنْ شَاءُوا كَيْفَ شَاءُوا، وَغَنِمُوا سَبْيًا كَثِيرًا، وَأَمْوَالًا جَزِيلَةً، ثُمَّ بَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ بِالْفَتْحِ إِلَى ابْنِ عَامِرٍ، فَرَضِيَ عَنْهُ وَأَقَرَّهُ عَلَى خُرَاسَانَ - وَكَانَ قَدْ عَزَلَهُ عَنْهَا - فَاسْتَمَرَّ بِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ إِلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ.

ذِكْرُ مِنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
ابْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ أَبُو الْفَضْلِ الْمَكِّيُّ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَالِدُ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِسَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَافْتَدَى نَفْسَهُ بِمَالٍ، وَافْتَدَى ابْنَيْ أَخَوَيْهِ؛ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا أُسِرَ وَشُدَّ فِي الْوَثَاقِ وَأَمْسَى النَّاسُ أُرِّقَ رَسُولُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالَكَ ؟ فَقَالَ:إِنِّي أَسْمَعُ أَنِينَ الْعَبَّاسِ فِي وَثَاقِهِ فَلَا أَنَامُ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَحَلَّ مِنْ وَثَاقِ الْعَبَّاسِ حَتَّى سَكَنَ أَنِينُهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ وَتَلَقَّى رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْجُحْفَةِ، فَرَجَعَ مَعَهُ، وَشَهِدَ الْفَتْحَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ بِإِذْنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَهُ فِي ذَلِكَ، كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُجِلُّهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيُنْزِلُهُ مَنْزِلَةَ الْوَالِدِ مِنَ الْوَلَدِ، وَيَقُولُ: هَذَا بَقِيَّةُ آبَائِي. وَكَانَ مِنْ أَوْصَلِ النَّاسِ لِقُرَيْشٍ وَأَشْفَقِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ ذَا

رَأْيٍ وَعَقْلٍ تَامٍّ وَافٍ، وَكَانَ طَوِيلًا جَمِيلًا أَبْيَضَ بَضًّا ذَا ضَفِيرَتَيْنِ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةُ ذُكُورٍ سِوَى الْإِنَاثِ، وَهُمْ تَمَّامٌ - وَكَانَ أَصْغَرَهُمْ - وَالْحَارِثُ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَعَوْنٌ، وَالْفَضْلُ، وَقُثَمُ، وَكَثِيرٌ، وَمَعْبَدٌ. وَأَعْتَقَ سَبْعِينَ مَمْلُوكًا مِنْ غِلْمَانِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ التَّمِيمِيُّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، حَدَّثَنِي أَبُو سُهَيْلٍ نَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِلْعَبَّاسِ: هَذَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَجْوَدُ قُرَيْشٍ كَفًّا وَأَوْصَلُهَا. تَفَرَّدَ بِهِ.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِعُمَرَ حِينَ بَعَثَهُ عَلَى الصَّدَقَةِ فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالْعَبَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنْ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا؛ وَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا. ثُمَّ قَالَ يَا عُمَرُ أَمَا شَعُرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ ؟

وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي وَخَرَجَ بِالْعَبَّاسِ مَعَهُ يَسْتَسْقِي بِهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا قَحَطْنَا تَوَسَّلْنَا إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا. قَالَ: فَيُسْقَوْنَ.
وَيُقَالُ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَا إِذَا مَرَّا بِالْعَبَّاسِ وَهُمَا رَاكِبَانِ تَرَجَّلَا إِكْرَامًا لَهُ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ الْعَبَّاسُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَجَبٍ - وَقِيلَ: مِنْ رَمَضَانَ - سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ عَنْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ. وَقِيلَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ. وَفَضَائِلُهُ وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
ابْنُ غَافِلِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ شَمْخِ بْنِ فَارِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ صَاهِلَةَ بْنِ كَاهِلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ

مُضَرَ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْهُذَلِيُّ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، أَسْلَمَ قَدِيمًا قَبْلَ عُمَرَ، وَكَانَ سَبَبُ إِسْلَامِهِ حِينَمَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ يَرْعَى غَنَمًا فَسَأَلَاهُ لَبَنًا، فَقَالَ: إِنِّي مُؤْتَمَنٌ. قَالَ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنَاقًا لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ فَاعْتَقَلَهَا ثُمَّ حَلَبَ وَشَرِبَ وَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ: " اقْلِصْ ". فَقَلَصَ، فَقُلْتُ: عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ. فَقَالَ: " إِنَّكَ غُلَيْمٌ مُعَلَّمٌ " الْحَدِيثَ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ أَوَّلَ مَنْ جَهَرَ بِالْقُرْآنِ بِمَكَّةَ بَعْدَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عِنْدَ الْبَيْتِ وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا؛ قَرَأَ سُورَةَ: الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [ الرَّحْمَنِ: 1، 2 ]. فَقَامُوا إِلَيْهِ فَضَرَبُوهُ.
وَلَزِمَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ أَسْلَمَ، وَكَانَ يَحْمِلُ نَعْلَيْهِ وَسِوَاكَهُ، وَقَالَ لَهُ: " إِذْنُكَ عَلَيَّ أَنْ تَسْمَعَ سِوَادِي ". وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ لَهُ: صَاحِبُ السِّوَاكِ وَالسِّوَادِ.
وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَشَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ

الَّذِي قَتَلَ أَبَا جَهْلٍ بَعْدَ مَا أَثْبَتَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ وَشَهِدَ بَقِيَّةَ الْمَشَاهِدِ.
وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمًا: " اقْرَأْ عَلَيَّ ". فَقُلْتُ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ ؟ فَقَالَ: " إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي ". فَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ إِلَى قَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [ النِّسَاءِ: 41 ]. فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: " حَسْبُكَ "
وَقَالَ أَبُو مُوسَى: قَدِمْتُ أَنَا وَأَخِي مِنَ الْيَمَنِ وَمَا كُنَّا نَظُنُّ إِلَّا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَأُمَّهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِكَثْرَةِ دُخُولِهِمْ بَيْتَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ حُذَيْفَةُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ بِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي هَدْيِهِ وَدَلِّهِ وَسَمْتِهِ مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَقَدْ عَلِمَ الْمَحْفُوظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ أَقْرَبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. وَفِي الْحَدِيثِ:وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ أُمِّ مُوسَى، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ صَعِدَ شَجَرَةً يَجْتَنِي الْكَبَاثَ، فَجَعَلَ

النَّاسُ يَعْجَبُونَ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ أُحُدٍ
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ نَظَرَ إِلَى قِصَرِهِ وَكَانَ يُوَازِي بِقَامَتِهِ الْجُلُوسَ - فَجَعَلَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ ثُمَّ قَالَ: هُوَ كُنَيْفٌ مُلِئَ عِلْمًا.
وَقَدْ شَهِدَ ابْنُ مَسْعُودٍ بَعْدَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَوَاقِفَ كَثِيرَةً؛ مِنْهَا الْيَرْمُوكُ وَغَيْرُهَا، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ مِنَ الْعِرَاقِ حَاجًّا فَمَرَّ بِالرَّبَذَةِ فَشَهِدَ وَفَاةَ أَبِي ذَرٍّ وَدَفَنَهُ، ثُمَّ قَدِمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَرِضَ بِهَا، فَجَاءَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَائِدًا، فَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ لَهُ: مَا تَشْتَكِي ؟ قَالَ: ذُنُوبِي. قَالَ: فَمَا تَشْتَهِي ؟ قَالَ: رَحْمَةَ رَبِّي. قَالَ: أَلَا آمُرُ لَكَ بِطَبِيبٍ ؟ فَقَالَ: الطَّبِيبُ أَمْرَضَنِي. قَالَ: أَلَا آمُرُ لَكَ بِعَطَائِكَ - وَكَانَ قَدْ تَرَكَهُ سَنَتَيْنِ ؟ فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. فَقَالَ: يَكُونُ لِبَنَاتِكَ مِنْ بَعْدِكَ. فَقَالَ: أَتَخْشَى عَلَى بَنَاتِي الْفَقْرَ ؟ إِنِّي أَمَرْتُ بَنَاتِي أَنْ يَقْرَأْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: مَنْ قَرَأَ الْوَاقِعَةَ كُلَّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَدًا.
وَأَوْصَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إِلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ لَيْلًا ثُمَّ عَاتَبَ عُثْمَانُ الزُّبَيْرَ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: بَلْ صَلَّى عَلَيْهِ عُثْمَانُ. وَقِيلَ: عَمَّارٌ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ عَنْ بِضْعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ
ابْنُ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ الزُّهْرِيُّ، أَسْلَمَ قَدِيمًا عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ، وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ وَإِلَى الْمَدِينَةِ، وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ بَعَثَهُ إِلَى بَنِي كَلْبٍ، وَأَرْخَى لَهُ عَذَبَةً بَيْنَ كَتِفَيْهِ؛ لِتَكُونَ أَمَارَةً عَلَيْهِ لِلْإِمَارَةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَحَدُ الثَّمَانِيَةِ السَّابِقَيْنَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَحَدُ السِّتَّةِ أَصْحَابِ الشُّورَى، ثُمَّ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ انْتَهَتْ إِلَيْهِمْ مِنْهُمْ، كَمَا ذَكَرْنَا. ثُمَّ كَانَ هُوَ الَّذِي اجْتَهَدَ فِي تَقْدِيمِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَاوَلَ هُوَ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ فَأَغْلَظَ لَهُ خَالِدٌ فِي الْمَقَالِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ. وَهُوَ فِي " الصَّحِيحِ ". وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: تَصَدَّقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِشَطْرِ مَالِهِ؛ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، ثُمَّ تَصَدَّقَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا، ثُمَّ تَصَدَّقَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى خَمْسِمِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ حَمَلَ

عَلَى خَمْسِمِائَةِ رَاحِلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ عَامَّةُ مَالِهِ مِنَ التِّجَارَةِ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي " مُسْنَدِهِ ": ثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، ثَنَا عُمَارَةُ بْنُ زَاذَانَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ لَمَّا هَاجَرَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لِي حَائِطَيْنِ فَاخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ. فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي حَائِطَيْكَ، مَا لِهَذَا أَسْلَمْتُ دَلَّنِي عَلَى السُّوقِ. قَالَ: فَدَلَّهُ، فَكَانَ يَشْتَرِي السُّمَيْنَةَ وَالْأُقَيْطَةَ وَالْإِهَابَ، فَجَمَعَ فَتَزَوَّجَ، فَأَتَى النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ. أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ. قَالَ فَكَثُرَ مَالُهُ حَتَّى قَدِمَتْ لَهُ سَبْعُمِائَةُ رَاحِلَةٍ تَحْمِلُ الْبُرَّ وَتَحْمِلُ الدَّقِيقَ وَالطَّعَامَ. قَالَ: فَلَمَّا دَخَلَتِ الْمَدِينَةَ سُمِعَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ رَجَّةٌ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَا هَذِهِ الرَّجَّةُ ؟ فَقِيلَ لَهَا: عِيرٌ قَدِمَتْ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ سَبْعُمِائَةٍ تَحْمِلُ الْبُرَّ وَالدَّقِيقَ وَالطَّعَامَ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: يَدْخُلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْجَنَّةَ حَبْوًا. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَالَ: أُشْهِدُكِ يَا أُمَّهْ أَنَّهَا بِأَحْمَالِهَا وَأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَسَّانَ، ثَنَا عُمَارَةُ - هُوَ ابْنُ زَاذَانَ - عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَيْنَمَا عَائِشَةُ فِي بَيْتِهَا إِذْ سَمِعَتْ صَوْتًا فِي الْمَدِينَةِ فَقَالَتْ: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: عِيرٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَدِمَتْ مِنَ الشَّامِ تَحْمِلُ

كُلَّ شَيْءٍ - قَالَ: وَكَانَتْ سَبْعَمِائَةِ بَعِيرٍ - قَالَ: فَارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ مِنَ الصَّوْتِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: قَدْ رَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَبْوًا. فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَالَ: لَئِنِ اسْتَطَعْتُ لَأَدْخُلَنَّهَا قَائِمًا. فَجَعَلَهَا بِأَقْتَابِهَا وَأَحْمَالِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ عُمَارَةُ بْنُ زَاذَانَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَوْلُهُ فِي سِيَاقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ: إِنَّهُ آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. فَغَلَطٌ مَحْضٌ مُخَالِفٌ لِمَا فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ أَنَّ الَّذِي آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ إِنَّمَا هُوَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَلَّى وَرَاءَهُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ. وَهَذِهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لَا تُبَارَى.
وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى لِكُلِّ رَجُلٍ مِمَّنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ بِدْرٍ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ - وَكَانُوا مِائَةً - فَأَخَذُوهَا حَتَّى عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ. وَقَالَ عَلِيٌّ: اذْهَبْ يَا ابْنَ عَوْفٍ فَقَدْ أَدْرَكْتَ صَفْوَهَا، وَسَبَقْتَ رَنْقَهَا. وَأَوْصَى لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَبْلَغٍ كَثِيرٍ حَتَّى كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ السَّلْسَبِيلِ. وَأَعْتَقَ خَلْقًا مِنْ مَمَالِيكِهِ، ثُمَّ تَرَكَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ مَالًا جَزِيلًا؛ مِنْ ذَلِكَ ذَهَبٌ قُطِعَ

بِالْفُئُوسِ حَتَّى مَجَلَتْ أَيْدِي الرِّجَالِ، وَتَرَكَ أَلْفَ بَعِيرٍ وَمِائَةَ فَرَسٍ، وَثَلَاثَةَ آلَافِ شَاةٍ تَرْعَى بِالْبَقِيعِ، وَكَانَ نِسَاؤُهُ أَرْبَعًا، فَصُولِحَتْ إِحْدَاهُنَّ مِنْ رُبْعِ الثَّمَنِ بِثَمَانِينَ أَلْفًا.
وَلَمَّا مَاتَ صَلَّى عَلَيْهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَحَمَلَ فِي جِنَازَتِهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ عَنْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
وَكَانَ أَبْيَضَ مُشْرَبًا حُمْرَةً، حَسَنَ الْوَجْهِ، رَقِيقَ الْبَشَرَةِ، أَعْيَنَ، أَهْدَبَ الْأَشْفَارِ، أَقْنَى، لَهُ جَمَّةٌ، ضَخْمَ الْكَفَّيْنِ، غَلِيظَ الْأَصَابِعِ، لَا يُغَيِّرُ شَيْبَهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ وَاسْمُهُ جُنْدُبُ بْنُ جُنَادَةَ، عَلَى الْمَشْهُورِ. أَسْلَمَ قَدِيمًا بِمَكَّةَ فَكَانَ رَابِعَ أَرْبَعَةٍ أَوْ خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَقِصَّةُ إِسْلَامِهِ تَقَدَّمَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ حَيَّا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ وَقَوْمِهِ، فَكَانَ هُنَاكَ حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْمَدِينَةِ، فَهَاجَرَ بَعْدَ الْخَنْدَقِ، ثُمَّ لَزِمَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَضَرًا وَسَفَرًا، وَرَوَى عَنْهُ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً. وَجَاءَ فِي فَضْلِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ؛ مِنْ أَشْهَرِهَا مَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الْيَقْظَانِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ

أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ، وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ أَبِي ذَرٍّ. وَفِيهِ ضَعْفٌ. ثُمَّ لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ فَكَانَ فِيهِ حَتَّى وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ فَاسْتَقْدَمَهُ عُثْمَانُ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ نَزَلَ بِالرَّبَذَةِ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ سِوَى امْرَأَتِهِ وَأَوْلَادِهِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْنِهِ إِذْ قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مِنْ الْعِرَاقَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَحَضَرُوا مَوْتَهُ وَأَوْصَاهُمْ كَيْفَ يَفْعَلُونَ بِهِ. وَقِيلَ: قَدِمُوا بَعْدَ مَوْتِهِ، فَوَلُوا غُسْلَهُ وَدَفْنَهُ. وَكَانَ قَدْ أَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يَطْبُخُوا لَهُمْ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ لِيَأْكُلُوهَا بَعْدَ الْمَوْتِ. قَدْ أَرْسَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى أَهْلِهِ فَضَمَّهُمْ إِلَى أَهْلِهِ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ
فِيهَا كَانَ فَتْحُ قُبْرُسَ فِي قَوْلِ أَبِي مَعْشَرٍ وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ فَذَكَرُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِيهَا غَزَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ إِفْرِيقِيَّةَ ثَانِيَةً حِينَ نَقَضَ أَهْلُهَا الْعَهْدَ.
وَفِيهَا سَيَّرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ جَمَاعَةً مِنْ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِكَلَامٍ قَبِيحٍ فِي مَجْلِسِ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ، فَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ فِي أَمْرِهِمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ أَنْ يُجْلِيَهُمْ عَنْ بَلَدِهِ إِلَى الشَّامِ، وَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَمِيرِ الشَّامِ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ إِلَيْكَ قُرَّاءُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَأَنْزِلْهُمْ وَأَكْرِمْهُمْ وَتَأْلَفْهُمْ. فَلَمَّا قَدِمُوا أَنْزَلَهُمْ مُعَاوِيَةُ وَأَكْرَمَهُمْ وَاجْتَمَعَ بِهِمْ وَوَعَظَهُمْ وَنَصَحَهُمْ فِيمَا يَعْتَمِدُونَهُ مِنِ اتِّبَاعِ الْجَمَاعَةِ وَتَرْكِ الِانْفِرَادِ وَالِابْتِعَادِ، فَأَجَابَهُ مُتَكَلِّمُهُمْ وَالْمُتَرْجِمُ عَنْهُمْ بِكَلَامٍ فِيهِ بَشَاعَةٌ وَشَنَاعَةٌ، فَاحْتَمَلَهُمْ مُعَاوِيَةُ لِحِلْمِهِ، وَأَخَذَ فِي مَدْحِ قُرَيْشٍ - وَكَانُوا قَدْ نَالُوا مِنْهُمْ - وَأَخَذَ فِي الْمَدْحِ لِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ، وَافْتَخَرَ مُعَاوِيَةُ بِوَالِدِهِ وَشَرَفِهِ فِي قَوْمِهِ، وَقَالَ فِيمَا قَالَ: وَأَظُنُّ أَبَا سُفْيَانَ لَوْ وَلَدَ النَّاسَ كُلَّهُمْ لَمْ يَلِدْ إِلَّا حَازِمًا. فَقَالَ لَهُ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ: كَذَبْتَ، قَدْ وَلَدَ النَّاسُ كُلُّهُمْ لَمَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ؛ مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ

بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَهُ فَكَانَ فِيهِمُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالْأَحْمَقُ وَالْكَيِّسُ. ثُمَّ بَذَلَ لَهُمُ النُّصْحَ مَرَّةً أُخْرَى، فَإِذَا هُمْ يَتَمَادَوْنَ فِي غَيِّهِمْ، وَيَسْتَمِرُّونَ عَلَى جَهَالَتِهِمْ وَحَمَاقَتِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ بَلَدِهِ وَنَفَاهُمْ عَنِ الشَّامِ؛ لِئَلَّا يُشَوِّشُوا عُقُولَ الطَّغَامِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَشْتَمِلُ مَطَاوِي كَلَامِهِمْ عَلَى الْقَدْحِ فِي قُرَيْشٍ، كَوْنَهُمْ فَرَّطُوا وَضَيَّعُوا مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقِيَامِ فِيهِ؛ مِنْ نُصْرَةِ الدِّينِ، وَقَمْعِ الْمُفْسِدِينَ. وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهَذَا التَّنْقِيصَ وَالْعَيْبَ وَرَجْمَ الْغَيْبِ، وَكَانُوا يَشْتُمُونَ عُثْمَانَ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَكَانُوا عَشْرَةً، وَقِيلَ: تِسْعَةً، وَهُوَ الْأَشْبَهُ، مِنْهُمْ كُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ، وَالْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ - وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ، وَصَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ، وَأَخُوهُ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ، وَمَالِكُ بْنُ كَعْبٍ الْأَرْحَبِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ النَّخَعِيَّانِ، وَثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ النَّخْعِيُّ، وَجُنْدُبُ بْنُ زُهَيْرٍ الْعَامِرِيُّ، وَجُنْدُبُ بْنُ كَعْبٍ الْأَزْدِيُّ، وَعُرْوَةُ بْنُ الْجَعْدِ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ الْخُزَاعِيُّ. فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ دِمَشْقَ أَوَوْا إِلَى الْجَزِيرَةِ، فَاجْتَمَعَ بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ - وَكَانَ نَائِبًا عَلَى الْجَزِيرَةِ، ثُمَّ وَلِيَ حِمْصَ بَعْدَ ذَلِكَ - فَهَدَّدَهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ؛ فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَأَنَابُوا إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، فَدَعَا لَهُمْ وَسَيَّرَ مَالِكًا الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ؛ لِيَعْتَذِرَ

إِلَيْهِ عَنْ أَصْحَابِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَكَفَّ عَنْهُمْ، وَخَيَّرَهُمْ أَنْ يُقِيمُوا حَيْثُ أَحَبُّوا، فَاخْتَارُوا أَنْ يَكُونُوا فِي مُعَامَلَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ حِمْصَ، فَأَمَرَهُمْ بِالْمَقَامِ بِالسَّاحِلِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ. وَيُقَالُ: بَلْ لَمَّا مَقَتَهُمْ مُعَاوِيَةُ، كَتَبَ فِيهِمْ إِلَى عُثْمَانَ، فَجَاءَهُ كِتَابُ عُثْمَانَ أَنْ يَرُدَّهُمْ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْكُوفَةِ، فَرَدَّهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَجَعُوا كَانُوا أَزَلَقَ أَلْسِنَةً، وَأَكْثَرَ شَرًّا، فَضَجَّ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بِحِمْصَ، وَأَنْ يَلْزَمُوا الدُّرُوبَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ عُثْمَانُ بَعْضَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِنْهَا إِلَى الشَّامِ، وَإِلَى مِصْرَ بِأَسْبَابٍ مُسَوِّغَةٍ لِمَا فَعَلَهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَانَ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يُؤَلِّبُ عَلَيْهِ وَيُمَالِئُ الْأَعْدَاءَ فِي الْحَطِّ وَالْكَلَامِ فِيهِ، وَهُمُ الظَّالِمُونَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْبَارُّ الرَّاشِدُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَتَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: فِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ الصَّوَارِي. وَالصَّحِيحُ فِي قَوْلِ غَيْرِهِ أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَكَاتَبَ الْمُنْحَرِفُونَ عَنْ طَاعَةِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ جُمْهُورُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ - وَهُمْ فِي مُعَامَلَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بِحِمْصَ مَنْفِيُّونَ عَنِ الْكُوفَةِ - وَثَارُوا عَلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَمِيرِ الْكُوفَةِ، وَتَأَلَّبُوا عَلَيْهِ وَنَالُوا مِنْهُ وَمِنْ عُثْمَانَ، وَبَعَثُوا إِلَى عُثْمَانَ مَنْ يُنَاظِرُهُ فِيمَا فَعَلَ، وَفِيمَا اعْتَمَدَ مَنْ عَزْلِ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَتَوْلِيَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ، وَأَغْلَظُوا لَهُ فِي الْقَوْلِ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَعْزِلَ عُمَّالَهُ وَيَسْتَبْدِلَ بِهِمْ غَيْرَهُمْ مِنَ السَّابِقَيْنَ وَمِنَ الصَّحَابَةِ، حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ جِدًّا وَبَعَثَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ، فَأَحْضَرَهُمْ عِنْدَهُ لِيَسْتَشِيرَهُمْ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَمِيرُ الشَّامِ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَمِيرُ مِصْرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَمِيرُ الْمَغْرِبِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ أَمِيرُ الْكُوفَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ، فَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا حَدَثَ مِنَ الْأَمْرِ وَافْتِرَاقِ الْكَلِمَةِ، فَأَشَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ أَنْ يَشْغَلَهُمْ بِالْغَزْوِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشَّرِّ فَلَا يَكُونَ هَمُّ أَحَدِهِمْ إِلَّا نَفْسَهُ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ دَبَرَةِ دَابَّتِهِ، وَقَمْلِ

فَرْوَتِهِ، فَإِنَّ غَوْغَاءَ النَّاسِ إِذَا تَفَرَّغُوا وَبَطِلُوا، اشْتَغَلُوا بِمَا لَا يُغْنِي، وَتَكَلَّمُوا فِيمَا لَا يُرْضِي، وَإِذَا تَفَرَّقُوا نَفَعُوا أَنْفُسَهُمْ وَغَيْرَهُمْ. وَأَشَارَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ بِأَنْ يَسْتَأْصِلَ شَأْفَةَ الْمُفْسِدِينَ، وَيَقْطَعَ دَابِرَهُمْ. وَأَشَارَ مُعَاوِيَةُ بِأَنْ يَرُدَّ عُمَّالَهُ إِلَى أَقَالِيمِهِمْ، وَأَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَا تَأَلَّبُوا عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ، فَإِنَّهُمْ أَقَلُّ وَأَضْعَفُ جُنْدًا. وَأَشَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ بِأَنْ يَتَأَلَّفَهُمْ بِالْمَالِ فَيُعْطِيَهِمْ مِنْهُ مَا يَكُفُّ بِهِ شَرَّهُمْ، وَيَأْمَنُ غَائِلَتَهُمْ، وَيَعْطِفُ بِهِ قُلُوبَهُمْ إِلَيْهِ. وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَامَ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّكَ قَدْ رَكَّبْتَ النَّاسَ مَا يَكْرَهُونَ، فَإِمَّا أَنْ تَعْزِلَ عَنْهُمْ مَا يَكْرَهُونَ، وَإِمَّا أَنْ تَقَدَّمَ فَتُنْزِلَ عُمَّالَكَ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ لَهُ كَلَامًا فِيهِ غِلْظَةٌ، ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ فِي السِّرِّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ هَذَا لِيُبَلِّغَ عَنْهُ مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنَ النَّاسِ إِلَيْهِمْ لِيَرْضَوْا مِنْ عُثْمَانَ بِهَذَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَرَّرَ عُثْمَانُ عُمَّالَهُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَتَأَلَّفَ قُلُوبَ أُولَئِكَ بِالْمَالِ، وَأَمَرَ بِأَنْ يُبْعَثُوا فِي الْغَزْوِ إِلَى الثُّغُورِ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَصَالِحِ كُلِّهَا، وَلَمَّا رَجَعَتِ الْعُمَّالُ إِلَى أَقَالِيمِهَا امْتَنَعَ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَلَبِسُوا السِّلَاحَ وَحَلَفُوا أَنْ لَا يُمَكِّنُوهُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَعْزِلَهُ عُثْمَانُ وَيُوَلِّيَ عَلَيْهِمْ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، وَكَانَ اجْتِمَاعُهُمْ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الْجَرَعَةُ. وَقَدْ قَالَ يَوْمَئِذٍ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ وَاللَّهِ لَا يُدْخِلُهَا عَلَيْنَا مَا حَمَلْنَا سُيُوفَنَا. وَتَوَاقَفَ النَّاسُ بِالْجَرَعَةِ، وَأَحْجَمَ سَعِيدٌ عَنْ قِتَالِهِمْ وَصَمَّمُوا

عَلَى مَنْعِهِ. وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ حُذَيْفَةُ، وَأَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو، فَجَعَلَ أَبُو مَسْعُودٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا يَرْجِعُ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ حَتَّى يَكُونَ دِمَاءٌ. فَجَعَلَ حُذَيْفَةُ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَيَرْجِعَنَّ وَلَا يَكُونُ فِيهَا مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ، وَمَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ عَلِمْتُهُ وَمُحَمَّدٌ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيٌّ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَسَرَ الْفِتْنَةَ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَكَتَبُوا إِلَى عُثْمَانَ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَيْهِمْ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، فَأَجَابَهُمْ عُثْمَانُ إِلَى مَا سَأَلُوا؛ إِزَاحَةً لِعُذْرِهِمْ، وَإِزَالَةً لِشُبَهِهِمْ، وَقَطْعًا لِعِلَلِهِمْ.
وَذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ سَبَبَ تَأَلُّبِ الْأَحْزَابِ عَلَى عُثْمَانَ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبَأٍ. كَانَ يَهُودِيًّا فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَصَارَ إِلَى مِصْرَ، فَأَوْحَى إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ كَلَامًا اخْتَرَعَهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ مَضْمُونُهُ أَنَّهُ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: أَلَيْسَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ سَيَعُودُ إِلَى هَذِهِ الدُّنْيَا ؟ فَيَقُولُ الرَّجُلُ: بَلَى ! فَيَقُولُ لَهُ: فَرَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَفْضَلُ مِنْهُ فَمَا تُنْكِرُ أَنْ يَعُودَ إِلَى هَذِهِ الدُّنْيَا وَهُوَ أَشْرَفُ مِنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ! ثُمَّ يَقُولُ: وَقَدْ كَانَ أَوْصَى إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؛ فَمُحَمَّدٌ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَلِيٌّ خَاتَمُ الْأَوْصِيَاءِ. ثُمَّ يَقُولُ: فَهُوَ أَحَقُّ بِالْإِمْرَةِ مِنْ عُثْمَانَ، وَعُثْمَانُ مُعْتَدٍ فِي وِلَايَتِهِ مَا لَيْسَ لَهُ. فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ وَأَظْهَرُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ. فَافْتُتِنَ بِهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَكَتَبُوا إِلَى جَمَاعَاتٍ مِنْ عَوَامِّ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ؛ فَتَمَالَئُوا عَلَى ذَلِكَ، وَتَكَاتَبُوا فِيهِ، وَتَوَاعَدُوا أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى عُثْمَانَ، وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ مَنْ يُنَاظِرُهُ وَيَذْكُرُ لَهُ

مَا يَنْقِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ تَوْلِيَتِهِ أَقْرِبَاءَهُ وَذَوِي رَحِمِهِ وَعَزْلِهِ كِبَارَ الصَّحَابَةِ. فَدَخَلَ هَذَا فِي قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فَجَمَعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ نُوَّابَهُ مِنَ الْأَمْصَارِ، فَاسْتَشَارَهُمْ فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ فِيمَا رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا كَانَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ كَثُرَ النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ، وَنَالُوا مِنْهُ أَقْبَحَ مَا نِيلَ مِنْ أَحَدٍ، فَكَلَّمَ النَّاسُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى عُثْمَانَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ وَرَائِي وَقَدْ كَلَّمُونِي فِيكَ، وَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ وَمَا أَعْرِفُ شَيْئًا تَجْهَلُهُ وَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَمْرٍ لَا تَعْرِفُهُ، إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ مَا سَبَقْنَاكَ إِلَى شَيْءٍ فَنُخْبِرُكَ عَنْهُ، وَلَا خَلَوْنَا بِشَيْءٍ فَنُبَلِّغُكَهُ، وَمَا خُصِصْنَا بِأُمُورٍ عَنْكَ، وَقَدْ رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنِلْتَ صِهْرَهُ وَمَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ بِأَوْلَى بِعَمَلِ أَلْحَقِّ مِنْكَ، وَلَا ابْنُ الْخَطَّابِ بِأَوْلَى بِشَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ مِنْكَ، وَإِنَّكَ أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَحِمًا، وَلَقَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا لَمْ يَنَالَا، وَلَا سَبَقَاكَ إِلَى شَيْءٍ، فَاللَّهَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ، فَإِنَّكَ وَاللَّهِ مَا تُبْصِرُ مِنْ عَمَى، وَلَا تَعْلَمُ مِنْ جَهْلٍ، وَإِنَّ الطَّرِيقَ لِوَاضِحٌ بَيِّنٌ، وَإِنَّ أَعْلَامَ الدِّينِ لِقَائِمَةٌ، تَعْلَمُ يَا عُثْمَانُ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ عَادِلٌ، هُدِيَ وَهَدَى، فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً، وَأَمَاتَ بِدْعَةً مَعْلُومَةً، فَوَاللَّهِ إِنَّ كُلًّا لَبَيِّنٌ، وَإِنَّ السُّنَنَ لَقَائِمَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ، وَإِنَّ الْبِدَعَ

لَقَائِمَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ، وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ جَائِرٌ، ضَلَّ وَضُلَّ بِهِ، فَأَمَاتَ سُنَّةً مَعْلُومَةً، وَأَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْإِمَامِ الْجَائِرِ وَلَيْسَ مَعَهُ نَصِيرٌ وَلَا عَاذِرٌ، فَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ الرَّحَا ثُمَّ يَرْتَطِمُ فِي غَمْرَةِ جَهَنَّمَ. وَإِنِّي أُحَذِّرُكَ اللَّهَ وَأُحَذِّرُكَ سَطْوَتَهُ وَنِقْمَتَهُ، فَإِنَّ عَذَابَهُ شَدِيدٌ أَلِيمٌ، وَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ إِمَامَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَقْتُولَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ: يُقْتَلُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ إِمَامٌ فَيُفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَتُلَبَّسُ أُمُورُهَا عَلَيْهَا، وَيُتْرَكُونَ شِيَعًا لَا يُبْصِرُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجًا، وَيَمْرَجُونَ فِيهَا مَرَجًا. فَقَالَ عُثْمَانُ: قَدْ وَاللَّهِ عَلِمْتُ لَتَقُولَنَّ الَّذِي قُلْتَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ مَكَانِي مَا عَنَّفْتُكَ وَلَا أَسْلَمْتُكَ، وَلَا عِبْتُ عَلَيْكَ، وَلَا جِئْتُ مُنْكِرًا أَنْ وَصَلْتُ رَحِمًا، وَسَدَدْتُ خَلَّةً، وَأَوَيْتُ ضَائِعًا، وَوَلَّيْتُ شَبِيهًا بِمَنْ كَانَ عُمَرُ يُوَلِّي، أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا عَلِيُّ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ لَيْسَ هُنَاكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَتَعْلَمُ أَنَّ عُمَرَ وَلَّاهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَلِمَ تَلُومُنِي أَنْ وَلَّيْتُ ابْنَ عَامِرٍ فِي رَحِمِهِ وَقَرَابَتِهِ ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: سَأُخْبِرُكَ، إِنَّ عُمَرَ كَانَ كُلُّ مَنْ وَلَّى فَإِنَّمَا يَطَأُ عَلَى صِمَاخَيْهِ، وَإِنْ بَلَغَهُ عَنْهُ حَرْفٌ، جَاءَ بِهِ، ثُمَّ بَلَغَ بِهِ أَقْصَى الْغَايَةِ فِي الْعُقُوبَةِ،

وَأَنْتَ لَا تَفْعَلُ، ضَعُفْتَ وَرَفُقْتَ عَلَى أَقْرِبَائِكَ. فَقَالَ عُثْمَانُ: هُمْ أَقْرِبَاؤُكَ أَيْضًا. فَقَالَ عَلِيٌّ: لَعَمْرِي إِنَّ رَحِمَهُمْ مِنِّي لِقَرِيبَةٌ، وَلَكِنَّ الْفَضْلَ فِي غَيْرِهِمْ. قَالَ عُثْمَانُ: هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُمَرَ وَلَّى مُعَاوِيَةَ خِلَافَتَهُ كُلَّهَا ؟ فَقَدَ وَلَّيْتُهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ أَخْوَفَ مِنْ عُمَرَ مِنْ يَرْفَأَ غُلَامِ عُمَرَ مِنْهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ عَلِيٌّ: فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ يَقْطَعُ الْأُمُورَ دُونَكَ وَأَنْتَ تَعْلَمُهَا، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ: هَذَا أَمْرُ عُثْمَانَ. فَيَبْلُغُكَ وَلَا تُغَيِّرُ عَلَى مُعَاوِيَةَ. ثُمَّ خَرَجَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ، وَخَرَجَ عُثْمَانُ عَلَى إِثْرِهِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَ النَّاسَ فَوَعَظَ، وَحَذَّرَ وَأَنْذَرَ، وَتَهَدَّدَ وَتَوَعَّدَ، وَأَبْرَقَ وَأَرْعَدَ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ: أَلَا فَقَدَ وَاللَّهِ عِبْتُمْ عَلَيَّ بِمَا أَقْرَرْتُمْ بِهِ لِابْنِ الْخَطَّابِ، وَلَكِنَّهُ وَطِئَكُمْ بِرِجْلِهِ، وَضَرَبَكُمْ بِيَدِهِ، وَقَمَعَكُمْ بِلِسَانِهِ، فَدِنْتُمْ لَهُ عَلَى مَا أَحْبَبْتُمْ أَوْ كَرِهْتُمْ، وَلِنْتُ لَكُمْ وَأَوْطَأْتُ لَكُمْ كَتِفِي، وَكَفَفْتُ يَدِي وَلِسَانِي عَنْكُمْ، فَاجْتَرَأْتُمْ عَلَيَّ، أَمَا وَاللَّهِ لَأَنَا أَعَزُّ نَفَرًا، وَأَقْرَبُ نَاصِرًا، وَأَكْثَرُ عَدَدًا، وَأَقْمَنُ إِنْ قُلْتُ: هَلُمَّ. أُتِيَ إِلَيَّ، وَلَقَدْ أَعْدَدْتُ لَكُمْ أَقْرَانَكُمْ، وَأَفْضَلْتُ عَلَيْكُمْ فُضُولًا، وَكَشَرْتُ لَكُمْ عَنْ نَابِي، فَأَخْرَجْتُمْ مِنِّي خُلُقًا لَمْ أَكُنْ أُحْسِنُهُ، وَمَنْطِقًا لَمْ أَنْطِقْ بِهِ، فَكُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ وَطَعْنَكُمْ وَعَيْبَكُمْ عَلَى وُلَاتِكُمْ، فَإِنِّي قَدْ كَفَفْتُ عَنْكُمْ مِنْ لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَلِيكُمْ لَرَضِيتُمْ مِنْهُ بِدُونِ مَنْطِقِي هَذَا، أَلَا فَمَا تَفْقِدُونَ مِنْ حَقِّكُمْ ؟ فَوَاللَّهِ مَا

قَصَّرْتُ فِي بُلُوغِ مَا كَانَ يَبْلُغُ مَنْ كَانَ قَبْلِي. ثُمَّ اعْتَذَرَ عَمَّا كَانَ يُعْطِي أَقَارِبَهُ بِأَنَّهُ مِنْ فَضْلِ مَالِهِ. فَقَامَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَقَالَ: إِنْ شِئْتُمْ وَاللَّهِ حَكَّمْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ السَّيْفَ، نَحْنُ وَاللَّهَ وَأَنْتُمْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَرَشْنَا لَكُمْ أَعْرَاضَنَا فَنَبَتْ بِكُمْ مَعَارِسُكُمْ تَبْنُونَ فِي دِمَنِ الثَّرَى
فَقَالَ عُثْمَانُ: اسْكُتْ لَا سَكَتَّ، دَعْنِي وَأَصْحَابِي، مَا مَنْطِقُكَ فِي هَذَا ! أَلَمْ أَتَقَدَّمْ إِلَيْكَ أَنْ لَا تَنْطِقَ ! فَسَكَتَ مَرْوَانُ وَنَزَلَ عُثْمَانُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا وَدَّعَ عُثْمَانَ حِينَ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الشَّامِ، عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْحَلَ مَعَهُ إِلَى الشَّامِ، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ كَثِيرَةٌ طَاعَتُهُمْ لِلْأُمَرَاءِ. فَقَالَ: لَا أَخْتَارُ بِجِوَارِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سِوَاهُ. فَقَالَ: أُجَهِّزُ لَكَ جَيْشًا مِنَ الشَّامِ يَكُونُونَ عِنْدَكَ يَنْصُرُونَكَ ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ أُضَيِّقَ بِهِمْ بَلَدَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَوَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَتُغْتَالَنَّ - أَوْ قَالَ: لَتُغْزَيَنَّ - فَقَالَ عُثْمَانُ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. ثُمَّ خَرَجَ مُعَاوِيَةُ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ السَّيْفَ، وَقَوْسُهُ فِي يَدِهِ، فَمَرَّ عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ؛ فِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ وَاتَّكَأَ عَلَى قَوْسِهِ، وَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ يَشْتَمِلُ عَلَى الْوَصَاةِ بِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ إِسْلَامِهِ إِلَى أَعْدَائِهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ ذَاهِبًا. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: مَا

رَأَيْتُهُ أَهْيَبَ فِي عَيْنِي مِنْ يَوْمِهِ هَذَا.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ اسْتَشْعَرَ الْأَمْرَ لِنَفْسِهِ مَنْ قَدْمَتِهِ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَمِعَ حَادِيًا يَرْتَجِزُ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ فِي هَذَا الْعَامِ وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ ضَوَامِرُ الْمَطِيِّ وَضُمَّرَاتُ عُوَّجِ الْقِسِيِّ
أَنَّ الْأَمِيرَ بَعْدَهُ عَلِيُّ وَفِي الزُّبَيْرِ خَلَفٌ رَضِيُّ
وَطَلْحَةُ الْحَامِي لَهَا وَلِيُّ
فَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ - وَهُوَ يَسِيرُ خَلْفَ عُثْمَانَ: وَاللَّهِ إِنَّ الْأَمِيرَ بَعْدَهُ صَاحِبُ الْبَغْلَةِ الشَّهْبَاءِ. وَأَشَارَ إِلَى مُعَاوِيَةَ.
فَلَمَّا سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ لَمْ يَزَلْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ حَتَّى كَانَ مَا كَانَ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ أَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ.

وَمَاتَ أَيْضًا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَعَاقِلُ بْنُ الْبُكَيْرِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ
فَفِيهَا مَقْتَلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ حِينَ عَزَلَهُ عُثْمَانُ عَنْ مِصْرَ وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَوَارِجَ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ كَانُوا مَحْصُورِينَ مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، مَقْهُورِينَ مَعَهُ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِسُوءٍ فِي خَلِيفَةٍ وَلَا أَمِيرٍ، فَمَا زَالُوا يَعْمَلُونَ عَلَيْهِ حَتَّى شَكَوْهُ إِلَى عُثْمَانَ؛ لِيَنْزِعَهُ عَنْهُمْ وَيُوَلِّيَ عَلَيْهِمْ مَنْ هُوَ أَلْيَنُ مِنْهُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبُهُمْ حَتَّى عَزَلَ عَمْرًا عَنِ الْحَرْبِ وَتَرَكَهُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَوَلَّى عَلَى الْحَرْبِ وَالْخَرَاجِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، ثُمَّ سَعَوْا فِيمَا بَيْنَهُمَا بِالنَّمِيمَةِ فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا، حَتَّى كَانَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ قَبِيحٌ، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ فَجَمَعَ لِابْنِ أَبِي سَرْحٍ جَمِيعَ عِمَالَةِ مِصْرَ؛ خَرَاجَهَا وَحَرْبَهَا وَصَلَاتَهَا، وَبَعَثَ إِلَى عَمْرٍو يَقُولُ لَهُ: لَا خَيْرَ لَكَ فِي الْمَقَامِ عِنْدَ مَنْ يَكْرَهُكَ، فَاقْدُمْ إِلَيَّ. فَانْتَقَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَفِي نَفْسِهِ مِنْ عُثْمَانَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَشَرٌّ كَبِيرٌ، فَكَلَّمَهُ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ بِنَفْسٍ، وَتَقَاوَلَا فِي ذَلِكَ، وَافْتَخَرَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِأَبِيهِ عَلَى أَبِي عُثْمَانَ، وَأَنَّهُ كَانَ أَعَزَّ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: دَعْ هَذَا فَإِنَّهُ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَجَعَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يُؤَلِّبُ النَّاسَ عَلَى

عُثْمَانَ. وَكَانَ بِمِصْرَ جَمَاعَةٌ يُبْغِضُونَ عُثْمَانَ وَيَتَكَلَّمُونَ فِيهِ بِكَلَامٍ قَبِيحٍ - عَلَى مَا قَدَّمْنَا - وَيَنْقِمُونَ عَلَيْهِ فِي عَزْلِهِ جَمَاعَةً مِنْ عِلْيَةِ الصَّحَابَةِ، وَتَوْلِيَتِهِ مَنْ دُونِهِمْ أَوْ مَنْ لَا يَصْلُحُ عِنْدَهُمْ لِلْوِلَايَةِ. وَكَرِهَ أَهْلُ مِصْرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ بَعْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَاشْتَغَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ عَنْهُمْ بِقِتَالِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ وَفَتْحِهِ بِلَادَ الْبَرْبَرِ وَالْأَنْدَلُسِ وَإِفْرِيقِيَّةَ.
وَنَشَأَ بِمِصْرَ طَائِفَةٌ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ يُؤَلِّبُونَ النَّاسَ عَلَى حَرْبِهِ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، وَكَانَ عُظْمُ ذَلِكَ مُسْنَدًا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُذَيْفَةَ، حَتَّى اسْتَنْفَرَا نَحْوًا مِنْ سِتِّمِائَةِ رَاكِبٍ يَذْهَبُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي صِفَةِ مُعْتَمِرِينَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ؛ لِيُنْكِرُوا عَلَى عُثْمَانَ، فَسَارُوا إِلَيْهَا تَحْتَ أَرْبَعِ رِفَاقٍ، وَأَمْرُ الْجَمِيعِ إِلَى أَبِي عَمْرِو بْنِ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيِّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُدَيْسٍ الْبَلَوِيِّ، وَكِنَانَةَ بْنِ بِشْرٍ التُّجِيبِيِّ، وَسَوْدَانَ بْنِ حُمْرَانَ السَّكُونِيِّ، وَأَقْبَلَ مَعَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَأَقَامَ بِمِصْرَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ يُؤَلِّبُ النَّاسَ وَيُدَافِعُ عَنْ هَؤُلَاءِ، وَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ إِلَى عُثْمَانَ يُعْلِمُهُ بِقُدُومِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ إِلَى الْمَدِينَةِ مُنْكِرِينَ عَلَيْهِ فِي صِفَةِ مُعْتَمِرِينَ، فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنَ الْمَدِينَةِ أَمَرَ عُثْمَانُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ؛ لِيَرُدَّهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا الْمَدِينَةَ. وَيُقَالُ: بَلْ نَدَبَ النَّاسَ إِلَيْهِمْ فَانْتَدَبَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،

لِذَلِكَ فَبَعَثَهُ وَخَرَجَ مَعَهُ جَمَاعَةُ الْأَشْرَافِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِعَمَّارٍ فَأَبَى عَمَّارٌ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ، فَبَعَثَ عُثْمَانُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى عَمَّارٍ لِيُحَرِّضَهُ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَ عَلِيٍّ إِلَيْهِمْ، فَأَبَى عَمَّارٌ كُلَّ الْإِبَاءِ، وَامْتَنَعَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَكَانَ مُتَغَضِّبًا عَلَى عُثْمَانَ بِسَبَبِ تَأْدِيبِهِ لَهُ عَلَى أَمْرٍ، وَضَرْبِهِ إِيَّاهُ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ شَتْمِهِ عَبَّاسَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ، فَأَدَّبَهُمَا عُثْمَانُ، فَتَآمَرَ عَمَّارٌ عَلَيْهِ لِذَلِكَ، وَجَعَلَ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَيْهِ، فَنَهَاهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ ذَلِكَ وَلَامَهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ وَلَمْ يَرْجِعْ وَلَمْ يَنْزِعْ، فَانْطَلَقَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَيْهِمْ وَهُمْ بِالْجُحْفَةِ، وَكَانُوا يُعَظِّمُونَهُ وَيُبَالِغُونَ فِي أَمْرِهِ، فَرَدَّهُمْ وَأَنَّبَهُمْ وَشَتَمَهُمْ، فَرَجَعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمَلَامَةِ، وَقَالُوا: هَذَا الَّذِي تُحَارِبُونَ الْأَمِيرَ بِسَبَبِهِ، وَتَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِهِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ نَاظَرَهُمْ فِي عُثْمَانَ، وَسَأَلَهُمْ مَاذَا يَنْقِمُونَ عَلَيْهِ ؟ فَذَكَرُوا أَشْيَاءَ؛ مِنْهَا أَنَّهُ حَمَى الْحِمَى، وَأَنَّهُ حَرَقَ الْمَصَاحِفَ، وَأَنَّهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ، وَأَنَّهُ وَلَّى الْأَحْدَاثَ الْوِلَايَاتِ، وَتَرَكَ الصَّحَابَةَ الْأَكَابِرَ، وَأَعْطَى بَنِي أُمَيَّةَ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ، فَأَجَابَ عَلِيٌّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَمَّا الْحِمَى فَإِنَّمَا حَمَاهُ لِإِبِلِ الصَّدَقَةِ لِتَسْمَنَ، وَلَمْ يَحْمِهِ لِإِبِلِهِ وَلَا لِغَنَمِهِ، وَقَدْ حَمَاهُ عُمَرُ مِنْ قَبْلِهِ، وَأَمَّا الْمَصَاحِفُ فَإِنَّمَا حَرَقَ مَا وَقَعَ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَأَبْقَى لَهُمُ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ، وَأَمَّا إِتْمَامُهُ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ تَأَهَّلَ بِهَا وَنَوَى الْإِقَامَةَ

فَأَتَمَّهَا، وَأَمَّا تَوْلِيَتُهُ الْأَحْدَاثَ فَلَمْ يُوَلِّ إِلَّا رَجُلًا سَوِيًّا عَدْلًا، وَقَدْ وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَتَّابَ بْنَ أُسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَوَلَّى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَطَعَنَ النَّاسِ فِي إِمَارَتِهِ فَقَالَ: إِنَّهُ لَخَلِيقٌ لِلْإِمَارَةِ. وَأَمَّا إِيثَارُهُ قَوْمَهُ بَنِي أُمَيَّةَ فَقَدْكَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُؤْثِرُ قُرَيْشًا عَلَى النَّاسِ، وَوَاللَّهِ لَوْ أَنَّ مِفْتَاحَ الْجَنَّةِ بِيَدِي لَأَدْخَلْتُ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَيْهَا.
وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ فِي عَمَّارٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ. فَذَكَرَ عُثْمَانُ عُذْرَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ أَقَامَ فِيهِمَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا. وَعَتَبُوا عَلَيْهِ فِي إِيوَائِهِ الْحَكَمَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، وَقَدْ نَفَاهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الطَّائِفِ فَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ قَدْ نَفَاهُ إِلَى الطَّائِفِ ثُمَّ رَدَّهُ، ثُمَّ نَفَاهُ إِلَيْهَا، قَالَ: فَقَدْ نَفَاهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَدَّهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ خَطَبَ النَّاسَ بِهَذَا كُلِّهِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَجَعَلَ يَسْتَشْهِدُ بِهِمْ فَيَشْهَدُونَ لَهُ فِيمَا فِيهِ شَهَادَةٌ لَهُ. وَيُرْوَى أَنَّهُمْ بَعَثُوا طَائِفَةً مِنْهُمْ فَشَهِدُوا خُطْبَةَ عُثْمَانَ هَذِهِ، فَلَمَّا تَمَهَّدَتِ الْأَعْذَارُ وَانْزَاحَتْ عِلَلُهُمْ وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ شُبْهَةٌ أَشَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى عُثْمَانَ بِتَأْدِيبِهِمْ، فَصَفَحَ عَنْهُمْ وَتَرَكَهُمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرَدَّهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَرَجَعُوا خَائِبِينَ مِنْ حَيْثُ أَتَوْا وَلَمْ يَنَالُوا شَيْئًا مِمَّا كَانُوا أَمَّلُوا وَرَامُوا، وَرَجَعَ عَلِيٌّ إِلَى عُثْمَانَ فَأَخْبَرَهُ بِرُجُوعِهِمْ عَنْهُ وَسَمَاعِهِمْ مِنْهُ، وَأَشَارَ عَلَى عُثْمَانَ أَنْ يَخْطُبَ النَّاسَ خُطْبَةً يَعْتَذِرُ إِلَيْهِمْ فِيهَا مِمَّا كَانَ وَقَعَ مِنَ الْأَثَرَةِ لِبَعْضِ أَقَارِبِهِ، وَيُشْهِدُهُمْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَدْ تَابَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَابَ إِلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ سِيرَةِ الشَّيْخَيْنِ

قَبْلَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَحِيدُ عَنْهَا كَمَا كَانَ الْأَمْرُ أَوَّلًا فِي مُدَّةِ سِتِّ سِنِينَ الْأُوَلِ، فَاسْتَمَعَ عُثْمَانُ هَذِهِ النَّصِيحَةَ، وَقَابَلَهَا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَخَطَبَ النَّاسَ، رَفَعَ يَدَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ تَائِبٍ مِمَّا كَانَ مِنِّي. وَأَرْسَلَ عَيْنَيْهِ بِالْبُكَاءِ فَبَكَى الْمُسْلِمُونَ أَجْمَعُونَ وَحَصَلَ لِلنَّاسِ رِقَّةٌ شَدِيدَةٌ عَلَى إِمَامِهِمْ، وَأَشْهَدَ عُثْمَانُ النَّاسَ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ قَدْ لَزِمَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَأَنَّهُ قَدْ سَبَّلَ بَابَهُ لِمَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ عَلَيْهِ، لَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ ذَلِكَ، وَنَزَلَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَجَعَلَ مَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لِحَاجَةٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ أَوْ سُؤَالٍ، لَا يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ مُدَّةً.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا جَاءَ عُثْمَانَ بَعْدَ انْصِرَافِ الْمِصْرِيِّينَ فَقَالَ لَهُ: تَكَلَّمْ كَلَامًا يَسْمَعُهُ النَّاسُ مِنْكَ وَيَشْهَدُونَ عَلَيْكَ، وَيَشْهَدُ اللَّهُ عَلَى مَا فِي قَلْبِكَ مِنَ النُّزُوعِ وَالْإِنَابَةِ، فَإِنَّ الْبِلَادَ قَدْ تَمَخَّضَتْ عَلَيْكَ، وَلَا آمَنُ رَكْبًا آخَرِينَ يَقْدَمُونَ مِنْ قِبَلِ الْكُوفَةِ فَتَقُولُ: يَا عَلِيُّ ارْكَبْ إِلَيْهِمْ. وَيَقْدَمُ آخَرُونَ مِنَ الْبَصْرَةِ فَتَقُولُ: يَا عَلِيُّ ارْكَبْ إِلَيْهِمْ. فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ قَطَعْتُ رَحِمَكَ وَاسْتَخْفَفْتُ بِحَقِّكَ ؟! قَالَ: فَخَرَجَ عُثْمَانُ فَخَطَبَ الْخُطْبَةَ الَّتِي نَزَعَ فِيهَا، وَأَعْلَمَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ التَّوْبَةَ فَقَامَ ; فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَوَاللَّهِ مَا عَابَ مَنْ عَابَ شَيْئًا أَجْهَلُهُ، وَمَا جِئْتُ شَيْئًا إِلَّا وَأَنَا أَعْرِفُهُ، وَلَكِنْ ضَلَّ رُشْدِي، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: مَنْ زَلَّ فَلْيَتُبْ، وَمَنْ أَخْطَأَ فَلْيَتُبْ، وَلَا يَتَمَادَى فِي الْهَلَكَةِ، إِنَّ مَنْ

تَمَادَى فِي الْجَوْرِ كَانَ أَبْعَدَ عَنِ الطَّرِيقِ. فَأَنَا أَوَّلُ مَنِ اتَّعَظَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا فَعَلْتُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَمِثْلِي نَزَعَ وَتَابَ، فَإِذَا نَزَلْتُ فَلْيَأْتِنِي أَشْرَافُكُمْ، فَوَاللَّهِ لَأَكُونَنَّ كَالْمَرْقُوقِ، إِنْ مَلَكَ صَبَرَ، وَإِنْ عُتِقَ شَكَرَ، وَمَا عَنِ اللَّهِ مَذْهَبٌ إِلَّا إِلَيْهِ. قَالَ: فَرَقَّ النَّاسُ لَهُ وَبَكَى مَنْ بَكَى، وَقَامَ إِلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ ! فَأَتْمِمْ عَلَى مَا قُلْتَ. فَلَمَّا انْصَرَفَ عُثْمَانُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَجَدَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَكَابِرِ النَّاسِ، وَجَاءَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَقَالَ: أَتَكَلَّمُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْ أَصْمُتُ ؟ فَقَالَتِ امْرَأَةُ عُثْمَانَ - نَائِلَةُ بِنْتُ الْفَرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةُ - مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ: بَلِ اصْمُتْ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُمْ لَقَاتِلُوهُ، وَلَقَدْ قَالَ مَقَالَةً لَا يَنْبَغِي لَهُ النُّزُوعُ عَنْهَا. فَقَالَ لَهَا: وَمَا أَنْتِ وَذَاكَ ! فَوَاللَّهِ لَقَدْ مَاتَ أَبُوكِ وَمَا يُحْسِنُ يَتَوَضَّأُ. فَقَالَتْ لَهُ: دَعْ ذِكْرَ الْآبَاءِ. وَنَالَتْ مِنْ أَبِيهِ الْحَكَمَ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا مَرْوَانُ، وَقَالَ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَكَلَّمُ أَمْ أَصْمُتُ ؟ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: بَلْ تَكَلَّمْ. فَقَالَ مَرْوَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي لَوَدِدْتُ أَنَّ مَقَالَتَكَ هَذِهِ كَانَتْ وَأَنْتَ مُمْتَنِعٌ مَنِيعٌ، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ رَضِيَ بِهَا وَأَعَانَ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّكَ قُلْتَ مَا قُلْتَ حِينَ بَلَغَ الْحِزَامُ الطُّبْيَيْنِ، وَخَلَفَ السَّيْلُ الزُّبَى، وَحِينَ أَعْطَى الْخُطَّةَ الذَّلِيلَةَ الذَّلِيلُ، وَاللَّهِ لَإِقَامَةٌ عَلَى خَطِيئَةٍ يُسْتَغْفَرُ مِنْهَا، خَيْرٌ مِنْ تَوْبَةٍ تُخَوَّفُ عَلَيْهَا، وَإِنَّكَ لَوْ شِئْتَ

لَعَزَمْتَ التَّوْبَةَ وَلَمْ تُقَرِّرْ لَنَا بِالْخَطِيئَةِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ إِلَيْكَ عَلَى الْبَابِ مِثْلُ الْجِبَالِ مِنَ النَّاسِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: فَاخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَكَلِّمْهُمْ، فَإِنِّي أَسْتَحِي أَنْ أُكَلِّمَهُمْ. قَالَ: فَخَرَجَ مَرْوَانُ إِلَى الْبَابِ وَالنَّاسِ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ ؟ كَأَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ لِنَهْبٍ، شَاهَتِ الْوُجُوهُ ! كُلُّ إِنْسَانٍ آخِذٍ بِأُذُنِ صَاحِبِهِ، أَلَا مَنْ أُرِيدُ ؟ جِئْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْزِعُوا مُلْكَنَا مِنْ أَيْدِينَا، اخْرُجُوا عَنَّا، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رُمْتُمُونَا لِيُمُرَّنَّ عَلَيْكُمْ أَمْرٌ يَسُوءُكُمْ وَلَا تَحْمَدُوا غِبَّهُ، ارْجِعُوا إِلَى مَنَازِلِكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا نَحْنُ مَغْلُوبِينَ عَلَى مَا بِأَيْدِينَا. قَالَ: فَرَجَعَ النَّاسُ، وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ حَتَّى أَتَى عَلِيًّا فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَجَاءَ عَلِيٌّ مُغْضَبًا حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: أَمَا رَضِيتَ مِنْ مَرْوَانَ وَلَا رَضِيَ مِنْكَ إِلَّا بِتَحْوِيلِكَ عَنْ دِينِكَ وَعَقْلِكَ، وَإِنَّ مَثَلَكَ مِثْلُ جَمَلِ الظَّعِينَةِ سَارَ حَيْثُ يَسَارُ بِهِ، وَاللَّهِ مَا مَرْوَانُ بِذِي رَأْيٍ فِي دِينِهِ وَلَا نَفْسِهِ، وَايْمُ اللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ سَيُورِدُكَ ثُمَّ لَا يُصْدِرُكَ، وَمَا أَنَا بِعَائِدٍ بَعْدَ مَقَامِي هَذَا لِمُعَاتَبَتِكَ، أَذْهَبْتَ شَرَفَكَ، وَغُلِبْتَ عَلَى أَمْرِكَ. فَلَمَّا خَرَجَ عَلِيٌّ دَخَلَتْ نَائِلَةُ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَتْ: أَتَكَلَّمُ أَوْ أَسْكُتُ ؟ فَقَالَ: تَكَلَّمِي. فَقَالَتْ: سَمِعْتُ قَوْلَ عَلِيٍّ أَنَّهُ لَيْسَ يُعَاوِدُكَ، وَقَدْ أَطَعْتَ مَرْوَانَ حَيْثُ شَاءَ. قَالَ: فَمَا أَصْنَعُ ؟ قَالَتْ: تَتَّقِي اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَتَّبِعُ سُنَّةَ صَاحِبَيْكَ مِنْ قَبْلِكَ، فَإِنَّكَ مَتَى أَطَعْتَ مَرْوَانَ قَتَلَكَ، وَمَرْوَانُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرٌ وَلَا هَيْبَةٌ وَلَا مَحَبَّةٌ، فَأَرْسِلْ إِلَى عَلِيٍّ فَاسْتَصْلِحْهُ، فَإِنَّ لَهُ قَرَابَةً مِنْكَ وَهُوَ لَا يُعْصَى. قَالَ: فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى عَلِيٍّ فَأَبَى أَنْ يَأْتِيَهُ، وَقَالَ: لَقَدْ أَعْلَمْتُهُ أَنِّي لَسْتُ بِعَائِدٍ. قَالَ: وَبَلَغَ مَرْوَانَ قَوْلُ نَائِلَةَ فِيهِ،

فَجَاءَ إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: أَتَكَلَّمُ أَوْ أَسْكُتُ ؟ فَقَالَ: تَكَلَّمْ. فَقَالَ: إِنَّ نَائِلَةَ بِنْتَ الْفَرَافِصَةِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا تَذْكُرْهَا بِحَرْفٍ فَأَسُوءَ لَكَ وَجْهَكَ، فَهِيَ وَاللَّهِ أَنْصَحُ لِي مِنْكَ. قَالَ: فَكَفَّ مَرْوَانُ.

ذِكْرُ مَجِيءِ الْأَحْزَابِ إِلَى عُثْمَانَ لِلْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مِصْرَ وَغَيْرِهَا فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْأَمْصَارِ لَمَّا بَلَغَهُمْ خَبَرُ مَرْوَانَ وَغَضَبُ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ بِسَبَبِهِ، وَوَجَدُوا الْأَمْرَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَتَكَاتَبَ أَهْلُ مِصْرَ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَتَرَاسَلُوا، وَزُوِّرَتْ كُتُبٌ عَلَى لِسَانِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ بِالْمَدِينَةِ وَعَلَى لِسَانِ عَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى قِتَالِ عُثْمَانَ وَنَصْرِ الدِّينِ، وَأَنَّهُ أَكْبَرُ الْجِهَادِ الْيَوْمَ.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ التَّمِيمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَأَبِي حَارِثَةَ وَأَبِي عُثْمَانَ - وَقَالَهُ غَيْرُهُمْ أَيْضًا - قَالُوا: لَمَّا كَانَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، خَرَجَ أَهْلُ مِصْرَ فِي أَرْبَعِ رِفَاقٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أُمَرَاءَ؛ الْمُقَلِّلُ لَهُمْ يَقُولُ: سِتُّمِائَةٍ. وَالْمُكَثِّرُ يَقُولُ: أَلْفٌ. عَلَى الرِّفَاقِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُدَيْسٍ الْبَلَوِيُّ، وَكِنَانَةُ بْنُ

بِشْرٍ التُّجِيبِيُّ، وَعُرْوَةُ بْنُ شُيَيْمٍ اللِّيثِيُّ، وَسَوْدَانُ بْنُ حُمْرَانَ السُّكُونِيُّ، وَقُتَيْرَةُ السُّكُونِيُّ، وَعَلَى الْقَوْمِ جَمِيعًا الْغَافِقِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْعَكِّيُّ، وَخَرَجُوا فِيمَا يُظْهِرُونَ لِلنَّاسِ حُجَّاجًا، وَمَعَهُمُ ابْنُ السَّوْدَاءِ، وَكَانَ أَصْلُهُ ذِمِّيًّا، فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَحْدَثَ بِدَعًا قَوْلِيَّةً وَفِعْلِيَّةً - قَبَّحَهُ اللَّهُ - وَخَرَجَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي أَرْبَعِ رِفَاقٍ، وَأُمَرَاؤُهُمْ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ، وَالْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ، وَزِيَادُ بْنُ النَّضْرِ الْحَارِثِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَصَمِّ، وَعَلَى الْجَمِيعِ عَمْرُو بْنُ الْأَصَمِّ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ أَيْضًا فِي أَرْبَعِ رَايَاتٍ مَعَ حَكِيمِ بْنِ جَبَلَةَ الْعَبْدِيِّ، وَبِشْرِ بْنِ شُرَيْحِ بْنِ ضُبَيْعَةَ الْقَيْسِيِّ، وَذُرَيْحِ بْنِ عَبَّادٍ الْعَبْدِيِّ، وَابْنِ مُحَرِّشٍ الْحَنَفِيِّ، وَعَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ السَّعْدِيُّ. وَأَهْلُ مِصْرَ مُصِرُّونَ عَلَى وِلَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ عَازِمُونَ عَلَى تَأْمِيرِ الزُّبَيْرِ، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ

مُصَمِّمُونَ عَلَى تَوْلِيَةِ طَلْحَةَ. لَا تَشُكُّ كُلُّ فِرْقَةٍ أَنَّ أَمْرَهَا سَيَتِمُّ، فَسَارَ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ بَلَدِهِمْ حَتَّى تَوَافَوْا حَوْلَ الْمَدِينَةِ - كَمَا تَوَاعَدُوا فِي كُتُبِهِمْ - فِي شَهْرِ شَوَّالٍ فَنَزَلَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِذِي خُشُبٍ، وَطَائِفَةٌ بِالْأَعْوَصِ، وَالْجُمْهُورُ بِذِي الْمَرْوَةِ، وَهُمْ عَلَى وَجَلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَبَعَثُوا قُصَّادًا وَعُيُونًا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ؛ لِيَخْتَبِرُوا النَّاسَ وَيُخْبِرُوهُمْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا جَاءُوا لِلْحَجِّ لَا لِغَيْرِهِ، وَلِيَسْتَعْفُوا هَذَا الْوَالِي مِنْ بَعْضِ عُمَّالِهِ، مَا جِئْنَا إِلَّا لِذَلِكَ، وَاسْتَأْذَنُوا فِي الدُّخُولِ، فَكُلُّ النَّاسِ أَبَى دُخُولَهُمْ، وَنَهَى عَنْهُ، فَتَجَاسَرُوا وَاقْتَرَبُوا مِنَ الْمَدِينَةِ. وَجَاءَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ إِلَى عَلِيٍّ وَهُوَ فِي عَسْكَرٍ عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ، عَلَيْهِ حُلَّةُ أَفْوَافٍ، مُعْتَمٌّ بِشَقِيقَةٍ حَمْرَاءَ يَمَانِيَةٍ، مُتَقَلِّدًا السَّيْفَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَمِيصٌ، وَقَدْ سَرَّحَ ابْنَهُ الْحَسَنَ إِلَى عُثْمَانَ فِي مَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ الْمِصْرِيُّونَ فَصَاحَ بِهِمْ وَأَطْرَدَهُمْ وَقَالَ: لَقَدْ عَلِمَ الصَّالِحُونَ أَنَّ جَيْشَ ذِي الْمَرْوَةِ وَذِي خُشُبٍ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَارْجِعُوا لَا صَبَّحَكُمُ اللَّهُ. قَالُوا: نَعَمْ. وَانْصَرَفُوا مِنْ عِنْدِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَتَى الْبَصْرِيُّونَ طَلْحَةَ وَهُوَ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى إِلَى جَنْبِ عَلِيٍّ - وَقَدْ أَرْسَلَ ابْنَيْهِ إِلَى عُثْمَانَ - فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، فَصَاحَ بِهِمْ وَأَطْرَدَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ لِأَهْلِ مِصْرَ، وَكَذَلِكَ كَانَ رَدُّ الزُّبَيْرِ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ. فَرَجَعَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ وَأَظْهَرُوا لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ رَاجِعُونَ إِلَى بُلْدَانِهِمْ، وَسَارُوا أَيَّامًا رَاجِعِينَ، ثُمَّ

كَرُّوا عَائِدِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَا كَانَ غَيْرَ قَلِيلٍ حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ التَّكْبِيرَ، وَإِذَا الْقَوْمُ قَدْ زَحَفُوا عَلَى الْمَدِينَةِ وَأَحَاطُوا بِهَا، وَجُمْهُورُهُمْ عِنْدَ دَارِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَقَالُوا لِلنَّاسِ: مَنْ كَفَّ يَدَهُ فَهُوَ آمِنٌ. فَكَفَّ النَّاسُ وَلَزِمُوا بُيُوتَهُمْ، وَأَقَامَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا. هَذَا كُلُّهُ وَلَا يَدْرِي النَّاسُ مَا الْقَوْمُ صَانِعُونَ وَلَا عَلَى مَا هُمْ عَازِمُونَ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يَخْرُجُ مِنْ دَارِهِ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَيُصَلِّي وَرَاءَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأُولَئِكَ الْآخَرُونَ، وَذَهَبَ الصَّحَابَةُ إِلَى هَؤُلَاءِ يُؤَنِّبُونَهُمْ وَيَعْذِلُونَهُمْ عَلَى رُجُوعِهِمْ، حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ لِأَهْلِ مِصْرَ: مَا رَدُّكُمْ بَعْدَ ذَهَابِكُمْ وَرُجُوعِكُمْ عَنْ رَأْيِكُمْ ؟ فَقَالُوا: وَجَدْنَا مَعَ بَرِيدٍ كِتَابًا بِقَتْلِنَا. وَكَذَلِكَ قَالَ الْبَصْرِيُّونَ لِطَلْحَةَ، وَالْكُوفِيُّونَ لِلزُّبَيْرِ. وَقَالَ أَهْلُ كُلِّ مِصْرَ: إِنَّمَا جِئْنَا لِنَنْصُرَ أَصْحَابَنَا. فَقَالَ لَهُمُ الصَّحَابَةُ: كَيْفَ عَلِمْتُمْ بِذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِكُمْ وَقَدِ افْتَرَقْتُمْ وَصَارَ بَيْنَكُمْ مَرَاحِلُ ؟ إِنَّمَا هَذَا أَمْرٌ اتَّفَقْتُمْ عَلَيْهِ. فَقَالُوا: ضَعُوهُ عَلَى مَا أَرَدْتُمْ، لَا حَاجَةَ لَنَا فِي هَذَا الرَّجُلِ، لِيَعْتَزِلْنَا وَنَحْنُ نَعْتَزِلُهُ. يَعْنُونَ أَنَّهُ إِنْ نَزَلَ عَنِ الْخِلَافَةِ تَرَكُوهُ آمِنًا.
وَكَانَ الْمِصْرِيُّونَ - فِيمَا ذُكِرَ - لَمَّا رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ وَجَدُوا فِي الطَّرِيقِ بَرِيدًا يَسِيرُ، فَأَخَذُوهُ، فَفَتَّشُوهُ، فَإِذَا مَعَهُ فِي إِدَوَاةٍ كِتَابٌ عَلَى لِسَانِ عُثْمَانَ فِيهِ الْأَمْرُ بِقَتْلِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ، وَبِصَلْبِ آخَرِينَ، وَبِقَطْعِ أَيْدِي آخَرِينَ مِنْهُمْ وَأَرْجُلِهِمْ. وَكَانَ عَلَى الْكِتَابِ طَابَعٌ بِخَاتَمِ عُثْمَانَ وَالْبَرِيدُ أَحَدُ غِلْمَانِ عُثْمَانَ، وَعَلَى جَمَلِ عُثْمَانَ، فَلَمَّا رَجَعُوا جَاءُوا بِالْكِتَابِ وَدَارُوا بِهِ عَلَى النَّاسِ، فَكَلَّمَ النَّاسُ أَمِيرَ

الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: بَيِّنَةٌ عَلَيَّ بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَوَاللَّهِ لَا كَتَبْتُ وَلَا أَمْلَيْتُ، وَلَا دَرَيْتُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَالْخَاتَمُ قَدْ يُزَوَّرُ عَلَى الْخَاتَمِ. فَصَدَّقَهُ الصَّادِقُونَ فِي ذَلِكَ، وَكَذَّبَهُ الْكَاذِبُونَ. وَيُقَالُ: إِنَّ أَهْلَ مِصْرَ كَانُوا قَدْ سَأَلُوا مِنْ عُثْمَانَ أَنْ يَعْزِلَ عَنْهُمُ ابْنَ أَبِي سَرْحٍ وَيُوَلِّيَ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ فَلَمَّا رَجَعُوا وَجَدُوا ذَلِكَ الْبَرِيدَ وَمَعَهُ الْكِتَابُ بِقَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَآخَرِينَ مَعَهُ، فَرَجَعُوا وَقَدْ حَنِقُوا عَلَيْهِ حَنَقًا شَدِيدًا، وَطَافُوا بِالْكِتَابِ عَلَى النَّاسِ فَدَخَلَ ذَلِكَ فِي أَذْهَانِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ الَّذِي كَانَ مَعَهُ هَذِهِ الرِّسَالَةُ مِنْ جِهَةِ عُثْمَانَ إِلَى مِصْرَ أَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ عَلَى جَمَلٍ لِعُثْمَانَ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَتَبُوا إِلَى الْآفَاقِ مِنَ الْمَدِينَةِ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْقُدُومِ عَلَى عُثْمَانَ لِيُقَاتِلُوهُ. وَهَذَا كَذِبٌ عَلَى الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا كُتِبَتْ كُتُبٌ مُزَوَّرَةٌ عَلَيْهِمْ، كَمَا كَتَبُوا مِنْ جِهَةِ عَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ إِلَى الْخَوَارِجِ كُتُبًا مُزَوَّرَةً عَلَيْهِمْ أَنْكَرُوهَا، وَهَكَذَا زُوِّرَ هَذَا الْكُتَّابُ عَلَى عُثْمَانَ أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَيْضًا.
وَاسْتَمَرَّ عُثْمَانُ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ كُلِّهَا، وَهُمْ أَحْقَرُ فِي عَيْنِهِ مِنَ التُّرَابِ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْجُمُعَاتِ وَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَفِي يَدِهِ الْعَصَا الَّتِي كَانَ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي خُطْبَتِهِ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، مِنْ بَعْدِهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أُولَئِكَ فَسَبَّهُ وَنَالَ مِنْهُ، وَأَنْزَلَهُ عَنِ الْمِنْبَرِ،

فَطَمِعَ النَّاسِ فِيهِ مِنْ يَوْمَئِذٍ، كَمَا قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَنْظُرُ إِلَى عُثْمَانَ يَخْطُبُ عَلَى عَصَا النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عَلَيْهَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَقَالَ لَهُ جَهْجَاهُ: قُمْ يَا نَعْثَلُ فَانْزِلْ عَنْ هَذَا الْمِنْبَرِ. وَأَخَذَ الْعَصَا فَكَسَرَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى فَدَخَلَتْ شَظِيَّةٌ مِنْهَا فِيهَا، فَبَقِيَ الْجُرْحُ حَتَّى أَصَابَتْهُ الْأَكِلَةُ فَرَأَيْتُهَا تُدَوِّدُ، فَنَزَلَ عُثْمَانُ وَحَمَلُوهُ وَأَمَرَ بِالْعَصَا فَشَدُّوهَا، فَكَانَتْ مُضَبَّبَةً، فَمَا خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَّا خَرْجَةً أَوْ خَرْجَتَيْنِ، حَتَّى حُصِرَ فَقُتِلَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ جَهْجَاهًا الْغِفَارِيَّ أَخَذَ عَصَا كَانَتْ فِي يَدِ عُثْمَانَ فَكَسَرَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ، فَرُمِيَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ بِأَكِلَةٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي حَبِيبَةَ قَالَ: خَطَبَ عُثْمَانُ النَّاسَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ قَدْ رَكِبْتَ نَهَابِيرَ وَرَكِبْنَاهَا مَعَكَ، فَتُبْ نَتُبْ. فَاسْتَقْبَلَ عُثْمَانُ

الْقِبْلَةَ وَشَهَرَ يَدَيْهِ قَالَ أَبُو حَبِيبَةَ: فَلَمْ أَرَ يَوْمًا أَكْثَرَ بَاكِيًا وَلَا بَاكِيَةً مِنْ يَوْمِئِذٍ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَامَ إِلَيْهِ جَهْجَاهُ الْغِفَارِيُّ فَصَاحَ: يَا عُثْمَانُ أَلَا إِنَّ هَذِهِ شَارِفٌ قَدْ جِئْنَا بِهَا عَلَيْهَا عَبَاءَةٌ وَجَامِعَةٌ، فَانْزِلْ فَلْنُدْرِجْكَ فِي الْعَبَاءَةِ، وَلْنَطْرَحْكَ فِي الْجَامِعَةِ، وَلْنَحْمِلْكَ عَلَى الشَّارِفِ، ثُمَّ نَطْرَحْكَ فِي جَبَلِ الدُّخَانِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: قَبَّحَكَ اللَّهُ وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ. ثُمَّ نَزَلَ عُثْمَانُ. قَالَ أَبُو حَبِيبَةَ: وَكَانَ آخِرَ يَوْمٍ رَأَيْتُهُ فِيهِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى عُثْمَانَ بِالْمَنْطِقِ السَّيِّئِ جَبَلَةُ بْنُ عَمْرٍو السَّاعِدِيُّ، مَرَّ بِهِ عُثْمَانُ وَهُوَ فِي نَادِي قَوْمِهِ، وَفِي يَدِ جَبَلَةَ جَامِعَةٌ، فَلَمَّا مَرَّ عُثْمَانُ سَلَّمَ فَرَدَّ الْقَوْمُ، فَقَالَ جَبَلَةُ لِمَ تَرُدُّونَ عَلَيْهِ ؟ رَجُلٌ قَالَ كَذَا وَكَذَا. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَطْرَحَنَّ هَذِهِ الْجَامِعَةَ فِي عُنُقِكَ أَوْ لَتَتْرُكَنَّ بِطَانَتَكَ هَذِهِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: أَيُّ بِطَانَةٍ ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لِأَتَخَيَّرُ النَّاسُ. فَقَالَ: مَرْوَانَ تَخَيَّرْتَهُ ؟! وَمُعَاوِيَةَ تَخَيَّرْتَهُ ؟! وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ تَخَيَّرْتَهُ ؟! وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ

بْنِ أَبِي سَرْحٍ تَخَيَّرْتَهُ ؟! مِنْهُمْ مَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِدَمِهِ، وَأَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَمَهُ. قَالَ: فَانْصَرَفَ عُثْمَانُ فَمَا زَالَ النَّاسُ مُجْتَرِئِينَ عَلَيْهِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعِ بْنِ نُقَاخَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الشَّرِيدِ قَالَ: مَرَّ عُثْمَانُ عَلَى جَبَلَةَ بْنِ عَمْرٍو السَّاعِدِيِّ وَهُوَ بِفَنَاءِ دَارِهِ، وَمَعَهُ جَامِعَةٌ فَقَالَ: يَا نَعْثَلُ، وَاللَّهِ لِأَقْتُلُنَّكَ وَلَأَحْمِلَنَّكَ عَلَى قَلُوصٍ جَرْبَاءَ، وَلِأُخْرِجُنَّكَ إِلَى حَرَّةِ النَّارِ. ثُمَّ جَاءَهُ مَرَّةً أُخْرَى وَعُثْمَانُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَأَنْزَلَهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ عُثْمَانَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَهُمْ أَيْضًا، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: يَا هَؤُلَاءِ الْعِدَا اللَّهَ اللَّهَ ! فَوَاللَّهِ إِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَيَعْلَمُونِ أَنَّكُمْ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَامْحُوَا الْخَطَأَ بِالصَّوَابِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ إِلَّا بِالْحَسَنِ. فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: أَنَا أَشْهَدُ بِذَلِكَ. فَأَخَذَهُ حَكِيمُ بْنُ جَبَلَةَ فَأَقْعَدَهُ، فَقَامَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَقَالَ: إِنَّهُ فِي الْكِتَابِ. فَثَارَ إِلَيْهِ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي قُتَيْرَةَ فَأَقْعَدَهُ وَقَالَ فَأَفْظَعَ، وَثَارَ الْقَوْمُ

بِأَجْمَعِهِمْ فَحَصَبُوا النَّاسَ حَتَّى أَخْرَجُوهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَحَصَبُوا عُثْمَانَ حَتَّى صُرِعَ مِنَ الْمِنْبَرِ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَاحْتُمِلَ وَأُدْخِلَ دَارَهُ، وَكَانَ الْمِصْرِيُّونَ لَا يَطْمَعُونَ فِي أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُسَاعِدَهُمْ إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ، وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ. وَأَقْبَلَ عَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ إِلَى عُثْمَانَ فِي أُنَاسٍ يَعُودُونَهُ وَيَشْكُونَ إِلَيْهِ بَثَّهُمْ وَمَا حَلَّ بِالنَّاسِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَاسْتَقْتَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فِي الْمُحَارَبَةِ عَنْ عُثْمَانَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ يُقْسِمُ عَلَيْهِمْ لَمَا كَفُّوا أَيْدِيَهُمْ وَسَكَنُوا حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ مَا يَشَاءُ.

صِفَةُ حَصْرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَشُجَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ وَهُوَ فِي رَأْسِ الْمِنْبَرِ، وَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، وَاحْتُمِلَ إِلَى دَارِهِ، تَفَاقَمَ الْأَمْرُ وَطَمِعَ فِيهِ أُولَئِكَ الْأَجْلَافُ الْأَخْلَاطُ مِنَ النَّاسِ وَأَلْجَئُوهُ إِلَى دَارِهِ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ، وَأَحَاطُوا بِهَا مُحَاصِرِينَ لَهُ،

وَلَزِمَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بُيُوتَهُمْ، وَسَارَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ عَنْ أَمْرِ آبَائِهِمْ ; مِنْهُمُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ - وَكَانَ أَمِيرَ الدَّارِ - وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَصَارُوا يُجَاحِفُونَ عَنْهُ، وَيُنَاضِلُونَ دُونَهُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَأَسْلَمَهُ بَعْضُ النَّاسِ رَجَاءَ أَنْ يُجِيبَ أُولَئِكَ إِلَى وَاحِدَةٍ مِمَّا سَأَلُوا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ طَلَبُوا مِنْهُ إِمَّا أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ أَوْ يُسْلِمَ إِلَيْهِمْ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، وَلَمْ يَقَعْ فِي خَلَدِ أَحَدٍ أَنَّهُ يُقْتَلُ، إِلَّا مَا كَانَ فِي نَفْسِ أُولَئِكَ الْخَارِجِينَ عَلَيْهِ. وَانْقَطَعَ عُثْمَانُ عَنِ الْمَسْجِدِ، فَكَانِ لَا يَخْرُجُ إِلَيْهِ إِلَّا قَلِيلًا فِي أَوَائِلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ انْقَطَعَ بِالْكُلِّيَّةِ فِي آخِرِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْغَافِقِيُّ بْنُ حَرْبٍ. وَقَدِ اسْتَمَرَّ الْحَصْرُ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا. حَتَّى كَانَ آخِرَ ذَلِكَ أَنْ قُتِلَ شَهِيدًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَعُثْمَانُ مَحْصُورٌ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ. وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّ عَلِيًّا صَلَّى أَيْضًا، وَصَلَّى

أَبُو أَيُّوبَ وَصَلَّى بِهِمْ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَكَانَ يَجْمَعُ بِهِمْ عَلِيٌّ، وَهُوَ الَّذِي صَلَّى بِهِمْ بَعْدُ. وَقَدْ خَاطَبَ النَّاسَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ، وَجَرَتْ أُمُورٌ سَنُورِدُ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ. وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، ثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ جَاوَانَ قَالَ: قَالَ الْأَحْنَفُ: انْطَلَقْنَا حُجَّاجًا فَمَرَرْنَا بِالْمَدِينَةِ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ فِي مَنْزِلِنَا إِذْ جَاءَنَا آتٍ فَقَالَ: النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَصَاحِبِي فَإِذَا النَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَى نَفَرٍ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ: فَتَخَلَّلْتُهُمْ حَتَّى قُمْتُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ جَاءَ عُثْمَانُ يَمْشِي، فَقَالَ: هَاهُنَا عَلِيٌّ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَهَاهُنَا الزُّبَيْرُ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَهَاهُنَا سَعْدٌ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَنْ يَبْتَاعُ مِرْبَدَ بَنِي فُلَانٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ فَابْتَعْتُهُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُهُ. فَقَالَ: " اجْعَلْهُ فِي مَسْجِدِنَا وَأَجْرُهُ لَكَ " ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَنْ يَبْتَاعُ بِئْرَ رُومَةَ ؟.

فَابْتَعْتُهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُهَا - يَعْنِي بِئْرَ رُومَةَ - فَقَالَ: اجْعَلْهَا سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَلَكَ أَجْرُهَا " ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ يَوْمَ جَيْشِ الْعُسْرَةِ فَقَالَ: مَنْ يُجَهِّزْ هَؤُلَاءِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ فَجَهَّزْتُهُمْ حَتَّى مَا يَفْقِدُونَ خِطَامًا وَلَا عِقَالًا ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ. ثُمَّ انْصَرَفَ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُصَيْنٍ، وَعِنْدَهُ: إِذْ جَاءَ عُثْمَانُ وَعَلَيْهِ مُلَاءَةٌ صَفْرَاءُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَوْسٍ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو عُبَادَةَ الزُّرَقِيُّ الْأَنْصَارِيُّ، مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ يَوْمَ حُصِرَ فِي مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ، وَلَوْ أُلْقِيَ حَجَرٌ لَمْ يَقَعْ إِلَّا عَلَى رَأْسِ رَجُلٍ، فَرَأَيْتُ عُثْمَانَ أَشْرَفَ مِنَ الْخَوْخَةِ الَّتِي تَلِي مَقَامَ جِبْرِيلَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَفِيكُمْ طَلْحَةُ ؟ فَسَكَتُوا. ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَفِيكُمْ طَلْحَةُ ؟ فَسَكَتُوا. ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَفِيكُمْ طَلْحَةُ ؟ فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: أَلَا

أَرَاكَ هَاهُنَا ؟ مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّكَ تَكُونُ فِي جَمَاعَةِ قَوْمٍ تَسْمَعُ نِدَائِي آخِرَ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ ثُمَّ لَا تُجِيبُنِي، أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا طَلْحَةُ، تَذْكُرُ يَوْمَ كُنْتُ أَنَا وَأَنْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ غَيْرِي وَغَيْرُكَ - فَقَالَ: نَعَمْ - فَقَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا طَلْحَةُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَمَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ رَفِيقٌ مِنْ أُمَّتِهِ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ هَذَا - يَعْنِينِي - رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ ؟. فَقَالَ طَلْحَةُ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. ثُمَّ انْصَرَفَ. لَمْ يُخْرِجُوهُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، ثَنَا هِلَالُ بْنُ حَقٍّ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ حَزْنٍ الْقُشَيْرِيِّ، قَالَ: شَهِدْتُ الدَّارَ يَوْمَ أُصِيبَ عُثْمَانُ، فَاطَّلَعَ عَلَيْهِمُ اطِّلَاعَةً، فَقَالَ: ادْعُوا لِي صَاحِبَيْكُمُ اللَّذَيْنِ أَلَّبَاكُمْ عَلَيَّ، فَدُعِيَا لَهُ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ، أَتَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا

قَدِمَ الْمَدِينَةَ ضَاقَ الْمَسْجِدُ بِأَهْلِهِ، فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي هَذِهِ الْبُقْعَةَ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ فَيَكُونَ فِيهَا كَالْمُسْلِمِينَ وَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ ؟. فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ خَالِصِ مَالِي فَجَعَلْتُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونِي أَنْ أُصَلِّيَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ! ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا بِئْرٌ يُسْتَعْذَبُ مِنْهُ إِلَّا بِئْرَ رُومَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَشْتَرِيهَا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ فَيَكُونَ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ ؟ فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ خَالِصِ مَالِي وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونِي أَنْ أَشْرَبَ مِنْهَا ! ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنِّي صَاحِبُ جَيْشِ الْعُسْرَةِ ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيِّ وَعَبَّاسٍ الدُّورِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ. كُلُّهُمْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِنْقَرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، ثَنَا الْقَاسِمُ - يَعْنِي ابْنَ الْفَضْلِ - ثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ

قَالَ: دَعَا عُثْمَانُ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكُمْ وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تُصْدُقُونِي، نَشَدْتُكُمُ اللَّهَ، أَتَعْلَمُونَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يُؤْثِرُ قُرَيْشًا عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَيُؤْثِرُ بَنِي هَاشِمٍ عَلَى سَائِرِ قُرَيْشٍ ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: لَوْ أَنَّ بِيَدِي مَفَاتِيحَ الْجَنَّةِ لَأَعْطَيْتُهَا بَنِي أُمَيَّةَ حَتَّى يَدْخُلُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ. فَبَعَثَ إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: أَلَا أُحَدِّثُكُمَا عَنْهُ - يَعْنِي عَمَّارًا - أَقْبَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، آخِذًا بِيَدِي نَتَمَشَّى فِي الْبَطْحَاءِ حَتَّى أَتَى عَلَى أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَعَلَيْهِ يُعَذَّبُونَ، فَقَالَ أَبُو عَمَّارٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الدَّهْرَ هَكَذَا ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اصْبِرْ ". ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِآلِ يَاسِرٍ وَقَدْ فَعَلْتَ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ مُغِيرَةَ بْنَ مُسْلِمٍ أَبَا سَلَمَةَ يَذْكُرُ عَنْ مَطَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُثْمَانَ أَشْرَفَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُوَ مَحْصُورٌ فَقَالَ: عَلَامَ تَقْتُلُونِي ؟ فَإِنِّي سَمِعْتُ

رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ؛ رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ، أَوْ قَتَلَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، أَوِ ارْتَدَّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ. فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَلَا قَتَلْتُ أَحَدًا فَأُقِيدَ نَفْسِي مِنْهُ، وَلَا ارْتَدَدْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ؛ إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْأَزْهَرِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ بِهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عُثْمَانَ فِي الدَّارِ وَهُوَ مَحْصُورٌ، قَالَ: وَكُنَّا نَدْخُلُ مُدْخَلًا إِذَا دَخَلْنَاهُ سَمِعْنَا كَلَامَ مَنْ عَلَى الْبَلَاطِ، قَالَ: فَدَخَلَ عُثْمَانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا مُنْتَقِعًا لَوْنُهُ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَيَتَوَعَّدُونِي بِالْقَتْلِ آنِفًا. قَالَ: قُلْنَا: يَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَقَالَ: وَبِمَ يَقْتُلُونِي ؟ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ؛ رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، أَوْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ. فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ قَطُّ، وَلَا تَمَنَّيْتُ بَدَلًا بِدِينِي مُذْ هَدَانِي اللَّهُ لَهُ، وَلَا قَتَلْتُ نَفْسًا، فَبِمَ يَقْتُلُونِي ؟. وَقَدْ رَوَاهُ أَهْلُ

" السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ " مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - زَادَ النَّسَائِيُّ: وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ - قَالَا: كُنَّا مَعَ عُثْمَانَ. فَذَكَرَهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، وَقَدْ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ فَرَفَعَهُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قَطَنٌ، حَدَّثَنَا يُونُسُ - يَعْنِي ابْنَ أَبِي إِسْحَاقَ - عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: أَشْرَفَ عُثْمَانُ مِنَ الْقَصْرِ وَهُوَ مَحْصُورٌ، فَقَالَ: أَنْشُدُ بِاللَّهِ مَنْ شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ حِرَاءَ، إِذِ اهْتَزَّ الْجَبَلُ فَرَكَلَهُ بِقَدَمِهِ، ثُمَّ قَالَ: اسْكُنْ حِرَاءُ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ، وَأَنَا مَعَهُ. فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ. قَالَ: أَنْشُدُ بِاللَّهِ مَنْ شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، إِذْ بَعَثَنِي إِلَى الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالَ: " هَذِهِ يَدِي وَهَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ " فَبَايَعَ لِي ؟ فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ. قَالَ: أَنْشُدُ بِاللَّهِ مَنْ شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ مَنْ يُوَسِّعُ لَنَا بِهَذَا الْبَيْتِ فِي الْمَسْجِدِ بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ ؟ فَابْتَعْتُهُ مِنْ مَالِي فَوَسَّعْتُ بِهِ الْمَسْجِدَ ؟ فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ. قَالَ: وَأَنْشُدُ بِاللَّهِ مَنْ شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ يَوْمَ جَيْشِ الْعُسْرَةِ قَالَ: مَنْ يُنْفِقُ الْيَوْمَ نَفَقَةً مُتَقَبَّلَةً ؟. فَجَهَّزْتُ نِصْفَ الْجَيْشِ مِنْ مَالِي ؟ فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ. وَأَنْشُدُ بِاللَّهِ مَنْ

شَهِدَ رُومَةَ يُبَاعُ مَاؤُهَا ابْنَ السَّبِيلِ، فَابْتَعْتُهَا مِنْ مَالِي فَأَبَحْتُهَا ابْنَ السَّبِيلِ ؟ قَالَ: فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ بَكَّارٍ، عَنْ خَطَّابِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ بِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَمَّا رَأَى مَا فَعَلَهُ هَؤُلَاءِ الْخَوَارِجُ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، مِنْ مُحَاصَرَتِهِ فِي دَارِهِ، وَمَنْعِهِ الْخُرُوجَ إِلَى الْمَسْجِدِ، كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، وَإِلَى ابْنِ عَامِرٍ بِالْبَصْرَةِ، وَإِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، يَسْتَنْجِدُهُمْ فِي بَعْثِ جَيْشٍ يَطْرُدُونَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ، وَانْتَدَبَ يَزِيدُ بْنُ أَسَدٍ الْقَسْرِيُّ فِي جَيْشٍ، وَبَعَثَ أَهْلُ الْكُوفَةِ جَيْشًا، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ جَيْشًا، فَلَمَّا سَمِعَ أُولَئِكَ بِخُرُوجِ الْجُيُوشِ إِلَيْهِمْ صَمَّمُوا فِي الْحِصَارِ، فَمَا اقْتَرَبَ الْجُيُوشُ إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى جَاءَهُمْ قَتْلُ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عُثْمَانَ اسْتَدْعَى الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ، وَوُضِعَتْ لِعُثْمَانَ وِسَادَةٌ فِي كُوَّةٍ مِنْ دَارِهِ، فَأَشْرَفَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: يَا أَشْتَرُ مَاذَا يُرِيدُونَ ؟ فَقَالَ: إِنَّهُمْ يُرِيدُونَ مِنْكَ إِمَّا أَنْ تَعْزِلَ نَفْسَكَ عَنِ الْإِمْرَةِ، وَإِمَّا أَنْ تُقِيدَ مِنْ نَفْسِكَ مَنْ قَدْ ضَرَبْتَهُ، أَوْ جَلَدْتَهُ، أَوْ حَبَسْتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلُوكَ.

وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَعْزِلَ نُوَّابَهُ عَنِ الْأَمْصَارِ وَيُوَلِّيَ عَلَيْهَا مَنْ يُرِيدُونَ هُمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْزِلْ نَفْسَهُ، أَنْ يُسْلِمَ لَهُمْ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فَيُعَاقِبُوهُ كَمَا زَوَّرَ عَلَى عُثْمَانَ كِتَابَهُ إِلَى مِصْرَ. فَخَشِيَ عُثْمَانُ إِنْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ، فَيَكُونَ سَبَبًا فِي قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَمَا فَعَلَ مِنَ الْأَمْرِ مَا يَسْتَحِقُّ بِسَبَبِهِ الْقَتْلَ، وَاعْتَذَرَ عَنِ الِاقْتِصَاصِ مِمَّا قَالُوا بِأَنَّهُ رَجُلٌ ضَعِيفُ الْبَدَنِ كَبِيرُ السِّنِّ. وَأَمَّا مَا سَأَلُوهُ مِنْ خَلْعِهِ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُ وَلَا يَنْزِعُ قَمِيصًا قَمَّصَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، وَيَتْرُكُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ يَعْدُو بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ إِلَيَّ مِنَ الْأَمْرِ إِنْ كُنْتُ كُلَّمَا كَرِهْتُمْ أَمِيرًا عَزَلْتُهُ، وَكُلَّمَا رَضِيتُمْ عَنْهُ وَلَّيْتُهُ ؟ وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُونِي لَا تَتَحَابُّوا بَعْدِي أَبَدًا، وَلَا تُصَلُّوا جَمِيعًا أَبَدًا، وَلَا تُقَاتِلُوا بَعْدِي عَدُوًّا جَمِيعًا أَبَدًا. وَقَدْ صَدَقَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا قَالَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، ثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ، حَدَّثَنِي النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ قَالَ: كَتَبَ مَعِي مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ كِتَابًا فَدَفَعَتْ إِلَيْهَا كِتَابَهُ، فَحَدَّثَتْنِي أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ لِعُثْمَانَ: إِنَّ اللَّهَ لَعَلَّهُ يُقَمِّصُكَ قَمِيصًا فَإِنْ أَرَادَكَ أَحَدٌ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ النُّعْمَانُ: فَقُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَيْنَ كُنْتِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، وَاللَّهِ أُنْسِيتُهُ. وَقَدْ رَوَاهُ

التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النُّعْمَانِ، عَنْ عَائِشَةَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْفَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ النُّعْمَانِ فَأَسْقَطَ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عَامِرٍ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا قَيْسٌ، عَنْ أَبِي سَهْلَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ادْعُوا لِي بَعْضَ أَصْحَابِي ". قُلْتُ: أَبُو بَكْرٍ ؟ قَالَ: " لَا ". قُلْتُ: عُمَرُ ؟ قَالَ: " لَا ". قُلْتُ: ابْنُ عَمِّكَ عَلِيٌّ ؟ قَالَ: " لَا ". قَالَتْ: قُلْتُ: عُثْمَانُ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: تَنَحَّيْ. فَجَعَلَ يُسَارُّهُ وَلَوْنُ عُثْمَانَ يَتَغَيَّرُ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الدَّارِ وَحُصِرَ فِيهَا قُلْنَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا تُقَاتِلُ ؟ قَالَ: لَا؛ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا وَإِنِّي صَابِرٌ نَفْسِي عَلَيْهِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ الدِّمَشْقِيُّ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا ثَوْرٍ الْفَهْمِيَّ يَقُولُ: قَدِمْتُ عَلَى

عُثْمَانَ فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ فَخَرَجْتُ فَإِذَا بِوَفْدِ أَهْلِ مِصْرَ قَدْ رَجَعُوا فَدَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ فَأَعْلَمْتُهُ، فَقَالَ: وَكَيْفَ رَأَيْتَهُمْ ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْتُ فِي وُجُوهِهِمُ الشَّرَّ، وَعَلَيْهِمُ ابْنُ عُدَيْسٍ الْبَلَوِيُّ، فَصَعِدَ ابْنُ عُدَيْسٍ مِنْبَرَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمُعَةَ وَتَنَقَّصَ عُثْمَانَ فِي خُطْبَتِهِ، فَدَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَامَ فِيهِمْ، فَقَالَ: كَذَبَ وَاللَّهِ ابْنُ عُدَيْسٍ، وَلَوْلَا مَا ذَكَرَ مَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ، إِنِّي لَرَابِعُ أَرْبَعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَقَدْ أَنْكَحَنِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ابْنَتَهُ، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ، فَأَنْكَحَنِي ابْنَتَهُ الْأُخْرَى، وَاللَّهِ وَلَا زَنَيْتُ وَلَا سَرَقْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَلَا تَعَتَّيْتُ وَلَا تَمَنَّيْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا مَسَسْتُ فَرْجِي بِيَمِينِي مُنْذُ بَايَعْتُ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَقَدْ جَمَعْتُ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَتَتْ عَلَيَّ جُمُعَةٌ إِلَّا وَأَنَا أُعْتِقُ فِيهَا رَقَبَةً مُنْذُ أَسْلَمْتُ، إِلَّا أَنْ لَا أَجِدَهَا فِي تِلْكَ الْجُمُعَةِ فَأَجْمَعَهَا فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ. وَرَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ قَالَ: لَقَدِ اخْتَبَأْتُ عِنْدَ رَبِّي عَشْرًا فَذَكَرَهُنَّ.

فَصْلٌ
كَانَ الْحِصَارُ مُسْتَمِرًّا مِنْ أَوَاخِرَ ذِي الْقِعْدَةِ إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةَ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ، قَالَ عُثْمَانُ لِلَّذِينِ عِنْدَهُ فِي الدَّارِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ سَبْعِمِائَةٍ؛ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ، وَمَرْوَانُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَخَلْقٌ مِنْ مَوَالِيهِ، وَلَوْ تَرَكَهُمْ لَمَنَعُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ: أُقْسِمَ عَلَى مَنْ لِي عَلَيْهِ حَقٌّ أَنْ يَكُفَّ يَدَهُ، وَأَنْ يَنْطَلِقَ إِلَى مَنْزِلِهِ. وَعِنْدَهُ مِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ وَأَبْنَائِهِمْ جَمٌّ غَفِيرٌ. وَقَالَ لِرَقِيقِهِ: مَنْ أَغْمَدَ سَيْفَهُ فَهُوَ حُرٌّ. فَبَرُدَ الْقِتَالُ مِنْ دَاخِلِ الدَّارِ، وَحَمِيَ مِنْ خَارِجٍ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عُثْمَانَ رَأَى فِي الْمَنَامِ رُؤْيَا دَلَّتْ عَلَى اقْتِرَابِ أَجَلِهِ، فَاسْتَسْلَمَ لِأَمْرِ اللَّهِ رَجَاءَ مَوْعُودِهِ، وَشَوْقًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِيَكُونَ خَيْرَ ابْنَيْ آدَمَ حَيْثُ قَالَ حِينَ أَرَادَ أَخُوهُ قَتْلَهُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [ الْمَائِدَةِ: 29 ]. وَرُوِيَ أَنَّ آخِرَ مَنْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ عُثْمَانَ مِنَ الدَّارِ بَعْدَ أَنْ عَزَمَ عَلَيْهِمْ فِي الْخُرُوجِ، الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَقَدْ جُرِحَ، وَكَانَ أَمِيرَ الْحَرْبِ عَلَى أَهْلِ الدَّارِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ أَوْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَلْبَسْ سِلَاحَهُ

بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا يَوْمَ الدَّارِ، وَيَوْمَ نَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَصْبَحَ يُحَدِّثُ النَّاسَ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: " يَا عُثْمَانُ أَفْطِرْ عِنْدَنَا ". فَأَصْبَحَ صَائِمًا وَقُتِلَ مِنْ يَوْمِهِ.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمَ، عَنْ رَجُلٍ قَالَ: دَخَلَ عَلَيْهِ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اخْرُجْ فَاجْلِسْ بِالْفَنَاءِ، فَيُرَى وَجْهُكَ، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ارْتَدَعُوا. فَضَحِكَ، وَقَالَ: يَا كَثِيرُ رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ وَكَأَنِّي دَخَلْتُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَقَالَ: " ارْجِعْ فَإِنَّكَ مُفْطِرٌ عِنْدِي غَدًا ". ثُمَّ قَالَ عُثْمَانُ: وَلَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ وَاللَّهِ غَدًا - أَوْ كَذَا وَكَذَا - إِلَّا وَأَنَا مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ. قَالَ: فَوَضَعَ سَعْدٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ السِّلَاحَ، وَأَقْبَلَا حَتَّى دَخَلَا عَلَى عُثْمَانَ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَلْقَمَةَ - مَوْلًى لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - حَدَّثَنِي ابْنُ الصَّلْتِ، قَالَ: أَغْفَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي قُتِلَ

فِيهِ فَاسْتَيْقَظَ فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: تَمَنَّى عُثْمَانُ أُمْنِيَةً لَحَدَّثْتُكُمْ. قَالَ: قُلْنَا أَصْلَحَكَ اللَّهُ، حَدِّثْنَا فَلَسْنَا نَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ. فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي مَنَامِي هَذَا فَقَالَ: " إِنَّكَ شَاهِدٌ مَعَنَا الْجُمُعَةَ ".
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ، ثَنَا خَلَفُ بْنُ تَمِيمٍ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ الْبَجَلِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ وَهُوَ مَحْصُورٌ فَقَالَ لِي: يَا كَثِيرُ، مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا يَوْمِي هَذَا. قَالَ: قُلْتُ: يَنْصُرُكَ اللَّهُ عَلَى عَدُوِّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: ثُمَّ أَعَادَ عَلَيَّ فَقُلْتُ: وُقِّتَ لَكَ فِي هَذَا الْيَوْمِ شَيْءٌ، أَوْ قِيلَ لَكَ شَيْءٌ ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي سَهِرْتُ فِي لَيْلَتِي هَذِهِ الْمَاضِيَةِ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ السَّحَرِ أَغْفَيْتُ إِغْفَاءَةً، فَرَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَرَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ لِي: يَا " عُثْمَانُ الْحَقْنَا لَا تَحْبِسْنَا، فَإِنَّا نَنْتَظِرُكَ ". قَالَ: فَقُتِلَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ فَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ لِأَسْلَمِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَحْصُورٌ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِأَخِي، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللَّيْلَةَ فِي هَذِهِ الْخَوْخَةِ - قَالَ: وَخَوْخَةٌ فِي الْبَيْتِ - فَقَالَ: " يَا عُثْمَانُ حَصَرُوكَ ؟ ". قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " عَطَّشُوكَ ؟ ". قُلْتُ: نَعَمْ. فَأَدْلَى دَلْوًا فِيهِ مَاءٌ فَشَرِبْتُ حَتَّى رَوَيْتُ، حَتَّى إِنِّي لَأَجِدُ بَرْدَهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ بَيْنَ كَتِفَيَّ، وَقَالَ

لِي: " إِنْ شِئْتَ نُصِرْتَ عَلَيْهِمْ وَإِنْ شِئْتَ أَفْطَرْتَ عِنْدَنَا ". فَاخْتَرْتُ أَنْ أُفْطِرَ عِنْدَهُ. فَقُتِلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، أَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا وُهَيْبٌ، ثَنَا دَاوُدُ عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أُمِّ هِلَالٍ بِنْتِ وَكِيعٍ، عَنِ امْرَأَةِ عُثْمَانَ - قَالَ: وَأَحْسَبُهَا بِنْتَ الْفَرَافِصَةِ - قَالَتْ: أَغْفَى عُثْمَانُ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ قَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ يَقْتُلُونَنِي. قُلْتُ: كَلَّا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالُوا: " أَفْطِرْ عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ ". أَوْ: " إِنَّكَ تُفْطِرُ عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ ".
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ أَحْمَدَ الْعَسْقَلَانِيُّ، ثَنَا شَبَابَةُ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي رَاشِدٍ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُرَشِيِّ، وَعُقْبَةَ بْنِ أُسَيْدٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ نَائِلَةَ بِنْتِ الْفَرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةِ - امْرَأَةِ عُثْمَانَ - قَالَتْ: لَمَّا حُصِرَ عُثْمَانُ ظَلَّ الْيَوْمَ الَّذِي كَانَ قَبْلَ قَتْلِهِ صَائِمًا، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ إِفْطَارِهِ سَأَلَهُمُ الْمَاءَ الْعَذْبَ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَقَالُوا:

دُونَكَ ذَلِكَ الرَّكِيَّ - وَرَكِيٌّ فِي الدَّارِ الَّذِي يُلْقَى فِيهِ النَّتِنُ - قَالَتْ: فَلَمْ يُفْطِرْ، فَأَتَيْتُ جَارَاتٍ لَنَا عَلَى أَجَاجِيرَ مُتَوَاصِلَةٍ - وَذَلِكَ فِي السَّحَرِ - فَسَأَلْتُهُمُ الْمَاءَ الْعَذْبَ فَأَعْطَوْنِي كُوزًا مِنْ مَاءٍ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: هَذَا مَاءٌ عَذْبٌ أَتَيْتُكَ بِهِ. قَالَتْ: فَنَظَرَ فَإِذَا الْفَجْرُ قَدْ طَلَعَ فَقَالَ: إِنِّي أَصْبَحْتُ صَائِمًا. قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَمِنْ أَيْنَ وَلَمْ أَرَ أَحَدًا أَتَاكَ بِطَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ ؟ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اطَّلَعَ عَلَيَّ مِنْ هَذَا السَّقْفِ وَمَعَهُ دَلْوٌ مِنْ مَاءٍ فَقَالَ: " اشْرَبْ يَا عُثْمَانُ ". فَشَرِبْتُ حَتَّى رَوِيتُ ثُمَّ قَالَ: " ازْدَدْ ". فَشَرِبْتُ حَتَّى نَهِلْتُ ثُمَّ قَالَ: " أَمَا إِنَّ الْقَوْمَ سَيَبْكُرُونَ عَلَيْكَ، فَإِنْ قَاتَلْتَهُمْ ظَفِرْتَ، وَإِنْ تَرَكْتَهُمْ أَفْطَرْتَ عِنْدَنَا ". قَالَتْ: فَدَخَلُوا عَلَيْهِ مِنْ يَوْمِهِ فَقَتَلُوهُ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي عُثْمَانُ

بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي يَعْفُورٍ الْعَبْدِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُسْلِمٍ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، أَنَّ عُثْمَانَ أَعْتَقَ عِشْرِينَ مَمْلُوكًا، وَدَعَا بِسَرَاوِيلَ فَشَدَّهَا وَلَمْ يَلْبَسْهَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْمَنَامِ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَإِنَّهُمْ قَالُوا لِي: " اصْبِرْ فَإِنَّكَ تُفْطِرُ عِنْدَنَا الْقَابِلَةَ ". ثُمَّ دَعَا بِمُصْحَفٍ فَنَشَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقُتِلَ وَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ. قُلْتُ: إِنَّمَا لَبِسَ السَّرَاوِيلَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي هَذَا الْيَوْمِ لِئَلَّا تَبْدُوَ عَوْرَتَهُ إِذَا قُتِلَ ; فَإِنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الْحَيَاءِ، كَانَتْ تَسْتَحْيِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ، كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَوَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمُصْحَفَ يَتْلُو فِيهِ، وَاسْتَسْلَمَ لِقَضَاءِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَكَفَّ يَدَهُ عَنِ الْقِتَالِ، وَأَمَرَ النَّاسَ وَعَزَمَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا دُونَهُ، وَلَوْلَا عَزِيمَتُهُ عَلَيْهِمْ لَنَصَرُوهُ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَلَكِنْ كَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: إِنَّ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَوْصَى إِلَى الزُّبَيْرِ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ فَتَّشُوا خَزَائِنَهُ فَوَجَدُوا فِيهَا صُنْدُوقًا مُقْفَلًا، فَفَتَحُوهُ فَوَجَدُوا فِيهِ حُقَّةً فِيهَا وَرَقَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا: هَذِهِ وَصِيَّةُ عُثْمَانَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، عَلَيْهَا يَحْيَا وَعَلَيْهَا يَمُوتُ، وَعَلَيْهَا يُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ يَوْمَ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ:
أَرَى الْمَوْتَ لَا يُبْقِي عَزِيزًا وَلَمْ يَدَعْ لِعَادٍ مَلَاذًا فِي الْبِلَادِ وَمُرْتَقَى
وَقَالَ أَيْضًا:
يُبَيِّتُ أَهْلَ الْحِصْنِ وَالْحِصْنُ مُغْلَقٌ وَيَأْتِي الْجِبَالَ فِي شَمَارِيخِهَا الْعُلَا

صِفَةُ قَتْلِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، ثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَنْبَأَنِي وَثَّابٌ قَالَ: بَعَثَنِي عُثْمَانُ فَدَعَوْتُ لَهُ الْأَشْتَرَ فَقَالَ: مَا يُرِيدُ النَّاسُ ؟ قَالَ: ثَلَاثٌ لَيْسَ مِنْ إِحْدَاهُنَّ بُدٌّ. قَالَ: مَا هُنَّ ؟ قَالَ: يُخَيِّرُونَكَ بَيْنَ أَنْ تَخْلَعَ لَهُمْ أَمْرَهُمْ فَتَقُولَ: هَذَا أَمْرُكُمْ فَاخْتَارُوا مَنْ شِئْتُمْ، وَبَيْنَ أَنْ تُقِصَّ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ الْقَوْمَ قَاتِلُوكَ. فَقَالَ: أَمَّا أَنْ أَخْلَعَ لَهُمْ أَمْرَهُمْ فَمَا كُنْتُ لِأَخْلَعَ سِرْبَالًا سَرْبَلَنِيهِ اللَّهُ، وَأَمَّا أَنْ أُقِصَّ لَهُمْ مِنْ نَفْسِي، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ صَاحِبَيَّ بَيْنَ يَدَيَّ قَدْ كَانَا يُعَاقِبَانِ، وَمَا يَقُومُ بَدَنِي بِالْقِصَاصِ، وَأَمَّا أَنْ يَقْتُلُونِي، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُونِي لَا تَحَابُّونَ بَعْدِي أَبَدًا، وَلَا تُصَلُّونَ بَعْدِي جَمِيعًا أَبَدًا،

وَلَا تُقَاتِلُونَ بَعْدِي عَدُوًّا جَمِيعًا أَبَدًا. قَالَ: وَجَاءَ رُوَيْجِلٌ كَأَنَّهُ ذِئْبٌ فَاطَّلَعَ مِنْ بَابٍ وَرَجَعَ، وَجَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ فَقَالَ بِهَا حَتَّى سَمِعْتُ وَقْعَ أَضْرَاسِهِ، فَقَالَ: مَا أَغْنَى عَنْكَ مُعَاوِيَةُ، وَمَا أَغْنَى عَنْكَ ابْنُ عَامِرٍ، وَمَا أَغْنَتْ عَنْكَ كُتُبُكَ. قَالَ: أَرْسِلْ لِحْيَتِي يَا ابْنَ أَخِي. قَالَ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ اسْتَعْدَى رَجُلًا مِنَ الْقَوْمِ بِعَيْنِهِ - يَعْنِي أَشَارَ إِلَيْهِ - فَقَامَ إِلَيْهِ بِمِشْقَصٍ فَوَجَأَ بِهِ رَأْسَهُ. قُلْتُ: ثُمَّ مَهْ ؟ قَالَ: ثُمَّ تَعَاوَرُوا عَلَيْهِ وَاللَّهِ حَتَّى قَتَلُوهُ.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ التَّمِيمِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَنِ الْغُصْنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ خَنْسَاءَ مَوْلَاةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - وَكَانَتْ تَكُونُ مَعَ نَائِلَةَ بِنْتِ الْفَرَافِصَةِ امْرَأَةِ عُثْمَانَ - أَنَّهَا كَانَتْ فِي الدَّارِ، وَدَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَأَهْوَى بِمَشَاقِصَ مَعَهُ لِيَجَأَ بِهَا فِي حَلْقِهِ، فَقَالَ: مَهْلًا يَا ابْنَ أَخِي، فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتَ مَأْخَذًا مَا كَانَ أَبُوكَ لِيَأْخُذَ بِهِ. فَتَرَكَهُ وَانْصَرَفَ مُسْتَحْيِيًا نَادِمًا، فَاسْتَقْبَلَهُ الْقَوْمُ عَلَى بَابِ الصُّفَّةِ، فَرَدَّهُمْ طَوِيلًا حَتَّى غَلَبُوهُ فَدَخَلُوا، وَخَرَجَ مُحَمَّدٌ رَاجِعًا، فَأَتَاهُ رَجُلٌ بِيَدِهِ جَرِيدَةٌ يُقَدِّمُهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَى عُثْمَانَ، فَضَرَبَ بِهَا رَأْسَهُ فَشَجَّهُ،

فَقَطَرَ دَمُهُ عَلَى الْمُصْحَفِ حَتَّى لَطَّخَهُ، ثُمَّ تَغَاوَوْا عَلَيْهِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَضَرَبَهُ عَلَى الثَّدْيِ بِالسَّيْفِ، وَوَثَبَتْ نَائِلَةُ بِنْتُ الْفَرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةُ فَصَاحَتْ وَأَلْقَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: يَا بِنْتَ شَيْبَةَ أَيُقْتَلُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ! وَأَخَذَتِ السَّيْفَ فَقَطَعَ الرَّجُلُ يَدَهَا، وَانْتَهَبُوا مَتَاعَ الدَّارِ، وَمَرَّ رَجُلٌ عَلَى عُثْمَانَ وَرَأْسُهُ مَعَ الْمُصْحَفِ، فَضَرَبَ رَأَسَهُ بِرِجْلِهِ وَنَحَّاهُ عَنِ الْمُصْحَفِ وَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَجْهَ كَافِرٍ أَحْسَنَ، وَلَا مَضْجَعَ كَافِرٍ أَكْرَمَ. فَلَا وَاللَّهِ مَا تَرَكُوا فِي دَارِهِ شَيْئًا حَتَّى الْأَقْدَاحَ إِلَّا ذَهَبُوا بِهِ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ عُثْمَانَ لَمَّا عَزَمَ عَلَى أَهْلِ الدَّارِ فِي الِانْصِرَافِ، وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ سِوَى أَهْلِهِ تَسَوَّرُوا عَلَيْهِ الدَّارَ، وَأَحْرَقُوا الْبَابَ وَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا أَبْنَائِهِمْ إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَسَبَقَهُ بَعْضُهُمْ فَضَرَبُوهُ حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ وَصَاحَ النِّسْوَةُ فَانْذَعَرُوا وَخَرَجُوا، وَدَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ قُتِلَ، فَلَمَّا رَآهُ قَدْ أَفَاقَ قَالَ: عَلَى أَيِّ دِينٍ أَنْتَ يَا نَعْثَلُ ؟ قَالَ: عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَسْتُ بِنَعْثَلٍ، وَلَكِنِّي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: غَيَّرْتَ كِتَابَ اللَّهِ. فَقَالَ: كِتَابُ اللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَقَالَ: إِنَّا لَا يُقْبَلُ مِنَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ نَقُولَ:

رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [ الْأَحْزَابِ: 67 ]. وَشَحَطَهُ بِيَدِهِ مِنَ الْبَيْتِ إِلَى بَابِ الدَّارِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا ابْنَ أَخِي مَا كَانَ أَبُوكَ لِيَأْخُذَ بِلِحْيَتِي. وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ - يُلَقَّبُ حِمَارًا وَيُكَنَّى، بِأَبِي رُومَانَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْمُهُ رُومَانُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ أَزْرَقَ أَشْقَرَ. وَقِيلَ: كَانَ اسْمُهُ سُودَانَ بْنَ رُومَانَ الْمُرَادِيَّ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ اسْمُ الَّذِي قَتَلَ عُثْمَانَ أَسْوَدُ بْنُ حُمْرَانَ ضَرَبَهُ بِحَرْبَةٍ - وَبِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا فَقَالَ: أَفْرِجُوا. ثُمَّ جَاءَ فَضَرَبَهُ بِهِ فِي صَدْرِهِ حَتَّى أَقْعَصَهُ، ثُمَّ وَضَعَ ذُبَابَ السَّيْفِ فِي بَطْنِهِ وَاتَّكَأَ عَلَيْهِ وَتَحَامَلَ حَتَّى قَتَلَهُ، وَقَامَتْ نَائِلَةُ دُونَهُ فَقَطَعَ السَّيْفُ أَصَابِعَهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَيُرْوَى أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ طَعْنَهُ بِمَشَاقِصَ فِي أُذُنِهِ حَتَّى دَخَلَتْ حَلْقَهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ اسْتَحْيَى وَرَجَعَ حِينَ قَالَ لَهُ عُثْمَانُ: لَقَدْ أَخَذْتَ بِلِحْيَةٍ كَانَ أَبُوكَ يُكْرِمُهَا. فَتَذَمَّمَ مِنْ ذَلِكَ وَغَطَّى وَجْهَهُ وَرَجَعَ وَجَاحَفَ دُونَهُ فَلَمْ يُفِدْ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا.

وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، أَنَّ كِنَانَةَ بْنَ بِشْرٍ ضَرَبَ جَبِينَهُ وَمُقَدَّمَ رَأْسِهِ بِعَمُودٍ حَدِيدٍ، فَخَرَّ لِجَنْبِهِ، وَضَرَبَهُ سُودَانُ بْنُ حُمْرَانَ الْمُرَادِيُّ بَعْدَ مَا خَرَّ لِجَنْبِهِ فَقَتَلَهُ، وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ فَوَثَبَ عَلَى عُثْمَانَ فَجَلَسَ عَلَى صَدْرِهِ وَبِهِ رَمَقٌ، فَطَعَنَهُ تِسْعَ طَعَنَاتٍ وَقَالَ: أَمَّا ثَلَاثٌ مِنْهُنَّ فَلِلَّهِ، وَسِتٌّ لِمَا كَانَ فِي صَدْرِي عَلَيْهِ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَدَقَةَ الْبَغْدَادِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ دَاوُدَ الصَّوَّافُ التُّسْتَرِيُّ، قَالَا: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ، ثَنَا سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، ثَنَا مُبَارَكٌ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي سَيَّافُ عُثْمَانَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: ارْجِعْ يَا ابْنَ أَخِي فَلَسْتَ بِقَاتِلِي. قَالَ: وَكَيْفَ عَلِمْتَ ذَاكَ ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ أُتِيَ بِكَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ سَابِعِكَ فَحَنَّكَكَ وَدَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ. ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ سَوَاءً. ثُمَّ دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أَنْتَ قَاتِلِي. قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ يَا نَعْثَلُ ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ أُتِيَ بِكَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ سَابِعِكَ لِيُحَنِّكَكَ وَيَدْعُوَ لَكَ بِالْبَرَكَةِ، فَخَرِيتَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَوَثَبَ عَلَى صَدْرِهِ وَقَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ، وَوَجَأَهُ بِمَشَاقِصَ كَانَتْ فِي يَدِهِ. هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَفِيهِ نَكَارَةٌ.

وَثَبَتَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ أَوَّلَ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ سَقَطَتْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [ الْبَقَرَةِ: 137 ]. وَيُرْوَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهَا فِي التِّلَاوَةِ أَيْضًا حِينَ دَخَلُوا عَلَيْهِ. وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ وَضَعَ الْمُصْحَفَ يَقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنَ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ لَمَّا طُعِنَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ فَلَمَّا قَطَرَ الدَّمُ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي " تَارِيخِهِ " بِأَسَانِيدِهِ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ لَمَّا وَجَدُوا ذَلِكَ الْكِتَابَ مَعَ الْبَرِيدِ إِلَى أَمِيرِ مِصْرَ، فِيهِ الْأَمْرُ بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ، وَصَلْبِ بَعْضِهِمْ، وَبِقَطْعِ أَيْدِي بَعْضِهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ، وَكَانَ قَدْ كَتَبَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ عَلَى لِسَانِ عُثْمَانَ مُتَأَوِّلًا قَوْلَهُ تَعَالَى إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ الْمَائِدَةِ: 33 ]. وَعِنْدَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِنْ جُمْلَةِ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ، لَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْتَاتَ عَلَى عُثْمَانَ وَيَكْتُبَ عَلَى لِسَانِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، وَيُزَوِّرَ عَلَى خَطِّهِ وَخَاتَمِهِ، وَيَبْعَثَ غُلَامَهُ عَلَى بَعِيرِهِ بَعْدَ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَ عُثْمَانَ وَبَيْنَ الْمِصْرِيِّينَ عَلَى تَأْمِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى مِصْرَ، بِخِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلِهَذَا لَمَّا

وَجَدُوا هَذَا الْكِتَابَ عَلَى خِلَافِ مَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ، وَظَنُّوا أَنَّهُ مِنْ عُثْمَانَ، أَعْظَمُوا ذَلِكَ، مَعَ مَا هُمْ مُشْتَمَلُونَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ، فَرَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَطَافُوا بِهِ عَلَى رُءُوسِ الصَّحَابَةِ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَوْمٌ آخَرُونَ، حَتَّى ظَنَّ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنَّ هَذَا عَنْ أَمْرِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمَّا قِيلَ لِعُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي أَمْرِ هَذَا الْكِتَابِ بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْمِصْرِيِّينَ، حَلَفَ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ الرَّاشِدُ - أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ هَذَا الْكِتَابَ وَلَا أَمَلَاهُ عَلَى مَنْ كَتَبَهُ، وَلَا عِلْمَ بِهِ فَقَالُوا لَهُ: فَإِنَّ عَلَيْهِ خَاتَمَكَ. فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُزَوَّرُ عَلَى خَطِّهِ وَخَاتَمِهِ. قَالُوا: فَإِنَّهُ مَعَ غُلَامِكَ وَعَلَى جَمَلِكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَمْ أَشْعُرْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالُوا لَهُ بَعْدَ كُلِّ مَقَالِهِ: إِنْ كُنْتَ قَدْ كَتَبْتَهُ فَقَدْ خُنْتَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ كَتَبْتَهُ بَلْ كُتِبَ عَلَى لِسَانِكَ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ فَقَدْ عَجَزْتَ، وَمِثْلُكَ لَا يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ ; إِمَّا لِخِيَانَتِكَ، وَإِمَّا لِعَجْزِكَ.
وَهَذَا الَّذِي قَالُوا بَاطِلٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَإِنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ كَتَبَ الْكِتَابَ - وَهُوَ لَمْ يَكْتُبْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ - لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ رَأَى ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْأُمَّةِ فِي إِزَالَةِ شَوْكَةِ هَؤُلَاءِ الْبُغَاةِ الْخَارِجِينَ عَلَى الْإِمَامِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَ بِهِ فَأَيُّ عَجْزٍ يُنْسَبُ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَزُوِّرَ عَلَى لِسَانِهِ ؟ ! وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْصُومٍ بَلِ الْخَطَأُ وَالْغَفْلَةُ جَائِزَانِ عَلَيْهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ الْبُغَاةُ مُتَعَنِّتُونَ خَوَنَةٌ ظَلَمَةٌ مُفْتَرُونَ، وَلِهَذَا صَمَّمُوا بَعْدَ هَذَا عَلَى حَصْرِهِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ حَتَّى مَنَعُوهُ الْمِيرَةَ وَالْمَاءَ وَالْخُرُوجَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَتَهَدَّدُوهُ بِالْقَتْلِ، وَلِهَذَا خَاطَبَهُمْ بِمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ مِنْ تَوْسِعَةِ الْمَسْجِدِ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ مُنِعَ مِنْهُ، وَمِنْ وَقْفِهِ بِئْرَ رُومَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ مُنِعَ مَاءَهَا، وَمِنْ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ; النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ

الزَّانِي، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ نَفَسًا، وَلَا ارْتَدَّ بَعْدَ إِيمَانِهِ، وَلَا زَنَى فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، بَلْ وَلَا مَسَّ فَرْجَهُ بِيَمِينِهِ بَعْدَ أَنْ بَايَعَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي رِوَايَةٍ بَعْدَ أَنْ كَتَبَ بِهَا الْمُفَصَّلَ. ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمْ مِنْ فَضَائِلِهِ وَمَنَاقِبِهِ مَا لَعَلَّهُ يَنْجَعُ فِيهِمْ بِالْكَفِّ عَنْهُ وَالرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، فَأَبَوْا إِلَّا الِاسْتِمْرَارَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ. وَمَنَعُوا النَّاسَ مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهِ وَالْخُرُوجِ مِنْ عِنْدِهِ، حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَالُ، وَضَاقَ الْمَجَالُ، وَنَفَدَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَاءِ، فَاسْتَغَاثَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ فَرَكِبَ عَلِيٌّ بِنَفْسِهِ وَحَمَلَ مَعَهُ قِرَبًا مِنَ الْمَاءِ فَبِالْجَهْدِ حَتَّى أَوْصَلَهَا إِلَيْهِ بَعْدَ مَا نَالَهُ مِنْ جَهَلَةِ أُولَئِكَ كَلَامٌ غَلِيظٌ، وَتَنْفِيرٌ لِدَابَّتِهِ، وَإِخْرَاقٌ عَظِيمٌ بَلِيغٌ، وَكَانَ قَدْ زَجَرَهُمْ أَتَمَّ الزَّجْرِ، حَتَّى قَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ لَا يَفْعَلُونَ كَفِعْلِكُمْ هَذَا بِهَذَا الرَّجُلِ، وَاللَّهِ إِنَّهُمْ لِيَأْسِرُونِ فَيُطْعِمُونَ وَيَسْقُونَ. فَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ حَتَّى رَمَى بِعِمَامَتِهِ فِي وَسَطِ الدَّارِ، وَجَاءَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رَاكِبَةً بَغْلَةً وَحَوْلَهَا حَشَمُهَا وَخَدَمُهَا، فَقَالُوا: مَا جَاءَ بِكِ ؟ فَقَالَتْ: إِنْ عِنْدَهُ وَصَايَا بَنِي أُمَيَّةَ لِأَيْتَامٍ وَأَرَامِلَ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُذَكِّرَهُ بِهَا. فَكَذَّبُوهَا فِي ذَلِكَ، وَنَالَهَا مِنْهُمْ شِدَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَقَطَعُوا حِزَامَ الْبَغْلَةِ وَنَدَّتْ بِهَا، وَكَادَتْ أَوْ سَقَطَتْ عَنْهَا، وَكَادَتْ تُقْتَلُ لَوْلَا تَلَاحَقَ بِهَا النَّاسُ فَأَمْسَكُوا بِدَابَّتِهَا، وَوَقَعَ أَمْرٌ كَبِيرٌ جِدًّا، وَلَمْ يَبْقَ يَحْصُلُ لِعُثْمَانَ وَأَهْلِهِ مِنَ الْمَاءِ إِلَّا مَا يُوصِلُهُ إِلَيْهِمْ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي الْخُفْيَةِ لَيْلًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

وَلَمَّا وَقَعَ هَذَا أَعْظَمَهُ النَّاسُ جِدًّا، وَلَزِمَ أَكْثَرُ النَّاسِ بُيُوتَهُمْ، وَجَاءَ وَقْتُ الْحَجِّ فَخَرَجَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّكِ لَوْ أَقَمْتِ كَانَ أَصْلَحَ، لَعَلَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَهَابُونَكِ. فَقَالَتْ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ أُشِيرَ عَلَيْهِمْ بِرَأْيٍ فَيَنَالَنِي مِنْهُمْ مِنَ الْأَذِيَّةِ مَا نَالَ أُمَّ حَبِيبَةَ. فَعَزَمَتْ عَلَى الْخُرُوجِ.
وَاسْتَخْلَفَ عُثْمَانُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْحَجِّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ مُقَامِي عَلَى بَابِكَ أُجَاحِفُ عَنْكَ أَفْضَلُ مِنَ الْحَجِّ. فَعَزَمَ عَلَيْهِ فَخَرَجَ بِالنَّاسِ إِلَى الْحَجِّ، وَاسْتَمَرَّ الْحِصَارُ بِالدَّارِ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَرَجَعَ الْبَشِيرُ مِنَ الْحَجِّ، فَأَخْبَرَ بِسَلَامَةِ النَّاسِ، وَأَخْبَرَ أُولَئِكَ بِأَنَّ أَهْلَ الْمَوْسِمِ عَازِمُونَ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَكُفُّوكُمْ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَبَلَغَهُمْ أَيْضًا أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدْ بَعَثَ جَيْشًا مَعَ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ قَدْ نَفَّذَ آخَرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُدَيْجٍ، وَأَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ قَدْ بَعَثُوا الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو فِي جَيْشٍ، وَأَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ بَعَثُوا مُجَاشِعًا فِي جَيْشٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ صَمَّمُوا عَلَى أَمْرِهِمْ وَبَالَغُوا فِيهِ وَانْتَهَزُوا الْفُرْصَةَ بِقِلَّةِ النَّاسِ وَغَيْبَتِهِمْ فِي الْحَجِّ، وَأَحَاطُوا بِالدَّارِ، وَجَدُّوا فِي الْحِصَارِ، وَأَحْرَقُوا الْبَابَ، وَتَسَوَّرُوا مِنَ الدَّارِ الْمُتَاخِمَةِ لِلدَّارِ ; كَدَارِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهَا، وَجَاحَفَ النَّاسُ عَنْ عُثْمَانَ أَشَدَّ الْمُجَاحَفَةِ، وَاقْتَتَلُوا عَلَى الْبَابِ قِتَالًا شَدِيدًا، وَتَبَارَزُوا وَتَرَاجَزُوا بِالشِّعْرِ فِي مُبَارَزَتِهِمْ، وَجَعَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: هَذَا يَوْمٌ طَابَ امْضِرَابُ. وَقُتِلَ طَائِفَةٌ مِنْ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهل التأويل يتعرون أمام قانوني الحق والميزان

    بسم الله الرحمن الرحيم خلاصة قانون الحق = أن الله خلق السماوات والارض وما فيهم وما بينهم وما لأجلهم بقدر قام في وقت محدد وزمن مع...