26//3..ابْنُ
الرَّاوَنْدِيِّ.
الزِّنْدِيقُ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ أَبُو الْحُسَيْنِ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ، أَحَدُ مَشَاهِيرِ الزَّنَادِقَةِ الْمُلْحِدِينَ
- عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ - كَانَ أَبُوهُ يَهُودِيًّا
فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ حَرَّفَ فِي التَّوْرَاةِ كَمَا
عَادَى ابْنُهُ الْقُرْآنَ بِالْقُرْآنِ وَأَلْحَدَ فِيهِ، وَصَنَّفَ كِتَابًا فِي
الرَّدِّ عَلَى الْقُرْآنِ سَمَّاهُ " الدَّامِغَ " وَكِتَابًا فِي
الرَّدِّ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَالِاعْتِرَاضِ عَلَيْهَا سَمَّاهُ "
الزُّمُرُّدَ " وَلَهُ كِتَابُ " التَّاجِ " فِي مَعْنَى ذَلِكَ
وَلَهُ كِتَابُ " الْفَرِيدِ " وَكِتَابُ " إِمَامَةِ الْمَفْضُولِ
".
وَقَدِ انْتَصَبَ لِلرَّدِّ عَلَى كُتُبِهِ هَذِهِ جَمَاعَةٌ: مِنْهُمُ الشَّيْخُ
أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْجُبَّائِيُّ شَيْخُ
الْمُعْتَزِلَةِ فِي زَمَانِهِ وَقَدْ أَجَادَ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ وَلَدُهُ
أَبُو هَاشِمٍ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: قَرَأْتُ كِتَابَ الْمُلْحِدِ
الْجَاهِلِ السَّفِيهِ ابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ فِلْمْ أَجِدْ فِيهِ إِلَّا
السَّفَهَ وَالْكَذِبَ وَالِافْتِرَاءَ.
قَالَ: وَقَدْ وَضَعَ كِتَابًا فِي قِدَمِ الْعَالَمِ وَنَفْيِ الصَّانِعِ
وَتَصْحِيحِ مَذْهَبِ الدَّهْرِيَّةِ وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ التَّوْحِيدِ
وَوَضَعَ كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا مِنْ كِتَابِهِ، وَنَسَبَهُ
إِلَى الْكَذِبِ، وَطَعَنَ عَلَى الْقُرْآنِ وَوَضَعَ كِتَابًا لِلْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى وَفَضَّلَ دِينَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، يَحْتَجُّ لَهُمْ فِيهَا
عَلَى إِبْطَالِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي تُبَيِّنُ خُرُوجَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ،
نَقَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْهُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ " طَرَفًا مِنْ
كَلَامِهِ وَزَنْدَقَتِهِ وَطَعْنِهِ عَلَى الْآيَاتِ وَالشَّرِيعَةِ وَرَدَّ
عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَقَلُّ وَأَخَسُّ وَأَذَلُّ مِنْ أَنْ يُلْتَفَتَ
إِلَيْهِ وَإِلَى جَهْلِهِ وَكَلَامِهِ وَهَذَيَانِهِ وَسَفَهِهِ وَخِذْلَانِهِ
وَتَمْوِيهِهِ وَتَرْوِيجِهِ وَطُغْيَانِهِ.
وَقَدْ أَسْنَدَ إِلَيْهِ حِكَايَاتٍ مِنَ الْمَسْخَرَةِ وَالِاسْتِهْتَارِ
وَالْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ، مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ عَنْهُ، وَمِنْهَا مَا هُوَ
مُفْتَعَلٌ عَلَيْهِ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ وَعَلَى طَرِيقِهِ وَمَسْلَكِهِ
فِي الْكُفْرِ وَالتَّسَتُّرِ بِالْمَسْخَرَةِ، وَقَدْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا
كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ
تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [
التَّوْبَةِ: 65، 66 ].
وَقَدْ كَانَ أَبُو عِيسَى الْوَرَّاقُ مُصَاحِبًا لِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ -
قَبَّحَهُمَا اللَّهُ - فَلَمَّا عَلِمَ النَّاسُ بِأَمْرِهِمَا طَلَبَ
السُّلْطَانُ أَبَا عِيسَى، فَأُودِعَ السِّجْنَ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَأَمَّا ابْنُ
الرَّاوَنْدِيِّ فَهَرَبَ وَلَجَأَ إِلَى ابْنِ لَاوِي الْيَهُودِيِّ وَصَنَّفَ
لَهُ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ عَنْهُ كِتَابَهُ الَّذِي سَمَّاهُ " الدَّامِغَ
لِلْقُرْآنِ " فَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَهُ إِلَّا أَيَّامًا يَسِيرَةً حَتَّى
مَاتَ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أُخِذَ وَصُلِبَ.
قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ: وَرَأَيْتُ فِي كِتَابٍ مُحَقَّقٍ أَنَّهُ
عَاشَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً مَعَ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ مِنَ التَّوَغُّلِ
فِي الْمَخَازِي، لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُ وَلَا رَحِمَ عِظَامَهُ.
وَقَدْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ "
وَدَلَّسَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجْرَحْهُ بِشَيْءٍ وَلَا كَأَنَّ الْكَلْبَ أَكَلَ
لَهُ عَجِينًا عَلَى عَادَتِهِ فِي الْعُلَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ، فَالشُّعَرَاءُ
يُطِيلُ تَرَاجِمَهُمْ، وَالْعُلَمَاءُ يَذْكُرُ لَهُمْ تَرْجَمَةً يَسِيرَةً،
وَالزَّنَادِقَةُ يَتْرُكُ ذِكْرَ زَنْدَقَتِهِمْ وَأَرَّخَ
وَفَاتَهُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَقَدْ وَهِمَ وَهْمًا
فَاحِشًا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَوَفَّى فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا أَرَّخَهُ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ.
الْجُنَيْدُ شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجُنَيْدِ أَبُو الْقَاسِمِ الْخَزَّازُ
وَيُقَالُ الْقَوَارِيرِيُّ أَصْلُهُ مِنْ نَهَاوَنْدَ وُلِدَ بِبَغْدَادَ
وَنَشَأَ بِهَا وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ وَتَفَقَّهَ
بِأَبَى ثَوْرٍ إِبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ الْكَلْبِيٍّ وَكَانَ يُفْتِي
بِحَضْرَتِهِ وَعُمُرُهُ عِشْرُونَ سَنَةً وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي "
طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ " وَاشْتُهِرَ بِصُحْبَةِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ
الْمُحَاسِبِيِّ وَخَالِهِ سَرِيٍّ السَّقَطِيِّ وَلَازَمَ التَّعَبُّدَ،
وَتَكَلَّمَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ وَكَانَ وِرْدُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ
ثَلَاثَمِائَةِ رَكْعَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ وَمَكَثَ أَرْبَعِينَ
سَنَةً لَا يَأْوِي إِلَى فِرَاشٍ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يَعْرِفُ سَائِرَ فُنُونِ
الْعِلْمِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَعَلَ يَتْلُو الْقُرْآنَ
فَقِيلَ لَهُ: لَوْ رَفَقْتَ بِنَفْسِكَ، فَقَالَ: مَا أَحَدٌ أَحْوَجَ إِلَى
ذَلِكَ مِنِّي الْآنَ وَهَذَا أَوَانُ طَيِّ صَحِيفَتِي.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ صَاحِبِ
الشَّافِعِيِّ، وَيُقَالُ: كَانَ يَتَفَقَّهُ عَلَى مَذْهَبِ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، وَكَانَ ابْنُ سُرَيْجٍ يَصْحَبُهُ وَيُلَازِمُهُ.
قَالَ: وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنِ الْعَارِفِ، فَقَالَ: مِنْ نَطَقَ عَنْ سِرِّكَ
وَأَنْتَ سَاكِتٌ وَكَانَ يَقُولُ: مَذْهَبُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبِ الْحَدِيثَ لَا
يُقْتَدَى بِهِ فِي مَذْهَبِنَا وَطَرِيقَتِنَا. وَرَأَى بَعْضُهُمْ مَعَهُ
سُبْحَةً، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مَعَ شَرَفِكَ تَتَّخِذُ سُبْحَةً ؟ فَقَالَ:
طَرِيقٌ وَصَلْتُ بِهِ إِلَى اللَّهِ لَا أُفَارِقُهُ.
وَقَالَ لَهُ خَالُهُ السِّرِيُّ السَّقَطِيُّ: تَكَلَّمْ
عَلَى النَّاسِ فَلَمْ يَرَ نَفْسَهُ لِذَلِكَ مَوْضِعًا، فَرَأَى فِي الْمَنَامِ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ:
تَكَلَّمْ عَلَى النَّاسِ، فَغَدَا عَلَى خَالِهِ فَقَالَ لَهُ خَالُهُ: لَمْ
تُصَدِّقْنَا حَتَّى قِيلَ لَكَ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ عَلَى النَّاسِ، فَجَاءَهُ
يَوْمًا شَابٌّ نَصْرَانِيٌّ فِي صُورَةِ مُسْلِمٍ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا
الْقَاسِمِ مَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَاتَّقُوا
فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ؟ قَالَ: فَأَطْرَقْتُ
ثُمَّ رَفَعْتُ رَأْسِي إِلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: أَسْلِمْ فَقَدْ آنَ وَقْتُ
إِسْلَامِكَ. قَالَ: فَأَسْلَمَ الْغُلَامُ.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ: مَا انْتَفَعْتُ بِشَيْءٍ انْتِفَاعِي بِأَبْيَاتٍ
سَمِعْتُهَا مِنْ جَارِيَةٍ تُغَنِّي بِهَا فِي غُرْفَةٍ وَهِيَ تَقُولُ:
إِذَا قُلْتُ أَهْدَى الْهَجْرُ لِي حُلَلَ الْبِلَى تَقُولِينَ لَوْلَا الْهَجْرُ
لَمْ يَطِبِ الْحُبُّ وَإِنْ قُلْتُ هَذَا الْقَلْبُ أَحْرَقَهُ الْجَوَى
تَقُولِي بِنِيرَانِ الْجَوَى شَرُفَ الْقَلْبُ وَإِنْ قُلْتُ مَا أَذْنَبْتُ
قَالَتْ مُجِيبَةً
حَيَاتُكَ ذَنْبٌ لَا يُقَاسُ بِهِ ذَنْبُ
قَالَ: فَصُعِقْتُ وَصِحْتُ فَخَرَجَ صَاحِبُ الدَّارِ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي مَا
لَكَ ؟ قُلْتُ: مِمَّا سَمِعْتُ.
فَقَالَ: هِيَ هِبَةٌ مِنِّي إِلَيْكَ، فَقُلْتُ: قَدْ قَبِلْتُهَا وَهِيَ حُرَّةٌ
لِوَجْهِ اللَّهِ، ثُمَّ زَوَّجْتُهَا لِرَجُلٍ، فَأَوْلَدَهَا وَلَدًا صَالِحًا
حَجَّ عَلَى قَدَمَيْهِ ثَلَاثِينَ حِجَّةً.
سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ
أَبُو عُثْمَانَ الْوَاعِظُ.
وُلِدَ بِالرَّيِّ وَنَشَأَ بِهَا ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى نَيْسَابُورَ فَسَكَنَهَا
إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا وَقَدْ دَخَلَ بَغْدَادَ وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ مُجَابَ
الدَّعْوَةِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْكَرِيمَ بْنُ هَوَازِنَ قَالَ: سَمِعْتُ
أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
مُحَمَّدٍ الشَّعْرَانِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ يَقُولُ مُنْذُ
أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا أَقَامَنِي اللَّهُ فِي حَالٍ فَكَرِهْتُهُ وَلَا
نَقَلَنِي إِلَى غَيْرِهَا فَسَخِطْتُهُ.
وَكَانَ أَبُو عُثْمَانَ يُنْشِدُ:
أَسَأْتُ وَلَمْ أُحْسِنْ وَجِئْتُكَ هَارِبًا وَأَيْنَ لِعَبْدٍ عَنْ مَوَالِيهِ
مَهْرَبُ
يُؤَمِّلُ غُفْرَانًا فَإِنْ خَابَ ظَنُّهُ فَمَا أَحَدٌ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ
أَخْيَبُ
وَرَوَى الْخَطِيبُ أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ أَعْمَالِكَ أَرْجَى عِنْدَكَ ؟ فَقَالَ:
إِنِّي لَمَّا تَرَعْرَعْتُ وَأَنَا بِالرَّيِّ وَكَانُوا يُرِيدُونَنِي عَلَى
التَّزْوِيجِ فَأَمْتَنِعُ فَجَاءَتْنِي امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا
عُثْمَانَ قَدْ أَحْبَبْتُكَ حُبًّا أَذْهَبَ نَوْمِي وَقَرَارِي وَأَنَا أَسْأَلُكَ
بِمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ وَأَتَوَسَّلُ بِهِ إِلَيْكَ لَمَا تَزَوَّجْتَنِي،
فَقُلْتُ: أَلِكِ وَالِدٌ ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ.
فَأَحْضَرَتْهُ فَاسْتَدْعَى بِالشُّهُودِ فَتَزَوَّجْتُهَا
فَلَمَّا خَلَوْتُ بِهَا إِذَا هِيَ عَوْرَاءُ عَرْجَاءُ مُشَوَّهَةُ الْخَلْقِ، فَقُلْتُ:
اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا قَدَّرْتَهُ لِي، وَكَانَ أَهْلُ بَيْتِي
يَلُومُونَنِي عَلَى تَزْوِيجِي بِهَا فَكُنْتُ أَزِيدُهَا بِرًّا وَإِكْرَامًا
وَرُبَّمَا احْتَبَسَتْنِي عِنْدَهَا وَمَنَعَتْنِي مِنَ الْحُضُورِ إِلَى بَعْضِ
الْمَجَالِسِ وَكَأَنِّي فِي بَعْضِ أَوْقَاتِي عَلَى الْجَمْرِ وَأَنَا لَا
أُبْدِي لَهَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَمَكَثْتُ كَذَلِكَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً
فَمَا شَيْءٌ أَرْجَى عِنْدِي مِنْ حِفْظِي عَلَيْهَا مَا كَانَ فِي قَلْبِهَا
مِنْ جِهَتِي.
سَمْنُونُ بْنُ حَمْزَةَ
وَيُقَالُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ كَانَ وِرْدُهُ
فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَمِائَةِ رَكْعَةٍ وَسَمَّى نَفْسَهُ سُمْنُونًا
الْكَذَّابَ لِدَعْوَاهُ فِي قَوْلِهِ:
فَلَيْسَ لِي فِي سِوَاكَ حَظٌّ فَكَيْفَمَا شِئْتَ فَامْتَحِنِّي
فَابْتُلِيَ بِعِسَارِ الْبَوْلِ فَكَانَ يَطُوفُ عَلَى الْمَكَاتِبِ، وَيَقُولُ
لِلصِّبْيَانِ: ادْعُوا لِعَمِّكُمُ الْكَذَّابِ، وَلَهُ كَلَامٌ مَتِينٌ فِي
الْمَحَبَّةِ وَوُسْوِسَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَلَهُ كَلَامٌ فِي الْمَحَبَّةِ
مُسْتَقِيمٌ.
صَافِي الْحُرَمِيُّ.
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ وَرُءُوسِ
الدَّوْلَةِ الْمُقْتَدِرِيَّةِ، أَوْصَى فِي مَرَضِهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ
غُلَامِهِ الْقَاسِمِ شَيْءٌ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ حَمَلَ غُلَامُهُ الْقَاسِمُ
إِلَى الْوَزِيرِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَسَبْعَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْطَقَةً
مِنَ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةً فَاسْتَمَرَّ غُلَامُهُ عَلَى إِمْرَتِهِ وَمَنْزِلَتِهِ
إِسْحَاقُ بْنُ حُنَيْنِ بْنِ إِسْحَاقَ.
أَبُو يَعْقُوبَ الْعِبَادِيُّ نِسْبَةً إِلَى قَبَائِلَ الْحِيرَةِ الطَّبِيبُ
ابْنُ الطَّبِيبِ، لَهُ وَلِأَبِيهِ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْفَنِّ
وَكَانَ أَبُوهُ يُعَرِّبُ كَلَامَ أَرُسْطَاطَالِيسَ وَغَيْرِهِ مِنْ حُكَمَاءِ
الْيُونَانِ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الشِّيعِيُّ الَّذِي أَقَامَ الدَّعْوَةَ لِلْمَهْدِيِّ وَهُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ مَيْمُونٍ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ فَاطِمِيٌّ وَقَدْ زَعَمَ غَيْرُ وَاحِدٍ
مِنْ أَهْلِ التَّارِيخِ أَنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا صَبَّاغًا بِسَلَمْيَةَ،
وَالْمَقْصُودُ الْآنَ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيَّ هَذَا دَخَلَ
بِلَادَ إِفْرِيقِيَّةَ وَحْدَهُ لَا مَالَ مَعَهُ وَلَا رِجَالَ فَلَمْ يَزَلْ
يَعْمَلُ الْحِيلَةَ حَتَّى انْتَزَعَ الْمُلْكَ مِنْ يَدِ أَبِي مُضَرَ زِيَادَةِ
اللَّهِ آخَرِ مُلُوكِ بَنِي الْأَغْلَبِ عَلَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ
وَاسْتَدْعَى حِينَئِذٍ مَخْدُومَهُ الْمَهْدِيَّ مِنْ بِلَادِ الْمَشْرِقِ
فَقَدِمَ فَلَمْ يَخْلُصْ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ شَدَائِدَ طِوَالٍ وَحُبِسَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَاسْتَنْقَذَهُ الشِّيعِيُّ وَسَلَّمَهُ الْمَمْلَكَةَ فَنَدَّمَهُ أَخُوهُ أَحْمَدُ، وَقَالَ لَهُ: مَاذَا صَنَعْتَ ؟ وَهَلَّا كُنْتَ اسْتَبْدَدْتَ بِالْأَمْرِ دُونَ هَذَا ؟ فَنَدِمَ وَشَرَعَ يَعْمَلُ الْحِيلَةَ فِي الْمَهْدِيِّ، فَاسْتَشْعَرَ الْمَهْدِيُّ بِذَلِكَ فَدَسَّ إِلَيْهِمَا مَنْ قَتَلَهُمَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِمَدِينَةِ رَقَّادَةَ مِنْ بِلَادِ الْقَيْرَوَانِ مِنْ إِقْلِيمِ إِفْرِيقِيَّةَ. هَذَا مُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ
وَمِائَتَيْنِ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِيهَا ظَهَرَتْ ثَلَاثَةُ كَوَاكِبَ مُذَنَّبَةٍ
أَحَدُهَا فِي رَمَضَانَ وَاثْنَانِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ تَبْقَى أَيَّامًا ثُمَّ
تَضْمَحِلُّ.
وَفِيهَا وَقَعَ طَاعُونٌ بِأَرْضِ فَارِسَ مَاتَ بِسَبَبِهِ سَبْعَةُ آلَافِ
إِنْسَانٍ.
وَفِيهَا غَضِبَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الْوَزِيرِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْفُرَاتِ وَعَزَلَهُ عَنِ الْوِزَارَةِ وَأَمَرَ بِنَهْبِ دَارِهِ فَنُهِبَتْ
أَقْبَحَ نَهْبٍ وَاسْتَوْزَرَ أَبَا عَلِيٍّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ وَكَانَ قَدِ الْتَزَمَ لِأُمِّ وَلَدِ الْمُعْتَضِدِ
بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ حَتَّى سَعَتْ فِي وِلَايَتِهِ.
وَفِيهَا وَرَدَتْ هَدَايَا كَثِيرَةٌ مِنَ الْأَقَالِيمِ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ
وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا، مِنْ ذَلِكَ خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ اسْتُخْرِجَتْ مَنْ كَنْزٍ وُجِدَ هُنَاكَ مِنْ غَيْرِ
مَوَانِعَ كَمَا يَدَّعِيهِ كَثِيرٌ مِنْ جَهَلَةِ بَنِي آدَمَ حِيلَةً وَمَكْرًا
وَخَدِيعَةً لِيَأْكُلُوا أَمْوَالَ الْأَغْشَامِ وَالْجَهَلَةِ الطَّغَامِ مِنْ
قَلِيلِي الْعُقُولِ وَالْأَحْلَامِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي هَذَا الْكَنْزِ ضِلْعُ إِنْسَانٍ
طُولُهُ أَرْبَعَةُ أَشْبَارِ وَعَرْضُهُ شِبْرٌ وَذُكِرَ أَنَّهُ مِنْ قَوْمِ
عَادٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ هَدِيَّةِ مِصْرَ تَيْسٌ لَهُ
ضَرْعٌ يَحْلُبُ لَبَنًا وَمِنْ
ذَلِكَ بِسَاطٌ أَرْسَلَهُ ابْنُ أَبِي السَّاجِ فِي
جُمْلَةِ هَدَايَاهُ طُولُهُ سَبْعُونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا
عُمِلَ فِي عَشْرِ سِنِينَ لَا قِيمَةَ لَهُ وَهَدَايَا فَاخِرَةٌ أَرْسَلَهَا
أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ مِنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ
كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْعَبَّاسِيُّ
أَمِيرُ الْحَجِيجِ مِنْ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَبُو عَمْرٍو الْخَفَّافُ.
الْحَافِظُ، كَانَ يُذَاكِرُ بِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، سَمِعَ إِسْحَاقَ بْنَ
رَاهَوَيْهِ وَطَبَقَتَهُ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ، سَرَدَهُ نَيِّفًا
وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ، سَأَلَهُ سَائِلٌ فَأَعْطَاهُ
دِرْهَمَيْنِ فَحَمِدَ اللَّهَ فَجَعَلَهَا خَمْسَةً فَحَمِدَ اللَّهَ فَجَعَلَهَا
عَشْرَةً ثُمَّ مَا زَالَ يَزِيدُهُ وَيَحْمَدُ السَّائِلُ اللَّهَ حَتَّى
جَعَلَهَا مِائَةً، فَقَالَ: جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَاقِيَةً بَاقِيَةً،
فَقَالَ لِلسَّائِلِ: وَاللَّهِ لَوْ لَزِمْتَ الْحَمْدَ لَأَزِيدَنَّكَ وَلَوْ
إِلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ.
الْبُهْلُولُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُهْلُولِ.
ابْنِ حَسَّانَ بْنِ سِنَانٍ أَبُو مُحَمَّدٍ التَّنُوخِيُّ سَمِعَ إِسْمَاعِيلَ
بْنَ أَبِي أُوَيْسٍ وَسَعِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ وَمُصْعَبًا الزُّبَيْرِيَّ
وَغَيْرَهُمْ وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ آخِرُهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ
الْجُرْجَانِيُّ الْحَافِظُ وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا ضَابِطًا بَلِيغًا فَصِيحًا
فِي خُطَبِهِ تُوُفِّيَ فِيهَا عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
آمِينَ.
الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو
عَلِيٍّ الْخِرَقِيُّ.
صَاحِبُ " الْمُخْتَصَرِ " فِي الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، كَانَ خَلِيفَةً لِلْمَرُّوذِيِّ تُوُفِّيَ يَوْمَ عِيدِ
الْفِطْرِ وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيُّ.
حَجَّ عَلَى قَدَمَيْهِ سَبْعًا وَتِسْعِينَ حَجَّةً وَكَانَ يَمْشِي فِي
اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ حَافِيًا كَمَا يَمْشِي الرَّجُلُ فِي ضَوْءِ النَّهَارِ
وَكَانَ الْمُشَاةُ يَأْتَمُّونَ بِهِ فَيُرْشِدُهُمْ إِلَى الطَّرِيقِ وَقَالَ
مَا رَأَيْتُ ظُلْمَةً مُنْذُ سِنِينَ كَثِيرَةٍ وَكَانَتْ قَدَمَاهُ مَعَ
كَثْرَةِ مَشْيِهِ كَأَنَّهُمَا قَدَمَا عَرُوسٍ مُتْرَفَةٍ وَلَهُ كَلَامٌ
مَلِيحٌ نَافِعٌ وَلَمَّا مَاتَ أَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ إِلَى جَانِبِ شَيْخِهِ
عَلِيِّ بْنِ رَزِينٍ فَهُمَا عَلَى جَبَلِ الطُّورِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، الْحَافِظُ ابْنُ الْحَافِظِ، كَانَ أَبُوهُ يَسْتَعِينُ
بِهِ فِي جَمْعِ التَّارِيخِ وَكَانَ فَهِمًا حَاذِقًا حَافِظًا تُوُفِّيَ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ مِنْهَا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ كَيْسَانَ النَّحْوِيُّ.
أَحَدُ حُفِّاظِهِ وَالْمُكْثِرِينَ مِنْهُ كَانَ يَحْفَظُ طَرِيقَةَ
الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ مَعًا.
قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ كَانَ ابْنُ كَيْسَانَ أَنْحَى مِنَ الشَّيْخَيْنِ
الْمُبَرِّدِ وَثَعْلَبٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى.
أَبُو سَعِيدٍ سَكَنَ دِمَشْقَ رَوَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ
الْجَوْهَرِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِمْ
رَوَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ وَغَيْرُهُ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى
هَذَا يُدْعَى بِحَامِلِ كَفَنِهِ وَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ.
قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ تُوُفِّيَ فَغُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
وَدُفِنَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَ نَبَّاشٌ لِيَسْرِقَ كَفَنَهُ فَفَتَحَ
عَلَيْهِ قَبْرَهُ فَلَمَّا حَلَّ عَنْهُ كَفَنُهُ اسْتَوَى جَالِسًا وَفَرَّ
النَّبَّاشُ هَارِبًا مِنَ الْفَزَعِ وَنَهَضَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى هَذَا
فَأَخَذَ كَفَنَهُ مَعَهُ وَخَرَجَ مِنَ الْقَبْرِ وَقَصَدَ مَنْزِلَهُ فَوَجَدَ
أَهْلَهُ يَبْكُونَ عَلَيْهِ فَدَقَّ عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَقَالُوا: مَنْ هَذَا
؟ فَقَالَ: أَنَا فُلَانٌ. فَقَالُوا: يَا هَذَا لَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَزِيدَنَا
حُزْنًا إِلَى حُزْنِنَا. فَقَالَ: افْتَحُوا وَاللَّهِ أَنَا فُلَانٌ، فَعَرَفُوا
صَوْتَهُ فَلَمَّا رَأَوْهُ فَرِحُوا بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا وَأَبْدَلَ اللَّهُ
حُزْنَهُمْ سُرُورًا ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمْ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ
النَّبَّاشِ.
وَكَأَنَّهُ قَدْ أَصَابَتْهُ سَكْتَةٌ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ مَاتَ حَقِيقَةً
فَقَدَّرَ اللَّهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ أَنْ بَعَثَ لَهُ هَذَا النَّبَّاشَ
فَفَتَحَ عَلَيْهِ قَبْرَهُ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ حَيَاتِهِ فَعَاشَ بَعْدَ
ذَلِكَ عِدَّةَ سِنِينَ ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
فَاطِمَةُ الْقَهْرَمَانِيَّةُ.
غَضَبَ عَلَيْهَا الْمُقْتَدِرُ مَرَّةً فَصَادَرَهَا وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا
أَخَذَ مِنْهَا مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ ثُمَّ غَرِقَتْ فِي طَيَّارَةٍ لَهَا
فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ
الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا كَثُرَ مَاءُ دِجْلَةَ وَتَرَاكَمَتِ الْأَمْطَارُ بِبَغْدَادَ
وَتَنَاثَرَتْ نُجُومٌ كَثِيرَةٌ فِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ
مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ.
وَفِيهَا كَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ بِبَغْدَادَ وَالْأَسْقَامُ وَالْآلَامُ
وَكَلِبَتِ الْكِلَابُ حَتَّى الذِّئَابُ بِالْبَادِيَةِ وَكَانَتْ تَقْصِدُ
النَّاسَ وَالْبَهَائِمَ بِالنَّهَارِ فَمَنْ عَضَّتْهُ أَهْلَكَتْهُ.
وَفِيهَا انْحَسَرَ جَبَلٌ بِالدِّينَوَرِ يُعْرَفُ بِالتَّلِّ فَخَرَجَ مِنْ
تَحْتِهِ مَاءٌ عَظِيمٌ غَرَّقَ عِدَّةً مِنَ الْقُرَى.
وَفِيهَا سَقَطَتْ شِرْذِمَةٌ مِنْ جَبَلِ لُبْنَانَ إِلَى الْبَحْرِ.
وَفِيهَا حَمَلَتْ بَغْلَةٌ وَوَضَعَتْ مُهْرَةً.
وَفِيهَا صُلِبَ الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ الْحَلَّاجُ وَهُوَ حَيٌّ أَرْبَعَةَ
أَيَّامٍ، يَوْمَيْنِ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَيَوْمَيْنِ فِي الْجَانِبِ
الْغَرْبِيِّ، وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْحَجِيجِ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ فِي السِّنِينَ
قَبْلَهَا، وَهُوَ الْفَضْلُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ أَثَابَهُ
اللَّهُ وَتَقَبَّلَ مِنْهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْأَحْوَصُ بْنُ الْمُفَضَّلِ.
ابْنِ غَسَّانَ بْنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ خَالِدِ
بْنِ غَلَّابٍ، أَبُو أُمَيَّةَ الْغَلَّابِيُّ الْقَاضِي بِالْبَصْرَةِ
وَغَيْرِهَا. رَوَى عَنْ أَبِيهِ التَّارِيخَ اسْتَتَرَ عِنْدَهُ مَرَّةً ابْنُ
الْفُرَاتِ فَلَمَّا أُعِيدَ إِلَى الْوِزَارَةِ وَلَّاهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ
وَالْأَهْوَازِ وَوَاسِطَ وَكَانَ عَفِيفًا نَزِهًا فَلَمَّا نُكِبَ ابْنُ
الْفُرَاتِ قَبَضَ عَلَيْهِ نَائِبُ الْبَصْرَةِ فَأَوْدَعَهُ السِّجْنَ فَلَمْ
يَزَلْ بِهِ حَتَّى مَاتَ فِيهِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَا نَعْلَمُ قَاضِيًا مَاتَ فِي السِّجْنِ سِوَاهُ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرِ.
ابْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ أَبُو أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ وَلِيَ إِمْرَةَ
بَغْدَادَ وَحَدَّثَ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ وَعَنْهُ الصُّولِيُّ
وَالطَّبَرَانِيُّ وَكَانَ أَدِيبًا فَاضِلًا شَاعِرًا، وَمِنْ شِعْرِهِ:
حَقُّ التَّنَائِي بِيَنَ أَهْلِ الْهَوَى تَكَاتَبٌ يُسْخِنُ عَيْنَ النَّوَى
وَفِي التَّدَانِي لَا انْقَضَى عُمْرُهُ
تَزَاوُرٌ يَشْفِي غَلِيلَ الْجَوَى
وَاتَّفَقَ لَهُ مَرَّةً أَنَّ جَارِيَةً لَهُ مَرِضَتْ
فَاشْتَهَتْ ثَلْجًا وَكَانَ حَظِيَّةً عِنْدَهُ جِدًّا فَلَمْ يُوجَدْ إِلَّا
عِنْدَ رَجُلٍ، فَسَاوَمَهُ الْوَكِيلُ عَلَى رِطْلٍ مِنْهُ فَامْتَنَعَ مِنْ
بَيْعِهِ إِلَّا كُلُّ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ
وَذَلِكَ لِعِلْمِ صَاحِبِ الثَّلْجِ بِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ فَرَجَعَ الْوَكِيلُ
لِيُشَاوِرَهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ اشْتَرِ وَلَوْ بِمَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ،
فَرَجَعَ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الثَّلْجِ: لَا أَبِيعُهُ إِلَّا بِعَشَرَةِ
آلَافٍ، فَاشْتَرَاهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ ثُمَّ اشْتَهَتِ الْجَارِيَةُ ثَلْجًا
أَيْضًا - وَذَلِكَ لِمُوَافَقَتِهِ لَهَا - فَرَجَعَ فَاشْتَرِي مِنْهُ رِطْلًا
آخَرَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ ثُمَّ آخَرَ بِعَشَرَةٍ أُخْرَى، وَبَقِيَ عِنْدَ صَاحِبِ
الثَّلْجِ رِطْلَانِ فَنَطَفَتْ نَفْسُهُ إِلَى أَكْلِ رِطْلٍ مِنْهُ لِيَقُولَ
أَكَلْتُ رِطْلًا مِنَ الثَّلْجِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، فَأَكَلَهُ وَبَقِيَ عِنْدَهُ
رِطْلٌ، فَجَاءَهُ الْوَكِيلُ فَامْتَنَعَ أَنْ يَبِيعَهُ الرِّطْلَ إِلَّا
بِثَلَاثِينَ أَلْفًا فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ، فَشُفِيَتِ الْجَارِيَةُ وَتَصَدَّقَتْ
بِمَالٍ جَزِيلٍ فَاسْتَدْعَى سَيِّدُهَا صَاحِبَ الثَّلْجِ فَأَعْطَاهُ مِنْ
تِلْكَ الصَّدَقَةِ مَالًا جَزِيلًا جِدًّا، فَصَارَ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ بَعْدَ
ذَلِكَ وَأَكْثَرِهِمْ مَالًا، وَاسْتَخْدَمَهُ ابْنُ طَاهِرٍ عِنْدَهُ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي حُدُودِ الثَّلَاثِمِائَةِ تَقْرِيبًا:
الصَّنَوْبَرِيُّ الشَّاعِرُ.
وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مَرَّارٍ أَبُو بَكْرٍ
الضَّبِّيُّ الصَّنَوْبَرِيُّ الْحَنْبَلِيُّ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: كَانَ شَاعِرًا مُحْسِنًا
وَقَدْ حَكَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَخْفَشِ،
ثُمَّ ذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ لَطَائِفِ أَشْعَارِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
لَا النَّوْمُ أَدْرِي بِهِ وَلَا الْأَرَقُ يَدْرِي بِهَذَيْنِ مَنْ بِهِ رَمَقُ
إِنَّ دُمُوعِي مِنْ طُولِ مَا اسْتَبَقَتْ كَلَّتْ فَمَا تَسْتَطِيعُ تَسْتَبِقُ
وَلِي مَلِيكٌ لَمْ تَبْدُ صُورَتُهُ مُذْ كَانَ إِلَّا صَلَّتْ لَهُ الْحَدَقُ
نَوَيْتُ تَقْبِيلَ نَارِ وَجْنَتِهِ وَخِفْتُ أَدْنُو مِنْهَا فَأَحْتَرِقُ
وَلَهُ أَيْضًا:
شَمْسٌ غَدَا يُشْبِهُ شَمْسًا غَدَتْ وَحَدُّهَا فِي النُّورِ مِنْ حَدِّهِ
تَغِيبُ فِي فِيهِ وَلَكِنَّهَا مِنْ بَعْدِ ذَا تَطْلُعُ فِي خَدِّهِ
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ شَيْخِهِ الْحَاكِمِ عَنْ أَبِي
الْفَضْلِ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيِّ، قَالَ: أَنْشَدَنَا أَبُو بَكْرٍ
الصَّنَوْبَرِيُّ فَقَالَ:
هَدَمَ الشَّيْبُ مَا بَنَاهُ الشَّبَابُ وَالْغَوَانِي وَمَا عُضِبْنَ غِضَابُ
قَلَبَ الْآبِنُوسَ عَاجًا فَلِلْأَعْ يُنِ مِنْهُ وَلِلْقُلُوبِ انْقِلَابُ
وَضَلَالٌ فِي الرَّأْيِ أَنْ يُشْنَأَ الْبَا زِي عَلَى حُسْنِهِ وَيُهْوَى
الْغُرَابُ
وَلَهُ أَيْضًا، وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي ابْنٍ لَهُ فُطِمَ،
فَجَعَلَ يَبْكِي عَلَى ثَدْيِهِ:
مَنَعُوهُ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْوَرَى
وَمِنْ وَالِدَيْهِ
مَنَعُوهُ غِذَاءَهُ وَلَقَدْ كَا نَ مُبَاحًا لَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ
عَجَبًا مِنْهُ ذَا عَلَى صِغَرِ السِّ نِّ هَوَى فَاهْتَدَى الْفِرَاقُ إِلَيْهِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ.
بْنِ الْمُوَلَّدِ أَبُو إِسْحَاقَ الصُّوفِيُّ الْوَاعِظُ الرَّقِّيُّ أَحَدُ
مَشَايِخِهَا رَوَى الْحَدِيثَ وَصَحِبَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ الْجَلَّاءِ
الدِّمَشْقِيَّ وَالْجُنَيْدَ وَغَيْرَ وَاحِدٍ، وَرَوَى عَنْهُ تَمَّامُ بْنُ
مُحَمَّدٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ
عَسَاكِرَ مِنْ شِعْرِهِ قَوْلَهُ:
لَكَ مِنِّي عَلَى الْبِعَادِ نَصِيبُ لَمْ يَنَلْهُ عَلَى الدُّنُوِّ حَبِيبُ
وَعَلَى الطَّرْفِ مِنْ سِوَاكَ حِجَابٌ وَعَلَى الْقَلْبِ مِنْ هَوَاكَ رَقِيبُ
زِينَ فِي نَاظِرِي هَوَاكَ وَقَلْبِي وَالْهَوَى فِيهِ زَائِغٌ وَمَشُوبُ
كَيْفَ يُغْنِي قُرْبُ الطَّبِيبِ عَلِيلًا أَنْتَ أَسْقَمْتَهُ وَأَنْتَ
الطَّبِيبُ
وَقَوْلَهُ:
الصَّمْتُ أَمْنٌ مِنْ كُلِّ نَازِلَةٍ مَنْ نَالَهُ نَالَ أَفْضَلَ الْقِسَمِ
مَا نَزَلَتْ بِالرِّجَالِ نَازِلَةٌ أَعْظَمُ ضُرًّا مِنْ لَفْظَةٍ بِفَمِ
عَثْرَةُ هَذَا اللِّسَانِ مُهْلِكَةٌ لَيْسَتْ لَدَيْنَا كَعَثْرَةِ الْقَدَمِ
احْفَظْ لِسَانًا يُلْقِيكَ فِي تَلَفٍ فَرُبَّ قَوْلٍ أَذَلَّ ذَا كَرَمِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا غَزَا الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ الصَّائِفَةَ فَفَتَحَ حُصُونًا
كَثِيرَةً مِنْ بِلَادِ الرُّومِ وَقَتَلَ أُمَمًا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمُقْتَدِرُ مُحَمَّدَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ وِزَارَتِهِ
وَقَلَّدَهَا عَلِيَّ بْنَ عِيسَى، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْوُزَرَاءِ
وَأَقْصَدِهِمْ لِلْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ.
وَفِيهَا كَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ الدَّمَوِيَّةُ بِبَغْدَادَ فِي تَمُّوزَ وَآبَ
فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا.
وَفِيهَا وَصَلَتْ هَدَايَا صَاحِبِ عُمَانَ وَفِيهَا بَبَّغَةٌ بَيْضَاءُ
وَغَزَالٌ أَسْوَدُ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا رَكِبَ الْمُقْتَدِرُ إِلَى بَابَ الشَّمَّاسِيَّةِ عَلَى
الْخَيْلِ ثُمَّ انْحَدَرَ إِلَى دَارِهِ فِي دِجْلَةَ، وَكَانَتْ أَوَّلَ رَكْبَةٍ
رَكِبَهَا جَهْرَةً لِلْعَامَّةِ.
وَفِيهَا اسْتَأْذَنَ الْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْخَلِيفَةَ الْمُقْتَدِرَ
فِي مُكَاتَبَةِ رَأْسِ الْقَرَامِطَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْحَسَنِ بْنِ بَهْرَامَ
الْجَنَّابِيِّ، فَأَذِنَ لَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا طَوِيلًا يَدْعُوهُ
فِيهِ إِلَى
السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَيُوَبِّخُهُ عَلَى مَا
يَتَعَاطَاهُ أَصْحَابُهُ مِنْ تَرْكِ الصَّلَوَاتِ وَالزِّكْوَاتِ وَارْتِكَابِ
الْمُنْكِرَاتِ وَإِنْكَارِهِمْ عَلَى مَنْ يَذْكُرُ اللَّهَ وَيُسَبِّحُهُ
وَيَحْمَدُهُ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِالدِّينِ وَاسْتِرْقَاقِهِمُ الْحَرَائِرَ
ثُمَّ تُوعَّدَهُ بِالْحَرْبِ وَتَهَدَّدَهُ بِالْقَتْلِ، فَلَمَّا سَارَ
بِالْكِتَابِ نَحْوَهُ، قُتِلَ أَبُو سَعِيدٍ قَبْلَ أَنْ يَصِلَهُ، قَتَلَهُ
بَعْضُ خَدَمِهِ وَعَهِدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ سَعِيدٍ،
فَغَلَبَهُ عَلَى ذَلِكَ أَخُوهُ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبَى سَعِيدٍ،
فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَ الْوَزِيرِ إِلَيْهِمْ أَجَابَهُ بِمَا حَاصِلُهُ: إِنَّ
هَذَا الَّذِي تَنْسِبُ إِلَيْنَا مِمَّا ذَكَرْتُمْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَكُمْ
إِلَّا مِنْ طَرِيقِ مَنْ يُشَنِّعُ عَلَيْنَا، وَإِذَا كَانَ الْخَلِيفَةُ
يَنْسِبُنَا إِلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ فَكَيْفَ يَدْعُونَا إِلَى السَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ لَهُ ؟
وَفِيهَا جِيءَ بِالْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ الْحَلَّاجِ إِلَى بَغْدَادَ وَهُوَ
مَشْهُورٌ عَلَى جَمَلٍ وَغُلَامٌ لَهُ رَاكِبٌ جَمَلًا آخَرَ يُنَادِي عَلَيْهِ:
هَذَا أَحَدُ دُعَاةِ الْقَرَامِطَةِ فَاعْرِفُوهُ. ثُمَّ حُبِسَ ثُمَّ أُحْضِرَ
إِلَى مَجْلِسِ الْوَزِيرِ فَنَاظَرَهُ فَإِذَا هُوَ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ
وَلَا يَعْرِفُ مِنَ الْحَدِيثِ وَلَا الْفِقْهِ وَلَا اللُّغَةِ وَلَا
الْأَخْبَارِ وَلَا الشِّعْرِ شَيْئًا، وَكَانَ الَّذِي نُقِمَ عَلَيْهِ أَنَّهُ
وُجِدَتْ لَهُ رِقَاعٌ يَدْعُو فِيهَا النَّاسَ إِلَى الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ
بِأَنْوَاعٍ مِنَ الرُّمُوزِ، يَقُولُ فِي مُكَاتَبَاتِهِ كَثِيرًا: تَبَارَكَ ذُو
النُّورِ الشَّعْشَعَانِيِّ، فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى:
تَعَلُّمُكَ الطُّهُورَ وَالْفُرُوضَ أَجْدَى عَلَيْكَ مِنْ رَسَائِلَ لَا تَدْرِي
مَا تَقُولُ فِيهَا وَمَا أَحْوَجَكَ إِلَى الْأَدَبِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ
حَيًّا صَلْبَ الِاشْتِهَارِ لَا الْقَتْلِ، ثُمَّ أُنْزِلَ فَأُجْلِسَ فِي دَارِ
الْخِلَافَةِ، فَجَعَلَ يُظْهِرُ لَهُمْ أَنَّهُ عَلَى السُّنَّةِ وَأَنَّهُ
زَاهِدٌ حَتَّى اغْتَرَّ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْخُدَّامِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ
دَارِ الْخِلَافَةِ مِنَ الْجَهَلَةِ وَالطَّغَامِ حَتَّى صَارُوا يَتَبَرَّكُونَ
بِهِ وَيَتَمَسَّحُونَ بِثِيَابِهِ. وَسَيَأْتِي مَا صَارَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ
حَتَّى قُتِلَ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ.
وَوَقَعَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي آخِرِهَا بِبَغْدَادَ وَبَاءٌ شَدِيدٌ جِدًّا
مَاتَ بِسَبَبِهِ بِشْرٌ كَثِيرٌ وَلَا سِيَّمَا بِالْحَرْبِيَّةِ، غُلِّقَتْ
عَامَّةُ دُورِهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئِ بْنِ خَالِدٍ الشَّافِعِيُّ.
جَمَعَ الْعِلْمَ وَالزُّهْدَ، مِنْ تَلَامِيذِهِ أَبُو بَكْرٍ
الْإِسْمَاعِيلِيُّ.
جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ.
بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْمُسْتَفَاضِ أَبُو بَكْرٍ الْفِرْيَابِيُّ قَاضِي
الدِّينَوَرِ طَافَ الْبِلَادَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ مِنَ
الْمَشَايِخِ الْكَثِيرِينَ، مِثْلِ قُتَيْبَةَ وَأَبِي كُرَيْبٍ وَعَلِيِّ بْنِ
الْمَدِينِيِّ، وَعَنْهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي وَالنَّجَّادُ
وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ وَخَلْقٌ. وَاسْتَوْطَنَ بَغْدَادَ وَكَانَ ثِقَةً
حَافِظًا حُجَّةً، وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ نَحْوًا مِنْ
ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَالْمُسْتَمْلُونَ عَنْهُ فَوْقَ الثَّلَاثِمِائَةِ
وَأَصْحَابُ الْمَحَابِرِ نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ
وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ قَدْ حَفَرَ لِنَفْسِهِ قَبْرًا قَبْلَ وَفَاتِهِ
بِخَمْسِ سِنِينَ، وَكَانَ يَأْتِيهِ فَيَقِفُ عِنْدَهُ، ثُمَّ لَمْ يُقَضَ لَهُ
الدَّفْنُ فِيهِ، بَلْ دُفِنَ فِي مَكَانٍ آخَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ كَانَ.
أَبُو سَعِيدٍ الْجَنَّابِىُّ الْقِرْمِطَيُّ.
وَهُوَ الْحَسَنُ بْنُ بَهْرَامَ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - وَهُوَ رَأْسُ
الْقَرَامِطَةِ وَالَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي بِلَادِ الْبَحْرَيْنِ وَمَا
وَالَاهَا.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الرَّاسِبِيُّ كَانَ يَلِي بِلَادَ وَاسِطَ إِلَى
شَهْرَزُورَ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ خَلَّفَ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا،
فَمِنْ ذَلِكَ أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
نَحْوُ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنَ الْخَزِّ أَلْفُ ثَوْبٍ، وَمِنَ الْخَيْلِ
وَالْبِغَالِ وَالْجِمَالِ أَلْفُ رَأْسٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ.
يُعْرَفُ بِالْأَحْنَفِ كَانَ قَدْ وَلِيَ قَضَاءَ مَدِينَةِ الْمَنْصُورِ
نِيَابَةً عَنْ أَبِيهِ حِينَ فُلِجَ فَمَاتَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَتُوُفِّيَ أَبُوهُ فِي رَجَبٍ مِنْهَا، بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةٌ
وَسَبْعُونَ يَوْمًا، وَدُفِنَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ
تَعَالَى.
أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ هَارُونَ الْبَرْدَعِيُّ الْحَافِظُ، وَابْنُ نَاجِيَةَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا وَرَدَ كِتَابُ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ بِأَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ بِالرُّومِ
بَأْسًا شَدِيدًا وَقَدْ أَسَرَ مِنْهُمْ مِائَةً وَخَمْسِينَ بِطْرِيقًا،
فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ.
وَفِيهَا خَتَنَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِرُ خَمْسَةً مِنْ أَوْلَادِهِ، فَغَرِمَ
عَلَى هَذَا الْخِتَانِ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةُ
آلَافٍ نِثَارًا وَمِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَدْ خَتَنَ قَبْلَهُمْ وَمَعَهُمْ
خَلْقًا مِنَ الْيَتَامَى وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ بِالْمَالِ وَالْكَسَاوِي،
وَهَذَا صَنِيعٌ حَسَنٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا صَادَرَ الْخَلِيفَةُ أَبَا عَلِيٍّ ابْنَ الْجَصَّاصِ بِسِتَّةَ عَشَرَ
أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ غَيْرَ الْآنِيَةِ وَالثِّيَابِ الثَّمِينَةِ.
وَفِيهَا أَدْخَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِرُ أَوْلَادَهُ إِلَى الْمَكْتَبِ
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِيهَا بَنَى الْوَزِيرُ الْمَارَسْتَانَ بِالْحَرْبِيَّةِ مِنْ بَغْدَادَ
وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً
جِدًّا، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ،
وَقَطَعَتِ الْأَعْرَابُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ الطَّرِيقَ عَلَى
الرَّاجِعِينَ مِنَ الْحَجِيجِ وَأَخَذُوا مِنْهُمْ أَمْوَالًا كَثِيرَةً،
وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرُوا أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيِ امْرَأَةٍ
حُرَّةٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بِشْرُ بْنُ نَصْرِ بْنِ مَنْصُورٍ.
أَبُو الْقَاسِمِ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ يُعْرَفُ بِغُلَامِ
عِرْقٍ وَعِرْقٌ خَادِمٌ مِنْ خُدَّامِ السُّلْطَانِ، كَانَ يَلِي الْبَرِيدَ
فَقَدِمَ مَعَهُ بِهَذَا الرَّجُلِ مِصْرَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى كَانَتْ
وَفَاتُهُ فِيهَا.
بِدْعَةُ جَارِيَةُ عُرَيْبَ الْمُغَنِّيَةِ بُذِلَ لِسَيِّدَتِهَا فِيهَا مِائَةُ
أَلْفِ دِينَارٍ وَعِشْرُونَ أَلْفَ دِينَارٍ مِنْ بَعْضِ مَنْ رَغِبَ فِيهَا
فَعَرَضَتْ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَكَرِهَتْ مُفَارَقَةَ سَيِّدَتِهَا فَأَعْتَقَتْهَا
سَيِّدَتُهَا فِي يَوْمِهَا ذَلِكَ. وَتَأَخَّرَتْ وَفَاتُهَا إِلَى هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَدْ تَرَكَتْ مِنَ الْعَيْنِ وَالْأَمْلَاكِ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ
رَجُلٌ.
الْقَاضِي أَبُو زُرْعَةَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الشَّافِعِيُّ.
قَاضِي مِصْرَ ثُمَّ دِمَشْقَ
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ حَكَمَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِالشَّامِ، وَأَشَاعَهُ بِهَا، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَوْزَاعِيِّ مِنْ حِينِ مَاتَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، وَثَبَتَ عَلَى مَذْهَبِ الْأَوْزَاعِيِّ بَقَايَا كَثِيرُونَ لَمْ يُفَارِقُوهُ، وَكَانَ ثِقَةً عَدْلًا مِنْ سَادَاتِ الْقُضَاةِ، وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ، ثُمَّ أَسَلَمَ، وَصَارَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ".
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا وَقَفَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً وَضِيَاعًا عَلَى
الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَاسْتَدْعَى بِالْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا وَقَفَهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَفِيهَا قُدِمَ إِلَيْهِ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأُسَارَى مِنَ الْأَعْرَابِ
الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَدَوْا عَلَى الْحَجِيجِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، فَلَمْ
تَتَمَالَكِ الْعَامَّةُ أَنْ عَدَتْ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُمْ، فَأُخِذَ
بَعْضُهُمْ فَعُوقِبَ لِكَوْنِهِ افْتَاتَ عَلَى السُّلْطَانِ.
وَفِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ شَدِيدٌ فِي سُوقِ النَّجَّارِينَ بِبَغْدَادَ فَأَحْرَقَ
السُّوقَ بِكَمَالِهِ وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَرِضَ
الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَمْ يَمْرَضْ فِي خِلَافَتِهِ
مَعَ طُولِهَا إِلَّا هَذِهِ الْمَرْضَةَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ
وَلَمَّا خَافَ الْوَزِيرُ عَلَى الْحُجَّاجِ مِنْ شَأْنِ الْقَرَامِطَةِ كَتَبَ
إِلَيْهِمْ رِسَالَةً لِيَشْغَلَهُمْ بِهَا عَنْ أَمْرِ الْحَجِّ، فَاتَّهَمَهُ
بَعْضُ الْكُتَّابِ بِمُرَاسِلَتِهِ الْقَرَامِطَةَ، فَلَمَّا انْكَشَفَ أَمْرُهُ
وَمَا قَصَدَهُ حَظِيَ عِنْدَ النَّاسِ بِذَلِكَ جِدًّا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
النَّسَائِيُّ أَحْمَدُ.
بْنُ شُعَيْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سِنَانِ بْنِ بَحْرِ بْنِ دِينَارٍ أَبُو
عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ صَاحِبُ " السُّنَنِ
"، الْإِمَامُ فِي عَصْرِهِ وَالْمُقَدَّمُ عَلَى أَضْرَابِهِ وَأَشْكَالِهِ
وَفُضَلَاءِ دَهْرِهِ رَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ وَاشْتَغَلَ بِسَمَاعِ الْحَدِيثِ
وَالِاجْتِمَاعِ بِالْأَئِمَّةِ الْحُذَّاقِ، وَمَشَايِخُهُ الَّذِينَ رَوَى
عَنْهُمْ مُشَافَهَةً قَدْ ذَكَرْنَاهُمْ فِي كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ
" وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَتَرْجَمْنَاهُ أَيْضًا هُنَالِكَ،
وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَقَدْ جَمَعَ السُّنَنَ
الْكَبِيرَ وَانْتَخَبَ مِنْهُ مَا هُوَ أَقَلُّ حَجْمًا مِنْهُ بِمَرَّاتٍ،
وَقَدْ وَقَعَ لِي سَمَاعُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَقَدْ أَبَانَ فِي تَصْنِيفِهِ عَنْ
حِفْظٍ وَإِتْقَانٍ وَصِدْقٍ وَإِيمَانٍ وَتَوْفِيقٍ وَعَلَمٍ وَعِرْفَانٍ.
قَالَ الْحَاكِمُ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ
مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يُذْكَرُ بِهَذَا الْعِلْمِ مَنْ أَهْلِ عَصْرِهِ،
وَكَانَ يُسَمِّي كِتَابَهُ الصَّحِيحَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ: إِنَّ
لِلنِّسَائِيِّ شَرْطًا فِي الرِّجَالِ أَشَدَّ مِنْ شَرْطِ مُسْلِمِ بْنِ
الْحَجَّاجِ وَكَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ أَيْضًا: هُوَ
الْإِمَامُ فِي الْحَدِيثِ بِلَا مُدَافَعَةٍ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ الْحَافِظُ: سَمِعْتُ مَشَايِخَنَا بِمِصْرَ
يَعْتَرِفُونَ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ وَالْإِمَامَةِ وَيَصِفُونَ مِنَ اجْتِهَادِهِ
فِي الْعِبَادَةِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمُوَاظَبَتِهِ عَلَى الْحَجِّ
وَالِاجْتِهَادِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا
وَكَانَتْ لَهُ
أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَسُرِّيَّتَانِ وَكَانَ كَثِيرَ
الْجِمَاعِ حَسَنَ الْوَجْهِ مُشْرِقَ اللَّوْنِ، قَالُوا: وَكَانَ يَقْسِمُ
لِلْإِمَاءِ كَمَا يَقْسِمُ لِلْحَرَائِرِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ
أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَدَّادِ كَثِيرَ الْحَدِيثِ وَلَمْ يُحَدِّثْ عَنْ أَحَدٍ
سِوَى النَّسَائِيِّ. وَقَالَ: رَضِيتُ بِهِ حُجَّةً بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ كَانَ النَّسَائِيُّ إِمَامًا فِي
الْحَدِيثِ ثِقَةً ثَبْتًا حَافِظًا. وَكَانَ خُرُوجُهُ مِنْ مِصْرَ فِي سَنَةِ
ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ سَمِعْتُ مَنْصُورًا
الْفَقِيهَ وَأَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ الطَّحَاوِيَّ يَقُولَانِ:
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَذَلِكَ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَشَهِدُوا لَهُ
بِالْفَضْلِ وَالتَّقَدُّمِ فِي هَذَا الشَّأْنِ وَالْحِفْظِ وَالْمَعْرِفَةِ.
وَقَدْ وَلِيَ الْحُكْمَ بِمَدِينَةِ حِمْصَ سَمِعْتُهُ مِنْ شَيْخِنَا الْحَافِظِ
أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِزِّيِّ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - عَنْ رِوَايَةِ
الطَّبَرَانِيِّ فِي " مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ " حَيْثُ قَالَ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ الْحَاكِمُ بِحِمْصَ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَكَانَ فِي
غَايَةِ الْحُسْنِ، وَجْهُهُ كَأَنَّهُ قِنْدِيلٌ، وَكَانَ يَأْكُلُ فِي كُلِّ
يَوْمٍ دِيكًا، وَيَشْرَبُ عَلَيْهِ نَقِيعَ الزَّبِيبِ الْحَلَالَ، وَقَدْ قِيلَ
عَنْهُ: إِنَّهُ كَانَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ التَّشَيُّعِ. قَالُوا:
وَدَخَلَ إِلَى دِمَشْقَ فَسَأَلَهُ أَهْلُهَا أَنْ يُحَدِّثَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ
مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: أَمَا يَكْفِي مُعَاوِيَةَ أَنْ يَذْهَبَ رَأْسًا بِرَأْسٍ
حَتَّى يُرْوَى لَهُ فَضَائِلُ ؟ فَقَامُوا إِلَيْهِ فَجَعَلُوا يَطْعَنُونَ فِي
حِضْنَيْهِ حَتَّى أُخْرِجَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ،
فَسَارَ مِنْ عِنْدِهِمْ، فَقَصَدَ مَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ
وَقَبْرُهُ بِهَا. هَكَذَا حَكَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ
الْأَصْبَهَانِيِّ عَنْ مَشَايِخِهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ أَفْقَهَ
مَشَايِخِ مِصْرَ فِي عَصْرِهِ وَأَعْرَفَهُمْ بِالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ مِنَ
الْآثَارِ وَأَعْرَفَهُمْ بِالرِّجَالِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذَا الْمَبْلَغَ
حَسَدُوهُ فَخَرَجَ إِلَى الرَّمْلَةِ فَسُئِلَ عَنْ فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ
فَأَمْسَكَ عَنْهُ فَضَرَبُوهُ فِي الْجَامِعِ، فَقَالَ: أَخْرِجُونِي إِلَى
مَكَّةَ فَأَخْرَجُوهُ وَهُوَ عَلِيلٌ فَتُوُفِّيَ بِمَكَّةَ مَقْتُولًا شَهِيدًا.
قَالَ الْحَاكِمُ: مَعَ مَا رُزِقَ النَّسَائِيُّ مِنَ الْفَضَائِلِ رُزِقَ
الشَّهَادَةَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، مَاتَ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ
وَثَلَاثِمِائَةٍ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ نُقْطَةَ
فِي " تَقْيِيدِهِ ": نَقَلْتُ مِنْ خَطِّ أَبِي عَامِرٍ مُحَمَّدِ بْنِ
سَعْدُونَ الْعَبْدَرِيِّ الْحَافِظِ: مَاتَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
النَّسَائِيُّ بِالرَّمْلَةِ مَدِينَةِ فِلَسْطِينَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِثَلَاثَ
عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَدُفِنَ
بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَحَكَى ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي
شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا صَنَّفَ " الْخَصَائِصَ
" فِي فَضْلِ عَلِيٍّ وَأَهْلِ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ رَأَى أَهْلَ دِمَشْقَ
حِينَ قَدِمَهَا فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ عِنْدَهُمْ نُفْرَةٌ مِنْ
عَلِيٍّ وَسَأَلُوهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ مَا قَالَ، فَدَفَعُوهُ فِي
حِضْنَيْهِ فَمَاتَ، وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ يُونُسَ وَأَبُو جَعْفَرٍ
الطَّحَاوِيُّ
أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِفِلَسْطِينَ فِي صِفْرٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ وَكَانَ مَوْلِدُ النَّسَائِيِّ فِي سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ أَوْ
أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ تَقْرِيبًا عَنْ قَوْلِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ،
فَكَانَ عُمُرُهُ ثَمَانِيًا وَثَمَانِينَ سَنَةً.
الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ.
بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ عَطَاءٍ أَبُو
الْعَبَّاسِ الشَّيْبَانِيُّ النِّسْوِيُّ مُحَدِّثُ خُرَاسَانَ وَقَدْ كَانَ
يُضْرَبُ آبَاطُ الْإِبِلِ إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ رَحَلَ
إِلَى الْآفَاقِ وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي ثَوْرٍ وَكَانَ يُفْتِي بِمَذْهَبِهِ
وَأَخَذَ الْأَدَبَ عَنْ أَصْحَابِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ وَكَانَتْ إِلَيْهِ
الرِّحْلَةُ بِخُرَاسَانَ، وَمِنْ غَرِيبِ مَا اتَّفَقَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ هُوَ
وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِمِصْرَ فِي رِحْلَتِهِمْ لِطَلَبِ الْحَدِيثِ
فَضَاقَ عَلَيْهِمُ الْحَالُ حَتَّى مَكَثُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَأْكُلُونَ
فِيهَا شَيْئًا وَلَا يَجِدُونَ مَا يَبِيعُونَهُ لِلْقُوتِ وَاضْطَرَّهُمُ
الْحَالُ إِلَى تَجَشُّمِ السُّؤَالِ وَأَنِفَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْ ذَلِكَ
وَعَزَّتْ عَلَيْهِمْ وَامْتَنَعَتْ كُلَّ الِامْتِنَاعِ وَالْحَاجَةُ
تَضْطَرُّهُمْ إِلَى تَعَاطِي ذَلِكَ فَاقْتَرَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَيَهُمْ
يَقُومُ بِأَعْبَاءِ هَذَا الْأَمْرِ فَوَقَعَتِ الْقَرْعَةُ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ
سُفْيَانَ هَذَا فَقَامَ عَنْهُمْ فَاخْتَلَى فِي زَاوِيَةِ الْمَسْجِدِ الَّذِي
هُمْ فِيهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا وَاسْتَغَاثَ بِاللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ وَسَأَلَهُ بِأَسْمَائِهِ الْعِظَامِ فَمَا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ
حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْمَسْجِدَ شَابٌّ حَسَنُ الْهَيْئَةِ مَلِيحُ
الْوَجْهِ، فَقَالَ: أَيْنَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ ؟
فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: الْأَمِيرُ طُولُونَ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ
وَيَعْتَذِرُ إِلَيْكُمْ فِي تَقْصِيرِهِ عَنْكُمْ وَهَذِهِ مِائَةُ دِينَارٍ
لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، فَقُلْنَا لَهُ: مَا الْحَامِلُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ ؟
فَقَالَ: إِنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَخْتَلِيَ الْيَوْمَ بِنَفْسِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ
الْآنَ نَائِمٌ إِذْ جَاءَهُ فَارِسٌ فِي الْهَوَاءِ بِيَدِهِ رُمْحٌ فَدَخَلَ
عَلَيْهِ الْمَنْزِلَ وَوَضَعَ عَقِبَ الرُّمْحِ فِي خَاصِرَتِهِ فَوَكَزَهُ
وَقَالَ: قُمْ فَأَدْرِكِ الْحَسَنَ بْنَ سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ، قُمْ
فَأَدْرِكْهُمْ، قُمْ فَأَدْرِكْهُمْ فَإِنَّهُمْ مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
جِيَاعٌ فِي الْمَسْجِدِ الْفُلَانِيِّ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ:
أَنَا رِضْوَانٌ خَازِنُ الْجَنَّةِ. فَاسْتَيْقَظَ الْأَمِيرُ وَخَاصِرَتُهُ
تُؤْلِمُهُ أَلَمًا شَدِيدًا، فَبَعَثَ بِالنَّفَقَةِ فِي الْحَالِ إِلَيْكُمْ.
ثُمَّ جَاءَ لِزِيَارَتِهِمْ وَاشْتَرَى مَا حَوْلَ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وَوَقَفَهُ
عَلَى الْوَارِدِينَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ هَذَا
الشَّأْنِ وَفُرْسَانِهِ وَحُفَّاظِهِ وَقَدِ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْحُفَّاظِ مِنْهُمُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ، فَقَرَءُوا عَلَيْهِ شَيْئًا
مِنَ الْحَدِيثِ وَجَعَلُوا يَقْلِبُونَ الْأَسَانِيدَ لِيَسْتَعْلِمُوا مَا
عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ، فَمَا قَلَبُوا شَيْئًا إِلَّا رَدَّهُمْ فِيهِ إِلَى
الصَّوَابِ وَعُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ تِسْعُونَ سَنَةً، وَهُوَ فِي هَذَا السِّنِّ
حَافِظٌ ضَابِطٌ لَا يَشِذُّ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ حَدِيثِهِ، وَمِنْ فَوَائِدِهِ:
الْعَبْسِيُّ كُوفِيٌّ وَالْعَيْشِيُّ بَصْرِيٌّ وَالْعَنْسِيُّ مِصْرِيٌّ.
رُوَيْمُ بْنُ أَحْمَدَ.
وَيُقَالُ: ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُوَيْمِ بْنِ يَزِيدَ
أَبُو الْحَسَنِ، وَيُقَالُ: أَبُو الْحُسَيْنِ، وَيُقَالُ:
أَبُو مُحَمَّدٍ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ كَانَ عَالِمًا بِالْقُرَآنِ
وَمَعَانِيهِ، وَكَانَ مُتَفَقِّهًا عَلَى مَذْهَبِ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ
الظَّاهِرِيِّ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ رُوَيْمٌ يَكْتُمُ حُبَّ الدُّنْيَا أَرْبَعِينَ سَنَةً،
وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَصَوَّفَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ لَمَّا وَلِيَ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَضَاءَ بِبَغْدَادَ جَعَلَهُ وَكِيلًا فِي
بَابِهِ، فَتَرَكَ التَّصَوُّفَ وَلَبِسَ الْخَزَّ وَالْقَصَبَ وَالدَّبِيقِيَّ
وَرَكِبَ الْخَيْلَ وَأَكَلَ الطَّيِّبَاتِ وَبَنَى الدُّورَ.
زُهَيْرُ بْنُ صَالِحٍ ابْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَعَنْهُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّجَّادُ،
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ ثِقَةً مَاتَ وَهُوَ شَابٌّ.
أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ.
شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ شَيْخُ
الطَّائِفَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي زَمَانِهِ، وَعَلَيْهِ اشْتَغَلَ أَبُو
الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَلِلْجُبَّائِيِّ تَفْسِيرٌ
حَافِلٌ مُطَوَّلٌ، لَهُ فِيهِ اخْتِيَارَاتٌ غَرِيبَةٌ فِي التَّفْسِيرِ، وَقَدْ
رَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِيهِ، وَقَالَ: كَأَنَّ
الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ أَهْلِ جُبَّاءَ. كَانَ مَوْلِدُ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ
فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
ابْنُ بَسَّامٍ الشَّاعِرُ.
أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ نَصْرِ بْنِ
بَسَّامٍ
الْبَسَّامِيُّ الشَّاعِرُ الْمُطْبِقُ لِلْهِجَاءِ فَلَمْ
يَتْرُكْ أَحَدًا حَتَّى هَجَاهُ حَتَّى أَبَاهُ وَأُمَّهُ أُمَامَةَ بِنْتَ
حَمْدُونَ النَّدِيمِ وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً
مِنْ شِعْرِهِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي تَخْرِيبِ الْمُتَوَكِّلِ قَبْرَ
الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَمْرِهِ بِأَنْ يُزْرَعَ وَيُمْحَى رَسْمُهُ، وَكَانَ
شَدِيدَ التَّحَامُلِ عَلَى عَلِيٍّ وَوَلَدِهِ، فَلَمَّا وَقَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ،
وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ قَالَ ابْنُ بَسَّامٍ
هَذَا فِي ذَلِكَ:
تَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ أُمَيَّةُ قَدْ أَتَتْ قَتْلَ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهَا
مَظْلُومًا فَلَقَدْ أَتَاهُ بَنُو أَبِيهِ بِمِثْلِهِ
هَذَا لَعَمْرُكَ قَبْرُهُ مَهْدُومًا أَسِفُوا عَلَى أَنْ لَا يَكُونُوا
شَارَكُوا
فِي قَتْلِهِ فَتَتَبَّعُوهُ رَمِيمَا
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ وَزِيرَهُ أَبَا الْحَسَنِ
عَلِيَّ بْنَ عِيسَى بْنِ الْجَرَّاحِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقَعَتْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ أُمِّ مُوسَى الْقَهْرَمَانَةِ نُفْرَةٌ شَدِيدَةٌ فَسَأَلَ الْوَزِيرُ
أَنْ يُعْفَى مِنَ الْوِزَارَةِ فَعُزِلَ وَلَمْ يُتَعَرَّضْ لِشَيْءٍ مِنْ
أَمْلَاكِهِ.
وَطُلِبَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ فَأُعِيدَ إِلَى
الْوِزَارَةِ بَعْدَ عَزْلِهِ عَنْهَا خَمْسَ سِنِينَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ سَبْعَ خِلَعٍ وَأَطْلَقَ إِلَيْهِ
ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَشْرَةَ تُخُوتِ ثِيَابٍ وَمِنَ الْخَيْلِ
وَالْبِغَالِ وَالْجِمَالِ شَيْئًا كَثِيرًا وَأُقْطِعَ الدَّارَ الَّتِي
بِالْمُخَرِّمِ فَسَكَنَهَا فَعَمِلَ فِيهَا ضِيَافَةً تِلْكَ اللَّيْلَةَ،
فَسَقَى فِيهَا أَرْبَعِينَ أَلْفَ رِطْلٍ مِنَ الثَّلْجِ.
وَفِي الصَّيْفِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اشْتُهِرَ بِبَغْدَادَ أَنَّ حَيَوَانًا
عَجِيبًا يُقَالُ لَهُ الزَّبْزَبُ يَطُوفُ بِاللَّيْلِ يَأْكُلُ الْأَطْفَالَ
مِنَ الْأَسِرَّةِ وَيَعْدُو عَلَى النَّائِمِ فَرُبَّمَا قَطَعَ يَدَ الرَّجُلِ
وَثَدْيَ الْمَرْأَةِ وَهُوَ نَائِمٌ فَجَعَلَ النَّاسُ يَضْرِبُونَ عَلَى
أَسْطِحَتِهِمْ بِالنُّحَاسِ مِنَ الْهَوَاوِينِ وَالطُّسُوتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
يُنَفِّرُونَهُ عَنْهُمْ حَتَّى كَانَتْ بَغْدَادُ
تَرْتَجُّ مِنْ شَرْقِهَا وَغَرْبِهَا وَاصْطَنَعَ النَّاسُ
لِأَوْلَادِهِمْ مِكَبَّاتٍ مِنَ السَّعَفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَاغْتَنَمَتِ
اللُّصُوصُ هَذِهِ الشَّوْشَةَ فَكَثُرَ النُّقُوبُ وَأَخْذُ الْأَمْوَالِ
فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِأَنْ يُؤْخَذَ حَيَوَانٌ مِنْ كِلَابِ الْمَاءِ
فَيُصْلَبَ عَلَى الْجِسْرِ لِيَسْكُنَ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ فَفَعَلَ فَسَكَنَ
النَّاسُ وَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَاسْتَرَاحَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقُلِّدَ ثَابِتُ بْنُ سِنَانٍ الطَّبِيبُ الْمُؤَرِّخُ أَمْرَ
الْمَارَسْتَانَاتِ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَتْ خَمْسَةً.
وَرَدَ كِتَابٌ مِنَ خُرَاسَانَ بِأَنَّهُمْ وَجَدُوا قُبُورَ شُهَدَاءَ قُتِلُوا
فِي سَنَةِ سَبْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ مَكْتُوبَةٌ أَسْمَاؤُهُمْ فِي رِقَاعٍ
مَرْبُوطَةٍ بِآذَانِهِمْ وَأَجْسَادُهُمْ طَرِيَّةٌ كَمَا هِيَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْهَيْثَمِ بْنِ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحُصَيْنِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ لَبِيدِ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ عُطَارِدَ بْنِ
حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ الْمُلَقَّبُ فَرُّوْجَةَ
قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا.
يُوسُفُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ.
أَبُو يَعْقُوبَ الرَّازِيُّ سَمِعَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَصَحِبَ ذَا
النُّونِ الْمِصْرِيَّ، وَرَوَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ. رَوَى
الْخَطِيبُ بِسَنَدِهِ
إِلَيْهِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ ذَا النُّونِ يَحْفَظُ
اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ فَقَصَدَهُ لِيُعَلِّمَهُ إِيَّاهُ.
قَالَ: فَلَمَّا وَرَدْتُ عَلَيْهِ اسْتَهَانَ بِي وَكَانَ لِي لِحْيَةٌ طَوِيلَةٌ
وَمَعِي رِكْوَةٌ طَوِيلَةٌ فَجَاءَ رَجُلٌ يَوْمًا فَنَاظَرَ ذَا النُّونِ
فَأَسْكَتَ ذَا النُّونِ، فَنَاظَرْتُ أَنَا الرَّجُلَ فَأَسْكَتُّهُ، فَقَامَ ذُو
النُّونِ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيَّ وَهُوَ شَيْخٌ وَأَنَا شَابٌّ، وَاعْتَذَرَ
إِلَيَّ فَخَدَمْتُهُ سَنَةً ثُمَّ سَأَلْتُهُ أَنْ يُعَلِّمَنِي الِاسْمَ
الْأَعْظَمَ فَلَمْ يَبْعُدْ مِنِّي وَوَعَدَنِي، فَمَكَثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ
سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ أَخْرَجَ إِلَيَّ طَبَقًا عَلَيْهِ مِكَبَّةٌ مَشْدُودًا
بِمَنْدِيلٍ، وَقَالَ لِيَ: اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى صَاحِبِنَا فَلَانٍ.
قَالَ: فَجَعَلْتُ أُفَكِّرُ فِي الطَّرِيقِ مَا هَذَا الَّذِي أَرْسَلَنِي بِهِ،
فَلَمَّا وَصَلْتُ الْجِسْرَ فَتَحْتُهُ فَإِذَا فِيهِ فَأْرَةٌ فَقَفَزَتْ
وَذَهَبَتْ، فَاغْتَظْتُ غَيْظًا شَدِيدًا، وَقُلْتُ: ذُو النُّونِ يَسْخَرُ بِي
فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ وَأَنَا حَنِقٌ، فَقَالَ لِي: وَيْحَكَ إِنَّمَا
اخْتَبَرْتُكَ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ أَمِينًا عَلَى فَأْرَةٍ فَأَنْ لَا تَكُونُ
أَمِينًا عَلَى الِاسْمِ الْأَعْظَمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، اذْهَبْ عَنِّي فَلَا
أَرَاكَ بَعْدَهَا.
وَقَدْ رُئِيَ أَبُو الْحُسَيْنِ الرَّازِيُّ هَذَا فِي الْمَنَامِ بَعْدَ
مَوْتِهِ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِقَوْلِي
عِنْدَ الْمَوْتِ: اللَّهُمَّ إِنِّي نَصَحْتُ لِلنَّاسَ قَوْلًا وَخُنْتُ نَفْسِي
فِعْلًا فَهَبْ لِي خِيَانَةَ فِعْلِي لِنُصْحِ قَوْلِي.
يَمُوتُ بْنُ الْمُزَرَّعِ بْنِ يَمُوتَ.
أَبُو بَكْرٍ الْعَبْدِيُّ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ وَهُوَ ثَوْرِيٌّ، كَانَ ابْنَ
أُخْتِ الْجَاحِظِ قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَبِي عُثْمَانَ
الْمَازِنِيِّ وَأَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ وَأَبِي الْفَضْلِ الرِّيَاشِيِّ
وَكَانَ صَاحِبَ أَخْبَارٍ وَآدَابٍ وَمُلَحٍ
وَقَدْ كَانَ غَيَّرَ اسْمَهُ بِمُحَمَّدٍ، فِلْمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ إِلَّا الْأَوَّلُ، وَكَانَ إِذَا ذَهَبَ يَعُودُ مَرِيضًا فَدَقَّ الْبَابَ، فَقِيلَ: مَنْ ؟ فَيَقُولُ: ابْنُ الْمُزَرَّعِ وَلَا يَذْكُرُ اسْمَهُ لِئَلَّا يَتَفَاءَلُ أَهْلُ الْمَرِيضِ بِسَمَاعِ ذَلِكَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ رَسُولُ مَلِكِ الرُّومِ فِي طَلَبِ الْمُفَادَاةِ وَالْهُدْنَةِ
وَهُوَ شَابٌّ حَدَثُ السِّنِّ وَمَعَهُ شَيْخٌ مِنْهُمْ وَعِشْرُونَ غُلَامًا،
فَلَمَّا وَرَدَ بَغْدَادَ شَاهَدَ أَمْرًا عَظِيمًا جِدًّا وَذَلِكَ أَنَّ
الْخَلِيفَةَ الْمُقْتَدِرَ بِاللَّهِ أَمَرَ بِالِاحْتِفَالِ بِذَلِكَ
لِيُشَاهَدَ مَا فِيهِ إِرْهَابُ الْأَعْدَاءِ، فَرَكِبَ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ
يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ مِائَةَ أَلْفٍ وَسِتِّينَ أَلْفًا مَا بَيْنَ فَارِسٍ
وَرَاجِلٍ فِي الْأَسْلِحَةِ التَّامَّةِ، وَغِلْمَانُ الْخَلِيفَةِ سَبْعَةُ
آلَافٍ، أَرْبَعَةُ آلَافٍ بِيضٌ وَثَلَاثَةُ آلَافٍ سُودٌ، وَهُمْ فِي غَايَةِ
الْمَلَابِسِ وَالْعُدَدِ، وَالْحَجَبَةُ يَوْمَئِذٍ سَبْعُمِائَةِ حَاجِبٍ
وَأَمَّا الطَّيَّارَاتُ الَّتِي بِدِجْلَةَ والزِّبَارِبُ وَالْسُّمَيْرِيَّاتُ
فَشَيْءٌ كَثِيرٌ مُزَيَّنَةٌ، فَحِينَ دَخَلَ الرَّسُولُ دَارَ الْخِلَافَةِ
شَاهَدَ أَمْرًا أَدْهَشَهُ وَرَأَى مِنَ الْحِشْمَةِ وَالزِّينَةِ وَالْحُرْمَةِ
مَا يُبْهِرُ الْأَبْصَارَ وَحِينَ اجْتَازَ بِالْحَاجِبِ ظَنَّ أَنَّهُ الْخَلِيفَةُ
فَقِيلَ لَهُ هَذَا الْحَاجِبُ الْكَبِيرُ، فَمَرَّ بِالْوَزِيرِ فِي أُبَّهَتِهِ
فَظَنَّهُ الْخَلِيفَةُ، فَقِيلَ لَهُ هَذَا الْوَزِيرُ، وَقَدْ زُيِّنَتْ دَارُ
الْخِلَافَةِ بِزِينَةٍ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، كَانَ فِيهَا مِنَ السُّتُورِ
يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ سِتْرٍ، مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ
سِتْرٍ وَخَمْسُمِائَةِ مُذَهَّبَةٍ، وَقَدْ بُسِطَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اثْنَانِ
وَعِشْرُونَ أَلْفَ بِسَاطٍ، وَفِيهَا مِنَ الْوُحُوشِ قُطْعَانٌ مُتَآنِسَةٌ
بِالنَّاسِ، بِحَيْثُ تَأْكُلُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَمِائَةُ سَبُعٍ مَعَ
السَّبَّاعَةِ ثُمَّ أُدْخِلَ إِلَى دَارِ الشَّجَرَةِ
وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ بِرْكَةٍ فِيهَا مَاءٌ صَافٍ، وَفِي وَسَطِ ذَلِكَ الْمَاءِ
شَجَرَةٌ مَنْ ذَهَبَ وَفِضَّةٍ لَهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ غُصْنًا أَكْثَرُهَا
مِنْ ذَهَبٍ وَفِيَ الشَّمَارِيخِ وَالْأَوْرَاقِ الْمُلَوَّنَةِ عَلَيْهَا
طُيُورٌ مَصْبُوغَةٌ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاللَّآلِئِ، وَهِيَ تُصَوِّتُ
بِأَنْوَاعِ الْأَصْوَاتِ مِنَ الْمَاءِ الْمُسَلَّطِ عَلَيْهَا، وَالشَّجَرَةُ
بِكَمَالِهَا تَتَمَايَلُ كَمَا تَتَمَايَلُ الْأَشْجَارُ بِحَرَكَاتٍ عَجِيبَةٍ
تُدْهِشُ مَنْ يَرَاهَا، ثُمَّ أُدْخِلَ إِلَى مَكَانٍ يُسَمُّونَهُ
الْفِرْدَوْسَ، فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَارِشِ وَالْآلَاتِ مَا لَا يُحَدُّ
وَلَا يُوصَفُ كَثْرَةً وَحُسْنًا وَفِي دَهَالِيزِهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ
جَوْشَنٍ مُذَهَّبَةٍ، فَمَا زَالَ كُلَّمَا مَرَّ عَلَى مَكَانٍ أَدْهَشَهُ
وَأَخَذَ بِبَصَرِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ
وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ آبِنُوسَ قَدْ فُرِشَ بالدَّيْبَقِيِّ
الْمُطَرَّزِ بِالذَّهَبِ وَعَنْ يَمِينِ السَّرِيرِ تِسْعَةُ عُقُودٍ مُعَلَّقَةٍ
وَعَنْ يَسَارِهِ تِسْعَةٌ أُخْرَى مِنْ أَفْخَرِ الْجَوَاهِرِ يَعْلُو ضَوْؤُهَا
عَلَى ضَوْءِ النَّهَارِ، فَأُوقِفَ الرَّسُولُ وَالَّذِي مَعَهُ بَيْنَ يَدَيِ
الْخَلِيفَةِ عَلَى نَحْوٍ مَنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ وَالْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ وَالتُّرْجُمَانُ
دُونَ الْوَزِيرِ، فَجَعَلَ الْخَلِيفَةُ يُخَاطِبُ الْوَزِيرَ، وَالْوَزِيرُ
يُخَاطِبُ التُّرْجُمَانَ وَالتُّرْجُمَانُ يُخَاطِبُهُمَا، ثُمَّ خَلَعَ عَلَيْهِمَا
وَأَطْلَقَ لَهُمَا خَمْسِينَ سَقْرَقًا فِي كُلِّ سَقْرَقٍ خَمْسَةُ آلَافِ
دِرْهَمٍ، وَأُخْرِجَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَطِيفَ بِهِمَا فِي بَقِيَّةِ دَارِ
الْخِلَافَةِ وَعَلَى حَافَّاتِ دِجْلَةَ الْفِيَلَةُ وَالزَّرَافَاتُ
وَالسِّبَاعُ وَالْفُهُودُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ مَا وَقَعَ
مِنَ الْحَوَادِثِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سُلَيْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو مُوسَى.
النَّحْوِيُّ الْكُوفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْحَامِضِ، صَحِبَ ثَعْلَبًا
أَرْبَعِينَ سَنَةً وَخَلَفَهُ فِي حَلْقَتِهِ وَصَنَّفَ " غَرِيبَ
الْحَدِيثِ " وَ " خَلْقَ الْإِنْسَانِ " وَ " الْوُحُوشَ
" وَ " النَّبَاتَ " وَكَانَ دَيِّنًا صَالِحًا رَوَى عَنْهُ أَبُو
عُمَرَ الزَّاهِدُ تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا وَدُفِنَ
بِبَابِ التِّبْنِ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شِيرَوَيْهِ الْحَافِظُ. وَعِمْرَانُ بْنُ مُجَاشِعٍ.
وَأَبُو خَلِيفَةَ الْفَضْلُ بْنُ الْحُبَابِ. وَقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ
يَحْيَى الْمُطَرِّزُ الْمُقْرِئُ أَحَدُ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ سَمِعَ أَبَا
كُرَيْبٍ وَسُوَيْدَ بْنَ سَعِيدٍ، وَعَنْهُ الْخُلْدِيُّ وَابْنُ الْجَعَّابِيِّ،
تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ مُسْتَهَلُّ هَذِهِ السَّنَةِ -
فُتِحَ الْمَارَسْتَانُ الَّذِي بَنَتْهُ السَّيِّدَةُ أُمُّ الْمُقْتَدِرِ،
وَجَلَسَ فِيهِ سِنَانُ بْنُ ثَابِتٍ الطَّبِيبُ وَرُتِّبَتْ فِيهِ الْأَطِبَّاءُ
وَالْخَدَمُ وَالْقَوْمَةُ وَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ سِتَّمِائَةَ
دِينَارٍ، وَأَشَارَ سِنَانُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى الْخَلِيفَةِ بِبِنَاءِ
مَارَسْتَانَ فَقَبِلَ مِنْهُ وبُنِيَ وَسُمِّيَ الْمُقْتَدِرِيَّ.
وَفِيهَا وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ أُمَرَاءِ الصَّوَائِفِ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُصُونِ فِي بِلَادِ الرُّومِ.
وَفِيهَا شَغَبَ الْعَامَّةُ وَأَرْجَفُوا بِمَوْتِ الْمُقْتَدِرِ، فَرَكِبَ فِي
الْجَحَافِلِ حَتَّى بَلَغَ الثُّرَيَّا وَرَجَعَ مِنْ بَابِ الْعَامَّةِ وَوَقَفَ
طَوِيلًا لِيَرَاهُ النَّاسُ ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الشَّمَّاسِيَّةِ وَانْحَدَرَ إِلَى
دَارِ الْخِلَافَةِ فِي دِجْلَةَ فَسَكَنَتِ الْفِتَنُ.
وَفِيهَا قَلَّدَ الْمُقْتَدِرُ حَامِدَ بْنَ الْعَبَّاسِ الْوِزَارَةَ وَخَلَعَ
عَلَيْهِ وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَخَلْفَهُ أَرْبَعُمِائَةِ غُلَامٍ لِنَفْسِهِ،
ثُمَّ تَبَيَّنَ عَجْزُهُ، فَأَخْرَجَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى وَجَعَلَهُ مَعَهُ
لِيُنْفِذَ الْأُمُورَ وَيَنْظُرَ مَعَهُ فِي الْأَعْمَالِ، وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ
بْنُ مُقْلَةَ مِمَّنْ يَكْتُبُ أَيْضًا بِحَضْرَةِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ
الْوَزِيرِ، ثُمَّ صَارَتِ الْمُنْزِلَةُ كُلُّهَا لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى
وَاسْتَقَلَّ بِالْوِزَارَةِ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ.
وَفِيهَا أَمَرَتِ السَّيِّدَةُ أُمُّ الْمُقْتَدِرِ قَهْرَمَانَةً لَهَا تُعْرَفُ
بِثَمِلَ أَنْ تَجْلِسَ فِي التُّرْبَةِ الَّتِي بَنَتْهَا بِالرُّصَافَةِ فِي
كُلِّ يَوْمِ جُمْعَةٍ، وَأَنْ تَنْظُرَ فِي الْمَظَالِمِ الَّتِي تُرْفَعُ
إِلَيْهَا فِي الْقِصَصِ، وَحَضَرَ فِي مَجْلِسِهَا
الْقُضَاةُ وَالْفُقَهَاءُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ.
أَبُو الْقَاسِمِ الْكِلَابِيُّ الشَّافِعِيُّ سَمِعَ الْحَارِثَ بْنَ مِسْكِينٍ
وَغَيْرَهُ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا ثِقَةً، عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَكَانَ يُحِبُّ الْخَلْوَةَ وَالِانْقِبَاضَ، تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا.
أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الصُّوفِيُّ أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ الْمُكْثِرِينَ
الْمُعَمَّرِينَ.
أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سُرَيْجٍ.
أَبُو الْعَبَّاسِ الْقَاضِي بِشِيرَازَ صَنَّفَ نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةِ مُصَنَّفٍ
وَكَانَ أَحَدَ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَكَانَ يُلَقَّبُ بِالْبَازِ
الْأَشْهَبِ، وَكَانَ قَدْ أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ
الْأَنْمَاطِيِّ، وَعَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَالْمُزَنِيِّ وَغَيْرِهِ،
وَعَنْهُ انْتَشَرَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْآفَاقِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا
تَرْجَمَتَهُ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ. تُوُفِّيَ فِي
جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا عَنْ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ تُوُفِّيَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ الْخَامِسَ وَالْعِشْرِينَ
مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَعُمُرُهُ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً وَسِتَّةُ
أَشْهُرٍ، وَقَبْرُهُ يُزَارُ.
أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَلَّاءُ بَغْدَادِيٌّ سَكَنَ الشَّامَ وَصَحِبَ أَبَا
التُّرَابِ النَّخْشَبِيَّ وَذَا النُّونِ الْمِصْرِيَّ
رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ بِسَنَدِهِ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبَوَيَّ وَأَنَا
شَابٌّ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَهِبَانِي لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَا: قَدْ
وَهَبْنَاكَ لِلَّهِ، فَغِبْتُ عَنْهُمَا مُدَّةً طَوِيلَةً ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى
بَلَدِنَا عِشَاءً فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى الْبَابِ
فَدَقَقْتُهُ، فَقَالَا: مَنْ هَذَا ؟ فَقُلْتُ: أَنَا وَلَدُكُمَا فُلَانٌ،
فَقَالَا: إِنَّهُ قَدْ كَانَ لَنَا وَلَدٌ وَوَهَبْنَاهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
وَنَحْنُ مِنَ الْعَرَبِ لَا نَرْجِعُ فِيمَا وَهَبْنَا. وَلَمْ يَفْتَحَا لِيَ
الْبَابَ.
الْحُسَيْنُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ
زَيْدٍ.
الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَهُوَ أَخُو الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ
يُوسُفَ كَانَ إِلَيْهِ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ بِالْأُرْدُنِّ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى بْنِ زِيَادٍ.
أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوَالِيقِيُّ الْقَاضِي الْمَعْرُوفُ بِعَبْدَانَ،
الْأَهْوَازِيُّ وُلِدَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، كَانَ أَحَدَ
الْحُفَّاظِ الْأَثْبَاتِ، يَحْفَظُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ، جَمَعَ الْمَشَايِخَ
وَالْأَبْوَابَ، رَوَى عَنْ هُدْبَةَ وَكَامِلِ بْنِ طَلْحَةَ وَغَيْرِهِمْ،
وَعَنْهُ ابْنُ صَاعِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
مُحَمَّدُ بْنُ بَابْشَاذَ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ.
سَكَنَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيِّ وَبِشْرِ
بْنِ مُعَاذٍ الْعَقَدِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَفِي حَدِيثِهِ غَرَائِبُ وَمَنَاكِيرُ
تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
مُحْمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ شَهْرَيَارَ.
أَبُو بَكْرٍ الْقَطَّانُ الْبَلْخِيُّ الْأَصْلِ رَوَى عَنِ الْفَلَّاسِ وَبِشْرِ
بْنِ مُعَاذٍ وَعَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْجِعَابِيِّ،
كَذَّبَهُ ابْنُ نَاجِيَةَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ.
مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ صَدَقَةَ بْنِ زِيَادٍ.
أَبُو بَكْرٍ الضَّبِّيُّ الْقَاضِي الْمَعْرُوفُ بِوَكِيعٍ كَانَ عَالِمًا
فَاضِلًا عَارِفًا بِأَيَّامِ النَّاسِ فَقِيهًا قَارِئًا نَحْوِيًّا لَهُ
مُصَنَّفَاتٌ مِنْهَا كِتَابُ " الْعَدَدِ " وَلِيَ الْقَضَاءَ
بِالْأَهْوَازِ وَحَدَّثَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ وَالزُّبَيْرِ بْنِ
بَكَّارٍ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ وَأَبُو عَلِيٍّ
الصَّوَّافُ وَغَيْرُهُمَا، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
إِذَا مَا غَدَتْ طَلَّابَةُ الْعِلْمِ تَبْتَغِي مِنَ الْعِلْمِ يَوْمًا مَا
يُخَلَّدُ فِي الْكُتْبِ غَدَوْتُ بِتَشْمِيرٍ وَجِدٍّ عَلَيْهِمْ
وَمِحْبَرَتِي أُذْنِي وَدَفْتَرُهَا قَلْبِي
مَنْصُورُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُمَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْفَقِيهُ أَحَدُ
أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي الْمَذْهَبِ وَلَهُ الشِّعْرُ
الْحَسَنُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَيَظْهَرُ فِي
شِعْرِهِ التَّشَيُّعُ وَكَانَ جُنْدِيًّا كُفَّ بَصَرُهُ
وَسَكَنَ الرَّمْلَةَ ثُمَّ قَدِمَ مِصْرَ حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ بِهَا.
أَبُو نَصْرٍ الْمُحِبُّ.
أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ كَانَ لَهُ كَرَمٌ وَسَخَاءٌ وَمُرُوءَةٌ، وَمَرَّ
بِسَائِلٍ سَأَلَ وَهُوَ يَقُولُ: شَفِيعِي إِلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَقَّ أَبُو نَصْرٍ إِزَارَهُ وَأَعْطَاهُ نِصْفَهُ
ثُمَّ مَشَى خُطْوَتَيْنِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَأَعْطَاهُ النِّصْفَ الْآخَرَ،
وَقَالَ: هَذَا نَذَالَةٌ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا وَقَعَ حَرِيقٌ بِالْكَرْخِ فِي الْبَاقِلَّانِيِّينَ هَلَكَ
فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا دُخِلَ بِأُسَارَى مِنَ الْكَرْخِ نَحْوٍ مِنْ
مِائَةٍ وَخَمْسِينَ أَسِيرًا أَنْقَذَهُمُ الْأَمِيرُ بَدْرٌ الْحَمَامِيُّ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ انْقَضَّ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ غَالِبُ الضَّوْءِ وَتَقَطَّعَ
ثَلَاثَ قِطَعٍ وَسُمِعَ بَعْدَ انْقِضَاضِهِ صَوْتُ رَعْدٍ شَدِيدٍ هَائِلٍ مِنْ
غَيْرِ غَيْمٍ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
وَفِيهَا دَخَلَتِ الْقَرَامِطَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا
الْفَسَادَ.
وَفِيهَا عُزِلَ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ عَنِ الْوِزَارَةِ وَأُعِيدَ إِلَيْهَا
أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْفُرَاتِ الْمَرَّةَ الثَّالِثَةَ.
وَفِيهَا كَسَرَتِ الْعَامَّةُ أَبْوَابَ السُّجُونِ فَأَخْرَجُوا مَنْ كَانَ
بِهَا، فَأَدْرَكَتِ الشُّرْطَةُ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنَ السِّجْنِ فَلَمْ
يَفُتْهُمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، بَلْ رُدُّوا إِلَى السُّجُونِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَحْمَدُ بْنُ الْعَبَّاسِ أَخُو أُمِّ
مُوسَى الْقَهْرَمَانَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى.
أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ " الْمَشْهُورِ،
سَمِعَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَطَبَقَتَهُ وَكَانَ حَافِظًا خَيِّرًا
حَسَنَ
التَّصْنِيفِ عَدْلًا فِيمَا يَرْوِيهِ ضَابِطًا لِمَا
يُحَدِّثُ بِهِ.
إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سَلَمَةَ.
أَبُو يَعْقُوبَ الْبَزَّازُ الْكُوفِيُّ، رَحَلَ إِلَى الشَّامِ وَمِصْرَ
وَكَتَبَ الْكَثِيرَ وَصَنَّفَ " الْمُسْنَدَ " وَاسْتَوْطَنَ بَغْدَادَ
وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْمُظَفَّرِ الْحَافِظُ، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَعْرَجُ
النَّيْسَابُورِيُّ الْحَافِظُ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَرَوَى عَنْهُ الطَّبَرَانِيُّ
وَالْأَزْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا
عَارِفًا، تُوُفِّيَ بِحَلَبَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ.
الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ شَيْخُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي السُّنَّةِ
وَالْحَدِيثِ.
عَلِيُّ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْأَزْهَرِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَصْبَهَانِيُّ، كَانَ
أَوَّلًا مُتْرَفًا ثُمَّ كَانَ زَاهِدًا عَابِدًا يَبْقَى الْأَيَّامَ لَا
يَأْكُلُ فِيهَا شَيْئًا، وَكَانَ يَقُولُ: أَلْهَانِي الشَّوْقُ عَنِ الطَّعَامِ
وَالشَّرَابِ، وَكَانَ يَقُولُ: أَنَا لَا أَمُوتُ بِمَا يَمُوتُونَ،
بِالْأَعْلَالِ وَالْأَسْقَامِ إِنَّمَا هُوَ
دُعَاءٌ وَإِجَابَةٌ، أُدْعَى فَأُجِيبُ، فَكَانَ كَمَا
قَالَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي جَمَاعَةٍ إِذْ قَالَ: لَبَّيْكَ، وَوَقَعَ
مَيِّتًا.
ومُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرُّويَانِيُّ صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ "
وَابْنُ ذَرِيحٍ الْعُكْبَرِيُّ وَالْهَيْثَمُ بْنُ خَلَفٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
غَلَتِ الْأَسْعَارُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِبَغْدَادَ فَاضْطَرَبَتِ الْعَامَّةُ
وَقَصَدُوا دَارَ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الَّذِي ضَمِنَ قَرَايَا مِنَ
الْخَلِيفَةِ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَعَدَوْا فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ وَكَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْخَطِيبِ، فَمَنَعُوهُ الْخُطْبَةَ
وَكَسَرُوا الْمَنَابِرَ وَدِكَكَ الشُّرَطِ وَحَرَقُوا جُسُورًا كَثِيرَةً،
وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِقِتَالِ الْعَامَّةِ ثُمَّ نَقَضَ الضَّمَانَ الَّذِي
كَانَ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ ضَمِنَهُ فَانْحَطَّتِ الْأَسْعَارُ وَبِيعَ
الْكُرُّ بِنَاقِصِ خَمْسَةِ دَنَانِيرَ فَطَابَتْ أَنْفُسُ النَّاسِ بِذَلِكَ
وَسَكَنُوا.
وَفِي تَمُّوزَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ بَرْدٌ شَدِيدٌ جِدًّا حَتَّى نَزَلَ
النَّاسُ عَنِ الْأَسْطِحَةِ وَتَدَثَّرُوا بِاللُّحُفِ وَالْأَكْسِيَةِ وَوَقَعَ
فِي شِتَاءِ هَذِهِ السَّنَةِ ثَلْجٌ عَظِيمٌ وَكَانَ فِيهَا بَرْدٌ شَدِيدٌ
جِدًّا بِحَيْثُ أَضَرَّ ذَلِكَ بِبَعْضِ النَّخِيلِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا أَحْمَدُ بْنُ الْعَبَّاسِ أَخُو الْقَهْرَمَانَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ الْفَقِيهُ.
رَاوِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْهُ
أَحْمَدُ بْنُ الصَّلْتِ.
بْنِ الْمُغَلِّسِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْحِمَّانِيُّ أَحَدُ الْوَضَّاعِينَ
لِلْأَحَادِيثِ رَوَى عَنْ خَالِهِ جُبَارَةَ بْنِ الْمُغَلِّسِ وَأَبِي نُعَيْمٍ
وَمُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبِي
عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ وَغَيْرِهِمْ أَحَادِيثَ، كُلُّهَا وَضَعَهَا
هُوَ فِي مَنَاقِبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَحَكَى عَنْ يَحْيَى بْنِ
مَعِينٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ أَخْبَارًا
كُلُّهَا كَذِبٌ.
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي
الْفَوَارِسِ: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ الصَّلْتِ يَضَعُ الْحَدِيثَ.
إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ وَالْمُفَضَّلُ الْجَنَدِيُّ وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ وَهْبٍ الدِّينَوَرِيُّ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ يَعْقُوبَ.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِئُ النَّحْوِيُّ التَّوَّزِيُّ سَكَنَ بَغْدَادَ
وَرَوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ، وَعَنْهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ،
وَمِنْ شِعْرِهِ:
إِذَا لَمْ تَكُنْ حَافِظًا وَاعِيًا فَعِلْمُكَ فِي
الْبَيْتِ لَا يَنْفَعُ وَتَحْضُرُ بِالْجَهْلِ فِي مَجْلِسٍ
وَعِلْمُكَ فِي الْكُتْبِ مُسْتَوْدَعُ وَمَنْ يَكُ فِي دَهْرِهِ هَكَذَا
يَكُنْ دَهْرَهُ الْقَهْقَرَى يَرْجِعُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ كَثِيرٌ فِي نُوَاحِي بَغْدَادَ بِسَبَبِ زِنْدِيقٍ قُتِلَ
فَأَلْقَى مَنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ الْحَرِيقَ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ فَهَلَكَ
بِسَبَبِ ذَلِكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا قَلَّدَ الْمُقْتَدِرُ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ
بِلَادَ مِصْرَ وَالشَّامِ وَلَقَبَّهُ الْمُظَفَّرَ وَكَتَبَ بِذَلِكَ فِي
الْمُرَاسَلَاتِ إِلَى الْآفَاقِ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا أُحْضِرَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ
الطَّبَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِلَى دَارِ الْوَزِيرِ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ
لِمُنَاظَرَةِ الْحَنَابِلَةِ فِي أَشْيَاءَ نَقَمُوهَا عَلَيْهِ فَلَمْ
يَحْضُرُوا وَلَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ.
وَقَدَّمَ الْوَزِيرُ حَامِدُ بْنِ الْعَبَّاسِ لِلْخَلِيفَةِ بُسْتَانًا بَنَاهُ
وَسَمَّاهُ النَّاعُورَةَ قِيمَتُهُ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ وَفَرَشَ مَسَاكِنَهُ
بِأَنْوَاعِ الْمَفَارِشِ الْمُفْتَخِرَةِ.
وَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ الْحَلَّاجِ وَلِنَذْكُرْ
شَيْئًا مِنْ تَرْجَمَتِهِ وَسِيرَتِهِ وَكَيْفِيَّةِ قَتْلِهِ، عَلَى وَجْهِ
الْإِيجَازِ وَبَيَانِ الْمَقْصُودِ بِطَرِيقِ الْإِنْصَافِ وَالْعَدْلِ.
وَهَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْ سِيرَتِهِ وَأَحْوَالِهِ وَكَشْفِ سَرِيرَتِهِ
وَأَقْوَالِهِ
الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ مَحْمِيٍّ الْحَلَّاجُ أَبُو مُغِيثٍ، وَيُقَالُ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ،
كَانَ جَدُّهُ مَجُوسِيًّا اسْمُهُ مَحْمِيٌّ مِنْ أَهْلِ
فَارِسَ نَشَأَ بِوَاسِطَ، وَيُقَالُ بِتُسْتَرَ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ وَتَرَدَّدَ
إِلَى مَكَّةَ مِرَارًا لِلْحَجِّ وَجَاوَرَ بِهَا سَنَوَاتٍ مُتَفَرِّقَةً،
وَكَانَ يُصَابِرُ نَفْسَهُ وَيُجَاهِدُهَا فَلَا يَجْلِسُ إِلَّا تَحْتَ
السَّمَاءِ فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَلَا يَأْكُلُ
إِلَّا بَعْضَ قُرْصٍ وَيَشْرَبُ قَلِيلًا مِنَ الْمَاءِ مَعَهُ وَذَلِكَ وَقْتَ
الْفُطُورِ مُدَّةَ سَنَةٍ كَامِلَةٍ وَيَجْلِسُ عَلَى صَخْرَةٍ فِي قُبَالَةِ
الْحَرَمِ فِي جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ وَقَدْ صَحِبَ جَمَاعَةً مِنْ سَادَاتِ
مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ كَالْجُنَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ
الْمَكِّيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ النُّورِيِّ.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَالصُّوفِيَّةُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ
فَأَكْثَرَهُمْ نَفَى أَنْ يَكُونَ الْحَلَّاجُ مِنْهُمْ وَأَبَى أَنْ يَعُدَّهُ
فِيهِمْ، وَقَبِلَهُ مِنْ مُتَقَدِّمِيهِمْ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عَطَاءٍ
الْبَغْدَادِيُّ ومُحَمَّدُ بْنُ خَفِيفٍ الشِّيرَازِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ
مُحَمَّدٍ النَّصْرَابَاذِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ وَصَحَّحُوا لَهُ حَالَهُ
وَدَوَّنُوا كَلَامَهُ حَتَّى قَالَ ابْنُ خَفِيفٍ: الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ
عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ
الْحُسَيْنِ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدٍ النَّصْرَابَاذِيَّ وَعُوتِبَ
فِي شَيْءٍ حُكِيَ عَنِ الْحَلَّاجِ فِي الرُّوحِ،
فَقَالَ لِمَنْ عَاتَبَهُ: إِنْ كَانَ بَعْدَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ مُوَحِّدٌ فَهُوَ الْحَلَّاجُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَسَمِعْتُ مَنْصُورَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ،
يَقُولُ: سَمِعْتُ الشِّبْلِيَّ، يَقُولُ: كُنْتُ أَنَا وَالْحُسَيْنُ بْنُ
مَنْصُورٍ شَيْئًا وَاحِدًا إِلَّا أَنَّهُ أَظْهَرَ وَكَتَمْتُ. وَقَدْ رُوِيَ
عَنِ الشِّبْلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ قَالَ وَقَدْ رَأَى الْحَلَّاجَ
مَصْلُوبًا: أَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ؟
قَالَ الْخَطِيبُ: وَالَّذِينَ نَفَوْهُ مِنَ الصُّوفِيَّةِ نَسَبُوهُ إِلَى
الشَّعْبَذَةِ فِي فِعْلِهِ وَإِلَى الزَّنْدَقَةِ فِي عَقْدِهِ.
قَالَ: وَلَهُ إِلَى الْآنِ أَصْحَابٌ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ وَيَغْلُونَ فِيهِ،
وَقَدْ كَانَ الْحَلَّاجُ حَسَنَ الْعِبَارَةِ حُلْوَ الْمَنْطِقِ وَلَهُ شِعْرٌ
عَلَى طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ.
قُلْتُ: لَمْ يَزَلِ النَّاسُ مُنْذُ قُتِلَ الْحَلَّاجُ مُخْتَلِفِينَ فِي
أَمْرِهِ. فَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَحُكِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ
إِجْمَاعُهُمْ عَلَى قَتْلِهِ وَأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا مُمَخْرِقًا مُمَوِّهًا
مُشَعْبِذًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصُّوفِيَّةِ مِنْهُمْ. وَمِنْهُمْ
طَائِفَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ أَجْمَلُوا الْقَوْلَ فِيهِ وَغَرَّهُمْ ظَاهِرُهُ
وَلَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى بَاطِنِهِ، وَقَدْ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ فِيهِ
تَعْبُدٌ وَتَأَلُّهٌ وَسُلُوكٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ يَسْلُكُ بِهِ
فِي عِبَادَتِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ الدَّاخِلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ
بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مَا يُفْسِدُهُ
أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ. وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ
قَالَ: مَنْ فَسَدَ مِنْ عُلَمَائِنَا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ
مَنَ الْيَهُودِ وَمَنْ فَسَدَ مِنْ عُبَّادِنَا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنَ
النَّصَارَى. وَلِهَذَا دَخَلَ عَلَى الْحَلَّاجِ بَابُ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ
فَصَارَ مِنْ أَهْلِ الِانْحِلَالِ وَالْإِلْحَادِ.
وَقَدْ وَرَدَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ تَقَلَّبَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ
وَتَرَدَّدَ إِلَى الْبُلْدَانِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ
أَنَّهُ مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَحَّ أَنَّهُ دَخَلَ
إِلَى الْهِنْدِ لِتَعَلُّمِ السِّحْرِ، وَقَالَ: أَدْعُو بِهِ إِلَى اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ. وَكَانَأَهْلُ الْهِنْدِ يُكَاتِبُونَهُ بِالْمُغِيثِ.
وَيُكَاتِبُهُ أَهْلُ تُرْكِسْتَانَ بِالْمُقِيتِ. وَيُكَاتِبُهُ أَهْلُ
خُرَاسَانَ بِالْمُمَيِّزِ. وَأَهْلُ فَارِسَ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزَّاهِدِ.
وَأَهْلُ خُوزَسْتَانَ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزَّاهِدِ حَلَّاجِ الْأَسْرَارِ.
وَكَانَ بَعْضُ الْبَغَادِدَةِ حِينَ كَانَ عِنْدَهُمْ يَقُولُونَ لَهُ:
الْمُصْطَلِمُ. وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ يَقُولُونَ لَهُ الْمُحَيِّرُ.
وَيُقَالُ: إِنَّمَا سَمَّاهُ الْحَلَّاجَ أَهْلُ الْأَهْوَازِ ; لِأَنَّهُ كَانَ
يُكَاشِفُهُمْ عَنْ مَا فِي ضَمَائِرِهِمْ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ قَالَ لِحَلَّاجٍ:
اذْهَبْ لِي فِي حَاجَةِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: إِنِّي مَشْغُولٌ، فَقَالَ:
اذْهَبْ فَأَنَا أَسُدُّ عَنْكَ، فَذَهَبَ وَرَجَعَ سَرِيعًا فَإِذَا جَمِيعُ مَا
فِي ذَلِكَ الْمَخْزَنِ قَدْ حَلَجَهُ، يُقَالُ: إِنَّهُ أَشَارَ بِالْمِرْوَدِ
فَامْتَازَ الْحَبُّ عَنِ الْقُطْنِ، وَفِي صِحَّةِ هَذَا نَظَرٌ. وَقِيلَ:
لِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ حَلَّاجًا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَا
حُلُولٍ
فِي بَدْءِ أَمْرِهِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا شِعْرُهُ،
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
جُبِلَتْ رُوحُكَ فِي رُوحِي كَمَا يُجْبَلُ الْعَنْبَرُ بِالْمِسْكِ الْفَتِقْ
فَإِذَا مَسَّكَ شَيْءٌ مَسَّنِي
فَإِذَا أَنْتَ أَنَا لَا نَفْتَرِقْ
وَقَوْلُهُ أَيْضًا:
مُزِجَتْ رُوحُكَ فِي رُوحِي كَمَا تُمْزَجُ الْخَمْرَةُ بِالْمَاءِ الزُّلَالْ
فَإِذَا مَسَّكَ شَيْءٌ مَسَّنِي فَإِذَا أَنْتَ أَنَا فِي كُلِّ حَالْ
وَلَهُ أَيْضًا:
قَدْ تَحَقَّقْتُكَ فِي سِرِّ ي فَخَاطَبَكَ لِسَانِي
فَاجْتَمَعْنَا لِمَعَانٍ وَافْتَرَقْنَا لِمَعَانِ
إِنْ يَكُنْ غَيَّبَكَ التَّعْ ظِيمُ عَنْ لَحْظِ الْعَيَانِ
فَلَقَدْ صَيَّرَكَ الْوَجْ دُ مِنَ الْأَحْشَاءِ دَانِ
وَقَدْ أُنْشِدَ لِابْنِ عَطَاءٍ قَوْلُ الْحَلَّاجِ:
أُرِيدُكَ لَا أُرِيدُكَ لِلثَّوَابِ وَلَكِنِّي أُرِيدُكَ لِلْعِقَابِ
وَكُلُّ مَآرِبِي قَدْ نِلْتُ مِنْهَا سِوَى مَلْذُوذِ وَجْدِي بِالْعَذَابِ
فَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: هَذَا مِمَّا يَتَزَايَدُ بِهِ عَذَابُ الشَّغَفِ
وَهُيَامُ الْكَلَفِ وَاحْتِرَاقُ الْأَسَفِ فَإِذَا صَفَا وَوَفَا عَلَا إِلَى
مَشْرَبٍ عَذْبٍ وَهَطْلٍ مِنَ الْحَقِّ دَائِمٍ سَكِبٍ.
وَقَدْ أُنْشِدَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَفِيفٍ قَوْلُ الْحَلَّاجِ:
سُبْحَانَ مَنْ أَظْهَرَ نَاسُوتُهُ سِرَّ سَنَا لَاهُوتِهِ
الثَّاقِبِ
ثُمَّ بَدَا فِي خَلْقِهِ ظَاهِرًا فِي صُورَةِ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ
حَتَّى لَقَدْ عَايَنَهُ خَلْقُهُ كَلَحْظَةِ الْحَاجِبِ بِالْحَاجِبِ
فَقَالَ ابْنُ خَفِيفٍ: عَلَى مَنْ يَقُولُ هَذَا لَعْنَةُ اللَّهِ. فَقِيلَ لَهُ:
إِنَّ هَذَا مِنْ شِعْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ، فَقَالَ: رُبَّمَا يَكُونُ
مَقُولًا عَلَيْهِ.
وَمِمَّا يُنْسَبُ إِلَيْهِ مِنَ الشِّعْرِ قَوْلُهُ:
أَرْسَلْتَ تَسْأَلُ عَنِّي كَيْفَ كُنْتُ وَمَا لَاقَيْتُ بَعْدَكَ مِنْ هَمٍّ
وَمِنْ حَزَنِ
لَا كُنْتُ إِنْ كُنْتُ أَدْرِي كَيْفَ كُنْتُ وَلَا لَا كُنْتُ إِنْ كُنْتُ
أَدْرِي كَيْفَ لَمْ أَكُنِ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَيُرْوَى لِسَمْنُونٍ لَا لِلْحَلَّاجِ.
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ:
مَتَى سَهِرَتْ عَيْنِي لِغَيْرِكَ أَوْ بَكَتْ فَلَا أُعْطِيَتْ مَا أَمَّلَتْ
وَتَمَنَّتِ
وَإِنْ أَضْمَرَتْ نَفْسِي سِوَاكَ فَلَا رَعَتْ رِيَاضَ الْمُنَى مِنْ
وَجْنَتَيْكَ وَجُنَّتِ
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا:
دُنْيَا تُغَالِطُنِي كَأَنِّ ي لَسْتُ أَعْرِفُ حَالَهَا
حَظَرَ الْمَلِيكُ حَرَامَهَا وَأَنَا احْتَمَيْتُ حَلَالَهَا
فَوَجَدْتُهَا مُحْتَاجَةً فَوَهَبْتُ لَذَّتَهَا لَهَا
وَقَدْ كَانَ الْحَلَّاجُ يَتَلَوَّنُ فِي مَلَابِسِهِ، فَتَارَةً يَلْبَسُ
لِبَاسَ الصُّوفِيَّةِ، وَتَارَةً يَتَجَرَّدُ فِي مَلَابِسَ زَرِيَّةٍ، وَتَارَةً
يَلْبَسُ لِبَاسَ الْأَجْنَادِ وَيُعَاشِرُ أَبْنَاءَ الدُّنْيَا، وَقَدْ رَآهُ
بَعْضُهُمْ فِي ثِيَابٍ رَثٍّ وَبِيَدِهِ رِكْوَةٌ وَعُكَّازٌ وَهُوَ سَائِحٌ،
فَقَالَ لَهُ: مَا هَذِهِ الْحَالَةُ يَا حَلَّاجُ ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَئِنْ أَمْسَيْتُ فِي ثَوْبَيْ عَدِيمٍ لَقَدْ بَلِيَا عَلَى حُرٍّ كَرِيمِ
فَلَا يَغْرُرْكَ أَنْ أَبْصَرْتَ حَالًا مُغَيَّرَةً عَنِ الْحَالِ الْقَدِيمِ
فَلِي نَفْسٌ سَتَتْلَفُ أَوْ سَتَرْقَى لَعَمْرُكَ بِي إِلَى أَمْرٍ جَسِيمِ
وَمِنْ مُسْتَجَادِ كَلَامِهِ، وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ أَنْ يُوصِيَهُ بِشَيْءٍ
يَنْفَعُهُ: عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالْحَقِّ شَغَلَتْكَ
عَنِ الْحَقِّ. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: عِظْنِي. فَقَالَ: كُنْ مَعَ الْحَقِّ
بِحُكْمِ مَا أَوْجَبَ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: عِلْمُ الْأَوَّلِينَ
وَالْآخَرِينَ مَرْجِعُهُ إِلَى أَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: حُبُّ الْجَلِيلِ، وَبُغْضُ
الْقَلِيلِ، وَاتِّبَاعُ التَّنْزِيلِ، وَخَوْفُ التَّحْوِيلِ. قُلْتُ: وَقَدْ
أُصِيبَ الْحَلَّاجُ فِي الْمَقَامَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ فَلَمْ يَتَّبِعِ
التَّنْزِيلَ وَلَمْ يَبْقَ عَلَى
الِاسْتِقَامَةِ، بَلْ تَحَوَّلَ مِنْهَا إِلَى
الِاعْوِجَاجِ وَالْبِدْعَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: حُكِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ
الْمَكِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أُمَاشِي الْحَلَّاجَ فِي بَعْضِ أَزِقَّةِ
مَكَّةَ وَكُنْتُ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَسَمِعَ قِرَاءَتِي، فَقَالَ: يُمْكِنُنِي
أَنْ أَقُولَ مِثْلَ هَذَا. فَفَارَقَتْهُ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَحَدَّثَنِي مَسْعُودُ بْنُ نَاصِرٍ أَنْبَأَنَا ابْنُ
بَاكُوَيْهِ الشِّيرَازِيُّ سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ الطَّبَرِيَّ، يَقُولُ:
النَّاسُ فِيهِ - يَعْنِي حُسَيْنَ بْنَ مَنْصُورٍ - بَيْنَ قَبُولٍ وَرَدٍّ،
وَلَكِنْ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الرَّازِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَمْرَو
بْنَ عُثْمَانَ يَلْعَنُهُ وَيَقُولُ: لَوْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ لَقَتَلْتُهُ
بِيَدِي، فَقُلْتُ: أَيْشِ الَّذِي وَجَدَ الشَّيْخُ عَلَيْهِ ؟ قَالَ: قَرَأْتُ
آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ: يُمْكِنُنِي أَنْ أُؤَلِّفَ مِثْلَهُ
وَأَتَكَلَّمَ بِهِ.
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الطَّبَرِيُّ: وَسَمِعْتُ أَبَا يَعْقُوبَ الْأَقْطَعَ، يَقُولُ:
زَوَّجْتُ ابْنَتِي مِنَ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حُسْنِ
طَرِيقَتِهِ وَاجْتِهَادِهِ، فَبَانَ لِي بَعْدَ مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ أَنَّهُ
سَاحِرٌ مُحْتَالٌ خَبِيثٌ كَافِرٌ.
قُلْتُ: كَانَ تَزْوِيجُهُ بِهَا بِمَكَّةَ وَهِيَ أُمُّ الْحُسَيْنِ بِنْتُ أَبِي
يَعْقُوبَ الْأَقْطَعِ، فَأَوْلَدَهَا وَلَدَهُ أَحْمَدَ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ
مَنْصُورٍ، وَقَدْ ذَكَرَ سِيرَةَ أَبِيهِ كَمَا سَاقَهَا مِنْ طَرِيقِهِ
الْخَطِيبُ.
وَذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " فِي
بَابِ " حِفْظِ قُلُوبِ الْمَشَايِخِ " أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ
دَخَلَ عَلَى الْحَلَّاجِ وَهُوَ بِمَكَّةَ وَهُوَ يَكْتُبُ شَيْئًا فِي
أَوْرَاقٍ، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا ؟ فَقَالَ: هُوَ ذَا
أُعَارِضُ الْقُرْآنَ. قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِ فَلَمْ يُفْلِحْ بَعْدَهَا، وَأَنْكَرَ
عَلَى أَبِي يَعْقُوبَ الْأَقْطَعِ تَزْوِيجَهُ إِيَّاهُ ابْنَتَهُ، وَكَتَبَ
إِلَى الْآفَاقِ كُتُبًا كَثِيرَةً يَلْعَنُهُ فِيهَا وَيُحَذِّرُ النَّاسَ
مِنْهُ، فَشَرَدَ الْحَلَّاجُ فِي الْبِلَادِ فَعَاثَ يَمِينًا وَشِمَالًا
وَجَعَلَ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -
وَيَسْتَعِينُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْحِيَلِ وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ
وَشَأْنَهُ حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ بِهِ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ عَنِ
الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فَقَتَلَهُ بِسَيْفِ الشَّرْعِ الَّذِي لَا يَقَعُ
إِلَّا بَيْنَ كَتِفَيْ زِنْدِيقٍ، وَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُسَلِّطَهُ
عَلَى صِدِّيقٍ كَيْفَ وَقَدْ تَهَجَّمَ عَلَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَأَرَادَ
مُعَارَضَتَهُ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ الْكَرِيمِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ
أَلِيمٍ [ الْحَجِّ: 25 ] وَلَا إِلْحَادَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا، وَقَدْ أَشْبَهَ
فِي حَالِهِ هَذَا كَفَّارَ قُرَيْشٍ فِي مُعَانَدَتِهِمُ، الَّذِينَ قَالَ
تَعَالَى فِيهِمْ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا
لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
[ الْأَنْفَالِ: 31 ].
ذِكْرُ أَشْيَاءَ مِنْ حِيَلِ الْحَلَّاجِ
رَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ الْحَلَّاجَ أَنْفَذَ رَجُلًا بَيْنَ
يَدَيْهِ إِلَى بَعْضِ بِلَادِ الْجَبَلِ، فَأَقَامَ بِتِلْكَ الْبَلْدَةِ
يُظْهِرُ لَهُمُ الصَّلَاحَ وَالنُّسُكَ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَقَامَ فِيهِمْ
مُدَّةً عَلَى
ذَلِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ قَدْ عَمِيَ،
فَمَكَثَ حِينًا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَ أَنَّهُ قَدْ زَمِنَ، وَكَانَ
أَوَّلًا يُقَادُ إِلَى الْمَسْجِدِ ثُمَّ صَارَ يُحْمَلُ، فَمَكَثَ سَنَةً
كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: سَيَرِدُ عَلَى هَذِهِ الْبَلْدَةِ رَجُلٌ
صَالِحٌ يَكُونُ شِفَاؤُكَ عَلَى يَدَيْهِ، فَمَا كَانَ مِنْ قَرِيبٍ حَتَّى كَانَ
الْوَقْتُ الَّذِي وَاعَدَهُ فِيهِ الْحَلَّاجُ، وَدَخَلَ الْحَلَّاجُ الْبَلْدَةَ
مُخْتَفِيًا وَعَلَيْهِ ثِيَابُ صُوفٍ بِيضٌ فَلَزِمَ سَارِيَةً مِنَ الْمَسْجِدِ
يَتَعَبَّدُ فِيهِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى أَحَدٍ، فَابْتَدَرَ النَّاسُ إِلَى
ذَلِكَ الْمُتَعَامِي الْمُتَزَامِنِ، فَقِيلَ لَهُ: قَدِمَ رَجُلٌ صَالِحٌ
فَهَلُمَّ إِلَيْهِ، فَحَمَلُوهُ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَكَلَّمَهُ
فَعَرَفَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَقُولُ لِي
كَذَا وَكَذَا، فَعَسَى أَنْ يَكُونَ أَنْتَ إِيَّاهُ. فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَالنَّاسُ حُضُورٌ مُتَكَاثِرُونَ يَنْظُرُونَ مَاذَا
يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِ، فَفَتَحَ الرَّجُلُ عَيْنَيْهِ وَقَامَ قَائِمًا عَلَى
قَدَمَيْهِ، فَضَجَّ النَّاسُ وَعَظَّمُوا الْحَلَّاجَ تَعْظِيمًا زَائِدًا،
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَقٍّ، فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ مُدَّةً ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ
أَظْهُرِهِمْ، وَبَقِيَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عِنْدَهُمْ عِدَّةَ شُهُورٍ، ثُمَّ
قَالَ: إِنَّ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيَّ أَنْ رَدَّ عَلَيَّ بَصَرِي
وَشَفَانِي وَيَنْبَغِي أَنْ أُجَاهِدَ فِي سَبِيلِهِ بِثَغْرِ طَرَسُوسَ فَعَزَمَ
عَلَى ذَلِكَ فَجَمَعُوا لَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ مَالًا جَزِيلًا أُلُوفًا مِنَ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، ثُمَّ وَدَّعَهُمْ وَوَدَّعُوهُ، فَذَهَبَ إِلَى
الْحَلَّاجِ فَاقْتَسَمَا ذَلِكَ الْمَالَ.
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّ الْحَلَّاجَ لَهُ
أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَخْتَبِرَهُ فَجِئْتُهُ فَسَلَّمْتُ
عَلَيْهِ فَقَالَ لِي: تَشَهَّ عَلَيَّ السَّاعَةَ شَيْئًا، فَقُلْتُ: أَشْتَهِي
سَمَكًا طَرِيًّا، فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَغَابَ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجَ وَمَعَهُ
سَمَكَةٌ تَضْطَرِبُ
وَرِجْلَاهُ عَلَيْهِمَا الطِّينُ، فَقَالَ: دَعَوْتُ
اللَّهَ فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ بِالْبَطَائِحِ لِآتِيَكَ بِهَذِهِ، فَخُصْتُ
الْأَهْوَازَ وَهَذَا الطِّينُ مِنْهَا. فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَدْخَلْتَنِي
مَنْزِلَكَ لِأَكْشِفَ أَمْرَكَ فَإِنْ ظَهَرْتُ عَلَى شَيْءٍ وَإِلَّا آمَنْتُ
بِكَ، فَقَالَ: ادْخُلْ، فَدَخَلْتُ فَلَمْ أَجِدْ فِي الْبَيْتِ مَنْفَذًا إِلَى
غَيْرِهِ فَتَحَيَّرْتُ فِي أَمْرِهِ ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا تَأْزِيرٌ
فَكَشَفْتُهُ فَإِذَا مِنَ وَرَائِهِ بَابٌ فَدَخَلْتُ فَخَرَجْتُ مِنْهُ إِلَى
بُسْتَانٍ هَائِلٍ فِيهِ مِنْ سَائِرِ الثِّمَارِ الْجَدِيدَةِ وَالْمُعَتَّقَةِ
قَدْ أُحْسِنُ إِبْقَاؤُهَا وَإِذَا أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مُعَدَّةٌ لِلْأَكْلِ
وَإِذَا هُنَاكَ بِرْكَةٌ كَبِيرَةٌ فِيهَا سَمَكٌ كَثِيرٌ كِبَارٌ فَدَخَلْتُهَا
فَأَخْرَجْتُ مِنْهَا وَاحِدَةً، فَنَالَ رِجْلِي مِنَ الطِّينِ كَمَا نَالَ
رَجْلَيْهِ وَجِئْتُ إِلَى الْبَابِ فَقُلْتُ لَهُ: افْتَحْ قَدْ آمَنْتُ بِكَ،
فَلَمَّا خَرَجْتُ وَرَآنِي عَلَى مِثْلِ حَالِهِ جَرَى وَرَائِي لِيَقْتُلَنِي
فَضَرَبْتُهُ بِالسَّمَكَةِ فِي وَجْهِهِ، وَقُلْتُ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ
أَتْعَبْتَنِي فِي هَذَا الْيَوْمِ. وَلَمَّا خَلَصْتُ مِنْهُ لَقِيَنِي بَعْدَ
ذَلِكَ فَضَاحَكَنِي، وَقَالَ: لَا تُفْشِ هَذَا لِأَحَدٍ أَبْعَثْ إِلَيْكَ مَنْ
يَقْتُلُكَ عَلَى فِرَاشِكَ.
قَالَ: فَلَمْ أُحَدِّثْ بِهِ أَحَدًا حَتَّى صُلِبَ. وَقَدْ قَالَ يَوْمًا
لِرَجُلٍ: آمِنْ بِي حَتَّى أَبْعَثَ لَكَ بِعُصْفُورَةٍ تَأْخُذُ مِنْ ذَرْقِهَا
وَزْنَ حَبَّةٍ فَتَضَعُهُ عَلَى كَذَا وَكَذَا رِطْلًا مِنْ نُحَاسٍ، فَيَصِيرُ
ذَهَبًا، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: آمِنْ بِي أَنْتَ حَتَّى أَبْعَثَ إِلَيْكَ
بِفِيلٍ إِذَا اسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ بَلَغَتْ قَوَائِمُهُ السَّمَاءَ وَإِذَا
أَرَدْتَ أَنْ تُخْفِيَهُ وَضَعْتَهُ فِي إِحْدَى عَيْنَيْكَ. قَالَ: فَبُهِتَ
وَسَكَتَ.
وَلَمَّا وَرَدَ بَغْدَادَ جَعَلَ يَدْعُو إِلَى نَفْسِهِ
وَيُظْهِرُ أَشْيَاءَ مِنَ الْمَخَارِيقِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحْوَالِ
الشَّيْطَانِيَّةِ وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يُرَوِّجُ عَلَى الرَّافِضَةِ لِقِلَّةِ
عُقُولِهِمْ وَضِعْفِ تَمْيِيزِهِمْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَاسْتَدْعَى
يَوْمًا بِرَئِيسٍ مِنَ الرَّافِضَةِ فَدَعَاهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، فَقَالَ
لَهُ الرَّجُلُ: إِنِّي رِجْلٌ أُحِبُّ النِّسَاءَ وَإِنِّي أَصْلَعُ الرَّأْسِ
وَقَدْ شِبْتُ فَإِنْ أَنْتَ أَذْهَبْتَ عَنِّي هَذَا وَهَذَا آمَنْتُ أَنَّكَ
الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ أَنَّكَ نَبِيٌّ وَإِنْ شِئْتَ
قُلْتُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ.
قَالَ: فَبُهِتَ الْحَلَّاجُ وَلَمْ يُحِرْ إِلَيْهِ جَوَابًا.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: كَانَ الْحَلَّاجُ
مُتَلَوِّنًا كَثِيرَ التَّلَوُّنِ، تَارَةً يَلْبَسُ الْمُسُوحَ وَتَارَةً
يَلْبَسُ الدُّرَّاعَةَ وَتَارَةً يَلْبَسُ الْقَبَاءَ وَهُوَ مَعَ كُلِّ قَوْمٍ
عَلَى مَذْهَبِهِمْ، إِنْ كَانُوا أَهْلَ سُنَّةٍ أَوْ رَافِضَةً أَوْ
مُعْتَزِلَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَلَمَّا أَقَامَ بِالْأَهْوَازِ جَعَلَ يُنْفِقُ مِنْ دَرَاهِمَ يُخْرِجُهَا
يُسَمِّيهَا دَرَاهِمَ الْقُدْرَةِ، فَسُئِلَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ
الْجُبَّائِيُّ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا كُلَّهُ مِمَّا يُنَالُ
بِالْحِيلَةِ وَلَكِنْ أَدْخِلُوهُ بَيْتًا لَا مَنْفَذَ لَهُ ثُمَّ سَلُوهُ أَنْ
يُخْرِجَ لَكُمْ جَوْزَتَيْنِ مِنْ شَوْكٍ. فَلَمَّا بَلَغَ الْحَلَّاجَ كَلَامُ
أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ تَحَوَّلَ مِنَ الْأَهْوَازِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَخْلَدٍ أَنْبَأَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ الْخُطَبِيُّ
فِي " تَارِيخِهِ " قَالَ: وَظَهَرَ أَمْرُ رَجُلٍ يُعْرَفُ بِالْحَلَّاجِ يُقَالُ لَهُ: الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَكَانَ فِي حَبْسِ السُّلْطَانِ بِسِعَايَةٍ وَقَعَتْ بِهِ، وَذَلِكَ فِي وِزَارَةِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْأُولَى وَذُكِرَ عَنْهُ ضُرُوبٌ مِنَ الزَّنْدَقَةِ وَوَضْعِ الْحِيَلِ عَلَى تَضْلِيلِ النَّاسِ مِنْ جِهَاتٍ تُشْبِهُ الشَّعْوَذَةَ وَالسِّحْرَ وَادِّعَاءَ النُّبُوَّةِ فَكَشَفَهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى عِنْدَ قَبْضِهِ عَلَيْهِ وَانْتَهَى خَبَرُهُ إِلَى السُّلْطَانِ - يَعْنِي الْمُقْتَدِرَ بِاللَّهِ - فَلَمْ يُقِرَّ بِمَا رُمِيَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فَعَاقَبَهُ وَصَلَبَهُ حَيًّا أَيَّامًا مُتَوَالِيَةً فِي رَحْبَةِ الْجِسْرِ فِي كُلِّ يَوْمٍ غُدْوَةً وَيُنَادَى عَلَيْهِ بِمَا ذُكِرَ عَنْهُ ثُمَّ يُنْزَلُ بِهِ ثُمَّ يُحْبَسُ فَأَقَامَ فِي الْحَبْسِ سِنِينَ كَثِيرَةً يُنْقَلُ مِنْ حَبْسٍ إِلَى حَبْسٍ حَتَّى حُبِسَ بِأَخَرَةٍ فِي دَارِ السُّلْطَانِ فَاسْتَغْوَى جَمَاعَةً مِنْ غِلْمَانِ السُّلْطَانِ وَمَوَّهَ عَلَيْهِمْ وَاسْتَمَالَهُمْ بِضُرُوبٍ مِنْ حِيَلِهِ حَتَّى صَارُوا يَحْمُونَهُ وَيَدْفَعُونَ عَنْهُ وَيُرَفِّهُونَهُ، ثُمَّ رَاسَلَ جَمَاعَةً مِنَ الْكُتَّابِ وَغَيْرِهِمْ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا فَاسْتَجَابُوا لَهُ وَتَراقَى بِهِ الْأَمْرُ حَتَّى ذُكِرَ أَنَّهُ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ وَسُعِيَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى السُّلْطَانِ فَقُبِضَ عَلَيْهِمْ وَوُجِدَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ كُتُبٌ تَدُلُّ عَلَى تَصْدِيقِ مَا ذُكِرَ عَنْهُ وَأَقَرَّ بَعْضُهُمْ بِلِسَانِهِ بِذَلِكَ وَانْتَشَرَ خَبَرُهُ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي قَتْلِهِ فَأَمَرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَسْلِيمِهِ إِلَى حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَأَمَرَ أَنْ يَكْشِفَهُ بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ وَالْعُلَمَاءِ وَيَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ فَجَرَى فِي ذَلِكَ خُطُوبٌ طِوَالٌ، ثُمَّ اسْتَيْقَنَ السُّلْطَانُ أَمْرَهُ وَوَقَفَ عَلَى مَا ذُكِرَ لَهُ عَنْهُ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ وَإِحْرَاقِهِ بِالنَّارِ، فَأُحْضِرَ مَجْلِسَ الشُّرْطَةِ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ فَضُرِبَ بِالسِّيَاطِ نَحْوًا مِنْ أَلْفِ سَوْطٍ وَقُطِعَتْ يَدَاهُ
وَرِجْلَاهُ وَضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَأُحْرِقَتْ جُثَّتُهُ
بِالنَّارِ وَنُصِبَ رَأْسُهُ لِلنَّاسِ عَلَى سُورِ الْجِسْرِ الْجَدِيدِ
وَعُلِّقَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ إِلَى جَانِبِ رَأْسِهِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ السُّلَمِيُّ:
سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْوَاعِظَ يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ
الرَّازِيُّ: قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُمْشَاذٍ: حَضَرَ عِنْدَنَا بِالدِّينَوَرِ
رَجُلٌ وَمَعَهُ مِخْلَاةٌ، فَمَا كَانَ يُفَارِقُهَا بِاللَّيْلِ وَلَا
بِالنَّهَارِ، فَفَتَّشُوا الْمِخْلَاةَ فَوَجَدُوا فِيهَا كِتَابًا لِلْحَلَّاجِ
عُنْوَانُهُ: مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ. فَبُعِثَ
بِهِ إِلَى بَغْدَادَ فَسُئِلَ الْحَلَّاجُ عَنْ ذَلِكَ فَأَقَرَّ أَنَّهُ
كَتَبَهُ فَقَالُوا لَهُ كُنْتَ تَدَّعِي النُّبُوَّةَ فَصِرْتَ تَدَّعِي
الْأُلُوهِيَّةَ وَالرُّبُوبِيَّةَ ؟! فَقَالَ: لَا وَلَكِنَّ هَذَا عَيْنُ
الْجَمْعِ عِنْدَنَا، هَلِ الْكَاتِبُ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَا وَالْيَدُ آلَةٌ ؟
فَقِيلَ لَهُ: مَعَكَ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ، ابْنُ عَطَاءٍ وَأَبُو
مُحَمَّدٍ الْجَرِيرِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الشِّبْلِيُّ، فَسُئِلَ الْجَرِيرِيُّ
عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَنْ يَقُولُ بِهَذَا كَافِرٌ. وَسُئِلَ الشِّبْلِيُّ عَنْ
ذَلِكَ فَقَالَ مَنْ يَقُولُ بِهَذَا يُمْنَعُ. وَسُئِلَ ابْنُ عَطَاءٍ عَنْ
ذَلِكَ فَقَالَ بِقَوْلِ الْحَلَّاجِ فِي ذَلِكَ، فَعُوقِبَ حَتَّى كَانَ سَبَبَ
هَلَاكِهِ.
ثُمَّ رَوَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الرَّازِيِّ أنَّ الْوَزِيرَ حَامِدَ بْنَ الْعَبَّاسِ لَمَّا حَضَرَ
الْحَلَّاجُ سَأَلَهُ عَنِ اعْتِقَادِهِ فَأَقَرَّ بِهِ فَكَتَبَهُ فَسَأَلَ عَنْ
ذَلِكَ فُقَهَاءَ بَغْدَادَ فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ، وَقِيلَ لِلْوَزِيرِ: إِنَّ
أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ عَطَاءٍ يَقُولُ
بِهَذَا. فَطَلَبَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَجَاءَ فَجَلَسَ فِي
صَدْرِ الْمَجْلِسِ وَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَنْ لَا يَقُولُ بِهَذَا
فَهُوَ بِلَا اعْتِقَادٍ. فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: وَيْحَكَ تُصَوِّبُ مِثْلَ
هَذَا الِاعْتِقَادِ ؟ فَقَالَ: مَا لَكَ وَلِهَذَا، عَلَيْكَ بِمَا نُصِّبْتَ
لَهُ مَنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَظُلْمِهِمْ وَقَتْلِهِمْ، فَمَا لَكَ
وَلِكَلَامِ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ ؟ فَأَمَرَ الْوَزِيرُ بِضَرْبِ شِدْقَيْهِ
وَنَزْعِ خُفَّيْهِ وَأَنْ يُضْرَبَ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ، فَمَا زَالَ يُفْعَلُ
ذَلِكَ بِهِ حَتَّى سَالَ الدَّمُ مِنْ مَنْخَرَيْهِ وَأَمَرَ بِسَجْنِهِ، فَقِيلَ
لَهُ: أَيُّهَا الْوَزِيرُ إِنَّ الْعَامَّةَ تَتَشَوَّشُ بِهَذَا. فَحُمِلَ إِلَى
مَنْزِلِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: اللَّهُمَّ اقْتُلْهُ أَخْبَثَ قِتْلَةٍ
وَاقْطَعْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. ثُمَّ مَاتَ ابْنُ عَطَاءٍ بَعْدَ سَبْعَةِ
أَيَّامٍ، وَقُتِلَ الْوَزِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ شَرَّ قِتْلَةٍ، وَقُطِعَتْ يَدَاهُ
وَرِجْلَاهُ وَأَحْرِقَتْ دَارُهُ. وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ بَغْدَادَ عَلَى
كُفْرِ الْحَلَّاجِ وَزَنْدَقَتِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الظَّاهِرِيُّ: حِينَ أُحْضِرَ
الْحَلَّاجُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى قَبْلَ وَفَاةِ أَبِي بَكْرٍ هَذَا وَسُئِلَ
عَنْهُ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا وَمَا جَاءَ بِهِ حَقًّا فَمَا يَقُولُهُالْحَلَّاجُ
بَاطِلٌ وَكَانَ شَدِيدًا عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصُّولِيُّ قَدْ رَأَيْتُ الْحَلَّاجَ وَخَاطَبْتُهُ
فَرَأَيْتُهُ جَاهِلًا يَتَعَاقَلُ
وَغَبِيًّا يَتَبَالَغُ وَفَاجِرًا يَتَعَبَّدُ.
وَلَمَّا صُلِبَ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ وَنُودِيَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ
سَمِعَهُ بَعْضُهُمْ وَقَدْ جِيءَ بِهِ لِيُصْلَبَ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ
يَقُولُ: مَا أَنَا بِالْحَلَّاجِ وَلَكِنْ أُلْقِيَ عَلَيَّ شَبَهُهُ وَغَابَ.
فَلَمَّا أُدْنِيَ إِلَى الْخَشَبَةِ لِيُصْلَبَ عَلَيْهَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ:
يَا مُعِينُ الضَّنَا عَلَيَّ أَعِنِّي عَلَى الضَّنَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
سَمِعْتُهُ وَهُوَ مَصْلُوبٌ يَقُولُ: إِلَهِي أَصْبَحْتُ فِي دَارِ الرَّغَائِبِ
أَنْظُرُ إِلَى الْعَجَائِبِ إِلَهِي إِنَّكَ تَتَوَدَّدُ إِلَى مَنْ يُؤْذِيكَ
فَكَيْفَ بِمَنْ يُؤْذَى فِيكَ.
ذِكْرُ صِفَةِ مَقْتَلِ الْحَلَّاجِ
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ الْحَلَّاجُ قَدْ قَدِمَ
آخِرَ قَدْمَةٍ إِلَى بَغْدَادَ فَصَحِبَ الصُّوفِيَّةَ وَانْتَسَبَ إِلَيْهِمْ
وَكَانَ الْوَزِيرَ إِذْ ذَاكَ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ فَبَلَغَهُ أَنَّ
الْحَلَّاجَ قَدْ أَضَلَّ خَلْقًا مِنَ الْحَشَمِ وَالْحُجَّابِ فِي دَارِ
السُّلْطَانِ وَمِنْ غِلْمَانِ نَصْرٍ الْقُشُورِيِّ الْحَاجِبِ، وَجَعَلَ لَهُمْ
فِي جُمْلَةِ مَا ادَّعَاهُ أَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّ الْجِنَّ
يَخْدِمُونَهُ
وَيُحْضِرُونَ لَهُ مَا يَخْتَارُهُ وَيَشْتَهِيهِ،
وَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ أَحْيَا عِدَّةً مِنَ الطَّيْرِ. وَذُكِرَ لِعَلِيِّ بْنِ
عِيسَى أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقُنَّائِيُّ
الْكَاتِبُ يَعْبُدُ الْحَلَّاجَ وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ، فَطَلَبَهُ
وَكَبَسَ مَنْزِلَهُ فَأَقَرَّ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَلَّاجِ وَوَجَدَ فِي
مَنْزِلِهِ أَشْيَاءَ بِخَطِّ الْحَلَّاجِ مُكْتَتَبَةً بِمَاءِ الذَّهَبِ فِي
وَرَقِ الْحَرِيرِ مُجَلَّدَةً بِأَفْخَرِ الْجُلُودِ، وَوَجَدَ عِنْدَهُ سَفَطًا
فِيهِ مِنْ رَجِيعِ الْحَلَّاجِ وَبَوْلِهِ وَأَشْيَاءَ مِنْ آثَارِهِ وَبَقِيَّةِ
خُبْزٍ مِنْ زَادِهِ، فَطَلَبَ الْوَزِيرُ مِنَ الْمُقْتَدِرِ أَنْ يَتَكَلَّمَ
فِي أَمْرِ الْحَلَّاجِ فَفَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ فَاسْتَدْعَى بِجَمَاعَةٍ
مِنْ أَصْحَابِ الْحَلَّاجِ فَتَهَدَّدَهُمْ فَاعْتَرَفُوا لَهُ أَنَّهُ قَدْ
صَحَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إِلَهٌ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَأَنَّهُمْ
كَاشَفُوا الْحَلَّاجَ فَجَحَدَ ذَلِكَ وَكَذَّبَهُمْ، وَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ
أَنْ أَدَّعِيَ الرُّبُوبِيَّةَ أَوِ النُّبُوَّةَ وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ
أَعْبُدُ اللَّهَ وَأُكْثِرُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ وَفِعْلَ الْخَيْرِ، وَلَا
أَعْرِفُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَجَعَلَ لَا يَزِيدُ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ
وَالتَّوْحِيدِ، وَيُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ
عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. وَكَانَتْ عَلَيْهِ مِدْرَعَةٌ سَوْدَاءُ وَفِي
رِجْلَيْهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَيْدًا وَهِيَ وَاصِلَةٌ إِلَى رُكْبَتَيْهِ،
وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ.
وَكَانَ قَبْلَ احْتِيَاطِ الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ عَلَيْهِ فِي
حُجْرَةٍ مِنْ دَارِ نَصْرٍ الْقُشُورَيِّ الْحَاجِبِ مَأْذُونًا لِمَنْ يَدْخُلُ
إِلَيْهِ، وَكَانَ يُسَمِّي نَفْسَهُ تَارَةً بِالْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ،
وَتَارَةً مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الْفَارِسِيَّ، وَكَانَ نَصْرٌ الْحَاجِبُ
هَذَا قَدِ افْتُتِنَ بِهِ،
وَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ وَكَانَ قَدْ أَدْخَلَهُ
عَلَى الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ فَرَقَاهُ مِنْ وَجَعٍ حَصَلَ فَاتَّفَقَ
زَوَالُهُ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ لِوَالِدَتِهِ السَّيِّدَةِ أُمِّ الْمُقْتَدِرِ
بِاللَّهِ فَزَالَتْ عِلَّتُهَا فَنَفَقَ سُوقُهُ وَحَظِيَ فِي دَارِ
السُّلْطَانِ، فَلَمَّا انْتَشَرَ الْكَلَامُ فِيهِ سُلِّمَ إِلَى الْوَزِيرِ
حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَحَبَسَهُ فِي قُيُودٍ كَثِيرَةٍ فِي رِجْلَيْهِ وَجَمَعَ
لَهُ الْفُقَهَاءَ، فَأَجْمَعُوا عَلَى كُفْرِهِ وَزَنْدَقَتِهِ وَأَنَّهُ سَاحِرٌ
مُمَخْرِقٌ، وَرَجَعَ عَنْهُ رَجُلَانِ صَالِحَانِ مِمَّنْ كَانَ اتَّبَعَهُ،
أَحَدُهُمَا أَبُو عَلِيٍّ هَارُونُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأُورَاجِيُّ،
وَالْآخَرُ يُقَالُ لَهُ الدَّبَّاسُ فَذَكَرَا مِنْ فَضَائِحِهِ وَمَا كَانَ
يَدْعُو إِلَيْهِ النَّاسَ مِنَ الْكَذِبِ وَالْفُجُورِ وَالْمَخْرَقَةِ
وَالسِّحْرِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَذَلِكَ أُحْضِرَتْ زَوْجَةُ ابْنِهِ
سُلَيْمَانَ فَذَكَرَتْ عَنْهُ فَضَائِحَ كَثِيرَةً، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ
أَنْ يَغْشَاهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ، فَانْتَبَهَتْ، فَقَالَ: قُومِي إِلَى
الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَطَأَهَا وَأَمَرَتْهَا ابْنَتُهُ
بِالسُّجُودِ لَهُ، فَقَالَتْ: أَوَيَسْجُدُ بِشَرٌ لِبَشَرٍ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ،
إِلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ أَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ
مِنْ تَحْتِ بَارِيَةٍ هُنَالِكَ مَا أَحَبَّتْ، فَوَجَدَتْ تَحْتَهَا دَنَانِيرَ
كَثِيرَةً مَبْدُورَةً.
وَلَمَّا كَانَ مُعْتَقَلًا فِي دَارِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ دَخَلَ عَلَيْهِ
بَعْضُ الْغِلْمَانِ وَمَعَهُ طَبَقُ فِيهِ طَعَامٌ لِيَأْكُلَ مِنْهُ، فَوَجَدَهُ
قَدْ مَلَأَ الْبَيْتَ مِنْ سَقْفِهِ إِلَى أَرْضِهِ، فَذُعِرَ ذَلِكَ الْغُلَامُ،
وَأَلْقَى مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ ذَلِكَ الطَّبَقِ وَالطَّعَامِ وَرَجَعَ
مَحْمُومًا فَمَرِضَ عِدَّةَ أَيَّامٍ.
وَلَمَّا كَانَ آخِرُ مَجْلِسٍ أُحْضِرَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ
يُوسُفَ وَجِيءَ بِالْحَلَّاجِ وَقَدْ أُحْضِرَ لَهُ كِتَابٌ مِنْ دُورِ بَعْضِ
أَصْحَابِهِ، وَفِيهِ: مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ
وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ فَلْيَبْنِ فِي دَارِهِ بَيْتًا
لَا يَنَالُهُ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَةِ وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنْ دُخُولِهِ
فَإِذَا كَانَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلْيَطُفْ
بِهِ كَمَا يُطَافُ بِالْكَعْبَةِ ثُمَّ يَفْعَلُ فِي دَارِهِ مَا يَفْعَلُهُ
الْحَجِيجُ بِمَكَّةَ ثُمَّ يَسْتَدْعِي بِثَلَاثِينَ يَتِيمًا فَيُطْعِمُهُمْ
مِنْ طَعَامِهِ وَيَتَوَلَّى خِدْمَتَهُمْ بِنَفْسِهِ ثُمَّ يَكْسُوهُمْ قَمِيصًا
قَمِيصًا وَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ - أَوْ قَالَ
ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ - فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ قَامَ لَهُ مَقَامَ الْحَجِّ،
وَإِنَّ مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يُفْطِرُ إِلَّا فِي الْيَوْمِ
الرَّابِعِ عَلَى وَرَقَاتِ هِنْدَبَا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ صِيَامِ رَمَضَانَ.
وَمَنْ صَلَّى فِي لَيْلَةٍ رَكْعَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى آخِرِهِ
أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ جَاوَرَ
بِمَقَابِرِ الشُّهَدَاءِ بِمَقَابِرِ قُرَيْشٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ يُصَلِّي
وَيَدْعُو وَيَصُومُ ثُمَّ لَا يُفْطِرُ إِلَّا عَلَى شَيْءٍ مِنْ خُبْزِ
الشَّعِيرِ وَالْمِلْحِ الْجَرِيشِ أَغْنَاهُ ذَلِكَ عَنِ الْعِبَادَةِ فِي
بَقِيَّةِ عُمُرِهِ.
فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا ؟ فَقَالَ مِنْ
كِتَابِ " الْإِخْلَاصِ " لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. فَقَالَ لَهُ:
كَذَبْتَ يَا حَلَالَ الدَّمِ قَدْ سَمِعْنَا كِتَابَ " الْإِخْلَاصِ "
لِلْحَسَنِ بِمَكَّةَ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا. فَأَقْبَلَ الْوَزِيرُ
حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ عَلَى الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ
قُلْتَ: يَا حَلَالَ الدَّمِ فَاكْتُبْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْوَرَقَةِ. وَأَلَحَّ
عَلَيْهِ وَقَدَّمَ لَهُ الدَّوَاةَ فَكَتَبَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْوَرَقَةِ،
وَكَتَبَ مَنْ حَضَرَ خُطُوطَهُمْ فِيهَا، وَأَنْفَذَهَا الْوَزِيرُ إِلَى
الْمُقْتَدِرِ، وَجَعَلَ الْحَلَّاجُ يَقُولُ لَهُمْ: ظَهْرِي حِمًى وَدَمِي
حَرَامٌ وَمَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَتَأَوَّلُوا عَلَيَّ وَاعْتِقَادِي
الْإِسْلَامُ وَمَذْهَبِي السُّنَّةُ، وَتَفْضِيلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ
وَعُثْمَانَ وَعَلَيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ وَسَعِيدٍ وَعَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ
الْجَرَّاحِ وَلِي كُتُبٌ فِي السُّنَّةِ مَوْجُودَةٌ فِي
الْوَرَّاقِينَ فَاللَّهَ اللَّهَ فِي دَمِي. فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ
مِمَّا يَقُولُ، وَجَعَلَ يُكَرِّرُ ذَلِكَ وَهُمْ يَكْتُبُونَ خُطُوطَهُمْ بِمَا
كَانَ مِنَ الْأَمْرِ وَرُدَّ الْحَلَّاجُ إِلَى مَحْبِسِهِ وَتَأَخَّرَ جَوَابُ
الْمُقْتَدِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى سَاءَ ظَنُّ الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ
الْعَبَّاسِ، فَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ أَمْرَ الْحَلَّاجِ
قَدِ اشْتَهَرَ وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ اثْنَانِ وَقَدِ افْتَتَنَ كَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ بِهِ. فَجَاءَ الْجَوَابُ بِأَنْ يُسَلَّمَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الصَّمَدِ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ فَلْيَضْرِبْهُ أَلْفَ سَوْطٍ فَإِنْ مَاتَ
وَإِلَّا ضُرِبَتُ عُنُقُهُ. فَفَرِحَ الْوَزِيرُ بِذَلِكَ وَطَلَبَ صَاحِبَ
الشُّرْطَةِ فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ وَبَعَثَ مَعَهُ طَائِفَةً مِنْ غِلْمَانِهِ يُوَصِّلُونَهُ
مَعَهُ إِلَى مَحَلِّ الشُّرْطَةِ مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ خَوْفًا مِنْ أَنْ
يُسْتَنْقَذَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَذَلِكَ بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ فِي لَيْلَةِ
الثُّلَاثَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَهُوَ
رَاكِبٌ عَلَى بَغْلٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ وَحَوْلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْوَانِ
السِّيَاسَةِ عَلَى مِثْلِ شَكْلِهِ، فَاسْتَقَرَّ مَنْزِلُهُ بِدَارِ الشُّرْطَةِ
فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَذُكِرَ أَنَّهُ بَاتَ يُصَلِّي فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ
وَيَدْعُو دُعَاءً كَثِيرًا.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الشَّاشِيَّ
يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْحَدِيدِ - يَعْنِي - الْمِصْرِيَّ: لَمَّا كَانَتِ
اللَّيْلَةُ الَّتِي قُتِلَ فِي صَبِيحَتِهَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ قَامَ
مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ فَلَمَّا كَانَ آخِرَ اللَّيْلِ قَامَ
قَائِمًا فَتَغَطَّى بِكِسَائِهِ وَمَدَّ يَدَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ فَتَكَلَّمَ
بِكَلَامٍ جَائِزِ الْحِفْظِ، فَكَانَ مِمَّا حَفِظْتُ أَنْ قَالَ: نَحْنُ
شَوَاهِدُكَ فَلَوْ دَلَّتْنَا عِزَّتُكَ لَتَبَدَّى مَا شِئْتَ مِنْ شَأْنِكَ
وَمَشِيئَتِكَ، وَأَنْتَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ،
تَتَجَلَّى لِمَا تَشَاءُ مِثْلَ تَجَلِّيكَ فِي مَشِيئَتِكَ
كَأَحْسَنِ الصُّورَةِ، وَالصُّورَةُ فِيهَا الرُّوحُ
النَّاطِقَةُ بِالْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَالْقُدْرَةِ، ثُمَّ أَوْعَزْتَ إِلَيَّ
شَاهِدَكَ لِأَنِّي فِي ذَاتِكَ الْهُوِيُّ، كَيْفَ أَنْتَ إِذَا مَثَلْتَ
بِذَاتِي عِنْدَ عَقِيبِ كَرَاتِي، وَدَعَوْتَ إِلَى ذَاتِي بِذَاتِي،
وَأَبْدَيْتَ حَقَائِقَ عُلُومِي وَمُعْجِزَاتِي، صَاعِدًا فِي مَعَارِجِي إِلَى
عُرُوشِ أَزَلِيَّاتِي عِنْدَ الْقَوْلِ مِنْ بِرِيَّاتِي، إِنِّي احْتُضِرْتُ
وَقُتِلْتُ وَصُلِبْتُ وَأُحْرِقْتُ وَاحْتُمِلْتُ سَافِيَاتِي الذَّارِيَاتِ،
وَلَجَجْتُ فِي الْجَارِيَاتِ وَإِنَّ ذَرَّةً مِنْ يَنْجُوجٍ مَكَانَ هَالُوكِ
مُتَجَلَّيَاتِي لَأَعْظَمُ مِنَ الرَّاسِيَاتِ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
أَنْعَى إِلَيْكَ نُفُوسًا طَاحَ شَاهِدُهَا فِيمَا وَرَا الْحَيْثِ أَوْ فِي
شَاهِدِ الْقِدَمِ أَنْعَى إِلَيْكَ قُلُوبًا طَالَمَا هَطَلَتْ
سَحَائِبُ الْوَحْيِ فِيهَا أَبْحُرُ الْحِكَمِ أَنْعَى إِلَيْكَ لِسَانَ الْحَقِّ
مِنْكَ وَمَنْ
أَوْدَى وَتَذْكَارُهُ فِي الْوَهْمِ كَالْعَدَمِ أَنْعَى إِلَيْكَ بَيَانًا
تَسْتَكِينُ لَهُ
أَقْوَالُ كُلِّ فَصِيحٍ مِقْوَلٍ فَهِمِ أَنْعَى إِلَيْكَ إِشَارَاتِ الْعُقُولِ
مَعًا
لَمْ يَبْقَ مِنْهُنَّ إِلَّا دَارِسُ الْعِلْمِ أَنْعَى وَحُبِّكَ أَخْلَاقًا
لِطَائِفَةٍ
كَانَتْ مَطَايَاهُمْ مِنْ مَكْمَدِ الْكِظَمِ مَضَى الْجَمِيعُ فَلَا عَيْنٌ
وَلَا أَثَرٌ
مُضِيَّ عَادٍ وَفِقْدَانَ الْأُلَى إِرَمِ وَخَلَّفُوا مَعْشَرًا يَحْذُونَ
لِبْسَتَهُمْ
أَعْمَى مِنَ الْبُهْمِ بَلْ أَعْمَى مِنَ النَّعَمِ
قَالُوا: وَلَمَّا أُخْرِجَ الْحَلَّاجُ مِنَ الْمَنْزِلِ الَّذِي بَاتَ فِيهِ
لِيُذْهَبَ بِهِ إِلَى الْقَتْلِ أَنْشَدَ:
طَلَبْتُ الْمُسْتَقَرَّ بِكُلِّ أَرْضٍ فَلَمْ أَرَ لِي
بِأَرْضٍ مُسْتَقَرَّا
أَطَعْتُ مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتْنِي وَلَوْ أَنِّي قَنَعْتُ لَعِشْتُ حُرَّا
وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَهَا حِينَ قَدِمَ إِلَى الْجِذْعِ لِيُصْلَبَ،
وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ مَشَى وَهُوَ يَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ وَفِي
رِجْلَيْهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَيْدًا، وَجَعَلَ يُنْشِدُ وَيَتَمَايَلُ:
نَدِيمِي غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَيْفِ
سَقَانِي مِثْلَ مَا يَشْرَ بُ فِعْلَ الضَّيْفِ بِالضَّيْفِ
فَلَمَّا دَارَتِ الْكَأْسُ دَعَا بِالنِّطْعِ وَالسَّيْفِ
كَذَا مَنْ يَشْرَبُ الرَّاحَ مَعَ التِّنِّينِ فِي الصَّيْفِ
ثُمَّ قَالَ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ
آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ [ الشُّورَى: 18 ]
ثُمَّ لَمْ يَنْطِقْ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى فُعِلَ بِهِ مَا فُعِلَ، قَالُوا: ثُمَّ
قُدِّمَ فَضُرِبَ أَلْفَ سَوْطٍ ثُمَّ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَهُوَ فِي ذَلِكَ
كُلِّهِ سَاكِتٌ مَا نَطَقَ بِكَلِمَةٍ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ، وَيُقَالُ:
إِنَّهُ جَعَلَ يَقُولُ مَعَ كُلِّ سَوْطٍ أَحَدٌ أَحَدٌ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عِيسَى الْقَصَّارَ يَقُولُ: آخِرُ كَلِمَةٍ
تَكَلَّمَ بِهَا الْحَلَّاجُ حِينَ قُتِلَ أَنْ قَالَ: حَسْبُ الْوَاحِدِ
إِفْرَادُ الْوَاحِدِ لَهُ. فَمَا سَمِعَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَحَدٌ مِنَ
الْمَشَايِخِ إِلَّا رَقَّ لَهُ وَاسْتَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ مِنْهُ.
وَقَالَ السُّلَمِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الْبَجَلِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ
أَبَا الْفَاتِكِ الْبَغْدَادِيَّ وَكَانَ صَاحِبَ الْحَلَّاجِ قَالَ: رَأَيْتُ
فِي النَّوْمِ بَعْدَ ثَلَاثٍ مِنْ قَتْلِ الْحَلَّاجِ كَأَنِّي وَاقِفٌ بَيْنَ
يَدَيْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَا أَقُولُ: يَا رَبِّ مَا فَعَلَ الْحُسَيْنُ
بْنُ مَنْصُورٍ ؟ فَقَالَ: كَاشَفْتُهُ بِمَعْنًى فَدَعَا الْخَلْقَ إِلَى
نَفْسِهِ، فَأَنْزَلْتُ بِهِ مَا رَأَيْتَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ جَزِعَ عِنْدَ ذَلِكَ جَزَعًا شَدِيدًا وَبَكَى
بُكَاءً كَثِيرًا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ
الصَّيْرَفِيُّ قَالَ: قَالَ لَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ حَيَّوَيْهِ: لَمَّا
أُخْرِجَ الْحُسَيْنُ الْحَلَّاجُ لِيُقْتَلَ مَضَيْتُ فِي جُمْلَةِ النَّاسِ
وَلَمْ أَزَلْ أُزَاحِمُ حَتَّى رَأَيْتُهُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا
يَهُولَنَّكُمْ هَذَا الْأَمْرُ فَإِنِّي عَائِدٌ إِلَيْكُمْ بَعْدَ ثَلَاثِينَ
يَوْمًا، ثُمَّ قُتِلَ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ يُضْرَبُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الصَّمَدِ وَالِي الشُّرْطَةِ: ادْعُ بِي إِلَيْكَ فَإِنَّ عِنْدِي نَصِيحَةً
تَعْدِلُ فَتْحَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. فَقَالَ لَهُ: قَدْ قِيلَ لِي
إِنَّكَ سَتَقُولُ مِثْلَ هَذَا وَلَيْسَ إِلَى رَفْعِ
الضَّرْبِ عَنْكَ سَبِيلٌ، ثُمَّ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ، وَحُزَّ رَأْسُهُ،
وَأُحْرِقَتْ جُثَّتُهُ، وَأُلْقِيَ بِرَمَادِهَا فِي دِجْلَةَ وَنُصِبَ الرَّأْسُ
يَوْمَيْنِ بِبَغْدَادَ عَلَى الْجِسْرِ ثُمَّ حُمِلَ إِلَى خُرَاسَانَ وَطِيفَ
بِهِ فِي تِلْكَ النَّوَاحِي، وَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَعِدُونَ أَنْفُسَهُمْ
بِرُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ رَأَى الْحَلَّاجَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ
وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ فِي طَرِيقِ النَّهْرَوَانِ فَقَالَ: لَعَلَّكَ مِنْ
هَؤُلَاءِ الْبَقَرِ الَّذِينَ ظَنُّوا أَنِّي أَنَا هُوَ الْمَضْرُوبُ
الْمَقْتُولُ إِنِّي لَسْتُ بِهِ وَإِنَّمَا أُلْقِيَ شَبَهِي عَلَى رَجُلٍ
فَفُعِلَ بِهِ مَا رَأَيْتُمْ. وَكَانُوا بِجَهْلِهِمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا قُتِلَ
عَدُوٌّ مِنْ أَعْدَاءِ الْحَلَّاجِ وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ ذَلِكَ الزَّمَانِ:
إِنْ كَانَ هَذَا الرَّأْيُ صَادِقًا فَلَعَلَّ دَابَّةً - يَعْنِي مِنَ
الشَّيَاطِينِ - تَبَدَّى عَلَى صُورَتِهِ لِيُضِلَّ بِهِ النَّاسَ كَمَا ضَلَّتْ
فِرْقَةُ النَّصَارَى بِالْمَصْلُوبِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَاتَّفَقَ أَنَّ دِجْلَةَ زَادَتْ فِي هَذَا الْعَامِ
زِيَادَةً كَثِيرَةً، فَقَالُوا: إِنَّمَا زَادَتْ لِأَنَّ رَمَادَ الْحَلَّاجِ
خَالَطَهَا، وَنُودِيَ بِبَغْدَادَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ أَحَدٌ مِنْ كُتُبِ
الْحَلَّاجِ شَيْئًا وَلَا يَبِيعُهُ. وَكَانَ قَتْلُ الْحَلَّاجِ فِي يَوْمِ
الثُّلَاثَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ
وَثَلَاثِمِائَةٍ بِبَغْدَادَ، وَذَكَرَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي "
الْوَفَيَاتِ " وَحَكَى اخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ، وَنَقَلَ عَنِ
الْغَزَالِيِّ فِي " مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ " أَنَّهُ كَانَ
يَتَأَوَّلُ كَلَامَهُ وَيَحْمِلُهُ عَلَى مَا يَلِيقُ، ثُمَّ نَقَلَ عَنْ إِمَامِ
الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ
كَانَ يَذُمُّهُ وَيَقُولُ إِنَّهُ اتَّفَقَ هُوَ
وَالْجَنَّابِيُّ وَابْنُ الْمُقَفَّعِ عَلَى إِفْسَادِ عَقَائِدِ النَّاسِ
وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، فَكَانَ الْجَنَّابِيُّ فِي هَجَرَ وَالْبَحْرَيْنِ
وَابْنُ الْمُقَفَّعِ بِبِلَادِ التُّرْكِ وَدَخَلَ الْحَلَّاجُ الْعِرَاقَ
فَحَكَمَ صَاحِبَاهُ عَلَيْهِ بِالْهَلَكَةِ لِعَدَمِ انْخِدَاعِ أَهْلِ
الْعِرَاقِ بِالْبَاطِلِ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ وَهَذَا لَا يَنْتَظِمُ فَإِنَّ ابْنَ
الْمُقَفَّعِ كَانَ قَبْلَ الْحَلَّاجِ بِدَهْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي أَيَّامِ
السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ أَوْ
قَبْلَهَا وَلَعَلَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ أَرَادَ ابْنَ الْمُقَفَّعِ
الْخُرَاسَانِيَّ الَّذِي ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، وَأَدْنَى الْقَمَرَ وَاسْمُهُ
عَطَاءٌ، وَقَدْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِالسُّمِّ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ
وَمِائَةٍ، وَلَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الْحَلَّاجِ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ
نُصَحِّحَ كَلَامَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَنَذْكُرَ ثَلَاثَةً قَدِ اجْتَمَعُوا
فِي وَقْتٍ عَلَى مَا ذَكَرَ، فَيَكُونُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْحَلَّاجَ، وَابْنَ
الشَّلْمَغَانِيِّ - يَعْنِي أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ -
وَالْقِرْمِطِيَّ الْجَنَّابِيَّ، وَهُوَ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي
سَعِيدٍ الْحَسَنِ بْنِ بَهْرَامَ، الَّذِي قَتَلَ الْحُجَّاجَ وَأَخَذَ
الْحَجَرَ، وَرَدَمَ زَمْزَمَ بِالْقَتْلَى وَنَهَبَ أَسْتَارَ الْكَعْبَةِ، كَمَا
سَيَأْتِي ذَلِكَ مَبْسُوطًا، ذَكَرَهُ الْقَاضِي مُلَخَّصًا هَاهُنَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ
الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عَطَاءٍ أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ.
وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَاءٍ الْأَدَمِيُّ حَدَّثَ عَنْ يُوسُفَ
بْنِ مُوسَى الْقَطَّانِ وَالْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ وَغَيْرِهِمَا. وَكَانَ
يَقْرَأُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَتْمَةً، وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ
يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثَلَاثَ خَتَمَاتٍ، وَكَانَ لَهُ خَتْمَةٌ يَتَدَبَّرُ فِيهَا
مَعَانِيَ الْقُرْآنِ، يَتْلُوهَا مِنْ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَمَاتَ وَلَمْ
يَخْتِمْهَا، وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ قَدِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَلَّاجِ
وَأَظْهَرَ مُوَافَقَتَهُ، فَعَاقَبَهُ الْوَزِيرُ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ
بِالضَّرْبِ عَلَى شِدْقَيْهِ وَأَمَرَ بِنَزْعِ خُفَّيْهِ وَضَرْبِهِ بِهِمَا
عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى سَالَ الدَّمُ مِنْ مَنْخِرَيْهِ، وَمَاتَ بَعْدَ سَبْعَةِ
أَيَّامٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ دَعَا عَلَى الْوَزِيرِ أَنْ تُقْطَعَ يَدَاهُ
وَرِجْلَاهُ وَيُقْتَلَ شَرَّ قِتْلَةٍ، فَمَا مَاتَ الْوَزِيرُ إِلَّا كَذَلِكَ.
وَأَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَارُونَ الطَّبِيبُ الْحَرَّانِيُّ. وَأَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمْدُونَ النَّدِيمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا أُطْلِقَ يُوسُفُ بْنُ أَبِي السَّاجِ مِنَ الضِّيقِ وَكَانَ مُعْتَقَلًا
وَرُدَّتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ وَأُعِيدَ إِلَى عَمَلِهِ وَأُضِيفَ إِلَيْهِ
بُلْدَانٌ أُخْرَى وَوُظِّفَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ يَحْمِلُهَا إِلَى الْحَضْرَةِ فَبَعَثَ حِينَئِذٍ إِلَى مُؤْنِسٍ
الْخَادِمِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْأَدَمِيِّ الْقَارِئَ وَكَانَ
قَدْ قَرَأَ بَيْنَ يَدَيْهِ حِينَ اعْتُقِلَ وَأُشْهِرَ فِي سَنَةِ إِحْدَى
وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى
وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ هُودٍ: 102 ] فَخَافَ
الْقَارِئُ سَطْوَتَهُ وَاسْتَعْفَى مِنْ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ فَقَالَ لَهُ
مُؤْنِسٌ: اذْهَبْ وَأَنَا شَرِيكُكَ فِي الْجَائِزَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ
قَرَأَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ
لِنَفْسِي [ يُوسُفَ: 54 ] فَقَالَ: بَلْ أُحِبُّ أَنْ تَقْرَأَ ذَلِكَ الْعُشْرَ
الَّذِي قَرَأَتْهُ عِنْدَ إِشْهَارِي وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ
الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ سَبَبَ تَوْبَتِي إِلَى اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِمَالٍ جَزِيلٍ
وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ.
وَفِيهَا مَرِضَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْوَزِيرُ فَجَاءَهُ هَارُونُ ابْنُ
الْمُقْتَدِرِ لِيَعُودَهُ، فَبَسَطَ لَهُ الطَّرِيقَ فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ
دَارِهِ تَحَامَلَ وَخَرَجَ إِلَيْهِ فَبَلَّغَهُ سَلَامَ الْخَلِيفَةِ، وَجَاءَ
مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ مَعَهُ ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ قَدْ
عَزَمَ عَلَى عِيَادَتِهِ فَاسْتَعْفَى مِنْ
مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ، وَرَكِبَ عَلَى جُهْدٍ عَظِيمٍ حَتَّى
سَلَّمَ عَلَى الْخَلِيفَةِ حَتَّى لَا يُكَلِّفَهُ الرُّكُوبَ إِلَيْهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُبِضَ عَلَى الْقَهْرَمَانَةِ أُمِّ مُوسَى وَمَنْ
يَنْتَسِبُ إِلَيْهَا، فَكَانَ حَاصِلُ مَا حُمِلَ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ مِنْ
جِهَتِهَا أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَلَّى
الْمُقْتَدِرُ مَنْصِبَ الْقَضَاءِ أَبَا الْحُسَيْنِ عُمَرَ بْنَ الْحُسَيْنِ
بْنِ عَلِيٍّ الشَّيْبَانِيَّ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الْأُشْنَانِيِّ وَكَانَ مِنْ
حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَفُقَهَاءِ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُ عُزِلَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْتَسِبًا بِبَغْدَادَ.
وَفِيهَا عُزِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ عنْ شُرْطَةِ بَغْدَادَ
وَوَلِيَهَا نَازُوكُ وَخُلِعَ عَلَيْهِ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ ظَهَرَ كَوْكَبٌ لَهُ ذَنَبٌ طُولُهُ ذِرَاعَانِ،
وَذَلِكَ فِي بُرْجِ السُّنْبُلَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا وَصَلَتْ هَدَايَا نَائِبِ مِصْرَ
وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْمَاذَرَائِيِّ، وَفِيهَا بَغْلَةٌ مَعَهَا فُلُوُّهَا
وَغُلَامٌ يَصِلُ لِسَانُهُ إِلَى طَرَفِ أَنْفِهِ، وَفِي هَذِا الشَّهْرِ
قُرِئَتِ الْكُتُبُ عَلَى الْمَنَابِرِ بِمَا كَانَ مِنَ الْفُتُوحِ بِبِلَادِ
الرُّومِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ انْشَقَّ بِأَرْضِ
وَاسِطَ فُلُوعٌ مِنَ الْأَرْضِ سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا أَكْبَرُهَا طُولُهُ
أَلْفُ ذِرَاعٍ وَأَقَلُّهَا مِائَتَا ذِرَاعٍ وَأَنَّهُ غَرِقَ مِنْ أُمَّهَاتِ
الْقُرَى أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةِ قَرْيَةٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو بِشْرٍ الدُّولَابِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ سَعِيدٍ
أَبُو بِشْرٍ الدُّولَابِيُّ مَوْلَى الْأَنْصَارِ، وَيُعْرَفُ بِالْوَرَّاقِ،
أَحَدُ أَئِمَّةِ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ، وَلَهُ
تَصَانِيفُ حَسَنَةٌ فِي التَّارِيخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَرَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ.
قَالَ ابْنُ يُونُسَ: وَكَانَ يُضَعَّفُ، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ قَاصِدٌ إِلَى
الْحَجِّ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ بِالْعَرْجِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ.
أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ غَالِبٍ الْإِمَامُ أَبُو
جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
وَكَانَ أَسْمَرَ أَعْيَنَ مَلِيحَ الْجِسْمِ مَدِيدَ الْقَامَةِ فَصِيحَ
اللِّسَانِ، رَوَى الْكَثِيرَ عَنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ وَرَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ
فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَلَهُ " التَّارِيخُ " الْحَافِلُ، وَ "
التَّفْسِيرُ " الْكَامِلُ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ النَّافِعَةِ
فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَمِنْ ذَلِكَ " تَهْذِيبُ الْآثَارِ "
لَكِنْ لَمْ يُتِمَّهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً
يَكْتُبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَرْبَعِينَ وَرَقَةً.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: اسْتَوْطَنَ ابْنُ جَرِيرٍ بَغْدَادَ
وَأَقَامَ بِهَا إِلَى حِينِ وَفَاتِهِ وَكَانَ أَحَدَ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ،
يُحْكَمُ بِقَوْلِهِ وَيُرْجَعُ إِلَيْهِ لِمَعْرِفَتِهِ وَفَضْلِهِ وَكَانَ قَدْ
جَمَعَ مِنَ الْعُلُومِ مَا لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ
وَكَانَ حَافِظًا لِكِتَابِ اللَّهِ عَارِفًا بِالْقِرَاءَاتِ، بَصِيرًا
بِالْمَعَانِي، فَقِيهًا فِي الْأَحْكَامِ عَالِمًا بِالسُّنَنِ وَطُرُقِهَا
وَصَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا وَنَاسِخِهَا وَمَنْسُوخِهَا عَارِفًا بِأَقْوَالِ
الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، عَارِفًا بِأَيَّامِ
النَّاسِ وَأَخْبَارِهِمْ، وَلَهُ الْكِتَابُ الْمَشْهُورُ فِي تَارِيخِ الْأُمَمِ
وَالْمُلُوكِ، وَكِتَابٌ فِي التَّفْسِيرِ لَمْ يُصَنِّفْ أَحَدٌ مِثْلَهُ
وَكِتَابٌ سَمَّاهُ " تَهْذِيبَ الْآثَارِ " لَمْ أَرَ سِوَاهُ فِي
مَعْنَاهُ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُتِمَّهُ، وَلَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ
كُتُبٌ كَثِيرَةٌ وَاخْتِيَارَاتٌ، وَتَفَرَّدَ بِمَسَائِلَ حُفِظَتْ عَنْهُ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَبَلَغَنِي عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي
طَاهِرٍ الْفَقِيهِ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ سَافَرَ رَجُلٌ
إِلَى الصِّينِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ كِتَابُ تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ
الطَّبَرِيِّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَثِيرًا أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ. وَرَوَى
الْخَطِيبُ عَنْ إِمَامِ الْأَئِمَّةِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ
خُزَيْمَةَ أَنَّهُ طَالَعَ " التَّفْسِيرَ " لِابْنِ جَرِيرٍ فِي
سِنِينَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ ثُمَّ قَالَ: مَا أَعْلَمُ عَلَى أَدِيمِ
الْأَرْضِ أَعْلَمَ مِنِ ابْنِ جَرِيرٍ وَلَقَدْ ظَلَمَتْهُ الْحَنَابِلَةُ.
وَقَالَ لِرَجُلٍ رَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ عَنِ الْمَشَايِخِ،
وَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ سَمَاعٌ مِنِ ابْنِ جَرِيرٍ لِأَنَّ الْحَنَابِلَةَ كَانُوا
يَمْنَعُونَ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ أَحَدٌ فَقَالَ: لَوْ كَتَبْتَ عَنْهُ لَكَانَ
خَيْرًا لَكَ مِنْ كُلِّ مَنْ كَتَبْتَ عَنْهُ.
قُلْتُ: وَكَانَ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالْقِيَامِ فِي
الْحَقِّ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَحُسْنِ الْقِرَاءَةِ
عَلَى أَحْسَنِ الصِّفَاتِ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ، وَهُوَ أَحَدُ
الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا بِمِصْرَ فِي أَيَّامِ الْأَمِيرِ طُولُونَ،
وَهُمْ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، ومُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ
الْمَرْوَزِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرُّويَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
جَرِيرٍ هَذَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ
الْمَرْوَزِيِّ وَكَانَ الَّذِي قَامَ يُصَلِّي مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَقِيلَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، فَرَزَقَهُمُ
اللَّهُ بِبَرَكَةِ صَلَاتِهِ. وَقَدْ أَرَادَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِرُ
بِاللَّهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابَ وَقْفٍ تَكُونُ شُرُوطُهُ
مُتَّفَقًا عَلَيْهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فَقِيلَ لَهُ: لَا يَقْدِرُ عَلَى
اسْتِحْضَارِ ذَلِكَ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ. وَطَلَبَ مِنْهُ ذَلِكَ
فَكَتَبَهَا، فَاسْتَدْعَاهُ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: سَلْ
حَاجَتَكَ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي، فَقَالَ: لَا بُدَّ أَنْ تَسْأَلَنِي
شَيْئًا، فَقَالَ: أَسْأَلُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَقَدَّمَ
أَمْرُهُ إِلَى الشُّرْطَةِ حَتَّى يَمْنَعُوا السُّؤَّالَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
أَنْ يَدْخُلُوا إِلَى مَقْصُورَةِ الْجَامِعِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِذَلِكَ،
وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ مَنْ مَغَلِّ قَرْيَةٍ تَرَكَهَا لَهُ أَبُوهُ
بِطَبَرِسْتَانَ، وَمِنْ شِعْرِهِ:
إِذَا أَعْسَرْتُ لَمْ يَعْلَمْ رَفِيقِي وَأَسْتَغْنِي فَيَسْتَغِنِي صَدِيقِي
حَيَائِي حَافِظٌ لِي مَاءَ وَجْهِي
وَرِفْقِي فِي مُطَالَبَتِي رَفِيقِي وَلَوْ أَنِّي سَمَحْتُ بِبَذْلِ وَجْهِي
لَكُنْتُ إِلَى الْغِنَى سَهْل َ الطَّرِيقِ
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا:
خُلُقَانِ لَا أَرْضَى طَرِيقَهُمَا بَطَرُ الْغِنَى وَمَذَلَّةُ الْفَقْرِ
فَإِذَا غَنِيتَ فَلَا تَكُنْ بَطِرًا وَإِذَا افْتَقَرْتَ فَتِهْ عَلَى الدَّهْرِ
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ وَقْتَ الْمَغْرِبِ مِنْ عَشِيَّةِ يَوْمِ الْأَحَدِ
لِيَوْمَيْنِ بَقِيَا مِنْ شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ عَشْرٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَقَدْ
جَاوَزَ الثَّمَانِينَ بِخَمْسٍ أَوْ سِتِّ سِنِينَ وَفِي
شَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ سَوَادٌ كَثِيرٌ، وَدُفِنَ
فِي دَارِهِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الرَّعَاعِ مِنْ عَوَامِّ الْحَنَابِلَةِ مَنَعُوا
مِنْ دَفَنِهِ نَهَارًا وَنَسَبُوهُ إِلَى الرَّفْضِ، وَمِنَ الْجَهَلَةِ مَنْ
رَمَاهُ بِالْإِلْحَادِ، وَحَاشَاهُ مِنْ هَذَا وَمِنْ ذَاكَ أَيْضًا. بَلْ كَانَ
أَحَدَ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فِي الْعِلْمِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ
رَسُولِهِ، وَإِنَّمَا تَقَلَّدُوا ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ
دَاوُدَ حَيْثُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيهِ وَيَرْمِيهِ بِالْعَظَائِمِ وَيَرْمِيهِ
بِالرَّفْضِ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ اجْتَمَعَ النَّاسُ مِنْ سَائِرِ الْبَلَدِ
وَصَلَّوْا عَلَيْهِ بِدَارِهِ وَدُفِنَ بِهَا، وَمَكَثَ النَّاسُ يَتَرَدَّدُونَ
إِلَى قَبْرِهِ شُهُورًا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ، رُحِمَهُ اللَّهُ.
قُلْتُ: وَقَدْ رَأَيْتُ لَهُ كِتَابًا جَمَعَ فِيهِ أَحَادِيثَ غَدِيرِ خُمٍّ فِي
مُجَلَّدَيْنِ ضَخْمَيْنِ، وَكِتَابًا جَمَعَ فِيهِ طُرُقَ حَدِيثِ الطَّيْرِ،
وَنُسِبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَقُولُ بِجَوَازِ مَسْحِ الْقَدَمَيْنِ فِي الْوُضُوءِ
وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْغَسْلَ، وَقَدِ اشْتُهِرَ عَنْهُ هَذَا، فَمِنَ
الْعُلَمَاءِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ اثْنَانِ، أَحَدُهُمَا شِيعِيٌّ
وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ ذَلِكَ، وَيُنَزِّهُونَ أَبَا جَعْفَرٍ مِنْ هَذِهِ
الصِّفَاتِ، وَالَّذِي عُوِّلَ عَلَيْهِ كَلَامُهُ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ
يُوجِبُ غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ وَيُوجِبُ مَعَ الْغَسْلِ دَلْكَهُمَا، وَلَكِنَّهُ
عَبَّرَ عَنِ الدَّلْكِ بِالْمَسْحِ فَلَمْ يَفْهَمْ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ
مُرَادَهُ جَيِّدًا، فَنَقَلُوا عَنْهُ أَنَّهُ يُوجِبُ الْجَمْعَ بَيْنَ
الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَثَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ
حَيْثُ يَقُولُ:
حَدَثٌ مُفْظِعٌ وَخَطْبٌ جَلِيلٌ دَقَّ عَنِ مِثْلِهِ اصْطِبَارُ الصَّبُورِ
قَامَ نَاعِي الْعُلُومِ أَجْمَعِ لَمَّا قَامَ نَاعِي مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرِ
فَهَوَتْ أَنْجُمٌ لَهَا زَاهِرَاتٌ مُؤْذِنَاتٌ رُسُومُهَا بِالدُّثُورِ
وَتَغَشَّى ضَيَاءَهَا النَّيِّرَ الْإِشْ رَاقِ ثَوْبُ الدُّجُنَّةِ الدَّيْجُورِ
وَغَدَا رَوْضُهَا الْأَنِيقُ هَشِيمًا ثُمَّ عَادَتْ
سُهُولُهَا كَالْوُعُورِ
يَا أَبَا جَعْفَرٍ مَضَيْتَ حَمِيدًا غَيْرَ وَانٍ فِي الْجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ
بَيْنَ أَجْرٍ عَلَى اجْتِهَادِكَ مَوْفُو رٍ وَسَعْيٍ إِلَى التُّقَى مَشْكُورِ
مُسْتَحِقًّا بِهِ الْخُلُودَ لَدَى جَنَّ ةِ عَدْنٍ فِي غِبْطَةٍ وَسُرُورِ
وَلِأَبِي بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ مَرْثَاةٌ طَوِيلَةٌ
طَنَّانَةٌ، أَوْرَدَهَا الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ بِتَمَامِهَا، وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا دَخَلَ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ
أَمِيرُ الْقَرَامِطَةِ فِي أَلْفٍ وَسَبْعِمِائَةِ فَارِسٍ إِلَى الْبَصْرَةِ
لَيْلًا، نَصَبَ السَّلَالِمَ الشَّعْرَ فِي سُورِهَا، فَدَخَلَهَا قَوْمُهُ
وَفَتَحُوا أَبْوَابَهَا، وَقَتَلُوا مَنْ لَقُوهُ مِنْ أَهْلِهَا، وَهَرَبَ
أَكْثَرُ النَّاسِ، فَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَاءِ، فَغَرِقَ كَثِيرٌ
مِنْهُمْ، وَمَكَثَ بِهَا سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ مَنْ شَاءَ
مِنْ نِسَائِهَا وَذَرَارِيِّهَا، وَيَغْنَمُ مَا يَخْتَارُهُ مِنْ أَمْوَالِ
أَهْلِهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ هَجَرَ وَذَلِكَ لَمَّا بَعَثَ إِلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ جُنْدًا مِنْ قِبَلِهِ فَرَّ وَتَرَكَ الْبَلَدَ يَبَابًا، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ الْمُقْتَدِرُ عَنِ الْوِزَارَةِ حَامِدَ بْنَ
الْعَبَّاسِ وَعَلِيَّ بْنَ عِيسَى، وَرَدَّ إِلَى الْوِزَارَةِ أَبَا الْحَسَنِ
بْنَ الْفُرَاتِ الْوِلَايَةَ الثَّالِثَةَ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ حَامِدَ بْنَ
الْعَبَّاسِ، وَعَلِيَّ بْنَ عِيسَى، فَأَمَّا حَامِدٌ فَإِنَّ الْمُحَسِّنَ بْنَ
الْوَزِيرِ ضَمِنَهُ مِنَ الْمُقْتَدِرِ بِخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ،
وَتَسَلَّمَهُ فَعَاقَبَهُ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، وَأَخَذَ مِنْهُ أَمْوَالًا
جَزِيلَةً لَا تُحْصَى
كَثْرَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ بِهِ مَعَ مُوَكَّلِينَ عَلَيْهِ
إِلَى وَاسِطٍ لِيَحْتَاطُوا عَلَى أَمْوَالِهِ هُنَاكَ وَحَوَاصِلِهِ،
وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْقُوهُ سُمًّا فِي الطَّرِيقِ، فَسَقَوْهُ ذَلِكَ فِي بَيْضٍ
مَشْوِيٍّ، كَانَ قَدْ طَلَبَهُ مِنْهُمْ، فَمَاتَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ. وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ عِيسَى فَإِنَّهُ صُودِرَ بِثَلَاثِمِائَةِ
أَلْفِ دِينَارٍ، وَصُودِرَ قَوْمٌ آخَرُونَ مِنْ كُتَّابِهِ، فَكَانَ جُمْلَةُ
مَا أُخِذَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَعَ مَا كَانَ صُودِرَتْ بِهِ الْقَهْرَمَانَةُ مِنَ
الذَّهَبِ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، آلَافَ أَلْفٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَغَيْرَ
ذَلِكَ، وَأَشَارَ الْوَزِيرُ ابْنُ الْفُرَاتِ عَلَى الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ
بِاللَّهِ أَنْ يُبْعِدَ عَنْهُ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ وَيَأْمُرَهُ بِالذَّهَابِ
إِلَى الشَّامِ - وَكَانَ قَدْ قَدِمَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، وَقَدْ فَتَحَ
شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ بُلْدَانِهِمْ، وَغَنِمَ مَغَانِمَ كَثِيرَةً جِدًّا -
فَسَأَلَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى سَلْخِ رَمَضَانَ، وَكَانَ قَدْ أَعْلَمَ الْخَلِيفَةَ
بِمَا كَانَ يَعْتَمِدُهُ ابْنُ الْوَزِيرِ مِنْ تَعْذِيبِ النَّاسِ
وَمُصَادَرَتِهِمُ الْأَمْوَالَ، فَأَجَابَ الْخَلِيفَةُ الْوَزِيرَ إِلَى
إِبْعَادِ مُؤْنِسٍ فَأَخْرَجَهُ إِلَى الشَّامِ.
وَفِيهَا كَثُرَ الْجَرَادُ، وَأَفْسَدَ كَثِيرًا مِنَ الْغَلَّاتِ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا أُمِرَ بِرَدِّ بَقِيَّةِ الْمَوَارِيثِ إِلَى ذَوِي
الْأَرْحَامِ.
وَفِيهَا فِي النِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ أُحْرِقَ عَلَى بَابِ الْعَامَّةِ صُورَةُ
مَانِي وَأَرْبَعَةُ أَعْدَالٍ مِنْ كُتُبِ الزَّنَادِقَةِ، فَسَقَطَ مِنْهَا
ذَهَبٌ كَثِيرٌ كَانَتْ مُحَلَّاةً بِهِ.
وَفِيهَا اتَّخَذَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْفُرَاتِ
الْوَزِيرُ مَارَسْتَانًا فِي دَرْبِ الْفَضْلِ، يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ
فِي كُلِّ شَهْرٍ مِائَتَيْ دِينَارٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْخَلَّالُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ، أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ
صَاحِبُ كِتَابِ " الْجَامِعِ لِعُلُومِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " وَلَمْ
يُصَنَّفْ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَثْلُ هَذَا الْكِتَابِ، وَقَدْ
سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ وَسَعْدَانَ بْنِ نَصْرٍ
وَغَيْرِهِمَا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ
لِيَوْمَيْنِ مَضَيَا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا.
أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرِيرِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ، أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرِيرِيُّ
أَحَدُ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ، صَحِبَ سَرِيًّا السَّقَطِيَّ، وَكَانَ الْجُنَيْدُ
يُكْرِمُهُ وَيَحْتَرِمُهُ، وَلَمَّا حَضَرَتِ الْجُنَيْدَ الْوَفَاةُ أَوْصَى
أَنْ يُجَالَسَ الْجَرِيرِيُّ، وَقَدِ اشْتَبَهَ عَلَى الْجَرِيرِيِّ هَذَا شَأْنُ
الْحَلَّاجِ، فَكَانَ مِمَّنْ أَجْمَلَ الْقَوْلَ فِيهِ، عَلَى أَنَّ
الْجَرِيرِيَّ هَذَا مَذْكُورٌ بِالصَّلَاحِ وَالدِّيَانَةِ وَحُسْنِ الْأَدَبِ
مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
الزَّجَّاجُ صَاحِبُ " مَعَانِي الْقُرْآنِ " إِبْرَاهِيمُ بْنُ
السَّرِيِّ بْنِ سَهْلٍ، أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ
كَانَ فَاضِلًا دَيِّنًا حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ
الْحَسَنَةُ،
مِنْهَا كِتَابُ " مَعَانِي الْقُرْآنِ "
وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الْعَدِيدَةِ الْمُفِيدَةِ، وَقَدْ كَانَ فِي
أَوَّلِ أَمْرِهِ يَخْرُطُ الزُّجَاجَ، فَأَحَبَّ عِلْمَ النَّحْوِ، فَذَهَبَ
إِلَى الْمُبَرِّدِ، فَكَانَ يُعْطِي الْمُبَرِّدَ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا، ثُمَّ
اسْتَغْنَى الزَّجَّاجُ وَكَثُرَ مَالُهُ، وَلَمْ يَقْطَعْ عَنِ الْمُبَرِّدِ
ذَلِكَ الدِّرْهَمَ حَتَّى مَاتَ الْمُبَرِّدُ وَقَدْ كَانَ الزَّجَّاجُ
مُؤَدِّبًا لِلْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا وَلِيَ الْوِزَارَةَ
كَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ بِالرِّقَاعِ لِيُقَدِّمَهَا إِلَى الْوَزِيرِ،
فَحَصَلَ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَا يَزِيدُ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَعَنْهُ
أَخَذَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ النَّحْوِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِيُّ، نُسِبَ إِلَيْهِ ; لِأَخْذِهِ عَنْهُ،
وَهُوَ صَاحِبُ كِتَابِ " الْجُمَلِ " فِي النَّحْوِ.
بَدْرٌ مَوْلَى الْمُعْتَضِدِ
وَهُوَ بَدْرٌ الْحَمَامِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ: بَدْرٌ الْكَبِيرُ. كَانَ فِي آخِرِ
وَقْتٍ عَلَى نِيَابَةِ فَارِسَ وَوَلِيَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ.
حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ
اسْتَوْزَرَهُ الْمُقْتَدِرُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ كَثِيرَ
الْمَالِ وَالْغِلْمَانِ، كَثِيرَ النَّفَقَاتِ، كَرِيمًا سَخِيًّا، كَثِيرَ
الْمُرُوءَةِ، وَلَهُ حِكَايَاتٌ تَدُلُّ عَلَى بَذْلِهِ وَإِعْطَائِهِ
الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ، وَمَعَ هَذَا كَانَ يَجْمَعُ شَيْئًا كَثِيرًا، وُجِدَ
لَهُ فِي مَطْمُورَةٍ أُلُوفٌ مِنَ الذَّهَبِ، كَانَ فِي كُلِّ يَوْمٍ إِذَا
دَخَلَ إِلَيْهَا أَلْقَى فِيهَا أَلْفَ
دِينَارٍ، فَلَمَّا امْتَلَأَتْ، طَمَّهَا، فَلَمَّا
صُودِرَ، دَلَّ عَلَيْهَا، فَاسْتُخْرِجَ مِنْهَا مَالٌ جَزِيلٌ جِدًّا، وَمَنْ
أَكْبَرِ مَنَاقِبِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَكْبَرِ السُّعَاةِ فِي الْحُسَيْنِ
بْنِ مَنْصُورٍ الْحَلَّاجِ حَتَّى قُتِلَ، كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا، ثُمَّ
كَانَتْ وَفَاةُ الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ مَسْمُومًا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُجَيْرٍ الْبُجَيْرِيُّ صَاحِبُ " الصَّحِيحِ
".
ابْنُ خُزَيْمَةَ، مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ
بْنِ صَالِحِ بْنِ بَكْرٍ السُّلَمِيُّ، مَوْلَى مُجَشِّرِ بْنِ مُزَاحِمٍ،
الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ، الْمُلَقَّبُ بِإِمَامِ الْأَئِمَّةِ،
كَانَ مِنْ أَوْعِيَةِ الْعِلْمِ وَبُحُورِهِ، وَمِمَّنْ طَافَ الْبُلْدَانَ،
وَرَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَسَمَاعِ الْحَدِيثِ، وَكَتَبَ
الْكَثِيرَ وَصَنَّفَ وَجَمَعَ، وَلَهُ كِتَابُ " الصَّحِيحِ " مِنْ
أَنْفَعِ الْكُتُبِ وَأَجَلِّهَا، وَهُوَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي دِينِ
الْإِسْلَامِ، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "
طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ " عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: مَا قَلَّدْتُ أَحَدًا
مُنْذُ بَلَغْتُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ
مُطَوَّلَةً فِي كِتَابِنَا " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ " بِمَا فِيهِ
كِفَايَةٌ، وَهُوَ الَّذِي قَامَ يُصَلِّي حِينَ وَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَيْهِ
لِيَسْتَرْزِقَ اللَّهَ فِي صَلَاتِهِ حِينَ أَرْمَلَ هُوَ وَمُحَمَّدُ بْنُ
نَصْرٍ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ جَرِيرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرُّويَانِيُّ،
وَقَدْ أَوْرَدَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ طَرِيقَيْنِ فِي تَرْجَمَتِهِ،
وَذَلِكَ بِبَلَدِ مِصْرَ فِي دَوْلَةِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، فَرَزَقَهُمُ
اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا نَحْوَ ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ الْحَسَنِ
بْنِ سُفْيَانَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الطَّبِيبُ
صَاحِبُ الْمُصَنَّفِ الْكَبِيرِ فِي الطِّبِّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا اعْتَرَضَ الْقِرْمِطِيُّ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ
بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ - لَعَنَهُ اللَّهُ، وَلَعَنَ مَعَهُ أَبَاهُ -
لِلْحَجِيجِ وَهُمْ رَاجِعُونَ مِنْ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ قَدْ أَدَّوْا
فَرْضَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَقَطَعَ عَلَيْهِمُ الطَّرِيقَ، فَقَاتَلُوهُ دَفْعًا
عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا
كَثِيرًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَأَسَرَ مِنْ
نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ مَا اخْتَارَهُ، وَاصْطَفَى مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا أَرَادَ،
فَكَانَ مَبْلَغُ مَا أَخَذَ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا يُقَاوِمُ أَلْفَ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَمِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْمَتَاجِرِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَتَرَكَ بَقِيَّةَ
النَّاسِ - بَعْدَمَا أَخَذَ جِمَالَهُمْ وَزَادَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
وَنِسَاءَهُمْ عَلَى بُعْدِ الدِّيَارِ فِي الْبَرِّيَّةِ - بِلَا زَادٍ وَلَا
مَاءٍ وَلَا مَحْمَلٍ. وَقَدْ حَاجَفَ عَنِ النَّاسِ نَائِبُ الْكُوفَةِ أَبُو
الْهَيْجَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ، فَقَهَرَهُ وَأَسَرَهُ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ مَعَ الْقِرْمِطِيِّ
ثَمَانِمِائَةِ مُقَاتِلٍ، وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً،
قَصَمَهُ اللَّهُ.
وَلَمَّا انْتَهَى خَبَرُهُمْ إِلَى بَغْدَادَ قَامَ نِسَاؤُهُمْ وَأَهَالِيهِمْ
فِي النِّيَاحَةِ، وَنَشَرْنَ شُعُورَهُنَّ وَلَطَمْنَ وُجُوهَهُنَّ، وَانْضَافَ
إِلَيْهِنَّ نِسَاءُ الَّذِينَ نُكِبُوا عَلَى يَدَيِ
الْوَزِيرِ ابْنِ الْفُرَاتِ، فَكَانَ بِبَغْدَادَ يَوْمٌ
مَشْهُودٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْفَظَاعَةِ وَالشَّنَاعَةِ، وَلَمَّا
سَأَلَ الْخَلِيفَةُ عَنِ الْخَبَرِ، ذُكِرَ لَهُ أَنَّ هَذِهِ نِسْوَةُ
الْحَجِيجِ، وَمَعَهُنَّ نِسَاءُ الَّذِينَ صَادَرَهُمُ ابْنُ الْفُرَاتِ،
وَجَاءَتْ عَلَى يَدِ الْحَاجِبِ نَصْرٍ الْقُشُورِيِّ الْمَشُورَةُ عَلَى
الْوَزِيرِ، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا اسْتَوْلَى هَذَا
الْقِرْمِطِيُّ بِسَبَبِ إِبْعَادِكَ الْمُظَفَّرَ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ، فَطَمِعَ
هَؤُلَاءِ فِي الْأَطْرَافِ، وَمَا أَشَارَ عَلَيْكَ بِإِبْعَادِهِ إِلَّا ابْنُ
الْفُرَاتِ. وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِرُ إِلَى الْوَزِيرِ ابْنِ
الْفُرَاتِ، يَقُولُ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ يَتَكَلَّمُونَ فِيكَ لِنُصْحِكَ
إِيَّايَ. وَأَرْسَلَ يُطَيِّبُ قَلْبَهُ، فَرَكِبَ هُوَ وَوَلَدُهُ إِلَى
الْخَلِيفَةِ فَدَخَلَا عَلَيْهِ، فَأَكْرَمَهُمَا وَطَيَّبَ قُلُوبَهُمَا،
وَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ، فَنَالَهُ أَذًى كَثِيرٌ مِنْ نَصْرٍ الْحَاجِبِ
وَغَيْرِهِ مِنْ كِبَارِ الْأُمَرَاءِ، وَجَلَسَ الْوَزِيرُ فِي دَسْتِهِ،
فَحَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى عَادَتِهِ، وَبَاتَ لَيْلَتَهُ تِلْكَ مُفَكِّرًا
فِي أَمْرِهِ، وَأَصْبَحَ كَذَلِكَ وَهُوَ يَنْشُدُ:
فَأَصْبَحَ لَا يَدْرِي وَإِنْ كَانَ حَازِمًا أَقُدَّامَهُ خَيْرٌ لَهُ أَمْ
وَرَاءَهُ
ثُمَّ جَاءَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَمِيرَانِ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ
الْمُقْتَدِرِ فَدَخَلَا عَلَيْهِ دَارَهُ إِلَى بَيْنِ حَرَمِهِ، وَأَخْرَجُوهُ
مَكْشُوفًا رَأْسُهُ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْمَذَلَّةِ وَالْإِهَانَةِ،
فَأَرْكَبُوهُ فِي حَرَّاقَةٍ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ. وَفَهِمَ النَّاسُ
ذَلِكَ، فَرَجَمُوا ابْنَ الْفُرَاتِ
بِالْآجُرِّ، وَتَعَطَّلَتِ الْجَوَامِعُ، وَسَخَّمَتِ
الْعَامَّةُ الْمَحَارِيبَ، وَلَمْ يُصَلِّ النَّاسُ الْجُمُعَةَ فِيهَا، وَأُخِذَ
خَطُّهُ بِأَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأُخِذَ خَطُّ ابْنِهِ بِثَلَاثَةِ آلَافِ
أَلْفِ دِينَارٍ، وَسُلِّمَا إِلَى نَازُوكَ أَمِيرِ الشُّرْطَةِ، فَاعْتُقِلَا
حِينًا، وَخَلَّصَ مِنْهُمَا الْأَمْوَالَ، فَلَمَّا قَدِمَ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ
سُلِّمَ إِلَيْهِ الْوَزِيرُ ابْنُ الْفُرَاتِ، فَأَهَانَهُ غَايَةَ الْإِهَانَةِ
بِالضَّرْبِ وَالتَّقْرِيعِ لَهُ وَلِوَلَدِهِ الْمُحَسِّنِ الْمُجْرِمِ الَّذِي
لَيْسَ بِمُحَسِّنٍ، ثُمَّ قُتِلَا بَعْدَ ذَلِكَ. فَكَانَتْ وِزَارَتُهُ هَذِهِ
الثَّالِثَةُ ; عَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا. وَاسْتُوزِرَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ
خَاقَانَ، وَذَلِكَ فِي تَاسِعِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَكَانَ الْخَلِيفَةُ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ لِيَحْضُرَ،
فَدَخَلَ بَغْدَادَ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ، وَسُلِّمَ إِلَيْهِ ابْنُ الْفُرَاتِ
كَمَا ذَكَرْنَا، فَعَاقَبَهُ، وَشَفَعَ إِلَى الْخَاقَانِيِّ فِي أَنْ يُرْسِلَ
إِلَى عَلِيِّ بْنِ عِيسَى - وَكَانَ قَدْ صَارَ إِلَى صَنْعَاءَ مِنَ الْيَمَنِ
مَطْرُودًا - فَعَادَ إِلَى مَكَّةَ وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْوَزِيرُ أَنْ يَنْظُرَ
فِي أَمْرِ الشَّامِ وَمِصْرَ، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ
بِالْمَسِيرِ إِلَى نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ لِأَجْلِ الْقَرَامِطَةِ، وَأَنْفَقَ
عَلَى خُرُوجِهِ إِلَى هُنَالِكَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَطْلَقَ
الْقِرْمِطِيُّ مَنْ كَانَ أَسَرَهُ مِنَ الْحَجِيجِ وَكَانُوا أَلْفَيْ رَجُلٍ
وَخَمْسَمِائَةِ امْرَأَةٍ، وَأَطْلَقَ أَبَا الْهَيْجَاءِ نَائِبَ الْكُوفَةِ
مَعَهُمْ أَيْضًا، وَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَسْأَلُ مِنْهُ الْبَصْرَةَ
وَالْأَهْوَازَ، فَلَمْ يُجَبْ إِلَى ذَلِكَ، وَرَكِبَ الْمُظَفَّرُ مُؤْنِسٌ
الْخَادِمُ فِي جَحَافِلَ إِلَى بِلَادِ الْكُوفَةِ
فَسَكَنَ أَمْرُهَا، ثُمَّ انْحَدَرَ مِنْهَا إِلَى وَاسِطٍ ; خَوْفًا عَلَيْهَا
مِنَ الْقَرَامِطَةِ، وَاسْتَنَابَ عَلَى الْكُوفَةِ يَاقُوتَ الْخَادِمَ،
فَتَمَهَّدَتِ الْأُمُورُ وَانْصَلَحَتْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ رَجُلٌ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَبَغْدَادَ، فَادَّعَى
أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَصَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ
طَائِفَةٌ مِنَ الْأَعْرَابِ وَالطَّغَامِ، وَالْتَفُّوا عَلَيْهِ، وَقَوِيَتْ
شَوْكَتُهُ فِي شَوَّالٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْوَزِيرُ جَيْشًا فَقَاتَلُوهُ
فَهَزَمُوهُ، وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَتَفَرَّقَ بَقِيَّتُهُمْ.
وَهَذَا الْمُدَّعِي الْمَذْكُورُ هُوَ رَئِيسُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ
وَأَوَّلُهُمْ. وَظَفِرَ نَازُوكُ نَائِبُ الشُّرْطَةِ بِثَلَاثَةٍ مِنْ أَصْحَابِ
الْحَلَّاجِ وَهُمْ حَيْدَرَةُ، وَالشَّعْرَانِيُّ، وَابْنُ مَنْصُورٍ،
فَطَالَبَهُمْ بِالرُّجُوعِ، فَلَمْ يَرْجِعُوا، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَصَلَبَهُمْ
فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ. وَلَمْ يَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ الْعِرَاقِ ; لِكَثْرَةِ خَوْفِ النَّاسِ مِنَ الْقَرَامِطَةِ، لَعَنَهُمُ
اللَّهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْشٍ، أَبُو إِسْحَاقَ الْوَاعِظُ الزَّاهِدُ
النَّيْسَابُورِيُّ، كَانَ يَعِظُ النَّاسَ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ
الْحَسَنِ قَوْلُهُ: يَضْحَكُ الْقَضَاءُ مِنَ الْحَذَرِ، وَيَضْحَكُ الْأَجَلُ
مِنَ الْأَمَلِ، وَيَضْحَكُ التَّقْدِيرُ مِنَ التَّدْبِيرِ، وَتَضْحَكُ
الْقِسْمَةُ مِنَ الْجَهْدِ وَالْعَنَاءِ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ، أَبُو الْحَسَنِ
الْوَزِيرُ
وَلَّاهُ الْمُقْتَدِرُ الْوِزَارَةَ، ثُمَّ عَزَلَهُ، ثُمَّ وَلَّاهُ، ثُمَّ
عَزَلَهُ، ثُمَّ وَلَّاهُ، ثُمَّ عَزَلَهُ هَذِهِ السَّنَةَ وَقَتَلَهُ، وَكَانَ
ذَا مَالٍ جَزِيلٍ جِدًّا، مَلَكَ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ
يَدْخُلُهُ مِنْ ضِيَاعِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَا أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ
يُنْفِقُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ وَيُجْرِي
عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ فِي كُلِّ شَهْرٍ، أَثَابَهُ اللَّهُ، وَكَانَ فِيهِ
كِفَايَةٌ وَنَهْضَةٌ وَمَعْرِفَةٌ بِالْوِزَارَةِ وَالْحِسَابِ، يُقَالُ: إِنَّهُ
نَظَرَ يَوْمًا فِي أَلْفِ كِتَابٍ، وَوَقَّعَ عَلَى أَلْفِ رُقْعَةٍ، فَتَعَجَّبَ
مَنْ حَضَرَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَتْ فِيهِ مُرُوءَةٌ وَكَرَمٌ وَحُسْنُ سِيرَةٍ
فِي وِلَايَاتِهِ، غَيْرَ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ ; فَإِنَّهُ ظَلَمَ وَغَشَمَ
وَصَادَرَ النَّاسَ عَنْ أَمْوَالِهِمْ، فَأَخَذَهُ اللَّهُ أَخْذَ عَزِيزٍ
مُقْتَدِرٍ. وَقَدْ كَانَ فِيهِ كَرَمٌ وَسَعَةٌ فِي النَّفَقَةِ، ذُكِرَ عِنْدَهُ
ذَاتَ لَيْلَةٍ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةُ وَأَهْلُ الْأَدَبِ
وَالشُّعَرَاءُ وَالْفُقَهَاءُ، فَأَطْلَقَ مِنْ مَالِهِ لِكُلِّ طَائِفَةٍ
عِشْرِينَ أَلْفًا.
وَكَتَبَ رَجُلٌ عَلَى لِسَانِهِ إِلَى نَائِبِ مِصْرَ كِتَابًا فِيهِ
الْوَصِيَّةُ بِهِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ
اسْتَرَابَ بِهِ، وَقَالَ: مَا هَذَا خَطُّهُ، وَأَرْسَلَ بِهِ إِلَى الْوَزِيرِ،
فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ عَرَفَ أَنَّهُ كَذِبٌ وَزُورٌ، وَاسْتَشَارَ
الْحَاضِرِينَ عِنْدَهُ فِي الَّذِي زَوَّرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
يَنْبَغِي أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقْطَعُ إِبْهَامُهُ، وَقَالَ
الْآخَرُ: يُضْرَبُ ضَرْبًا عَنِيفًا. فَقَالَ الْوَزِيرُ: أَوْ خَيْرٌ مِنْ
ذَلِكَ ؟ فَأَخَذَ الْكِتَابَ،
وَكَتَبَ عَلَيْهِ: نَعَمْ هَذَا خَطِّي، وَهُوَ مِنْ
أَخَصِّ أَصْحَابِي، فَلَا تَتْرُكْ شَيْئًا مِمَّا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ
الْإِحْسَانِ إِلَّا وَصَلْتَهُ بِهِ. فَلَمَّا عَادَ الْكِتَابُ أَحْسَنَ نَائِبُ
مِصْرَ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَوَصَلَهُ بِنَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفِ
دِينَارٍ.
وَاسْتَدْعَى ابْنُ الْفُرَاتِ يَوْمًا بِبَعْضِ الْكُتَّابِ، فَقَالَ لَهُ:
وَيْحَكَ ! إِنَّ نِيَّتِي فِيكَ سَيِّئَةٌ، وَإِنِّي فِي كُلِّ وَقْتٍ أُرِيدُ
أَنْ أَقْبِضَ عَلَيْكَ وَأُصَادِرَكَ مَالَكَ، فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ مِنْ
لَيَالٍ أَنِّي قَدْ أَمَرْتُ بِالْقَبْضِ عَلَيْكَ، فَجَعَلْتَ تَمْتَنِعُ
مِنِّي، فَأَمَرْتُ جُنْدِي أَنْ تُقَاتِلَ، فَجَعَلُوا كُلَّمَا ضَرَبُوكَ
بِشَيْءٍ مِنْ سِهَامٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ السِّلَاحِ تَتَّقِي الضَّرْبَ
بِرَغِيفٍ فِي يَدِكَ، فَلَا يَصِلُ إِلَيْكَ بِسَبَبِهِ شَيْءٌ، فَأَعْلِمْنِي
مَا قِصَّةُ هَذَا الرَّغِيفِ ؟ فَقَالَ: أَيُّهَا الْوَزِيرُ، إِنَّ أُمِّي
مُنْذُ كُنْتُ صَغِيرًا كَانَتْ تَضَعُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ تَحْتَ وِسَادَتِي
رَغِيفًا، ثُمَّ تُصْبِحُ فَتَتَصَدَّقُ بِهِ عَنِّي، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ
دَأْبَهَا حَتَّى مَاتَتْ. فَفَعَلْتُهُ بَعْدَهَا، فَأَنَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ
أُبَيِّتُ تَحْتَ وِسَادَتِي رَغِيفًا، ثُمَّ أُصْبِحُ فَأَتَصَدَّقُ بِهِ،
فَعَجِبَ الْوَزِيرُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَنَالُكَ مِنِّي سُوءٌ
أَبَدًا، وَلَقَدْ حَسُنَتْ نِيَّتِي فِيكَ وَأَحْبَبْتُكَ. وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ
خَلِّكَانَ تَرْجَمَتَهُ وَذَكَرَ بَعْضَ مَا أَوْرَدْنَاهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ
أَبُو بَكْرٍ الْأَزْدِيُّ الْوَاسِطِيُّ، الْمَعْرُوفُ بَالْبَاغَنْدِيِّ، سَمِعَ
مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَابْنَ أَبِي شَيْبَةَ،
وَشَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ، وَعَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ، وَخَلْقًا مِنْ أَهْلِ
الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ، وَرَحَلَ إِلَى
الْأَمْصَارِ الْبَعِيدَةِ، وَعُنِيَ
بِهَذَا الشَّأْنِ، وَاشْتَغَلَ فِيهِ فَأَفْرَطَ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ رُبَّمَا سَرَدَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ بِأَسَانِيدِهَا فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، فَيُسَبِّحُ بِهِ حَتَّى يَتَذَكَّرَ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ. وَكَانَ يَقُولُ: أَنَا أُجِيبُ فِي ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ مِنَ الْحَدِيثِ. وَقَدْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّمَا أَثْبَتُ فِي الْحَدِيثِ مَنْصُورٌ أَوِ الْأَعْمَشُ ؟ فَقَالَ لَهُ: مَنْصُورٌ، مَنْصُورٌ. وَقَدْ كَانَ يُعَابُ بِالتَّدْلِيسِ، حَتَّى قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هُوَ كَثِيرُ التَّدْلِيسِ، يُحَدِّثُ بِمَا لَمْ يَسْمَعْ، وَرُبَّمَا سَرَقَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنَ الْمُحَرَّمِ انْقَضَّ
كَوْكَبٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْجَنُوبِ إِلَى الشَّمَالِ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ،
فَأَضَاءَتِ الدُّنْيَا مِنْهُ، وَسُمِعَ لَهُ صَوْتٌ كَصَوْتِ الرَّعْدِ
الشَّدِيدِ.
وَفِي صَفَرٍ بَلَغَ الْخَلِيفَةَ الْمُقْتَدِرَ بِاللَّهِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ
الرَّافِضَةِ يَجْتَمِعُونَ فِي مَسْجِدِ بَرَاثَا، فَيَنَالُونَ مِنَ
الصَّحَابَةِ، وَلَا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ، وَيُكَاتِبُونَ الْقَرَامِطَةَ،
وَيَدْعُونَ إِلَى وِلَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الَّذِي ظَهَرَ بَيْنَ
الْكُوفَةِ وَبَغْدَادَ، وَيَدَّعُونَ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ، وَيَتَبَرَّءُونَ
مِنَ الْمُقْتَدِرِ وَمِمَّنْ يَتَّبِعُهُ، فَأَمَرَ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَيْهِمْ،
وَاسْتَفْتَى الْعُلَمَاءَ فِي الْمَسْجِدِ الْمَذْكُورِ، فَأَفْتَوْا بِأَنَّهُ
مَسْجِدٌ ضِرَارٌ يُهْدَمُ كَمَا هُدِمَ مَسْجِدُ الضِّرَارِ، فَضَرَبَ مَنْ
قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمُ الضَّرْبَ الْمُبَرِّحَ، وَنُودِيَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَ
الْخَلِيفَةُ بِهَدْمِ الْمَسْجِدِ الْمَذْكُورِ، فَهَدَمَهُ نَازُوكُ وَأَمَرَ
الْوَزِيرَ الْخَاقَانِيَّ، فَجَعَلَ مَكَانَهُ مَقْبَرَةً، فَدُفِنَ فِيهِ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَوْتَى.
وَخَرَجَ النَّاسُ لِلْحَجِّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَاعْتَرَضَهُمْ أَبُو طَاهِرٍ
سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ
الْجَنَّابِيُّ الْقِرْمِطِيُّ - لَعَنَهُمَا اللَّهُ -
فَرَجَعَ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَى بُلْدَانِهِمْ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْحَجُّ
عَامَهُمْ هَذَا، وَيُقَالُ: إِنَّ بَعْضَهُمْ سَأَلَ مِنْهُ الْأَمَانَ
لِيَذْهَبُوا فَأَمَّنَهُمْ. وَقَدْ قَاتَلَهُ جُنْدُ الْخَلِيفَةِ، فَلَمْ يُفِدْ
ذَلِكَ فِيهِ شَيْئًا ; لِتَمَرُّدِهِ وَشِدَّةِ بَأْسِ مَنْ مَعَهُ، وَانْزَعَجَ أَهْلُ
بَغْدَادَ مِنْ ذَلِكَ وَتَرَحَّلَ أَهْلُ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِلَى
الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ خَوْفًا مِنَ الْقَرَامِطَةِ، وَدَخَلَ الْقِرْمِطِيُّ
إِلَى الْكُوفَةَ فَأَقَامَ بِهَا سِتَّةَ أَيَّامٍ يَأْخُذُ مِنْ أَمْوَالِهَا
مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَثُرَ الرُّطَبُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِبَغْدَادَ،
حَتَّى بِيعَ كُلُّ ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ بِحَبَّةٍ، وَعُمِلَ مِنْهُ تَمْرٌ
وَحُمِلَ إِلَى الْبَصْرَةِ.
وَعَزَلَ الْمُقْتَدِرُ وَزِيرَهُ الْخَاقَانِيَّ عَنِ الْوِزَارَةِ بَعْدَ سَنَةٍ
وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَيَوْمَيْنِ، وَوَلِيَ مَكَانَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ
بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْخَصِيبِ الْخَصِيبِيُّ ; لِأَجْلِ
مَالٍ بَذَلَهُ مِنْ جِهَةِ زَوْجَةِ الْمُحَسِّنِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَكَانَ
ذَلِكَ الْمَالُ سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَقَرَّ الْخَصِيبِيُّ عَلِيَّ
بْنَ عِيسَى عَلَى الْإِشْرَافِ عَلَى دِيَارِ مِصْرَ وَبِلَادِ الشَّامِ وَهُوَ
مُقِيمٌ بِمَكَّةَ يَسِيرُ إِلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَيَعْمَلُ مَا
يَنْبَغِي عَمَلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مَكَّةَ، شَرَّفَهَا اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ
أَبُو الْحَسَنِ الْغَضَائِرِيُّ،
سَمِعَ الْقَوَارِيرِيَّ وَعَبَّاسًا الْعَنْبَرِيَّ،
وَكَانَ مِنَ الْعُبَّادِ الثِّقَاتِ. قَالَ: جِئْتُ يَوْمًا إِلَى السَّرِيِّ
السَّقَطِيِّ، فَدَقَقْتُ عَلَيْهِ بَابَهُ، فَخَرَجَ إِلَيَّ، وَوَضَعَ يَدَهُ
عَلَى عِضَادَتَيِ الْبَابِ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْغَلْ مَنْ شَغَلَنِي
عَنْكَ بِكَ. قَالَ: فَنَالَتْنِي بَرَكَةُ هَذِهِ الدَّعْوَةِ، فَحَجَجْتُ عَلَى
قَدَمِي مِنْ حَلَبَ إِلَى مَكَّةَ أَرْبَعِينَ حَجَّةً ذَاهِبًا وَآيِبًا.
أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ الْحَافِظُ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِهْرَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الثَّقَفِيُّ مَوْلَاهُمْ، أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ، أَحَدُ الْأَئِمَّةِ
الثِّقَاتِ الْحُفَّاظِ، مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ،
سَمِعَ قُتَيْبَةَ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَخَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ
خُرَاسَانَ وَبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْحِجَازِ، وَقَدْ حَدَّثَ
عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَهُمَا أَكْبَرُ مِنْهُ وَأَقْدَمُ مِيلَادًا
وَوَفَاةً، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ نَافِعَةٌ جِدًّا، وَكَانَ يُعَدُّ مِنْ
مُجَابِي الدَّعْوَةِ.
وَقَدْ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّهُ يَرْقَى فِي سُلَّمٍ، فَصَعِدَ فِيهِ
تِسْعًا وَتِسْعِينَ دَرَجَةً، فَمَا أَوَّلَهَا عَلَى أَحَدٍ إِلَّا قَالَ لَهُ:
تَعِيشُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ سَنَةً. فَكَانَ كَذَلِكَ. وَقَدْ وُلِدَ لَهُ
ابْنُهُ أَبُو عَمْرٍو، وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً. قَالَ الْحَاكِمُ:
فَسَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو يَقُولُ: فَكُنْتُ إِذَا دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ عَلَى
أَبِي وَالنَّاسُ عِنْدَهُ يَقُولُ لَهُمْ: هَذَا عَمِلْتُهُ فِي لَيْلَةٍ، وَلِي
مِنَ الْعُمُرِ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
كَتَبَ مَلِكُ الرُّومِ، وَهُوَ الدُّمُسْتُقُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - إِلَى أَهْلِ
السَّوَاحِلِ أَنَّ يَحْمِلُوا إِلَيْهِ الْخَرَاجَ وَإِلَّا قَاتَلَهُمْ،
فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ، فَعَاثَ
فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَدَخَلَ مَلَطْيَةَ فَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا كَثِيرًا
وَأَسَرَ، وَأَقَامَ بِهَا سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَجَاءَ أَهْلُهَا إِلَى
بَغْدَادَ يَسْتَنْجِدُونَ الْخَلِيفَةَ عَلَيْهِ.
وَوَقَعَ بِبَغْدَادَ حَرِيقٌ فِي مَكَانَيْنِ، مَاتَ بِسَبَبِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ،
وَاحْتَرَقَ بِأَحَدِهِمَا أَلْفُ دَارٍ وَدُكَّانٍ، وَجَاءَتِ الْكُتُبُ بِمَوْتِ
الدُّمُسْتُقِ مَلِكِ النَّصَارَى - لَعَنَهُ اللَّهُ - فَقُرِئَتِ الْكُتُبُ
عَلَى الْمَنَابِرِ بِذَلِكَ، وَجَاءَتِ الْكُتُبُ مِنْ مَكَّةَ أَنَّ أَهْلَهَا
فِي غَايَةِ الِانْزِعَاجِ بِسَبَبِ اقْتِرَابِ الْقِرْمِطِيِّ إِلَيْهِمْ
وَقَصْدِهِ إِيَّاهُمْ، فَرَحَلُوا مِنْهَا إِلَى الطَّائِفِ وَتِلْكَ
النَّوَاحِي، وَهَبَّتْ رِيحٌ عَظِيمَةٌ بِنَصِيبِينَ اقْتَلَعَتِ الْأَشْجَارَ
وَهَدَمَتِ الْبُيُوتَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ لِثَمَانٍ مَضَيْنَ مِنْ
شَوَّالٍ مِنْهَا - وَهُوَ سَابِعُ كَانُونَ الْأَوَّلِ - سَقَطَ بِبَغْدَادَ
ثَلْجٌ عَظِيمٌ جِدًّا وَحَصَلَ بِسَبَبِهِ بَرْدٌ شَدِيدٌ، بِحَيْثُ أَتْلَفَ
كَثِيرًا مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَشْجَارِ، وَجَمَدَتِ الْأَدْهَانُ حَتَّى
الْأَشْرِبَةُ، وَمَاءُ الْوَرْدِ، وَالْخَلُّ، وَالْخِلْجَانُ الْكِبَارُ،
وَدِجْلَةُ.
وَعَقَدَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ
مَجْلِسَ التَّحْدِيثِ عَلَى مَتْنِ دِجْلَةَ مِنْ فَوْقِ
الْجَمْدِ، وَكُتِبَ عَنْهُ الْحَدِيثُ هُنَالِكَ، ثُمَّ انْكَسَرَ الْبَرْدُ
بِمَطَرٍ وَقَعَ، فَأَزَالَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدِمَ الْحُجَّاجُ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى بَغْدَادَ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ
مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ بِأَنَّ الْقَرَامِطَةَ قَدْ قَصَدُوا مَكَّةَ فَرَجَعُوا،
وَلَمْ يَتَهَيَّأِ الْحَجُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِرَاقِ
بِالْكُلِّيَّةِ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ عَزَلَ الْخَلِيفَةُ وَزِيرَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ
الْخَصِيبِيَّ بَعْدَ سَنَةٍ وَشَهْرَيْنِ، وَأَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ
وَحَبْسِهِ، وَذَلِكَ لِإِهْمَالِهِ أَمْرَ الْوِزَارَةِ وَالنَّظَرِ فِي
الْمَصَالِحِ ; لِاشْتِغَالِهِ بِالْخَمْرِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فَيُصْبِحُ
مَخْمُورًا لَا عَقْلَ لَهُ، وَقَدْ وَكَلَ الْأُمُورَ إِلَى نُوَّابِهِ،
فَخَانُوا وَعَمِلُوا مَصَالِحَهُمْ، وَوَلَّى مَكَانَهُ أَبَا الْقَاسِمِ عَبِيدَ
اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكَلْوَذَانِيَّ نِيَابَةً عَنْ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى
حَتَّى يَقْدَمَ، ثُمَّ أَرْسَلَ فِي طَلَبِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، وَهُوَ فِي
دِمَشْقَ فَقَدِمَ بَغْدَادَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، فَنَظَرَ فِي الْمَصَالِحِ
الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَرَدَّ الْأُمُورَ إِلَى السَّدَادِ
وَالِاسْتِقَامَةِ، وَتَمَهَّدَتِ الْقَوَاعِدُ، وَاسْتَدْعَى بِالْخَصِيبِيِّ،
فَتَهَدَّدَهُ وَلَامَهُ وَنَاقَشَهُ عَلَى مَا كَانَ يَعْتَمِدُهُ وَيَفْعَلُهُ
فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَفِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ
الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى السِّجْنِ.
وَفِيهَا أَخَذَ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ الْمُلَقَّبُ بِالسَّعِيدِ
بِلَادَ الرَّيِّ وَسَكَنَهَا إِلَى سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ.
وَفِيهَا غَزَتِ الصَّائِفَةُ مِنْ بِلَادِ طَرَسُوسَ بِلَادَ الرُّومِ، فَغَنِمُوا
وَسَلِمُوا. وَلَمْ
يَحُجَّ رَكْبُ الْعِرَاقِ ; خَوْفًا مِنَ الْقَرَامِطَةِ،
لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سَعْدٌ النُّوبِيُّ
صَاحِبُ بَابِ النُّوبِيِّ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ بِبَغْدَادَ، تُوُفِّيَ فِي
صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَأُقِيمَ أَخُوهُ مَكَانَهُ فِي حِفْظِ هَذَا
الْبَابِ الَّذِي صَارَ يُنْسَبُ بَعْدَهُ إِلَيْهِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَاهِلِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ
لُبَابَةَ الْقُرْطُبِيُّ. وَنَصْرُ بْنُ الْقَاسِمِ الْفَرَائِضِيُّ الْحَنَفِيُّ
أَبُو اللَّيْثِ. سَمِعَ الْقَوَارِيرِيَّ وَكَانَ ثِقَةً عَالِمًا بِالْفَرَائِضِ
عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، مُقْرِئًا جَلِيلًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا كَانَ قُدُومُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ الْوَزِيرِ مِنْ
دِمَشْقَ إِلَى بَغْدَادَ وَقَدْ تَلَقَّاهُ النَّاسُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ،
فَمِنْهُمْ مَنْ لَقِيَهُ إِلَى الْأَنْبَارِ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ. وَحِينَ
دَخَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ خَاطَبَهُ الْخَلِيفَةُ فَأَحْسَنَ مُخَاطَبَتَهُ،
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَبَعَثَ وَرَاءَهُ بِالْفَرْشِ وَالْقُمَاشِ
وَعِشْرِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاسْتَدْعَاهُ مِنَ الْغَدِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ،
فَأَنْشَدَ وَهُوَ فِي الْخِلْعَةِ:
مَا النَّاسُ إِلَّا مَعَ الدُّنْيَا وَصَاحِبِهَا فَكَيْفَمَا انْقَلَبَتْ
يَوْمًا بِهِ انْقَلَبُوا يُعَظِّمُونَ أَخَا الدُّنْيَا فَإِنْ وَثَبَتْ
يَوْمًا عَلَيْهِ بِمَا لَا يَشْتَهِي وَثَبُوا
وَجَاءَتِ الْكُتُبُ بِأَنَّ الرُّومَ دَخَلُوا سُمَيْسَاطَ وَأَخَذُوا جَمِيعَ
مَا فِيهَا، وَنَصَبُوا فِيهَا خَيْمَةَ الْمُلْكِ، وَضَرَبُوا النَّاقُوسَ فِي
الْجَامِعِ بِهَا، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ بِالتَّجْهِيزِ
لِلْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً، ثُمَّ جَاءَتِ
الْكُتُبُ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَثَبُوا عَلَى الرُّومِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ
خَلْقًا كَثِيرًا وَغَنِمُوا غَنَائِمَ كَثِيرَةً جِدًّا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَمَّا تَجَهَّزَ مُؤْنِسٌ لِلْمَسِيرِ جَاءَهُ بَعْضُ
الْخَدَمِ، فَأَعْلَمَهُ بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ يُرِيدُ أَنْ يَقْبِضَ عَلَيْهِ
إِذَا دَخَلَ لِوَدَاعِهِ، وَقَدْ حُفِرَتْ لَهُ زُبْيَةٌ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ
مُغَطَّاةٌ ; لِيَتَرَدَّى فِيهَا، فَأَحْجَمَ عَنِ الذَّهَابِ، وَجَاءَتِ
الْأُمَرَاءُ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِيَكُونُوا مَعَهُ عَلَى الْخَلِيفَةِ،
فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمُقْتَدِرُ رُقْعَةً بِخَطِّهِ يَحْلِفُ لَهُ فِيهَا أَنَّ
هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي بَلَغَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَطَابَتْ نَفْسُهُ، وَرَكِبَ
إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ فِي غِلْمَانٍ قَلَائِلَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى
الْخَلِيفَةِ خَاطَبَهُ مُخَاطَبَةً عَظِيمَةً، وَحَلَفَ لَهُ أَنَّهُ طَيِّبُ
الْقَلْبِ عَلَيْهِ، وَلَهُ عِنْدَهُ الصَّفَاءُ الَّذِي يَعْرِفُهُ، وَخَرَجَ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مُعَظَّمًا مُكَرَّمًا، وَرَكِبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ
الْمُقْتَدِرِ، وَالْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى وَنَصْرٌ الْحَاجِبُ فِي
خِدْمَتِهِ لِتَوْدِيعِهِ، وَكِبَارُ الْأُمَرَاءِ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ
الْحَجَبَةِ، وَكَانَ خُرُوجُهُ يَوْمًا مَشْهُودًا، قَاصِدًا بِلَادَ الثُّغُورِ
لِقِتَالِ الرُّومِ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى قُبِضَ عَلَى رَجُلٍ خَنَّاقٍ، قَدْ قَتَلَ خَلْقًا مِنَ
النِّسَاءِ ; لِأَنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ يَعْرِفُ الْعَطْفَ وَالتَّنْجِيمَ،
فَقَصَدَهُ النِّسَاءُ لِذَلِكَ، فَإِذَا انْفَرَدَ بِالْمَرْأَةِ قَامَ
إِلَيْهَا، فَخَنَقَهَا بِوَتَرٍ، وَأَعَانَتْهُ امْرَأَتُهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ
حَفَرَ لَهَا فِي دَارِهِ فَدَفَنَهَا، فَإِذَا امْتَلَأَتْ تِلْكَ الدَّارُ
انْتَقَلَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا. وَلَمَّا ظُهِرَ عَلَيْهِ وُجِدَ فِي دَارِهِ
سَبْعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً قَدْ خَنَقَهُنَّ، ثُمَّ تُتُبِّعَتِ الدُّورُ الَّتِي
سَكَنَهَا، فَوَجَدُوا شَيْئًا كَثِيرًا قَدْ قُتِلَ مِنَ النِّسَاءِ، فَضُرِبَ
أَلْفَ سَوْطٍ، ثُمَّ صُلِبَ حَيًّا حَتَّى مَاتَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ ظُهُورُ الدَّيْلَمِ بِبِلَادِ الرَّيِّ فَكَانَ
فِيهِمْ مَلِكٌ غَلَبَ عَلَى أَمْرِهِمْ، يُقَالُ لَهُ: مَرْدَاوِيجُ، يَجْلِسُ
عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ سَرِيرٌ مِنْ
فِضَّةٍ، وَيَقُولُ: أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ.
وَقَدْ سَارَ فِي أَهْلِ الرَّيِّ وَقَزْوِينَ وَأَصْبَهَانَ سِيرَةً قَبِيحَةً
جِدًّا، فَكَانَ يَقْتُلُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ فِي الْمُهُودِ، وَيَأْخُذُ
أَمْوَالَ النَّاسِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْجَبَرُوتِ وَالشِّدَّةِ وَالْجُرْأَةِ
عَلَى مَحَارِمِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَقَتَلَهُ الْأَتْرَاكُ، وَأَرَاحَ
اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ يُوسُفَ بْنِ أَبِي
السَّاجِ وَبَيْنَ أَبِي طَاهِرٍ الْقِرْمِطِيِّ عِنْدَ الْكُوفَةِ ; سَبَقَهُ
إِلَيْهَا أَبُو طَاهِرٍ، فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ
يُوسُفُ بْنُ أَبِي السَّاجِ: اسْمَعْ وَأَطِعْ، وَإِلَّا فَاسْتَعِدَّ
لِلْقِتَالِ يَوْمَ السَّبْتِ تَاسِعَ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. فَقَالَ:
هَلُمَّ. فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ، اسْتَقَلَّ يُوسُفُ بْنُ أَبِي
السَّاجِ، وَكَانَ مَعَهُ عِشْرُونَ أَلْفًا جَيْشُ الْقِرْمِطِيِّ، وَكَانَ
مَعَهُ أَلْفُ فَارِسٍ وَخَمْسُمِائَةِ رَاجِلٍ، فَقَالَ: وَمَا قِيمَةُ هَؤُلَاءِ
الْكِلَابِ ؟ وَأَمَرَ الْكَاتِبَ أَنْ يَكْتُبَ بِالْفَتْحِ قَبْلَ اللِّقَاءِ
إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا اقْتَتَلُوا ثَبَتَتِ الْقَرَامِطَةُ ثَبَاتًا
عَظِيمًا، وَنَزَلَ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ،
لَعَنَهُ اللَّهُ، فَحَرَّضَ أَصْحَابَهُ، وَحَمَلَ بِهِمْ حَمْلَةً صَادِقَةً،
فَهَزَمُوا جُنْدَ الْخَلِيفَةِ، وَأَسَرُوا يُوسُفَ بْنَ أَبِي السَّاجِ
وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ جُنْدِ الْخَلِيفَةِ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى
الْكُوفَةِ وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ إِلَى بَغْدَادَ وَشَاعَ بَيْنَ
النَّاسِ أَنَّ الْقِرْمِطِيَّ يُرِيدُ أَنْ يَقْصِدَ بَغْدَادَ لِيَأْخُذَهَا،
فَانْزَعَجَ الْمُسْلِمُونَ لِذَلِكَ، وَظَنُّوا صِدْقَهُ، فَاجْتَمَعَ الْوَزِيرُ
بِالْخَلِيفَةِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْأَمْوَالَ
إِنَّمَا تُدَّخَرُ لِتَكَوُّنَ عَوْنًا عَلَى قِتَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَإِنَّ
هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَقَعْ بَعْدَ زَمَنِ الصَّحَابَةِ أَفْظَعُ مِنْهُ، قَدْ
قَطَعَ هَذَا الْكَافِرُ طَرِيقَ الْحَجِّ عَلَى النَّاسِ، وَفَتَكَ فِي
الْمُسْلِمِينَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَإِنَّ بَيْتَ الْمَالِ لَيْسَ فِيهِ
شَيْءٌ، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَاطِبِ السَّيِّدَةَ -
يَعْنِي أُمَّهُ - فَإِنْ كَانَ عِنْدَهَا مَالٌ قَدِ ادَّخَرَتْهُ لِشِدَّةٍ،
فَهَذَا وَقْتُهُ، فَدَخَلَ عَلَى أُمِّهِ فَكَانَتْ هِيَ الَّتِي ابْتَدَأَتْهُ
بِذَلِكَ، وَبَذَلَتْ لَهُ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَكَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِثْلُهَا
فَسَلَّمَهَا الْخَلِيفَةُ إِلَى الْوَزِيرِ لِيَصْرِفَهَا فِي تَنْفِيذِ
الْجُيُوشِ نَحْوَ الْقَرَامِطَةِ، فَجَهَّزَ الْوَزِيرُ جَيْشًا ; أَرْبَعِينَ
أَلْفًا مَعَ أَمِيرٍ، يُقَالُ لَهُ: يَلْبَقُ، فَأَخَذُوا عَلَيْهِ الطُّرُقَاتِ
وَكَانَ يُرِيدُ دُخُولَ بَغْدَادَ ثُمَّ الْتَقَوْا مَعَهُ، فَلَمْ يَلْبَثْ
جَيْشُ الْخَلِيفَةِ أَنِ انْهَزَمَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ. وَكَانَ يُوسُفُ بْنُ أَبِي السَّاجِ مَعَهُمْ مُقَيَّدًا فِي
خَيْمَةٍ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى مَحَلِّ الْوَقْعَةِ، فَلَمَّا رَجَعَ
الْقِرْمِطِيُّ قَالَ: أَرَدْتَ أَنْ تَهْرُبَ ؟! ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ
عُنُقُهُ، وَرَجَعَ الْقِرْمِطِيُّ مِنْ نَاحِيَةِ بَغْدَادَ إِلَى الْأَنْبَارِ
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى هِيتَ فَأَكْثَرَ أَهْلُ بَغْدَادَ الصَّدَقَةَ، وَكَذَلِكَ
الْخَلِيفَةُ وَأُمُّهُ وَالْوَزِيرُ ; شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى
صَرْفِهِ عَنْهُمْ هَذَا الْخَبِيثَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ الْمَهْدِيُّ الْمُدَّعِي أَنَّهُ فَاطِمِيٌّ -
الَّذِي ظَهَرَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ - وَلَدَهُ أَبَا الْقَاسِمِ فِي جَيْشٍ،
فَانْهَزَمَ جَيْشُهُ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ خُلْقٌ كَثِيرٌ.
وَاخْتُطَّتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْمَدِينَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ.
وَفِيهَا حَاصَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الدَّاخِلِ الْأُمَوِيُّ مَدِينَةَ
طُلَيْطُلَةَ وَكَانُوا مُسْلِمِينَ، لَكِنَّهُمْ نَقَضُوا مَا كَانُوا عَاهَدُوهُ
عَلَيْهِ، فَفَتَحَهَا قَهْرًا، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
ابْنُ الْجَصَّاصِ الْجَوْهَرِيُّ
الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَصَّاصِ الْجَوْهَرِيُّ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْبَغْدَادِيُّ، كَانَ ذَا مَالٍ عَظِيمٍ وَثَرْوَةٍ مُتَّسِعَةٍ جِدًّا،
وَكَانَ أَصْلُ نِعْمَتِهِ مِنْ بَيْتِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ كَانَ قَدْ
جَعَلَهُ جَوْهَرِيًّا لَهُ يَتَسَوَّقُ لَهُ مَا يَقَعُ مِنْ نَفَائِسِ
الْجَوَاهِرِ بِمِصْرَ، فَاكْتَسَبَ بِسَبَبِ ذَلِكَ
أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا.
قَالَ ابْنُ الْجَصَّاصِ: كُنْتُ يَوْمًا بِبَابِ ابْنِ طُولُونَ إِذْ خَرَجَتِ
الْقَهْرَمَانَةُ، وَبِيَدِهَا عِقْدٌ فِيهِ مِائَةُ حَبَّةٍ مِنَ الْجَوْهَرِ،
تُسَاوِي كُلُّ وَاحِدَةٍ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَتْ: أُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَ
هَذَا فَتَخْرُطَهُ حَتَّى يَكُونَ أَصْغَرَ مِنْ هَذَا الْحَجْمِ، فَإِنَّ هَذَا
نَافِرٌ عَلَى مَا يُرِيدُونَهُ. فَأَخَذْتُهُ مِنْهَا، وَذَهَبْتُ بِهِ إِلَى
الْمَنْزِلِ وَحَصَّلْتُ جَوَاهِرَ أَصْغَرَ مِنْهَا تُسَاوِي أَقَلَّ مِنْ عُشْرِ
قِيمَةِ تِلْكَ الْجَوَاهِرِ بِكَثِيرٍ، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا، وَفُزْتُ أَنَا
بِذَلِكَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ، فَكَانَتْ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَقَدِ اتَّفَقَ أَنَّهُ صُودِرَ فِي زَمَانِ الْمُقْتَدِرِ مُصَادَرَةً
عَظِيمَةً، أُخِذَ مِنْهُ مَا يُقَاوِمُ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ،
وَبَقِيَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا.
قَالَ بَعْضُهُمْ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَتَرَدَّدُ فِي مَنْزِلِهِ كَأَنَّهُ
مَجْنُونٌ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا لَكَ ؟! فَقَالَ: وَيْحَكَ ! أُخِذَ مِنِّي كَذَا
وَكَذَا، فَأَنَا أُحِسُّ أَنَّ رُوحِي سَتَخْرُجُ. فَعَذَرْتُهُ ثُمَّ أَخَذْتُ
فِي تَسْلِيَتِهِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ دَارَكَ وَبَسَاتِينَكَ وَضِيَاعَكَ
الْبَاقِيَةَ لَكَ تُسَاوِي سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاصْدُقْنِي كَمْ
بَقِيَ عِنْدَكَ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْمَتَاعِ، فَإِذَا هُوَ يُسَاوِي
ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُشَارِكُكَ
فِيهِ أَحَدٌ مِنَ التُّجَّارِ بِبَغْدَادَ، مَعَ مَا لَكَ مِنَ الْوَجَاهَةِ
عِنْدَ الدَّوْلَةِ وَالنَّاسِ. قَالَ: فَسُرِّيَ عَنْهُ، وَتَسَلَّى عَمَّا كَانَ
عَلَيْهِ وَأَكَلَ، وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا،
وَلَمَّا خَلَصَ مِنْ مُصَادَرَةِ الْمُقْتَدِرِ بِشَفَاعَةِ أُمِّهِ السَّيِّدَةِ
فِيهِ، حَكَى عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: نَظَرْتُ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ إِلَى
مِائَةِ خَيْشَةٍ، فِيهَا مَتَاعٌ رَثٌّ مِمَّا حُمِلَ إِلَيَّ مِنْ مِصْرَ،
وَهُوَ عِنْدَهُمْ بِدَارِ
مَضِيعَةٍ، وَكَانَ لِي فِي كُلِّ حِمْلِ أَلْفُ دِينَارٍ
مَوْضُوعَةٌ فِيهِ مِنْ مِصْرَ لَا يَشْعُرُ بِهَا أَحَدٌ، فَاسْتَوْهَبْتُ ذَلِكَ
مِنْ أُمِّ الْمُقْتَدِرِ، فَكَلَّمَتْ فِي ذَلِكَ وَلَدَهَا، فَأَطْلَقَهُ لِي
فَتَسَلَّمْتُهُ، فَإِذَا الذَّهَبُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَقَدْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ مُغَفَّلًا شَدِيدَ التَّغَفُّلِ فِي كَلَامِهِ
وَأَفْعَالِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ أَشْيَاءُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ:
إِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيُظْهِرَ أَنَّهُ مُغَفَّلٌ. وَقِيلَ:
إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْبَسْطِ وَالدُّعَابَةِ. وَاللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْقَزْوِينِيُّ
وَعَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْفَضْلِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ، رَوَى
عَنِ الْمُبَرِّدِ وَثَعْلَبٍ وَالْيَزِيدِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ الْمَرْزُبَانِيُّ
وَالْمُعَافَى وَغَيْرُهُمَا، وَكَانَ ثِقَةً فِي نَقْلِهِ فَقِيرًا فِي ذَاتِ
يَدِهِ، تَوَصَّلَ إِلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ حَتَّى كَلَّمَ فِيهِ
الْوَزِيرَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى فِي أَنْ يُرَتَّبَ لَهُ شَيْءٌ، فَلَمْ يُجِبْهُ
إِلَى ذَلِكَ، وَضَاقَ بِهِ الْحَالُ حَتَّى كَانَ يَأْكُلُ اللِّفْتَ النَّيِّئَ،
فَمَاتَ فَجْأَةً مِنْ كَثْرَةِ أَكْلِهِ، وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَخْفَشُ الصَّغِيرُ، وَالْأَوْسَطُ هُوَ سَعِيدُ بْنُ
مَسْعَدَةَ تِلْمِيذُ
سِيبَوَيْهِ، وَأَمَّا الْأَكْبَرُ فَهُوَ أَبُو
الْخَطَّابِ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، مِنْ أَهْلِ هَجَرَ وَهُوَ
شَيْخُ سِيبَوَيْهِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِمَا.
وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ السَّرِيِّ السَّرَّاجُ النَّحْوِيُّ
صَاحِبُ " الْأُصُولِ " فِي النَّحْوِ. قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْأَرْغِيَانِيُّ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا عَاثَ الْقِرْمِطِيُّ - لَعَنَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَبُو طَاهِرٍ
سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ - فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، حَاصَرَ
الرَّحْبَةَ، فَدَخَلَهَا قَهْرًا، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا،
وَطَلَبَ مِنْهُ أَهْلُ قِرْقِيسِيَا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَبَعَثَ سَرَايَا
إِلَى مَا حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا أَيْضًا،
حَتَّى صَارَ النَّاسُ إِذَا سَمِعُوا بِذِكْرِهِ يَهْرُبُونَ مِنْ سَمَاعِ
اسْمِهِ، وَقَرَّرَ عَلَى الْأَعْرَابِ إِتَاوَةً يَحْمِلُونَهَا إِلَى هَجَرَ فِي
كُلِّ سَنَةٍ، عَنْ كُلِّ رَأْسٍ دِينَارَانِ، وَعَاثَ فِي نُوَاحِي الْمَوْصِلِ
وَسِنْجَارَ وَتِلْكَ الدِّيَارِ، وَقَتَلَ وَسَلَبَ وَنَهَبَ، فَقَصَدَهُ
مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ فَلَمْ يَتَوَاجَهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ فَابْتَنَى
بِهَا دَارًا سَمَّاهَا دَارَ الْهِجْرَةِ، وَدَعَا إِلَى الْمَهْدِيِّ الَّذِي
بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ بَانِي الْمَهْدِيَّةِ وَتَفَاقَمَ أَمَرُهُ، وَكَثُرَ
أَتْبَاعُهُ، وَصَارُوا يَكْبِسُونَ الْقَرْيَةَ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ،
فَيَقْتُلُونَ أَهْلَهَا، وَيَنْهَبُونَ أَمْوَالَهَا، وَرَامَ فِي نَفْسِهِ
دُخُولَ الْكُوفَةِ وَأَخْذَهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ وَعَصَمَهَا اللَّهُ
مِنْهُ. وَلَمَّا رَأَى الْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى مَا يَفْعَلُ هَذَا
الْهَجَرِيُّ الْقِرْمِطِيُّ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَالْخَلِيفَةُ وَجَيْشُهُ
ضُعَفَاءُ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ، اسْتَعْفَى مِنَ الْوِزَارَةِ وَعَزَلَ نَفْسَهُ
عَنْهَا، فَسَعَى فِيهَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ،
فَوَلِيَهَا بِسِفَارَةِ نَصْرٍ
الْحَاجِبِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ -
بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الْبَرِيدِ - وَيُقَالُ: الْيَزِيدِيُّ.
لِخِدْمَةِ جَدِّهِ يَزِيدَ بْنِ مَنْصُورٍ الْحِمْيَرِيِّ. ثُمَّ جَهَّزَ
الْخَلِيفَةُ جَيْشًا كَثِيفًا مَعَ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ، فَاقْتَتَلُوا مَعَ
الْقَرَامِطَةِ، فَقَتَلُوا مِنَ الْقَرَامِطَةِ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرُوا
مِنْهُمْ طَائِفَةً كَثِيرَةً مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَدَخَلُوا مَعَ مُؤْنِسٍ
الْخَادِمِ إِلَى بَغْدَادَ وَالْأَسَارَى بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَعْلَامٌ مِنْ
أَعْلَامِهِمْ بِيضٌ مُنَكَّسَةٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ
عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [ الْقَصَصِ: 5 ] فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ
فَرَحًا شَدِيدًا وَطَابَتْ أَنْفُسُ أَهْلِ بَغْدَادَ وَانْكَسَرَ شَرُّ
الْقَرَامِطَةِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ نَشَأُوا وَكَثُرُوا وَأَظْهَرُوا
رُءُوسَهُمْ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ، وَنَهَبُوا كَثِيرًا مِنَ الْقُرَى، وَفَوَّضُوا
أَمْرَهُمْ إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: حُرَيْثُ بْنُ مَسْعُودٍ - لَا أَسْعَدَهُ
اللَّهُ - وَدَعَوْا إِلَى الْمَهْدِيِّ الَّذِي ظَهَرَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ
وَبَنَى الْمَهْدِيَّةَ جَدِّ الْخُلَفَاءِ الْفَاطِمِيِّينَ وَهُمْ أَدْعِيَاءُ
فِيمَا ذَكَرُوا لَهُمْ مِنَ النَّسَبِ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ
مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ وَبَيَانُهُ فِي
مَوْضِعِهِ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ وَحْشَةٌ بَيْنَ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ وَالْمُقْتَدِرِ، وَسَبَبُ
ذَلِكَ أَنَّ نَازُوكَ أَمِيرَ الشُّرْطَةِ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَارُونَ
بْنِ غَرِيبٍ - وَهُوَ ابْنُ خَالِ الْمُقْتَدِرِ - فَانْتَصَرَ هَارُونُ عَلَى
نَازُوكَ، وَشَاعَ بَيْنَ الْعَامَّةِ أَنَّ هَارُونَ سَيَصِيرُ أَمِيرَ
الْأُمَرَاءِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ وَهُوَ بِالرَّقَّةِ،
فَأَسْرَعَ الْأَوْبَةَ إِلَى بَغْدَادَ وَاجْتَمَعَ بِالْخَلِيفَةِ فَتَصَالَحَا،
ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ نَقَلَ هَارُونَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَقَوِيَتِ
الْوَحْشَةُ بَيْنَهُمَا، وَانْضَمَّ إِلَى مُؤْنِسٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ
وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، وَانْقَضَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْأَمْرُ
كَذَلِكَ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ ضَعْفِ الْأُمُورِ وَاضْطِرَابِهَا، وَكَثْرَةِ
الْفِتَنِ
وَانْتِشَارِهَا.
وَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ الْحَسَنِ بْنِ الْقَاسِمِ الدَّاعِي الْعَلَوِيِّ
صَاحِبِ الرَّيِّ عَلَى يَدِ صَاحِبِ الدَّيْلَمِ وَسُلْطَانِهِمْ مَرْدَاوِيجَ
الْمُجْرِمِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بُنَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ سَعِيدٍ أَبُو الْحَسَنِ الزَّاهِدِ
وَيُعْرَفُ بِالْحَمَّالِ، رَوَى الْحَدِيثَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ،
وَكَانَ يُضْرَبُ بِزُهْدِهِ الْمَثَلُ، وَكَانَتْ لَهُ كَرَامَاتٌ كَثِيرَةٌ،
وَمَنْزِلَةٌ كَبِيرَةٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ مِنَ السُّلْطَانِ
شَيْئًا، وَقَدْ أَنْكَرَ يَوْمًا عَلَى ابْنِ طُولُونَ شَيْئًا مِنَ
الْمُنْكَرَاتِ، وَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُلْقِي بَيْنَ
يَدَيِ الْأَسَدِ، فَكَانَ الْأَسَدُ يَشُمُّهُ وَيُحْجِمُ عَنْهُ، فَرُفِعَ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ، وَعَظَّمَهُ النَّاسُ جِدًّا.
وَقَدْ سَأَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ: كَيْفَ كَانَ حَالُكَ وَأَنْتَ بَيْنَ يَدَيِ
الْأَسَدِ ؟ فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ عَلَيَّ بَأْسٌ، قَدْ كُنْتُ أُفَكِّرُ فِي
سُؤْرِ السِّبَاعِ، أَهْوَ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ ؟
قَالُوا: وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لِي عَلَى رَجُلٍ مِائَةَ
دِينَارٍ، وَقَدْ ذَهَبَتِ
الْوَثِيقَةُ، وَأَنَا أَخْشَى أَنْ يُنْكِرَ الرَّجُلُ،
فَأَسْأَلُكَ الدُّعَاءَ. فَقَالَ لَهُ: إِنِّي رَجُلٌ قَدْ كَبُرْتُ، وَأَنَا
أُحِبُّ الْحَلْوَاءَ، فَاذْهَبْ فَاشْتَرِ لِي مِنْهَا رَطْلًا، وَأْتِنِي بِهِ
حَتَّى أَدْعُوَ لَكَ. فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَاشْتَرَى، ثُمَّ جَاءَ فَفَتَحَ
الْوَرَقَةَ الَّتِي فِيهَا الْحَلْوَاءَ، فَإِذَا هِيَ حُجَّتُهُ بِالْمِائَةِ
دِينَارٍ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: أَهَذِهِ حُجَّتُكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:
خُذْهَا وَخُذِ الْحَلْوَاءَ فَأَطْعِمْهَا صِبْيَانَكَ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ
خَرَجَ أَهْلُ مِصْرَ فِي جِنَازَتِهِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ وَإِكْرَامًا لَهُ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ خُرَيْمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَقِيلٍ الْبَلْخِيُّ. وَأَبُو
بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ الْحَافِظُ ابْنُ الْحَافِظِ،
رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَأَبُو عَوَانَةَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، صَاحِبُ " الصَّحِيحِ "
الْمُخَرَّجِ عَلَى " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " وَقَدْ كَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ
الْمُكْثِرِينَ، وَالْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ. وَنَصْرٌ الْحَاجِبُ
لِلْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ، دَيِّنًا
عَاقِلًا، أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ فِي حَرْبِ الْقَرَامِطَةِ مِائَةَ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَخَرَجَ بِنَفْسِهِ مُحْتَسِبًا، فَمَاتَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ خَلْعُ الْمُقْتَدِرِ وَتَوْلِيَةُ الْقَاهِرِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ أَخِي الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ.
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَ مُؤْنِسٍ
الْخَادِمِ وَالْخَلِيفَةِ، فَالْتَفَّ الْأُمَرَاءُ عَلَى مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ
وَتَفَاقَمَ الْحَالُ وَآلَ إِلَى أَنِ اجْتَمَعُوا عَلَى خَلْعِ الْمُقْتَدِرِ
بِاللَّهِ وَتَوْلِيَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ، فَبَايَعُوهُ
بِالْخِلَافَةِ وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِهَا، وَلَقَّبُوهُ الْقَاهِرَ بِاللَّهِ،
وَذَلِكَ لَيْلَةَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَقُلِّدَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ وِزَارَتَهُ، وَنُهِبَتْ دَارُ
الْمُقْتَدِرِ، وَأَخَذُوا مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا، وَوُجِدَ لِأُمِّ
الْمُقْتَدِرِ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ قَدْ دَفَنَتْهَا فِي قَبْرٍ
بِتُرْبَتِهَا، فَحُمِلَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَأُخْرِجَ الْمُقْتَدِرُ
وَأُمُّهُ وَخَالَتُهُ وَخَوَاصُّ جَوَارِيهِ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَذَلِكَ
بَعْدَ مُحَاصَرَةِ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَهَرَبِ مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْحَجَبَةِ
وَالْخَدَمِ مِنْهَا، وَوَلِيَ نَازُوكُ الْحُجُوبَةَ مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ
مِنَ الشُّرْطَةِ، وَأُلْزِمَ الْمُقْتَدِرَ بِأَنْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ
كِتَابًا بِالْخَلْعِ مِنَ الْخِلَافَةِ، وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ
جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ وَسَلَّمَ الْكِتَابَ إِلَى الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ
مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، فَقَالَ لِوَلَدِهِ أَبِي الْحُسَيْنِ: احْتَفِظْ بِهَذَا
الْكِتَابِ، فَلَا يَرَيَنَّهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ. فَلَمَّا أُعِيدَ
الْمُقْتَدِرُ إِلَى الْخِلَافَةِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ رَدَّهُ إِلَيْهِ، فَشَكَرَهُ
عَلَى ذَلِكَ جِدًّا وَوَلَّاهُ قَضَاءَ الْقُضَاةِ. وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
الْأَحَدِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ جَلَسَ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ فِي
مَنْصِبِ الْخِلَافَةِ، وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْوَزِيرُ أَبُو عَلِيِّ
بْنُ مُقْلَةَ، وَكَتَبَ إِلَى الْعُمَّالِ بِالْآفَاقِ
يُخْبِرُهُمْ بِوِلَايَةِ الْقَاهِرِ بِالْخِلَافَةِ عِوَضًا عَنِ الْمُقْتَدِرِ،
وَأَطْلَقَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى مِنَ السِّجْنِ، وَزَادَ فِي أَقْطَاعِ جَمَاعَةٍ
مِنَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ قَامُوا بِنَصْرِهِ، مِنْهُمْ أَبُو الْهَيْجَاءِ
بْنُ حَمْدَانَ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ جَاءَ الْجُنْدُ فَطَلَبُوا أَرْزَاقَهُمْ
وَشَغَبُوا، وَسَارَعُوا إِلَى نَازُوكَ فَقَتَلُوهُ - وَكَانَ مَخْمُورًا - ثُمَّ
صَلَبُوهُ، وَهَرَبَ الْوَزِيرُ ابْنُ مُقْلَةَ وَالْحَجَبَةُ، وَنَادَوْا: يَا
مُقْتَدِرُ يَا مَنْصُورُ. وَلَمْ يَكُنْ مُؤْنِسٌ يَوْمَئِذٍ حَاضِرًا، وَجَاءَتِ
الْجُنُودُ إِلَى بَابِهِ يُطَالِبُونَهُ بِالْمُقْتَدِرِ، فَأَغْلَقَ بَابَهُ،
وَحَاجَفَ دُونَهُ خَدَمُهُ، فَلَمَّا رَأَى مُؤْنِسٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ
تَسْلِيمِ الْمُقْتَدِرِ إِلَيْهِمْ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ، فَخَافَ أَنْ يَكُونَ
حِيلَةً عَلَيْهِ، ثُمَّ تَجَاسَرَ فَخَرَجَ، فَحَمَلَهُ الرِّجَالُ عَلَى
أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُ دَارَ الْخِلَافَةِ، فَسَأَلَ عَنْ أَخِيهِ
الْقَاهِرِ وَأَبِي الْهَيْجَاءِ بْنِ حَمْدَانَ لِيَكْتُبَ لَهُمَا أَمَانًا،
فَمَا كَانَ عَنْ قَرِيبٍ حَتَّى جَاءَهُ خَادِمٌ وَمَعَهُ رَأْسُ أَبِي
الْهَيْجَاءِ قَدِ احْتَزَّهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، وَجَاءَ
الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ فَجَلَسَ فِي الدَّسْتِ، وَاسْتَدْعَى بِالْقَاهِرِ
فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَدْنَاهُ إِلَيْهِ، وَقَبَّلَ بَيْنَ
عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: يَا أَخِي، أَنْتَ لَا ذَنْبَ لَكَ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ
قُهِرْتَ. وَالْقَاهِرُ يَقُولُ: اللَّهَ اللَّهَ، نَفْسِي نَفْسِي يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: وَحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَا جَرَى عَلَيْكَ مِنِّي سُوءٌ أَبَدًا. وَعَادَ ابْنُ مُقْلَةَ،
فَكَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ يُعْلِمُهُمْ بِعَوْدِ الْمُقْتَدِرِ، وَتَرَاجَعَتِ
الْأُمُورُ إِلَى حَالِهَا الْأَوَّلِ بِبَغْدَادَ، وَاسْتَقَرَّ الْمُقْتَدِرُ
فِي الْخِلَافَةِ كَمَا كَانَ، وَحُمِلَ رَأْسُ نَازُوكَ وَأَبِي الْهَيْجَاءِ
بْنِ حَمْدَانَ، فَنُودِيَ عَلَيْهِمَا: هَذَا جَزَاءُ مَنْ عَصَى مَوْلَاهُ.
وَهَرَبَ أَبُو السَّرَايَا بْنُ حَمْدَانَ إِلَى الْمَوْصِلِ وَكَانَ ابْنُ نَفِيسٍ
مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى الْمُقْتَدِرِ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى الْخِلَافَةِ
خَرَجَ
مِنْ بَغْدَادَ مُتَنَكِّرًا، فَدَخَلَ الْمَوْصِلَ ثُمَّ
صَارَ إِلَى أَرْمِينِيَةَ ثُمَّ لَحِقَ بِمَدِينَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ
فَتَنَصَّرَ مَعَ أَهْلِهَا، لَعَنَهُ اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ. وَأَمَّا مُؤْنِسٌ
فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَاطِنِ عَلَى الْمُقْتَدِرِ وَإِنَّمَا وَافَقَ
جَمَاعَةَ الْأُمَرَاءِ مُكْرَهًا، وَلِهَذَا لَمَّا أُودِعَ الْمُقْتَدِرُ فِي
دَارِهِ لَمْ يَنَلْهُ مِنْهُ سُوءٌ، بَلْ كَانَ يُطَيِّبُ قَلْبَهُ، وَلَوْ شَاءَ
لَقَتَلَهُ لَمَّا طُلِبَ مِنْ دَارِهِ، فَلِهَذَا لَمَّا عَادَ إِلَى
الْخِلَافَةِ رَجَعَ إِلَى دَارِ مُؤْنِسٍ، فَبَاتَ بِهَا عِنْدَهُ لِثِقَتِهِ
بِهِ. وَقَرَّرَ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُقْلَةَ عَلَى الْوِزَارَةِ، وَوَلَّى
مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ أَبَا عُمَرَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ، وَجَعَلَ مُحَمَّدًا
أَخَاهُ - وَهُوَ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ - عِنْدَ وَالِدَتِهِ بِصِفَةِ مُحْتَبَسٍ
عِنْدَهَا، فَكَانَتْ تُحْسِنُ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِحْسَانِ، وَتَشْتَرِي لَهُ
السَّرَارِي وَتُكْرِمُهُ غَايَةَ الْإِكْرَامِ.
ذِكْرُ أَخْذِ الْقَرَامِطَةِ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَمَا
كَانَ مِنْهُمْ إِلَى الْحَجِيجِ، لَعَنَ اللَّهُ الْقَرَامِطَةَ
فِيهَا خَرَجَ رَكْبُ الْعِرَاقِ وَأَمِيرُهُمْ مَنْصُورٌ الدَّيْلَمِيُّ،
فَوَصَلُوا إِلَى مَكَّةَ سَالِمِينَ، وَتَوَافَتِ الرُّكُوبُ هُنَاكَ مِنْ كُلِّ
جَانِبٍ، فَمَا شَعَرُوا إِلَّا بِالْقِرْمِطِيِّ قَدْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي
جَمَاعَتِهِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَانْتَهَبَ أَمْوَالَهُمْ، وَاسْتَبَاحَ
قِتَالَهُمْ، فَقَتَلَ النَّاسَ فِي رِحَابِ مَكَّةَ وَشِعَابِهَا حَتَّى فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَفِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَجَلَسَ أَمِيرُهُمْ أَبُو
طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ - لَعَنَهُ اللَّهُ -
عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ، وَالرِّجَالُ تُصْرَعُ حَوْلَهُ فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، ثُمَّ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، الَّذِي
هُوَ مِنْ أَشْرَفِ الْأَيَّامِ، وَهُوَ
يَقُولُ:
أَنَا بِاللَّهِ وَبِاللَّهِ أَنَا يَخْلُقُ الْخَلْقَ وَأُفْنِيهِمْ أَنَا
فَكَانَ النَّاسُ يَفِرُّونَ فَيَتَعَلَّقُونَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَلَا
يُجْدِي ذَلِكَ عَنْهُمْ شَيْئًا، بَلْ يُقْتَلُونَ وَهُمْ كَذَلِكَ، وَيَطُوفُونَ
فَيُقْتَلُونَ فِي الطَّوَافِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَوْمَئِذٍ
يَطُوفُ، فَلَمَّا قَضَى طَوَافَهُ أَخَذَتْهُ السُّيُوفُ، فَلَمَّا وَجَبَ،
أَنْشَدَ وَهُوَ كَذَلِكَ:
تَرَى الْمُحِبِّينَ صَرْعَى فِي دِيَارِهِمُ كَفِتْيَةِ الْكَهْفِ لَا يَدْرُونَ
كَمْ لَبِثُوا
ثُمَّ أَمَرَ الْقِرْمِطِيُّ - لَعَنَهُ اللَّهُ - أَنْ تُدْفَنَ الْقَتْلَى
بِبِئْرِ زَمْزَمَ، وَدَفَنَ كَثِيرًا مِنْهُمْ فِي أَمَاكِنِهِمْ وَحَتَّى فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - وَيَا حَبَّذَا تِلْكَ الْقِتْلَةُ وَتِلْكَ الضِّجْعَةُ
- وَلَمْ يُغَسَّلُوا، وَلَمْ يُكَفَّنُوا، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ ;
لِأَنَّهُمْ شُهَدَاءُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ مِنْ خِيَارِ الشُّهَدَاءِ،
وَهَدَمَ قُبَّةَ زَمْزَمَ، وَأَمَرَ بِقَلْعِ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَنَزَعَ
كُسْوَتَهَا عَنْهَا، وَشَقَّقَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَأَمَرَ رَجُلًا أَنْ
يَصْعَدَ إِلَى مِيزَابِ الْكَعْبَةِ، فَأَرَادَ أَنْ يَقْتَلِعَهُ، فَسَقَطَ
عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، فَمَاتَ لَعَنَهُ اللَّهُ وَصَارَ إِلَى أُمِّهِ
الْهَاوِيَةِ، فَانْكَفَّ اللَّعِينُ عِنْدَ ذَلِكَ عَنِ الْمِيزَابِ، ثُمَّ
أَمَرَ بِأَنْ يُقْلَعَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَضَرَبَ
الْحَجَرَ بِمُثْقَلٍ فِي يَدِهِ، وَقَالَ: أَيْنَ الطَّيْرُ الْأَبَابِيلُ ؟
أَيْنَ الْحِجَارَةُ مِنْ سِجِّيلٍ ؟ ثُمَّ قَلَعَ الْحَجَرَ
الْأَسْوَدَ - شَرَّفَهُ اللَّهُ وَكَرَّمَهُ وَعَظَّمَهُ - وَأَخَذُوهُ مَعَهُمْ
حِينَ رَاحُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، فَكَانَ عِنْدَهُمْ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ
سَنَةً حَتَّى رَدُّوهُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ
وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَلَمَّا رَجَعَ الْقِرْمِطِيُّ إِلَى بِلَادِهِ، تَبِعَهُ أَمِيرُ مَكَّةَ هُوَ
وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَجُنْدُهُ وَسَأَلَهُ وَتَشَفَّعَ إِلَيْهِ فِي أَنْ يَرُدَّ
الْحَجَرَ لِيُوضَعَ فِي مَكَانِهِ، وَبَذَلَ لَهُ جَمِيعَ مَا عِنْدَهُ مِنَ
الْأَمْوَالِ، فَلَمْ يَفْعَلْ - لَعَنَهُ اللَّهُ - فَقَاتَلَهُ أَمِيرُ مَكَّةَ
فَقَتَلَهُ الْقِرْمِطِيُّ، وَقَتَلَ أَكْثَرَ أَهْلِهِ وَجُنْدِهِ، وَاسْتَمَرَّ
ذَاهِبًا إِلَى بِلَادِهِ وَمَعَهُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَأَمْوَالُ الْحَجِيجِ.
وَقَدْ أَلْحَدَ هَذَا اللَّعِينُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلْحَادًا لَمْ
يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا يَلْحَقُهُ فِيهِ، وَسَيُجَازِيهِ عَلَى ذَلِكَ
الَّذِي لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ، وَلَا يَوْثِقُ وِثَاقَهُ أَحَدٌ،
وَإِنَّمَا حَمَلَ هَؤُلَاءِ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ ; أَنَّهُمْ كَانُوا
كُفَّارًا زَنَادِقَةً، وَقَدْ كَانُوا مُمَالِئِينِ لِلْفَاطِمِيِّينَ الَّذِينَ
نَبَغُوا فِي هَذِهِ السِّنِينَ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ مِنْ أَرْضِ
الْمَغْرِبِ، وَيُلَقَّبُ أَمِيرُهُمْ بِالْمَهْدِيِّ، وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ
عَبِيدُ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحُ، وَقَدْ كَانَ صَبَّاغًا بِسَلَمْيَةَ
يَهُودِيًّا، فَادَّعَى أَنَّهُ أَسْلَمَ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى بِلَادِ
إِفْرِيقِيَّةَ، فَادَّعَى أَنَّهُ شَرِيفٌ فَاطِمِيٌّ، فَصَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ
طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْبَرْبَرِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْجَهَلَةِ، وَصَارَتْ
لَهُ دَوْلَةٌ فَمَلَكَ مَدِينَةَ سِجِلْمَاسَةَ ثُمَّ ابْتَنَى مَدِينَةً
وَسَمَّاهَا الْمَهْدِيَّةَ وَكَانَ قَرَارُ مُلْكِهِ بِهَا، وَكَانَ هَؤُلَاءِ
الْقَرَامِطَةُ يُرَاسِلُونَهُ وَيَدْعُونَ إِلَيْهِ وَيَتَرَامَوْنَ عَلَيْهِ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ: إِنَّمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ سِيَاسَةً وَدَوْلَةً
لَا حَقِيقَةَ لَهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ الْمَهْدِيَّ هَذَا كَتَبَ
إِلَى أَبِي طَاهِرٍ الْقِرْمِطِيِّ يَلُومُهُ عَلَى فِعْلِهِ بِمَكَّةَ، حَيْثُ
سَلَّطَ النَّاسَ عَلَى الْكَلَامِ فِي عِرْضِهِمْ، وَانْكَشَفَتْ أَسْرَارُهُمُ
الَّتِي كَانُوا يُبْطِنُونَهَا بِمَا ظَهَرَ مِنْ صَنِيعِهِمْ هَذَا الْقَبِيحَ،
وَأَمَرَهُ بِرَدِّ مَا أَخَذَهُ مِنْهَا، وَعَوْدِهِ إِلَيْهَا، فَكَتَبَ
إِلَيْهِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَأَنَّهُ قَدْ قَبِلَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ
مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ أُسِرَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي أَيْدِي الْقَرَامِطَةِ، فَمَكَثَ فِي
أَيْدِيهِمْ مُدَّةً، ثُمَّ فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ يَحْكِي أَنَّ الَّذِي
أَسَرَهُ كَانَ يَسْتَخْدِمُهُ فِي أَشَقِّ الْخِدْمَةِ وَأَشَدِّهَا، وَكَانَ
يُعَرْبِدُ عَلَيْهِ إِذَا سَكِرَ، فَقَالَ لِي ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ سَكْرَانُ:
مَا تَقَولُ فِي مُحَمَّدِكُمْ ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ: كَانَ رَجُلًا
سَائِسًا. ثُمَّ قَالَ: مَا تَقَولُ فِي أَبِي بَكْرٍ ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي،
فَقَالَ: كَانَ ضَعِيفًا مَهِينًا، وَكَانَ عُمَرُ فَظًّا غَلِيظًا، وَكَانَ
عُثْمَانُ جَاهِلًا أَحْمَقَ، وَكَانَ عَلِيٌّ مُمَخْرَقًا، أَلَيْسَ كَانَ
عِنْدَهُ أَحَدٌ يُعَلِّمُهُ مَا ادَّعَى أَنَّهُ فِي صَدْرِهِ مِنَ الْعِلْمِ ؟
أَمَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَلِّمَ هَذَا كَلِمَةً وَهَذَا كَلِمَةً ؟ ثُمَّ
قَالَ: هَذَا كُلُّهُ مَخْرَقَةٌ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، قَالَ لِي: لَا
تُخْبِرْ بِهَذَا الَّذِي قُلْتُهُ لَكَ أَحَدًا. رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي
" مُنْتَظَمِهِ ".
وَرَوَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَوْمَ
اقْتُلِعَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ وَهُوَ سَكْرَانُ، رَاكِبٌ
عَلَى فَرَسِهِ، فَصَفَّرَ لَهَا حَتَّى بَالَتْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي
مَكَانِ الطَّوَافِ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى رَجُلٍ كَانَ إِلَى جَانِبِي فَقَتَلَهُ
ثُمَّ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا حَمِيرُ، أَلَيْسَ
قُلْتُمْ فِي بَيْتِكُمْ هَذَا وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [ آلُ عِمْرَانَ: 97
] فَأَيْنَ الْأَمْنُ ؟ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَتَسْمَعُ جَوَابًا ؟ قَالَ:
نَعَمْ. قُلْتُ: إِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ: فَأَمِّنُوهُ. قَالَ: فَثَنَى رَأْسَ
فَرَسِهِ وَانْصَرَفَ.
وَقَدْ سَأَلَ بَعْضُهُمْ هَاهُنَا سُؤَالًا فَقَالَ: قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ - وَكَانُوا نَصَارَى، وَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْهُمْ -
مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ حَيْثُ يَقُولُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ
رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَرَامِطَةَ شَرٌّ مِنَ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ، بَلْ وَمِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ،
فَهَلَّا عُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ، كَمَا عُوجِلَ أَصْحَابُ الْفِيلِ ؟ وَقَدْ
أُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ أَصْحَابَ الْفِيلِ إِنَّمَا عُوقِبُوا إِظْهَارًا
لِشَرَفِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَلِمَا يُرَادُ بِهِ مِنَ التَّشْرِيفِ
وَالتَّعْظِيمِ بِإِرْسَالِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي كَانَ هَذَا الْبَيْتُ فِيهِ ; لِيُعْلَمَ
شَرَفُ هَذَا الرَّسُولِ الْكَرِيمِ الَّذِي هُوَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ،
فَلَمَّا أَرَادَ هَؤُلَاءِ إِهَانَةَ هَذِهِ الْبُقْعَةِ الَّتِي يُرَادُ
تَشْرِيفُهَا عَمَّا قَرِيبٍ، أَهْلَكَهُمْ سَرِيعًا عَاجِلًا، غَيْرَ آجِلٍ،
كَمَا ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا
كَانَ بَعْدَ تَقْرِيرِ الشَّرَائِعِ وَتَمْهِيدِ الْقَوَاعِدِ، وَالْعِلْمِ
بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ اللَّهِ بِشَرَفِ مَكَّةَ وَالْكَعْبَةِ، وَكُلُّ
مُؤْمِنٍ يَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَكْبَرِ الْمُلْحِدِينَ الْكَافِرِينَ ;
بِمَا تَبَيَّنَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ
رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلِهَذَا
لَمْ يَحْتَجِ الْحَالُ إِلَى مُعَاجَلَتِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ، بَلْ أَخَّرَهُمُ
الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ، وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُمْهِلُ وَيُمْلِي وَيَسْتَدْرِجُ، ثُمَّ يَأْخُذُ أَخْذَ
عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لِيُمْلِيَ لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ
ثُمَّ قَرَأَ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ
إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ هُودٌ: 102 ]
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أَحَدَ أَصْبَرُ
عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ ; إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ
يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ
غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ
فِيهِ الْأَبْصَارُ [ إِبْرَاهِيمُ: 42 ] وَقَالَ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [ آلِ عِمْرَانَ: 196، 197 ] وَقَالَ تَعَالَى:
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [ لُقْمَانَ:
24 ] وَقَالَ: مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ
نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [ يُونُسَ: 70 ].
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِبَغْدَادَ بَيْنَ أَصْحَابِ أَبِي بَكْرٍ
الْمَرْوَزِيِّ الْحَنْبَلِيِّ وَبَيْنَ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَامَّةِ، اخْتَلَفُوا
فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا
مَحْمُودًا [ الْإِسْرَاءِ: 79 ] فَقَالَتِ الْحَنَابِلَةُ: يُجْلِسُهُ مَعَهُ
عَلَى الْعَرْشِ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الشَّفَاعَةُ
الْعُظْمَى، فَاقْتَتَلُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ
قَتْلَى، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ
مَقَامُ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى، يُشَفَّعُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي
أَنْ يَأْتِيَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَهُوَ الْمَقَامُ الَّذِي
يَرْغَبُ إِلَيْهِ فِيهِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ، حَتَّى إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ
وَالْآخَرُونَ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِالْمَوْصِلِ بَيْنَ الْعَامَّةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ
بِأَمْرِ الْمَعَاشِ، وَانْتَشَرَتْ، وَكَثُرَ أَهْلُ الشَّرِّ فِيهَا
وَاسْتَظْهَرُوا، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ شُرُورٌ، ثُمَّ سَكَنَتْ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِبِلَادِ خُرَاسَانَ بَيْنَ بَنِي سَامَانَ وَأَمِيرِهِمْ
نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ الْمُلَقَّبِ بِالسَّعِيدِ.
وَخَرَجَ فِي شَعْبَانَ خَارِجِيٌّ بِالْمَوْصِلِ، وَخَرَجَ آخَرُ
بِالْبَوَازِيجِ، فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ حَتَّى سَكَنَ
شَرُّهُمْ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُمْ.
وَفِيهَا الْتَقَى مُفْلِحٌ السَّاجِيُّ وَمَلِكُ الرُّومِ الدُّمُسْتُقُ،
فَهَزَمَهُ مُفْلِحٌ وَطَرَدَ وَرَاءَهُ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ
خَلْقًا كَثِيرًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ بِبَغْدَادَ، تَحْمِلُ رَمْلًا أَحْمَرَ
يُشْبِهُ رَمْلَ أَرْضِ الْحِجَازِ، فَامْتَلَأَتْ مِنْهُ الْبُيُوتُ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق